قصة قصيرة
حكاية رواها لا احد!
عادل كامل
في البدء، تقدم الموكب، الجرذ الأعظم، محاطا ً بحرسه الخاص، من ثم سار خلفه موكب الجرابيع، ذات الرؤوس الابرية، أعقبه مباشرة، موكب فصائل الفئران المتوحشة، برفقة أكلات الدود، والفضلات، والأعشاب البرية، من ثم ظهر موكب السبع، مكبلا ً بالحبال، والسلاسل الحديدية، باتجاه المنصة الكبرى، خلف زرائب الأبقار، وحظائر الحمير والبغال والخيول، حيث اكتظت الأرصفة، الممرات، الدروب، والفضاء، بسكان الحديقة، تلبية لنداء استحضار رغباتهم النائية، ومكبوتاتهم المندثرة، إذ تم تحريرها من ظلماتها، وقيودها، وصارت تتمتع بحق رؤية مديرهم السابق، وهو الأوحد الذي وازن خطاه مع ضجيج الأصوات المتناثرة، غير آبه للمسرة والبهجة التي قرأها في أحداقهم، وفوق سطوح عيونهم المبللة بدموع النشوة، واللذات الطليقة، وغير آبه لمسراتهم وهم يعلنون عنها وهو يلقى حتفه، في نهاية المطاف، في المكان ذاته الذي توج فيه مديرا ً أبديا ً لزمنهم غير القابل للأفول.
عند المنصة الكبرى، وقف قائد الجرذ الأعظم، شامخا ً، رافعا ً رأسه نحو الغيوم، فتوقفت الفصائل، والجحافل، والصنوف، مشيرا ً بحركة غير مرئية بترك السبع يتقدم صوب المشنقة، التي نصبت وسط منصة التتويج، وهي ذاتها حملت شعار منصة الخلود، كي يضع الحبل، بنفسه، ويلفه حول عنقه، بانتظار بدء الاحتفال بعام الشنق.
على إن الروايات تعددت، تنوعت، حد استحالة معرفة كيف اختفى السبع، وتوارى عن الأنظار. كل ما أجمعت عليه الوثائق، والصور، والفيديوهات، وما سجلته الكاميرات الخفية، وأجهزة التقاط ذبذبات الصمت، وكل ما اجمع عليه الشهود، إن الجرذ الأعظم ألقى خطابا ً موجزا ً لكنه امتد ـ بتعدد المصادر وتنوعها ـ سنوات غير محددة، ثم اختفى، هو الآخر، وغاب تاركا ً أثرا ً يمحو كل اثر لغيابه، مؤكدين ديمومة حضوره، والى الأبد.
فقال كبير الضباع إنها مسرحية رخويات رواها رأس لا وجود له، وإنها ليست هزلية، ولا تمت بنسق المآسي، أو النكبات، ولكنها ـ في خاتمة المطاف ـ لا تضع حدا ً لمسارات يصعب دحضها، ولا محوها، كما شاعت همهمات مغايرة، تقول إن الحدث مكثت يتجدد، مع فجر كل يوم طال ليله، إنما هناك أراء خالفت زعيم الذباب، معترفة، إن ما جرى لم يكن وهما ً ولا طيفا ً، لا كابوسا ً ولا برقا ً، بل هو الحقيقة مكتفية بذاتها، ومن الصعب تفكيك أصولها أو إعادتها إلى الجذر، وانه لا جدوى من محاولات طمس معالمها، أو إعادتها يانعة خضار بعد الحدث. فأيده مسؤول الموروثات المحنك، بأشرة صامتة، وقورة، أكدت تجانس وحده الأضداد بين النفي وحتميات التجدد التي لا غبار عليها، فالسبع لم يختف، ولا كبير الجرذان توارى، وإنما حدث إن الفراغات اتسعت، بين الحدث، والمشاهدين، سكان البرية والغابات والكهوف مع سكان الحديقة، وان ما حصل ليس لعبة لعبت من غير لاعبين، لأن اللاعبين لم يظهروا براعة اللعب، بل لأن التشبث بالحتميات مفهوم عفا عليه الوقت. فقال كبير الثيران لخنزير فقد بصره، إن التمسك بالقانون أورث تعددية جوفاء، خالية من المرونة الجدلية، فالسبع أدى دوره، ودورته، وان كبير الجرذان ـ بأمانته ـ حسب تعبيره ـ لم يخن الأمانة، حيث