الجمعة، 15 أبريل 2016

أختام *- عادل كامل
















أختام *

عادل كامل

 [5] التراكم ـ من الحواس إلى الختم


     كلاهما، الحواس والدماغ، لا يمكن فصلهما في التقدم، بأمل أن لا افقد الأمل، نحو مساحات غير مكتشفة. ما الحواس ...؟ إنها [1] الأصابع التي راحت تعيد تمثل العالم، وتستغرق في تأمل اشتباكاته، وومضاته، وتعيد صياغته بما يطرد ـ أو يهذب ـ أي درب يؤدي إلى انغلاقه. [2] فيما حاسة البصر لم تتكون بمعزل عن ما لا يحصى من الومضات (الضوء بصفته لغزا ً بدءا ً من الشمس إلى النار) فكلاهما لا يسهمان بوضع دفاعات معقولة ضد الخارج، بل ينشغلان برؤية البعيد، وما وراء السطح، وهو اكتشاف أبعاد (الروائح) [3] من العفن إلى عطر الورود، بالتفريق بينهما، وانتقاء ما يتكيف مع الجسد. [4] بينما عمل التذوق لن يسمح بمعرفة كم هي مذاقات الموجودات لا تحصى فحسب، بل اكتشاف ما يوازي تعقيدات عمل الدماغ. [5]  أما الأصوات فإنها لن تبرهن على عملها بمعزل عن أجهزة الاستقبال، فكلاهما غاية لوسيلة، ووسائل لغاية، كي تظهر نزعة دراسة درجات الأصوات، من الصمت إلى الدوى، لبلوغ فلسفة الإصغاء ـ والكلام (الحوار/ الجدل).
     فهل كانت ثمة أبعاد، غير العمق، بعد العرض والطول، كالزمن، وأبعاد تخص تراكيب أكثر تعقيدا ً كالإشعاعات اللا مرئية، والمديات، وتحولات الطاقة، وما سيشكل وسطا ً بين الأجزاء، وصولا ً إلى العلة المكتفية بذاتها، إلى: اللا علة، قياسا ً بمحدودية عمل الدماغ ـ وعمل أدواته.
     في مخيالي ألبدئي الشارد، وفي سنوات مبكرة جدا ً، عشتها في مناطق زاخرة بالصخور، وأخرى مع الماء، وثالثة بين الرمال، كان للخامات، مع حواسي المتوثبة، والمتوقدة، أثره في تبلور ولعي بتحليل الانجذاب إلى (الختم) ـ بمعناه الشامل ـ وصياغته بما يعيد السكينة لذات عاشت صدمة الولادة ـ الخروج من العماء إلى الأصوات والمرارات والضروريات ـ إلى: الكد، وصدمات متلاحقة لم تنفك تزداد قسوة، وتعقيدا ً، كي تتحول إلى عناد في الإمساك ـ والتمسك ـ بالأمل، كالإمساك بالمستحيلات، أو بما لا وجود له إلا في حدود زمن اندثاره، وغيابه. لماذا (أنا) أفكر كي أدرك في نهاية المطاف، أني عملت للخسران؟ ساجد الجواب الرادع: هذه هي سنة الأمور، كي تلجم في ّ الأسئلة، وكي أجد موقعي في الجماعة: في شريعة يتحكم فيها نظام لا ينتج إلا ما لا يترك شيئا ً للبقاء. ففي الغابة، لا تنتهك الطرائد وتهلك وتغدو فريسة فحسب، بل الصياد، هو الآخر، مهما صاغ هرمية سلطته، فلن يذهب ابعد من مدفنه. فلماذا علي ّ أن أغلق أدوات الحفر...؟
     في هذه اللحظة تبدو الصخور، وخامات أخرى، كالطين، والخشب...الخ ليست فائضة في وجودها بجواري، ولكنها لن تقيم علاقة معي إن لم امتد إليها، واعقد معها علاقة لن ادعها تتكامل إلا مع ذاتي بالمودة، وليس بالعدوان!
      فهل كان دافعي هو ذاته لدى الإنسان الذي وجد نفسه في العراء، في الغابات الكثيفة، تحت الأمطار، مشردا ً، محاصرا ً بالأعداء، كي يحز، ويحفر، أو يخط، أثرا ً ما لتعبير ـ وصولا ً إلى مهيمنات السحر ـ ام ان الفراغ لدي ّ، كالذي توفر عنده، سمح للحواس أن تؤدي دورا ً قادها إلى وجود أقدم: علامة مقاربة للعملة. فما بذل فيها من جهد، وما في الخامات من ندرة، باختلاف خصائصها، وما تعنيه، وما فيها من مهارة..الخ فقد تحولت إلى مأوى له، شبيه بالكنز، دماغا ً آخر كونته عناصره، التي لا يمكن عزلها عن أولى أحاسيسه بالسيطرة، بعد كفاح مرير قاوم فيه عوامل انقراضه.
     أم كان الموت ـ لطفل أو لرجل في الستين ـ سببا ً لصياغة لغة ما للحد من الصدمات ـ من صدمة الولادة إلى الموت ـ خارج متطلبات الآخرين، أم كان محض أداء محاكاتي لإشباع غريزة التملك، والهيمنة، ولفت النظر، وتدوينها ـ توثيقها ـ وحفظها ـ كما يحتفظ الذكر بالأنثى أو العكس لإدامة كل ما لا يمكن إلا رؤيته يتسرب وينحل، ويغادر، أم أن أقدم الدوافع، كأكثرها حداثة، ستبقى تحت مناطقها المخبأة بعناية، ولا تعمل إلا عبر قوانين الظاهر: حدود الحواس، وانشغالات الدماغ، ضمن الجماعة ، والكل الذي لا أجزاء فائضة في وجوده؟




[6]  المدفن ـ ونقيضه


    الختم، أو بالمعنى ذاته: الفن، ليس مدفنا ً، مع انه يؤدي دورا ً شبيها ً به، وإنما هو ترك الملغزات تعمل كعمل: الضوء، أو كعمل القلب، وكعمل يتقاطع مع الاندثار. ففي هذا السياق تبزغ فكرة أن (الملكية) تصنع من يغذي تراكماتها! ألا تبدو الرأسمالية ، أي تراكمات الجهد وصولا ً إلى ما بعدها، ولدت قبل أن يولد الرأسمالي الأول: صاحب الغابة أو صاحبتها/ المهمين أو المهيمنة/ الماكر أو الماكرة/ الرائي أو الرائية/ الجبار أو الجبارة/ المنقذ أو المنقذة ...الخ بصفته صاغ ثنائية: الصياد ـ الطريدة، وشيّد نظام من في المقدمة؟ أم هناك ـ على الضد ـ يوتيبيا تنزع نحو العدل؟
     ذلك الصانع، وهو يترك أصابعه، كما افعل ـ تعمل كعمل الإلكترون بنظام لم تضبط وثباته، لكنه ـ يعمل ـ بعد ظهور نظرية الذرة ـ إلى عالم تكونه لا مرئياته.. راح يتراكم،  بالمعني وبالرموز، من الصوت إلى الكتابة، وبالإشارات، وتنوعها، خلجاته، فوق الصخرة، أو فوق العظم، أو فوق سطوح الفخاريات. كان يمارس الدفن ـ بلا وعي منه تماما ً ـ ولا يتقاطع مع رغباته وضرورياته. فالقلق، كالثقة بالنفس، كلاهما يجتمعان في (الختم). فهو قبر تحت السيطرة. قبر بالجوار، بل هو يقع في مركز الذات ـ وفي إطار المجموعات البكر. يحفر الأشكال المستمدة من الغيوم، ومن الشهب، ومن لمعان أنياب الكائنات المفترسة، ومن خفايا الجسد، ومن ومضات رذاذ الماء، والأطياف، ومن شرر حدقات مخلوقات الليل، وما يخفيه الظلام .. انه يدوّنها، يجمعها، ويدفنها. فهو لن يتركها خارج سيطرته. لأن القبر ـ هنا ـ  يؤدي دور القاصة، وكالرحم، كلاهما مأوى للمغادرة.  وربما خطر بباله ان لغز عمل الرحم، كأقدم ماكنة للإنتاج، شبيهة بعملية الدفن. فما لن يدفن لن ينبعث. وربما خطر بباله ـ بعد أن بلغ حجم دماغه حجم دماغ اينشتاين ـ أن الموت ليس نهاية.  بل دربا ً آخر للحياة. وربما حدس أو تعلم بالتجربة في ذلك الزمن السحيق أن البذور، إن لم يدفنها في الأرض، ويخفيها، لن تتكاثر، ولن يتضاعف عددها، الأمر الذي مهد له مشروع حفظ الجسد (التحنيط)،  كي تعود إليه الروح أو النفس، أو أن يجد فردوسا ً في الأعالي. وربما أجرى مقارنة بين عمل الرحم ـ وعمل الأرض ـ فأدرك أن لم يخف البذرة في مكان آمن، لن تحافظ الحياة على ديمومتها ...؟

    فهل كنت ـ بسبب هذا اللا وعي ـ وليس بسبب الإرادة العمياء التي تحدث عنها شوبنهور، أحاول تلمس طريقي وأنا لا استطيع مغادرة حياة داخل سرداب ـ كما قال منعم فرات ـ إنما بسرداب خال ٍ من السلالم؟  أم ـ مع استحالة دحض مثاله ـ كنت أجد في (الختم) حماية رمزية أتوارى داخلها لأداء دوري في كلية الدورة، أم، في سياق آخر، لتفكيك الموت، وإعادة دراسته كأجزاء خاصة به، وليس كضد أو نقيضا ً للحياة، أي الموت، لان الأخير حركة سالبة، أو كدفاع غير ايجابي، في مواجهة حياة لا تساوي ـ عند الحكيم ـ أكثر من تركها تذهب، مثلما جاءت، كعمل مرور هذا اللا مرئي بين الليل والنهار، وبين النهار والليل، وكعمل الدورات الشبيهة بالولادة ـ الشباب ـ الهرم، والموت. أم الختم  ذاته يمتلك غواية ما أخرى شبيهة بما يفوق رغبات الانجذاب الجنسي، والضرورات الأولية للبقاء، ليجعل ذاتي مكبلة بحريات قيودها، كالذي اعتقد انه كتم داخل الأسرار سره، أو كالكاتم في الكتمان كتمانه: أدرك ـ في لا وعيه السحيق ـ انه لم يتكون فائضا ً، وان وجوده ليس زائدا ً، أو كمصادفة ما، وإنما حتميا ، بلذّة توق تبقى كامنة في خفايا ألتوق، وملغزاته، وان الختم، ليس إلا علامة أبدية لفناء لا وجود له، إلا عبر تحولات الأشكال، ومرور الزمن.







[7] مسافات ـ الفن / السلعة

    ما المسافة الفاصلة بين السلعة (التداول ـ الاستهلاك) في عملها النفعي المباشر، وبين اللا سلعة، إذ ْ الفجوة بينهما لن تردم بالميتافيزيقا. أو في الخلط بين الغايات والوسائل. فالأشياء لن يتم الوعي بها من غير جسور مع من يكون شريكا ً/ مجاورا ً/ نقيضا ً/ مضمرا ً معها في العلاقة (الثنائية، غالى جانب مجموعة لا تحصى من الصلات المشتركة في أبعادها وعملها)، وإلا كيف استطيع أن أدرك ما لا وجود له، وبالمقابل، هل ثمة أشياء توجد بمعزل عن سواها، كي تبقى الدورة غير تامة، أو ناقصة؟ على أن استحالة وضع مقدمة ـ لأية مقدمة ـ في البحث عن الأصول، يماثل استحالة وضع نهاية لمسافات بلا حافات، ويصعب تخيّل محوها تماما ً.صحيح أن المادة لا تستحدث ولا تخلق من العدم، وصحيح أن الوعي ـ في وجوده ألبدئي ـ هو الآخر ـ ليس مستقلا ً عن الوعي بأسبابه، فثمة علاقات متنوعة أنتجت وعيا ً ببواكير السحر، مرورا ً بالمعتقدات، ووصولا ً إلى وعي لن يجتاز مداه، في العثور على مسافات للحركة. انه ليس العجز بسبب المحدودية فحسب، بل لان الدينامية ذاتها قائمة ـ مع ـ وخارج ـ هذا الوعي في أسباب نشأته، وحضوره.
     فإذا كانت السلعة، بحد ذاتها، تكتم ما لا حدود له من الملغزات (ولا احد يعرف كم في السلعة من ميتافيزيقا/ ماركس) برغم شروط الدورة ووجودها المبني على العلل، فكم ستبدو الكيانات (واللا كيانات) الكامنة فيها، أكثر استحالة على التحديد. وسنجد أنفسنا ـ بالفطرة ـ في الصفر الأول: هل لوجودنا دالة غير الوجود ذاته، وغير هذا الذي ـ تشكل عبر العلل، وصولا ً إلى ما يعجز الوعي من بلوغ لا حافاته. أما إجراء مقاربة لتفكيك (الميتافيزيقا) فلن يجتاز حدود التصورات (الصور/ اللغة/ وعمل المشفرات الأعمق)، وإلا كيف باستطاعة المحدود، أن يتجاسر ـ من غير ظهور المهيمنات والعنف ـ ويضع معايير تقيمية، وعادات، وقواعد ـ تبلغ حد المحرم ـ للذي هو خارج مدى الحواس ـ الدماغ ، والجسد بصفته سينتقل من اللا سلعة إلى التداول ـ الاستهلاك. لقد بذل عمانوئيل كانت جهدا ً استثنائيا ً بمنح (الميتافيزيقا) إمكانية أن تكون علما ً، وإعادة قراءة كتابه [مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما ً] لن تغادر السببية ، لأن أي علم، ليس علما ً إلا بما هو موجود، وليس بنقيضه أو عدمه. ذلك لأن أدواتنا، وفي مقدمتها اللغة، لن تجتاز تاريخ وجودها مع أجهزة النطق، والعوامل الأخرى. ثم أن الكلام ذاته يصعب تصور عزله عن المتكلم، أو عن الوسط ذاته. والعالم بحكم انه ـ خارج وعينا ـ ليس ساكنا ً، وليس عدما ً ـ حتى بامتداده في الوجود ـ فان مصير المعرفة لا مبرر لها أن تكون معرفة. هل وصلت الحد ونقيضه كي اختار (غاية لوسيلة) أو (وسيلة لغاية) في بلوغ الهدف الذي أواصل بحثي فيه عن هذا الذي بلغ الثابت: في التصّورات، وفي قوانينها، أم سأضطر للعثور على الهاجس ذاته الذي تلبس وعي أسلافي في تصادمهم ـ مع ـ الوجود، لأجل بناء توازنات معه؟
     إن العالم الذي وجدنا أنفسنا فيه، لم يعد يسمح للبحث عن صفاء خالص، او عن جمال خارج الغائيات، ولا عن سلع ليست معدة لتداول ـ الاستهلاك. لأن الروحي، والجمالي، كلاهما يؤديان عملهما في العلاقات بين الصانع والمتلقي، فثمة وظيفة، شغل، بمعنى: ثمة موت!
     وبمشاهدة ما يحدث في عالمنا وإعادة قراءته، لن يغادر الوعي ما حز فوق مجسم (ختم) بما أخفى، واحتوى، من رهافته إزاء عالم مقدماته تدوم بخاتمة ديمومة هذه المقدمات. أم ليس في عالمنا من صخب بلغ حد اللا متوقع ـ واللامعقول ـ في عمليات التدمير ـ وتكرار الأنظمة ذات الثبات: الصياد ـ الضحية/ الليل ـ النهار/ الموت ـ الميلاد ...الخ التي لن يغادرها الوعي ـ ولا الجسد ـ لا بدحضها ولا بقبولها من غير إدراك أن المنتج ـ حتى في بلوغ ذروته بالتكامل أو نحو الصفاء التام ـ لن يجتاز عجزه، مما يسمح له بالعبور، وليس بالتوغل، والحركة وليس بالصفر.
     بهذا الشرود الذي كونه ثالوث (الملكية ومتراكماتها/ القسوة حد اللامبالاة/ وأقنعة اللغة وما تنتجه من أوهام) ـ إضافة إلى ما لا يمكن وضعه بجوار العلل ـ مع المحيط، مثلما  مع الذات، كي تكون الأختام مساحة لرهافة لم أتمكن من نبذها، أو التخلي عنها، بصناعة سلع ـ مضادة للسلع ـ كما في المجسمات، وبناءها الرمزي.
* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).

