الجمعة، 5 أغسطس 2016

غاليري تاون هاوس في القاهرة: نافذة فنية وتجربة إنسانية-أميرة الأهل ترجمة: رائد الباش






غاليري تاون هاوس في القاهرة:
نافذة فنية وتجربة إنسانية


أميرة الأهل
ترجمة: رائد الباش


يشكل غاليري تاون هاوس في أحد أحياء مدينة القاهرة القديمة علامة بارزة في المشهد الفني المصري المعاصر بوصفه حاضنة فنية لجماعات المسرح التي تحتاج لمكان تتدرب فيه ومتنفسا للأطفال للتعبير عن أحلامهم وآمالهم وآلامهم. أميرة الأهل زارت هذا البيت الفني وتعرفنا به.



في شهر حزيران/يونيو من العام 2006 أطلق غاليري تاون هاوس ورشة عمل "سوا"، حيث خصص جزء كبير منها للاجئين السودانيين في القاهرة في صباح يوم السبت وفي الساعة الحادية عشرة وفي وسط مدينة القاهرة تدب الحياة ببطء في الشوارع. وبين ميدان طلعت حرب وشارع شامبليون في قلب المدينة توجد مجموعة من الشوارع الضيِّقة والأزقة المتشابكة. وهنا بين المباني الأنيقة التي تعود إلى مطلع القرن الماضي وفي ميدان طلعت حرب الذي يقع وسط المدينة وبين شوارع التسوق الرئيسية ثمة عدد كبير من الورشات الحرفية والمقاهي التقليدية التي وضعت كراسيها وطاولاتها في الأزقة العتيقة.

ولكن نادرًا ما يضل السيَّاح طريقهم إلى هذه الأزقة الجانبية، على الرغم من قربها من مركز المدينة. وفي المقابل يأتي إلى هنا منذ بضعة أعوام وبصورة منتظمة الفنَّانون والكثيرون من أبناء البلاد على اختلاف ألوانهم ومشاربهم، حيث أصبح قبل كلِّ شيء الشارع الصغير الذي أطلق عليه اسم حسين باشا والذي يقع خلف ميدان طلعت حرب، جزءًا أساسيًا من الحياة الثقافية في مدينة القاهرة.

ومنذ أن افتتح الكندي وليام ويلز William Wells في العام 1998 وفي مبنى قديم يقع في آخر شارع حسين باشا، غاليري تاون هاوس Townhouse، أصبح من المعتاد هنا بالنسبة للكثير من الحرفيين والميكانيكيين والنجَّارين والحدادين أن يتقاسموا الطاولة التي يجلسوا حولها في مقهى ما مع بعض الأشخاص الأجانب والأثرياء المصريين وأن يشاهدوهم يومًا بعد يوم وهم يمرّون من أمام محلاتهم.

غاليري اجتماعي

غير أنَّ ما يلفت الانتباه لا يكمن في إنشاء هذا المعرض الفني النخبوي في هذا الحي العمالي؛ بل إنَّ الشيء غير المألوف هو أنَّ غاليري تاون هاوس لا يعتبر نفسه كذلك، لكنه يسعى وعلى العكس تمامًا من ذلك إلى التبادل مع أبناء المجتمع المحلي. ويقول ويليام ويلز: "منذ البداية كانت الفكرة إنشاء مشروع يقوم على دعامتين". ويضيف: "لكي يكون من ناحية منتدى للفنَّانين الشباب في مصر ولكي نعمل من ناحية أخرى مع المجتمع الذي نعيش فيه".


افتتح الكندي وليام ويلز في العام 1998 وفي مبنى قديم يقع في آخر شارع حسين باشا، غاليري تاون هاوس وقبل أحد عشر عامًا كان ويليام ويلز يبحث عن مكان يستطيع فيه الفنَّانون المصريون الشباب عرض أعمالهم. وهذا المكان كان ينبغي أن يكون واسعًا جدًا ليتيح المجال من أجل عرض أعمال فنية كبيرة وتركيبات ومشاريع. ويقول ويلز: "عندما شاهدت هذا المبنى عرفت على الفور أنَّه المكان المناسب. فقد توفَّرت فيه جميع العناصر المعمارية التي كنت أبحث عنها".

ولم يكن حينها أي من الفنَّانين يعتقد بأنَّ غاليري تاون هاوس يمكن أن ينجح في هذا الموقع البعيد عن الشوارع الرئيسية. ولكنه سار مباشرة منذ البداية. وحتى قبل أن يفتتح وليام ويلز هذا الغاليري بشكل صحيح، بدأ وبالتعاون مع الفنَّانة هدى لطفي بتقديم ورشات عمل لأطفال الشوارع في هذه المنطقة. "لقد أتينا إلى هذه المنطقة التي توجد فيها العديد من المحلات غير المرخصة والكثير من الأطفال العاملين ومقاهي الأرصفة وكذلك الأطفال الذين يعيشون في الشوارع"، مثلما يقول ويليام ويلز.

متنفس للأطفال 

وفي المساء كان ويليام ويلز يراقب كيف كان أطفال الشوارع يظهرون أمام المقاهي من أجل كسب المال. وهكذا نشأت فكرة منح أطفال هذا الحي الفرصة للتعبير عن أنفسهم بصورة فنية. وكانت هدى لطفي وويليام ويلز يأخذا الأطفال إلى صالة الجلوس الخاصة بأطفال الشوارع وكانا يعلِّمان الأطفال هناك استخدام الألوان وسرد قصصهم من خلال الرسم.

ويقول وليام ويلز: "كان عمل الأطفال قويًا وملهمًا بشكل لا يصدَّق". وما يزال لديه في مكتبه لوحتان من أعمال الأطفال، تسود فيهما الألوان القوية، ولكن تسود فيهما أيضًا موضوعات قاتمة تتحدَّث عن الخوف والوحدة والاعتداءات الجنسية. وفى شهر كانون الثاني/يناير من العام 1999 أقام غاليري تاون هاوس معرضه الثاني الذي ضم فقط لوحات رسمها أطفال الشوارع. وكان الهدف من هذا المعرض لفت الانتباه إلى وضع هؤلاء الأطفال وجمع المال من أجل تأسيس صالة جلوس للأطفال. ولاقى هذا المعرض نجاحًا كبيرًا، حيث زاره أشخاص كثيرون وتبرَّعوا بأموال كثيرة. ويقول وليام ويلز إنَّ "هذه الفعالية قد فتحت لنا أعيننا".


أقام غاليري تاون هاوس معرضه الثاني الذي ضم فقط لوحات رسمها أطفال الشوارع بهدف لفت الانتباه إلى وضع هؤلاء الأطفال ومن هنا أصبحت ورشات العمل الخاصة بأطفال الشوارع جزءًا أساسيًا من غاليري تاون هاوس. ومنذ العام 2000 تقام حلقات عمل في كلِّ يوم جمعة من أجل الأطفال العاملين الذين تبلغ أعمارهم بين الثامنة والثامنة عشر في غرف هذا الغاليري؛ وتبدأ دائمًا وبالتناوب للمجموعات الثلاث في كلِّ ثلاثة أشهر دورة جديدة في الفن التشكيلي والرسوم المتحرِّكة والمسرح.

ويقول وليام ويلز: "في البداية كان من الصعب جدًا إقناع الآباء والأمَّهات بإرسال أبنائهم إلينا في أيَّام عطلهم الوحيدة". ولكن في هذه الأثناء أصبحت الكثير من العائلات ترغب في المشاركة في عروض الغاليري كونها توفِّر مجالاً لأطفالهم. وبينما كان عددهم يبلغ في البدء اثنتي عشرة طفلة وطفلاً أصبح اليوم ثلاثين. كذلك أصبح الكبار الآن يساعدون المشرفين في الإشراف على الأشخاص الأصغر سنًا، كما أنَّ بعض الذين كانوا في تلك الفترة مبتدئين، أصبحوا اليوم فنَّانين لديهم أعمالهم الخاصة أو أنَّهم صاروا يذهبون من جديد إلى المدرسة.

ورشة عمل "سوا"

غير أنَّ حلقات العمل الخاصة بالأطفال لا تمثِّل المشروع الوحيد في هذا الغاليري. ففي شهر حزيران/يونيو من العام 2006 أطلق غاليري تاون هاوس ورشة عمل "سوا". وسوا تعني باللغة العربية "معًا". ويقول مينا نصحي الذي يبلغ عمرة ثلاثين عامًا: "لقد أردنا فعل شيء ما لصالح الكثيرين من اللاجئين السودانيين في القاهرة". وقبل أحد عشر عامًا بدأ مينا نصحي عمله كأول موظَّف في هذا الغاليري. وهذا الشاب الذي درس المحاسبة يقول مبتسمًا: "لم أكن أعرف على الإطلاق ما هو غاليري الفنون". والآن أصبح مدير الغاليري والمسؤول عن ورشة عمل "سوا".

وفي صيف العام 2006 دعا مجموعة صغيرة من السودانيين إلى ورشة عمل في الغاليري، وانضم إليهم في وقت ما بعض المصريين وفيما بعد بعض الأشخاص الأجانب. والآن أصبح عدد الذين يأتون أحيانًا إلى ورشات عمل "سوا" يصل إلى نحو مائتي شخص. ومينا نصحى الذي من الممكن ملاحظة فخره واعتزازه بهذا النجاح على وجهه المبتسم، يقول: "كبار وشباب وميكانيكيون ونجَّارون ورسَّامون وطلاب وأجانب ولاجئين - جميعهم يعملون ويتعلمون معًا".