الفعل جرى في أوانه، ولا صلة للماضي به، الأمر الذي صاغ منه يوما ً من أبهى أيام المجد، والكرامات. فكاد الخنزير يستعيد بصره، لكنه فطس من الضحك، قائلا ً، انه لم ير سوى اللحظات التي وجدت عوامل تكاملها في الظهور، بين الأسباب والنتائج، وهي ذاتها تماثل العلاقة بين المدير وضحاياه، فاستقام الحدث على ركائزه الصائبة. فاعترض صرصار على السياق، بوصفه يخلو من العلم والعلمانية، ويخلو من المنهج والمنهجية، لافتا ً النظر إلى معادلة كادت أن تغيب، معادلة تقول لا مبررات من غير فاعلين، إن كانوا أشباحا ً أو أطيافا ً، مرئيين أو لا مرئيين، فسأله الثور الأسود صاحب القرون المتعددة، بعد اختفاء الخنزير الأعمى الذي رأى النور، هل رأيت المشهد كاملا ً، من غير تشوش، وتمويهات، وضغوطات؟ فلم يجب، بل وجد ضفدعة تتباهى وتنطق بأنها جرجرت من مستنقعها، مع عشائر الضفادع، والسحالي، والسلاحف، للتمتع بنزهة العمر، والحصول على وسام الإبداع، عند المنصة الكبرى. فلم يجد الخنزير فرصة أكثر سلاسة للاختفاء، لكنه اصطدم ببعير، نهره، أأنت أعمى، فرد الخنزير عليه؛ الأعمى من لا يرى العميان.
لكن النمل الذي تجمهر، مع الجراد، وباقي هوام المستنقعات، والصحارى، كانوا يعيدون سرد الحكاية، على نحو مختلف، كل الاختلاف، فقال كبير النمل، للنحل، وللبرغوث، وللديدان الشريطية، والحلزونية، إن السبع هو الذي ألقى بالجرذ إلى الهاوية، وعلقه بالمشنقة ليتدلى في الهواء، أزمنة طويلة، قبل أن يتحول عفنه إلى أثير، فامتعض زعيم القمل، لا يا سيدي، أنا رأيت الهاوية تنادي، فلم تجد من يستجيب لها، سوى ابنها البار، ومديرها الخالد، أما الجرذ، فعاد إلى الشق الذي خرج منه، فصفق كبير الغربان، وأمر أتباعه بالمغادرة، منوها ً، إن التعددية تجاوزت الحدود ذاتها التي خلفتها الزعامات الأحادية، والثيوحيوانية، لكن الأفعى أمسكت به، يا غراب...، لو كانت التعددية ـ كما قلت ـ غير متوازنة مع مكوناتها، فان فضائلها لا تتساوى مع آثامها، والأمر ـ قالت متابعة ـ لم يجر إلا باستكمال دورته...
استيقظ السبع داخل فضاء قفصه الحديدي، ونادى على الجرذ، طالبا ً الاقتراب منه:
ـ ماذا تريد؟ رد الجرذ، فقال السبع:
ـ حلمت حلما ً شبيها ً بالكابوس، مركب ومشفر بالألغاز ...!
فقال كبير الجرذان:
ـ كل الاضطرابات لها خاتمة سابقة على مقدماتها....، وإلا لكنت أرسلتك إلى الهاوية، وانتهى الاحتفال!
فخاطبه السبع غاضبا ً:
ـ حتى أنت... أصبحت تشاكسني؟
ـ ماذا تريد...، هل أفسر لك حلمك الذي كنا صنعناه معا ً، وصار من الماضي؟
ـ لا، لم اطلب منك تأويلا ً، ولا شرحا ً ، ولا تفسيرا ً...، لكن الكابوس مازال ينهش أحشائي، ويتنزه داخل رأسي!
ـ أيها الموقر، وهل كنت ستصبح سبعا ً لولا انك ولدت بمخالب صقر وبأنياب تمساح ...؟
ـ ولكنك، طوال زمن الكابوس، كنت قاسيا ًحد غياب المرح، وظالما ً حد الجور...، وأنت تعرف إن زوالك مدوّن قبل ولادتك في هذه المستعمرة؟
ـ قسما ً بالسواقي، بالحفر وبالظلمات...، أنا لم أبرح موقعي...، ولكني رأيت حلمك وأنت تأمل أن تستعيد عرشك، وتحلم بالعودة إلى المنصة، وقد رأيتك تجاوزت حافات المحرمات، والخطوط السود!
