السبت، 9 يناير 2016

سلام عليك باغتسال النهر-نجاح زهران


سلام  عليك باغتسال النهر

 أكتَب عن شظايا الروح
 تعالج صحوة الأفق باغتسال النهار
أكتب عن أهداب الجسد
عن تزاوج الحب للرقص
بلا رقم هو ارتوائنا بالحماسة
آه من خصوصية الذاكرة بلا ورق
و رائحة الرياحين تبكي
بـعروة الرفض
من أي كاسحة نبدل النبوءات
غباري تهجئته الحمى
و عيني على الزوايا
حلم يتشكل
بهشيم غيمة تضرب السماء
لدم يفتح الليل
ساهرا عند اختراق العادة
لجسد يتلألأ بستائر الرحمة
من كتاب زهد !!
هيّا أنتشي قبل بداية الفصول
 بمسرحية فيها كل ألأماني
تصفّق للمرايا التي تهز النبض
تفيض بالشك
بـ غضب على الاثارة
قلت :
أسترح قليلا  من تفاحتي
فقد أطلقت عليّ الموج .
قلت من أي زاد ضاقت خاصرتك
وانت تقضم ذنوبي
ناولني دفئا وقُبلة ترافقني
صندوق لعب تُريح أنفاسي
و قناديل تُنير لي أين طعامي
أيها الراوي أين كأس الخمر؟!
سلام عليك أيها الإنسان
فربما بدعائي ينير لك الحقل
هذا الحرف يحمل الحطب
قلت كما الحفاة لنا أعناق الجمر
نجمة تنفخ اللهب
 غيمة تَتْلو صلاتها على كتف الشمس
لمسرحية الشوارع الحمراء
دون سقف
لتصفّق الطواحين لما يكتبه الوقت
بوحشة المنافي
و أصابعي تخفق باغتسال النهر


نجاح زهران

الخميس، 31 ديسمبر 2015

عام جديد وسعيد لكل متابعين سومريننت


مسرح سدهارتا والسؤال الفلسفي، مسرحية نارفانا لحكيم حرب.- مؤيد داود البصام





مسرح


سدهارتا والسؤال الفلسفي، مسرحية  نارفانا لحكيم حرب.