"عندما شاهدت هذا المبنى عرفت على الفور أنَّه المكان المناسب. فقد توفَّرت فيه جميع العناصر المعمارية التي كنت أبحث عنها" وبعد فترة قصيرة أصبحت المجموعات التي تأتي في كلِّ يوم سبت للرسم والنحت والتصميم كبيرة جدًا، بحيث أنَّه تم تقسيم ورشة العمل إلى ورشتي عمل. "وكثيرًا ما كان المشاركون يحضرون ببساطة أطفالهم معهم، وذلك لأنَّهم لم يكونوا يريدون تركهم وحدهم في البيت"، مثلما يقول مينا نصحي. ولهذا السبب فإنَّ الأطفال يجتمعون الآن في صباح كلِّ يوم سبت، والبالغون في فترة ما بعد الظهر.

وفي هذا السبت يتراكض الكثير من الناس على مسرح روابط الذي يجاور الغاليري. وهناك شابَّات وشباب يجلسون مركِّزين على رسوماتهم ويلوِّنون ويرسمون ويصمِّمون تصميمات؛ كما أنَّهم يستشيرون مرارًا وتكرارًا الفنَّانة الإسبانية آنا سيكو Ana Seco التي حاولت في أربعة من أيَّام السبت تعليم المشاركين في ورشة "سوا" أساسيات تصميم الـ"تي شيرت". وهذه الفنَّانة ومصمِّمة الأزياء تعيش منذ ستة أشهر في القاهرة وتقدِّم هذه الدورة كعمل تطوّعي مثل جميع الفنَّانين. وتقول آنا سيكو وهي تناقش مع إحدى الطالبات اختيار موضوعاتها: "أجد متعة في تعليم الناس شيئًا ما".

أعمال فنية طموحة

وكذلك يشارك الآن في هذه الورشة الفنَّان وليد فاروق، مثلما يفعل في كلِّ يوم سبت. وهذا الفنَّان السوداني يعيش منذ عامين مع عائلته في القاهرة. وفي السودان سمع هو وزوجته الفنَّانة من بعض زملائهما الفنَّانين عن غاليري تاون هاوس - "هذا المكان المفتوح الذي يمكنك فيه دائمًا الحصول على فرصة"، مثلما يقول الفنَّان وليد فاروق. وهو بدوره مدين أيضًا لهذا الغاليري بكونه استطاع بهذه السرعة في القاهرة تكوين علاقات وتمكَّن من بناء حياته هناك. والفنَّان وليد فاروق يأتي مع زوجته ومع طفليهما في كلِّ يوم سبت إلى ورشات عمل "سوا".

وفي الصباح يعمل فاروق وزوجته كمشرفين على دورات الأطفال، وهما يتقاضيان أجرًا على ذلك مثل جميع زملائهم الآخرين. وفي فترة ما بعد الظهر يشاركان في ورشات العمل الخاصة بالبالغين. ويقول وليد فاروق إنَّ "الأطفال يحبّون الرسم، كما أنَّهم يستفيدون كثيرًا من التعرّف على الكثير من الناس المختلفين والثقافات المختلفة".

ومثلما هي الحال مع أسرة وليد فاروق كذلك استفادت أسر كثيرة جدًا من برامج التوعية التي يقدِّمها غاليري تاون هاوس. وهذه البرامج توفِّر لهم الفرصة للاستفادة من عالم جديد وتطوير مواهب جديدة دون تحمّل عبء مالي. "ورشات العمل تكلِّف في الواقع الكثير من المال"، مثلما تقول مصمِّمة الأزياء، لينا علي التي يبلغ عمرها ستة وعشرين عامًا والتي تشارك للمرة الأولى في ورشة سوا. ومن خلال موقع الفيسبوك تعرَّفت على ورشة العمل الخاصة بالتصميم. ولينا علي تصف هذه الورشة بقولها: "سوا تتيح فرصة رائعة لجميع الناس وبغض النظر عن خلفيَّاتهم من أجل تعلم شيء جديد دون اضطرارهم لإنفاق فلسًا واحدًا على ذلك".

ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ ورشات العمل تستنزف بطبيعة الحال مبالغًا كبيرة من الأموال التي يجب في البدء على أي غاليري مستقل مثل تاون هاوس توفيرها. ولكن في هذه الأثناء أصبح هذا الغاليري معروفًا بعمله أيضًا خارج حدود مصر، وكذلك صار لديه العديد ممن يدعمونه بحيث أنَّه يتمكَّن دائمًا من توفير الأموال الضرورية لإقامة برامجه.

وفي شهر حزيران/يونيو أقام غاليري تاون هاوس للمرة الثانية مزادًا لبيع أعمال فنية، وتم تخصيص تقريبًا كلِّ عائداته من أجل برامج التوعية. وفي هذا لمزاد تم عرض اثنين وأربعين عملاً فنيًا للبيع. وقد أتى الكثير من المهتمين بالفن في القاهرة إلى هذا المزاد واشتروا أعمالاً فنية بقيمة مائة وثلاثين ألف دولار. وهذا المال استُثمر من ناحيتين بحكمة وذكاء.

الثلاثاء، 2 أغسطس 2016

هذه هي الخلاصة يا سيدي!-عادل كامل


قصة قصيرة


هذه هي الخلاصة يا سيدي!


