الخميس، 4 فبراير 2016

قصة قصيرة ولادة -عادل كامل





قصة قصيرة

ولادة

عادل كامل

    وأخيرا ً، بعد انتظار زمن طويل، وضعت الأتان وليدها، فلم تنشغل إنها قد تكون تأخرت، أو ولدته قبل الأوان. بل لم يدر بخلدها إنها قد تكون أرغمت على الإجهاض، أو قد لا يكون المولود هو المنتظر!  فاستدارت، رغم شدة الظلام، لتلقي نظرة....،عليه، فأحست إنها لم تعد تتوجع، وإنها غير مضطربة، ورأسها غدا اقل ثقلا ً...، لكنها لم تر إلا كتلة لم تقدر على تحديد ملامحها... فارتبكت، للحظة، ثم راحت تتحسسه بلسانها، تلحسه، مستنشقة رائحته وهي تتخيله شبيها ً بمن وضعتهم من قبل. فقد منحها شعورها هذا إنها لم تتأخر، وان آلامها لم تذهب سدى، وإنها تستطيع أن تستريح، ولن تنشغل ما إذا كانت قد أرغمته بالخروج، مبكرا ً، أو تأخرت بولادته بعض الوقت، إلا إنها شعرت  بتشوش اضطرها للامتناع عن التفكير...، ذلك لأنها عندما لم تستطع إلا أن تعيش، في المزرعة، من غير إرادتها، فإنها ـ دار ببالها ـ لم تستطع أن تختار موتها بإرادتها أيضا ً، وليس عليها أن تذهب ابعد من ذلك!
ـ هذه هي المحنة تحديدا ً....
   مع إنها انشغلت بسماع صوته، يتكلم، إلا إنها استبعدت أن يكون هو من تكلم، وللتأكد راحت تشمه، وتتحسسه، مصغية لنبضات قلبه، وما كان يبثه جسده من حرارة لم تثر قلقها، إن كان فارق الحياة أو ولد معاقا ً...
ـ أن تكوني مرغمة على ... الحياة، وان تكوني بلا إرادة على اختيار الموت، تلك هي المحنة!
    لم تتردد من الاعتراف ـ مع نفسها ـ أن الصوت لم يأت من مكان آخر، ولكنها لم تصدق انه يكون حدس ما دار ببالها، وخاطبها، حول فكرة إنها طالما قاومت الذئاب، وتجنبت الضواري، من اجل إنقاذه، هو، وليس من اجل نفسها. فقربت رأسها كثيرا ً منه:
ـ هذه هي المحنة: انك ِ وجدت ِ صعوبات لم تسمح لك ِ إلا بالاختيار الذي يسمح لك بحملي...، طوال هذا الزمن!
    انه يفكر، بمعنى ـ هزت رأسها بذعر امتزج بالحذر ـ وقالت لنفسها، إنها ربما تكون مازالت نائمة، وإنها تحلم،  وان ما تراه، ربما إلا أصداء مخاوف، تآلفت معها، فصارت الذئاب، والضواري، والبشر جزء من منها، ومن خلاصها، رغم إن حملها كان على حساب تحملها المشاق، والأوزار...
ـ أبدا ً...، فالنائم لا يستطيع اختراع أحلامه!
   تذكرت إن جدها قال تلك العبارة، فحفظتها: الحمار لا يستطيع أن يصير إلا حمارا ً كي يحلم انه لم يعد حمارا ً! ذلك لأن الحلم هو الذي يستدرج الحمار إلى السبات!
ـ ولكنني قاومت المفترسات، وعندما أدركت  استحالة إحراز النصر...، أي نصر...، لم أجد حماية لي إلا في الهرب...، وليس في المواجهة...، فانا لم أكن أتوهم أحلامي...، أو ادعها تستدرجني إلى الوهم!
    هزت رأسها بعنف، ممتلئة بالغيظ أن تكون مازالت نائمة، أو إنها عرضت  حياة ابنها للخطر، في ركن قصي داخل حظيرة الحمير والبغال ..
   لكنها عادت تسمع ما يشبه الصوت، وهي تتأمل لمعان نجوم نائية بدت لها تماثل لمعان أنياب ذئاب كفت عن العواء، لتقرب رأسها منه لعلها تفند ما إذا كانت تعاني من الحمى، أو الإعياء:
ـ لا! فانا لم أتأخر ...، ولم أسرع...، مع إنني كنت طوال الوقت أدرك محنة إنني أنا ـ معك ـ لم أكن امتلك إلا قدرة أن أميز بين أن أدرك إنني كنت مرغمة على البقاء حية، أو استحالة أن أقرر قرارا ً مغايرا ً، يتنافى والأعراف...!
ـ آ ...
تأوهت: كأنه سمعني وهو يترنم بكلماتي! وأضافت: بل يكاد يستنسخها بحذافيرها.
  ورفعت صوتها:
ـ ولكنني حرصت أن لا أربكه بما كنا نخشاه، وما كان يفزعنا... بعد أن أفلحت بتجنب الضواري...، والبرمائيات الشرسة، وكل ما ينتسب إلى ذوات المخالب، والأنياب...، بل تجنبت حتى تلك التي تخفي عنا مكرها، ووسائلها الدفينة في إظهار الوداعة، واللطف...
ـ تلك هي...
    وعندما لم تر ضوءا ً يساعدها بسماع  صوتها، أو صوت الآخر، أغلقت فمها، كي لا يربكها الصدى. إنما كانت لا تمتلك قدرة إيقاف ما لا يمكن إيقافه، الشبيه بنزف يحدث قبيل تلقي وخزات الموت، وصمته، فقالت تخاطب لا احد:
ـ بالفعل...، هذه هي المحنة...، لا أنا استطعت أن أعيش بسلام، ولا أنا استطعت أن اختار موتي بكرامة!
  تجّمدت، لأنها سمعته يقهقه:
ـ هذه هي المحنة...، الحالم يعتقد انه آفاق...، لينقذ مصيره....، ثم يكتشف انه لم يستطع أن يفعل شيئا ً ما أبدا ً....
ـ كأنك ِ ....!
   ذعرت أن تكون سمعت صوت جدها هو الذي كان يتكلم، لأنها كانت قد رأت مصيره أمامها وجسده تمزقه أنياب الكلاب ...، ثم هل أكون....
   أضافت وهي تلامس جسد وليدها الطري:
ـ أكون .... طوال هذه السنين...، حملت ..
ـ هذه هي المحنة....!
   وودت لو صرخت أو استنجدت، ولكنها خافت أن تلفت سمع احد، والليل امتد حتى بدا لها انه ذهب ابعد من مداه، فهمست في أذنه:
ـ اسكت!
     فتندر قائلا ً:
ـ لكن هذا لن يقلل من المصيبة، ولا يعجل فيها....
ـ المصيبة...؟
    فوجدت ردا ً سمح لها بالإصغاء:
ـ  بل شيئا ً شبيها ًبها...، لأن المصيبة سابقة علينا!
همست بذعر اشد:
ـ ماذا قلت؟
ـ أقول إننا سنتوارى ولكن المصيبة وحدها وجدت كي تدوم، وتبقى...، فهي وحدها لا تفنى!
ـ آ ...... يا جدي!
   تمرغ وليدها بالتراب من شدة الضحك:
ـ أنا وليدك ...، أنا هو من سبب لك ِ العذاب...، أنا هو من أمضيت حياتك تكافحين من اجله...، أنا وليدك ....، فافرحي!
ـ أفرح؟
ـ نعم...، وإلا ... هل هناك لغز غير هذا اللغز أبى إلا أن يمتد...، وأبى إلا أن تكون له خاتمة أخرى...؟!
ـ كأنك ـ مثل جدك ـ تقول لي: ليس إلا النجوم تلمع في ظلمات هذه السماء!
رفع صوته:
ـ وإن كنت لا أود أن أتلفظ بكلمة نابية، يا أمي، إلا انك ـ كجدي ـ تحملين بذرة المكر، والفسق...، وإلا لكنت قلت لي: لا جديد بإمكاننا استحداثه إلا الذي علينا حمله..
ـ أنت قصدت: لا جديد تحت الشمس؟
ـ لا...، لأن الشمس أصبحت عتيقة، مثل سقراط، لأن الشمس، مع هذه الأرض، كلاهما لن يقدرا إلا على الامتداد....، لأنهما، كلاهما له تتمات لا يمكن إلا أن تستكمل....، وإنهما لا يقدران على دحض ما هو أكثر قدما ً من القديم!
ـ الآن لا اعرف أأقيم لك جنازة ....، أم احتفل بعيد ميلادك...، أيها الولد الغريب؟
ـ مادمت ِ لا تقدرين أن تحتفلي بعيد مولدي، فأنت لا تقدرين أن تقيمي جنازة لي أيضا ً! ولكنك، أيتها العنيدة، لم تكن لديك إرادة في موتي، لأنك كنت مرغمة على حملي، وعلى ولادتي...، فأنت غير مذنبة، ولكنك غير بريئة أيضا ً، وهذا هو ما  قصده جدي بالمعضلة. فلا أنت ستمتنعين عن إكمال ديمومة هزيمتك، بوصفها نصرا ً، ولا المنتصر سيحفر قبره بمخالبه ويكف عن الاحتفال بهزائمه! فالجديد لن يغوينا، بل يرغمنا طوعا ً، ولا القديم ينغلق،  بل يجد ألف ألف ألف غواية كي يحافظ على ذهابه ابعد من ميلاده، وابعد من موته. فهو وحده الذي لا يموت!
ـ ها أنت ملأت روحي بالمسرة....!
ـ آمل لها أن تدوم...، رغم إنني بدأت استنشق رائحة الشمس!
ـ آ ....، تلك حكاية أخرى...
ـ لا...، إنها الحكاية ذاتها، لكن لا خاتمة لها! لأن المنتصر وحده لا يجيد إلا إخفاء هزيمته...
ـ ها أنت تؤكد: لا جديد تحت الشمس؟
ـ ولكن ، حتى بحدود عقل حمار يفكر، أقول لك ِ: لو دام القديم أكثر من مداه...، فما أقسى أن تغوينا المسرات بخاتمتها؟!
ـ آ ....،  أصبحت اجهل أولدت أبنا ً أم أبنا ً ولدني؟!
ـ الحفيد... يلد جده...، وهذا هو لغز الحكاية، لأن الجد هو ذاته ابن حفيده...، لأن المعضلة التي لا حل لها ليست معضلة، وهكذا: أنا ولدت أمي، لأنها هي من ولدت أسلافي، وهذا هو لغز المسرة، تفترس موتاها، لتلد الذي يحتفل بالميلاد!
1/2/2016
 اللوحة للفنانة المصرية: اميمة رشاد

الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 2/3 - سعد محمد رحيم


الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 2/3

 

