غاليري تاون هاوس في القاهرة:
نافذة فنية وتجربة إنسانية
أميرة الأهل
ترجمة: رائد الباش
يشكل غاليري تاون هاوس في أحد أحياء مدينة القاهرة القديمة علامة بارزة في المشهد الفني المصري المعاصر بوصفه حاضنة فنية لجماعات المسرح التي تحتاج لمكان تتدرب فيه ومتنفسا للأطفال للتعبير عن أحلامهم وآمالهم وآلامهم. أميرة الأهل زارت هذا البيت الفني وتعرفنا به.
في شهر حزيران/يونيو من العام 2006 أطلق غاليري تاون هاوس ورشة عمل "سوا"، حيث خصص جزء كبير منها للاجئين السودانيين في القاهرة في صباح يوم السبت وفي الساعة الحادية عشرة وفي وسط مدينة القاهرة تدب الحياة ببطء في الشوارع. وبين ميدان طلعت حرب وشارع شامبليون في قلب المدينة توجد مجموعة من الشوارع الضيِّقة والأزقة المتشابكة. وهنا بين المباني الأنيقة التي تعود إلى مطلع القرن الماضي وفي ميدان طلعت حرب الذي يقع وسط المدينة وبين شوارع التسوق الرئيسية ثمة عدد كبير من الورشات الحرفية والمقاهي التقليدية التي وضعت كراسيها وطاولاتها في الأزقة العتيقة.
ولكن نادرًا ما يضل السيَّاح طريقهم إلى هذه الأزقة الجانبية، على الرغم من قربها من مركز المدينة. وفي المقابل يأتي إلى هنا منذ بضعة أعوام وبصورة منتظمة الفنَّانون والكثيرون من أبناء البلاد على اختلاف ألوانهم ومشاربهم، حيث أصبح قبل كلِّ شيء الشارع الصغير الذي أطلق عليه اسم حسين باشا والذي يقع خلف ميدان طلعت حرب، جزءًا أساسيًا من الحياة الثقافية في مدينة القاهرة.
ومنذ أن افتتح الكندي وليام ويلز William Wells في العام 1998 وفي مبنى قديم يقع في آخر شارع حسين باشا، غاليري تاون هاوس Townhouse، أصبح من المعتاد هنا بالنسبة للكثير من الحرفيين والميكانيكيين والنجَّارين والحدادين أن يتقاسموا الطاولة التي يجلسوا حولها في مقهى ما مع بعض الأشخاص الأجانب والأثرياء المصريين وأن يشاهدوهم يومًا بعد يوم وهم يمرّون من أمام محلاتهم.
غاليري اجتماعي
غير أنَّ ما يلفت الانتباه لا يكمن في إنشاء هذا المعرض الفني النخبوي في هذا الحي العمالي؛ بل إنَّ الشيء غير المألوف هو أنَّ غاليري تاون هاوس لا يعتبر نفسه كذلك، لكنه يسعى وعلى العكس تمامًا من ذلك إلى التبادل مع أبناء المجتمع المحلي. ويقول ويليام ويلز: "منذ البداية كانت الفكرة إنشاء مشروع يقوم على دعامتين". ويضيف: "لكي يكون من ناحية منتدى للفنَّانين الشباب في مصر ولكي نعمل من ناحية أخرى مع المجتمع الذي نعيش فيه".
افتتح الكندي وليام ويلز في العام 1998 وفي مبنى قديم يقع في آخر شارع حسين باشا، غاليري تاون هاوس وقبل أحد عشر عامًا كان ويليام ويلز يبحث عن مكان يستطيع فيه الفنَّانون المصريون الشباب عرض أعمالهم. وهذا المكان كان ينبغي أن يكون واسعًا جدًا ليتيح المجال من أجل عرض أعمال فنية كبيرة وتركيبات ومشاريع. ويقول ويلز: "عندما شاهدت هذا المبنى عرفت على الفور أنَّه المكان المناسب. فقد توفَّرت فيه جميع العناصر المعمارية التي كنت أبحث عنها".
ولم يكن حينها أي من الفنَّانين يعتقد بأنَّ غاليري تاون هاوس يمكن أن ينجح في هذا الموقع البعيد عن الشوارع الرئيسية. ولكنه سار مباشرة منذ البداية. وحتى قبل أن يفتتح وليام ويلز هذا الغاليري بشكل صحيح، بدأ وبالتعاون مع الفنَّانة هدى لطفي بتقديم ورشات عمل لأطفال الشوارع في هذه المنطقة. "لقد أتينا إلى هذه المنطقة التي توجد فيها العديد من المحلات غير المرخصة والكثير من الأطفال العاملين ومقاهي الأرصفة وكذلك الأطفال الذين يعيشون في الشوارع"، مثلما يقول ويليام ويلز.