عادل كامل
    قال الثور الذي لا يعرف كيف نجا من المفترسات، في البرية، وفلت من جحيم المستنقعات، وتخلص من وحوش الغابات، وكيف لم يرسل إلى المسلخ، بعد وقوعه في الأسر، ولماذا لم يصبح وليمة، بعد أن وجد نفسه، داخل الزريبة...، بجوار حظائر الخيول، الحمير، والبغال...، في الحديقة الكبرى، قال يخاطب نفسه، بحيرة، من انه إذا كان قد افلح، وتكللت جهوده بالخلاص، فان معنى حياته لا يعدو سوى زمن أضاعه بالهرب من اجل أن يبقى هاربا ً، ليس من الضواري، ولا من المتوحشين من بني البشر، ولا كي يصبح طعاما ً للمفترسات القابعة داخل أقفاصها في الحديقة، بل من نفسه.
    هز رأسه وهو يعيد النظر بما مضى، من انه لا يعرف هل انتصر وحقق الغاية التي قط لم يقترب منها، ولا لامسها، أم إنها ستقع بعد أن يكون قد فقدها تماما ً، وغادر الدنيا..؟
   فدار بخلده: كان حزني قد بلغ درجة انه سمح لي باستحالة أن افعل شيئا ً لأحزان الآخرين…، مثلما لم يسمح لهؤلاء المنشغلين بأحزانهم أن يفعلوا شيئا ً لي…،  فكنت ازداد أسى وأنا أدرك استحالة وجود جسور كالتي كانت تساعدنا على كتمان محننا، بيننا، وكأنها لم تقع ولم تحدث ولم توجعنا، حتى أصبحت بيوتنا الآن التي استحدثناها وصنعناها ليس أكثر من أقفاص تجعل كل منا غير مكترث للذي يكوي الآخر، بل ربما أصبحنا لا نتمتع إلا بمسرات عنيدة  مفجعة وبعضنا لا يرى الآخر إلا وهو يلقى أشنع وأبشع النهايات…، فلا تجد حتى كلمة مناسبة تواسي بها نفسك وأنت تراهم غير مكترثين لموتك ولا أنت مكترث لموتهم وأنت ترى الجميع لا يعمل إلا على إنزال اشد الأفعال خساسة ونذالة ودناءة من اجل غاية واحدة إلا وهي ديمومة كل هذا الذي غايته ابعد من وسائله، وكل وسائله أصبحت وكأنها منفصلة عن غاياته. فهل باستطاعتي أن أخبرك بما يمثله هذا الداء وقد صار هو نفسه واحدا ً منا. فلا نتركه يغادرنا إن لم نكن نحرص على حضوره معنا بوصفه عقارا ً شبيها ً بالزمن لا هو مسؤول عنك، ولا أنت تمتلك قدرة أن تفلت منه.  فالكل ينتهك الكل بالمقدار نفسه الذي يسمح للديمومة أن  تغوينا بالحرص على منحها لغز الاستحداث والامتداد. ألا ترى معي أن لغتنا وكلماتنا منذ البدء ليست إلا هذا  الذي لا يسمح بأكثر من نسج أكفاننا تارة نجعل منها بيارقا ً ترفرف وتارة خرقا ً للغواية، وغالبا ً لا تصلح إلا لتستتر على رماد أجساد طالما تغذت على أشلاء ضحايا استوطنها داء القسوة والتمويه والخداع.
    ابتسم بألم لم يخل من ذعر مكتوم، متمتما ً بأنه لم يفعل سوى الهرب من أعداء اخساء ظالمين جائرين طالما قدر قوتهم بالضالة، والفاسدة، وان ما حدث لا يدعو إلا إلى الرثاء، والتندر. فان تنجو من كلب أجرب، أو جرذ متهتك، أو من ضبع ضال، أو من شرير بشري أحمق، لا يعني سوى انك شاركت في اللعبة، ولكنك لم تكن قد ذقت الهزائم كلها كي تتساوى مع نصرك وأنت تراقب الخراف والدواب والحشرات والقوارض والبرغوث والزواحف توزعت على أرضها، أوكارها، ثقوبها، جحورها، وأزقتها، محمية بالأسوار والجدران والقضبان الحديدية…، فأنت بلغت الغاية بهذا النصر إذا ً….؟
    ضرب الأرض الرخوة، بلا مبالاة، تاركا ً رأسه يستقر فوق حافة الجدار الصخري العازل: انك لم تفعل سوى انك أضعت حياتك بالفرار من الفئران والقطط والجرابيع والجرذان وبنات أوى والثعالب…، كي تجهل تماما ً هل خلقت لتجيد الهزيمة وتعلن  انك حققت الغاية التي وجدت من اجلها…؛ نصرك هذا الذي تراقبه الحمير والبغال والنعاج وهي تتندر تثرثر عن ثور وحيد واهن القوى لا يتمتع إلا بشجاعة الهزيمة، ووسامها!
    رفع رأسه مبتعدا ً عن الجدار والكف عن المراقبة، فقد لمح موزع الطعام على الأجنحة، يقترب منه…، لم يكن ـ هو ـ القصاب، بل موزع الأرزاق، وإلا لكان استنشق رائحة حافات السكين بما تبعثه من رائحة دماء حادة تقطع أوصال القلب وتعزله عن باقي أعضاء الجسد…
ـ تفضل …، اخبرني…، هل سترسلني إلى الذئاب أم إلى التماسيح، أم إلى …
    لم يفهم الآخر كلماته، ولا لغته، ولا هو فهم ما قاله الآخر، فقد دار بخلده إن البهائم والدواب والمواشي والبرمائيات والمفترسات والجوارح اجتمعت هنا، في الحديقة، لغاية يصعب وضع حدود فاصلة بينها، لكن من ذا باستطاعته أن يترجم ما يعلنه الذئب أو الفهد أو النمر إزاء النظرات الشاردة الصادرة عن النعاج أو السحالي أو الحشرات البدينة…، من ذا يترجم لغات كل فصيل للآخر داخل حديقة عرف الجميع استحالة مغادرة أسوارها.
   ابتسم الآخر هامسا ً في محياه بأنه لا فائدة من الترجمة…، فالأسماك تتكاثر لترسل طعاما ً إلى التماسيح، السباع، والدببة…، فهي لا تمتلك إلا أن تهرب…، إنما هي لا تستطيع مغادرة مستنقعاتها، ولا أحواضها، ولا أنهارها…، وصراخها مازال شبيها ً بأزيز الحطب وهو يتحول إلى رماد، فهل ثمة جدوى من ترجمة عذاب الأشجار قبل القطع، أو بعده…، الكل يتعذب. وكاد يجد الكلمات المناسبة  ليخبر العامل بأنه غير سعيد بنجاته من بنات اوى أو من الذئاب، وانه لم يحس بالمسرة انه لم يرسل إلى المسلخ أو إلى مصانع تعليب اللحوم، وانه الآن لا يمتلك رغبة بالدفاع عن نفسه، وتأجيل اجله….
   ابتعد الآخر قليلا ً، ثم ناده، لكن الثور تساءل مع نفسه:
ـ ماذا عساه يقول؟
   وسأل نفسه، أتراه أرسل إلي ّ تحديدا ً…، لكن الآخر، وهو يراقب الثور، دار بخلده أيضا ً عما يضمره الثور، ويخفيه. خار الثور، مقتربا ً منه:
ـ  اعرف انك لا تمتلك إلا أن ترسلني إلى ….
  خاطب العامل نفسه بصوت مرتفع:
ـ ربما لا يتحدث إلا عن المحنة المشركة …، محنتنا جميعا ً، هنا، فهو يخشاني خشية حمل تحاصره الضواري…، أما أنا…، فمن ذا يستطيع سبر أغوار محنتي…؟
   ضحك الثور:
ـ سيدي، لسنا بحاجة إلى مترجمين، ولا إلى ترجمة..، فانا اعرف ما الذي لا يمكن ترجمته…، بل اعرف بالدقة إن ترجمة ما دار بخلدك ليس سوى التمويه…، فأنت لم تكسب إلا خسائرك…، مثلي، ولكن ما لا يمكن الإفصاح عنه سيبقى يمتلك لغز الغواية ذاتها…، انك الآن ترى نصرك تأخذه الريح…
ـ أصبت!
   تراجع إلى الخلف. فناداه العامل:
ـ لا أنت كنت تمتلك رغبة الاستسلام ولا أنا أيضا ً…، كلانا وجد نفسه في الغابة، وكلانا الآن أسير هذه الحديقة…، وقد كان على كل منا أن يمضي حياته هاربا ً بدل أن يدخل معركة هو وحده يعرف أن هزيمتها وضعت شرطا ً لديمومتها! فكان عليك أن لا تفكر إلا باختراع وسائل تنقذك من العدو، ولم يكن العدو ليفكر إلا بالطريقة نفسها، كان قد خلق كي يفترسك،  ويتغذى عليك…، مثلما كان هو يهرب من العدو الذي كان يتربص به، ويطارده…
    عندما شعر الثور بالوهن يدب في مفاصل جسده، وبضعف شديد في سيقانه، وانه يعاني من الدوار، ومن شرود الذهن، حد الغثيان، وان بصره راح يخلط اثر الروائح الحادة بأزيز أسنان فكوك المفترسات الجائعة، قال بإرادة لا وعيه:
ـ   لا أريد أن أموت…!
    سمع الثور كلمات الآخر، فهز رأسه:
ـ بل أنت وجدت لتتذوق نهايتك…، وإلا  ـ اخبرني أرجوك ـ بحق هذا الكون: من اجل ماذا وجدت؟
  همس العامل العجوز بصوت واهن:
ـ  ردك لا ينسجم مع ما عرفناه، يا سيدي، فلو وجدنا كي نموت، لكان عدم وجودنا يسد مثل هذه الثغرة…، فهل تقصد أن الإله العزيز الحكيم المقتدر الجبار خلقنا كي نشقى، ونتعذب، ونفطس في هذه الظلمات…؟
ـ ها أنت عدت إلى أسوء مغالطات الترجمة…، هل تعرف ماذا يدور بخلد الحمار وهو ينتظر متى ينتهي زمنه في الإسطبل، وهل تعرف ماذا يدور برأس الضحية قبل أن تخترق الرصاصة عظام جمجمته…؟
ـ أخبرتك لو كان الإله يرغب بنصر فلا يليق به حتى لو أرسل سكان حدائق هذا الكون كله إلى جهنم…، لأنه ـ بحسب ما تعرفه واعرفه ويعرفه الجميع ـ لا يساوي حبة خردل، أو حبة رمل في سواحل هذه المحيطات اللا متناهية في الاتساع والامتداد !
ـ ها أنت تصل إلى الوهم الذي لا احد يمتلك قدرة على فك مغاليقه…؛ ففي الزمن القديم قالوا إننا نموت كي نذهب إلى المكان الذي لا عودة منه…، واليوم، ها أنت ترى كيف يخترع عباقرتنا أكثر الطرق نعومة وشفافية وسلاسة في التنفيذ …
صاح الآخر:
ـ أصبح كل منا يعتقد انه كسب شيئا ً…؟
ـ تقصد…، أضاع شيئا ً  لا نعرف لم مكث يسرق مصائرنا وأحلامنا…؟
ـ ها أنت عدت تبحث عن الغاية؟!
ـ لا…، لا يا سيدي، أنا مشغول بالأسباب التي أدت إلى إضاعتها!
ـ أي انك تعرفها؟
ـ كلا …، ولا احد عرفها، لكن المشكلة انك لا تجد من يقول إلا غير ذلك…، فالسبع يفترس الغزال بهدوء تام، مثلما يفعل الذئب مع ضحاياه…، ومثل هذا الذي تراه يحدث هنا وهناك: الكل يعمل بالقضاء على الكل…، هذا يذبح ذاك، وذاك يفجر جسده ضد هذا...، هذا ينسف البيوت، والآخر يزرعها بالألغام والثالث يحشوها بالمتفجرات...، هذا يذبح أمه، وذاك يشنق جاره والثالث ينتظر أمرا ً بالهدم، والتخريب...
ـ لا…، لا تسرف في التشاؤم، فانا اعتقد أن الكل يرغب أن يهرب من الكل!
ضحك بألم مكتوم وسأله:
ـ  ربما ليس للنصر إلا هذه الغواية…، محو الآخر…، أليس كذلك؟
ـ لكن الآخر لم يخلق إلا للرد بأقسى ما يمتلك من مكر وقسوة وجور …
هز الثور رأسه:
ـ والآن هل جئت لتنتزع عني جلدي؟!
   أجاب الآخر باستسلام:
ـ  لا اعتقد أن أحدا ً بانتظار تذوق ما تبقى منك!
ـ أنا لم أتحدث عن لحمي، ولا عن دمي، ولا عن عظامي، بل تحدثت عما تركه الزمن لي: جلدي!
ـ آ ….، لا تدعني أقول الحقيقة؟
ـ  بأية لغة ستقولها…، وقد كان كل منا يعرف استحالة ترجمتها، مع أنها لغة واحدة، وليست بحاجة إلى الترجمة؟
ـ إن جلدك  وحده الأكثر فائدة ..، نفعا ً، وربحا ً لهم!
ـ ها أنت تتحدث عن النصر، نصرهم، ولم تتحدث عن هزيمتي...، فكأن حياتي كلها لم أمضها إلا كي تنتهي  باستحالة الحفاظ عليها؟  ألم ْ أخبرك، يا سيدي، إنها هي المحنة  الوحيدة التي كلما نجونا منها وجدناها تزدهر! فأقدام الناس لم تخلق للمشي عارية فوق الأرض...، إنما بجلودنا تحتمي وتزداد أناقة، وجمالا ً...، ولكن ـ اخبرني ـ ما الفائدة منك؟
ضحك الآخر، فأجاب متلعثما ً:
ـ أنا هو من يشرف على هذا المشروع...
ـ أأنت هو الرأسمالي صاحب الشركة العملاقة للمتاجرة بالبساطيل، والأحذية، والجلود...؟
ـ أسكت...، يا ثور!
ـ ولماذا تطلب مني أن لا اصرخ...، أليست الديمقراطية تعني احترام حق التعبير...، في هذه الحديقة الشفافة؟!
ـ قلت لك اسكت...، لأنني أنا هو المشرف على الأقسام والأجنحة الأخرى أيضا ً...، فهناك النمور، وهناك الفيلة، وهناك الثعالب، والغزلان، والأرانب...، وهناك الطيور،  وكلها مواد خام أساسية لتطوير مشروعاتنا العملاقة!
ـ من اجل مضاعفة أرباحكم؟
ـ  قل ما شأت..، فأنت ترى الذئب يرقص سعيدا ًبعد افتراس الحمل، ولكنك لا تعرف ماذا كتم الأخير، وترى الجلاد يقهقه بعد قطع رقبة ضحيته لكنك لا تعرف ماذا دار برأس الأخير...؟
ـ ولكني لست حملا ً؟
ـ ها أنت عدت إلى النسبية..
ـ بل أسألك مجددا ً: ما الفائدة منك، بعد أن يتم القضاء علينا...، ونموت، أليس لتموت أنت أيضا ً، مع انك أكثر وعيا ً منا؟
ـ منكم؟
ـ اقصد أنك أكثر قدرة منا في استخدام أدوات الفتك، وأدوات القتل...؟ 
ـ تقصد أدوات الربح ؟
ـ اقصد الحصيلة، يا أحمق، فانا قد لا اخسر إلا جلدي، حتى لو تحول إلى بسطال بإقدام الذاهبين إلى الحرب، والى المكان الذي لا عودة منه...، أما أنت، يا صاحب السعادة، أيها الزعيم، فستخسر كل ما كنت تفكر انك حصلت عليه...، فأنت تخسر خلودك، أما أنا فلا اخسر إلا وهمي!
هز الآخر رأسه، وراح يخاطب نفسه:
ـ أصبح يتحدث كالضحايا..، كالعبيد، كالرؤوس، كالقطيع...، فهو يريد أن يقول لي: لماذا تحرصون على زيادة أعدادنا، نحن، الفقراء، إن كنا نعاجا ً أو خلايا نحل، إن كنا أسماكا ً أو دواجن أو بشرا ً...؟
ـ لا...، لم يدر هذا ببالي...، فانا تعلمت كيف  لا اترك لك وثيقة لإدانتي كي تسلخ جلدي أمام الدواب، والبهائم...، وتعلق رأسي محتفلا ً بالنصر...؟
ـ ماذا دار ببالك؟
ـ  انك كنت تهرب من الحقيقة الوحيدة التي تجهل إنها كانت هي الوحيدة التي لم تحصل مصادفة!
ـ وماذا لو كنت اعرفها؟
ـ ها...، لن تتألم وأنت تراها تُغتصب منك؟
ـ حقيقة ماذا...؟
ـ حقيقة انك كنت أسرفت باغتصاب كل ما كان عليك أن لا تغتصبه! وحقيقة انك دمرت كل ما كان عليك أن تحرص على تعميره...، وبناءه، وقد آن لك أن تدفع الثمن!  
ـ لمن؟
ـ هو ذا السؤال الذي شغلني طوال حياتي التي أمضيتها هاربا ً من كلابكم، ومنكم، ولم استطع أن أفك طلسماته...، لأنني كنت اعرف إن الإله لن يفرح وهو يراني تحولت إلى محض جلد بأقدام هؤلاء الذاهبين إلى المكان الذي لم يعد منه احد...، وقد صرت أرى المكان ذاته يدعوك فلا تمتلك حيلة أو وسيلة إلا بالاستجابة له، لأراك بلا لون، شاحب مثل يوم مغبر، من غير صوت، وكلماتك تنفصل عنك، فلا هي ترغب أن تنطق بها، ولا أنت تمتلك قدرة التفوه بها...، وحتى لو أخبرتنا بما لم يدر بخلدك فانك لن تجد هناك أكثر من  شرذمة سينثرون ما تبقى من آخر تمويهات حياتك المكللة بهذا الوهم، والمزينة بزخارف هذا السراب...!