سعد محمد رحيم
     
 
أما رواية ( الأمريكان في بيتي ) لنزار عبد الستار فتبدأ بمشهد ساخر يرسمه لنا الراوي بضمير المتكلم ( جلال ) الذي وقف وإلى جانبه زوجته حنان، يحلق لحيته ويغني بعد ليلة عصيبة احتلت فيها قوة عسكرية أمريكية بيته في مدينة الموصل حيث أمضى الجنود أكثر من ساعة يراقبون الشارع من نافذة غرفة الطابق العلوي ويعبثون بأغراض البيت.. يقول؛ "بللت وجهي بكالونيا أولد سبايس لتطهير مسالكي التنفسية من رائحة الزيت المحروق التي أشاعها تنفس الجنود الأمريكان". لكن هذا لا ينهي محنته بأية حال. فليست هذه هي المرة الأولى التي يفعلون فيها ذلك، ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. أما المشكلة الأكبر فليست في أن أولئك الجنود يلقون في نفوس أفراد عائلته الروع، ويسلبونهم راحتهم في وقت النوم فقط. وإنما يوصمونه ( هو الصحافي والناشط في المنظّمات المدنية ) بتهمة التواطؤ مع قوات الاحتلال أمام الناس، ومنهم جماعات متطرفة ومتعصبة لا تفهم ملابسات ما يحدث. وعليه أن يبرِّر أمام الآخرين موقفه. وأن يتخذ قرارات حصيفة في ظرف مبلبل ومشوش.
تعد رواية ( الأمريكان في بيتي ) وثيقة ذات مضمون واقعي وتاريخي تستثمر المتخيّل لتحكي عن كفاح مدينة عريقة هي الموصل، في السنوات الأولى بعد الاحتلال، من أجل استرداد حقها في حياة حرّة ومبدعة تحاول قوى ظلامية سحقها وإفراغها من روحها الحضارية.
يستعير د. محمد برادة في كتابه ( الرواية العربية ورهان التجديد ) مفهوم جاكبسون لـ "التلفظ"، والذي يعني "أثر الذات ( الكاتبة ) على نص ما"، فتمثل الكتابة عندئذ "جماع تفاعل وعي الكاتب مع شروطه التاريخية وأسئلة ذاته المنقسمة داخل مجتمع يمور بالفوارق والصراعات والاستلابات". فيتخذ الكاتب موقفاً من عصره "عبر الاستتيقا وإعادة تأويل القيم من زاوية تزاوج بين توضيع الذات، وتذويت المجتمع، بين التمثّل الواعي ومكنونات اللاوعي". ثمّ يعرّج إلى ما يسميه "استقلالية النص الروائي وتذويت الكتابة". وبالتذويت، مع ما يوضح برادة، نصغي إلى صوت الفرد الذي بقي لزمن طويل مستلباً ومخنوقاً، ومصادراً في خطاب إجماعي مؤدلج وشعاراتي، ولغة فاشية مغتصبة ومتخشبة.
تفتح الرواية بصوت الرواة الخارجين عن الطاعة كوّة أولى للحرية والعقل، مشرعة لعتبة حياة جديدة متنورة.
الذات وآخرها
تبقى الهوية مختزلة، ناقصة، هشة، مترددة، ما لم تتضمن صورة الذات وآخرها. الذات وقد تمثلت، من بعد رؤية وحوار، آخرها. إن غياب الآخر أو إقصائه وسلبه حقه في الكلام يجعل من صوت الذات ذي بعد واحد.. أنا لن أعرفك إلا في مواجهة آخرك.. لن أتعرف على موقعك إلا إزاء موقع آخرك.. وهذا ما غاب عن كثر من الروايات العراقية والعربية أيضاً.
"إن الهوية بما هي نتاج تاريخ ومكوّن له منحوتة كما لو كانت ذاتها والآخر الذي يمثل أمامها. إن الذات ومنذ الأمد مسكونة بالغيرية فـ ( الذات عينها ) هي ( الآخر ). مما يحملنا على القول أن الحياة سرد أو هي للسرد. فلا تتحقق الهوية إلا بالتأليف السردي حيث يتشكل الفرد والجماعة معاً في هويتهما من خلال الاستغراق في السرديات والحكايات التي تصير بالنسبة لهما بمثابة تأريخهما الفعلي"(3).
محدودية وجود الآخر في الفضاء السردي للرواية العراقية مردّها إلى عزلة المجتمع العراقي التي فرضتها الحكومات الشعبوية الثوروية المتعاقبة. فمعظم العراقيين لم يقابلوا شخصيات أجنبية، ولا يتقنون لغة أخرى.. إن الأجنبي في الاعتقاد العراقي الشائع، وهو ما كرسته الإيديولوجيات الراديكالية؛ العلمانية منها والدينية، هو مريب، نجس، سيء النية، متآمر، جاسوس، عدو، ومن الخطورة بمكان الاتصال به. لذا لم يكن الحوار مع الآخر/ غير الوطني، ثيمة متداولة في الرواية العراقية. فالآخرون لا يظهرون إلا كأطياف غريبة في تلكم الروايات.
واحد من أهم أسباب افتقادنا للمتعة في قراءة كثر من الروايات العراقية هو أنها منغلقة على الداخل؛ ( النفس، البيت، المدينة، الوطن ) أكثر بكثير من انفتاحها على خارجها. وبذا فإننا في القليل النادر نقع على رواية بوليفونية، وإن حصل فإنها تظل محدودة وناقصة.. فمثل هذه الرواية هي نتاج رؤية نرجسية، ضيقة النظر، وقامعة.
إن الذات في الفضاء الثقافي ـ الاجتماعي كينونة حوارية، فهي تستدعي الآخر لأجل أن تثبت ذاتها في مقابل ذلك الآخر، ساعياً إلى الحصول على اعترافه.. فنحن نتشكل في المبدأ الحواري، والتشكّل هذا عملية مستمرة لا تنتهي إلا مع الغياب الفيزيقي الحتمي للذات الإنسانية، أي الموت.. إن طرد الآخر من مجال الفاعلية والوعي قد يرفع من منسوب النرجسية، لكنه يصيب الهوية بالتكلس والضمور.. الهوية المتورمة بالنرجسية تقلل من فرص الحضور الفعال في العالم، وتحفِّز جرثومة التلاشي والموت.
ومثلما قلنا؛ لم يُمنح الآخر مساحة كافية في الرواية العراقية ليقول رأيه ويمثل نفسه.. إنه مقموع بالصوت الواحد الذي يستلبه ويمثله في صورة مختزلة شوهاء. وهذه السمة تكاد تكون ظاهرة في الرواية العربية، إلا باستثناءات، والتي أفقدتها صدقيتها، فما باتت مقنعة بعد ذلك.. تقول د. ماجدة حمود في كتابها ( إشكالية الأنا والآخر )، أن الرواية العربية: "ألغت صوت الآخر، في أغلب الأحيان، فافتقدنا اللغة المتعددة ( الغيرية ) مما أفسح المجال لهيمنة صوت واحد هو ( أنا ) المؤلف، الذي اعتنى بالشخصية الرئيسية، التي تمثل وجهة نظره في الحياة، وأهمل وجهة النظر الأخرى، التي تناقضه، أو في أحسن الأحوال قدّمها بطريقة مبتسرة، ومشوهة، فبدت مقموعة، تعاني استبداد مؤلفها، وهيمنة صوته عليها، وإقصائه لفرادتها، مع أن الشخصية التي لا تحمل بصمتها الخاصة، والتي توحي باستقلاليتها، تبدو هزيلة على المستوى الفني، تعاني استلاباً جمالياً، وقد عانت الرواية العربية مثل هذا الاستلاب، الذي يعكس استلاباً فكرياً"(4).
تواجه ( نجاة ) بطلة رواية ( الشاهدة والزنجي ) لمهدي عيسى الصكر مرغمةً ( الآخرَ ) في موقف دراماتيكي مؤلم، بعد أن تنزل قوات المارينز الأميركية في البصرة وتعسكر فيها، ( هذا في المتن الحكائي للرواية قبل نزول تلك القوات، بعد عقود، في المكان ذاته في الواقع التاريخي ).. الآخر الغازي الذي حضر قسراً، ينتهك بسلطته القاهرة وجودها الهش.. يغويها أحدهم ( إبراهيم ) ويستدرجها إلى أحد البساتين ليلاً، وهناك تتعرض للاغتصاب من قبل اثنين من الجنود الأمريكان وهما من أصل أفريقي. وحين تداهم الشرطة العسكرية الأمريكية المكان يضطر أحد المغتصبين إلى قتل شرطي عسكري، ويهرب الاثنان.
هذه المصادفة التعيسة تجعل من نجاة شاهدة على جريمة القتل تلك، حيث يكون عسيراً عليها تمييز وجه الجاني بعد ذلك، حين تُعرض عليها عشرات الوجوه من ذوات البشرة السوداء، فيلتبس عليها الأمر.. هنا تشعر بذاتها ضائعة ومستلبة الإرادة إزاء ( الآخر ) الذي لا تستطيع تحديد هويته. وبطريقة ما تجد نفسها متورطة في هذه القضية التي فضحتها أمام الناس، وبسببها طلقها زوجها.
ليس لنجاة أن تحتج، وصوتها يبقى خافتاً دائماً وخائفاً، فهي الشاهدة التي تكاد أن تكون متهمة أيضاً، أو على الأقل متواطئة في حادث قدري تعرضت له بسبب سوء الحظ وسوء التقدير.، وفي النهاية ليس لها إلا إعادة تجربة الاستجواب المرهقة للأعصاب، مراراً وتكراراً، والتي لا تبدو أن لها نهاية.
إن واقعة الاحتلال ( الاغتصاب ) تجعل بطلة الرواية تصحو على واقعها الكابوسي الشائك.. نقرأ في الرواية؛ "هل جاء مزيد من الجنود الأمريكيين لاغتصابها، الواحد بعد الآخر؟". وها هي تخسر كل شيء، في هذه المواجهة غير العادلة، قبل أن تخسر حياتها أيضاً. حيث يكافئ فعل الاحتلال فعل الاغتصاب الذي ما كان له أن يقع لولا غفلتها هي، ولولا خيانة وجبن من قادها إلى ذلك المصير التراجيدي.
يتسقط الراوي الذي لا اسم، ولا ملامح له، في رواية ( سابرجيون ) لعامر حمزة شظايا تاريخ مكان ما، مضمخ برائحة زمن فردوسي آفل.. هذا النص هو الآخر من الصعب تصنيفه في خانة الرواية لأنه مشبع بتفاصيل سِير أشخاص غائبين. فهل نقول أنه المثال للسيرة/ الرواية إن صح لنا اجتراح مثل هذا الاصطلاح المركّب؟!. والغريب أن الراوي لا يتكلم عن نفسه.. إنه الشاهد الكاتب الذي يسترجع ذكريات حميمة مفعمة بالشجن والوجع. فصوته يصلنا من غير أن نراه. فهو يحدِّثنا بضمير الجمع ( نحن ). لكننا لا نستطيع أن نتخيله إلا فرداً يشبه الآخرين، وقد أمضّه حبه لهم. و ( سابرجيون ) كما ( الحلم العظيم ) تحكي عن حلم تبدد في غياهب الزمان. وهو حلم جمعي يتصل بتاريخ وطن؛ ارتقاؤه وانحداره.. مسرّاته وأوجاعه. فبعد ذبول الأشياء التي تربطه بها واختفاء الشخصيات من على مسرح الواقع، وتشتتها في كل فج عميق؛ بعضهم أخذته المنافي وبعضهم طواهم الموت، وبعض ثالث قيدوا في سجل مجهولي المصير، تعيد لهم ذاكرة الراوي الحياة عبر السرد..
تجري الأحداث على خلفية مشهد سياسي متقلب مضطرب عنيف وقاتم... إذ كانت نذر الهول تتجمع، هناك، في أفق النظر.. في البدء لم يأبه أحد، وكأن سلام الدنيا وجمالها مصانان بقوة علوية غامضة.. وكأن كل شيء يسير على وفق المنطق الإنساني السليم.. لم يتنبه معظم الناس لما يحدث تحت الجلد الرقيق للواقع، وكيف تنخر دودة صغيرة، لئيمة في قلب العالم، تتكاثر بالانشطار، تسد الشرايين، وتهدد الحياة.
يقدّم الراوي الشخصيات غالباً بصيغة الجمع، أو في حالة تجاور وتعاضد، وكأن لا معنى لوجود أي منها إلا في ظلال الآخرين. "حياة وجدنا فيها ( روميل ) بعينيه الصفراوين الباهرتين بنظارته البيضاء بإطارها الأسود برائحة أحاديثه و ( ميري ) بأغنيتها الأثيرة دمعي شهودي، و ( ريمون ) بزغب جسده المذهَّب وحركة يديه العازفتين، والخياط بأولجيه المرقّم ومقصِّه الضخم ومرايا الحياة التي أمامه.. حياة وجدنا فيها ( أوسي ) بنزقه ونضجه.. حياة وجدنا فيها ( كاكا خالد ) و ( كاكا سردار ) يفرّان من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، مالئين جرارهم الفضية بعشق ذلك العيد الكبير".
تختصر الرواية/ السيرة ( سابرجيون ) الزمن العراقي المتعرج والمتداخل، والحلم العراقي، والمحنة العراقية، من غير مواقف طنانة مفتعلة.. إنها بانوراما عريضة لذلك التنوع الأثني الوطني المتعايش الذي فتكت به السياسة وألاعيبها.. أو أنها ترنيمة حزينة في رثاء ما اختفى، ولكن ليس من غير بصيص أمل في النهاية.. فها هو محمد ( شخصية في الرواية ) يتلقى إيميلاً من ( ديانا )، وللأسماء هنا دلالاتها الاجتماعية؛ "هل تذكرني أنا من أطلقتَ عليها اسم البرنسيسة". هذه الرسالة التي ستجعله يخرج من عزلته صارخاً في ظلام الحي الطويل؛ "إيشا معي، البرنسيسة معي، ذاهباً حتى الطرف الآخر من الحي عند كنيسة المار كوركيس... مارا بالشوارع الواحد تلو الآخر، غير عارف بما يفعله بنوره الخاص، بفرحه الخاص.. فرحه اللذيذ.. فرحه الذي لن يقدر على إخفائه مرددا لمرات ومرات أغنيته.. أغنية ضيائه وعذابه.. أغنية حياته الأولى والأخيرة ( سابرجيون كخدرين بنوشي.. جوالاً أروح وأجيء لوحدي )".
إن الحرية الحقيقية التي تُكتب بهديها الرواية الحديثة هي في تحرير رؤيتنا إلى العالم مما علق بها من قيم سقيمة متخلفة.. لا معنى في تحرير الشكل الروائي ما لم يترصن ذلك بوجهة نظر عصرية متقدمة ذات مضمون إنساني تنويري إلى أنفسنا وإلى الآخر وإلى الحياة. فالرواية هي خطاب الحياة في عصر القسوة والعنف واللاتسامح. فقد يمجد الروائي القيم الإنسانية العليا ظاهرياً في عمله، ولكن المهم ألا تكون رؤيته المضمرة، في لاوعي العمل ونسيجه، مغرقة بكراهية الآخر، أو ازدرائه، أو بالنرجسية المريضة المتورمة، أو متضمنة لما يحط من قدر المرأة لا يتغنى إلا بجسدها الذي يجده موضع متعة أنانية وتسلية.. فالمعيار للتحرر من التابو الجنسي ليس في كم المشاهد الخليعة وإنما في تمثيل المرأة كياناً حراً إنسانياً مبدعاً مشاركاً في الفعالية الحضارية، وحتى في الفعل الجنسي، بوصفها الطرف المكافئ الذي به يتوازن الكون، وتتوطد قواعد المدنية.. هنا فقط يصبح المشهد الجنسي ترنيمة إنسانية حرّة، وذروة شعرية مشعة، يتألق خلالها كائنان ينتصران للحياة والحرية.