                                                                                                  مؤيد داود البصام

         بقى السؤال الأبدي  الذي بحث عنه الإنسان، ( أين تكمن سعادته ؟(،  وشغل كافة الأنساق في الفنون والآداب والعلوم وفي كل المجالات التي أتيحت له فيها البحث والتقصي للوصول إلى الجواب لقرون عديدة، وظلت الإجابة التي لم يحصل عليها، تحمل تأريخ نضال الإنسان فكرياً وعمليا، فالرجل يبحث عن سعادته في المرأة والمرأة تبحث عن سعادتها في الرجل، العلماء يبحثون عن سعادة الإنسان في إخضاع الطبيعة لإرادتهم ، وبعضهم يرى سعادته في إخضاع ذاته وشهواته للعقل.. وهلم جرا... ولكن كل هذه الأنساق مهما تباعدت واختلفت فإنها تصب في منبع واحد، هو أين تكمن سعادة الإنسان ؟، حاولت الفلسفة أن تجيب عن هذا السؤال عبر عشرات الأسئلة التي انبثقت من السؤال الأول من دون أن تحظى بالإجابة، ورواية الكاتب الألماني هرمان هسه، ( سدهارتا ) واحد من هذه التساؤلات التي طرحها الفلاسفة والمفكرون على مدى قرون، أين تكمن سعادة الإنسان ؟ هذا السؤال وأسئلة أخرى، حملتها رواية ( سدهارتا..) ببعدها الفلسفي وبكل أبعاد الرؤية الفلسفية التي طرحتها، وقد جاء اطلاع كاتبها هرمان هسه على الفلسفة الهندية ومعايشته لروح الفلسفة الهندية عن قرب، وهضمه للحراك الفلسفي في عصره، كونه محسوبا على اليسار الأوروبي المعارض للفاشية والنازية، وذا رؤية وجودية للعلاقة بين الإنسان وذاته، حيث كان وقتها الجدل محتدماً بين فلسفة هيجل التي غزت أوروبا، وبين ظهور نقد المتأثرين بها، مما سمي باليسار الأوروبي، ففي الوقت الذي بنى هيجل فلسفته على أطروحات عقلية صرفة للوجود، كان كيركغارد ينطلق في معارضته من مقولته التي مثلت بداية الفكر الوجودي، الذي سوف يتأثر به الكثيرون ابتداء من مارسيل وسارتر وكامي وآخرون التي يقول فيها، ( الإنسان يختار وجوده، الحقيقة هي موضوع شخصي يعتمد على وجوده الشخصي)، وهو ما تناقشه رواية سدهارتا  سردياً، وتناقش هذا الموقف الذي يعبر عنه سورين كيركارد بالقول، ( عندما تفقد كل الأشياء تكون في قمة المأساة، في هذه الحالة تكون مستعداً للإيمان بالله) ،وكيركارد هنا يتفق مع الفكر والفلسفة البوذية والصوفية، وهو ما حاول هرمان هسه أن ينقله عبر بطله سدهارتا، ولكن يأتي التساؤل، كيف أستطاع مؤلف غربي أن يتماها وينجز تواصلا روحيا متوازيا مع الإعجاب بسحر الشرق، ويتحدث بروحيته، كما حدث مع الروائي الفرنسي اندريه جيد والشاعر الروسي بوشكين، والشاعر الألماني غوته الذي أعطى هرمان هسه دفعة معرفية للغوص في فلسفة الشرق وآخرون ظهروا متأثرين بروح الشرق في الغرب، ولكن تماهي هرمان فيه هذه الروح الشرقية في تساميها وبعدها عن المادي، ومن تتبع حياة هرمان يدلنا (إذا قلنا مجازاً ) على نوع التطابق الروحي بين حياة هرمان هسه، التي ابتدأها منذ بواكيرها بالاستقلال عن العائلة، عندما ترك البيت وبدأ حياته بالعمل بوظائف متعددة، واتخاذه البعد النقدي في رؤيته الفلسفية للواقع، مما أثرت على طبيعة تفكيره تجاه الكون والحياة والواقع، وفي دراسة نشرت في جريدة الدستور الأردنية للناقد الصديق ذو الاتجاهات الفلسفية مجدي ممدوح،  يتساءل فيها حول عدم نقد أدوارد سعيد لهرمان هسه من خلال الآليات التي فكك بها ادوارد الخطاب الامبريالي، إذ يكتب، (هل كان هسه بارعا في تقمصه الروح الشرقية حد التوحد؟ هل كان مخاتلا للحد الذي صرف أنظار سعيد عنه؟ يبدو الأمر كذلك.)، (20 كانون الأول 2011). تبدو قناعة مجدي ممدوح في تقمص هرمان هسه بروح الشرق متوافقة مع من يطالع رواية سدهارتا، ويطلع على أعمال هرمان الروائية، ( ذئب البوادي ولعبة الكرات الزجاجية ) يشعر بهذا النفس الشرقي الذي يتلبس هرمان هسه والروح الصوفية التي تستحوذ عليه، وهذا يذكرني في بداية السبعينيات من القرن الماضي، في تطابق الرؤية، إذ أهداني صديقي الفنان والموسيقي الرائع عبد الحميد حمام مجموعة من أعمال هرمان هسه الروائية، (وما زلت أحتفظ بها في مكتبتي)، كتب في الصفحة الأولى لرواية ذئب البوادي، (وجدتك في ثناياها وأحببت أن تكون عندك.) وهو ما يؤكد انطباع الناقد مجدي ممدوح أنه تقمص روح الشرق، ولم يعانقه اطلاعا ً من فوق.
النص والإعداد لرواية سدهارتا..
          إذا ما نظرنا إلى الإعداد الأولي لمسرحة رواية (سدهارتا) كما أعدها المخرج  حكيم حرب باسم (نيرفانا)، والتي قام بالتغيير والتحوير عملياً وليس سردياً، في كل مرة عرضت على خشبة المسرح، فقد رأيتها أكثر من مرة وفي كل عرض أجد شيئا ً جديدا ً، من خلال نظرة حكيم حرب التجريبية، واتخاذه الأسلوب التعبيري في الإعداد والإخراج، لأننا لو حللنا رواية هرمان هسه فسنجدها تقترب من التعبيرية وتتماها معها،  وهذا يؤشر لنا أن حكيم حرب حاول أن يجعل النص يتوافق مع رؤيته الفلسفية في الحياة، مكونا ً نصا ً يستقي من الأصل ويضيف رؤيته الخاصة، بإنتاج نصا ً مسرحيا ً، يحمل الدلالات والرموز التي أرادها هرمان هسه في روايته، وأضاف عليها حكيم شيئا ًمما يتذوقه كشرقي ليدعم النص بما يريد أن يجعله رؤية مشتركة، فجاءت أشعار المتصوفة الحلاج والشيرازي وابن الفارض وشعر محمود درويش ذات النفس الوجودي التي أضافها على النص، كونها رؤية صوفية تتوحد مع الفكر الوجودي في النظر إلى الواقع وعالم الشخصية الداخلي، مكملة للطابع الشرقي الذي حكم النص، وقد ساعدت رؤية حكيم للمسرح ضمن مفهوم  التجريب أكثر منه للتكريس إلى أبعادها عن الايقونية، من خلال فهمه لما يعنيه المسرح في العصر الحاضر والرؤية الحداثوية في تمثل كل الأنساق دون الوقوف على نسق واحد، فالعالم شئ متجدد لا يمكن اللحاق بما يحدث فيه، ولكن هذا لا يعني أنه خرق الجدار بينه وبين هرمان هسه، فروح هرمان هسه كانت متواجدة في كل العروض، وهذا هو المهم فهو لم يغير وإنما أضاف رؤية معاصرة على رؤية هرمان هسه الشرقية، فقد جعل العرض لوحات متعددة، تكاد أن تكون مستقلة، ولكن يوحدها البطل وهمومه مجسداً جوهر الأشياء دون إظهار خارجها، ليصل في النهاية لتجميع الخطوط، فقد بني العمل على شخصية محورية هي (سدهارتا)، التي تمر بأزمة نفسية وعاطفية، فهو ابن عائلة براهيمية ودرس وتعلم البراهيمية، ولكنه يصل إلى اللحظة التي يجد نفسه مستهلكا ولم يصل إلى شئ، فيتمرد ليبحث عن عالمه في البوذية أو في عالم التصوف على طريقة السامانا، بترك كل الملذات الحسية والعيش بتقشف وزهد، وكذلك يجد أنها لم توصله لما يريد، فيذهب بنفسه للبحث عن وجوده من خلال تجربته الذاتية بمعايشة الواقع والاستمتاع بالملذات الحسية، لكنه يجد أن هذا العالم لم يعطه