28/7/2016

ترجمة الشعر… علة في منتهى العافية- عبد اللّطيف الوراري

ترجمة

ترجمة الشعر… علة في منتهى العافية


 عبد اللّطيف الوراري

ترجمة الشِّعر، هذه العلة التي في منتهى العافية. لطالما فكّرت، وأنا أقرأ الشّعر مترجما أو بصدد ترجمته عن الفرنسية، في ما رآه الجاحظ، وهو يقول إنّ "الشعر لا يستطاع أن يترجم، ولا يجوز عليه النقل، ومتى حوّل تقطع نظمه، وبطل وزنه، وذهب حسنه، وسقط موضع التعجب، لا كالكلام المنثور".

الشعر لا كالنثر. قد يجوز الأمر في النثر، الواضح والمعقول والعادي. أمّا في الشعر، الغامض والهشّ، فإنّه يصعب من وجوه كثيرة، حتّى يستحيل الأمر خيانة، بله خسارة. لا يضيع المعنى فحسب، بل الأسلوب وإيقاع الكلمات وجرسها العابر للذّات وخطابها المفرد والخاص. هذا واقع لسوء حظّ الشعر. لكن، أليس بالإمكان ترجمة الشعر؟ بلى. لا أنسى، هنا، رأيا ثانيا للشاعر الفرنسي بيير ليريس، وهو يرشدنا إلى أنّ "ترجمة الشعر أمر مستحيل، مثلما الامتناع عن ترجمته أمر مستحيل".

كثير من الثقافات الإنسانية الشفوية والمكتوبة، بما في ذلك الثقافة العربية ـ الإسلامية، التي يأخذ فيها الشعر وضعا اعتباريّا ولافتا، وجدت في هجرة أدبها، من ضمن نتاجها الرمزي، إلى العالم ضرورة لا ترفا، ومجلبة للاحترام والمجد، إذ هو يعكس وجها حيويّا ومشرقا من هويّة هذه الثقافة وتلك. وقد رأينا، عبر عهود من حيويّة التاريخ، كيف كانت الحضارات والشعوب تتفاعل وتتحاور، بقدرما تتناقله بينها من آداب وفنون ومعارف، بل إنّ منها من تغير وجهها بسبب الشعر مجسّدا في أغنية أو قماشة أو آنية قذفت بها الرياح إلى ما وراء البحر.

في زمننا، صار لترجمة الشّعر معنى الواجب. شعريّات الأرض الباذخة والعريقة انفتحت على بعضها البعض، في حوار خلّاق ومتوهج يعلم الكائن كيف يشرف على كينونة لغة إنسانيّة بلا حدود، بمنأى عن الابتذال والتسطيح. ولقد انفتحت الشعرية العربية الحديثة، عن طريق الترجمة، على بعض هذه الشعريات، الفرنسية والإنجليزية ثمّ الروسية والإسبانية والألمانية والإيطالية فيما بعد، التي كان لها دور حاسم ومهمّ في سيرورة تحديث الشعر العربي، حتّى صار شعراء ذائعو الصيت يشكّلون فنا مضيئا من شجرة هذا الشعر وذاكرته ومتخيّلة، من أمثال إليوت وإديث ستويل وسان جون بيرس وروني شاروعمر الخيام وبابلو نيرودا وناظم حكمت وطاغور وويتمان وبودلير وخيمينيث وييتس وأوكتافيو باث وبورخيس وآرتووإزرا باوند ولوركا وألن بو وريلكه وهولدرلين وإيلواروبريتون وميشووبيسوا وآخرون، وصولا إلى نماذج من الشعر الصيني وشعر الهايكو الياباني حديثي الاكتشاف.

ولهذا، ليس في الإمكان أن نقرأ مسارات الحداثة الشعرية العربية بمعزل عن دور الترجمات الشعرية المتنوعة التي تمّت بمستويات متباينة.

وإذا عدنا إلى بدايات القصيدة الحديثة وجدنا أن الترجمات تحضر بنفس قوة الآثار المنتجة. تحضر أعمال "أنشودة المطر"، و"أباريق مهشمة"، و"أقول لكم"، و"أغاني مهيار الدمشقي"، و"لن"، و"حزن في ضوء القمر"، إلى جانب "الأرض اليباب"، و"أربعاء الرماد"، و"الرجال الجوف"، و"أزهار الشر"، و"عيون إلزا" و"منارات"، و"أوراق العشب"، و"أغان غجرية" و"راعي القطيع".

لكم من شاعر عربي حديث، من جيل إلى آخر، قد استضاف شاعرا أجنبيّا، وارتبط اسمه به، وتحاور معه. السياب وستويل، عبدالصبور وإليوت، أدونيس وبيرس، سعدي وريتسوس، يوسف الخال وباوند، أنسي الحاج وآرتو، فؤاد رفقة وهولدرلين، المهدي أخريف وبيسوا، رفعت سلام وكفافيس، محمد بنيس ونويل، وإدريس الملياني ويفتوشينكو، وقد يفرد شاعرأو ذاك جناحه على جملة شعراء عرب محدثين ومعاصرين، مثل إليوت ولوركا وبريتون وبيسوا. غير أنّ الأثر المتبادل، عن طريق الترجمة، بين الشعر العربي والشعر الأجنبي بلغاته المتباينة، لم يكن متساويا وواقعا بالقدر نفسه.