ماذا تعني «الصرخة»؟ قصة أشهر لوحة بعد الموناليزا-*مريم عادل



ماذا تعني «الصرخة»؟ قصة أشهر لوحة بعد الموناليزا
*مريم عادل


لا رسم بعد اليوم لنساءٍ جالسات يحكن ورجال منهمكين في القراءة، أريد أن أعرض أناسًا يتنفَّسون ويحسُّون ويحبُّون ويتألمون، أود أن أعيد إلى الناظر الشعور بالعنصر المقدس في هذه الأشياء، فيرفع قبعته احتراما كما يفعل في الكنيسة *إدفارد مونش.

لماذا أصبح بورتريه الذعر الوجودي الذي رسمه إدفارد مونش ثاني أشهر لوحة في تاريخ الفن؟

يقول شاكر عبدالحميد في كتابه الفن والغرابة: «من بين كل الفنانين الذين عبروا عن معاناتهم بالصراخ كان «إدفارد مونش» 1863-1944 الذي أنتج صورة واحدة شهيرة اخترقت الطبيعة كلها، ونفذت إلى قلبها من خلال صرخة مفاجئة تتردد أصداؤها في الأفق ولا يمكن مقاومة الإحساس بالفزع واليأس الذي تحمله، حيث يسهم كل عنصر في التكوين في خلق الحالة الانفعالية».

لوحة الصرخة الشهيرة لإدفارد مونش التي رسمها عام 1893، قد وُجِّهت لتصوير ذلك الألم الخاص بالحياة الحديثة، وقد أصبحت أيقونة دالة على العُصاب والخوف الإنسانيّ. في اللوحة الأصلية تخلق السماء الحمراء شعورًا كليًّا بالقلق والخوف وتكون الشخصية المحورية فيها أشبه بالتجسيد الشبحيّ للقلق.

في ظهر لوحته كتب مونش بعض أبيات الشعر، التي ذكرها في يومياته واصفا ما حدث له: كنتُ أسيرُ في الطريق مع صديقين لي ثم غربت الشمس، فشعرت بمسحة من الكآبة. ثم فجأة أصبحت السماء حمراء بلون الدم. فتوقَّفت وانحنيتُ على سياجٍ بجانبِ الطريق وقد غلبنى إرهاقٌ لا يوصف، ثم نظرتُ إلى السُّحب الملتهبة المعلقة مثل دمٍ وسيفٍ فوق جُرفِ البَحرِ الأزرق المائل إلى السواد في المدينة. لقد استمر صديقاي في سيرهما، لكنَّنى توقَّفت هناك أرتعشُ من الخوف، ثم سمعتُ صرخةً عاليةً أخذ صداها يتردد في الطبيعة بلا نهاية!

في أحضانِ أبٍ يُهدِّدُ بالجحيم

كانت ملائكة الخوف والندم والموت تحفّ بي منذ أن ولدت، ولم تكفّ عن مطاردتي طوال حياتي. كانت تقف إلى جانبي عندما أغلق عيني وتهدّدني بالموت والجحيم وباللعنة الأبدية. *إدفارد مونش
ماتت والدة مونش بالسلّ وهو في الخامسة من عمره، وتركت لهم رسالة وداع أخيرة تقول فيها:

الآن يا أطفالي الأعزاء، ياصغاري يا حلوين، أقول لكم وداعا، سيكون بوسع والدكم إخباركم عن كيفية الوصول إلى الفردوس أفضل مني، سأكون في انتظاركم جميعا هناك.

لكن والده الطبيب العسكريّ، الذي كان عليه أن يخبر ولده الصغير كيف يذهب للفردوس حيث والدته، أحاطه بدلًا من ذلك بتربيةٍ دينيةٍ تقوم على أساس مزاجٍ مُتعصِّبٍ وحاد وقلق دينى طهراني (بيورتاني) مع تهديدٍ مستمرٍّ بالعقابِ بالجحيم، الذي كان يُحلِّق فوق رأسه دائما من جانب ذلك الوالد. وعندما انضم مونش للمجموعة البوهيمية في أوسلو التي تتكون من الفنانين والكتاب والطلاب الذين رفضوا حياة المجتمع البرجوازيّ، وكانت تلك الأفكار غريبة جدا عن المجتمع أنذاك، جعلت والده يسخط عليه أشد السخط.

لم يتزوج إدفارد مونش، ولم يستطع أن يحرِّر نفسه من قرن الحب والجنس بالمرض والموت. فالعلاقات السويَّة -في رأيه- بين الرجل والمرأة مستحيلة لأن كلا منهما يحاول السيطرة على الآخر. وكان يشعر أن لوحاته بمثابة أطفاله، لا يحب الانفصال عنها، عاش خلال الـ 27 سنة الأخيرة من حياته في وحدة وعزلة تزداد وتتوحش.

وصف الناقد التشكيلي سالدي 1915 مونش بأنه «مُبدِّد الأحلام»، الرسام المحاصر بالفزع الذي تطلقه كل أشكال المعاناة في الحياة كما تصوره ألوانه الموحية، الرجل الذي يُهيمنُ عليه شحوبُ الرعب والانقباض. في عالمه حضورٌ خاص للبدائية الخشنة والموت المتسلل خلسة والعالم القديم والعالم الجديد، حيث تسيل دماء موضوعاته وتصرخ بصوتٍ عال معبرة عن معاناة وجودها الخاص وغموضه.
وعلى الرغم أن مونش كان ممسوسًا بفنه، فإنه ليس مجرد مصور ذي طاقة إبداعية ورؤية تصويرية نقية وبسيطة وإحساس بالقيم، لكنه أيضا فنان ذو استبصار ينم عن فهم مأساوي واكتئابي آسر يخلب الألباب.

كان حزينا لأن الألوان لم تكن كافيه لإيصال ما يشعر به إلى العالم، ناضل من أجل أشياء مستحيله وكنت أرى في يأسه إيمانا من نوع خاص *كريستيان سكريدسفيغ

القلق الوجوديّ

كان سلوكي دائما على شفا هاوية، ولم تكن حياتي إلا محاولة للبقاء واقفا *إدفارد مونش
تعبر لوحة الصرخة عن ذلك القلق الشخصي الذي عاناه إدفارد مونش في حياته، ثم جسده في فنه، في اللوحة يتحول الإيقاع المنحني المتقوس الذي يصرخ إلى رمز وجودي يمتزج بنفسه مع الإيقاعات الخاصة بالطبيعة، وهذه الطبيعة التى من خلال إيقاعات سماوية حمراء وبحرية زرقاء وسوداء، تبدو وكأنها جميعها، تصرخ معًا، ومعها مونش صرخة مرعبة، وكأم مونش أيضا يصرخ ولا يصرخ، فالطبيعة تصرخ بعنف وكآبة، يصرخ ولا يصرخ وكأن صرخاته داخلية، تنم عن المعاناة والقلق والألم الشديد، وكأنها تخرج من جسده كله، من وجوده كله، فتتردد أصداؤها في ذلك الوجود الكبير المحيط به، وكأنه هو أيضا وحده الذي يعاني، بينما يمشي أصدقاؤه في هدوء في اللوحة، خلفه غير مكترثين، وفي مذكراته كما قال، تركاه في وضعه المرعب ذلك، وسبقاه، تركاه وراءهما ومضيا.

يقول ديفيد ولكنز: من خلال صرخته، وهي صرخة طويلة ممتدة، أصبح مونش، وحده أمام الطبيعة، وأدرك أسوأ كوابيسه ومخاوفه من الأماكن الواسعة الهائلة الممتدة. لقد أصبح في مواجهة الجليل بالمعنى الذي أشار إليه بيرك وكانط.

مع صراخه يتشوَّه وجهه حتى يصبح شبيها بالجمجمة بكل دلالتها التصويرية والرمزية الخاصة بالموت والتى لا يظهر خلالها جنس الإنسان إذا كان امرأة أو رجلًا، فهذا القلق الهائل لا يفرق بينهم. سجَّل مونش صرخته في ذاكرته وجسَّدها في لوحته وجسد نفسه معها وهو يصرخ صرخته هذه التى خلد من خلالها رعب الطبيعة من الغياب وفزع الإنسان من الموت.

الصَّرخة.. موناليزا العصر الحديث

قد ترجع شهرة الصرخة لسهولة فهمها ووضوحها للجميع، خصوصا الذين لا يتمتعون بثقافة فنية خاصة، فبمجرد رؤيتها يكون من الصعب نسيانها. واعتبر النقاد الصرخة أيقونة العصر الحديث كما كانت الموناليزا هي أيقونة عصر النهضة. سجّلت الصرخة نقطة تحوُّل هامة في القرن العشرين، لقد قطع الإنسان كل صلاته بما كان يمنحه الارتياح في القرن التاسع عشر؛ أما الآن، فلا يوجد إله، لا يوجد تقاليد ولا عادات، ولا أعراف ولا ثوابت، فقط إنسان مسكين في لحظة أزمةٍ وجوديَّةٍ مهولة يواجه وحده الكون الذي لا يفهمه ولا يستطيع التواصل معه سوى بالذعر.

المثير بشأن اللوحة ليست الطريقة التي أثرت بها في الفن الحديث لاحقًا، ولكن كيف توغّلت اللوحة في الثقافة الشعبية، وأصبحت أكثر شهرةً من مونش نفسه، الكثير من الناس لا يعرفون مونش ولكن يعرفون الصرخة. جدير بالذكر أن العنوان الأول الذي أطلقه مونش على هذه اللوحة لم يكن هو “الصرخة” بل “يأس” أو “قنوط” despair.

أصبحت الصرخة أيقونة أعيد نسخها وإنتاجها في بطاقات البريد والملصقات الإعلانية وبطاقات أعياد الميلاد وسلاسل المفاتيح وأصبحت إطارا لسلسلة من الأفلام السينمائية ظهرت عام 1996 وما بعده بعنوان الصرخة أيضا. وأعاد أندي وارول رسمها مرات عديدة أخرى على طريقته عام 1984.

يوجد من اللوحة 4 نسخ مختلفة بيعت نسخة 1895 في مزادٍ علنيّ خلال أول ربع ساعة من عرضها بـ 120 مليون دولار أمريكي، وتعرضت اللوحة للسرقة من متحف مدينة أوسلو بالنرويج خلال شهر أغسطس 2004 على الرغم من وجود كاميرات تصوير متعددة ضد السرقة داخل المتحف وخارجه وأعيدت في 2006. وكانت قد سرقت من قبل أيضا سنة 1994 من متحف مونش بأوسلو وأعيدت في مايو من نفس العام.

مونش مع نيتشه ودوستويفسكي وكيركيغارد!

لم يظهر من الرسّامين بعد من استطاع النفاذ إلى العوالم الموسيقية للروح والميتافيزيقيا واللاوعي بمثل ما فعل دستويفسكي في الرواية * إدفارد مونش

يقول آلان باونيس في كتابه الفن الأوربي الحديث: كان مونش صديقا للكاتب المسرحي ستريندبيرغ الذي شاركه آراؤه عن العلاقة الجنسية. وكانت واضحة أيضا آثار صلته بسورين كيركيجارد، الفيلسوف الديني الدنماركي، وبدوستويفسكي الذي غيرت رواياته العظيمة الإحساس الأوربي في نهاية القرن التاسع عشر. وتأثر مونش كثيرا بقراءته فلسفة نيتشه، كما كان مزاجه يميل كثيرًا إلى الاكتئاب. وربط البعض مُفسِّرًا حالة الرعب في اللوحة أفكار مونش بأفكار نيتشه عن موت الإله وأفكار شوبنهاور عن الخوف، وأن اللوحة مُجرَّد تحدٍّ لشوبنهاور الذي قال بأن الفن الانطباعي لا يمكن أن يرسم الصرخة.

تقول رضوى عاشور عن لوحة الصرخة في سيرتها الذاتية التي تحمل نفس الاسم:

لأنّ الصرخة لوحة شهيرة فقد حظيت بكتابات كثيرة تصفها وتقرؤها وتصنف موقعها من تاريخ الفن الأوروبي الحديث، ومقدمات الحركة التعبيرية في نهاية القرن التاسع عشر، وتبحث في تفاصيلها وتربط أحيانا بين التجربة التي تنقلها وحياة مبدعها، بل وتسعى إلى تحديد موقعه الجغرافي اللحظة التي أشار إليها في يومياته، أين كان يقف وإلى أي اتجاه كان ينظر حين داهمه الخوف الشديد.. بل وذهب البعض إلى أن هذا المكان كان قريبا من مسلخ المدينة، وقد يكون الصوت جئير الحيوانات ساعة الذبح، وأنه -أعني الموقع- كان بالقرب من مصحة للأمراض العقلية، تعالج فيها أخت مونش. وربط هذا البعض بين الصرخة وأصوات المرضى المثقلين بمتاعبهم النفسية والعصبية.