متنفس للأطفال
وفي المساء كان ويليام ويلز يراقب كيف كان أطفال الشوارع يظهرون أمام المقاهي من أجل كسب المال. وهكذا نشأت فكرة منح أطفال هذا الحي الفرصة للتعبير عن أنفسهم بصورة فنية. وكانت هدى لطفي وويليام ويلز يأخذا الأطفال إلى صالة الجلوس الخاصة بأطفال الشوارع وكانا يعلِّمان الأطفال هناك استخدام الألوان وسرد قصصهم من خلال الرسم.
ويقول وليام ويلز: "كان عمل الأطفال قويًا وملهمًا بشكل لا يصدَّق". وما يزال لديه في مكتبه لوحتان من أعمال الأطفال، تسود فيهما الألوان القوية، ولكن تسود فيهما أيضًا موضوعات قاتمة تتحدَّث عن الخوف والوحدة والاعتداءات الجنسية. وفى شهر كانون الثاني/يناير من العام 1999 أقام غاليري تاون هاوس معرضه الثاني الذي ضم فقط لوحات رسمها أطفال الشوارع. وكان الهدف من هذا المعرض لفت الانتباه إلى وضع هؤلاء الأطفال وجمع المال من أجل تأسيس صالة جلوس للأطفال. ولاقى هذا المعرض نجاحًا كبيرًا، حيث زاره أشخاص كثيرون وتبرَّعوا بأموال كثيرة. ويقول وليام ويلز إنَّ "هذه الفعالية قد فتحت لنا أعيننا".
أقام غاليري تاون هاوس معرضه الثاني الذي ضم فقط لوحات رسمها أطفال الشوارع بهدف لفت الانتباه إلى وضع هؤلاء الأطفال ومن هنا أصبحت ورشات العمل الخاصة بأطفال الشوارع جزءًا أساسيًا من غاليري تاون هاوس. ومنذ العام 2000 تقام حلقات عمل في كلِّ يوم جمعة من أجل الأطفال العاملين الذين تبلغ أعمارهم بين الثامنة والثامنة عشر في غرف هذا الغاليري؛ وتبدأ دائمًا وبالتناوب للمجموعات الثلاث في كلِّ ثلاثة أشهر دورة جديدة في الفن التشكيلي والرسوم المتحرِّكة والمسرح.
ويقول وليام ويلز: "في البداية كان من الصعب جدًا إقناع الآباء والأمَّهات بإرسال أبنائهم إلينا في أيَّام عطلهم الوحيدة". ولكن في هذه الأثناء أصبحت الكثير من العائلات ترغب في المشاركة في عروض الغاليري كونها توفِّر مجالاً لأطفالهم. وبينما كان عددهم يبلغ في البدء اثنتي عشرة طفلة وطفلاً أصبح اليوم ثلاثين. كذلك أصبح الكبار الآن يساعدون المشرفين في الإشراف على الأشخاص الأصغر سنًا، كما أنَّ بعض الذين كانوا في تلك الفترة مبتدئين، أصبحوا اليوم فنَّانين لديهم أعمالهم الخاصة أو أنَّهم صاروا يذهبون من جديد إلى المدرسة.
ورشة عمل "سوا"
غير أنَّ حلقات العمل الخاصة بالأطفال لا تمثِّل المشروع الوحيد في هذا الغاليري. ففي شهر حزيران/يونيو من العام 2006 أطلق غاليري تاون هاوس ورشة عمل "سوا". وسوا تعني باللغة العربية "معًا". ويقول مينا نصحي الذي يبلغ عمرة ثلاثين عامًا: "لقد أردنا فعل شيء ما لصالح الكثيرين من اللاجئين السودانيين في القاهرة". وقبل أحد عشر عامًا بدأ مينا نصحي عمله كأول موظَّف في هذا الغاليري. وهذا الشاب الذي درس المحاسبة يقول مبتسمًا: "لم أكن أعرف على الإطلاق ما هو غاليري الفنون". والآن أصبح مدير الغاليري والمسؤول عن ورشة عمل "سوا".
وفي صيف العام 2006 دعا مجموعة صغيرة من السودانيين إلى ورشة عمل في الغاليري، وانضم إليهم في وقت ما بعض المصريين وفيما بعد بعض الأشخاص الأجانب. والآن أصبح عدد الذين يأتون أحيانًا إلى ورشات عمل "سوا" يصل إلى نحو مائتي شخص. ومينا نصحى الذي من الممكن ملاحظة فخره واعتزازه بهذا النجاح على وجهه المبتسم، يقول: "كبار وشباب وميكانيكيون ونجَّارون ورسَّامون وطلاب وأجانب ولاجئين - جميعهم يعملون ويتعلمون معًا".