نماذج محدودة من الشعر العربي القديم، بما فيه الأندلسي، من أحدثت أثرها في الشعر الآخر، لكن من الصعب أن نثبت إلى أيّ حد أثّر هذا الشاعر من شعراء العربية المحدثين في مجرى الشعر العالمي، وإن كنّا لا نغفل الهالة التي صارت لبعضهم تحت هذا التأثير أو ذاك، مثلما هالة محمود درويش أو أدونيس. هل يصحّ لنا أن نؤكد أنّنا أخذنا أكثر مما أعطينا بكثير، وتأثّرْنا أكثر مما أثّرنا؟

في كلّ الأحوال، لقد أفدنا من ترجمة الشعر التي تمّت على أيدي الشعراء أنفسهم، هؤلاء النادرين الذين لا يضاهيهم أحد، والذين يأخذون على عاتقهم تحديد معنى الأدب، والذين يعلمون قبل غيرهم أنّ ثمة نواة في القصيدة يجب الانتباه لها ومعاملتها بكثير من"الاحترام والتبجيل"، أثناء ترجمتها أو نقلها إلى لغتهم الأمّ. فعلى المترجم أن يكون عارفا بلغة الشاعر الذي يترجمه، وايقاعها، وأسلوب تشخيصها للذات الكاتبة والعالم الحسي والعقلي.

ويجوز له أن يخرج عن الأصل بمقادير، مبدعا فيه، ومهتديا إلى ذلك بحدسه وإصغائه شديدي الإرهاف. فمن سوى الشاعر المترجم، إذن، يُدرك أنَّه بصدد فعل كتابيٍ لا يقل إبداعيّة، ويقرّ في أصالته ومسؤوليّته أن يستضيف الشعر "الآخر" بيديه الأمينتين المرتجفتين، حتى لا يطير عنه خياله ويغيض ماؤه، فتأتي الترجمة بأقلّ خسارة، بل تبزُّ أصلها. يجب، بهذا المعنى، أن يؤمن الاختلاف حتى يبعث في لغته بما يحمل إليها من تحولات عنيفة أو رقيقة، حضورا لما هو مختلف، أصلا، في الأصل هذا النوع من الترجمة الإبداعية صارت له قيمته في الفترة ما بعد الاستعمارية، بعد عهود من سوء الفهم العظيم التي أشاعها الاستشراق.

بالنسبة إليّ، لا أعتبر نفسي مترجما، أنا قارئ للشعر "الآخر"ـ الفرنسي تحديداـ، وفي نيّتي أن أتعلَّم من متخيّلات شعرية غريبة عنّي بما توافر لها من أسباب العجب والفرادة والاختلاف، لكن سرعان ما وجدت نفسي أرتكب مثل تلك الخيانة الممتحنة لمدى خيالي. في ترجماتي المقترحة لنصوص من الشعر الفرنسي المعاصر، لاسيما نصوص هنري ميشونيك وأندري فيلتروبرنار مازووماري كلير بانكار، تبيّن لي أن لكلّ شاعر "عقدة ايقاعيّة"، وليس بمقدوري أن أعكسها إلّا على نحو تعويضيّ، إن ملأتها بذبذبات من وجيبي الداخلي الذي يتجاوب مع تجاربهم المنادية علي، وأدخلتها في علائق صوتيّة ودلاليّة جديدة تمنحها تأويلا جديدا، وقيمة مضافة جديدة داخل لغتي التي أبدع بها، وأحيا فيها.

لكنّي، في كلّ يوم أكتشف ما معنى أن تصير الترجمة "محــكّا"، فلمّا نحن نترجم "فكأنّنا نلقى بين اللغتين تفاهما هو من العمق والانسجام، بحيث تحلّان محلَّ المعنى وتتمكَّنان من جعل الفجوة بينهما منبعا لمعنى جديد"، بتعبير موريس بلانشو.

عزاء تأخر كثيرا-عدنان المبارك

نصوص
عزاء تأخر كثيرا


  
قبيلتنا على وشك الأختفاء
لا أحد يعلم متى بالضبط ستنقرض.
ضحك السحرة وقالوا :
الأمل كله في الانبعاث.
وأنت ضحكت معهم .
وكانت السماء شاهد زور
على ( نكبة صغيرة ) مثل هذه.
حرباء تزحف فيك ،
وفي كل يوم أنت ترشي مهرجا متقاعدا
كي يبكي الأطفال ويسلّي الكبار،
كي تسوّر قنوطك بعبث مرّ كهذا.
خدعتني بالقول عن قبور شاغرة.
فكل المقتربين من الرحيل
اختاروا المحرقة ،
كي يحتفظ الأحفاد برمادهم
تعاويذا في أزمان نكبات أكبر.
قلت لك :
- العودة الى ما كان هي الأسلم ،
فسوء معروف أفضل من خير مجهول .
كما لست أنا من شبّه الحياة ببغي غير مقدسة.
أعترف بأنها دولاب هواء بل ريح لعوب.

نصائح هذا وذاك لا تفيد في هذا الزمن العنود.
بل هي عزاء تأخر كثيرا، وكان عذره :
كانت هناك ديناصورات
وعصور جليدية
وطلاسم غير سماوية...
لكن أمامنا أكثر من صنم لليأس ،
أكثر من ريبة في الرؤوس .
زائري المزمن في الليل والنهار
طمأنني ، لكن قليلا :
لا أحد يغني بمثل هذا النقاء
سوى الذين هم في أعمق جحيم ،
أما صرختهم هناك فهي غناء ملائكة.

قيل أنه سميع مجيب.
سميع قد يكون،
مجيب هي مزحة
من عصور سبقت كتابه.
فمي متورّم كأجاصة من بستاننا القديم.
وهكذا
لم يكن هناك حوار مع النفس
ولا مع أيّ كان.
ولا ارغام هنا ، لكني آسف على عجزي
في الهمس بأذن سكير أو محتضر:
- الخيبة وباء مستشر.
قدماي معوقتان بالورم.
المعذرة أذا لم ألحق بعد بنبي أخرس،
المعذرة على السنين التي لم أشف فيها أورامي.
المعذرة على وهمي الكبير بأني أعيش في عالم آخر، حقيقي.
ربنا القديم أخذ المعذرات .
لفّها في صرّة من زمن نوح
ورماها بوجه شيطان افتراضي.
أمرني بالعودة الى أقرب مدينة ألعاب
كي أصعد أحد الدواليب هناك
وأظل أحلم بعالم مخصص للمنبوذين.
لم أفعل هذا اللامعقول.
لم أحلم و لم أكتشف أيّ عوالم جديدة
ولم الاكتشاف؟ كي أظل مع العذابات القديمة ؟

المفاجأة أنه صار حقا، سميعا مجيبا.
وأظنها المرة الأولى في تأريخ السماء ذي الطول الخرافي .

 
 


سيتويل والسياب.. المطر..!**أيدث -ترجمة: سنان أحمد حقّي


   
   

سيتويل والسياب.. المطر..!**أيدث 


 ترجمة: سنان أحمد حقّي      

1. ظلّ يتساقط المطر..!

ظلّ يساقط المطر
معتما كعالم الإنسان، اسوداً كخسارتنا
أعمى كالف وتسعمائة وأربعون مسماراً
فوق الصليب
.............
ظلّ يتساقط المطر
بصوتٍ كنبضاتِ القلبِ التي تتحوّل إلى ضرباتِ مطرقة
في ساحة الخزّافِ ، وكخطواتٍ فاجرةٍ
على الضّريح
.....................
ظلَّ يتساقط المطر
في حقلِ الدّمِ حيثُ يتكاثر نسل ُ الأماني وحيثُ العقل الإنساني
يحتضن جشعه ، تلك اليرقة على جبين قابيل
.....................
ظلَّ يتساقط المطر
على قدمي الرجلِ المتضوّرِ جوعا والمعلّق على الصليب
المسيح المسمّر هنا ليلا ونهارا، إسبغ علينا رحمتك
على الرجل الغني وأليعازر الفقير*
فالذهب والجروح تحت المطر تتعادل
ظلَّ يتساقط المطر
ظلَّ يتساقط الدّمُ من المتضوّر جوعا ، من خاصرة الرجل الجريح،
يحملُ في قلبهِ كلَّ الجراح ـ جراح النورِ الذي مات،
آخرُ الشرار خبى
في القلبِ الذي إنتحر، جراحُ حُزنِ العتمةِ الحزينةِ غير المفهومة
جراحُ الدبّ الذي إبتلع الطعم
الدبّ الأعمى الباكي
الذي يجلده صاحبه على بنيته الواهنة ...دموع أرنبة الصيد
.................
ظلّ يتساقط المطر
ثمّ آه أنقلبُ إلى ربّي الذي يشدّني إلى أسفل
أنظري، أنظري حيث يجري دمُ المسيح في السماء
متدفّقا من الجبين المسمّر إلى تلك الشجرة
إلى أبعد حدّ من العمق ، إلى القلبِ الظامئ
الذي يقبضُ على نيران العالم المعتم الموصوم بالألم
كأكاليل القيصر
ثم يصدح صوتُ الأحدالذي يشبه قلب الإنسان
يوما كان طفلا غافٍ بين وحوش
ما زلتُ أُحبّ ، ما زلتُ أذرف نوري البرئ ، دمي ، من أجلكم.
1940     
  
2. قصيدة أنشودة المطر
للشاعر العراقي بدر شاكر السياب (يمكن الوصول إلى نصّها بالإستعانة بالرابط المثبت
في ذيل المقال     
  