الأربعاء، 3 فبراير 2016

ركنٌ منعزلٌ-د. غالب المسعودي

ركنٌ منعزلٌ
د. غالب المسعودي
تحت جؤجؤ طيري
أتناول قهوتي مرّة
مومسات النهار والليل
يتراجمن جيئة وذهابا
فنجاني
يقرأ شراع الفرح
رويدا رويدا
 تقترب شفتيها
نورسٌ عطشانٌ
 فوق جدار البحر
قبلتني
تورمت اجنحتي
تؤلمني
لكني حلقت
فرس يحترق
حيزبون تحرز النبيذ
ابلٌ محلّقة بوسمها الابيض
حلك الشيب بنا
النيات قرار
المواضيع فقدت حريتها
اصبحت تلقين محض
هل تصدقين
إني اناشد امتعتي
كي ترحل معك
فيها شذى
من عطرك
غابت به السنون
الشواذ
كيف تمرّدتِ
دنٌ قصيرٌ
يسيع داخله القار
يلمع
كرقراق السراب
شقٌ سباسب
عاثوا به ولم نعث
كانت خاتمة المطاف
أن فقدت عذريتها الكلمات
أصبحت كالماء في النار
والنار في الحديد
 والحديد بالخشب
ذاتي اصبحت حرة
وها انا الان
ذهبٌ

حظِل

غالب المسعودي - ركنٌ منعزلٌ

الاثنين، 1 فبراير 2016

أختام*- عادل كامل














أختام*




عادل كامل
[6] ملغزات المحو ـ الانبثاق
    حتى عندما لم يعد هناك فقراء، ولا وجود لفيالق من العبيد، والمستعبدين، قسرا ً، بلا تعليم، وليس من المعرفة ما بعد (الايدولوجيا)، وقد فرضت التعددية، في الحريات كافة، نسقها، وحتى عندما لا تشكل الخساسة والنذالة والمغالاة هيمنة على السكان، وردود أفعالها، الخالية من الحياء، والانضباط، وعندما لم يعد للملكية (الاغتصاب) هيمنتها في التقسيمات الهرمية للسلطة، وللمجتمعات، وحتى عندما تستبعد الحياة محركات التصادم، بالاستناد إلى التصوّرات، والأساطير، والاحتمالات ..الخ، حتى يأتي هذا اليوم، الذي حلم به إنسان ما قبل (الكتابة) وما قبل (التاريخ) بوصفه فردوسا ً، يتآخى فيه الذئب مع الحمل، وتتوازن فيه الحقوق مع الواجبات، وتكف الانشغالات عديمة الجدوى من إضاعة الوقت، وحتى أن يكون هذا الحلم قد دمج الفجوات الحاصلة بسبب التنافس، والتصادم، وعدلها، وشذب الدوافع، وصاغ مفاهيما ً لا يشكل الاغتراب، والغربة، والاغتراب، قضية تذكر، تكون الحياة، بما هي عليه، قد اقتربت من حتفها! فاليوتيبيا، منذ البدء، لم تدفع أسلافنا في الغابات، والكهوف، والبحار، إلى صناعة السحر، وصياغة حياة قائمة على: صياد ـ طريدة، فحسب، بل ستكون محاولات تفكيك السحر، ضرورة منهجية في الانتقال من البسيط إلى المركب، لتعزيز الفجوات ذاتها، لا على صعيد الوعي، ومجتمعات المعرفة، والشفافية، بل على صعيد عدم الاكتراث لأي مفهوم يعزز ان الحياة ليست فائضة، وإنها جديرة بالعناية، والاحترام...
    حتى حضور ذلك (الأمل/ الوهم)، فان ملياري إنسان يعانون من وضع ما تحت الفقر، ومن تدهور بيئي، وانخلاعات مازالت تقتلع الإنسان وتقذفه إلى فراغات يصعب التكيف معها، أو مع لا إنسانيته شديدة القسوة، والجور، وسيادة مبدأ: اللا متوقع ـ اللا محتمل ـ الموازي لمفهوم المعجزة ـ وانتظار المخلص ـ فان هذا التأثير العام، لشعوب الأرض، وأنظمتها، لم يعد عابرا ً، في أي بناء ـ وسلوك ـ وإدراك للعبور نحو: الأمل.
   فكيف، يا ترى،  اسقط دوافع الكلمة التي أدونها، والفن الذي أكرس حياتي له، وأنا غير قادر ـ إلا بصعوبة بالغة ـ أن أجد جدارا ً احتمي خلفه من الموت...، واخلص وجودي من طعنات شركائي في المصير؟
    ها أنا انتقل من لا معقولية العالم، وقد شكلت نظاما ً مضطربا ً خسائره تعرض ـ كتسليات أو هكذا تصبح للترفيه ـ عبر الثواني، وليس خلال الدقائق، إلى لا معقولية الحياة، وبأي معنى من المعاني، في أدق مفاصلها، وتفاصيلها اليومية ـ وأثرها في ما سيشكل أدبا ً ـ أو فنا ً.
    فالتقارير تؤكد، عبر حرية عمل المواقع الالكترونية ـ وهي حرية ما بعد ليبرالية نتائجها مازالت مبهمة قياسا ً بما أدته الأنظمة الأحادية، إن كانت رأسمالية، أو اشتراكية، أو همجية، أو من غير ملامح أصبحت تعزز كل ما يغذي البرمجة في تنوعها، وفي اختلافها، للحفاظ على النظام ذاته: الهرم.
ـ إن ثلث العرب، لم يدخلوا المدرسة، بمعنى ان هناك 100 مليون ـ من أصل 300 ـ لا يقرأون ولا يكتبون.
ـ  وان معدل دقائق القراءة، عند العربي، هي 6 دقائق، مقارنة بـ 200 ساعة، لدى الأوربي.
ـ وان جامعة بغداد، التي طالما مثلت، حتى سبعينيات القرن الماضي، مكانة مرموقة بين الجامعات العربية، والإقليمية، أصبح تسلسلها يحمل الرقم ما بعد العشرة آلاف بين الجامعات في العالم!
ـ وفي بلد مثل العراق، يتمتع بمساحات من الأراضي الصالحة للزراعة، والشمس، والأيدي العاملة، والموارد المالية الكبيرة، أصبح يستورد أكثر من 95% من ضروريات الحياة، ومنها، على المثال: الماء، وأشجار النخيل الطبيعية، والبلاستكية! (والأخيرة للزينة! ومازالت قائمة حتى عام 2016)
ـ وإذا كان مسموح للعراق ان يستورد5% من مستلزمات الحداثة، قبل 1990، على حد قول رئيس المجمع العلمي الأسبق، فان الحصار عليه شمل  حتى أقلام الرصاص!
ـ  وجود أعداد متزايدة، بعد 1958، من الأرامل، والأيتام، وبنسب مروعة  نتيجة الحروب، الداخلية، والحروب مع  الدول المجاورة، ومع العالم، ومن ثم ازدهار الإرهاب، الذي قلب شعار: الكل مشاريع للاستشهاد...إلى شعار: الكل مهددون بالموت.
ـ تصفيات منظمة للعقول/ للعلماء/ أساتذة الجامعة/ وفرار الملايين من النخب، ومن مكونات الشعب الأصلية، وهرب رؤوس الأموال، والحرفيين ...الخ
     مما يقود للحفر في مناطق نائية: ما هو دور هذه (المحركات) أو (العلل) في: الوعي ـ وفي الوعي الكامن في الثقافة، إن كانت عالمية، أو إقليمية، أو كانت ذات جذور عميقة، أو عرضية، لتصدعات الحاضر، والمستقبل...، وما اثر هذا كله في الفن: إن كان مستقلا ً، أو انعكاسا ً، في الحياة، ومن سيعيد قراءتها، على صعيد التحليل، التأويل، أو البحث عن (أمل) لا ينبني على منافع محدودة، وهمية، وغير جمالية ...الخ
   بإيجاز: لا توجد أشكال مستقلة، ولكنها، ليست معادلات تنقصها المرونة، أو كأنها تعبر كما تعبر الأطياف التي لا تترك أثرا ً يذكر.
    فنظرة أولية لتجارب عام 2012 والسنوات التالية، لا تساعدنا على إصدار نتيجة، ليس لأن المراقب تنقصه المعلومات، بل لأن ما يسمى بـ (الحرية) لم يعد يمتلك شيئا ً منها.
    وسيقال: وما علاقة هذا بالأسلوب؟ لنجد إجابات مغايرة تفند تحول الفن ـ والثقافة عامة ـ إلى سلع، مهما كان ثمنها كبيرا ً، فهي لا تحفر في الإشكالية الانطولوجية (الوجودية)، بمعنى لا توجد مقاربات للفن، خاصة التيارات المضادة للفن، منذ (الدادا) لم تولد بمحض المصادفة.
   ها أنا لا امتلك إجابة، ليس لأنني لا امتلك وجهة نظر فنية، أو خاصة بتاريخ الفن، ونظرياته، وتحولاته، أو إنني لم اختر ـ الذي لم اختره ـ أو الذي اخترته بحسب قناعتي، بل لأنني، في الأصل، نتيجة برمجة ـ مهما اجتهدت ـ فانا لا استطيع مغادرتها. هل تتذكرون الدادائي الذي صرخ: كلنا دادا، حتى من لم يكن معها، بل ومن وقف ضدها!
   وهذا ليس تصوّرا ً مضطربا ً، لكن من ذا يستطيع ان يخبرني بوجود عقلانية، أو واقعية خالية من التشوش؟ ففي نظام كلي للمعاني ـ وأشكالها، بدءا ً من الجزء اللا مرئي في الذرة، وصولا ً إلى المجرات العملاقة، وبدءا ً من تكون خلايا الخلق البكر، وصولا ً إلى البرامج ذات القدرات الذاتية في التحكم، ما: معنى ان تجد ان تاريخ الأكوان لا تشكله إلا دينامية الصراع المرير، وقد برمج، للأغلبية، بأنظمة يجد فيها (غريغوري سامسا ) قد تحول إلى حشرة، أو مدينة كهيروشيما، إلى مخلفات، وتجد العرض الشامل لعالمنا تحكمه أكثر الخرافات قسوة، وجورا ً، التحكم بالمصائر...
    وهذا كله لا تجد له إلا أصداء ً متناثرة، هي الأخرى، ستدخل المتحف، وكأنها ترغمنا الاعتراف بان (الهزيمة) وحدها سيدة الأنظمة، وان الموت، لا يتحكم بالحياة، بل ـ عبره ـ بما هو خارج الإشكال، ومنها اللغة والتصورات، وعلينا ان ندرك إن كنا سيزيف أو صخرته، أن نؤدي العمل ذاته، إن كان خاليا ً من المعنى أو ابعد من معناه، وعلينا ان نجد لأجسادنا، كأرواحنا، ملاذات لا يتحكم فيها اقل البشر نفعا ً، بل أكثرهم ضررا ً، وقد تحول (الطيف) إلى (طريدة)، مهددة بالهلاك، أو بالانتهاك، فإنها لا تستطيع ان تغادر منفاها، وان القيد (الشكل) غير منفصل عن سياق الضرورة، فحسب: بل ان يدحض المرء نتائج ما آلت إليه البرمجة، وتشبثت بالخلاص، الشبه مستحيل، ليكرر رمزية (تموز) أو (المسيح) أو (الحسن): ليس للبذرة إلا أن تجد موتا ً تموت فيه كي تنبت!
    ويا له  من منفذ، درب شديد الضيق، إنما، ككأس سقراط، حرية ان لا تختار إلا موتك، ومثال الطائر (الحر)، كأقدم، وانصع، رمزية مبنية على معادلات، ومشفرات، منحت الأمثلة السابقة غواية تجعلها غير قابلة للنسيان، والزوال. وأنا أرى نفسي بلغت الارتواء من السم، لأنني لا أرى سوى حتفي، قياسا ً بحرية، لا وجود لها، فلو أعدت قراءتها، وفق هذا النهج، سأدرك تماما ً إنني أدرك كم كان هذا القليل من الضوء (المعرفة) قد أتاح لي أن أدرك كم كانت الفراغات تمتد خارج أية نهاية يضعها الضوء لها! فسم الأفعى لم يكن إلا اختيارا ً شبيها ً بنهاية جلجامش ـ وهي نهاية سقراط، ومن قبل هي نهاية تموز، ومن بعده في قصة الحسين ـ اختيارا ً لا شعوريا ً ـ ولا واعيا ً ـ حتم على مالك بن الريب ان يدحض الاندماج ـ والمحو، مع جيش غريب عنه، ليدوّن رائعته المعروفة.
  إنما هذا الذي أكاد أراه، هذا الذي يبدو كالطيف، أو كالصفر غير المادي، غير المعّرف إلا بحروف سود فوق شاشة الكومبيوتر، أو كومضات في الدماغ، أو كبقع رمادية فوق الورقة البيضاء، ليس أملا ً استمد حضوره من وهمه، أو وهما ً تأسس على أمله، بل كأنه (الأفعى) عبثت بخلود جلجامش، وقدره، ولم تسمح له إلا بالنتيجة ذاتها التي دفعت بمالك بن الريب أن يكّون قصيدته، وسقراط أو تموز أو المسيح أو الحسن، بترك كلمات مازالت تعمل عمل كل ما هو مضاد للدفن، لكن لحياة كأنها اخفت معناها، أو لغزها، خارج احتضار الكون، موته، وانبثاقاته.
    أليس الضوء وحده أكثر ريبة مقارنة بلا حافات الظلمات، أم لا معنى للأخيرة، من غير بزوغ أنوار تقول كل الذي يكون قد سبقنا إلى أبديته...؟ يا له من حضور وجد ليدوّن مروره فوق صفحات في الأصل خارج مدى هذا الحضور...، عدا الانشغال بجمع تراكماته التي بلغت ذروتها في الصفر، قبل أن يمتلك اللا ـ كل، كليته، عميقا ً في هذا الانبثاق، وبمنأى عن غيابه في الحضور، وحضوره في الغياب. أليس اللا ـ كل وحده يجدر أن يكّون حافة لوجود لم يبلغ ذروته بعد....، أم ها أنا ذا لا افعل إلا من امسك بالسراب، ليدوّن، رغم حتفه، مشهدا ً لا اختيار فيه، ولا تسوية لي فيه، وقد جعلني مثل الأعمى لا ابحث إلا عن مباهج الألوان، إن كانت تقع في خلايا الدماغ، أو خارجه، أو كعلاقة ما بينهما، وإنني ـ وأنا أحث خطاي نحو اللا ـ كل ـ لم احصل إلا على الذي أومأ لي، فتبعته، فكان القفل، وكان المفتاح، ولم يكن متاحا ً لي أن أكون سوى المسافة بينهما. فلا أنوار إذا ً، ولا ظلمات، لا ولادة ولا موت، لا طاغية ولا ضحية...، إنما لا وجود إلا للمرور بينهما: مسافة بأبدية الزوال.
 وكي لا تبدو (الميتافيزيقا) إشكالية عديمة الجدوى، في مواجهة موقفها إزاء المصائر، أي مصائر النوع البشري، وليس مصائر نخبها، وكي لا يبدو الكفاح من اجل الخبز، وحريات الشعوب، خالية من الجمال، والإمتاع، ولذائذ اللعب، والمرح، فانا ـ مع نفسي ـ أتوغل في الارتباك حد الشك ـ كمصدر من مصادر الثقة، في ما إذا كنت امتلك إدراك السؤال، أو حتى: شرعيته؟
    فانا عشت أراقب نصف قرن من الفكاهات المريرة: لا يسحق فيها الإنسان، ولا يرغم أن يهتف لموته، ويدوس على ضميره، بل لا يبحث إلا عن لا مبالاة لا متعة فيها. لقد كنت أتندر، مع أستاذي مدني صالح، طوال لقاءاتنا اليومية، وحتى قبيل رحيله بعد أن كف عن النطق، وأقول له إنني أصبحت ابحث عن اللامبالاة الأجمل!  وقبل ذلك، في سبعينيات القرن الماضي، كنت اكرر ـ لفاضل العزاوي ـ بان المستقبل ـ من حولي ـ شبيهة بوردة قطفت. كان فاضل العزاوي يتهمني بالمثالية، وهو على حق، لأنني لم أكن امتلك قدرة تفكيك قرون لم تخلف إلا رمادا ً، كان فاضل يبحث عن عالم لا تمحى فيه أثار القلب قبل حضورها.
     هو ذا مدخل لختم مندرس: اللاوعي إزاء التاريخ، فالأدوات الأولى، شبيهة بمن يجري عملية إصلاح حروف تالفة بسكين عمياء، أو الانخداع بالشفافية التي لم نقدر أن نراها حتى في مناديل النساء، وليس في ملابسهن الداخلية!
    هو ذا ما لا يصح أن يبلغ حتى درجة: العبث، وليس من اجل لذّات اللامبالاة الأجمل!
    فثمة عماء لا يسمح بالتعرف على ما يجري لإنساننا المعاصر، عماء يرغم الأعمى أن يمشي خلف لا احد.
    ذلك لأن اقرب إنسان تلتقي به، أو تعيش معه، لم يعد يمتلك أدوات الإصغاء، فماذا عن الوعي، ومن يصغي إليك، في الغالب، لا يبحث إلا عن مكسب عابر. وسواه، لا يفكر إلا بانتصار على اليسار المتطرف، أو انتصار اليسار المتطرف على اليمين، ثم البحث عن مصالحة، أو عقد هدنة، لإشعال حرائق تعقبها ظلمات....، وبمعنى ما تفقد المقدمات منطقها، كي تأتي النهايات كباب نجهل فتح قفله، وهو ما يسمح للميتافيزيقا أن تدوم، ولحروب الفقراء أن تزدهر، وتمتد، وكأنها مسرحية ترغم جمهورها على المتابعة، بالشكل الذي تتحول فيه الحياة إلى: غوايات لن تذهب ابعد من عميان يخترعون لنا ألوان الخرافات الخالدة!
     فهل يحق لي أن اشغل ـ القارئ  الكريم ـ  الذي لا اعرفه، وأنا اشغل نفسي، بلهو يكاد يفقد براءته! بكلمات كائنات أدرك لا جدوى عويلها، ولا جدوى صمتها أيضا ً...؟
    انه ختم يصعب تنفيذه إلا بصمت يختزل الكلمات كي يقودها نحو محوها، أعالي التاريخ، ومغادرته، بأسف كظيم، بل ومن غير أسى، أو حزن، فالحب، ذاته، لم يعد لا مبالاة للإمتاع، بل للمعاقبة! وهنا يجدر بي أن اعثر على طبيب لا بحثا ً عن التشخيص، أو العقار، بل عن: السم! لأن الديمومة، بحسب مقدماتها، تتستر على مكرها، وتمويهاتها، غشها، فهي حاصل حصاد خسائر قائمة على مكاسب من تحولت الميتافيزيقا عندهم إلى يقين، وراحوا يجدون ألف ألف عذر لديمومة كلمات، لا ديمومة لها، إلا في ما لا يمكن تعديله، وقبل هذا: أن تحوله إلى يقين لا يدحض، والى: قتل مشّرع، والى: إرهاب بنيوي مغزول بغزل شفاف، وخالص!


