هل من علاقة بين التشكيل وماساتنا العراقية الحالية ؟
علي النجار
العديد من فناني اليوم التشكيليين يشتغلون على المواد الأولية الصالحة أو التالفة وفضلات البناء والورش الصناعية أو غيرها. يوظفونها مباشرة كأعمال تشكيلية مستقلة. وليس كإعادة إنتاج مغايرة لطبيعتها المادية, خاضعة لأسلبه الفنان. بمعنى ليس كما درس بيكاسو في صناعة تماثيله ومجسماته من(الخردة). وليس كما يعيد تشكيل فخارياته من منتج الفخاريات التقليدية. نتاج فناني اليوم, وخاصة الشباب منهم ينبني على تجميع هذه المواد, خلطها ,مزجها, بعثرتها, وإعادة تشكيل فضائات جديدة بما ينسجم وطريقة إخراج أفكارهم. اكتشافات لمناطق أدائية جديدة تخدم الفكرة. سواء كانت بيئية او فكرية فلسفية, او فنتازيا مشهدية..
قريبا من هذا الفعل التجميعي, الصوري و ألمشهدي, اعتقد آن الأوان لنستفيد من هكذا تجارب في اشتغالات تشكيليينا العراقيين الجديد. ان الأوان لإزاحة حيطان شاكر حسن سعيد العلاماتية, و العبور لحيطان صورية وفضاءات جديدة أخرى. فلم تعد حيطان مدننا مجرد تذكارات الطفولة أو الصبا, أو مدونات الحرب العلاماتية أو الافتراضية. لقد مسحت حرائق ودخان المفخخات الإرهابية علامات الكثير من ن هذه الحيطان, و أفنت الكثير منا ومنها. الم يحن الوقت لنشهد العالم على فظاعة ما مر ويمر بنا(حرقا وقتلا وإصابة وتهديم بنية تحتية وممتلكات عامة وخاصة) بخطاب فني أكثر بلاغة. لم نكن بمثل هذا الرخص قبلا. واعتقد إننا لا نستسيغ ان نكون جزءا من إشاعة هذا الرخص. فهل خلا الفن التشكيلي العراقي من رسالته الإنسانية. صحيح إننا الضلع الأضعف في مؤسسات الدولة. لكن التشكيل وكفن متجذر في الذات العراقية. لابد ان يجد أو يبحث عن مساحة للعمل على استعادة عافيته وسط حواضن العراق المتعددة.
بعد سقوط النظام السابق اقترحت إنشاء متحفا للدكتاتورية. ولسذاجتي قدمت مقترحي التفصيلي لصاحب(الذاكرة العراقية) وقتها( ولم يرد علي) لكنه سلم معظم وثائقنا العراقية التي نجت من التدمير والحرق والإتلاف, التي اختلسها وأودعها مؤسسة(هوفر) التابعة لجامعة ستانفورد الأمريكية. لكن ان فقدنا هذه الوثائق التابعة للنظام السابق(التي بالإمكان استردادها ان سلمت النية), فان الكثير الكثير من الوثائق الحية التي بحوزة العراق. والتي اعني بها مخلفات الدمار الهائلة(الناتجة عن انفجارات المفخخات والسيارات المفخخة التي لم تسلم منها منطقة من مناطق العراق. وكمواد أولية تالفة. اليس بالإمكان توظيفها بأعمال تشكيلية مهيبة, لنلفت العالم(المتحضر) الى حجم الهجمة الشرسة التي تعرض لها المواطنون العراقيون في العهد الجديد(الذي ساهم هذا العالم المتحضر في نشأته هكذا).
في احد الأعوام السابقة وخلال زيارتي للمتحف الحديث البرليني(المحطة) تفاجأت بعرض تجميعي كبير, وكأن ثلاث حاويات ضخمة تركت حمولتها من أنقاض البناء وأدواته المستهلكة, عشوائيا وسط القاعة الضخمة. ثلاثة أحمال كأنها ثلاثة عربات قطار ضخمة متتابعة. لم يكن هناك فعل صناعة تماثيل او هياكل فنية مبتكرة من هذه الأنقاض, كما فعل السلف من فناني الحداثة. ويبدو ان الفنان, هنا, يروم الى إيصال رسالته الفنية بصورتها الواقعية. صورة الفناء. لكنه فناء بنية إعادة البناء, وليس لمجرد لذة الهدم. فلسنا الوحيدون الذين لنا هياكل عظمية, ولا متحجرات شواهد على مرور الزمن, وعلامة من علامات إعادة بناء أجساد جديدة..