............................
*حكاية الغني الذي عاش مترفا والفقير اليعازر الذي مات معدما ولكن مصيرهما في الآخرة إنقلب إلى خلاف ما كان عليه في الحياة الدنيا وهي من قصص الإنجيل والديانة
المسيحيّة
**مترجمة عن الإنكليزيّة ، ولقد تمت ترجمة هذه القصيدة عدّة مرات وأقدّم هنا تجربتي مع ترجمتها مرة أخرى ــ المترجم ــ
تعقيب ــ للمترجم ــ: يعتقد بعض النقاد أن القصيدة أعلاه كانت قد أثّرت في الشاعر بدر شاكر السياب لا سيّما أن بدرا كان من المعجبين بالشاعرة المذكورة ويُذكر أنه أي بدر كان يتقن اللغة الأنكليزيّة إذ أنه كان قد تخرج في قسم اللغة الأنكليزيّة بكليّة الملكة عالية ( التربية ببغداد حاليا) وحاز على البكالوريوس ، ولكن قراءة متأنية للقصديتين حسب رأينا المتواضع تجعل القارئ يميّز بين قصيدة كٌتٍبت في معرض التأثّر بما كابده السيّد المسيح( ع) وهي أي الشاعرة في حالة تتذكّر فيها معاناته وكأنها تُصلّي وبين قصيدة تقابلها هي عبارة عن تامّل في الطبيعة وذكريات الأشخاص الذين كان يُحبّهم وكل تلك الهواجس والعواطف والذكريات تأتي مصاحبةً لوقع قطرات المطر وكأنها تؤدّي ذلك النشيد .
إن

 
  قصيدة أيدث سيتويل عبارة عن صلاة ودعاء وابتهال ولكن قصيدة بدر أغنية تكاد تفرض موسيقاها على القارئ وتجعله يشعر بالمطر في حين أن أيدث سيتويل تطرح رموزا وإيحاءات روحيّة لتساقط المطر ولكنها لا توفّر لنا أغنية وموسيقى نتغنّى بها مع المطر ، كما فعل بدر.
أترك هذا الموضوع للمهتمّين في أدب الشاعرين بدر وسيتويل وأكتفي بإشاراتي التي ذكرت.
***يمكن للقارئ الكريم الوصول إلى نص قصيدة السياب (أنشودة المطر) عن طريق الإنترنيت ( شبكة المعلومات العالميّة) عن طريق مواقع متعدّدة وهذا الرابط أحدها :
http://ktaby.com/vb/t36012/


الجمعة، 29 يوليو 2016

أختام *- عادل كامل

























أختام *





 الختم الثالث

عادل كامل


[ا] المسافة ـ الغائب حاضرا ً
     ببساطة: أنا امسك بما أراه يغيب، لكنني، في الوقت نفسه، أرى هذا الغائب يحدق في ّ.  إنها ليست لعبة ـ بحسب شلر في الأقل ـ مع ان أصابعي لا تكف عن اللعب، إنما هي شبيهة بأداء عمل الدورة:  تتوارى الأشياء كي تنبثق. قطعا ً لم ْ اعد منشغلا ً بما سيقال، وإلا لاخترت أي درب وسلكته غير مكترث لنهايته، فانا ـ كما في عملي ـ لا امسك إلا بالذي انتزع حريتي وقيدني بقيودها: المسافة التي كلما أعدت التدقيق فيها أجدها تنبني بالاختيار الذي لم اختره.  باستطاعتي ان أجد يقينا ً ما بوسائل غير (التفكير) لكنها ـ بعد نصف قرن ـ فقدت غوايتها، بمعنى: وهمها. ذلك لأن كل من قيدته حريته وحررته منها يدرك ـ في سره ـ برغبة العثور على مفتاح لا للدخول ـ ولا للمغادرة ـ لأنهما العلة التي أكملت بعضها بالبعض الآخر ـ بل لدمجهما والنظر إليهما كما المح ـ في شرودي ـ القفل نائيا ً. فانا لا أقع في النهار ولا في الليل، وإشعاع الشمس يعلن لي عن سواد توارى فيه، بمعنى: لا مخفيات هنا ـ ولا هناك. على ان الحضور، في سياقه، يخفي اندثاره.
    ليس لدي ّ إلا القليل من النور يسمح لي برؤية الحروف فوق الورقة، فالغبار يكاد يعلن عن لغز الأرض في نشؤها البكر: دخان مركزه جمرة. إنها عاصفة رملية وأنا أكاد المس ـ بروحي ـ حباتها تنتشر من حولي، فيما جسدي أراه يقاوم موته، بحثا ً عن هواء غير ملوث، وعن تراب لا يتراكم، بحثا ً عن قطرات ماء بكر! ولكن هذا الذي أتتبع اختفاؤه أراه فاجري ـ بنظري أو بروحي ـ خلفه، انه ـ مثل تلك اللاحافات التي قيدت موجوداتها بها ـ يسبقني كي اكتشف أنني أترقب حضوره.  لأنه لم يغب إلا وقد منح غيابي شيئا ً ما منه! هل هذا كل ما تريد الحياة ان تقوله لي، أم هو ما أريد ان أقوله ـ لنفسي ـ في الحياة، أو ما تقوله الحياة لشخص وجد انه لا يمتلك إلا مسافة خاتمتها سابقة على مقدماتها بمنطق الدورة: دورة اللازمن، وان يدا ًعابثة صاغت (الصفر) كي يكون للعدد موقعه معنا في غياب ـ وحضور ـ وغياب المسافات؟
    بشرود وليد انجذب إلى رائحة ما فأتشبث بها، كالطوفان ـ كالطوفان المثبت في الألواح، وفي الأساطير، وفي الذاكرة الجمعية ـ وقد توارى تاركا ً لنا ـ وليس لي ـ هذه الرمال تهطل مطرا ً ذريا ً جافا ً لا يشع إلا بالنسبة ذاتها في أشعة الشمس. ما معنى هذا..؟ ولماذا تمتد الصحراء وتزحف بعد ان غمرها ماء الطوفان الأكبر.؟ ولماذا علي ّ أن أموت غرقا ً، كي أموت، مرة ثانية، في هذا الجفاف...؟
    تحفر أصابعي قبرا ً مزدوجا ً سأغادره، بعد أداء مراسيم الدفن، فانا فيه، وأنا ناء ٍ عنه. فهو كقبر شبعاد ومن معها ذهب إلى العالم السفلي، لا وجود له بعد ان شاركنا في المراسيم، وشيدنا ـ بما يدحض كل احتمال لوجود المصادفة ـ أو لسلاسل المصادفات ـ مأوانا، وقد وجدنا ـ حد الصهر ـ بين المحو والتدوين، بين نهاية المسافة وأولها، غياب هذا الذي يحفر حضوره في امتداد المكتمل ـ من مرارات المرض والشقاء ، فالموت ذاته، كالرمال ـ مشفر بالطوفان، لن يسمح إلا لرفيف ما يلامس من يجد نفسه عثر على سفينة لا مرسى لها، فهي ذاهبة ابعد من مسافتها، برمال اخفت لغز ما لا يحصى من العناصر، وتحولاتها، لأنه سيكون هو السفينة، خالية من السفان، والريح لا تجري في الغمر، قبل تكّون الليل والنهار، وقبل ان تكون للعدم أيامه، وأسابيعه، وأشهره، وقرونه، ومطلقه، فالأخير سابق على نهايته، ومقدماته سابقة على خاتمته، ولأنه هو السفينة والسفان والمسافة، فهو يكون وقع ميتا ً عند الذي أعطاه النور: وأصغي إليه ـ من غير صوت/ رآه من غير صورة/ أدركه من غير تفكير/  حيث عشقه خال ٍ من الحبيب، فأجد الشيء الوحيد الذي علي ّ ان أراه توارى بما قبل الغياب، وغاب قبل الحضور، لأن البرهان وحده غدا شيئا ً ما كهذا الذي نراه يدحض سكونه، وما فيه من ثبات.
     ولكنني أعود بما في الغفلة من ضوابط، لتلمس حدود الموت، داخل هذا الذي اجهله (إن كان رمالا ً أو طوفانا ً أو كلاهما) وارتب مائدة شبيهة بالشاخص تدل على من فيها، ومن فيها لا وجود له. هل بلغت لغز ان الموت مكث يحرسني  مني وليس منه تارة، ومنه وليس مني تارة أخرى، كي تأتي الرمال ـ بعد ان غمرنا الطوفان العظيم ـ بالبرهان ان الشاخص وحده لا وجود له إلا في حدود وجوده العابر، كالذي شيدته، من اجل استكمال بناء/ هدم ما لا يحصى من المدافن، ونثرها، كأثير، ومثل هذه 0الرمال) مازالت تحمل طاقة بعثها الأولى: أم تراني ـ في سياق الاستحالات ـ سأستنجد بالخطوط، والألوان، وبباقي العناصر لإخفاء بلوغ اللغة صفرها الذي بدأت منه؟ لكن اللغة أراها تراني فألبي لها نداءها  بما لا امتلك إلا ان أنجزه، كاستبدال الكفن بمنديل، واستبدال الراحل بظله، والدوي بما هو اشد منه: ألا تبدو المقاربة من الختم زيادة  تتطلب التطهر، والحذف، كي لا أرى ـ ولا يرى الآخر ـ إلا ما اخذ موقعه في البرهان: نستيقظ كي نجد العدم له حافة السكين، وقد كف القلب ان يبقى منجذبا ً إليها! حقا ً ان اللا متوقع  ـ هو ـ وحده من نسج لنا غوايتنا، لكنه، حقا ً هو وحده كان تاما ً بلا حافات، وقد صاغ منا هذا الذي أبدا ً لن نمسك به بعد ان امسك بنا، وقيدنا إلى ألتوق:الموت بعيدا ً عن الموت، والاستيقاظ بعيدا ً عن حافات النهار، وبعيدا ً عن ومضات الليل.

