أختام *
عادل كامل
[5] التراكم ـ من الحواس إلى الختم
كلاهما، الحواس والدماغ، لا يمكن فصلهما في التقدم، بأمل أن لا افقد الأمل، نحو مساحات غير مكتشفة. ما الحواس ...؟ إنها [1] الأصابع التي راحت تعيد تمثل العالم، وتستغرق في تأمل اشتباكاته، وومضاته، وتعيد صياغته بما يطرد ـ أو يهذب ـ أي درب يؤدي إلى انغلاقه. [2] فيما حاسة البصر لم تتكون بمعزل عن ما لا يحصى من الومضات (الضوء بصفته لغزا ً بدءا ً من الشمس إلى النار) فكلاهما لا يسهمان بوضع دفاعات معقولة ضد الخارج، بل ينشغلان برؤية البعيد، وما وراء السطح، وهو اكتشاف أبعاد (الروائح) [3] من العفن إلى عطر الورود، بالتفريق بينهما، وانتقاء ما يتكيف مع الجسد. [4] بينما عمل التذوق لن يسمح بمعرفة كم هي مذاقات الموجودات لا تحصى فحسب، بل اكتشاف ما يوازي تعقيدات عمل الدماغ. [5] أما الأصوات فإنها لن تبرهن على عملها بمعزل عن أجهزة الاستقبال، فكلاهما غاية لوسيلة، ووسائل لغاية، كي تظهر نزعة دراسة درجات الأصوات، من الصمت إلى الدوى، لبلوغ فلسفة الإصغاء ـ والكلام (الحوار/ الجدل).
فهل كانت ثمة أبعاد، غير العمق، بعد العرض والطول، كالزمن، وأبعاد تخص تراكيب أكثر تعقيدا ً كالإشعاعات اللا مرئية، والمديات، وتحولات الطاقة، وما سيشكل وسطا ً بين الأجزاء، وصولا ً إلى العلة المكتفية بذاتها، إلى: اللا علة، قياسا ً بمحدودية عمل الدماغ ـ وعمل أدواته.
في مخيالي ألبدئي الشارد، وفي سنوات مبكرة جدا ً، عشتها في مناطق زاخرة بالصخور، وأخرى مع الماء، وثالثة بين الرمال، كان للخامات، مع حواسي المتوثبة، والمتوقدة، أثره في تبلور ولعي بتحليل الانجذاب إلى (الختم) ـ بمعناه الشامل ـ وصياغته بما يعيد السكينة لذات عاشت صدمة الولادة ـ الخروج من العماء إلى الأصوات والمرارات والضروريات ـ إلى: الكد، وصدمات متلاحقة لم تنفك تزداد قسوة، وتعقيدا ً، كي تتحول إلى عناد في الإمساك ـ والتمسك ـ بالأمل، كالإمساك بالمستحيلات، أو بما لا وجود له إلا في حدود زمن اندثاره، وغيابه. لماذا (أنا) أفكر كي أدرك في نهاية المطاف، أني عملت للخسران؟ ساجد الجواب الرادع: هذه هي سنة الأمور، كي تلجم في ّ الأسئلة، وكي أجد موقعي في الجماعة: في شريعة يتحكم فيها نظام لا ينتج إلا ما لا يترك شيئا ً للبقاء. ففي الغابة، لا تنتهك الطرائد وتهلك وتغدو فريسة فحسب، بل الصياد، هو الآخر، مهما صاغ هرمية سلطته، فلن يذهب ابعد من مدفنه. فلماذا علي ّ أن أغلق أدوات الحفر...؟
في هذه اللحظة تبدو الصخور، وخامات أخرى، كالطين، والخشب...الخ ليست فائضة في وجودها بجواري، ولكنها لن تقيم علاقة معي إن لم امتد إليها، واعقد معها علاقة لن ادعها تتكامل إلا مع ذاتي بالمودة، وليس بالعدوان!