وبصرف النظر عن دقة هذا الكلام أو نفعه، تبقى اللوحة على طريقة الفن، تتجاوز هذا الظرف الشخصي لتجسد تجربة دالة لشخص مفرد ينتبه فجأة إلى رهبة الوجود ووحشته وتوحُّشُه فيرتجف هلعًا وهو يلتقط صرخة أو يردِّدها.
________
*ساسة بوست

الأحد، 10 أبريل 2016

خمس نصائح لقراءة 100 كتاب في العام

خمس نصائح لقراءة 100 كتاب في العام: إذا أردت أن تصبح من رواد الأعمال الناجحين، عليك أن تزيد من عدد وقيمة الكتب التي تقرأها. إننا نسمع كيف كان بيل جيتس، وبين كارسون يجلسان في منزليهما ويقرآن كميات هائلة من الكتب. كما أن عادة القراءة ليست من العادات السهل تطويرها، ولكنها من العادات التي تساعدك على تطوير نفسك في أعمالك الهامة. عندما بدأت في القراءة وأنا في الحادية والعشرين من عمري، كنت

السبت، 9 أبريل 2016

أختام * - عادل كامل



















أختام *


عادل كامل
[1] لغز الخامة

    تستدرج الخامة ـ إن كانت بكرا ً أو مركبة ـ موضوعها، في الغالب، قبل أن ينشغل وعي (الصانع/ الحرفي/ الفنان) بانتقاء موضوعه.  على أن هذا لا يعني أن الخامة (بمجموع عناصرها الطبيعية/ أو المصنعة/ والمستحدثة) تفكر!، أو لديها قدرة القرار، الاختيار، والحسم، إنما ستمتلك جسرا ً لا مرئيا ً مع لا وعي الفنان السحيق، أو الآني، المباشر، في تحويل (الفكرة) إلى علامات مشتركة بينها، وبين صانعها. فالخامة تجد مأواها في ما سينشده الصانع/ الفنان، بل تجدها تحرر زمنها، كي تقع اسر زمن آخر. ولعل دراسة أقدم الخامات المستحدثة، في الأعمال الشبيهة بالفن، من خرز، وأساور، وقلائد، وتماثيل، ومجسمات خالية من التشخيص، تحكي العلاقة التي تحول الخامة من وضعها البكر ـ الزاخر بما لا يحصى من تأثيرات العوامل الخارجية/ الزمنية/ والإنسانية ـ إلى وضع تغيب أو تدفن فيه حريتها ـ كما غابت أو دفنت سابقا ً ـ في الهيئات الجديدة، وفي الوقت نفسه، شخصية الصانع، ولا وعيه، وختمه في الأخير.
     فالحزوز التي وضعها إنسان البرية/ المغارات، فوق العظام والصخور، لا يمكن تكرارها، أو استنساخها، مرة ثانية، إلا لوظائف مغايرة. فالحزوز الشبيهة بشخابيط طفل لم يبلغ سن الثانية بعد، تحكي، لا وعيه تماما ً، وهو وعيه الآخذ بمغادرة مخبأه ومناطقه الدفينة، النائية. فهي قد تبدو عشوائية، أو لا علاقة لها بما يخص وعيه، ولكنها، في سياقها ـ ومن منظورنا بعد زمن طويل ـ تحكي كم أسهم الأثر (العظم/الصخرة/ الخشبة)في ذلك الضرب من التعبير: حزوز شبيهة بالحروف، والأرقام، بما تمثله ـ في وجودها ـ من انتقالها من مادتها البكر، إلى علامة للتداول.
     والحزوز الغائرة، المبعثرة، أو المنتظمة، فوق الصخور، لا تحكي ما نفذ فوق الخشب، أو الجلد، أو حتى خامات المعادن البكر، ففي كل خامة خصائصها الدالة عليها، أولا ً، والدال على عصرها، ثانيا ً، وعلى صانعها، ثالثا ً، وعلى ما تخفيه رابعا ً، وعلى ما هو مشترك بين دماغ الصانع، وعناصرها الدفينة، أخيرا ً.
     فهل كانت تلك العلامات الدالة على المكان، والعصر، وعلى البيئة والإنسان (الايكولوجيا الشمولية)، وعلى بواكير الإحساس بالزمن، والفقدان، وتكون المخيال، والذاكرة، توثق بواكير الرهافة بما كانت تمثله من حيازة وتملك، فهي، في هذا السياق، ستصبح أول توقيع أبدعته الأصابع ـ في الانتقال من العشوائية إلى نظام الأثر ومكوناته البنيوية ـ وهي أول تدشين لمعالم مسار (طريق/ درب) سينتهي بموت الفن ـ وموت الإنسان بتحوله إلى مجموعة عناصر/ أشياء ـ لصياغة يصعب تحديد ما اذا كانت ستستعين بموضوعات غير التي جعلتها تنتمي إلى عصر الطين، مثلا ً، كي تجد انجذابها ـ كما وجدناه ـ مع بيئتنا، وعصرنا، أم أنها لم تكن ـ بتزامنها المتداخل/ المركب/ والمنصهر ـ إلا حلقة في مسار، بلا مقدمات، وأخيرا ً بلا خاتمة.
 



[2] العلامات ـ والمشفر
     ما الذي يستدل عليه عالم الآثار، أو المشتغل بالمخلفات، والمتخصص بفك المشفرات، خاصة التي تتضمن ازدواجيات بين دراسة المقاصد المباشرة، وبين ما فيها من غايات غير مباشرة، وهو يدرس حزوزا ً فوق عظم لحيوان قتل ـ أو مات ـ قبل مليون سنة، وما الذي باستطاعته أن يعلنه عن فك خطوط ـ ليست منتظمة في أشكالها الخارجية ـ حزت فوق صخرة، أو حفرت فوق خشبة قاومت عوامل الزوال لقرون طويلة، أكثر من الاشتغال ذاته الذي ميز عددا ً من علماء وفناني، شعراء ومتخصصين في الإنسانيات المعاصرة: ذلك الحفر في فك الظواهر، والبحث عن محركاتها النائية، في نظام الإشارات ـ ومن ثم في العلامات بصفتها دالة بما تريد التعبير عنه.
     لن استبعد تماما ً نسق الدوافع غير الواعية، والأخرى، المتصلة بالحركة الكلية لمجموع الأجزاء ـ مهما اتسعت أو تحولت إلى مصغرات لا مرئية ـ في فهم سياق: اللا متوقع ـ واللا قصدي، وهو مغاير للعبثي، أو لمفهوم العشوائية. فالا متوقع يمثل ـ في حالة دراسة أقدم العينات الشبيهة بالأختام، والشبيهة بالفن ـ متوقعا ً ضروريا ً لاستكمال ذاتيته الموضوعية، وهي موضوعيته، أخيرا ً، في هذه الذاتية.
     ربما ـ بدراسة خطوط مشوشة، مكررة، متعاكسة، مائلة، متقطعة ـ يستدل الباحث قدرة عمل الدماغ في مغادرة مركزه، حيث المسافات، ما بين الأشياء، ستغدو امتدادا ً لأقدم مفهوم كون نزعة الانحياز ـ والتملك ـ والثروة البدائية.  صحيح أن الجهد المبذول وحده لن يعرف (الرأسمال) ألبدئي، أو المبكر، بما حقق، ولكنه سيفصح ـ في هذا الاحتمال ـ عن أقدم نزعة للتراكم بما فيها من قصدية ـ ولا قصدية معا ً.  فالحزوز، والرسومات، والمجسمات، والبصمات التي تركها إنسان الكهف فوق الجدران، ليست علامة دالة لعمل سحري فحسب، بل انها ـ بالدرجة نفسها ـ دالة على صانعها. فالصانع  لم يوثق حدود ذلك الزمن السحيق،  ولا تجمعاته، وتبلور نظام العثور على تجاوز العشوائية فحسب، بل اللا قصدية كممارسة خاصة بالختم ـ: الهوية/ التوقيع، بما يتضمنه من (أنا) بين المكونات الأخرى. فالأنا وجدت في وجود كونه الصراع ـ التنازع ـ والترقب. ولعل التوقيع ـ المنجز ضمن اللا قصد ـ لم يعلن عن قصديته الخاصة بالأنا فحسب، بل لتكامل رسم شبكة الاتصال الكلية للأجزاء كافة.
    ان عالمنا ـ وفنانا ـ المعاصرين، وهما يعيدان قراءة ما لم يدوّن، لأجل التدوين المعرفي، يعلن عن امتداد اللا متوقع في ديمومته الراهنة. فالمعنى لم يعد محدودا ًبالنفع، أو بجماليته، بل ببناء أنظمة لا تحذف منها عمليات التصادم، والنفي، والإضافات في الأخير.
   أتراني كنت أتقمص ومضات باثات قلب ذلك الفتى، وهو يحز، فوق الصخرة، ويحفر فوق الطين، نداءات ذهبت ابعد من الصوت، وابعد من قانون الاندثار، والموت.
  ان مفهوم المشفر ـ العلامة لنظام لم تفك أسرار عمله ـ سيبقى يشفر نظامه باليات تجرجر، حقبة بعد حقبة، (المشتغل) نحو ديمومة طرفي المعادلة: الموت ـ انبعاث. فأنا قد لا اعتقد أني سأرجع إلى العناصر التي كونت جسدي، بالبديهية الواقعية ـ من غير قصد أو بقصد ـ اللا متوقع ان يدفع بأصابعي للحفر فوق خامات شبيهة بالعظام، وبالصخور، كي تمسك بمحركات العلامات المشفرة ذاتها. انه ضرب الدخول في مساحات تحاول الحفاظ على ما فيها من بدائيات ـ وخصائص لا مشاعيه تماما ً. فألانا البكر ـ إن كانت جمعية، كما هي أنا النحلة أو النملة أو الجرثومة ـ أو كانت تعمل نحو عزلتها، ليس باستطاعتها مغادرة قوانين دوافعها المجاورة ـ أو البعيدة ـ عن مقاصد الأنا الجمعية، أو الفردية الخالصة. فالعلامات الشبيهة بالختم ـ التوقيع وصولا ً إلى خصائص الهوية وتميزها عبر أسسها البدائية في التعبير ـ تكون دافعا ً لغواية المغامرة، ومغادرة الانغلاق نحو حافات ترسم حدود الأنا ـ وهي علامات الختم ـ بمشفراته، القابلة للإفصاح عن المعنى، والأخرى، التي جرجرتنا إلى محاولات فك ما فيها من غائيات ـ لا غائية ـ متجاوزة حدود المعلن، نحو دراسة شبكة المقدمات بنهايتها، وهي شبكة النهايات بجذور مقدماتها.

[3] النائي ـ انشغالات مبكرة



     سأنشغل ـ بدل قلب المعادلة إلى نفع ـ بما لا يمكن الإمساك به. ليس هو الماضي، وتراكماته على صعيد المخلفات، وليس هو تقبل صدمات الحاضر، وليس هو الغد، إن كان بديلا ً عما أراه يأخذ طريقه إلى الاندثار فحسب، بل كيف تتجمع التصّورات في كيان لن يهدر لغز ما أنا عليه/ وفيه.
     ففي كل لحظة اكتمال، وتدهور، تنبثق تأملات لا معنى لسترها بالتصورات، ولا معنى للحفاظ عليها بعيدا ً عن الهدم أيضا ً. ففي هذه الفجوة ـ لبن ماض ٍ يصعب على الوعي أن يضع له مقدمات/ وإزاء غد ٍ خارج حدود الحافات، تتكون رهافة شبيهة بالتي أنتجت آلاف الدمى، والأختام، رهافة قائمة على إيمان مزعزع، وشك لن يساوي بين العدم والوجود، لأنها ـ رهافة ـ تحول الصانع إلى علامة خارج ثوابتها. لان (الصانع) هنا وجها لوجه ـ أمام مرآة لا يرى فيها الا غيابه. ان الآخرين لن يلتفتوا الى هذا الأثر ـ المصّنع ـ بقدر ما سيرى هو نفسه بثقة ما عبر أثره. لكن (أنا) الصانع لن تكف عن مقاومة وضعها في فراغ مقيد. ولنأخذ مثال النمل أو النحل أو الطيور، فإنها صاغت مصيرها بنظامها الجمعي واكتفت بالمضي من غير وثبات. وحتى انقراضها ـ كانقراض آلاف أو ملاين الأنواع لم يعد مثيرا ً للأسى أو القلق ـ لأنها عملت ـ وتعمل ـ بمرآة كبرى خالية من التصدعات. إنها مرآة كلية، كالتي تجعل مشهد الملاين تهرول في مارثون محكوم بلعبة الجوائز. لكن صانع العلامات لن يركن إلى نموذجه إلا بصفته عملا ً مغايرا ً لعمل النحل، فاعقد الأعشاش، وكاتدرائيات النمل، والمعمار الهندسي الصارم البناء عند النحل، لا تساوي ـ ولن تقارن ـ بعمل لا متوقع ـ يبلغ حد اللا معقول وربما الفائض عن الحاجة المباشرة ـ تنجزه الأصابع. فليس لدى تلك الكتل الجمعية ما سيسمى بالعمل، لأنها لا تمتلك (أنا) شاردة أو خارج على سياق الدافع الجمعي.
     هل حقا ً باستطاعتنا اكتشاف ذلك بمقارنة حزوز فوق عظم، بخلية نحل مذهلة البناء، دون أن نتقدم خطوة أخرى في تفكيك مفاهيم لغوية ـ فلسفية أو ذات جذر سحري ـ كالعدم، وكالوجود، من غير أن نزعزع الرأي الجمعي، ونحدث شخطا ً مائلا ً أو معوجا ً في مرآة الجماعة؟ نعم ـ لان ذاتية فنان مثل جايكوماتي، أو هنري روسو، أو فان كوخ ـ وكل منهم مغاير للآخر في التفكير وفي الأسلوب ـ ستعمل بنهج مغاير لقطيع يهرول باتجاه الماء، أو بالهرب من لهب بركان! ذلك لان ذاتية الفنان لا تكمن في نموه العقلي فحسب، بل في رهافة يصعب تقييدها بنظام المرآة الواحدة. هذا الفارق يجعل من كل شخط، وكل حز، وكل خرزة، وكل مجسم، وكل إشارة ..الخ علامة مغايرة لتكنولوجيا الدافع الجمعي. لا لأنها تعمل في الذروة فحسب، بل لأنها تتضمن سفرا ً إلى ماضيها، مثلما هي مشبعة بدوافع الهجرة إلى غد ٍ من غير نهايات. هذا الفارق يجعل الختم ـ الإشارة في تحولها إلى علامة/ والعشوائية بما فيها من مهارات البنّاء ـ نموذجا ً مغايرا ً يصعب استنساخه، بل وحتى شرحه. فالماضي السحري في فكر الصانع ـ وليس في آليات الحرفي ـ ليس دائريا ً، وليس له تمهيدات، فهو يلتقي بما هو آت ٍ، عندما لا يخضع الأخير إلى خاتمة. فكلاهما يجتمعان في دحض الثابت، بمعنى: في تدمير المعنى، عبر الثنائية، والجدل، خارج سياق النظام الجرثومي/ ألنملي/ النحلي، والبشري في الأخير!