إن كان تجديد البنية يتطلب قبر المخلفات. فان درس الفنان الانكليزي(جيرمي ديلر) يختلف بعض الشيء. لقد حصل هذا الفنان على الهيكل المتهرئ للسيارة المفخخة التي ضربت سوق الكتب البغدادي(سوق الصراي) في عام( 2007 ) والتي خلفت حسبما يذكر خمس وثلاثون قتيلا وعدد لا يستهان به من الجرحى, ودمرت سوق الكتب. لقد سحبها بقاطرة على امتداد الولايات الأمريكية المتحدة, مثيرة الاستغراب والتساؤل أينما حلت. وتم له عرضها في العديد من المعارض والمتاحف الفنية. كان أخرها عرضه في متحف(هامر) في لوس أنجلس و متحف(أم سي أي شيكاغو) في عام 2010.
لم يكن مجرد عرض وحسب ما فعله(جيرمي ديلر). بل كان يصحبه حوار وجدل وتعليقات وتدخلات من قبل الجنود الذين خدموا في العراق, وقدماء المحاربين, وجمهور العرض المختلف, عن خسائر الإطراف المساهمة في الحرب, والخسائر العراقية, وجدوى الحرب وأضرارها المختلفة وأدانتها. لقد اشارت هذه الأنقاض(الحية) الى المسكوت عنه, علنا. فالمعدن المتهرئ ما هو الاتجسيم بصري لمأساة حيوات كل الضحايا. ثم لتستقر هذه السيارة الأنقاض في المتحف الامبريالي في لندن, شاهد على زمن غير سوي, و كدرس تشكيلي بليغ, بدون تصنيع أو صناعة فنية وبدون تدخلات الفنان. انه الفن(المتريال) الصرف المستغل بذكاء..
مقترح لإنشاء عمل تشكيلي(متريالي) من أنقاض المفخخات :
بعد ان تعرفنا بعض الشيء على نماذج من فن المادة الأولية ومخلفاتها, ودرسها البليغ. واطلعنا على مبادرة الفنان الانكليزي(جيرمي ديلر). الا يجدر بنا نحن أصحاب المحنة, أن نستغل مثل هكذا أفعال تشكيلية, كمسعى للكشف عمق مأساتنا اليومية التي استمرت ثلاثة عشر عاما, ولا تزال. تستنزف منا ناسنا وبنيتنا التحتية بأبشع صورة عرفتها البشرية. هل وصل بنا الحال لعدم معرفتنا ما للميديا من اثر بليغ في القدرة على إيصال رسالتنا الى العالم الغافي أو الغافل أو المستغفل عما يصيبنا. هل أحصت(الجهات الفنية ومنها وزارة الثقافة العراقية) صور التفجيرات سواء بالمفخخات أو غيرها التي ضربت العراق من شماله الى جنوبه. وهل ساهمت في ذلك. وهل يوجد بنك لهذه الصور(أرشيف) مصور ومدون فيها المعلومات عن عدد الضحايا والأمكنة, وهويات الانتحاريين ومن يمولهم ويجهزهم ويرسلهم. والوثائق باتت علنية. هل جمعنا مخلفات هذه التفجيرات, لنظهر للعالم فداحة هذه الأفعال الإجرامية, وكبر حجمها!
اقترح أن يتسربل هيكل بناية وزارة الثقافة العراقية الخارجي اجمعه بصور التفجيرات المختلفة التي ضربت مدننا, أو بعضها. بإحجام معقولة تطبع كما الإعلانات الميديوية الكبيرة, حدادا على أرواح الضحايا. مع تجميع لكتل بقايا بعض السيارات المفخخة حول فضائها الخارجي. مسييجة بحزام بوليسي كموقع جريمة يمنع الدخول إليه. ويبقى هذا العرض التشكيلي الموضعي لفترة أسبوع(مثلا) تستدعى اليه القنوات الميديوية المحلية والعالمية لتغطية الحدث, وإجراء الحوارات فيما بينها وبين عائلات بعض الضحايا والمسؤليين الأمنيين وبقية شرائح الشعب. وإعداد وثيقة فيلمية عن كل ذلك لتعرض على القنوات العالمية. أليست الصورة هي الأكثر وقعا في عالمنا الحاضر.
ان تعذر على الوزارة فعل ذلك, وتحججت بأية حجة جاهزة. فهل بإمكان جمعية التشكيليين العراقيين. بعد ان ننفض أيدينا من دوائر الثقافة الرسمية ان تفعلها, بمؤازرة تشكيليينا وجمعيات التصوير وغيرها من منافذ الدعم الفني. لنكن على قدر المسؤولية المهنية والخلقية. التي لا تخلو من وعيي زمني. أخيرا, الم يحن الأوان لأرشفة مأساتنا متحفيا. سؤال يطرح نفسه وسط سيادة الغفلة والاستغفال واللا مبالاة بجراح مأساتنا الكونية!