[7] تساؤلات
   هل حقا ً، بعيدا ً عن نفسي ـ عنها تماما ً ـ، وبعيدا ً عن آليات عمل اللاوعي في الوعي، وتداخل اللاشعور بما تخفيه التصورات، عبر اللغة، أسعى الذهاب إلى ما لم اعرفه ـ أدركه ـ وليس الذي غدا من المسلمات أو الثوابت، ليس للذي تمت معرفته ـ كما يخيّل إلي ّ وأنا أتأرجح بين الظنون وما تنتجه الافتراضات ـ هو الذي أريد أن اذهب ابعد منه: ليس أن أعيد قراءة أيهما اخترع الآخر: الإنسان للأسطورة، أو الأسطورة للإنسان، وليس أن أتجول في المسافة بينهما، الواقع للوعي، أم الوعي للواقع، أو الفجوات ما بينهما، الموت للحياة، والحياة للموت، أو للرحلة بينهما، الظلام للنور، أو النور لاكتشاف لا حافات الظلمات ....الخ، بل ذلك الذي كلما بدا قريبا ً استحال نائيا ً، ولكن ليس عدما ً، بل شيئا ً ما يحدث في الدماغ: لغز إشعاعات، ومضات، فاستعيد قدرة تحمل المتاهة، وليس وحشة الدرب، كي ارتوي بهذا: اللا ـ كل، بأكثر أجزاءه قدرة على التوازن في المناورة، والغوايات، والتظاهر، والاكتفاء حد الاستغناء عن  البوح ـ والاعتراف ـ ومحاكمات الذات ـ وجلدها.
   هل ـ هو ـ إعادة تحمل الصدمة: الرج، أداة القتل بأدق أشكالها جمالا ً وظيفيا ً، المثلث، والآخر، الرمز الأنثوي للغواية: الإنجاب والقبول بالمقاومة، حد القول: من ليس معي فهو عدوي! المثلث، بين أن يكون رأس رمح، وقذيفة، وبين أن يكون مدخلا ً لأكثر المصانع سرية، وقدرة على المواجهة، يتحول إلى ديالكتيك أعمى شارد في استبصاراته  بالعلاقة بين: المنفى والمنفي.
   فالسلطة ليست حرة إلا في إدراكها إنها قدرا ً وحيدا ً ـ كنظرية المؤامرة تماما ً ـ لا اختيارات لديها عدا الذي يتم نسجع، وتنفيذه ببالغ المهارة، الحذق، والإتقان.
     فالمثلث، هنا، سلطة في مواجهة المعرفة. سلطة وجدت نفسها تقاوم عدمها.
    وها أنا أعيد قراءة هذا التراكم: أي معرفة أريد لها أن تكون جديرة بهذا العناء، حد الاستسلام للموت...، وأنا اكتشف أن (المنفي) لا يتمتع بالبراءة. فأعيد كلمات المثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط. فالمثلث لم يعد من صنع (دماغي) ـ وعيي ـ ليس لوجود مثلثات سبقتنا في الوجود حسب، بل لأن الهندسة، بدمجها للرياضيات ـ وحسابات التوازن ـ قد شملتني بعمل قوى أكاد لا امتلك إلا الاعتراف بحرية غياب أي اختيار لدي ّ فيها.
    إنها ليست تعبيرية محض، بأي شكل من أشكالها، وليست رمزية، ولا ذات دلالة بحدود ما تريد أن توصله، وإنما هي تقدم في اللا معرفة ـ عبر هذه الحدود.
     إنها إشكالية تحّل عددا ً من تعقيداتها، لتخترع الباقي: ديمومة كل ما لا يغدو شكلا ً، لكن عير الأشكال، مثلما يحقق الموت وجوده عبر ثنائية الوليد ـ الميت، والميت الوليد.
   فهل الثنائية بذاتها شبيهة بقفل لا مفتاح له، وبمفتاح لا يمتلك قفلا ً...؟ كي أدرك إن (المثلث) إن كان أداة قتل، أو عضوا ً مزدوج العمل بين اللذّة والإنتاج، ليس إلا تحقق اللا ـ كل، عبر أجزاءه، حيث لي ّ أن  أقاوم موتي، كي يحقق الموت غايته، بعد أن أصبح خارج أدوات البحث: لا في الصور، ولا في اللغة، ولا في الحياة، فالموجودات كلها ملك الناس، إنما لا احد ما باستطاعته أن يأخذ منها شيئا ً. ليس لأنها زائلة قبل وجودها، بل لأنها موجودة في زوالها تحديدا ً.
      إنها تماما ً كالمصادفة تبرهن، بوجودها، عن اللا كل وقد استبعد أية مصادفة ـ وأية حرية ـ بمعنى إرادة ـ في الذهاب وراء المسافات، وعلاماتها، وإلا هل ثمة ـ منذ تكونت أولى أجزاء الخلايا الحية ـ جدارة أو أهمية تساوي ما بذل من جهد، عناء، أم إن الإنسان بانتظار العبور إلى المعنى، كان واجبا ً عليه دفع الثمن، لتذوق هذا الذي حضوره لم يكتمل إلا بغيابه؟
تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