[4] الامتداد ـ من اللا نافع إلى اللغز

     فهل غير النافع ـ الذي تكّون في عصوره السحيقة ـ كتم وظيفة ما خالصة ـ تخص عمل الأصابع اللا متخصص ـ أم ذات صلة بتكّون المركز ـ الدماغ، أم أن (التغيير) في جذره، وفي نشأته، وساطة (علاقة) تكاملية بين ذات الصانع والبيئة (الايكولوجيا الشاملة)، كضرورة أدت عمل ألتوق، وغواية لا تخلو من مغامرة التوغل بعيدا ً عن الذات، وبعيدا ً عن انغلاقها، كي توسع من حدود سيطرتها على الأرض ـ والفضاء، وضمنا ً، لتلافي الصدمات، واحتوائها، وعدم تركها تعمل بعشوائية، أو على هواها؟  ثمة احتمال آخر يقلب التصّور، أن اللا نافع، تحديدا ً، ليس امتدادا ً، بل حماية للذات. ذلك لان خصائص الأثر (الشبيه بالختم، أو الدمية، أو الرسم، أو أية أداة لها سمات الحرز، والمجسمات، والنقوش) لم تتضمن جاذبية، بل دفاعا ً ذاتيا ًللحفاظ على مكونات الذات وعالمها الداخلي ـ المحمي ـ والمنغلق.
     على ان وجودا ً منعزلا ً ـ بمعنى الوجود محاطا ً بفجوات ـ لن يسمح أن يجد توازنه في التفرد، وفي ظهور علامات استثنائية.  ليس لاستحالة وجود عزلة فحسب، بل لان جذور اللغة ارتبطت بالحركة، بما كونتها من فعل ورد فعل. فإذا كان الجسم يظل ساكنا ً ما لم يحرك، فان الاحتمال الآخر، أي احتمال الانجذاب سيشكل دافعا ً للحركة أيضا ً. فالأثر ـ هنا ـ دال لمدلولات اجتازت الحركة نحو تراكمها. فالفعل سينتقل من المصادفة إلى التكرار، ومن التكرار إلى تشكل الهيأة: الحزوز والأشكال المنتظمة ـ الهندسية ـ بما توفره الخامات في تعاملها مع رهافة حساسية الأصابع. بمعنى ثمة علامة كونتها عواملها المشتركة: الانتقال من اللا تخصص ـ في عمل الحواس والأصابع تحديدا ً ـ إلى صياغة أشكال محددة، ومختارة، قد لا نجد معنى ما لها، في البدء، إنما ستشكل جزءا ً من عالم (تتجمع فيه الأجزاء) ـ لبلورة وجود النوع الواحد، وعناصره المتقاربة، كالثنائية في ديمومة النوع ـ بما يمثله من إعلان للوجود البيئي ـ مع ـ الذات. فهو (تزاوج) تضمن قدرا ً من الرهافة ـ والقصدية ـ مما سيشكل مقدمة لنظام البناء ـ نحو حدوده الجمالية ـ والروحية.
     وليس صعبا ً أن يجد الباحث في قراءة كل اثر ـ في المجموعة الواحدة ـ كي يجدها مختلفة بين المجموعات المتجاورة، أو المتباعدة، ومن ثم وجود قراءات تلخص اختلاف المكان/ البيئة/ والعصور.
     فهل صنع الصانع حزوزه كي يدشن ـ ويحتفل ـ بالانتقال من العشوائية/ واللا تخصص، نحو مكونات المجموعة بما تمتلك من حواس، وقدرة على العمل، وزمن استراحات أتاحت فراغاتها لردمها بالأعمال الشبيهة بالفن، والشبيهة بالسحر، أم وجود هذه العلامات سرعان ما سيشكل جزءا ً من ذاتية ذلك الذي وجد حياته تعادل ما أنجزه، وليس كعمل باقي الأنواع، مكثت تعمل خارج علاماتها المدونة، عدا آثار اضافر، ومخالب، أو ما شابه ذلك لن تقارن بدور الأصابع البشرية ـ مع وجود مجسات أرقى من مثيلاتها لدى الثدييات ـ في الانتقال من الصوت إلى الصورة، ومن العشوائية إلى ضرب من البناء المنتظم، ومن الشرود إلى التمركز، ومن التشتت إلى التمركز، ومن المتاهات إلى الوضوح، ومن الفزع والخوف إلى الطمأنينة، للإفصاح ـ على نحو غير مباشر ـ عن ممارسة عملية لبواكير التنمية، في حدود حياة قطعت شوطا ً متقدما ً عما عليه الأنواع الأخرى، كالنمل، والنحل، والطيور. إنها وثبة اقتران الدماغ برهافة ما امتلكت أدواتها: التحسس/ التذوق/ الشم/ الإصغاء، إلى جانب رهافة الأصابع الاستثنائية، ببناء علامات، مهما بدت فائضة، فإنها ـ أكثر فأكثر ـ تضمنت لغز حضورها.


* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).

الجمعة، 8 أبريل 2016

في النحت العراقي الحديث- عادل كامل









 في النحت العراقي الحديث


محمد الحسني
جذور تبتكر علاماتها المعاصرة


عادل كامل
      مع إن الرعيل الأول من رواد النحت في العراق، تلقوا دراساتهم، في أوربا(1) عندما كانت (الحداثة) الأوربية قد بلغت ذروتها، ممهدة لحقبة ما بعدها، عندما بدأ العالم يتحول إلى مجموعة: أسواق، والى قرى صغيرة، إلا أن خلاصة جهود هذا الرعيل ( فتحي صفوت/ جواد سليم/ خالد الرحال/ عبد الرحمن الكيلاني/ محمد غني حكمت/ إسماعيل فتاح/ صالح القره غولي..الخ) كان يواجه مآزق لا تخص (الهوية) الثقافية/ الفنية، أو ما يرتبط بالذاكرة ومشفراتها، متحفها، والآثار الايكولوجية المتداخلة بعمل المخفيات فحسب، بل بالمنجز النحتي بوصفه متضمنا ً نظاما ً مزدوجا ً بين الاكتشاف من ناحية التنقيب، الحفر، البحث، والابتكار والاختراع أو الاستحداث إزاء عالم دخل في حقبة ما بعد التصنيع، حيث الدلالات لم تعد تمتلك نسقها الكلاسي، التقليدي، إزاء التحديات، والمتغيرات(2)، بل في التحول الحتمي المؤكد للثقافات، والفنون المصنعة، من ناحية ثانية.(3)






    وإذا كانت كلمات الفنان محمد الحسني، في أول لقاء لي معه، عام 1970، وأنا انتقل من دراسة الفن في معهد الفنون، إلى أكاديمية الفنون الجميلة، تناقش المعضلات التي ستحافظ على ديناميتها، حتى بعد أن استحوذت انساق (الحداثة) على مساحة لم تترك للواقعيات، إلا هامشا ً ثانويا ً، فانا أتذكر أن أستاذ النحت ـ بعد الفراغ الذي تركه جواد سليم، وغياب خالد الرحال بعيدا ً عن الوطن ـ لم يكن متصلبا ً، أو أحاديا ً في  تبني تيار من التيارات، أو الانحياز إلى أسلوب بوصفه خلاصة أخيرة، بل على العكس، كان أكثر  تأملا ً للمسارات غير المرئية للتحول من الثوابت نحو هدمها، بغية منحها نزعتها الابتكارية، والمتجددة، ومدركا ً مدى تداخل المؤثرات في صياغة العلامات الفنية ـ المستحدثة.
    كان محمد الحسني قليل الكلام، يمكن مقارنته بالأستاذ فائق حسن، إلا إن كلماته ـ الشبيهة بكلمات فائق حسن وصالح القره غولي، تتوخى معناها باستبصار يستقصي مكوناتها في حداثة الفن، وفك ألغازه بتفكيك بنيات العصر ما بعد الصناعي ـ الغربي/ الأوربي ـ إزاء بلاده التي مازالت أسيرة أنظمة لم تجتز عصرها الزراعي، حتى وان غذتها باستيراد السلع الحديثة، فالصعوبة لا تكمن في المنجز الفني/ النحتي، بمعزل عن البيئات الاجتماعية/ الثقافية فحسب، بل بالعثور على علاقة تسمح للفن أن لا يكون سطحا ًـ بمعنى بنية فوقية كالأصوات، والشعارات ـ بل جزءا ً محركا ً للإسهام ببناء تصوّرات متقدمة، مقارنة بما يحدث في العالم الحديث.


    فقد كان يؤكد إن الحضارات القديمة، ومنها التي ظهرت في سومر، وأكد، وبابل، وآشور..الخ، قد اجتازت عصور الاقتصاد (البري/ البدائي) نحو: تأسيس المدن المكونة من تنوع سكاني، استنادا ً إلى وجود وثائق لغوية تحتوي على أكثر من لغة، وإنها منحت الفن ـ فن النحت تحديدا ًـ مكانة رمزية ـ روحية، ذات علاقة متكاملة مع فن المعمار، البناء، حيث الآثار تدل على مدى التقدم (المعرفي/ التقني/ الفكري) لوحدة التصوّرات، بالتطبيقات العملية. كان الأستاذ محمد الحسني يدرك ـ مع ابرز ممثلي جيله ـ صعوبة ردم الفجوات التي تعرضت لها حضارة وادي الرافدين، ليس بنهاية العصر الأشوري، بل بالانقطاع ـ شبه التام ـ عن الحضارات السابقة: البابلية: الاكدية/ والسومرية...، وهو انقطاع لم يترك للمدن إلا أن تتحول إلى شواهد ـ شواخص دالة على أزمنة بانتظار الحفر، والتنقيب، والاكتشاف...، وان مهمة ترميم (الذاكرة) ومنحها عملها المتوازن مع الحداثات، سيشكل عملية معرفية ـ تستدعي التجريب ـ لا تقوم على محاكاة علامات الماضي، للحفاظ على الشخصية، ولا تقوم على استنساخ حداثات أوربا، لمواكبة روح العصر، وبرامجه الشديدة التعقيد، فحسب، بل للإسهام بالحفاظ على الهوية بوصفها استحداثا ً لصهر المؤثرات والروافد ومنحها هويتها العامة ـ إلى جانب خصائص النحات، ودوره في المنجز الفني ـ الجمالي.(4)


    وقبل أن تتبلور سمات مجسماته، بعد عودته من الدراسة في فرنسا (البوزار)، ومشاركته عضوا ً مؤسسا ً في جماعة بغداد للفن الحديث، منذ 1951، كانت ثمة عقبات حقيقية لا تخص فن النحت، أو فن الرسم، بل عدم الوضوح بمحاكاتها حد الاستنساخ، فلم يكن ميسرا ً بلورة رؤية أسلوبية للرسم خارج تأثيرات بيكاسو، والأمر لا يختلف في مجال النحت، حيث كان جايكومتي، وهنري مور على نحو أوسع، قد فرضا هيمنة حفرت تأثيراتها عميقا ً في النحت العالمي الحديث، ولم يكن تجنبهما يحصل إلا بإعادة إنتاج قراءة للهوية تسمح بإنشاء تجارب مجاورة، من ثم العمل على قراءة متجددة للمفاهيم وتطبيقاتها. وإذا كان محمد الحسني أكثر حذرا ً في محاكاة مور، فانه كان يدرك أن  نحاتا ً كلاسيا ً ـ كهنري مور ـ ذاته، كان قد ابتكر قراءات للنحت في أصوله القديمة، مما سمح لمحمد الحسني أن يحفر في تلك المرجعيات، ومنها الرافدينية، للحداثات ـ وما بعدها.
    على أن المفهوم العام لجماعة بغداد، القائم على  جدلية العصر ـ وموروثات الأزمنة السابقة، أي: المعاصرة والتراث، لم تكن متزمتة، ومتشددة، بل منحت أعضاء جماعة بغداد الحرية ذاتها للنحات وهو يحافظ على تجريبيته، وهي مغايرة لمعنى: الخطأ والصواب،  بقراءة مفهوم (الفن)، وإعادة إنتاجه وفق حداثة لا تلغي واقعيتها الحديثة، ذات العلاقة بالمجتمع، البيئة، ودور الفن (الطليعي) بالتحولات الثقافية لمجتمعه إزاء ما يحدث في العالم.