فهل كان دافعي هو ذاته لدى الإنسان الذي وجد نفسه في العراء، في الغابات الكثيفة، تحت الأمطار، مشردا ً، محاصرا ً بالأعداء، كي يحز، ويحفر، أو يخط، أثرا ً ما لتعبير ـ وصولا ً إلى مهيمنات السحر ـ ام ان الفراغ لدي ّ، كالذي توفر عنده، سمح للحواس أن تؤدي دورا ً قادها إلى وجود أقدم: علامة مقاربة للعملة. فما بذل فيها من جهد، وما في الخامات من ندرة، باختلاف خصائصها، وما تعنيه، وما فيها من مهارة..الخ فقد تحولت إلى مأوى له، شبيه بالكنز، دماغا ً آخر كونته عناصره، التي لا يمكن عزلها عن أولى أحاسيسه بالسيطرة، بعد كفاح مرير قاوم فيه عوامل انقراضه.
أم كان الموت ـ لطفل أو لرجل في الستين ـ سببا ً لصياغة لغة ما للحد من الصدمات ـ من صدمة الولادة إلى الموت ـ خارج متطلبات الآخرين، أم كان محض أداء محاكاتي لإشباع غريزة التملك، والهيمنة، ولفت النظر، وتدوينها ـ توثيقها ـ وحفظها ـ كما يحتفظ الذكر بالأنثى أو العكس لإدامة كل ما لا يمكن إلا رؤيته يتسرب وينحل، ويغادر، أم أن أقدم الدوافع، كأكثرها حداثة، ستبقى تحت مناطقها المخبأة بعناية، ولا تعمل إلا عبر قوانين الظاهر: حدود الحواس، وانشغالات الدماغ، ضمن الجماعة ، والكل الذي لا أجزاء فائضة في وجوده؟
[6] المدفن ـ ونقيضه
الختم، أو بالمعنى ذاته: الفن، ليس مدفنا ً، مع انه يؤدي دورا ً شبيها ً به، وإنما هو ترك الملغزات تعمل كعمل: الضوء، أو كعمل القلب، وكعمل يتقاطع مع الاندثار. ففي هذا السياق تبزغ فكرة أن (الملكية) تصنع من يغذي تراكماتها! ألا تبدو الرأسمالية ، أي تراكمات الجهد وصولا ً إلى ما بعدها، ولدت قبل أن يولد الرأسمالي الأول: صاحب الغابة أو صاحبتها/ المهمين أو المهيمنة/ الماكر أو الماكرة/ الرائي أو الرائية/ الجبار أو الجبارة/ المنقذ أو المنقذة ...الخ بصفته صاغ ثنائية: الصياد ـ الطريدة، وشيّد نظام من في المقدمة؟ أم هناك ـ على الضد ـ يوتيبيا تنزع نحو العدل؟
ذلك الصانع، وهو يترك أصابعه، كما افعل ـ تعمل كعمل الإلكترون بنظام لم تضبط وثباته، لكنه ـ يعمل ـ بعد ظهور نظرية الذرة ـ إلى عالم تكونه لا مرئياته.. راح يتراكم، بالمعني وبالرموز، من الصوت إلى الكتابة، وبالإشارات، وتنوعها، خلجاته، فوق الصخرة، أو فوق العظم، أو فوق سطوح الفخاريات. كان يمارس الدفن ـ بلا وعي منه تماما ً ـ ولا يتقاطع مع رغباته وضرورياته. فالقلق، كالثقة بالنفس، كلاهما يجتمعان في (الختم). فهو قبر تحت السيطرة. قبر بالجوار، بل هو يقع في مركز الذات ـ وفي إطار المجموعات البكر. يحفر الأشكال المستمدة من الغيوم، ومن الشهب، ومن لمعان أنياب الكائنات المفترسة، ومن خفايا الجسد، ومن ومضات رذاذ الماء، والأطياف، ومن شرر حدقات مخلوقات الليل، وما يخفيه الظلام .. انه يدوّنها، يجمعها، ويدفنها. فهو لن يتركها خارج سيطرته. لأن القبر ـ هنا ـ يؤدي دور القاصة، وكالرحم، كلاهما مأوى للمغادرة. وربما خطر بباله ان لغز عمل الرحم، كأقدم ماكنة للإنتاج، شبيهة بعملية الدفن. فما لن يدفن لن ينبعث. وربما