ـ يا سعادة كبير الجرذان، أيها الحارس الأمين، الصادق، لقد كان كابوسا ً تخللته استراحات وجيزة، فانا حلمت بموتي قبل أن احلم باستعادة حياتي..، فانا لم اذهب ابعد من حدود هذا القفص...، وقد آن لك أن تفتح لي الباب!
ـ قد ... قد أطلق سراحك، لكن من ذا سيحررك من الكابوس، ويشفيك من علله؟
ـ كأنك أدركت أن احدنا هو من صنع الآخر، فلا أنا أساوي شيئا ً من غيرك، ولا أنت لك اثر يذكر من غيري، والآن أراك تعمل على قلب المعادلة؟
ـ آه .. كأنك تريد الاعتراف بما لم يتبدل: لولا العبيد لتحرر السادة! وكأنك تومئ ـ عن بعد ـ لتقول: لولا الضحايا لكان القتلة غير مضطرين إلى ارتكاب جرائهم؟ إنما القضية مغايرة تماما ً: إنها محنة اغتصاب....، فلو نظرت إلى هيأتك، سيدي، لعرفت انك مهضومات فرائسك المستضعفة....!
ـ لا تجحد ...، وتذكر ما سيؤول إليه مصيرك بعد الموت؟
ـ ها، ها، لم يعد لدي ّ ما افقده...، واخسره..، فانا ولدت كأنني لم أمت، وسأولد وكأن موتي الدائم دلالة حياة أبدية! فانا ـ مثلك ـ كالضوء يفقد وجوده من غير الظلمات، وكالظلمات لا معنى لها من غير الضوء!
ـ إذا ً من أوقعني في غواية ارتكاب الفضائل؟
ـ آ ....، تذكرت ـ سيدي ـ عندما وقعت الحرب، وتناثرت الجثث، ولم تبق حفرة من غير مصاب، عندما صار عدد الأيتام بعدد حبات الرمل، انك كنت تبتسم...، هل تتذكر ابتسامتك الخالدة، سيدي...؟
ـ ...
ـ لكننا تعلمنا منها الصمت! فكلما قهقهت أدركنا إن النكبات على الأبواب...، تزحف كالطاعون، وكالوباء...
ـ وهل رأيت عربة تعمل من غير وقود...، هل هناك نار من غير حطب، وهل هناك هرم من غير قاعدة...؟
ـ ها أنت بدأت تذهب ابعد من حدودنا!
ـ وماذا افعل لمخلوقات طالما كانت تهتف لموتها؟
ـ لأنها ـ سيدي ـ لم تغادر حفرها، وسجونها، وعفنها...، بل حتى إنها صارت تمجد ظلماتها! وتستشهد من اجل عدمها! .. كي تنجو...، وأنت كنت تراها فتزداد بهجة!
ـ ها أنت ترتكب الإثم، لأنني كنت أروم قيادتها إلى الذرى...، والمجد، والخلود!
ـ آ ...، كي ترجعها إلى التراب، زاعما ً انك ترسلها إلى الفردوس، إنما من كان سلبها ...، إرادتها، ومن كان عطل عمل عقولها ...؟
ـ وهل للدواب عقول، وكأنك تقول: الأشجار تفكر، وللنمل ذاكرة، والجرذان تحلم؟
ـ من سلبها..، اغتصبها، روضها...، وتركها تدب، من حفرة إلى حفرة، حتى صارت لا تمجد إلا من يرسلها إلى الأثير...؟ والآن أسألك: ألا ترغب بالخروج من الكابوس؟
ـ هذه هي المعضلة...، حتى الديناصورات رحلت كما يرحل البعوض، والذباب، والبرغوث..، فما الذي احصل عليه، لو خرجت، غير أن انتظر الثعالب تبول علي ّ...، والجرذان تجادلني في المصائر...؟
ـ ...
ـ ومع ذلك انتظر منك أن تطلق سراحي، وتخرجني من هذا الكابوس.