   كانت النصوص النحتية لمحمد الحسني تستدعي ديناميتها من رؤاه داخل مجتمع يباشر بإنشاء معالم مرحلة تتكامل فيها الروافد، بعيدا ً عن الأحادية، والجمود. فلم يختر الفنان التجريد، لا بدافع محاكاة التيارات الأوربية الطليعية، كالتكعيبية، أو المستقبلية، بل سمح لها أن تنصهر بأشكاله المستمدة من تأملاته للنحت العراقي القديم ـ ما دام النحت، في هذا السياق، شديد الصلة بالمدينة (معمارها/ شوارعها/ متنزهاتها/ ومؤسساتها المختلفة)، بالدرجة الأولى، وفي الوقت نفسه، لم يختر أن يكون واقعيا ً تقليديا ً أيضا ً. لقد صهر ـ كجواد سليم ـ مكونات تجربته بعفوية صاغها  بمهارة نحات درس في المعهد العالي للفنون في فرنسا، وتلقى خبرات تأهله لموقع أن يشغل موقع أستاذ النحت في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد، إلى جانب عبد الرحمن الكيلاني، محمد غني حكمت، وصالح القره غولي، وإسماعيل فتاح...، والعفوية ـ هنا ـ أتاحت له أن يمنح نماذجه الفنية (رسم/ نحت) الكثير من شخصيته، ذات الطابع التأملي، رغم تميزه بشغف التعرف على ما كان يحدث، بعد الحرب العالمية الثانية، من صراعات تحولت إلى هيمنة الحرب الباردة، برؤية منحت فنه قدرة اكبر  على دمج الذاتي بالموضوعي، والعام بالخاص.(5)
    فقبل أن ينجز سلسلة من التماثيل للنساء أو للرجال، اشتغل بالعثور على علاقة إبداعية بين الأعماق/ الداخل، وما يوازيها من  رموز وعلامات منفذة بأسلوب لا يتضمن الشرح، أو الوضوح الفائض، بل بجسور تجدد الانتقال من أشكاله (الأنثوية) بحركاتها المختزلة نحو موضوعاته المستمدة من الأعماق، لأنه طالما عمل على إزاحة القشور، والأقنعة، كي يتيح للمتلقي الذهاب إلى المناطق النائية، أو المسكوت عنها. فالنحات كان يحقق مفهومه للحداثة الوطنية بالحفاظ على كل ما يلخص مكانة الإنسان بوصفه مبتكرا ً، وصانعا ً امهرا ً، وليس آلة صماء، أو منشغلا ً بالتكرار، كي يكون اتباعيا ً ويغلق روح المغامرة، والاستحداث. فانا أتذكر انه طالما أكد بان الانسياق خلف الأشكال يتطلب معرفة شمولية لمفهوم المدينة ـ وتجددها، وان الأسلوب، بحد ذاته، يحقق نموه طالما الفنان امتلك ثقافة مبصرة، جدلية، بما يحدث من متغيرات، لأن مفهومه للنحت مكث يجدد عمل الجسور اللا مرئية مع ما أنشأته الأزمنة الذهبية، أو في حلقاتها المتقدمة، حيث النحت شكل أسا ً من أسسها، فالكتابة، التشريع، واختراع الأدوات أو الأدوات المنتجة للأدوات، كان موازيا ً ـ ومكملا ً ـ لروح العمارة، والبناء، منذ فجر السلالات في سومر.(6


    ولكن هذا لا يتجانس مع التكرار، أو الانسحاب إلى الماضي، أو البكاء عند أطلاله، بل التقاط تلك الأسس، الومضات، والوثبات الروحية وقد صاغت معناها بعلامات ستؤدي دور الآلهة الأم: المولدة، بوصفها صاغت أقدم مؤسسة للتصنيع ـ الإنتاج. وربما ـ وللأسف لم يخطر ببالي أن اسأل الأستاذ محمد الحسني حول مدى قراءته لدور الأم بما تمثله كأقدم نظام مؤسساتي يتجانس مع أكثرها حداثة: واقصد به: روح الإنتاج وليس آليته الميكانيكية ـ  كان انحيازه ببناء نماذجه للنسق الأنثوي ـ بالمعنى وبالأشكال ذات المرونة والانسيابية ـ شكل سمة أكدت انحيازه لقضايا الحرية لأنها قائمة على أسس: التوليد ـ وليس الهدم، أسس: تغذية دوافع العمل الإنتاجي الذي بدوره عزز أعراف العدالة وتطبيقاتها، من ناحية النظام الاجتماعي العام، والجمالي على صعيد الرهافة، والأبعاد الجمالية.  

    فلو أجرينا حذفا ً ـ وإضافات ـ لمنحوتاته، ونظرنا إليها بحذف الزمن، لظهر انه اشتغل على تتبع مسارات الحركة المولدة للحركة، التي كانت تتميز بأقدم علاقة ليس لجسد المرأة، بل للخصب، بما شكله من مكونات قامت عليها أسس الحضارات: أي الانتقال من المحاكاة والنسق الآلي إلى: الاستحداث، وفتح منافذ غير قابلة للارتداد. فالصلة بين الفن/ الثقافة، والتنمية، تأتي ضمن عمليات الابتكار واستحداث العلامات بمكوناتها البصرية والرمزية والتعبيرية وقدراتها على إعادة صياغة الأشكال، وصلتها بالواقع، بخيال يمنح النحت روح المدينة ـ التي ولد فيها الحسني/ بغداد ـ وليس خرابها، أو علاماتها الاثارية.






    إننا إزاء أقدم مضمون يعيد للآلهة الأم مكانتها، طالما المدن لا تتجدد، إلا عبر إعادة برامج تشكل الصناعة فيها لغة/أدوات توازي التطور في الحياة، وتقدمها. وما دام تحرر المرأة لن يحصل بقرار صادر عن مراكز (ذكورية)، في عصر نهاية الحداثة، وسيادة نسق ثقافات ما بعد التصنيع، وأثرها ـ ضمن سيادة العولمة وقسوتها ـ بسيادة عصر الاستهلاك، وسيادة عصر البضائع، الأشياء، فان التحرر العام سيستقي أصوله من المجتمع وهو يكّون ـ يصنّع ـ هويته، بالأسس التي تمنح المدينة هويتها.
   والنحات محمد الحسني لم يغفل إن الأفكار لا معنى لها، إن لم تجد شفافية في التطبيق، فانه  ترك لا شعوره يؤدي دوره ببناء نماذجه المستقاة من أكثر الموضوعات دينامية. فالمرأة لم تصر رمزا ً للحرية، مادامت ـ في العالم بأسره وفي العالم الذي مازال يواجه عقبات بالتحول نحو التصنيع ـ  فحسب، بل إشكالية مكثت تستدعي قراءات رائدة، ليس على مستوى الفن، بل عبر التحولات المجتمعية ذاتها. والأستاذ الحسني، وهو يعمل بمنظور (الخيال) ودوره الطليعي، لم يجد رمزا ً مولدا ً للأشكال البصرية المستقاة من تاريخ (عالمي) للمرأة، أدق من معناه وقد أعاد بناءه من غير إسراف في (التقنية) بل بمراعاة خاماته، بغالبيتها المنتقاة من الخشب، للتعبير جماليا ً عن جدلية العلاقة بين: الاختراع ـ والتنفيذ.(7)




    ولأن استخدام الصب بالبرونز، في عراق الخمسينات والستينات، (8) عامة، كان عقبة، كاستخدام خامات الحجر، والرخام، فانا أرى انه ـ ليس لهذا السبب ـ قد انحاز للنحت بمادة الخشب، بما تمثله هذه الخامة من صلة بالأرض ـ الأم ـ وما تهبه، لا شعوريا ً، من قدرات تعبيرية قد لا تتحقق بالحجر ، أو بالمعادن ..، لكن نماذجه النحتية ـ بالخامات الأخرى ـ لن تختلف كثيرا ً بما أنجزه من مرونة، ودينامية. فالنحات، في سياق آخر،  لم يسمح لمنجزه الفني بالتطرف، أو  باختيار الواقعية التقليدية، مثلا ً، بل حافظ على انجاز ما كان يدور في ذهنه من رؤى، وتصورات، لها صلة برؤية جماعة بغداد للفن الحديث، وهي تجذب إليها الأكثر اهتماما ً ببناء أصول للأنساق الحديثة، التي لا وجود لها، منذ قرون طويلة. فخلال سنوات (62 ـ 69) أقام أربعة معارض شخصية للنحت، مؤكدا ً أن دوره (الفني) لم يعد صانعا ً للسلع (الفنية)، بحسب الأنساق التصنيعية للفن ـ لتيارات ما بعد الحداثة ودخولها في عالم العولمة، بل الإبداع ضمن جيل اكتسب ريادته باستحداث علامات ستشكل (هوية) النحت الحديث في العراق. فالي جانب خالد الرحال، المعني كثيرا ً بالمرأة، ومكانتها كأولوية لأية نهضة تعمل على التحديث، هناك محمد غني حكمت الذي لم تغادره موضوعاتها حتى آخر لحظات حياته،  وهو الحلم المقترن برمزية المدينة والارتقاء بها نحو: استحداثها وفق توازنات لا تعزلها عن جذورها ولا تتركها تحدق في المجهول، كما أن المعاصرة لا يمكنها أن تتحقق من غير غوص في الايكولوجيا، بمعناها الشامل، بدل إهمالها، أو تركها جانبا ً، كان محمد الحسني واحدا ً من جيل تضافرت عنده عوامل تأسيس الفن (الريادي) الحديث، غير التقليدي، أو المستعار،  وقد شكل مناخا ً، مع تجارب عبد الرحمن الكيلاني، إسماعيل فتاح، صالح القره غولي، الوكيل، عيدان الشيخلي، ميران السعدي، وصادق ربيع، قاعدة لزمن قادم تتنوع فيه الأساليب، وطرق المعالجة، ولكنها ستؤكد إنها حافظت على بلورة اتجاه عام تبنته جماعة بغداد للفن الحديث: إن الابتكار لا ينشأ إلا بقراءات للقوانين الأكثر دينامية، في فهم مسارات الفنون عبر الحضارات القديمة، وعبر تجددها، في فترات الازدهار، أو في مراحل التدهور، والانحطاط، ليس بالحفاظ على علامات مستعادة من كنوز المتحف القديم، وليس بمحاكاة أكثر التجارب غرابة، عزلة، تطرفا ً وفنتازيا، في الحداثات وما أعقبها من انتشار للتيارات المواكبة لفوضى الأسواق، وعولمتها، بل الحفاظ على ما يعيد صياغته الفنان إزاء عالم تتسارع فيه (المعايير)، وتتغير، وهو ما اشتغل عليه جيل الرواد، بخصوصية عمل تجاوزت نظام (الفن) للفن، نحو الفن بوصفه معرفة مجتمعية تعمل على ترسيخ  نزعة البناء، وصياغتها بدوافع يأخذ الفن مساحته الحقيقية فيها. فالمدينة ـ بغداد ـ لم تعد تاريخا ً سرديا ً للمخفيات، أو أطلالا ً، بل: مشروعا ً يصير الفن فيه علامة للتجدد ـ والابتكار، وهو الذي منح تجربة النحات الرائد محمد الحسني دورا ً تجاوز حدود الحقبة الزمنية، نحو معالجات جمالية كانت الآلهة الأم ـ المعاصرة ـ رمزا ً للدينامية ـ  والابتكار.
   


1ـ الفنان والكاتب نزار سليم، في كتابه "الفن العراقي المعاصر ـ الكتاب الأول ـ فن التصوير" هو من وصف الجيل الأول، بالأوائل؛ الجيل الذي تلقى معارفه الفنية في الدولة العثمانية، قبل نهاية الحرب العالمية الأولى، ومعظمهم من الرسامين، ولهذا فان الرعيل الأول من النحاتين، هم من أسهم بنشاء التجارب الأولى في هذا المجال.
2 ـ قسم توفلر، في كتبه "صدمة المستقبل" و "الموجة الثالثة" و " تحولات السلطة" و "خرائط المستقبل" ..الخ، الحقب التاريخية إلى: زراعية، صناعية، والى ما بعد الصناعية، أي الرقمية، لافتا ً النظر إلى تدشينات العولمة، وأثرها في تحول الحضارات، وتصادماتها.
3 ـ د. إبراهيم الحيدري "عولمة الثقافة وثقافة التصنيع" موقع: الحوار المتمدن ـ 2016
4 ـ  في مقاله "الفن الحديث في العراق" يكتب الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا: "تتألف "جماعة بغداد للفن الحديث" من رسامين ونحاتين، لكل ّ ٍ أسلوبه المعين، ولكنهم يتفقون في استلهام الجو العراقي لتنمية هذا الأسلوب. فهم يريدون تصوير الناس في شكل جديد، يحدده إدراكهم وملاحظتهم لحياة هذا البلد الذي ازدهرت فيه حضارات كثيرة واندثرت ثم ازدهرت من جديد" الحرية والطوفان ـ ص 219 ـ 220 والمقال كتب عام: 1957
5 ـ وإذا كان محمد الحسني ـ كمعظم النحاتين العراقيين ـ قد اشتهر  بالمنجز النحتي، فان تجاربه المبكرة في حقل فن الرسم ـ منذ أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته ـ لها امتيازها، وخصوصيتها، فإلى جانب تجارب الرسم عند جواد سليم، وخالد الرحال، وإسماعيل فتاح، ومحمد غني حكمت، أكدت نزعته التعبيرية ـ الرمزية، عن معالجات تكمل أسلوبه في النحت. فالعناصر التشكيلية للرسم، بخصائصها التقليدية، تلقي المزيد من الضوء على المناطق ذاتها التي حققها في النحت، وبما يؤكد أن العلاقة بينهما ليست حديثة، وليست قديمة قدم تماثيل الآلهة الأم، فحسب، بل لأن تداخل الفنون، في الغالب، يوسع من أفق التجريب، ويقود لتخطي تكرار النماذج الفنية، بمنح عناصر الرسم، بعدا ً لم يستغن النحات عنه، في استكمال الرؤية، واغنائها بأبعاد جمالية ـ ورمزية، وواقعية حديثة (مستحدثة بإضافات تحافظ على  تقاليدها المتعارف عليها) في نهاية المطاف. انظر: شوكت الربيعي: " لوحات وأفكار" ص103 وما بعدها.
6 ـ يؤكد الأستاذ س.ن. كريمر في كتابه "هنا بدأ التاريخ ـ حول الأصالة في حضارة وادي الرافدين"  إن هذه الحضارة استندت،  كي تكتسب الريادة، إلى إنها أنشأت: أول مدرسة في العالم/ وأول حكم ديمقراطي/ وأول إصلاحات اقتصادية واجتماعية/ وأول قانون/ وأول كتاب في الصيدلة/ وأول تقويم زراعي/ وأول فردوس/وأول أغنية حب ...الخ
7 ـ مع إنني اتفق مع رأي الفنان مكي حسين بـ ندرة " مادة الخشب اعتمدها كل النحاتين في العراق وذلك لتوفر هذه المادة ولسهولة انجاز العمل النحتي فيها , كذلك أمكانية اقتناء هذه الأعمال ولم تكن هناك بدائل أخرى .المرمر والحجر العراقي لم يكن من السهل الحصول عليهما في بغداد مثلا وليس هناك أنواع جيدة صالحة لعمل النحت ونادرا ما استخدمت هذه المواد " إلا أن اختيار الحسني، بل ومعظم رفاقه، لا يخفي اقترانه بموضوع المرأة، بما يمتلكه الخشب من  مرونة، ورمزية، للتعبير عن مفهوم: دينامية الحياة. ولو قرأنا أعمال النحات مكي حسين، فإنها ستقترن بخامات غير خامة الخشب، أي خامة البرونز، حيث انشغل بموضوعات الحرية، والوطن، في مرحلة لم يكن محمد الحسني يعاني منها، لأن الوطن لم يكن قد تعرض للويلات ـ والكوارث. انظر موقع: صوت اليسار العراقي.
8 ـ يسرد النحات مكي حسين، ردا ً على تصريحات للنحات محمد غني حكمت، قصة  نشوء التجارب الأولى في صب البرونز في ستينيات القرن الماضي، دالة على ريادة هؤلاء الفنانين، وهم يؤسسون علاماتهم الفنية. انظر موقع: صوت اليسار العراقي ـ وهي صحيفة مستقلة تصدرها مجموعة من الكتاب والصحفيين العراقيين. مقال بعنوان " تاريخ سباكة التماثيل البرونزية في العراق" لمكي حسين ، 2010

  




المصادر
1 ـ جبرا إبراهيم جبرا: "الحرية والطوفان" المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت الطبعة الثانية ـ 1979 "الفن الحديث في العراق"
2 ـ جبرا إبراهيم جبرا: "الفن العراقي المعاصر" بغداد ـ وزارة الإعلام ـ 1972
3 ـ نزار سليم: "الفن المعاصر في العراق ـ الكتاب الأول ـ فن التصوير. الجمهورية العراقية ـ وزارة الإعلام ـ 1977
4 ـ شوكت الربيعي: "لوحات وأفكار" الجمهورية العراقية ـ وزارة الإعلام  ـ 1976
5 ـ س. ن. كريمر "هنا بدأ التاريخ ـ حول الأصالة في حضارة وادي الرافدين" ترجمة: ناجية ألمراني، سلسلة الموسوعة الصغيرة ـ 77 وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980
6 ـ من اجل بغداد أجمل ـ التماثيل والأنصاب. إصدار:أمانة العاصمة. إعداد: فروق بطرس ـ بغداد 1977
7 ـ دليل الفنانين العراقيين. وزارة الإعلام ـ بغداد، إعداد: جميل حمودي ـ 1973
8 ـ معرض السنتين العربي الأول. وزارة  الإعلام ـ بغداد 1974
9 ـ [ الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ مرحلة الرواد] عادل كامل. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980 ـ محمد الحسني ص198 ـ 199


سيرة
ـ ولد في بغداد عام 1925
ـ تخرج في المدرسة العليا للفنون (البوزار) باريس عام 1958
ـ عضو مؤسس في جماعة بغداد للفن الحديث ـ 1951وشارك في معارضها.
ـ عضو في نقابة وجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين.
ـ أقام معارض شخصية لأعماله الفنية عام: 62/64/65/69  
ـ له أعمال منجزة: النافورة الدوارة في شارع أبي نؤاس/ تمثال الكندي في متنزه الوحدة/ عذاب المسيح في كنيسة القديس توما.
ـ شارك في المعارض المشتركة داخل العراق وخارجه.
ـ غادر العراق إلى فرنسا ومازالت يعيش فيها.