زينة سعيد والفن الرقمي-د.احسان فتحي




السبت، 30 يناير 2016

قصة قصيرة الشق-عادل كامل

قصة قصيرة

  الشق



عادل كامل
     وجد انه يتعثر بإكمال ترتيب جملة تتكون من ثلاثة أصوات، فما أن ينطق بالصوت الأول، حتى يتراجع للبحث عن الصوت الثاني، وما أن يعثر على الصوت الثاني حتى يكتشف انه غير مناسب للمعنى الذي قصده، وما أن يعثر على الصوت المناسب حتى يجد صعوبة اكبر في العثور على الصوت الثالث كي يكمل ما كان تبلور داخل ذهنه، بعد أن غادر الحفرة، وراح يحدق في فتحتها، من الجهات التي بدت له إنها محصنة، ولا تسمح له بالابتعاد عنها. فتحة بدت كنافذة صغيرة، ثم اعترض، إذ ْ بدت له مثل جرح لم يلتئم بعد، كأنه حز طولي حفر بقسوة، حتى وجده انه لا يعني أكثر من شق لم يعد يذكر اهو فتحة الحفرة أم نافذتها أم بوابة للطوارئ...؟ تسمر لبرهة مدركا ً استحالة بناء ثلاثة أصوات تمثل ما أثاره الشق، الذي بدا له مثل حبل رفيع يتأرجح ويتمايل ثم بدا له، على العكس، خشنا ً، وصلبا ً، فدار بخلده، انه لم يعد يمتلك وسيلة للتفكير بمعزل عن الكلمات، فالصوت، متابعا ً بحذر شارد، مكتظ بذاته حد الانفجار. فرفع رأسه قليلا ً مستدلا ً برائحة التراب الرطب، ممتزجة بالدغل، والأوراق، والأشواك، إنما كانت رائحة الحفرة حادة، لم تسمح له بالحركة والابتعاد أكثر من أمتار قليلة، ليس لوجود الحواجز سببا ً ليمنعه من التقدم، ومن اجتيازها، بل لأنه، منذ سنوات، اكتفى   بما توفره له من حركة، وصلة حميمة لا يمكن فصلها عن الحفرة. حفرة لا تمتد عميقا ً في الأرض الرخوة، ذلك لأنه لم يجد ثمة ضرورة للتوسع بفضائها الداخلي، مكتفيا ً بما توفره لجسده من استقرار، بعد أن اعتنى بتكور جسده داخلها، ومن غير ضرورة للتوسع، لأداء أعمال باذخة، دار بباله، أو لأي نشاط يمكن الاستغناء عنه.
    وعاد يتأمل: إنها ليست فتحة! لا...، معترضا ً، لأنها لا تبدو مناسبة للحفرة، فهي، رفع صوته من غير اكتراث لتداخل الأصوات، أو اضطرابها: شبيهة بالشق. ومثل حز عميق في كتلة صلدة. فلقد فكر بوجود علاقة ما بين نهاية الحفرة ـ وأحيانا كان يدعوها بالمغارة أو بالبئر المائل ـ وبدايتها. فالشق راح يؤجج لديه صورا ً لم يعد يراها، بعد أن وجد ان ظلام المغارة ـ نطقها هكذا بلحظة نشوة ـ لا علاقة له بانخفاض الأصوات، حد انه لم يجد مبررا ً للقول بان الصمت يمكن ان يكون كلمة دفينة مادامت، ردد، ان الحقائق تبرهن انه طالما لمح ما لا يحصى من الومضات تشع عندما يكون الظلام تاما ً، وقد شغل فضاء الحفرة بالكامل، ليجد انه اضطرب في العثور على سلامة التعبير، حتى لو كان أصواتا ً مبعثرة....؛ فانا هو من بدأ الحفر...، وأنا هو من اكتشف ان الصمت لا وجود له بينما لا وجود للظلام للخالص بالمرة...، وها أنا أجد ان الفتحة، لا تدل لا على الظلام، ولا على ما يمثله الصمت.
   مرت الخواطر من غير زمن، فقد شعر إنها كالعلاقة بين الفتحة ونهايتها، إنما: هذه ليست مدخلا ً ولا بابا ً ولا نافذة ولا بئرا ً مائلا ً ولا حزا  ً غائرا ً في جدار...، ولكنه لم يجد كلمة مناسبة إلا عندما تذكر انه لم يكن مهددا ً بعدو، أو بمداهمات مفاجئة، خاطفة، تحصل على نحو غامض، فلم يضطر لتأمل ثقوب تحميه من الخطر، للمغادرة، والهرب....، فما أن غادر جناحه، واستقل عنه، لم يجد معارضة حتى شعر انه وجد الحل المناسب، فلم يستغرق في العمل إلا ساعات حتى أكملها، بعد أن موه المدخل، حتى عندما ألقى نظرة عليه لم يتعرف عليه بيسر، ولم يفكر أن يجد له اسما ً، لا له، ولا للمغارة ذاتها التي كانت، من الداخل، شبيهة بجسده. فما ـ هي ـ الكلمة المناسبة....؟ ابتعد قليلا ً، رافعا ً رأسه، ليشاهدها تحولت إلى: شق....،لا...، وتردد، لكنها ليست فتحة، ولا نافذة، ولا ثقبا ً....، فقد تخيل انه صنعها من غير تصوّر مسبق، وان لم ينو أن يجعل منها مدخلا ً، ولا بوابة، ولا حتى بابا ً....
     ترك رأسه يستقر فوق العشب: فالحفرة برمتها أصبحت بمثابة الشق الذي خرج منه...، لا...، اعترض، فانا لم اخرج منه...،فانا كنت حسمت الأمر بعد أن تشتتنا وهربنا من الجناح...، فانا إذا ً هو الذي حفره، صنعه، رتبه، وأنا هو من دخل فيه...! أغلق فمه للحظة مستنشقا ً رائحة كانت تحملها نسمات الفجر...، رائحة لدنة، طرية، فخاف...، وعندما لمح خيوط الفجر من وراء الأشجار ذات الألوان الداكنة ترسم حدا ً بين السماء والأرض، اقترب من الشق: آ ......، أنا خرجت منك، وها أنا أعود إليك! لا ...، ذلك لأنه تسمر يتأمل المدخل مرورا ً بالحفرة حتى بلغ قاعها: يا لها من مسافة؟ شق غائر يغوص في التراب، ولكنه لم ينغلق. ابتسم ساخرا ً من عملية اللهو التي انشغل بها....، إنما أجاب بأنه طالما أمضى الليل يتحسس الحرارة الصادرة عن جسده، الحرارة التي كثيرا ً ما كانت تحميه من التجمد، حرارة امتزجت بأنفاسه، وبإشعاعات صادرة من باطن الأرض...، رغم انخفاض درجات الحرارة في الخارج. حرارة كان يتغذى عليها، حتى اكتشف إنها كانت تبدد العتمة، وانه كان يستطيع رؤية السقف، والحيطان، والأرضية الترابية المغطاة بالأعشاب، والعيدان، والريش، والصوف....، ويصغي إلى أصوات غامضة متباينة في شدتها، وفي انخفاضها...، تارة يسمع في الصمت عويلا ً، وتارة يصغي إلى أنين مكتوم، وأحيانا ً يرتجف لسماع أصوات دوي وأخرى لخرير تدفق المياه، أو لسقوط الأمطار، ممتزجة بأزيز لمرور الريح....، فليس ثمة علاقة ما بين الصوت والصمت الذي تخيله كحبيبات العتمة مزدحمة بالبذور المشعة. لا يوجد صمت بإمكانه أن ينفصل عن اثر ابر ملونة ذات نهايات براقة تحدثه في جسده كالتي كانت تتركه المخالب والأنياب وهي تعمل عملها في تمزيق جسده فيصرخ نافيا ً أن يكون للصمت الدلالة ذاتها لانعدام الأصوات، فكثيرا ً ما كان الصمت يلامس جسده بقسوة مثل مخالب وأنياب حادة تخترقه، فتدميه، وتعمل كعمل الإبر في جسد الطريدة فيلوذ هاربا ً باحثا ً عن جحر، أو نفق، أو حفرة، أو ثقب، أو شق، أو فجوة بين الصخور.
     وكأنه تخيل جده يصغي لصوته المتقطع، غير المترابط، ساخرا ً من لجوئه إلى مكان منفصل عن جناح الأرانب....، فأنت لا تلوذ بالماضي بل بما قبله....، تريد أن تعرف كيف حصل ذلك...؟ لا....، أجاب بشرود: لا .... أنا لا ابحث عن الحقبة التي لا فزع فيها ولا ذعر أو خوف....، بل أنا مشدود حد الجنون بهذا الشق الذي افسد علي ّ فاتحة هذا النهار!
     نظر إلى اليسار، والى الخلف، والى الأمام، والى اليمين، فلم يجد أحدا ً. لقد لمح خيوط الشمس تملأ الفضاء، ولمح تحول البلور الفضي إلى إشعاعات مستقيمة ومتموجة ممتزجة بالغيوم المتناثرة...
ـ أصبحت اكلم نفسي!
ضاحكا ً بسخرية:
ـ بمعنى أصبحت: أهذي!
     وقال حالا ً بعد لحظة صمت:
ـ مع من أهذي.....، وأنا كنت أدركت إنني لم اعد موجودا ً...؟
     لم يصدم، فلم يجد كلمة لها الأثر ذاته الذي تحول إلى: شق! فالأخير غدا مؤنثا ً. لا، رد: فأنا تماما ً لم اعد ابحث، بعد أن محوت وموهت أي اثر للفتحة والحفرة وجعلتهما يندمجان بعضهما بجسدي عميقا ً بالصمت وبالظلمات.....، فانا لم اعد منشغلا ً بأحد...، ولا حتى بهذا الذي لا اعرف كيف يمتلك جرأة استفزازي...؟
     انجذب لرائحة الحفرة فأحسها مثل هالات لها حافات رمادية تتدفق دافئة تخرج من الشق: رائحة بذور مضى زمن طويل على قطافها، لها مذاق العفونة. فكادت تجذبه للتراجع والعودة إلى الداخل، إنما عاد يشاهد الشق يرتفع من الأسفل إلى الأعلى: مثل هيأة الجناح الذي تهدم...، وهرب منه، فاستفزه الشكل: كأنني أراه للمرة الأولى....، وكأنه انبثق من العدم توا ً. فثمة حرارة لها رائحة رفيف أجنحة طيور ممتزجة برائحة سيقان أعشاب طرية وأخرى جافة. فضلا ً عن ومضات تحمل رائحة صوف وشعر ما انفكت تلامس انفه وتخترقه حتى أحس أن شيئا ً ما يوشك أن ينفجر داخل كيانه.
     أغلق فمه بصعوبة، بعد أن شاهد الشق يتسع أمامه حتى غدا بوابة بحجم باب الحديقة...، متخيلا ً أن الشق كان فوهة بركان...، تارة، وتخيله مثل شقوق الأرض التي تحدثها الزلازل المدمرة، تارة ثانية. إنما خيّل له أن الشق مثل بحيرة بدت له مثل حوت هامد...، رأسه يرتفع قليلا ً إلى الأعلى، وله أجنحة، وينتهي أسفله بمثلث حاد الحافات: بركان استحال إلى بحيرة اتخذت هيأة سمكة عملاقة: يا له من شق!
ـ أتراني صغت جملة مفيدة....، خالية من الحركة...؟
     أجاب بصمت إن الزمن انسحب وتوارى تاركا ً الفعل يتراجع حيث الصفر دفن أعداده وصار شقا ً!
ـ من يتعقبني...؟
     وكتم صوته كي لا يبدو مرتبكا ً وكي لا تغدو عزلته قد تحولت إلى ما يشبه العقاب الذاتي مما تستدعي طلبا ً للعون، او الرحمة! لا...، قال مع نفسه، من غير ان يفتح فمه، كي لا يظن انه بصدد طلب المساعدة...، أو استجداء المعونة. فالعملية برمتها نجحت رغم غياب المريض! فثمة المرض وحده هو المشكلة، وليس الطبيب، ولا العقار. فانا ....، أفلحت بعزل حياتي تماما ً عن هذا الذي ...
    أغلق فمه منشغلا ً ـ بلا إرادة ـ بالشق. فقد لاحظ إن السمكة لم تمت، ولها ذيل شبيه بهرم مقلوب، وهي  تشع حرارة ناعمة تسللت إلى جسده مثل عطر لم يلوث بالغبار. أحس إن جسده يتهاوى، وهناك خدر بدأ يتسلل منتقلا ً من الرأس إلى الأطراف، شعر بأنه تحول إلى اخطبوط يحتضر، ويموت..!
ـ كأنك تتكون توا ً...، فقد كان موتك شبيه بالحفرة التي سكنتها وسكنتك...؟
   عاد يتفحص الشق، وقد غدا أعلى من مستوى الأرض، يرتفع كنهايات أشجار  تتدفق من خلفها الريح بغيوم داكنة.
ـ آ ....، ستمطر إذا ً...، وقد آن للطوفان أن ....
      إنما صدم وهو يرى الشق يغيب. يلتئم، ليصبح خطا ً حفر برقة، من الأعلى إلى الأسفل، يغيب أم ينبثق؟ لم يجد ضرورة للإجابة...، فالخط كف عن أداء عمله؟  فلم يعد يعزل، ولا يفصل، وليس هو بفجوة. فقد بدا رابطا ً أو لاصقا ً بين الجهتين، ليبدو الشق مثل ثمرة ناضجة. اقترب قليلا ً...، كأنه أراد أن يراه بجسده، وليس بعينيه، ثم ابتعد...، برغبة لا إرادية ترك رأسه يستقر فوق الحشائش.    
    ولم يستطع تجاهل انه لا يمتلك رغبة بالذهاب ابعد من المكان الذي يتمدد فوقه، فعاد يبحث عن الخط وقد بدا له حادا ً، منحنيا ً، وليس مقعرا ً، ثم بدا له كغصن شجرة جاف وفي أعلاه تتكوم مجموعة أوراق أبرية الحافات وفي أسفله ظهرت الجذور ممتدة وغائصة في الأرض...، فأحس براحة ما قائمة على الوهم، فالظل الذي شاهده لم يكن سوى شعرة شطرت عينه اليسرى وحجبت عنها رؤية الشق كاملا ً، وكأن ما بدأ يراه هو الحقيقية الملموسة، وليس طيفها، فالانشطار سرعان ما تلاشى ليعيد مشاهدة كتلة ضبابية اتخذت شكل الأمواج، إنما عموديا ً، بعد أن اوحت له بأنها كانت مستقرة أيضا ً فوق التراب.
     فدار بباله انه لم يقم بحماقة بمغادرة الحفرة، بل كل ما حصل انه خرج لتنفس الهواء، والاستمتاع برائحة النباتات، والزهور البرية، وإعادة التثبت من موقع مغارته بين الأجنحة الأخرى...، من ثم العودة والاستقرار داخلها.  ولكنه سرعان ما شعر بتثاقل في ترتيب الأصوات، وصعوبة بمنحها سلاستها المطلوبة، مدركا ً انه يواجه ضربات غامضة، وان أفكاره مهزوزة، مرتجة، فقد لاحظ، في الأعلى، نباتات ترتفع عاليا ً، بدت له مثل أعمدة حجرية لم يستطع رؤية نهايتها. وواحدة ظهرت كأنها فنار، أو منارة، فقد بدت له مثل: قصر قديم شيد عند ضفة النهر...! ثم سرعان ما استبدل الكلمة بكلمة: عمارات...، كان سمعها من الزوار، وقد أربكته، فاستبدلها بكلمة: ناطحات السحاب!  فوجد فمه ينفتح عن ضحكات متتالية، من غير سبب محدد، فهي بمثابة شقوق عمودية، مثل فنارات...، ترتفع عاليا ً، لا أكثر ولا اقل. معترضا ً: لكنها حادة، مستقيمة، وغير متعرجة، وليست غائرة. فهي لا تقارن بفتحة المغارة: بيتي! وانفجر بقهقهة متوترة أدت به للشعور باتساع الفراغ: إنها عمارات شبيهة بالقصور التي كان يراها تمتد عبر ساحل النهر...؛ قصور الأثرياء! وهدأ من روعه قائلا ً انه لم يعد هناك أغنياء أو فقراء...، فقد كان ذلك قبل الطوفان الأعظم ...، إنما هي، دار بخلده، هياكل معمارية شبيهة بما حكاه جده له عن منازل الصالحين في العالم الآخر. آ .....، وما شأني أنا بالتقسيمات، والفوارق، والاختلافات، إن كانت للأغنياء أو للشحاذين، إن كانت في عالمنا أو في العالم الآخر...، فإنها ليست إلا تصوّرات قلب يعمل بعشوائية!
ـ انك لم تعد ترى حتى الشق الذي طالما جذبك، ولفت حواسك، وانجذبت له شارد البال....
ـ من أنت....؟
ـ أنا هو أنت الذي لا هو داخل الحفرة ولا خارجها!
ـ آ ....، عرفتك! هو أنت جدي ...، جدي الأعظم، الذي طالما سمع عن أسلافه إن حفيدا ً سيأتي ليساوي بين الشقوق والحفر والجداول ...، الولد البار الذي سيردم العثرات ويضع حدا ً للنهب والسلب والقتل!
ـ اسكت! فالحرب لم تنه بعد، لأنك لم تعد ترى سوى الخراب والأنقاض والتصدعات!