خطر بباله ـ بعد أن بلغ حجم دماغه حجم دماغ اينشتاين ـ أن الموت ليس نهاية. بل دربا ً آخر للحياة. وربما حدس أو تعلم بالتجربة في ذلك الزمن السحيق أن البذور، إن لم يدفنها في الأرض، ويخفيها، لن تتكاثر، ولن يتضاعف عددها، الأمر الذي مهد له مشروع حفظ الجسد (التحنيط)، كي تعود إليه الروح أو النفس، أو أن يجد فردوسا ً في الأعالي. وربما أجرى مقارنة بين عمل الرحم ـ وعمل الأرض ـ فأدرك أن لم يخف البذرة في مكان آمن، لن تحافظ الحياة على ديمومتها ...؟
فهل كنت ـ بسبب هذا اللا وعي ـ وليس بسبب الإرادة العمياء التي تحدث عنها شوبنهور، أحاول تلمس طريقي وأنا لا استطيع مغادرة حياة داخل سرداب ـ كما قال منعم فرات ـ إنما بسرداب خال ٍ من السلالم؟ أم ـ مع استحالة دحض مثاله ـ كنت أجد في (الختم) حماية رمزية أتوارى داخلها لأداء دوري في كلية الدورة، أم، في سياق آخر، لتفكيك الموت، وإعادة دراسته كأجزاء خاصة به، وليس كضد أو نقيضا ً للحياة، أي الموت، لان الأخير حركة سالبة، أو كدفاع غير ايجابي، في مواجهة حياة لا تساوي ـ عند الحكيم ـ أكثر من تركها تذهب، مثلما جاءت، كعمل مرور هذا اللا مرئي بين الليل والنهار، وبين النهار والليل، وكعمل الدورات الشبيهة بالولادة ـ الشباب ـ الهرم، والموت. أم الختم ذاته يمتلك غواية ما أخرى شبيهة بما يفوق رغبات الانجذاب الجنسي، والضرورات الأولية للبقاء، ليجعل ذاتي مكبلة بحريات قيودها، كالذي اعتقد انه كتم داخل الأسرار سره، أو كالكاتم في الكتمان كتمانه: أدرك ـ في لا وعيه السحيق ـ انه لم يتكون فائضا ً، وان وجوده ليس زائدا ً، أو كمصادفة ما، وإنما حتميا ، بلذّة توق تبقى كامنة في خفايا ألتوق، وملغزاته، وان الختم، ليس إلا علامة أبدية لفناء لا وجود له، إلا عبر تحولات الأشكال، ومرور الزمن.
[7] مسافات ـ الفن / السلعة
ما المسافة الفاصلة بين السلعة (التداول ـ الاستهلاك) في عملها النفعي المباشر، وبين اللا سلعة، إذ ْ الفجوة بينهما لن تردم بالميتافيزيقا. أو في الخلط بين الغايات والوسائل. فالأشياء لن يتم الوعي بها من غير جسور مع من يكون شريكا ً/ مجاورا ً/ نقيضا ً/ مضمرا ً معها في العلاقة (الثنائية، غالى جانب مجموعة لا تحصى من الصلات المشتركة في أبعادها وعملها)، وإلا كيف استطيع أن أدرك ما لا وجود له، وبالمقابل، هل ثمة أشياء توجد بمعزل عن سواها، كي تبقى الدورة غير تامة، أو ناقصة؟ على أن استحالة وضع مقدمة ـ لأية مقدمة ـ في البحث عن الأصول، يماثل استحالة وضع نهاية لمسافات بلا حافات، ويصعب تخيّل محوها تماما ً.صحيح أن المادة لا تستحدث ولا تخلق من العدم، وصحيح أن الوعي ـ في وجوده ألبدئي ـ هو الآخر ـ ليس مستقلا ً عن الوعي بأسبابه، فثمة علاقات متنوعة أنتجت وعيا ً ببواكير السحر، مرورا ً بالمعتقدات، ووصولا ً إلى وعي لن يجتاز مداه، في العثور على مسافات للحركة. انه ليس العجز بسبب المحدودية فحسب، بل لان الدينامية ذاتها قائمة ـ مع ـ وخارج ـ هذا الوعي في أسباب نشأته، وحضوره.