ما أراد، ليعود إلى النهر من جديد يستقي منه قوة الاندفاع والحركة للتغيير والتبدل، وروح الحياة الدائمة الوجود، وكما ينمي النهر النبات وكل الأحياء فانه يكتشف بابنه الذي خلفه من الراقصة كمالا استمرار للحياة وتدفقها في علاقة الحب بين الأنا والآخر. وهذا هو التمازج بين رؤية هيجل للعالم على  أسس ديالكتيكية، في تغير الأشياء حسب وقتها، كما يتغير الإحساس بماء النهر في كل مرة ننزل إليه، مع رؤية كيركارد بعلاقة التواصل بين الإنسان وذاته، وهو ما يؤشر على الرحلة مابين خارج النفس البشرية وداخلها، إن رحلة هرمان هسه في (سدهارتا) رحلة الروح إلى عالم القيم والأخلاق، ومغادرة عالم الغرب التواق إلى المادة فقط. .  .
الإخراج والتمثيل...
          لم تخرج الرؤية الإخراجية عن روح النص ( الهرماني) وفي كل الإضافات في الحركة والسينوغرافيا، كان هناك تأكيد على إنضاج العرض من دون أن يحدث تغييرا يسقط نصا ً مغايرا ً، فقد حافظ على عملية التواصل الفكرية للغة العرض المسرحي، موجدا حيزا من التواصل بتأكيد أهمية العرض البصري المسرحي، وهذا ما حاول أن يقدمه لنا عبر متابعة والسينوغرافيا في تأثيرها على النص الأدبي، بنقل الحدث إلى داخل قاعة العرض باستخدام جسر ممتد من نهاية قاعة العرض إلى بداية خشبة المسرح، الذي تحرك عليه سدهارتا بالذات للإعلان عن رحلاته أو عودته من رحلاته، محققا تواصل واندماج بين الجمهور وخشبة العرض، إن النزعة التجريبية التي قدمها الإخراج في المزاوجة بين الأساليب والمناهج المتنوعة، فقد دمج المنهج التعبيري الذي صاغ بناء العرض المسرحي عليه، مع الرمزية والتجريدية،  وأستطاع أن يقدم لنا الممثل حكيم حرب الذي مثل دور البطل سدهارتا في أطواره المختلفة،  بحالته النفسية القلقة والروح المتمردة والمترددة المتسمة بذاك الهدوء والطاعة الذي تضفيه عليه كونه من أتباع البراهيمية ، ليشكل مع ممثل دور كوفيندا صديق سدهارتا وتابعه ( كيمو محمد ) هذا الثنائي الذي أبدع في تقديم عرض شائق للتوافق بين السكون والحركة، بين يقينية كوفيندو وشك سدهارتا، ولعل اختيار المخرج للفنان بكر القباني بصوته ذو النبرات المجسمة، أعطى نكهة تعبيرية في خلق عالم روحي تتجسد فيه روح الشرق ورشاقة حركة الرهبان ونظرة التأمل وسكون حركة الرهبان أمام موقف حاسم عندما يتمرد تلميذ على تعاليم أساتذته، مؤكدا على الحركة الكلاسيكية للجسد، وتأثيرها في مثل هذه المواقف التي تتناقض مع استغلاله لفيزياء الجسد عند كوفيندو وكمالا، وكان لتأثير السينوغرافيا التي اعتمدت على إيجاد علاقة بين التبدلات النفسية والفكرية والألوان في الضوء والموسيقى من قوة دفع لتوضيح المشاهد، وأبدعت الموسيقى التي صاغها الفنان عبد الحليم أبو حلتم في تحريك روحية العمل وجعله متناسق ضمن درجات الاحتدام والسكون، واشتغل على التجريد في الديكور أكثر ما أتاحته الإمكانية لتوضيح العلاقات في العرض المسرحي لربط العناصر ببعضها، خصوصا استخدام قطعة القماش التي أعطت حركتها ما يشبه انسيابية النهر وحركة تموجه، وبالعموم فان جميع الذين اشتركوا لم يألوا جهدا في تقديم أفضل ما عندهم، محمود عوض والطفل قيس حكيم، وهو ما نجده في بقية فروع السينوغرفيا لماجد نور الدين وتصميم الأزياء والديكور لهالة شهاب، وفني الصوت خالد الخلايله،