    شعر أن جسده يتخلى عنه، وانه غدا خارجه، الم ْ يصغ عميقا ً لجداته الصالحات وهن يقصصن له كيف تخرج الروح وتحوّم فوق جسدها ثم تغيب ولا ترجع أبدا ً إلا عندما لا تجد مكانا ً لها  لترقد مرة ثانية في المكان الذي غادرته! وعاد يتخيل الشق مثل حدقة عين ظبية، لكن من غير بؤبؤ، بعد أن أزال الشعرة التي قسمت الشق وشطرته إلى يسار والى يمين، ليراه تحول إلى فم شبيه بفم ضفدعة كبيرة تحدق مذعورة في السماء. كتم فزعه لأنه سمع نقيقا ً تخللته حشرجات كصرير أبواب خشبية عتيقة...، وشاهد آلاف الأفواه متراصة بدت له مثل وجود فئران مذعورة جمدها البرد أو صعقت بتيار قاتل فمنعها من الحركة. سمع أنينا ً مكتوما، وأصوات آلات ومكائن ينبثق من أفواه الضفادع، والفئران، وقد استحالت إلى فوهات شبيه بفوهات البنادق التي طالما استخدمت في الحرب الأخيرة، وفي الحروب السابقة، ولكنه سمعها تصمت، بعد أن استحالت إلى  أشكال لا حافات لها، فضحك متندرا ً من اللا حافات في وجودها مقيدة بهيآت لم يرها من قبل، فالصوت راح يرتد، ثم يقفز، ليجد انه تعثر بالثالث، والرابع، بعد أن تداخلت المقدمات بنهاياتها. فلم يعد يرى مثلثا ً رأسه إلى الأعلى، ولا مثلثا ً رأسه إلى الأسفل، ولم يعد يتجه إلى اليمين، ولا إلى اليسار: وجوه ضفادع، أو فئران، أو فوهات بنادق آلية ، صماء،  بدت تتخذ شكلا ً بيضويا ً. فلذ ّ له أن يمد أصابعه الناعمة ويتلمس الشق.  
ـ ابتعد ...، كن حذرا ً، فماذا تفعل؟
     تجمد، وتخيّل جسده يتصلب، وقد تحول إلى كتلة من صلصال، لولا انه سمع همسا ً رقيقا ً، ناعما ً:
ـ بهدوء، وليس بقسوة!
   مد أصابعه وتركها تغوص:
ـ ماذا تفعل، الم اطلب منك أن تكون لينا ً، سلسلا ً....؟
   وارتفع الصوت يدوي في رأسه:
ـ كن رقيقا ً.
     غابت ناطحات السحاب، وغاب الشق، منشغلا ً باستنشاق رائحة بذور وصوف وقشور ملأته حتى وجد جسده مسترخيا ً وممددا ً فوق العشب تماما ً:
ـ آوووووه.
    فاقترب نورس يتعثر في خطاه، وسأله:
ـ أيها الحكيم ...
     رفع رأسه ليرى إن كان الآخر يتحدث معه أو مع آخر سواه:
ـ معي إذا ً...؟
      ودار بباله: وليس مع احد غيري. أجاب النورس:
ـ لم نرك منذ زمن بعيد ....؟
ـ وأنا أيضا ً لم يسعدني الحظ برؤيتكم!
    اقترب النورس منه قليلا ً:
ـ يبدو انك خرجت للاستمتاع بأشعة الشمس في هذا اليوم البارد الحزين..، أم انك ضجرت من ظلام المغارة وعفن رائحتها...؟
    لم يجب.  فعاد النورس إلى الكلام:
ـ على أية حال، من الصعب البقاء وحيدا ً داخل الجدران، وأنت خلقت كي تتمتع بالحياة، لا أن تركلها!
   لم يجب أيضا ً. فسأله بصوت متوتر:
ـ هل أتركك كي تستمتع بوحدتك، وعزلتك هذه ...؟
ـ هذا أفضل...، لو سمحت!
ـ ولكنهم أرسلوني كي اعرف ما إذا كنت...
   فرد بغموض:
ـ ألا تراني ...، أتأمل ما آلت إليه حياتي...
ـ  وما آلت له ....، وأنت وحيد في العراء، تحت هذه الغيوم...، أم أنا  أرى كائنا ً آخر غير الذي عرفته...؟
ـ لا أنت تراني أنا نفسي...
ـ ماذا تقصد....؟
   رد الأرنب:
ـ خرجت من الحفرة، وأنا لا اعرف ماذا اعمل خارجها، فقلت إذا دخلت فماذا افعل في داخلها، فقلت: يا لها من محنة...، ثم فجأة لم تعد هناك محنة، فقد انشغلت بتأمل الشق الذي ضاع ولم أجده كي يسمح لي بالدخول من المكان الذي خرجت منه!
ـ ها، ها، ها....، ظننت انك ضجرت من نفسك!
ـ لا...، ولم الشعور من الضجر..؟
ـ  على اية حال، يبدو انك لا تفكر بمغادرة حفرتك؟
ـ ها، هل تصدق إنني الآن لا اعرف كيف ادخلها..! فمنذ وقت وأنا حائر ....، متى خرجت...، والآن لا اعرف ماذا افعل ..؟
ـ دعك من الحفرة.
ـ  ليس من الحفرة...، بل من هذا الحد الفاصل الذي سد الباب علي ّ. فلم تعد هناك فتحة، أو نافذة، أو حتى ثقبا ً يسمح لي بالعودة...
ـ أي حد....؟
ـ انظر....، ألا ترى فتحة الحفرة ..؟
ـ لا ... أنا لا أراها.
ـ وأنا أيضا ً قلت لنفسي: كان الأمر وهما ً، أو شيئا ً كالوهم...؟
ـ صدقني...، لقد أرسلوني كي ترجع لتعمل معنا!
ـ من أرسلك؟
ـ هم!
ـ آ ...، فهمت، ولكن هل هناك ما يمكن عمله...؟
ـ قالوا: إذا كان اللا عمل هو الذي أفضى بما إلى هذا الوضع، فلماذا لا نجرب العودة إلى العمل!
  هز رأسه وراح يقهقه:
ـ هل تسخر مني...؟
ـ لا ..، أبدا ً..، فانا جادّ ملتزم! ثم لماذا تعتقد إن العمل رذيلة؟
ـ وهل قلت إن اللا عمل حسنة؟
ـ أووو....، لم تتغير...، في المرة السابقة قلت لك: انظر... لقد أعادونا إلى عصور الكهوف، والبراري، والى أزمنة المستنقعات، فقلت لي: وهل كنا ذهبنا ابعد منها؟  والآن اطلب منك أن تشاركنا العمل .. فتسكت!
ـ أنا لم اسكت...، لكنك ترى إنني ما انطق الصوت الأول حتى أراها يتراجع ليزحف نحو الصوت الخامس فتضيع الأصوات علي ّ وكأنني لم أغادر المصح، وإنني مازلت ارقد هناك في ظلمات السرداب، تحت وأنا اجهل أولدت أم مت أم إنني مازالت بينهما ...؟
ـ آه ...، كان هذا من الماضي السحيق....، أما الآن فان العزلة تؤذيك!
ـ بالأمس جاء السيد الغراب وعرض علي ّ خطة للنهوض بجناح المواشي، فسألته: ما الذي تغير.....؟ فلم يجب. والآن تطلب مني الشروع بالعمل ....، على تغيير جناح الأسماك ...، فما الذي تغير...؟ حسنا ً ما الذي حدث...؟
ـ آ ...، كأنك لا تريد أن تتغير، وكأن تلك الجرثومة التي طالما تحدثت عنها قد وجدت مأواه داخل رأسك العنيد؟
ـ أية جرثومة، يا سيدي النورس، تتحدث عنها، وليس باستطاعتي القول إلا إنني أصبحت ظلها! وليس لغزها العنيد.
وأضاف:
ـ عندما اقترحوا علي ّ أن اشرف على تطوير مشروع الغابات، والجداول، فرحت! وما أن بدأت بالعمل، حتى وجدت مصيري معلقا ً بالحبل! فأعادوني إلى زمن السراديب!  لأنهم قالوا لي: خذ ما تشاء.... ودعك من المباشرة بالعمل!
ـ آ ....، كان هذا قبل الطوفان.....، وقبل التغيير...؟
ـ والآن...، وغدا ً، مثلما كان بالأمس، وقبل الأمس...، سألك: ما الذي تغير...، وانتم تعرفون إنني لم اكسب سوى هذا الثقب، سوى هذه الحفرة.....، وسوى هذا الشق الذي لم اعد أراه....، فهل ضاع، أم غاب، أم سرقوه، أم لا وجود له في الأصل...؟
ـ لا...، انه موجود! وأنا بنفسي سأدلك عليه شرط... موافقتك حضور الاجتماع والإصغاء إلى برنامج عملنا بإنقاذ هذه الحديقة؟
ـ  لا تدعني استيقظ....، لا تدعني أفيق، لا تدعني أصحو، لا تدعني أغادر حفرتي...، فانا لا أريد أن افقد هذا الكنز..!
ـ اللا شيء؟
ـ هكذا سنختلف...، ونتصادم، ويذبح احدنا الآخر....،  أنت تتحدث عن شيء...، وأنا أتحدث عن شيء آخر.
ـ أنت تتحدث عن اللا شيء، أم أنا فأتحدث عن أشياء!
ـ دعني ابحث عن الشق الذي غاب! فان وجدته فسأتخذ قراري....
ـ دعنا نبحث...، أين كان موقعه؟
ـ هنا...، فبعد ان لم يعد لدي ّ ما افعله، وأصبحت وحيدا ً، رحت احفر....، لأنني قلت: لا يصح ان أبقى من غير عملً...، فحفرت حفرة لا تتسع إلا لجسدي، من غير بذخ، أو رفاهية! حفرة لا تتسع إلا لأحلامي! فهل أذنبت، أم ارتكبت خطيئة، أم فسقت، أم خالفت الأعراف، أم تذمرت.....؟  حفرة ملأتها بالقش، والورود، والريش، والقشور....، وببعض البذور، ورحت أغط في سبات عميق، وقد أصبحت لا اعرف من يتسلى بالآخر، هل هي الحياة أم أنا هو من راح يجد فيها مثل هذه السلوى...؟
ـ ها، كأنك تتحدث عن الفردوس؟
ـ  عن أي فردوس تتحدث، يا صديقي القديم، صديق الضفاف، والشواطئ، والشمس....، وأنا لا أتحدث إلا عن حفرة بحجم أحلام رجل يحتضر، وعن حفرة من غير شق؟
ـ  كنت أظن انك تحلم؟
    فصاح الأرنب فجأة:
ـ من أرسلك....، اخبرني، وماذا تريد مني؟
ـ الذي أرسلك هو الذي أرسلني...، وما يطلبونه منك هو الذي تطلبه منهم...، فلماذا نختلف؟
ـ قلت لك: كانت لدي ّ، قبل قليل، حفرة اسكنها،  والان...، كأنها توارت...، ام كأنكم سرقتكم حفرتي...؟
ـ ولماذا نسرقها.....، ام تظن انها منحت لك الى الابد...؟
ـ ها أنت تفصح عن نواياك، عن سرك، لأنك في الواقع لم تأت من اجل العمل...، كي تدعني لا اعمل! فأنت أضعت على الشق نفسه الذي طالما كنت أتسلى ...، أو هو الذي كان يتسلى بي؟
ـ أي شق...؟
ـ هذا الذي كنا خرجنا منه...، فأين اذهب الآن إن لم أجده...؟
ـ أنت تذكرني بحكاية الأسد الذي استولى على مغارة الجرذان...، وراح يزأر: أين عريني؟ فضحكت الجرذان منه حتى ماتت من الضحك!
ـ لم افهم شيئا ً.
ـ  لأن السيد الأسد طرد من مغارة الجرذان ذاتها بعد ان كان قد تخلى عن عرينه!
ـ وهل أنا فعلت الأمر نفسه...؟    هز النورس رأسه، فقال الأرنب:
ـ اسمع...، كانت البسالة لها معنى، اقصد كان للموت معناه، قبل الطوفان، فكنا نذهب ولا نرجع، من غير تذمر، أو تردد، أو خوف...، ثم حل الطوفان...، فكنا نقاوم السيول، والرعد، والأمطار، ونموت بشهامة وببسالة وبلا ذعر وبلا عويل ...، فكنا نعرف ماذا كنا نعمل، وكان من لا يعمل يساق إلى العمل، فلا احد باستطاعته التحايل، أو الخداع أو التمويه....، ثم حل العصر الذي مازالت سنواته تمتد...، وتمتد...، فلا احد يرغب ان يصبح  بطلا ً، ولا احد يرغب ان يكون باسلا ً...، فلا احد يكترث للهزيمة، فان متنا أو لم نمت فالقضية أو المعضلة لم تعد مثار جدل، أو اعتراض!
ـ ها أنت تبدو كمن أضاع عقله؟
ـ ها، سيدي، لو كان لي عقل، لعرفت كيف استخدمه وليس كيف ادعه يضيع؟
ـ كأنك لم تكن معنا تشاركنا الصولات...؟
ـ نعم، كنت...، فانا كنت واحدا ً منكم...، ولم أكن واحدا ً من كوكب آخر....
ـ وكأنك لم تنل وسام المجد الأعلى ...
ـ وهل نفيت أو نكرت أو تجاهلت الأمر...، فانا كنت معكم في ...
ـ فماذا حدث إذا ً....؟
ـ الذي حدث...، أيها النورس، إنني لم اعد أرى الشق الذي خرجت منه، وهذه هي المعضلة!
ـ دعك من الشق، ودعك من المعضلة...، فليس كل من يخرج منها يتحتم عليه العودة إليها...، وليس كل من يدخل يسمح له بالخروج! إنها حتميات أو احتمالات أو مصادفات لها قوانينها وأنت ـ مثلي ـ لا تمتلك إلا أن تكون جزء ا ً منها.
ـ ها أنت تذكرني بالذئب الذي فضل العيش وحيدا ً في مغارته...، فاضرب عن الصيد، بل حتى انه أبى أن يشارك القطيع طعامه...، حتى قيل انه عاش غير مكترث بالبحث عن الذي شغلنا، واكتفى بالهواء والماء والتغذي على الأعشاب، والتبن!  وقد ذاعت شهرته كأعظم حكماء البرية، منشغلا ً بقراءة الكواكب، وفك رموز الليل والنهار، عالما ً بالريح والأمطار والجفاف والفصول....، وشاء أمير الصحراء أن يرد العدوان عنا ...، فنصحوه بالذهاب إليه، كي يقود الحرب. اعتذر الذئب العجوز واخبره بأنه لا يمتلك من الدنيا غير ما لا ينفع احد ولا يضره!  فقد تساوت عنده الهزائم بالانتصارات، والخسائر بالأرباح، والأحزان بالمسرة...، لكن أمير الصحراء أصر أن يتولى قيادة الجيش، وإدارة الحرب...، فلم يجد وسيلة للاعتذار، أو حسن التخلص من أوامر الأمير، بالهرب، والنجاة، فاضطر إلى تحمل المسؤولية حتى اختتمها بالنصر المؤزر كما يقال، ونال ـ لدى الأمير، أرقى الجوائز والأوسمة وآيات الثناء. ثم مات أمير الصحراء، فخلفه ولده الأعرج الأعور الاثول المشهور بالخسة والسرقة والتجسس والدناءة...، على عرش الصحراء، فلم يأمر بإعادة الذئب العجوز إلى مغارته، بل الذهاب للعمل مع النعاج، واليرابيع، والفئران! فقال الذئب الحكيم مع نفسه: كنت اعرف أنني سأخسر الهواء والماء وعزلتي، ولن يسمح لي حتى بربح ما فقدته، وما خسرته، وما صار بحكم التراب! فما معنى الحكمة عندما لا يكون الحكيم فيها لا يمتلك شيئا ً من أرادته، ولا ظلها؟
ـ ولكننا لا نطلب منك أن تكون زعيما ً، ولا قائدا ً...، ولا حتى مسؤول جناح....!
ـ ماذا تريدون مني...؟
ـ نريد أن لا تفقد حفرتك...!
ـ وها أنا فقدتها، بل وفقدت بابها أيضا ً!
ـ يا صديقي العجوز...، الحفرة في الأرض، والأرض كلها حفرة، فهل يصح اتهامنا بأننا سرقتنا حفرتك؟
    رفع رأسه وقال بصوت مذعور، متلعثم:
ـ حتى أني لا أرى أثرا ً لها!
ـ ألا ترى هذا الشق...، كم واسع هو...، شق هذه الأرض؟
ـ هذا .. وحده .. هو الذي يراني، ولا أراه! فانا اعرف إن الحديقة تراني...،مثلما السماء تبصر، ولكنني لم اعد استطيع رؤية فتحة الحفرة التي أمضيت حياتي فيها ...
ـ لم تتغير؟
ـ الم ْ أسألك: ما الذي حدث...، وما الذي تغير...، غير إن الماضي يتابع محو ما دوّنه ماضيه السحيق!أو قل يكمله!
ـ وأنا قلت لك: العزلة تضر بك، وتسبب لك الأسى، والحزن.
ـ آ ....، علي ّ أن افهم، إن الموت معكم لا يشبه الموت مع نفسي...، فالموت وحيدا ً مع نفسي اقل درجة من الموت معكم...، مع إن الموت معكم لا يختلف عن موتي وحيدا ً مع نفسي!
ـ كان عليك أن تقول: إن المشي معنا غير أن تمشي وحيدا ً حتى من غير نفسك؟
ـ وهل كنت وحيدا ً...؟
متمتما ً بشرود:
ـ يبدو إنني لم أكن حتى مع نفسي...، وإلا أين اختفت الحفرة، وأين اختفى شقها...؟
ـ ها أنت تدرك عمق المعضلة، ولغز حقيقتها؟
ـ بل أنا أدركت حقيقة اللغز!
ـ كأنك لا تريد أن يكون لموتك معنى...؟
ـ لا....، لأنني، يا صديقي، كنت أدركت، منذ زمن بعيد، لا معنى موتي معكم، ولا معنى لموتكم مع موتي...، والآن أدرك تماما ً لا معنى موتي مع نفسي، ففي المرة الأولى انجذبت إليكم من غير إرادة...، وفي المرة الثانية تركت موتي يمشي أمامي كي أتتبع خطاه....، فكانت الحصيلة إنني خسرت  ما كان يمكن عدم خسارته، وفي المرة الأخيرة لم اربح حتى هذا الذي من المستحيل أن تجد له أثرا ً، كي تجد له معنى!
26/1/2016
    Az4445363@gmail.com