"عندما شاهدت هذا المبنى عرفت على الفور أنَّه المكان المناسب. فقد توفَّرت فيه جميع العناصر المعمارية التي كنت أبحث عنها" وبعد فترة قصيرة أصبحت المجموعات التي تأتي في كلِّ يوم سبت للرسم والنحت والتصميم كبيرة جدًا، بحيث أنَّه تم تقسيم ورشة العمل إلى ورشتي عمل. "وكثيرًا ما كان المشاركون يحضرون ببساطة أطفالهم معهم، وذلك لأنَّهم لم يكونوا يريدون تركهم وحدهم في البيت"، مثلما يقول مينا نصحي. ولهذا السبب فإنَّ الأطفال يجتمعون الآن في صباح كلِّ يوم سبت، والبالغون في فترة ما بعد الظهر.
وفي هذا السبت يتراكض الكثير من الناس على مسرح روابط الذي يجاور الغاليري. وهناك شابَّات وشباب يجلسون مركِّزين على رسوماتهم ويلوِّنون ويرسمون ويصمِّمون تصميمات؛ كما أنَّهم يستشيرون مرارًا وتكرارًا الفنَّانة الإسبانية آنا سيكو Ana Seco التي حاولت في أربعة من أيَّام السبت تعليم المشاركين في ورشة "سوا" أساسيات تصميم الـ"تي شيرت". وهذه الفنَّانة ومصمِّمة الأزياء تعيش منذ ستة أشهر في القاهرة وتقدِّم هذه الدورة كعمل تطوّعي مثل جميع الفنَّانين. وتقول آنا سيكو وهي تناقش مع إحدى الطالبات اختيار موضوعاتها: "أجد متعة في تعليم الناس شيئًا ما".
أعمال فنية طموحة
وكذلك يشارك الآن في هذه الورشة الفنَّان وليد فاروق، مثلما يفعل في كلِّ يوم سبت. وهذا الفنَّان السوداني يعيش منذ عامين مع عائلته في القاهرة. وفي السودان سمع هو وزوجته الفنَّانة من بعض زملائهما الفنَّانين عن غاليري تاون هاوس - "هذا المكان المفتوح الذي يمكنك فيه دائمًا الحصول على فرصة"، مثلما يقول الفنَّان وليد فاروق. وهو بدوره مدين أيضًا لهذا الغاليري بكونه استطاع بهذه السرعة في القاهرة تكوين علاقات وتمكَّن من بناء حياته هناك. والفنَّان وليد فاروق يأتي مع زوجته ومع طفليهما في كلِّ يوم سبت إلى ورشات عمل "سوا".
وفي الصباح يعمل فاروق وزوجته كمشرفين على دورات الأطفال، وهما يتقاضيان أجرًا على ذلك مثل جميع زملائهم الآخرين. وفي فترة ما بعد الظهر يشاركان في ورشات العمل الخاصة بالبالغين. ويقول وليد فاروق إنَّ "الأطفال يحبّون الرسم، كما أنَّهم يستفيدون كثيرًا من التعرّف على الكثير من الناس المختلفين والثقافات المختلفة".
ومثلما هي الحال مع أسرة وليد فاروق كذلك استفادت أسر كثيرة جدًا من برامج التوعية التي يقدِّمها غاليري تاون هاوس. وهذه البرامج توفِّر لهم الفرصة للاستفادة من عالم جديد وتطوير مواهب جديدة دون تحمّل عبء مالي. "ورشات العمل تكلِّف في الواقع الكثير من المال"، مثلما تقول مصمِّمة الأزياء، لينا علي التي يبلغ عمرها ستة وعشرين عامًا والتي تشارك للمرة الأولى في ورشة سوا. ومن خلال موقع الفيسبوك تعرَّفت على ورشة العمل الخاصة بالتصميم. ولينا علي تصف هذه الورشة بقولها: "سوا تتيح فرصة رائعة لجميع الناس وبغض النظر عن خلفيَّاتهم من أجل تعلم شيء جديد دون اضطرارهم لإنفاق فلسًا واحدًا على ذلك".
ولكن على الرغم من ذلك فإنَّ ورشات العمل تستنزف بطبيعة الحال مبالغًا كبيرة من الأموال التي يجب في البدء على أي غاليري مستقل مثل تاون هاوس توفيرها. ولكن في هذه الأثناء أصبح هذا الغاليري معروفًا بعمله أيضًا خارج حدود مصر، وكذلك صار لديه العديد ممن يدعمونه بحيث أنَّه يتمكَّن دائمًا من توفير الأموال الضرورية لإقامة برامجه.
وفي شهر حزيران/يونيو أقام غاليري تاون هاوس للمرة الثانية مزادًا لبيع أعمال فنية، وتم تخصيص تقريبًا كلِّ عائداته من أجل برامج التوعية. وفي هذا لمزاد تم عرض اثنين وأربعين عملاً فنيًا للبيع. وقد أتى الكثير من المهتمين بالفن في القاهرة إلى هذا المزاد واشتروا أعمالاً فنية بقيمة مائة وثلاثين ألف دولار. وهذا المال استُثمر من ناحيتين بحكمة وذكاء.