ـ سيدي، لو فعلت، أكون تجاوزت الخيانة، مع إنني لم اشتغل جاسوسا ً ، كما لم اعمل في الدوائر المظلمة! ولم انشغل حتى بمراقبة الشاذين، آسف، اللوطيين، آسف: المثلين!
ـ يا أحمق، أنا لم اهرم بعد...، فانا خبأت لغز قوتي في التراب، وفي الماء، وفي النار، وفي العواصف... فان لم تطلق سراحي فسأضطر إلى كسر قيودي، وأنت هو من سيشرف على تدوين باقي فصول الحكاية...
ـ وستعفو عني ؟
ـ شرط أن تعرف من هو أنت...؟
ـ أستاذ، أنا لم أجد واحدا ً من سكان هذه الحديقة يجهل نفسه! فكل من رأيته، يقول: أنا ـ هو ـ من رأى ..، وفهم، وفكر، وعرف! وكأنه هو وحده مدير الشركات العابرة للكواكب والنجوم والمجرات! فلم أر بعوضة لم تبد شراسة في الدفاع عن كيانها، ولا ذبابة، وما رأيت قط فأرا ً ولا صرصارا ً لم يحلم أن يكون سبعا ً، أو في الأقل: نمرا ً أو ثعلبا ً!
ـ اجل....، اجل، حتى أردأ الديدان وضاعة تعمل للقضاء على أرقاها، فلا مكان للحشرات الجميلة في غابة خرج سكانها من عفن الآبار، أومن وحل المستنقعات الضحلة ...!
ـ هذه هي المعضلة، هذه هي الكارثة!
ـ اخرس...، فانا سأعود كما يعود الوباء...، وانشر مجدي!
ـ مجد الطاعون؟
ـ ها أنت تجاوزت حدود الحلم!
ـ وأنت لم تشف من كابوس الزعامة.
ـ يا حمار....، أية زعامة، وأنا احتفلت الضفادع، الأرانب، الخنافس، والحشرات بغروب شمسي؟
ـ آ ....، كم كانت أيامك جميلة!
ـ ها أنت تتلذذ بالسخرية، وتلهو بزعيمك، لهو لاعب تدور من حول عنقه حبال الموت؟
ـ لا ترعبني....، قبل قليل حاولت إغوائي بإطلاق سراحك...، وها أنت تستدرجني إلى فلسفتك...؟
ـ إذا ً....، اغرب عن وجهي، ودعني ابحث عن عقار آخر أعالج فيه العلة التي لا مناص إنها سابقة في وجودها على دواء الشفاء!
صرخ الجرذ:
ـ سأطلق سراحك!
ـ غريب ...، ما الذي حدث؟
ـ فكرت... أن تعود إلى السجن الأكبر، إلى القفص الذي لا قضبان له! بدل أن تجعل مني لعبة، أو تسحقني بإشارة من عينيك!
ـ لا ...، بل سأدعك تؤدي دور الجرذ الأعظم...، وسأنصبك زعيما ً على القطط، وعلى الكلاب.... أيضا ً.
ـ وأنت؟
ـ أنا هو من يصنع لك هذا المجد.
ـ ها، ها، لا جديد تحت هذه السماء، فلم تلد بهيمة وليدا ً يأتينا إلا بالقديم!
ـ وما الجديد؟
ـ أن لا نولد في هذه الحديقة، داخل أقفاصها، ونموت موت النعاج، والعبيد!
ـ لا تشتم شعبك، فلولا القطيع من تكون أنت...؟
ـ صفر تائه بين الاصفرار، أو مثل عدم ممتد، سراب مشغول بتمويهات الفراغات!
ـ أحسنت ...، لكن دعني أكمل...
ـ ....
ـ سأطلق سراحك، وأقول للقطيع: أمسكت بالشرير ...، وأنت ستمشي خفيض الرأس، مكسور الخاطر، مبلل المؤخرة....، ثم، في لحظة الموت، سأطلق سراحك!
ـ انك تتحدث عن نهاية الزمن؟
ـ سيدي، وهل هناك زمن كي تكون له نهاية. بالعكس: هذه هي البداية التي ستمتد لتلتهم نهايتها!
ـ كابوس ينمو كي يبلغ درجة الحلم!
ـ ها أنا ناولتك الدواء...، فما عليك إلا أن تتناوله....، كي تشفى!