هل الإسلام هو سر تخلف المسلمين؟-سيد القمني



هل الإسلام هو سر تخلف المسلمين؟

   

سيد القمني
 
السؤال جد هام ، وأيضا جد حساس ، لكنه سؤال مطروح الآن بقوة في كل الدراسات الشرقية ، وعلينا أن نطرحه أيضا على أنفسنا بهدوء نركن فيه إلى جانب العقل قبل القلب ، وقبل النقل ، وأن يكون هدف الإجابة ليس الانتصار للإسلام أو الانتقاص منه ، أن يكون الهدف هو مصلحة البلاد والعباد في زمن نتأرجح فيه على أرجوحة يقف إسلامنا في جانبنا على طرفها فوق جرف هار بلا قاع ، وعلى الطرف الآخر تقف بكل ثقلها حضارة الإنسان المدني الحديث ، قد تهتز باهتزازنا ، قد تتمسك بطرفه لكيلا نسقط في قاع التاريخ المنسي ، لكنها لن تستمر كذلك طويلا دون جهد مضاعف من جانبنا للحؤول دون السقوط في ثقب التاريخ الأسود.

وللمباشرة والدخول إلى صلب الموضوع يمكن طرح السؤال ببساطة :

هل تخلفنا الذي يتندر به الركبان هو تخلف معرفي حضاري أم هو تخلف ديني ؟

سيجيبنا أهل الدين كعادتهم المتعجلة في الإجابة للوقوع في الفخاخ ، إن تخلفنا يعود إلى نقص شاب إيمان المسلمين ، مما أدى إلى تخلي ربهم عنهم ، وأخلص الأمريكان للصليب ويسوع فنصرهم ، وهكذا تبدو الدنيا وفق هذه الرؤية كما لو كنا زمن آلهة جبل الأوليمب وأساطير الأدويسة والإلياذة ، وهي قفزة هائلة إلى بطن الخرافة وارتداد نحو الأسطورة في التفسير ، والعجيب أن هذا التفسير لتخلف المسلمين هو ما يروجه رجال دين المسلمين عبر كل الوسائل الإعلامية والدينية.

وما يفوت المشايخ وهم يطرحون رأيهم في أسباب التخلف تأثيما للناس وتذنيبا ، أنهم هم المسئول الأول عن الدين الإسلامي طوال تاريخه ، وأنهم يدعون حتى الآن أنهم المسئول عن الإسلام في الأرض ، وممن ثم فإذا حدث التخلف في الجانب الديني فإنهم سيكونون هم المسئول الأول عن هذا التخلف ، ومن ثم لن يمكن استمرار الثقة بهم بعد تخلف دام عشرة آلاف عام. لم يرعوا فيها دين الله حق رعايته التي حملوا مسئوليتها. فإن ردوا علينا أنهم لا سيطرة لهم على الإيمان داخل نفوس المؤمنين فهي منطقة ضمير حرة ، قلنا لهم : قلتم قولة حق ، لكنكم أيضا كنتم حراس الإيمان والمفتشين في الضمائر والحاكمين على الناس والمنفذين الأحكام حتى هذا اليوم ، ويكفي للقارئ إلقاء نظرة واحدة على ملخص أعمال معهد البحوث الأزهري لعام 2004 وحده ليعرف عدد من أمسكهم هذا المعهد بتهم تتعلق جميعا بصدق الإيمان.

ولأنهم كانوا القاضي والخصم والحكم والجلاد عبر التاريخ حماية لهذا الدين ، ولأنهم يزعمون أن تخلف المسلمين بسبب ابتعاد المسلمين عن دينهم ، ولأنهم كانوا المسئول طوال التاريخ عن الدين في الأرض ، فإن من قصر في حق دينه كل هذا التقصير لم يعد مؤتمنا على الدين ولا على الوطن ولا على الناس.

لا مخرج لمشايخنا من هذا الفخ التاريخي إلا الاعتراف للناس بصدق الإيمان ، وسحبهم كل تكفيراتهم وتأثيمهم للمسلمين البسطاء الذين لم يتربحوا بهذا الإسلام لا اليوم ولا أمس ، ولم يقبضوا الهبات والأموال والصدقات والزكاة والرضي السلطاني ليحافظوا عليه. حافظوا عليه فقط لإنه دينهم وجزء عظيم من ثقافتهم وهويتهم ، حافظوا عليه وهم يأكلون الفقر والفقر يأكلهم ، ولأنهم ببساطة يحبون دينهم ويرفضون التخلي عنه.

وبعد هذا الاعتراف والسحب عليهم الاعتراف أن تخلفنا هو في الجانب العلمي المعرفي الحضاري ، وهنا وبعد الاعتراف والسحب عليهم الانسحاب ، لأنه لا مجال لرجال الدين في البحث العلمي في مختلف العلوم ، بل هو مجال الفلاسفة وعلماء الاجتماع والتاريخ والرياضيات والفيزياء والكيمياء ، وهذه علوم خارج نطاق الدين ولا يفهمها رجاله ، لأنهم حتى اليوم يعيشون زمن القرن العاشر الميلادي يأسرون الأمة كلها داخل أسواره ، ويريدون أن يدخلوا في منافسة حضارية مع أمم تعيش في القرن الحادي والعشرين ؟ إنكم سادتي خارج المنافسة.

فهل يبدو من ذلك أن الإسلام هو الذي أدى إلى تخلف الأمة ؟ إن السؤال هنا يغفل تقدم الأمة الإسلامية خلال القرون الأربعة الأول. إذن الإسلام ليس سبب التخلف !!