فإذا كانت السلعة، بحد ذاتها، تكتم ما لا حدود له من الملغزات (ولا احد يعرف كم في السلعة من ميتافيزيقا/ ماركس) برغم شروط الدورة ووجودها المبني على العلل، فكم ستبدو الكيانات (واللا كيانات) الكامنة فيها، أكثر استحالة على التحديد. وسنجد أنفسنا ـ بالفطرة ـ في الصفر الأول: هل لوجودنا دالة غير الوجود ذاته، وغير هذا الذي ـ تشكل عبر العلل، وصولا ً إلى ما يعجز الوعي من بلوغ لا حافاته. أما إجراء مقاربة لتفكيك (الميتافيزيقا) فلن يجتاز حدود التصورات (الصور/ اللغة/ وعمل المشفرات الأعمق)، وإلا كيف باستطاعة المحدود، أن يتجاسر ـ من غير ظهور المهيمنات والعنف ـ ويضع معايير تقيمية، وعادات، وقواعد ـ تبلغ حد المحرم ـ للذي هو خارج مدى الحواس ـ الدماغ ، والجسد بصفته سينتقل من اللا سلعة إلى التداول ـ الاستهلاك. لقد بذل عمانوئيل كانت جهدا ً استثنائيا ً بمنح (الميتافيزيقا) إمكانية أن تكون علما ً، وإعادة قراءة كتابه [مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما ً] لن تغادر السببية ، لأن أي علم، ليس علما ً إلا بما هو موجود، وليس بنقيضه أو عدمه. ذلك لأن أدواتنا، وفي مقدمتها اللغة، لن تجتاز تاريخ وجودها مع أجهزة النطق، والعوامل الأخرى. ثم أن الكلام ذاته يصعب تصور عزله عن المتكلم، أو عن الوسط ذاته. والعالم بحكم انه ـ خارج وعينا ـ ليس ساكنا ً، وليس عدما ً ـ حتى بامتداده في الوجود ـ فان مصير المعرفة لا مبرر لها أن تكون معرفة. هل وصلت الحد ونقيضه كي اختار (غاية لوسيلة) أو (وسيلة لغاية) في بلوغ الهدف الذي أواصل بحثي فيه عن هذا الذي بلغ الثابت: في التصّورات، وفي قوانينها، أم سأضطر للعثور على الهاجس ذاته الذي تلبس وعي أسلافي في تصادمهم ـ مع ـ الوجود، لأجل بناء توازنات معه؟
إن العالم الذي وجدنا أنفسنا فيه، لم يعد يسمح للبحث عن صفاء خالص، او عن جمال خارج الغائيات، ولا عن سلع ليست معدة لتداول ـ الاستهلاك. لأن الروحي، والجمالي، كلاهما يؤديان عملهما في العلاقات بين الصانع والمتلقي، فثمة وظيفة، شغل، بمعنى: ثمة موت!
وبمشاهدة ما يحدث في عالمنا وإعادة قراءته، لن يغادر الوعي ما حز فوق مجسم (ختم) بما أخفى، واحتوى، من رهافته إزاء عالم مقدماته تدوم بخاتمة ديمومة هذه المقدمات. أم ليس في عالمنا من صخب بلغ حد اللا متوقع ـ واللامعقول ـ في عمليات التدمير ـ وتكرار الأنظمة ذات الثبات: الصياد ـ الضحية/ الليل ـ النهار/ الموت ـ الميلاد ...الخ التي لن يغادرها الوعي ـ ولا الجسد ـ لا بدحضها ولا بقبولها من غير إدراك أن المنتج ـ حتى في بلوغ ذروته بالتكامل أو نحو الصفاء التام ـ لن يجتاز عجزه، مما يسمح له بالعبور، وليس بالتوغل، والحركة وليس بالصفر.
بهذا الشرود الذي كونه ثالوث (الملكية ومتراكماتها/ القسوة حد اللامبالاة/ وأقنعة اللغة وما تنتجه من أوهام) ـ إضافة إلى ما لا يمكن وضعه بجوار العلل ـ مع المحيط، مثلما مع الذات، كي تكون الأختام مساحة لرهافة لم أتمكن من نبذها، أو التخلي عنها، بصناعة سلع ـ مضادة للسلع ـ كما في المجسمات، وبناءها الرمزي.
* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).