الخميس، 7 أبريل 2016

لماذا تموت الكاتبات كمداً؟-شعبان‮ ‬يوسف*



لماذا تموت الكاتبات كمداً؟
شعبان‮ ‬يوسف*


لا أدعي بأنني سوف أقدّم مذكرة دفاع رصينة ومحكمة عن أحقية المرأة في الحصول على كافة متطلبات الحياة‮، ‮ ‬أو في ضرورة النظر إليها ككائن إنساني مثله مثل الرجل في الحقوق السياسية والاجتماعية والاقتصادية‮، ‮ ‬لأن هناك سلسلة ذهبية طويلة من الأسماء التي فعلت ذلك بجدارة وإخلاص نادرين‮، ‮ ‬بالإضافة إلى التفاني والجدارة والإخلاص الذي لاحظناه على كثير من المنشغلين بقضية النساء عموماً‮، ‮ ‬فإن النضال من أجل عدالة تلك القضية‮، كان نوعاً من الضرورة الحتمية التي لا مفر منها سوى الفناء والانسحاق والانتحار المادي والمعنوي‮، ‮ ‬فكان النضال لازمة أساسية أمام مناضلي قضية النساء‮، ‮ ‬ليس باعتبارها قضية خاصة ونوعية وفريدة‮، ‮ ‬ولكن باعتبارها قضية عامة وعادلة‮، ‮ ‬تخص جميع البشر والجماعات السياسية‮، ‮ ‬وكذلك طليعة المجتمعات الناهضة والساعية نحو كافة أشكال التحرر‮.‬

وتبعاً لذلك لاحظت أن قضية المرأة الكاتبة‮، ‮ ‬منذ نهايات القرن التاسع عشر والقرن العشرين‮، وحتى اللحظة التي نحياها تقف في بؤرة القضايا النسائية وفي قلبها‮، ‮ ‬ولم‮ ‬يكن انتحار الكاتبة الطليعية فرجينيا وولف‮ ‬ينفصل بأي شكل من الأشكال كافة أشكال الأزمة التي تلاحق المرأة ككائن بشري له خصوصياته الحادة‮، ‮ ‬وكذلك ككائن اجتماعي‮ ‬يراد السيطرة عليه بفرض القوانين‮، وتأويل النصوص الدينية ضده بكل الطرق للدرجة التي تصل إلى حدّ‮ ‬التسليع الرخيص لقيمة المرأة‮، ‮ ‬وتحويلها إلى متاع‮ ‬يملكه الرجل والمؤسسة الدينية والسلطة السياسية‮، ‮ ‬ولو تأملنا كتابات وولف المتعددة‮، ‮ ‬سنجدها تقف بضراوة ضد تلك النواميس المفروضة على المرأة وجسدها وصوتها الساسي والأدبي والفكري والروحي‮، ‮ ‬ولذلك جاءت كتاباتها مختلفة تماماً، وضد التراث التقليدي للمنجز السردي الأوروبي‮، ‮ ‬وحاولت بكل الطرق ضرب أو اختراق مفهوم الحكي التقليدي والمتعارف عليه‮، ‮ ‬وبالتالي هناك نقاد قالوا عنها بأنها لا تجيد الحكي‮، ‮ ‬وأنها تقف بين الشعر والسرد‮، ‮ ‬فهي لم تخلق حكاية أو رواية كما اعتاد النقاد الأوربيون‮، ولا هي أنشأت قصيدة كما‮ ‬يكتب الشعراء‮، هذا بعض ما كان النقاد‮ ‬يقولونه‮، ‮ ‬والأدهى من ذلك أن فرجينيا صاحبة المآسي الحياتية المتعددة‮، ‮ ‬لم تتوقف عن طرح رؤاها‮، وإبداع الكتابة المختلفة‮، ولذلك فهي هاجمت الكتابة المباشرة التي كان‮ ‬يكتبها الاشتراكيون‮، والذين كانوا‮ ‬يلوون عنق الإبداع لحساب‮ ‬السياسة‮، ‮ ‬فهاجمتهم بشراسة وهناك بعض هذا الهجوم في كتابها‮ "‬القارئ العادي‮"، والذي نقلته إلى العربية الدكتورة عقيلة رمضان‮، وراجعته الدكتورة سهير القلماوي‮، ونشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عام‮ ‬1971، وبالتالي فلم‮ ‬يصمت خصومها‮، فهاجموها بكل الطرق الممكنة وغير الممكنة‮، وراحوا ليعيدوا إنتاج تاريخ لحياتها وفقا لما‮ ‬يريدون إيصاله للرأي العام‮، ‮ ‬وحاول البعض تصويرها على أنها مجنونة‮، ومصابة بانهيار عصبي‮، إنها حرب شرسة كانت تدور بين فرجينيا وخصومها‮، حرب على فرجينيا استخدمت فيها كل الأسلحة السياسية والفكرية والذكورية، ‮ ‬هذه الحرب التي ألزمت فرجينيا صمتا أبديا‮، وأدّت في النهاية إلى انتحارها المدوّي‮ ‬غرقا، وإذا كانت فرجينيا أنهت حياتها بتلك الطريقة‮، ‮ ‬فيظل إبداعها وكتاباتها النقدية في تواصل مع كافة الأجيال التي أتت فيما بعد‮، وفي كل أركان المعمورة‮.‬

ولا أريد أن تستغرقني قصة فرجينيا التي ملأت الدنيا وشغلت الناس‮، ولكنني أريد من تلك الإشارات العابرة‮، أولا قراءة وتأمل حياة وإبداعات فرجينيا وولف مرة أخري‮، ووفق رؤية الصراع من جميع الزوايا‮، دون استثناء من احتكروا منصة الطليعيين في العالم حسب مواصفات أيديولوجية ثابتة ورائجة‮، وأخصّ‮ ‬هنا الاشتراكيين المزعومين في كل الدنيا‮، هؤلاء الذين نصّبوا أنفسهم دعاة للحق والحقيقة‮، ‮ ‬والفضل والفضيلة‮، وللأسف كان بعضهم‮ ‬يروّج لأنظمة مستبدة وما زالوا بشكل معلن ومستتر في الوقت نفسه‮، أما الأمر الآخر فهو الربط القائم والضروري‮ ‬بين قصة فرجينيا ككاتبة وامرأة ومناضلة ضد القبح بشكل عام‮، وبين نظيراتها في شرقنا العربي، ‮ ‬فلا توجد فروق جوهرية بين انتحار فرجينيا وولف في مطلع الأربعينيات‮، وبين انتحار عنايات الزيات في الستينيات‮، ودرّية شفيق في السبعينيات‮، وأروي صالح في التسعينيات‮، الفروق تكمن في التفاصيل‮، وفي الزمان والمكان‮.‬

وبعيدا عن النهايات التي دفعت الكثيرات لقرار الانتحار‮، ‮ ‬فهناك نهايات مؤسفة لكثيرات من الكاتبات والمبدعات البارزات في الأدب والسياسة‮ ‬والفن‮، ‮ ‬لأن المقدمات الاجتماعية التي أحاطت بهن‮، كانت تنطوي على أشكال من الخلل‮، ‮ ‬ثم الملابسات الاجتماعية التي حدثت في حياتهن‮، ‮ ‬كانت لا بد أن تؤدي إلى تلك النهايات‮، ‮ ‬فكاتبة موهوبة‮، وعالمة في الرياضة‮، وأستاذة أكاديمية‮، وكانت رابطة الوصل بين الحركة الطلابية المصرية‮، والحركة الطلابية والشبابية في فرنسا عام‮ ‬1968‮، وهي القاصة‮ ‬لها خمس مجموعات قصصيةليلي الشربيني‮، وقد حدث لها بعض الخلل النفسي‮، وانتهت حياتها في عزلة تامة دون أن‮ ‬يعرف أحد عنها أي شئ‮، كذلك المناضلة الطلابية سهام صبري‮، وكانت أبرز قيادات الحركة الطلابية في السبعينيات‮، والتي تركت علامات إيجابية واسعة في جيل كامل‮، ‮ ‬وانتهت حياتها على عتبات زواج فاشل‮، لتلحق بليلي الشربيني‮، وتنتابها الأعراض النفسية ذاتها‮، ‮ ‬وقد وردت سيرتها بشكل واسع في رواية‮ "‬فرح‮" ‬للكاتبة الراحلة رضوي عاشور، ‮ ‬وكذلك صدر كتاب كامل عنها أعدّه وحرره الكاتب الروائي فتحي امبابي وكذلك هذه نماذج قليلة من كاتبات تعرضت حياتهن لعواصف من المحرمات والممنوعات، ‮ ‬وقد ناضلن ضد تلك المحرمات‮، ولكن كانت صخرة التخلف والرجعية أقوى.‬

وعندما أتأمل النهايات التي جعلت صديقتي الراحلة ابتهال سالم‮، والتي ماتت وحيدة‮، ولم‮ ‬يدركها الآخرون إلا بعد ثلاثة أيام‮، وإصابة نعمات البحيري بمرض السرطان وهي في عزّ‮ ‬العطاء الفني‮، ‮ ‬أعرف أن تلك النهايات موصولة بشكل أكيد بالملابسات والبدايات التي أدّت إلى ذلك‮، ومهما كانت أشكال المقاومة التي أبدتها الكاتبات لغزو المرض‮، إلا أنهن كن لابد أن‮ ‬يعشن حياة كريمة‮، وظروفا أكثر إيجابية‮، واهتمامات فعّالة بما‮ ‬يكتبن ويبدعن ويقدمن من مجهودات إيجابية متنوعة‮.‬

ما تتعرض له المرأة الكاتبة في عالمنا العربي‮، ‮ ‬ليس مفصولا بأي شكل من الأشكال عن الأيديولوجيا السائدة والمسيطرة‮، والتي تتحكم بقوة في تنظيم أو تفريق المجتمع‮، ‮ ‬تأملوا ما حدث للشاعرة ملك حفني ناصف‮ "‬باحثة البادية‮"، والتي قاومت وكتبت في بدايات القرن كتابات مازالت تصلح حتى الآن للتفعيل‮، توفاها الله وهي في الثانية والثلاثين من عمرها‮، وكانت قد تزوجت من حمد الباسل الذي‮ ‬يكبرها بعقود من السنين وتعامل معها بصفتها الزوجة الثانية والأقلّ‮ ‬أهمية‮، وكان قد زعم قبل الزواج‮ ‬غير كل اتضح بعد الزواج‮، ‮ ‬وقد ذكر تفاصيل معاناة ملك شقيقها مجد‮، وذلك في كتابه‮ "‬تحرير المرأة في الإسلام‮"‬، والذي صدر عام‮ ‬1924، وذكر فيه كل الحقائق التي أحاطت بحياة ملك‮، وجدير بالذكر أن هذا الكتاب لم‮ ‬يطبع مرة أخري‮، والكلام الذي ورد عن ملك بهذا المعني‮، ‮ ‬لم‮ ‬يرد بشكل مفصل في الأعمال الكاملة التي صدرت لباحثة البادية في الستينيات‮، وقدّمت لها الدكتورة سهير القلماوي بمقدمة نقدية شاملة‮، وسوف نتناول ماتعرضت له ملك بشكل تفصيلي فيما بعد‮، وما كتبته هي في ذلك الشأن‮، وحاولت أن تحيل شأنها الخاص إلى شأن عام‮.‬

كذلك ما أحاط بمي زيادة‮، لا‮ ‬يقل بأي درجة من الدرجات عما تعرضت له فرجينيا وولف‮، ‮ ‬رغم التدليل المتعدد الذي كانت تحظي به من الأدباء والكتّاب والمفكرين وكبار الساسة‮، ولكن عندما بدأت كتاباتها تثير بعض القلاقل‮، راحت المعاول جميعها تعمل ضدها‮، ‮ ‬ولتحطيمها‮، ‮ ‬وتركها الجميع تعيش محنتها ووحدتها وعزلتها في‮ "‬العصفورية‮" ‬ببيروت‮، وأصبحت نهبا لأهلها وفق خدعة مقيتة وقعت فيها‮، وشارك فيها خصوم لأفكارها‮، ماعدا صديقها أمين الريحاني الذي أنقذها من تلك المحنة الشرسة‮، وعادت إلى القاهرة لتموت ببطء شديد‮، تحت عين وبصر كل الذين كانوا‮ ‬يحرقون البخور لجمالها ولأنوثتها‮، ‮ ‬ويكتبون المطولات الشعرية والنثرية في حضرتها‮، وفي أول منعطف حضاري وسياسي عميق‮، تركوها تموت شبه مختلة‮، وفاقدة للأمل في أي شيء.‬