لكن إذا كان ذلك كذلك وأنه دين تحضر فلماذا نحن اليوم متخلفون؟

يبدو أن هناك أختلاطا ما في المسألة يؤدي إلى التباسها ، هو أن الدين في حد ذاته كدين ليس طرفا في الموضوع ، إنما هو خارج اللعبة وبرئ من التخلف كما هو برئ من التقدم. وأن الإسلام كدين في حد ذاته لم يكن عنصرا في إنجازات الرازي والفارابي وابن الهيثم ، وليس عنصرا في اختفاء العلماء من بلادنا منذ هذه الكوكبة اليتيمة التي نستدعيها نندب عليها حضارتنا الموؤدة دفاعا عن الإسلام والإسلام منها برئ. فبالإسلام نفسه تقدمت دول أخرى في شرقي آسيا أطلقوا عليها لفورتها القاطرة نحو قطار الحضارة باسم النمور الآسيوية. . وبالإسلام نفسه تعيش بقية دول المسلمين في مؤخرة الأمم.

إن المشكلة ليست في الدين ولا في أي دين. لكنها في كيفية استثمار هذا الدين ، فهناك من استثمره في التقدم ، ومنه من يستثمره في التخلف.

هناك من احترم الدين فصانه بعيدا عن آلاعيب السياسة ودسائس المشايخ والسلاطين ، وهناك من مازال يستثمره حفاظا على خط فكري نظري واحد ليظل سيد الموقف في كل شأن وكل أمر ، وهو موقف لا تشغله الأمة ولا الناس ولا الدين بقدر ما تشغله سيادته وسيطرته على العقل المسلم واستمرار هذه السيادة السلطوية المستمدة من تعبد الناس.

إنه الموقف الذي يمثله كل مشتغل بالإسلام مهنة ومصدرا للربح ، والذين يمكنهم تشكيل وعي الناس وفق الرغبات السلطانية والسلطوية. وهو الوعي الذي يتم وفق رؤية بعينها واحدة لا صح سواها ، يزعمون أنها هي صحيح الإسلام وغيرها كافر آثم ، مما لم يعط فرصة للرأي الآخر يوما بالظهور ، لذلك لم تظهر معارضة في تاريخ المسلمين ، وإن ظهرت فكانت وسيلتها الأيديولوجية قراءة أخرى لنفس الإسلام ، لكن هؤلاء غالبا ما انتهى أمرهم في التاريخ الإسلامي في مجتمع لا يعرف سوى فرقة واحدة هي الناجية.

ها قد عثرنا على سبب أول يرتبط بالإسلام :

انعدام وجود رأي آخر يؤدي إلى جدل مثر ونقاش حول الدين وحول الحياة لتفرز جديدها ، كما حدث عندما اختلف المسيحيون الأوائل في تفسيرات الإنجيل ، وحول الذات والروح القدس ، فاجتمع المختلفون في مجامع اعتمدت على قوة حجة المتعارضين ، لينتهي الأمر بقرار يتفق علية الأغلبية ، لتظهر خلافات جديدة لتعقد مجامع جديدة ، وهكذا كان مجمع نيقية ومجمع خلقدونية ومجمع أفسس. . إلخ. كانت هذه بقايا ثقافة اليونان والرومان ، أما على الجانب الإسلامي فكان أول مجمع وآخر مجمع هو مجمع سقيفة بني ساعدة التي تقرر فيها شأن الفهم الإسلامي السائد سياسيا ودينيا وغيره باطل الأباطيل.

ودخل هذا الفهم محنا حتى استتب له الأمر مرورا بحروب أهلية طاحنة بدأت بحروب الردة وليس انتهاء بكربلاء ، فظلت المنطقة الممنوعة المقموعة تظهر عبر التاريخ بقوة ثم لا يلبث أن يتم قمعها وإبادة أصحابها من الزنج إلى الحشاشين إلى القرامطة وغيرهم لم يبق منه جميعا غير المبدأ الخليفي القبلي الأول سائدا لا يقبل منافسة من سواه ، بزعم أنه صحيح الإسلام كما يريده الله ، كما لو كانوا قد عرجوا للسماء واستمعوا هناك إلى كل التفاصيل العجيبة التي دونوها في فقههم وتحليلاتهم وتحريماتهم وتفسيراتهم وفتاواهم من فهم الله نفسه ، وأنه قد خصهم بالفهم دون غيرهم.

ولأن المسيحية من فجرها حدثت ناس زمنها بلغتهم ومفاهيمهم فأعطت ما لقيصر لقيصر وما لله لله فصلا للسلطات ، قياما على مأثور يوناني مازالت مبادئ الديمقراطية لها فيه روائح.

فإن منظومة الخلافة الإسلامية المسربلة بالدين وحلف رجاله المحترفين كانت هي نموذج الدمج الكامل للسلطات دينية ودنيوية ، باحتساب النبي الذي حاز كل السلطات بيديه في دولته الناشئة ، نموذجا سنيا للحكم بحاكم مطلق السلطات والنفوذ وبرأي ديني واحد مطلق السيادة ، غير مفرقين ما بين النبي كنبي أوحد خاتم النبيين ، وبين ذواتهم كوارثين للنبوة والتي لا تورث.

يبدو أن سبب التخلف في النهاية هم رجال الدين أنفسهم مع حلفهم الانتهاري عبر التاريخ ، ثم ألا يبدو خطابهم اليوم خطابا يعود للقرون الوسطى إذا ما قورن بلغة الحداثة اليوم؟

تعالوا نقارن : في الوقت الذي يتحدث فيه العالم عن الفصل بين السلطات ، يتحدث مشايخنا – أجلك الله – عن الدمج الكامل للسلطات الدينية والدنيوية في دولة مسلمة.

في الوقت الذي يتكلم في العالم عن الحرية وحق التفكير والإبداع والإعلان عن الرأي المخالف بحماية الدولة ، يتحدث مشايخنا عن الخطوط الحمراء للأمة وثوابتها التليدة.

في الوقت الذي يتكلم في العالم لغة العلم والمدنية والحضارة نتكلم نحن بفقه الأموات ولغة زمان مضى لا يريدون له أن يمضي.

في الوقت الذي يرفع فيه العالم كل القيود عن الحريات نتحدث نحن هنا حد الردة والخروج عن معلوم من الدين بالضرورة وعدم الاجتهاد مع نص.

في الوقت الذي يحكم فيه العالم على ما يكتب المفكر من منطق الحجة والبرهان ومدى المصلحة المتحققة من هذه الكتابة ، تحاكم مجامعنا المفكرين وتدينهم وتهدر دماءهم. وبالمناسبة أتذكر هنا أن المجمع المنوه عنه سبق وطالب مصادرة بعض أعمالي ، وتمت محاكمتي ، وتمت تبرئتي من تهمة الكفر (الازدراء بالأديان) والإفراج عن كتابي ، فإذا كانوا يؤكدون صحة الحديث النبوي : “من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها احدهما” ، فهل مع براءتي يكون الأزهر قد باء بها؟

وفي الوقت الذي تتحرك فيه الدنيا في وثبات عملاقة علميا واقتصاديا يدعو مشايخنا إلى الثبات ، لا بل إلى العودة إلى الخلق ، إلى الزمن النبوي حيث خير القرون وهو ما أدى لاحتقار المسلم لزماننا ورفضه له بكل حضارته ومنجزاته.

في الوقت الذي يصبح فيه علم التاريخ علما مخبريا يقوم على التدقيق بأجهزة وأدوات ومركبات كيميائية وتساعده الجيولوجيا والطبوغرافيا والآلسنيات والأركبولوجيا والأنثروبولوجيا لكي نصل إلى صدق وثيقة واحدة فواحدة لنرى التاريخ كما كان في زمانه قدر الإمكان. فإن مشايخنا يمنعون مثل هذا العمل في التاريخ الإسلامي ، ويرفضون تدقيقه ، ويجرمون وصف الآشياء بأسمائها الحقيقية ، بعد أن تم تزييف هذا التاريخ على المسلمين لصالح مذهب بعينة وفئة بذاتها هي الحاكمة وهي المتفقهة.

وفي الوقت الذي تفتح الدنيا أبوابها للنقد لأنه باب المستقبل ونافذة النور لإصلاح الشأن باستمرار نحو الأفضل بجميع ألوان النقد لذلك هي تتقدم ، فإن المسألة عندنا تقوم على مبدأ الستر وتجميل التاريخ الإسلامي ، والذب عنه ، وإحدى وسائل هذا الذب هو عدم كشف عواره ، وإن أي نقد سوف يصب في خانة العداء للإسلام.

وفي الوقت الذي تصبح فيه أعظم نظريات العلم الحديث من الماضي باكتشاف جديد ، ليتحول العالم كله نحو الكشف الجديد ، فإن مشايخنا يرون فهمهم للإسلام صالحا لكل مكان وزمان ، وأنهم المرجعية الدائمة في كل شأن من كيفية التغوط إلى كيفية إطلاق الصواريخ.

في الوقت الذي تبحث فيه الأمم عن أخطائها لإصلاحها أينما كانت فإن مشايخنا صنعوا للمسلمين وعيا لا يرى في نفسه عيبا كما لو كان الاعتراف بالخطأ كفرا ، والأنكى أنه يرى الدنيا كلها عيوبا وأنه الوحيد المنزه.

وفي الوقت الذي يتحرر فيه الفرد من كل قيود المجتمع أللهم إلا القانون الساري على الجميع على التساوي ، فإن مشايخنا يلزموننا السنة في كل سلوك أو بادرة تبدو منا أو قول نقول ، يلازموننا حياتنا الشخصية من الصباح حتى موعد الجماع ويدخلون معنا الكنيف وغرفة النوم. وقد زيد في هذه السنة المستحب عند الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ، حتى أصبح المسلم كالإنسان الآلي يردد طوال الوقت الأذكار والأدعية ، مما يدفعه في النهاية إلى حالة ذهان مرضي واضحة في شارعنا الإسلامي.

وفي الوقت الذي تجاوز فيه العالم فكرة الوطن بحدوده إلى عالمية الإنسانية بعولمة هي فرز زمانها الطبيعي ، فإننا خارج هذا كله ، بل نحن لم نصل بعد إلى مرحلة أسبق هي مرحلة المواطنة ، لأن مشايخنا لا يرون للمسلم وطنا سوى دينه وجماعته المتشرذمة من بلاد واق الواق إلى بلاد ماو الماو. فالإسلام هو الوطن وشعب الإسلام هو أي فرد مسلم في العالم. فتضيع الأوطان من المسلمين فيصبحون خارج الجغرافيا بعد أن أصبحوا خارج التاريخ.

وبينما تستفيد الشعوب من نكساتها وهزائمها في منافساتها الحضارية من أجل إصلاح الذات والتقدم على طريق المنافسة ، فإننا نلجأ في هزائمنا لنقف صفوفا وراء مشايخنا لنعلن الحروب في المساجد ضد الأعداء بالدعاء والتزام الطقوس إثباتا للرب أننا صالحون ، وأنه سينظر إلينا بشفقة ويسامحنا ويبرز للدنيا عجائبه فجأة ، فتزول أمريكا وإسرائيل وربما كل الشعوب المتحضرة لنبقى نحن أسيادا على المسكونة دون أن تحقق هذه الدعوات سوى مزيد من الخسائر والتخلف في الواقع ، لأن مشايخنا يجعلون التقدم ثمرة للصلاة والدعوات الصالحات التي قد تغفر الذنوب لكنها أبدا لا تأتي بأي تقدم.

ولو كان للصلاح والتقوى والدعاء الصادق أي دور في التقدم ، لكان سلفنا الصالح هم الأحق بصنع الصواريخ والمضادات الحيوية وهندسة الوراثة ، ولوصلنا إلى القمر ببركة دعاء الوالدين. إن الدعاء لتطهير النفس والصلاة للبعد عن الفحشاء والمنكر ، وليس لاكتشاف الذرة أو أسس الحضارة ، ولم يكونا يوما سببا في أي تقدم أو أي انتصار.

إن التقدم والتحضر هو شأن الإنسان وممكناته وإرادته وقدراته ، التقدم يقوم به عقل حر مطلقا من كل قيد ، لديه القدرة على رفض كل ما هو ضد قوانين العقل والكون ، وهو وحده القادر على إقامة التحضر ، والعقل يقول إن الأخذ بالحداثة والانغراس الفوري فيها هو الطريق إلى التحضر والتقدم.

يقول لنا مشايخنا – رحمك الله – إن المقصود مما يقوله أمثالي أن نعيش كأهل الغرب وانحلالهم الخلقي لكي تنهار أمتنا بتقليدهم ، كما لو كنا متقدمين حقا نخشى الانهيار ، وكما لو أن حياة أهل الغرب قد أدت إلى تخلفهم وانهيارهم.

ومن هذه الفكرة التي ترى الحداثة غزوا ثقافيا مقصودا منها ضرب أمتنا في دينها بعد أن أعاد الاستعمار تشكيل نفسه باستخدام أساليب جديدة ، أي فكرة أن الغرب صليبي يشن عليه حملة صليبية ، لا تفهم هل الغرب صليبي يميني متدين متطرف في تدينه ، أم أنه محل فجور وانحلال وإلحاد ؟


إذن لا علاقة للدين ولا الإيمان بتقدم أو تخلف ، إنما هناك دائما في وجود الجريمة من هو صاحب مصلحة مستفيد ، وهي جريمة تاريخية في حق أمة بكاملها جنى عليها رجال الدين المحترفين ، وكانوا طوال الوقت المسئولين عن الإسلام والمسلمين ، فكان حاميها طوال عشرة قرون هو حراميها.