ـ وتقودني ـ سيدي كبير الجرذان ـ إلى منصة الشنق، ثم تدعني أغيب؟
ـ السباع، يا أحمق، كالديناصورات، ما أن ينقرض الواحد منها، حتى يأتي الحفيد...، فليس باستطاعة احد القضاء على هذا اللغز: ديناصورات، كلاب، جرذان، أرانب، سباع، برغوث...، فهي آلات لا تمتلك إلا أن تعمل ببرمجتها! أما ترهات الثيران، والثعالب، والغربان، فما هي إلا تمويهات تعزز هذا المجد!
ـ ومن سيكون حفيدي؟
قرب رأسه، وهمس بصوت خفيض:
ـ أنت!
ـ من أنا كي أكون أنا هذا الحفيد؟
ـ أنت الأوحد...، فأنت هو الذهب الأنقى حتى من المعادن المستحدثة!
ـ وبأي ميزان ستزنني؟
ـ بالقانون ذاته الذي جعلك سيدا ً على الغابات، البراري، والصحارى.
ـ ولكني لم اعد ـ في هذه الحديقة ـ إلا صورة أزمنة صارت خارج الخدمة، وعاطلة عن العمل!
ـ آ ...، تقصد انك بلغت الذروة؟ لكنك أغفلت: إن العاطل عن العمل، هو، هو وحده، الجدير بلعب هذا الدور...
ـ لكننا ـ جميعا ً ـ لا عمل لدينا، سوى الحفاظ على القانون: لا تعمل، ولا تدع سواك يعمل...؟
ـ تقصد: لا تفكر ولا تدع أحدا ً يفكر..؟
ـ ليس هذا تماما ً..، بل: لنعمل العمل الوحيد الذي لا يسمح إلا بديمومة هذا العمل!
ـ وجدتها، سيدي، وجدتها!
ـ ما هي؟
ـ أن أطلق سراحك، كي ادخل أنا القفص، فأنت ستكون الجلاد، وأنا سأكون الضحية؟
ـ فكرة ليست باطلة...، قل لي: كيف خطرت ببالك؟
ـ سيدي، العاطل عن العمل، وحده، يجيد الابتكار..! وهكذا استعيد مجدي الغائب.
ـ وأنا أصبح حارسا ً...، لكن، ما هي ... مهمتي؟
ـ أن تطلق سراحي، وتقودني إلى منصة الخلود!
ـ لتحتفل بالقضاء على سلالة الجرذان؟
ـ لا.. أيها الحمار...، لأنني ـ حينئذ ـ سأدعو إلى انتخابك ...
ـ ومن ينتخبني؟
ـ البعوض، البرغوث، الصراصير، كما سأستدعي المنقرضات، الزواحف، والثدييات، وكل دابة تدب، وكل من في الماء، وفي الهواء...، فأنت ستحصل على نسبة 99%...!
صرخ السبع غاضبا ً:
ـ ومن هذا الذي عصى أوامر عدم انتخابي، كي احصل على 99%؟
ـ لا احد!
ـ كيف...، وأنت لم تضع 1000%، شرطا ً للخاتمة؟
ـ اللا احد ... سيدي، هو العامل المساعد كضرورة لإعلان المساواة، فالانعتاق لا غبار عليه لو حصل من غير العاب بهلوانية!
ـ ما أذكاك ..!
ـ سيدي، أنا هو من سلالتك ذاتها، فقد حفظت لغز مورثاتك ... كاملة، ولم اخف مدى قدرتها على بلوغ الذروة؟
ـ يكاد رأسي يتخلى عني؟
ـ ستتعلم، سيدي، إن السلطة تروض براءتك، وعفتك، وأمانتك! وتجعل منكم ـ سيدي ـ قدوة!
ـ للجرذان...، في هذا العالم المنحدر نحو الغروب..، والزوال؟
ـ سنزول معك...، فالكل يلقون المصير ذاته. فالسفينة عندما تغرق لا تدع أحدا ً يتمتع حتى بمن أغرقها!
ـ آ ....، السبع أفاق، فوجد انه يتتبع خطا أحلام ضحاياه!
ـ هو ذا القانون الذي ينسج الحكاية ذاتها، فلا ثمة عبيد، ولا ثمة طغاة، ماداموا هم شركاء في السرد!