[2] انصهار أم تصوّرات أم عزله؟
     من غير إحساس بالصفاء، ومن غير بياض خال س من مكوناته، ومن غير شرود، لم أجد جسارة ان أعيد بالخطوط ذاتها الأولى: نسج الأثر الوحيد الذي أدرك انه هو وحده قد قيّدني! هو وحده حماني، كي لا أرى إلا الذي وحده لا وجود له تماما ً! ليس هو العدم السابق على الوجود، وليس هو الوجود الكامن في عدمه، وليس هو أية حكمة تدوّنها الكلمات، بالحواس أو بالعقل أو بالانجذاب والأسر، بل لهذا اللا متوقع وقد شيّد مأواه، كما تفعل المجرات، والنجوم، ومملكات النمل، ومجاميع الحشرات، والبشر، والأشياء: انه انجذاب مهد نحو داخله، بالقوة التي لا تقول شيئا ً تصوراتنا عنها سوى الانجرار، فهل الكون يفكر...؟
    الكلمات شواخص في مدفن، والمدفن لا يقع بين ماضيه، وغده، فالميت ليس حيا ً، والحياة، في هذا التتابع، ليست جزءا ً من الموت، وليست حتى جزءا ً من الكلمات: إنها ـ ببساطة ، لم تستنفد لا أسبابها ـ عبر الأسباب ـ بعد، ولا وهمها العميق وقد غدا كالحقائق،  وإلا لماذا صرت عدما ً ممتدا ً، أو نهارا ً خرج من الليل؟ هل قلت: كان علي أن لا أجد عذرا ًكي أقول أنني برمجت لحمل هذه الأثقال كلها، وفي مقدمتها تلك التي لا وزن لها، بمعنى: لا وجود لها إلا عبر انعدام الحركة، ولكن في ما لا تستطيع الكلمات إلا ان تقوله: هذا الذي وحده الغفران قفله، وهو مفتاحه الذي توحد فيه!

[3] السكن: دينامية اللغز

     قبل الولادة، وبعدها، لا امتلك قدرة نفي وجود أصابع أدمية غير مشفرة  بما يمنح عملها الامتداد عبر الآني. إن النحل ـ كالنمل ـ وكالطيور، وقد شيدوا مساكنهم لا للسكن فحسب، بل لجعل المستقبل خارج عمل إرادتها.  وأصابع البشر، منذ اشتغلت في السياق ذاته: الديمومة، بحثت عن مفاتيح  لا تفتح بابا ً، بل لمغادرته. فالأصابع ليست أداة عمل، واكتشاف، وحفر، وبحث، وتعبير، وتفكير فحسب، بل أداة عبور. فالتاريخي ليس وليد (الدماغ) إلا لأن الأصابع دمجت الرقص، والعبث، واللعب، بالآخر الذي غدا إمبراطورا ً (مركزا ً) أسير مكوناته. فهي وحدها لا تؤدي دور الجسور/ المعابر/ نحو الرأس، بل ستمنح الرأس مغادرته حدوده نحو العالم/ ونحو الكون.
      لا اخفي ان ريلكه، الشاعر الألماني ـ بترجمة فؤاد رفقة ـ  سمح لي ان أعيد التجربة. لقد شغلته أصابعه، حتى ظن أنها كائنا ً غريبا ً، لمخلوق آخر، وقد لصقت بجسده للأسباب ذاتها التي جعلت من وجوده: لغزا ً.
    تلك الأصابع التي سبقت العقل، بعملها غير التخصصي، لم تكن تلهو! فبعد ان انفصلت عن النوع، أدركت أنها غير قادرة إلا على ان تتمثل لغز الكون، النمل لم يشّيد اعقد الأشكال وأكثرها ملائمة لحياته فحسب، بل أرسى قانون التكرار، فقصور النحل لم تتغير، لا في الغابات ولا في الجبال ولا في المدن، ولا في الحقوا التجريبية. أصابع البشر، بعد التخصص، منحت معمارها امتيازا أكثر ملائمة لقدرته على التكيف من ناحية، وقدرتها في الانفصال عن تحويل الواجب إلى حرية.
     ولا اخفي ـ عندما أعيد تأمل أصابعي تلهو بالحجر، والماء، وشقوق الطين ت تذكر طفولة برمجتها تلك الأصابع، قبل ان تكون بإمرة العقل! فكانت أصابعي تبصر أكثر مما كانت تشم، وتلامس، وتنشغل بالأسئلة. لهذا كنت احلم ان أكرس حياتي للفيزياء ـ باشتغالي في تأمل ومضات المجرات والنجوم ـ وكنت ارغب ان أكون جراحا ً، بعد ان تجاسرت وشرحت جثة ديك مات، اضطرني ان أتتبع شريانيه وصولا ً إلى القلب: لقد لدغته عقربا ً، وسببت موته، بتخثر الدم!  لاكتشف احد أكثر خواص شخصيتي: تجنب العنف. ولكي ادحض اعترافي، فان أصابعي كانت تأخذني نحو المجهول. فالرغبة في النحت وجدتها عندما أمسكت أصابعي بالمطرقة (الأزميل) فلم امنعها، مثلما انشغلت بلذة الصيد! لا انوي الحديث عن طبيعة بشرية مشتركة، لكنني كنت اكتشف ان أصابعي لم توجد للرقص، بل للاشتباك! فهل حقا ًلم تلد امرأة ما ابنا ً بريئا ً قط ! هذه الرهافة في المحاكمة، حفرت في ّ ذعرا ً مكتوما ً في لحظة مشاهدة جسد قطع ووضع في كيس. كان قتلا ً بدافع غسل العار، لفتاة  جرجرتها رغبتها فدفعت الثمن، كي لا تضطر للقبول بشقاء ما تبقى من العمر. الأصابع مزقتها، أصابع الأهل، لكن أصابع شريكها لم تفكر بالخاتمة، فأصابعه اشتغلت بالعناق!
    ربما ـ هنا ـ اكتشف عبد الباسط النقاش ـ خلال تسعينيات القرن الماضي ـ سر انشغالي بالنحت، كي ادفن عويلي في الخامات،  بدل إثارة الانتباه.
     ها أنا أراقب أصابعي العاجزة، الواهنة، الحزينة، ولكنها مازالت صلبة، ورقيقة، بل وأليفة. إنها عقدت معي صداقة سمحت لي بإدامتها، في العمل. لكن ليس كما يفعل النمل، بل وكأنها تقودني إلى الذروة: اللا عمل. فالعمل غدا مميزا ً لا لبناء مصيره، بل لترك البرمجة تأخذ انشغالها بما هو ابعد من ماضيه ت وابعد من حاضره.
    وها أنا أدرك ـ بالوعي ـ أنها شاهدة علي ّ: فانا اعرف إنها تعمل عمل العين،لكنها لا تبصر السطوح، ولا الحركات، بل تذهب نحو المخفيات، والنوايا، والمجهول الذي سكن القلب ـ والرأس.  فهي شاهدة ـ لكنها ضحية أيضا ً ـ على سلاسل من الأعمال مضادة للحياة في المدفن. فأصابعي عبر سلاسة ونشوة تمثل عالمها الجنيني وتعبر: عن انشغالات يمكن عزلها عن البرمجة. فإذا كان دور الأصابع صريحا ً في الحروب، والقتل، فإنها اشد وضوحا ً في أداء دور الصياد، لا في اقتناص الضحية، بل السكن فيها. فهل الموت وحده يخفي نفيه، كما تختفي النار في قطرات حليب الأم ـ أو مذاق جسد الحبيبة ؟ الأصابع تشهد، من غير ضوء أو إنارة، أصابعي تحديدا ً، عن المشهد المزدوج للفناء ونقيضه. ولكنها ستجد حرية مماثلة في صياغة العقل ذاته عبر الخامات. إن الأصابع تلبي نداء الكون، عبر لغز عمل القلب، وباقي المتوهجات. لكنني اكتشف ان الأصابع لا تعمل بدافع الإثم، أو البراءة: إنها ـ كامتداد ترتد إلى مركزها: خلايا بعدد نجوم المجرة! لا حرية لديها إلا ان تبقى غير قادرة على الاستسلام! 
[4] اللغز ـ ممتدا ً
     ما المسافة بين النافع والجميل، وما المسافة بين التخبط وبين من يمتلك نظاما ً له غايات، وما المسافة بين اللا متوقع ـ والمشروط بعوامل وجوده ـ وبين ألقسري، والحتمي، والمحدق في المجهول..؟ بالأحرى، كيف حدثت البرمجة من غير غاية ابعد من وسائلها، اندماج المقدمات بالنهايات من غير انغلاق أوان تصبح خارج الحافات، كما يراها المحدود، من المجرة إلى الأرض، والى أدق خلايا الإنسان؟ اللغة تقول ـ كما قال بوذا  الحكيم ـ أنا لم اخلق للانشغال بهذه الأسئلة! وفي حدود معرفتي فاللغة لا تذهب ابعد من نظامها في الاتصال، والرموز، وان محاولات التأويل ما هي إلا جزء من طاقتها، فهي غير منفصلة عن لا ماضيها الذي كّون حضورها.  بمعنى  لا معنى للانشغال بأسئلة لا تبدو اللغة ـ مثل وسائل الاتصال كافة ـ إلا  انشغالا ً لا يقود إلى الحقيقة. لكن كلمة أو مفهوم أو معنى (الحقيقة) لا يخصها إلا بحدود ما في الكلمة من حروف، واليات عمل، وضوابط لن تعزل عن الوعي ـ والدماغ ـ أو ما يكمن في لغز الإنسان نفسه!
     ما الفن اذا ً...ان لم يكن مستحدثا ً بشروط الايكولوجيا الكلية بين الصانع، وحضوره ـ وجوده ـ في الدورة. فالفن لن يمتلك أكثر من هذا المدى: اللا متوقع ضمن كليته.  الأمر الذي يجعل التحولات/ المتغيرات/ والقوانين غير القابلة للتكرار إلا في صياغة نظامها الضامن لغايتها، والمقيد لا بالمصادفة، بل بنظامها حد ان المصادفة  ليست إلا احد شروط نظامها هذا.  فكما المرئيات ـ وقد أصبحنا جزءا من بنيتها ولغزها ـ  ليست إلا احد ظواهر لا مرئياتها، فان اللامرئي ما هو الا الحاضر الدائم الغياب في حضوره.
    ألا يبدو تعريف (الفن) ـ كتعريف اللغة ـ متصلا ً/ ومنفصلا ً، عن ذلك الذي تقع حدوده خارج العقل، وخارج التصوّر، أي خارج عمل هذه الوسائط، والوسائل، والتصدعات، والأقنعة، التي من ضمنها اللغة ـ ومن ضمنها الفن تحديدا ً..؟
    على ان هدم التكرار، وان كان شاملا ً، إلا ان شيئا ً ما سيحدث تحت قوة الغواية: عمل الإرادة بما تمتلكه. فانا أتنفس، وأتغذى، وأتناسل، لأنني ان لم افعل فسأكون خضعت لنظام آخر، كالفارق بين نظام جسدي ميتا ً أو وجوده قبل الموت. لكن ما المسافة بين انجازات لم أنجزها، وأخرى تحمل هويتي: شخصيتي، ضمن ترليونات الأنواع من الفيروسات إلى عادل كامل!   لكن ما معنى ان تكون لي علامة  ـ مشفرة ـ وما معنى ما أنتجه من أشكال وأفعال ومواقف وعلامات؟
     ان إرجاعنا لكل نص ـ لا فني ـ إلى صانعه، سمح لنا بالاقتراب من تلك الصناعات غير العامة، الصناعات التي يقوم بها عدد محدد تتوفر لديه مهارات محددة أيضا ً، مما يجعل الفارق واضحا ً بين صناعة الطيور لأعشاشها، وبين رسومات رسمها الإنسان الحديث عن رسومات الرسام الفرعوني أو إنسان المغارات. فالبصمات تعلن عن حدودها: وحدة الغاية بوسائلها.  فالختم ـ وكل نص مماثل ـ دال ـ وشاهد ـ على صانعه، قبل ان يتحدث عن غايته، ووسائله. لكن هل هناك نملة تشبه نملة أخرى، وهل هناك سمكة يمكن ان تشبه سمكة أخرى في ما لا يحصى من النوع نفسه، وهل هناك ورقة في شجرة التوت تتميز عن الأوراق في الشجرة ذاتها ...؟يأتي الجواب: ثمة اختلاف صريح لا يسمح بوجود التماثل أو التطابق! وفي السياق نفسه فالمثلث الذي وضع في رأس الرمح، للصيد، الشبيه برؤوس الأوراق المدببة، والحادة، ولكن لا التماثل يبقى عاما ً، في التعريف، ولا الخصائص الفردية في فرديتها.
   ها أنا لا أبدو كنملة، بين ترليونات النمل، كي يأتي عملي منسجما ً مع نوعي ـ كنملة أو كانسان ـ وليس مستحدثا ً إلا في حدود الإضافات المتكونة بشروط حضورها في هذا الوجود. مرة أخرى يبقى الغائب ـ والمتخفي ـ حاضرا ً عبر هذا الذي لا امتلك إلا أن أكون حاضره الغائب!
      فانا لا اصنع فنا ً! أنا أتنفس، وأتغذى، والنظام الرمزي وحده سيشكل حدا ً فاصلا ً بين الوظائف. فانا أتكلم بنظام الانتقال من عشوائية الأصوات إلى عملها البنائي، كي اشتغل بالكتابة، ووفق أنظمتها، وثوابتها، ومتغيراتها في حدود هذه الأنظمة. فالفن ـ هنا ـ ليس مرآة ـ ولا ايكولوجيا سلبية ـ ولا وظيفة كالتنفس، والتغذي، والتناسل، بل عملا ً للحفاظ على ما لا استطيع تحديد غائيته، ولا أهدافه.  فهو أداء منظم لصراع لا خسائر فيه ولا مكاسب إلا بحدود استحالة أن امتنع عن التنفس. فالمستحدث محكوم بالشروط التي صاغت للتنفس نظامه، كما صاغت العوامل الاجتماعية أدوات اللغة، وأدوات صنع أسلحة القتل، وفنون العنف، وباقي مظاهر الرهافة ـ والمؤانسات!
[5]الختم ـ الدافع ديناميا ً