أيضا هناك الكاتبة أوليفيا عبد الشهيد الأقصرية‮، والتي أصدرت كتابا في‮ ‬غاية الأهمية عام‮ ‬1912‮، اسمه‮ "‬كتاب العائلة‮"‬، وهو كتاب‮ ‬ينطوي على نثر وشعر من إنشائها‮، ‮ ‬ولا‮ ‬يقل عن كل ماكان‮ ‬يكتبه كبار الشعراء والناثرين في ذلك الوقت‮، ‮ ‬ولكنها طوردت بأشكال دينية وقبلية وعائلية‮، فانتحلت اسم‮ "‬الزهراء‮" ‬لتستكمل به إبداعاتها العديدة‮، ‮ ‬وشاركت في إنشاء مجلات كثيرة بهذا الاسم‮، وكانت تحرر‮ ‬غالبية المادة التحريرية والأدبية والفكرية لمجلة‮ "‬فتاة الشرق‮"، التي كانت تديرها وتملكها لبيبة هاشم‮، ‮ ‬وهذا‮ ‬ينطبق عليه المثل الشعبي القديم‮، ‮ ‬الذي‮ ‬يقول‮ "‬الفعل لطوبة والاسم لأمشير‮"‬، ‮ ‬لأن الزهراء كانت تعمل في شبه خفاء‮، وكل المجد الأدبي كانت تحصل عليه لبيبة هاشم‮، ‮ ‬بالإضافة إلى ترجمات لها عن اللغتين الانجليزية والفرنسية كانت باسم الزهراء‮، وواصلت عملها الصحفي والأدبي طويلا في مجلة روز اليوسف‮، ‮ ‬ذلك الجهد الذي لا بد من التنويه عنه‮.‬

ولا ننسى في هذا السياق السيدة نبوية موسي‮، ‮ ‬التي ظلمت ظلما بيّنا من مجايليها‮، ومن الذين أتوا بعدها‮، ‮ ‬ومن كاتب سيرتها الباحث والدكتور محمد أبو الإسعاد‮، ‮ ‬الذي كاد‮ ‬يصمها بالعمالة للإنجليز‮، وراح‮ ‬يؤكد علاقتها المشبوهة بدنلوب باشا‮، رغم أن نبوية موسي لها كتابات في‮ ‬غاية الثورية كانت تكتبها في جريدة‮ "‬البلاغ‮ ‬الأسبوعية‮"‬، ‮ ‬تلك الجريدة الوفدية، ‮ ‬التي أعطت إدارتها القسم النسائي في الجريدة لتترأسه نبوية موسي‮، وفي هذا القسم‮، بدت وطنية نبوية بشكل مذهل‮، ومحاربتها للانجليز في ذلك الوقت‮، ‮ ‬وظهرت وطنيتها المصرية في مسرحيتها‮ "‬الفضيلة المضطهدة‮"‬، والتي صدرت عام‮ ‬1932، ‮ ‬وقد أنقذنا تلك المسرحية من الضياع والنسيان‮، ونشرناها في مطبوعات المجلس الأعلي للثقافة‮.‬

النماذج كثيرة‮، وتاريخنا الفكري والسياسي والأدبي‮ ‬يزدحم بالفعل بهن‮، ولكن ذلك التاريخ لا أمل في شفائه قريبا‮، والذين‮ ‬يراوغون في كتابته كثيرون كذلك‮، ‮ ‬كان ذلك حسن النيّة أو‮ ‬غير ذلك‮، ‮ ‬وهنا لا بد أن أذكر واقعة شهيرة كنا كتبنا عنها سابقا في سياق آخر‮، ‮ ‬وهي تتعلق بالرائدة النسائية درية شفيق‮، ‮ ‬عندما تشكلت لجنة الدستور عام‮ ‬1954‮ ‬برئاسة على ماهر‮، ‮ ‬قامت السيدة درية شفيق ومعها تسع سيدات أخر بالاعتصام في مبني نقابة الصحفيين‮، ‮ ‬وأثار ذلك كثيرا من المنتصرين جدا لثورة‮ ‬يوليو‮، وعلي رأسهم الدكتور طه حسين‮، ‮ ‬فكتب مقالا شديد اللهجة‮ ‬يوم‮ ‬16‮ ‬مارس في جريدة الجمهورية تحت عنوان‮ "‬العابثات‮"‬، ‮ ‬ولكم أن تتخيلوا ما الذي سوف‮ ‬يأتي تحت هذا العنوان‮، وقد تذرع العميد بأن البلاد لا تحتمل في هذا المنعطف التاريخي أي قلاقل أو خزعبلات من هذا النوع‮، وسرعان ما ردّ‮ ‬عليه اثنان من كبار الكتاب والصحفيين في ذلك الوقت‮، وهما حسين فهمي وعميد الإمام‮، ولاما الدكتور طه حسين على ذلك المقال‮، وعلي هذا الموقف‮، وهو النصير الأول لحرية الرأي والدفاع عنها‮، فما كان من طه حسين إلا وكتب مقالا آخر‮ ‬يوم‮ ‬18‮ ‬مارس تحت عنوان‮ "‬العابثات‮ ‬2‮"‬، أي أنه كان مصرّا على هذا الوصف‮، وكذلك على موقفه‮، ‮ ‬ثم بعده ببضعة أيام كتب الكاتب الشاب أحمد بهاء الدين مقالا قصيرا تحت عنوان‮ "‬الصائمات‮"‬، ‮ ‬وفعل مثلما فعل عميد الإمام وحسين فهمي‮، وأوضح أن من حق النساء أن‮ ‬يعبرن عن رأيهن‮، ‮ ‬ووجّه كذلك اللوم إلى العميد‮، ‮ ‬وفي العدد ذاته كتبت السيدة درية شفيق مقالا لتوضيح موقفها‮، ‮ ‬وحقها في اتخاذ الموقف الطبيعي من أجل إحلال حقوق النساء في الدستور الجديد‮، ‮ ‬ولكن طه حسين لم‮ ‬يصمت‮، ‮ ‬ولكنه كتب مقالا حادا إلى درجة بعيدة‮، وكأن ثأرا بينه وبين أحمد بهاء الدين ودرية شفيق‮، ‮ ‬والأدهي من ذلك أن هذا المقال كتبه على هيئة رسالة‮، ووجهها إلى رئيس التحرير إحسان عبد القدوس‮، وإمعانا في الإهانة لم‮ ‬يذكر اسم درية شفيق‮، ولا أحمد بهاء الدين‮، ‮ ‬بل إنه أورد إشارة تعني بأن‮ ‬علي كاتبة هذا المقال أن تبحث عن كاتب أفضل من الذي كتب لها هذا المقال‮.‬

وأيا كانت ملاحظاتنا على مسيرة وبعض مواقف درية شفيق‮، ‮ ‬فما كان من طه حسين اتخاذ هذا الموقف العصبي‮، والذي تضافرت فيه سلطته السياسية والأدبية والفكرية والذكورية الواضحة في أوصافه التي أطلقها على درية شفيق ورفيقاتها في الإضراب‮.‬

وإذا كان طه حسين‮ ‬المنتصر للسلطة السياسية آنذاك اتخذ ذلك الموقف المعادي لدرية شفيق ورفيقاتها في التعبير عن أنفسهن‮، وعن حقهن الطبيعي في الاعتصام والإضراب‮، ‮ ‬فلم‮ ‬يكن موقف بعض اليساريين أفضل منه، ‮ ‬خاصة على مستوي الأدب والثقافة‮، ‮ ‬ولأن الأمثلة كثيرة‮، ‮ ‬سوف أورد بعضا قليلا هنا للإشارة فقط‮، تاركا التفصيل فيما بعد‮، ‮ ‬وعلي سبيل المثال صدر كتاب‮ ‬يضم قصصا لكتاب كثيرين‮، وذلك عام‮ ‬1956‮ ‬وصدر الكتاب عن دار النديم‮ "‬الطليعية‮"‬، وضم قصصا ليوسف السباعي ومصطفي محمود ويوسف إدريس وأحمد رشدي صالح ولطفي الخولي وغيرهم من نجوم الأدب في ذلك الوقت‮، وكتب مقدمة عامة لهذا الكتاب الدكتور طه حسين، ‮ ‬وكتب دراسة نقدية رصينة وممتعة ومطولة الناقد محمود أمين العالم‮، ولكن الكتاب لم‮ ‬ينطو على قصة واحدة لكاتبة‮، ‮ ‬رغم أن الحياة الثقافية لم تخل من كاتبات جادات في ذلك الوقت‮، منهمن جاذبية صدقي وصوفي عبدالله وأسما حليم وجميلة العلايلي ولطيفة الزيات‮، ‮ ‬وغيرهن كن ملء السمع والبصر، ‮ ‬وهذا لم‮ ‬يكن كتابا وحيدا‮، ولكن كانت السمة في تلك الفترة الخمسينية الكتب التي تجمع قصصا لمصريين ولكتاب عرب‮، ولكن كتابة المرأة لم تكن ممثلة بأي شكل من الأشكال‮.‬

ولا نتوقف عند ذلك كثيرا‮، ولكن اللافت للنظر هو استمرار ذلك الموقف الاستبعادي‮، ولن أقول المعادي‮، ‮ ‬أو السلطوي‮، ‮ ‬فحتى الشاعر والقاص والمسرحي والمترجم عبد الغفار مكاوي‮، ‮ ‬أصدر كتابا‮ ‬ضمن كتبه المهمة والكثيرة، عنوانه‮ "‬البلد البعيد‮"‬، وهو عبارة عن دراسات في كتابات جوتة وشيلر وبرخت وتشيكوف وألبير كامي وبيراندللو وغيرهم‮، ‮ ‬ولم‮ ‬يتضمن الكتاب دراسة واحدة عن أديبة‮ ‬غربية، ‮ ‬رغم أن الأدب العالمي، ‮ ‬الذي‮ ‬يعرفه أستاذنا الجليل‮، ‮ ‬لا‮ ‬يخلو من عبقريات أدبية نسائية‮، ولا أستطيع أن أصف ذلك إلا بالاستبعاد التعسفي، ‮ ‬وكأن هناك‮ ‬بالفعل موقفا مزمنا‮، وربما‮ ‬يكون هذا الموقف‮ ‬غير مدرك‮.‬

وعندما رحت أتأمل إحدي المجلات الطليعية المصرية‮، والتي نفخر بها ونعتز بكل ما جاء فيها‮، وهي مجلة‮ "‬جاليري‮ ‬68‮"‬، والتي صدر عددها الأول في مايو‮ ‬1968‮، لم أجد نصّا قصصيا أو شعريا واحدا لكاتبة‮، وكأن الساحة خلت تماما إلا من الذكور‮، وبالطبع فهيئة التحرير المزدحمة لم تضم كاتبة واحدة‮، ولا أعتقد كذلك أن الحياة الثقافية كانت قفرا تماما من الكاتبات‮، وهذا موقف تعسفي‮، ‮ ‬وللتأريخ والتوثيق‮، عثرت على اسم المترجمة نادية كامل‮، والتي نشرت لها المجلة ترجمة لإحدي قصائد أبولونير، وذلك في العدد الثالث من المجلة‮.‬

وعندما كتب المسرحي الكبير الراحل كتابا كان‮ ‬ينشر حلقاته في الصحف‮، وصدر الكتاب تحت عنوان‮ "‬مع الرواد‮"‬، وضم عددا كبيرا من الفنانين والكتّاب والشعراء‮، منهم نجيب الريحاني وسلامة ونجيب سرور ومحمود حسن اسماعيل وجورج أبيض وغيرهم من الشخصيات التاريخية‮، إلا أن الكتاب خلا تماما من اسم فنانة أو أديبة أو كاتبة‮، ولا نستطيع أن نحسب نعمان عاشور على جبهة اليمين بأي شكل من الأشكال‮، ولكنها العقلية الاستبعادية التي كانت تهيمن بشكل مباشر أو‮ ‬غير مباشر‮، وجعلت المرأة بعيدة عن مواقع التأثير الثقافية، ‮ ‬وهذا لا‮ ‬يخص اليمين فقط‮، ‮ ‬بل‮ ‬يلاحق مسيرة اليسار كذلك‮، وفي الكتاب المهم الذي نقله إلى العربية جورج طرابيشي‮، ‮ ‬وهو كتاب‮ "‬قضية النساء‮" ‬تقول جيزيل حليمي‮":(‬لا مناص بأن الاعتراف بأن النساء في الاتحاد السوفيتي والديمقراطيات الشعبية‮، وحتى في الصين‮، لم‮ ‬يصلن قط إلى سدة السلطة السياسية بنفس نسبة الرجال‮، فاشتراكية الدولة قد نسخت المخططات القديمة‮..‬كم عدد النساء في المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفياتي؟وعلي رأس الجمهورية الصينية؟أو بكل بساطة في الأحزاب التي‮ ‬يفترض فيها أن تجسّد سلفا في طرائقها وبناها وغاياتها الغد اللاطبقي الذي لا تعاني فيه النساء من التمييز والتفرقة؟‮)، ‮ ‬وترصد جيزيل عدد النساء في المكتب السياسي للحزب الشيوعي الفرنسي‮، امرأة واحدة بين عشرة رجال‮، كذلك تضم الأمانة القومية للحزب الاشتراكي الفرنسي أحد عشر عضوا ليس بينهم امرأة واحدة‮، ‮ ‬وتتدارك جيزيل ذاكرة الدور الذي أوكله الشيوعيون للنساء في تظاهرات‮ ‬1968‮ "‬توزيع المنشورات وصنع المغلفات‮، وكما هي العادة‮، إعداد وجبات الطعام والقهوة وتنظيف المقرات‮".‬

لا أريد أن أصوّر الأمر على أنه حرب بين ملائكة وشياطين‮، ‮ ‬ولكنني أطمح في هذه الحلقات لرصد المشهد الأدبي النسائي‮، ‮ ‬عبر كافة الكتابات التي كان لها حضور فاعل في القرن العشرين‮، ‮ ‬حتى الآن‮، ‮ ‬تلك الكتابات التي تعرضت لقضية النساء في الوجود البشري والاجتماعي والسياسي والأدبي‮، ‮ ‬ولكن ذلك المشهد‮ ‬يتم تغييبه ومطاردته‮، والتقليل والتهوين من شأنه‮، ‮ ‬منذ مي زيادة وملك حفني ناصف وعائشة التيمورية‮، ‮ ‬وصولا إلى لطيفة الزيات ونجيبة العسال‮ ‬الشقيقة الكبري لفتحية وفوزية مهران ونوال السعداوي وسعاد زهير وسلوي بكر ونعمات البحيري واعتدال عثمان وإيمان مرسال وسهير المصادفة وأمينة زيدان وإيمان حميدان‮ ‬يونس ورجاء نعمة‮، وغيرهن من اللاتي صنعن جدارية عظيمة للدفاع عن الحياة والجمال والحرية‮.‬

* أخبار الأدب.