ـ أكاد اصدق أني أصبحت خارج هذا القفص!
ـ حتى لو لم تصدق، سيدي، فالحقيقة وحدها لن تدحض!
ـ حقيقة أنكم أصبحتم أحرارا ً، وطلقاء، كما خرجتم من أرحام أمهاتكم!
ـ بل ـ سيدي ـ أصبحنا خارج قيودنا، وخارج أرحام أمهاتنا أيضا ً!
ـ الم ْ اقل لكم ذلك...، ولكنكم لم تصدقونني!
ـ ها نحن نرصف لك الدرب... فسر!
ـ والآن ...، أرجوك، افتح هذا الباب اللعين...
ـ لا وجود لهذا الباب...، ولا وجود لأي جدار، أو سور، أو حائط...، لا توجد، بعد الآن، محرمات، أو ممنوعات باستطاعتها أن تمنع ولادة الفجر الجديد....، فالغابة من غير حشرات، ديدان، ونمل، شبيهة بكتاب من غير حروف!
ـ اسمع يا ملعون: أراك أغويتني، فصرت تتحكم بمسارات الحلم!
ـ سيدي، هذا هو: كابوس المجد!
ـ ومن طلب منك أن تخترع لي هذا المجد؟
ـ انه..، سيدي، الذي منعك عنه، هو، جعلني افعل ذلك!
ـ ها أنا أرى المنصة، ها أنا أراك، ها أنا أغيب، مرة أخرى...
ـ لا تتأخر ...، سيدي!
ـ وماذا سيقولون إن لم اعد؟
ـ سنبقى عند المنصة، عند ضفاف الأنهار، في الوديان، في البراري، في الشقوق، وعند الآبار...، في الغابات وفي الحدائق....، نطلبك، نناديك، نترجى حضورك...، فان لم تأت، فدربك لن يغيب عنا، حتى لو غبت!
ـ آ ....، أيها العقل المحنك، كأنك أنت هو الموت جاء ليقطف روحي؟
ـ تقصد ....، يعيدها إليك؟
ـ ها، ها، وهل كانت لدي ّ روح...، أيها العقل المختل، كي يأخذها؟
ـ آ ...، سيدي، كم تبدو جبارا ً، وأنت تنتصب، مثل صخرة فوق بوابات الجحيم! بل كأنك الهرم ذاته، مات صاحبه كي تبقى الحجارة تروي حكايتها العنيدة!
ـ الم ْ تتعب، يا جرذ، الم ْ تضجر من استدراج أحلامك الهامدة، لتبثها، في ارض جفت ينابيعها، فجف زرعها، وهلكت مواشيها، وخلت حتى من العويل؟
ـ سيدي، هذه هي: أحلام ضحاياك، ألا تسمعها، أم أنت فقدت السمع أيضا ً؟
ـ أنا لا اسمع إلا الدوى...، داخل هذا الرأس! فانا لا اسمع إلا صوتي!
ـ انه صوتنا...، صوت الرمل ممتزجا ً بصوت الريح، صوت الصمت مخلوطا ً بحبيبات الزمن...، فهو يدب، يزحف، يترنح...، ألا تراه...، ألا ترى غيابك وقد غدا في ذروة حضوره؟
ـ لا أرى شيئا ً محددا ً...، عدا سماع صرير المفتاح يدور في القفل...، اسمعه ولا اسمعه، وكأني لا أرى إلا حافات الإعصار، تعزلني عنكم، وتعزلكم عني، وانتم تقودون خطاي إلى أعماق الهاوية؛ هاوية المجد، والخلود!
ـ سيدي، هذا هو المجد!
ـ لا فائدة من الغواية، فالأحفاد يتناسلون، من غير رأس أو ذنب، البعوض يلد الدواب، والزواحف تلد الطيور، البرغوث ينز مع الثيران، والثعالب تتصاهر مع النمور، الكلاب تبني حديقة القطط، والجرذان تحتفل بيوم الخلود!
ـ آن لك ـ سيدي ـ أن تفرح، فمن يموت بلا بهجة، كأنه ولد من غير ذنب، ومن ولد من غير خطيئة، كأنه، مرة بعد أخرى، منذ الأزل إلى الأبد، ولد كي لا يموت!
14/3/2016
Az4445363@gmail.com