                       
 



هل من علاقة بين التشكيل وماساتنا العراقية الحالية ؟- علي النجار





هل من علاقة بين التشكيل وماساتنا العراقية الحالية ؟


علي النجار
العديد من فناني اليوم التشكيليين يشتغلون على المواد الأولية الصالحة أو التالفة وفضلات البناء والورش الصناعية أو غيرها. يوظفونها مباشرة كأعمال تشكيلية مستقلة. وليس كإعادة إنتاج مغايرة لطبيعتها المادية, خاضعة لأسلبه الفنان. بمعنى ليس كما درس بيكاسو في صناعة تماثيله ومجسماته من(الخردة). وليس كما يعيد تشكيل فخارياته من منتج الفخاريات التقليدية. نتاج فناني اليوم, وخاصة الشباب منهم ينبني على تجميع هذه المواد, خلطها ,مزجها, بعثرتها, وإعادة تشكيل فضائات جديدة بما ينسجم وطريقة إخراج أفكارهم. اكتشافات لمناطق أدائية جديدة تخدم الفكرة. سواء كانت بيئية او فكرية فلسفية, او فنتازيا مشهدية..
قريبا من هذا الفعل التجميعي, الصوري و ألمشهدي, اعتقد آن الأوان لنستفيد من هكذا تجارب في اشتغالات تشكيليينا العراقيين الجديد. ان الأوان لإزاحة حيطان شاكر حسن سعيد العلاماتية, و العبور لحيطان صورية وفضاءات جديدة أخرى. فلم تعد حيطان مدننا مجرد تذكارات الطفولة أو الصبا, أو مدونات الحرب العلاماتية أو الافتراضية. لقد مسحت حرائق ودخان المفخخات الإرهابية علامات الكثير من ن هذه الحيطان, و أفنت الكثير منا ومنها. الم يحن الوقت لنشهد العالم على فظاعة ما مر ويمر بنا(حرقا وقتلا وإصابة وتهديم بنية تحتية وممتلكات عامة وخاصة) بخطاب فني أكثر بلاغة. لم نكن بمثل هذا الرخص قبلا. واعتقد إننا لا نستسيغ ان نكون جزءا من إشاعة هذا الرخص. فهل خلا الفن التشكيلي العراقي من رسالته الإنسانية. صحيح إننا الضلع الأضعف في مؤسسات الدولة. لكن التشكيل وكفن متجذر في الذات العراقية. لابد ان يجد أو يبحث عن مساحة للعمل على استعادة عافيته وسط حواضن العراق المتعددة.
بعد سقوط النظام السابق اقترحت إنشاء متحفا للدكتاتورية. ولسذاجتي قدمت مقترحي التفصيلي لصاحب(الذاكرة العراقية) وقتها( ولم يرد علي) لكنه سلم معظم وثائقنا العراقية التي نجت من التدمير والحرق والإتلاف, التي اختلسها وأودعها مؤسسة(هوفر) التابعة لجامعة ستانفورد الأمريكية. لكن ان فقدنا هذه الوثائق التابعة للنظام السابق(التي بالإمكان استردادها ان سلمت النية), فان الكثير الكثير من الوثائق الحية التي بحوزة العراق. والتي اعني بها مخلفات الدمار الهائلة(الناتجة عن انفجارات المفخخات والسيارات المفخخة التي لم تسلم منها منطقة من مناطق العراق. وكمواد أولية تالفة. اليس بالإمكان توظيفها بأعمال تشكيلية مهيبة, لنلفت العالم(المتحضر) الى حجم الهجمة الشرسة التي تعرض لها المواطنون العراقيون في العهد الجديد(الذي ساهم هذا العالم المتحضر في نشأته هكذا).
في احد الأعوام السابقة وخلال زيارتي للمتحف الحديث البرليني(المحطة) تفاجأت بعرض تجميعي كبير, وكأن ثلاث حاويات ضخمة تركت حمولتها من أنقاض البناء وأدواته المستهلكة, عشوائيا وسط القاعة الضخمة. ثلاثة أحمال كأنها ثلاثة عربات قطار ضخمة متتابعة. لم يكن هناك فعل صناعة تماثيل او هياكل فنية مبتكرة من هذه الأنقاض, كما فعل السلف من فناني الحداثة. ويبدو ان الفنان, هنا, يروم الى إيصال رسالته الفنية بصورتها الواقعية. صورة الفناء. لكنه فناء بنية إعادة البناء, وليس لمجرد لذة الهدم. فلسنا الوحيدون الذين لنا هياكل عظمية, ولا متحجرات شواهد على مرور الزمن, وعلامة من علامات إعادة بناء أجساد جديدة..

إن كان تجديد البنية يتطلب قبر المخلفات. فان درس الفنان الانكليزي(جيرمي ديلر) يختلف بعض الشيء. لقد حصل هذا الفنان على الهيكل المتهرئ للسيارة المفخخة التي ضربت سوق الكتب البغدادي(سوق الصراي) في عام( 2007 ) والتي خلفت حسبما يذكر خمس وثلاثون قتيلا وعدد لا يستهان به من الجرحى, ودمرت سوق الكتب. لقد سحبها بقاطرة على امتداد الولايات الأمريكية المتحدة, مثيرة الاستغراب والتساؤل أينما حلت. وتم له عرضها في العديد من المعارض والمتاحف الفنية. كان أخرها عرضه في متحف(هامر) في لوس أنجلس و متحف(أم سي أي شيكاغو) في عام 2010.
لم يكن مجرد عرض وحسب ما فعله(جيرمي ديلر). بل كان يصحبه حوار وجدل وتعليقات وتدخلات من قبل الجنود الذين خدموا في العراق, وقدماء المحاربين, وجمهور العرض المختلف, عن خسائر الإطراف المساهمة في الحرب, والخسائر العراقية, وجدوى الحرب وأضرارها المختلفة وأدانتها. لقد اشارت هذه الأنقاض(الحية) الى المسكوت عنه, علنا. فالمعدن المتهرئ ما هو الاتجسيم بصري لمأساة حيوات كل الضحايا. ثم لتستقر هذه السيارة الأنقاض في المتحف الامبريالي في لندن, شاهد على زمن غير سوي, و كدرس تشكيلي بليغ, بدون تصنيع أو صناعة فنية وبدون تدخلات الفنان. انه الفن(المتريال) الصرف المستغل بذكاء..