     ما أن يكون الختم قد بلغ نهايته، حتى أكون قد انفصلت عنه، ويكون قد غادرني! هل هذه مشاعر أكيدة، أم لأن الأختام، كالشاخص، تنتظر من يعيد إليها حياتها؟  لكنني أدرك أنها أصبحت ترسم لي حدودي، تطوقني، لا حماية لي، بل كي أكون شريكا ً معها في الذروة! لكنني ـ في الوقت نفسه ـ  لا امتلك قدرة التحرر من منفانا المشترك: العمل لأسباب لا تمتلك إلا مبررات اللا عمل! فمادامت المصائر تمضي، كما ولدت، بما تمتلك من دينامية، أكون مضطرا ً لاستكمال خاتمة أجد مقدماتها بدأت توا ً... تجرجرني إليها.  فاستعين ببصري في المراقبة، كي تكف الكلمات عن الوساطة، فها أنا ارقب ذرات الغبار، وحبيبات الزمن، وأصوات نائية شبيهة بضربات قلب لا تعمل بإرادته، اجمعها، بالأحرى هي التي تمسك في ّ، لصياغة هذه الوحدة: غواية تبلغ استحالة البحث لها عن علل، أو مبررات!


[6] ما بعد الربح/ ما قبل الخسران
     ليس ما أراه، من سطوح ومجسمات وأبعاد إضافية، كالزمن وما يجري داخل خلايا الدماغ، إلا مسافة ـ ابتعد ـ واقترب ـ فيها من الدافع نحو العمل. أنا لا أؤدي دورا ً أمام المتلقي، ولست حارسا ً شخصيا ً لأحد، أو مستأجرا ً، أو أقوم بدور القابلة، أو المعالج، أو التابع ...الخ أنا ـ بما امتلكه من حياة ـ اخترت خسارتي فيها بروح من كسبها! أنا أحدق في ومضات تأتيني بعد أن تكون قد انفصلت عن أسبابها،  إنها مجموعات أو ذرات أو إيماءات لمغيبات، ولمندثرات، تبلغ درجة الموازنة بين يقين الواقع ومداه في الامتداد، حلم مائل يعيد تركيب الأصول، والمصادر، ليكف (الفاعل) ان يندرج في الوظائف، وسلم الترقيات. فانا أحدق في ما يشبه البذور التي تأبى ان تكون فائضة. بذور في ّ أو نائية عني، لا فرق، إنما الجسر بينهما هو الآخر لا يؤدي الدور نفسه: كيف أفكر في قضية ما لا وجود لها، كوجود العدم، لو لم يكن اللامرئي ذاته قد اخذ موقعه في الدورة. إنها ليست فلسفة، في عصر موتها، وفي عصر موت الإنسان وقد غدا شاخصا ًن لا لعمل مشفرات البذرة  فحسب، بل السياق برمته أدى إلى هذه الخاتمة: هذا الابتداء. فالسلسة مترابطة ومن الصعب معرفة حد من غير آخر يكمله أو تنفيه.
     هذه الومضات، وقد تحولت إلى ذرات لها سطوح، وأبعاد، ومنحنيات، بما تخفيه من عمل الانجرار إلى داخلها حد الصفر، تجعلني أرى الحقيقة بصفتها ـ كانت ـ ذات وجود، وليس بصفتها تتكون توا ً، كصانع لها. لكن هذا الذي يمتد مني إلى الختم، يغيب فيه، كي يأخذ غيابه حضورا ً آخر. حضور الفن في عصر موته، أو انقطاعه عن الفاعل. فالمضي وحده يمتلك دينامية الغواية في تحوله إلى امتداد: هذا الذي لا حضور له الا بغيابه، وما يخص من الأسباب التي جعلتني لا امتلك إلا شرودا ً وأنا افقد تماما ً إلا ضراعة التشبث! (وسأعود إلى مواقف يتوازن فيها المعنى عن لا معناه بحضور هذا الغائب وهو يتحكم بما فقدت السيطرة عليه) هل لي وجود سيتم استرجاعه، كما افعل مع عناصر الكون ...أم ان وعيي برمته  ليس إلا بذور لها عملها خارج حدود هذا الوعي، وان كلماتي، لا تمثل إلا جزءا ً من المعادلة؟
     ها أنا لا امسك إلا بما أراه غدا مندثرا ً. لكن كيف يحدث ان أجد أصابعي تغويني بأداء الأدوار التي طالما أربكت (صدقي) مع ذاتي، في الفهم، وفي الإدراك؟  أجد أنني أتحمل مسؤوليتي مع هذه البذور، ومع موتها، ومع الآخر الذي اجهل من يكون وماذا يريد بعد ان بلغ الوعي لدي ّ درجة دحضه؟
     هل تراني لا امتلك، في الأصل، وفي خاتمة السعي وفي ذروة الاستنتاج، إلا الاعتراف بان ما حدث ـ لم ْ يحدث ـ إلا  وكأنه سيحدث بقوة ما لم استطع إلا ان أنفذها؟
    يا للحرية، وقد قلبت، كي تؤدي دور السجّان، لكن حريتي تسمح لي ان أرى سجاني مكبلا ً ـ هو الآخر ـ   بقيود وجودي مندثرا ً، أو قيد المحو، من ناحية، وبقيود نشترك فيها، خارج جدراننا، من ناحية ثانية. فأي سلوى بلغة المرارة، هذه الحرية، إلا ان تثمر زوالها بهذا العناد!




  • تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.