الأحد، 3 أبريل 2016

حفل تخرج زيد غالب المسعودي من كلية الهندسة جامعة بابل 3/4/2016

العشوائيات تزدهر! - نبراس هاشم




 العشوائيات تزدهر!



نبراس هاشم
    كثيراً ما نحتاج الى حالة قلب موازين الذات لنصحوا لذاتنا ( قد تكون فلسفة) لكنها واقع ، نتحرك به واقصد الكائنات الحيه جميعاً كخلايا الماء وللحظه نصاب بالملل وحاله أشبه بالأزمات النفسيه وتصدر الابتسامه منا وكأنها واجب كالأكل للانقياد الى الحياة ، بل أصبحنا نبحث عن احداث تقلب موازين الذات كي تسرقنا من وقائعنا البصيره لانها تقودنا دون خيار .. صدمات تعيقنا عن الانجرار الى الامام دون خيار كالموت ونحسد من يموت ونتحمس لهذه الفكره كما ذكر المتنبي ( فطعم الموت في امرٍ حقير - كطعم الموت في امرٍ عظيم ) فالوجهان لعمله واحده ، لا لون لا طعم لا رائحه لانه محتوم ... هكذا احداث لاتتوقف عن حدوث ( آكشن ) في النفس فننقاد لفعل كل شيء حتى نجد ما يهز كياننا لنتخلص من محركات ذاتيه لا مركزيه ، وانا أتأمل ذكرياتي على نهر السّن والأضواء وحماس الناس للوقوف على احد الجسور ومطالعة الغروب لان الغروب هناك كل يوم بجمال خاص تأتيني فجأة احدى الاخبار في أذني توحيد وزارة الشباب والرياضة مع الثقافه والسياحة فالآثار .. وكأني اسقط من احد جسور السّن على صخرة الموت في الروشه .. طيب هل سيلعب المثقفون اثقال في كتبهم ام فرشاتهم بالنسبه للرسامين ام في رأس أشور او يطيرون بالمرثون على اجنحة ثور مجنح او ربما الأصح لا حاجه لوزارة الثقافه لان كما نذكر دائماً لا ثقافه بعدك أيها المستعصم يروي التأريخ الكثير وقرأنا فيه الأكثر والبعض منه يعاد بقصد وقصد مؤلم .. هل سأدخل المتحف العراقي التأريخي ببطاقة 3&1 مثلا ، فعلاً هذه الخبطه تذكرني بأكله يعشقها أبناء بلدي ( العراق ) (( انا ألقتها )) اسمها الدولمه لانها تحتوي على كل الخضروات والرز واللحم و و و البهار حسب الرغبه ، لكن طباخ هذه الخبطه يبدو يتذوق البهار المختلف عن بعضه مثل الالوان contras المتضادة حتى يحدث صفعه قويه تذهل المتذوق او اللاعب او الفنان او الأديب او يجعل المسرحي يسير على عيدان الموازنه هي ايضاً من دروس المسرح ... فكل شيء مهم في هذه الخبطه الكرة والجمباز وتدريسه والكانفاس والقلم والكامرا ورأس أشور ومسلة حمورابي وقيثارة عشتار وكرة السله والطائرة ... والتأمل على نهر السّن الدافئ!

قصة قصيرة- بقع سوداء فوق أثير ابيض!- عادل كامل

 قصة قصيرة


بقع سوداء فوق أثير ابيض!



عادل كامل
    لم ْ تعد أسباب نشوب الاضطرابات، وتحولها إلى حرب مستعرة، تدور ببال احد؛ لا كيف تحولت الفتنة إلى صراع، ولا متى اتسعت المواجهات لتشمل الجميع، بعد أن  اكتسبت مظهرا ً منح الطرفين قدرات نادرة على رفض أية تسوية، أو مصالحة، بعد أن صارت الأسئلة متداخلة بنتائجها، حد استحالة وضع مسافة بين لماذا وكيف، مما أضفى على المشهد غموضا ً بهيا ً سرعان ما اكسبه علامات البسالة، الفخار، والمجد.
    لم يدر بخلد فصيل الأرانب ذات اللون الأسود المرقط بالبقع البيضاء، انه يمتلك أحقية بالهيمنة، والنفوذ، مادام فصيل الأرانب البيضاء المرقطة بالبقع السوداء قد ازداد حنكة، صلابة، وتجلدا ً في مواجهة ادعاءات لم تدحض، وغير قابلة للردم، بالوسائل المتعارف عليها، بينهما، رغم إنها جمعت طرفي النزاع، على مدى قرون طويلة من الزمن، في مساحة من الأرض شملت باقي الفصائل، والأنواع، وفي الحديقة ذاتها ومن غير تغيرات تذكر، لا في حدودها، ولا في تضاريسها أيضا ً. فالطرف الأول وجد مصيره مربكا ً ومشوشا ً بظهور زعامات ادعت أن اللون الأسود يمتلك أحقية بالسيادة، النفوذ، والسيطرة، بعد سيادة الأرانب ذات اللون الأبيض بالبقع السوداء، بينما فند الفصيل الآخر بتبني نظرية تزعم إن الأصل لم ينشأ إلا طليقا ً، خاليا ً من الشوائب،  فرد زعيم الطرف الأول قائلا ً إن فصيله لم يختلط قط بالفصيل الآخر بعد مضي قرون من العزلة، رغم تداخل الممرات، الحفر، الشقوق، بينهما، فرد زعيم الأرانب ذات اللون الأسود المرقط باللون الأبيض إنها محض افتراءات، وتهم باطلة، لا أساس لها من الصحة، لأن الاختلاط لم يجر إلا وفق مصالحة واهية، هشة، وآن لها أن تسوى باسترداد الحقوق، وعدم التنازل عنها، فرد الطرف الآخر مؤكدا ً إن الموت ليس إلا ثمنا ً بخسا ًويسيرا ً لتعزيز كل ما يدحض خلط الأزمنة بالمساحات المستلبة بقوة السلاح، من المياه والفضاء والسهول....، من الشقوق والكهوف وباقي الأجزاء...، الأمر الذي دفع بالاختلاف إلى خلاف، والخلاف إلى جدل، والجدل إلى عراك، والعراك إلى مذابح، مما سمح لكافة القوى المستترة، المخبأة، والمدفونة، الخاملة،  بالبزوغ والظهور عبر هجمات كانت تجري إبان اشتداد العواصف، وأثناء هطول الأمطار الغزيرة...، فكانت المعارك تخلف المزيد من الجرحى، والمعاقين، والضحايا، سرعان ما تم تجاهلها، حد إغفالها، بتجديد عزائم الطرفين، وهممهم، وفي وضح النهار، فكادت الأرانب البيضاء المرقطة بالبقع السوداء أن توشك على حسم واحدة من أكبر المعارك شراسة، لولا إن زعيم الأرانب السوداء المرقطة بالبقع البيضاء استنجد بأطراف خارجية لم يحسب الآخر حسابا ً لها، إلا بعد أن استنجد ـ هو الآخر ـ بالجرذان ذات  المخالب الفولاذية، مع أجانب آخرين  يلذ لهم التطوع  بإبقاء الصراع  أبديا ً، حتى لم يعد لدى ـ كل من الطرفين ـ التفكير أو الرغبة  بإجراء هدنة، حتى من اجل استرداد الأنفاس، أو الاستراحة، فقد سادت قناعة راسخة، لدي كل منهما، بان النصر قاب قوسين أو أدنى، فيرد الآخر بنشوة الفخار بهجمات  اشد ضراوة، بتجنيد كل من يقدر على  حمل السلاح، زاعما ً انه أبلى بلاء ً سيتكلل بالظفر، والعزة، وحسم المعارك لفصيلة الذي عانى من الويلات، والهزائم...، على مدى آلاف السنين...،على إنهما، مع تزايد الخسائر، وثقل سنوات المواجهات، وما أنزلته من نكبات، لم يفقدا حثهما على تجنيد الشيوخ، والإناث، وصغار السن، في إدامة زخم نيران الحرب، وتوهج لهبها، وقد أعلنا عن شجبهما المتكرر بتدخل أية جهة لفك النزاع، أو السماح لأحد، أو حتى للعقلاء بوضع حد للانتهاكات،  والمذابح غير القانونية، المروعة، باستخدام أسلحة تم استحداثها، أكثر فتكا ً من الأسلحة الإشعاعية، التي طالما صهرت اصلب المعادن وحولتها إلى أثير، والى فراغات، وقد أدت بكل فصيل، عبر وسائل الدعاية، وقنوات الاتصال، ومواقع التخاطر، والمؤثرات اللاشعورية، ووسائل البرمجة الأكثر حداثة ذات الصلة ببرمجة الضمائر، والقلوب، والعقول، للتشهير، والتنكيل بالآخر، فالأرانب ذات اللون الأسود عملت ـ وفق خطة مبتكرة ـ على انتزاع البقع البيضاء، منها، وفي الوقت نفسه، صدرت الأوامر لدى الفصيل الآخر صاحب اللون الأبيض، بالتطهر من البقع السوداء...، مما منح المواجهات، والمعارك الجديدة، صفحات أكثر سخونة، وإشراقا ً، فقد صار كل فصيل، يرى في الآخر، بوضوح تام، من غير خلط أو توهم بالألوان، فالأسود بدا عدوا ً أبديا ً للأبيض، والأرانب البيضاء، رسخت في بياناتها اليومية، استحالة الجلوس إلى مائدة واحدة، مهما كان الثمن، فالحدود لا ترسم إلا بمن يقدم أكثر عددا ً من الأنفس، والأرواح، حتى تستعاد الحقوق، وتسترد الأراضي، والحفر، والشقوق، ومنابع المياه، وترجع إلى أصحابها الشرعيين، وان ذلك لن يحصل إلا بعد مزجها بأنهار من الشعارات، منقعة بالدماء...، لكن أحدا ً منهما لم يكترث للخسائر، ولا للنزف، ولا للخراب...، فقد كانت الأرانب ذات اللون الأسود الخالي من البقع البيضاء، ترى دمها شفافا ً، وكانت الأرانب البيضاء تماما ً بعد محو البقع السوداء ترى دمها بلون  الفضة قبل أن يلامسه الهواء ...، مع إن كبار السن، مع عدد من العلماء، والخبراء، أكدوا لأنفسهم، إن لون الدم ليس سببا ً، وليس نتيجة، فقد فقد حدته، وصار ممتزجا ً بغبار الأسفار، والأناشيد، مثلما اختلطت جثامين الطرفين، في الكثير من الخنادق، والحفر، والشقوق، بألوان حجبتها نتانات الجثث ومنعت الفرق الطبية، وفرق الإنقاذ، وفرق انتشال الموتى من أداء دورها ...، فظن البعض إن الحرب اقتربت من نهايتها، بعد أن تم إقحام الجرحى، المعاقين، العور، العرج، والعميان فيها، لولا إن كل فصيل نجح بعقد أحلاف مع أطراف أخرى، حتى اتسعت رقعة الحرب، وشملت مساحات إضافية،  لم يدر ببال احد إنها ستتحول إلى مقبرة كبيرة تضم رفات الجميع، من الطرفين، ومن القوى المتحالفة معهما، بعد استحالة إعادة الضحايا، والاحتفاء ببسالتهم في المعارك، إلى مدافنهم في الحديقة.
     وبعد مضي سنين طويلة، وأخرى  مضافة...، أفاق زعيم الأرانب ذات اللون الأسود، ليصدر أمرا ً بإعادة البقع البيضاء إلى أبدان فصائلة البطلة، فرد زعيم الأرانب البيضاء، بإعادة البقع السوداء، محفزا ً المواليد الجديدة، بان الحسم غدا مؤكدا ً، ليقابله الطرف الآخر، باستخدام المواليد الأحدث، بغية الإقرار بحتمية النصر...، فتجددت الصولات، والغارات، باستخدام العصي، والحجارة، والأشواك، وأدوات المطابخ، والمكانس، والبساطيل، بعد  نفاد الأسلحة، واستهلاكها، من ثم اشتدت المعارك، بالمخالب، والأسنان، والأبدان، باستخدام كل وسيلة لم تستخدم من قبل. لكن أحدا ً لم يتذمر، ولم يدر بخلده إن الليل سيمتد إلى ما لانهاية، كما قال زعيم الأرانب السوداء المرقطة بالبقع البيضاء، فرد الآخر قائلا ً  إن ما من نهار سيتوقف عن حافة من حافاته ، فاشتدت الاتهامات والمواجهات حتى اختلطت الأسباب بما قبلها، فلم يعد لدى أي منهما نية التنازل عن شبر واحد من التراب، أو مساحة من الهواء،  ولم تعد لدى أي منهما الرغبة بتدخل الحكماء في وضع حد للحرب، بعد أن لم يعد لدى أي منهما، ما يخسره.
    فأعلن زعيم الأرانب السواء ذات البقع البيضاء انه لم يخسر إلا ما كان يعزز مجد الليل وسلطته، فيرد الآخر بان خسائره ليست إلا نذورا ً للنهار ...، مما سمح بتجدد غير متوقع للمعارك شاركت فيها جهات بزج البراعم في اتونها، داخل الحفر، وفي المستنقعات، حيث لم تعد الأرض إلا وقد تلونت بالسواد المرقط بالبقع البيضاء، ممتزجة بالأجساد البيضاء المرقطة بالبقع السوداء...، حتى وجد الزعيم الأعظم للأرانب السوداء، وجها ً لوجه، انه يحدق في محيا الزعيم الأعظم للأرانب البيضاء.....، فلم يصدر صوتا ً، أو إشارة، أو ينطق بكلمة...، لأنه لم يجد لديه قدرة على سؤال الآخر، لا عن الأسباب، ولا عن النتائج، وكان الآخر، في الوقت نفسه، يبادله اللامبالاة ذاتها، مما دفع بهما، في تلك اللحظات النادرة المكللة بآيات الجلال، والرفعة، والمجد، للابتعاد عن الآخر....، فلمح الزعيم الأول إن عدوه صار ابيض مثل سراب يمتد بامتداد الأفق، بينما لمح الآخر عدوه اقل بياضا ً، ولم يعد مرقطا ً، وهو يتلاشى تاركا ً فراغات من غير لون...، تتسع، مما جعله يبحث  عن مساعديه، فلا يجدهم، بينما كان الآخر، يترنح، من غير حرسه الخاص، غير مكترث إن كان انتصر أم ذهب ابعد من كل انتصار، مادام عدوه، صار فراغا ً  تتخلله دوامات من الغبار، والأثير.
30/3/2016
 Az4445363@gmail.com