مقترح لإنشاء عمل تشكيلي(متريالي) من أنقاض المفخخات : 




بعد ان تعرفنا بعض الشيء على نماذج من فن المادة الأولية ومخلفاتها, ودرسها البليغ. واطلعنا على مبادرة الفنان الانكليزي(جيرمي ديلر). الا يجدر بنا نحن أصحاب المحنة, أن نستغل مثل هكذا أفعال تشكيلية, كمسعى للكشف عمق مأساتنا اليومية التي استمرت ثلاثة عشر عاما, ولا تزال. تستنزف منا ناسنا وبنيتنا التحتية بأبشع صورة عرفتها البشرية. هل وصل بنا الحال لعدم معرفتنا ما للميديا من اثر بليغ في القدرة على إيصال رسالتنا الى العالم الغافي أو الغافل أو المستغفل عما يصيبنا. هل أحصت(الجهات الفنية ومنها وزارة الثقافة العراقية) صور التفجيرات سواء بالمفخخات أو غيرها التي ضربت العراق من شماله الى جنوبه. وهل ساهمت في ذلك. وهل يوجد بنك لهذه الصور(أرشيف) مصور ومدون فيها المعلومات عن عدد الضحايا والأمكنة, وهويات الانتحاريين ومن يمولهم ويجهزهم ويرسلهم. والوثائق باتت علنية. هل جمعنا مخلفات هذه التفجيرات, لنظهر للعالم فداحة هذه الأفعال الإجرامية, وكبر حجمها!
اقترح أن يتسربل هيكل بناية وزارة الثقافة العراقية الخارجي اجمعه بصور التفجيرات المختلفة التي ضربت مدننا, أو بعضها. بإحجام معقولة تطبع كما الإعلانات الميديوية الكبيرة, حدادا على أرواح الضحايا. مع تجميع لكتل بقايا بعض السيارات المفخخة حول فضائها الخارجي. مسييجة بحزام بوليسي كموقع جريمة يمنع الدخول إليه. ويبقى هذا العرض التشكيلي الموضعي لفترة أسبوع(مثلا) تستدعى اليه القنوات الميديوية المحلية والعالمية لتغطية الحدث, وإجراء الحوارات فيما بينها وبين عائلات بعض الضحايا والمسؤليين الأمنيين وبقية شرائح الشعب. وإعداد وثيقة فيلمية عن كل ذلك لتعرض على القنوات العالمية. أليست الصورة هي الأكثر وقعا في عالمنا الحاضر.
ان تعذر على الوزارة فعل ذلك, وتحججت بأية حجة جاهزة. فهل بإمكان جمعية التشكيليين العراقيين. بعد ان ننفض أيدينا من دوائر الثقافة الرسمية ان تفعلها, بمؤازرة تشكيليينا وجمعيات التصوير وغيرها من منافذ الدعم الفني. لنكن على قدر المسؤولية المهنية والخلقية. التي لا تخلو من وعيي زمني. أخيرا, الم يحن الأوان لأرشفة مأساتنا متحفيا. سؤال يطرح نفسه وسط سيادة الغفلة والاستغفال واللا مبالاة بجراح مأساتنا الكونية!

ثنائية الموت والحياة في مجسمات أياد حامد-عادل كامل





في النحت العراقي المعاصر

ثنائية الموت والحياة في مجسمات أياد حامد

عادل كامل
     لم تمتد سلطة الملك السومري جلجامش(1) ابعد من السنوات التي أمضاها في الحكم، تاريخيا ً، ولكنها سرعان ما تحولت هذه السلطة، أيا ً كان طابعها، إلى معضلة ذات منحى يخص المشكلات الانطولوجية، تناقلتها الأجيال، من سومر إلى بابل والى أشور والى زماننا الحاضر، كي لا تفقد أهميتها أو أسئلتها ذات الطابع الإنساني العميق، بل لتتخذ من واقعيتها مجالا ً أسطوريا ً لموضوعات الفلسفة، والآداب، والفنون.
    فهل كان أياد حامد (1970 ـ 2015)، المنشغل بدراسة جدلية الحياة ـ الموت، منحازا ً بقصد ومعرفة، أم بنسق منح لا وعيه، مع لا شعوره، تأكيدا ً بان المعادلة ليست مشكلة معزولة عن دلالات الحياة ذاتها المهددة بالانتهاك، والغياب..؟
    ففي مجسماته ثمة موضوعات لا تكف أن تتخذ أشكالها بدينامية  تلخص أكثر أفكاره عمقا ً؛ دينامية لا تكتمل فيها الحركة، وأحيانا ً يكتفي بتصويرها مقيدة، وفي الغالب، تفصح عن عالم غير مستقر. إنها لا تنحاز لبنيتها إلا بحدود انفتاحها نحو الخارج، كعلاقة جدلية بين ما هو ذاتي، وبما سيشكل سمة للنحت بأبعاده الموضوعية. على أن ثيمات أياد حامد ـ هذه ـ هي واحدة من سمات جيل ظهر في أعقاب حقبة الستينيات في العراق، جيل نشأ في خضم  صراعات حادة، ومتعاقبة، لم تترك له إلا أن يتشبث بالحلم، ورمزيته، ومنحاه التعبيري، معادلا ً للصدمات، والمحن، وفي الوقت نفسه، راح يجسدها بنماذج نحتية أكثر علاقة بعالمه الداخلي...، صحيح قد لا تبدو مأساة الحروب مباشرة، ومشخصة، ولكن من الصعب استبعادها، أو عزلها عن نماذجه النحتية. فلم يصر الموت قضية، بالأحرى انساق النحات، على العكس، ببلورة اتجاه سمح لفنه أن يقترن بـ: الإنسان ـ المدينة، من ناحية، وبالبحث عن عالم مازال يتشكل، ينمو، ويتدفق، من ناحية ثانية.


 



    لقد جاء رحيله المبكر صدمة تلاشى صداها، بفعل العنف، وغرائبية الواقع، وفوضاه، التي انتشرت كوباء كامن راح يعمل عمل الطاعون، وعمل الأعاصير، والنكبات، إلا أن  مجسماته ستحافظ على مدى إخلاصه لمفهوم الفن، ولفن النحت تحديدا ً. فالنحات سيعيد نسج المسار المعقد للملحمة القديمة، ملحمة جلجامش، من غير سرد، وبعيدا ً  عن تمثلها أو استنساخ نماذجها المتحفية المعروفة، إلا أن لاوعيه العميق سيحافظ على صلة ملغزة وحيوية تعيد بعث أسئلة الملحمة، المعنية بما تتضمنه الحياة من دلالات، وليس بما توارى في الموت، بل عمل على تمثل الحضور بوصفه الحكمة غير القابلة للهدم، أو النسيان. فالنحات لم يجد مأواه في الماضي، كما لم يقم بدفنه في الحاضر، بل سمح للجدلية أن تعيد القراءة، وكأنها تغادر ماضيها، وتغادر حاضرها، كي تكّون مجالها المستحدث، الخاص بأحد أكثر دلالات الفن: المجال الحيوي، برمزيته، وبمعالجاته الجمالية.




    فثمة تنويعات لموضوعاته تفصح عن مسعاه، غير الذاتي، ولكن غير العام أيضا ً، سمح ببناء علاقة متجانسة ومتوازنة بين (أناه) وبين (الأنا) الجمعية، بين عالمه الداخلي والعالم المزدحم بالمتغيرات، والقسوة، والمتناقضات، مما  منح هذه الوحدة سمة من سمات أسلوبه، وهو يتكون عبر زوايا رؤاه المتنوعة، والمتداخلة، ولكن ليس بالخروج على المنجز الدينامي للنحت الحديث في العراق، فنراه:
أولا ً: فثمة معالجة للإنسان الفرد، الوحيد، المعزول، والمنقطع عن العالم، من ناحية، حيث يدفع النحات بهذه الشخصية نحو ذروتها: الصراع، وليس الركون إلى السكينة، أو الانغلاق. فالحركة تغدو واحدة من أكثر سماته الأسلوبية صلة بالعلاقة  ما بين الذهني، والواقعي، ما بين الخيالي والمباشر. فالنحات لا يتخيل، ولا يستمد من المنحى الافتراضي أشكاله النحتية، بل يسمح لها أن تغدو مزيجا ً  انصهر عبر تنصيصات سمحت للنسق الحديث بالنحت أن لا يغادر النص النحتي، من ناحية ثانية.








ثانيا ً: لم يعد (المربع) رمزا ً للقيد، رمزا ً شخصيا ً، ولكن النحات  يستثمره كعلامة مقترنة، مكملة، ومناقضة لباقي الأجزاء. فالمفهوم الهندسي للمربع لا يمثل التكامل، خاصة عندما يضعه على واحدة من زواياه، وليس مستندا ً إلى احد أضلاعه، بل تشخيصا ً للصراع بما يمثله القيد من تحديات للذات ـ وللحياة نفسها.





ثالثا ً: لا جديد في اختيار الحصان، أو الثور، في النحت العراقي الحديث...، إنما القديم ـ عند أياد حامد ـ يؤكد مدى عنايته بمنح الذات هويتها الايكولوجية ـ الاجتماعية، بحرصه على الذاكرة الثقافية ـ الشعبية، في سياقها المنبثق، والمتجدد. إنها علاقة صراع، متعدد التأويل، كالصراع مع الزمن، أو مع الطبيعة ( بوضع الحيوان طرفا ً إزاء النوع البشري) ـ وهو لا شعوريا ً يذكرنا بصراع جلجامش ابن المدينة، مع انكيدو المنحدر من البرية ـ فضلا ً عن أن ثيمة الصراع، بحد ذاتها، تفصح عن عاطفة النحات، ورهافته، في اختيار المجال العضوي للتعبير عن الصراع المستمد من الواقع، وقد غدا  موضوعا ً حرص على إعادة بناءه، فنيا ً وجماليا ً.

   إن تجربة أياد حامد النحتية، تلخص مدى عنايته بمعضلات الإنسان المعاصر التي تؤكد مكانة رؤيته للتشخيص، وليس للتجريد، أو حتى للاختزال، وقد نفذها بالبرونز، بوصفه الخامة المناسبة لاختياراته، كأحد أهم مميزات رؤيته، وأسلوبه، ولكن ليس بمعزل عن تجارب جيل حرص أن تكون جذوره ضاربة في العمق، من ناحية،  معاصرة بقراءتها المتوازنة مع تيارات الحداثة، من ناحية ثانية، بل واحدة من علاماته. فالماضي ـ في تجربته الخلاقة ـ  ذهب ـ عبر الحاضر ـ ، نحو المعضلة، التي هي: الحياة، وليست هي: الموت. فكما حافظت ملحمة جلجامش على ديمومتها، استمد أياد حامد اشتغالها هذا، عبر المجسمات، ولكن بسرد مكتوم، خاص بالنحت، سمة لروح زمنه، وربما، لسنوات قادمة ما دام (المستقبل) لا يتحقق إلا بفعل صياغته، جماليا ً، ووفق حداثة لم تغب عنها معضلات عالمنا اليوم، وما يواجهه من: تهديدات، وانتهاكات، مازالت تشكل تحديا ً، وفي الوقت نفسه، استجابة للبناء، وليس للتقويض.  

1 ـ ينتمي الملك جلجامش إلى سلالة أوروك الأولى، وعدد ملوكها اثني عشر ملكا ً حكموا (2310 سنوات)، وهو الملك الخامس، الذي حارب أجا ملك لكش، ويقدر زمن حكمه في نحو عام 2675 قبل الميلاد، وقد حكم 126 عاما ً بحسب السنة السومرية. انظر: د. فرج البصمجي [كنوز المتحف العراقي] وزارة الإعلام ـ مديرية الآثار العامة ـ بغداد 1972 ص86