الخميس، 31 ديسمبر 2015

ثنائية الموت والحياة في مجسمات أياد حامد-عادل كامل





في النحت العراقي المعاصر

ثنائية الموت والحياة في مجسمات أياد حامد

عادل كامل
     لم تمتد سلطة الملك السومري جلجامش(1) ابعد من السنوات التي أمضاها في الحكم، تاريخيا ً، ولكنها سرعان ما تحولت هذه السلطة، أيا ً كان طابعها، إلى معضلة ذات منحى يخص المشكلات الانطولوجية، تناقلتها الأجيال، من سومر إلى بابل والى أشور والى زماننا الحاضر، كي لا تفقد أهميتها أو أسئلتها ذات الطابع الإنساني العميق، بل لتتخذ من واقعيتها مجالا ً أسطوريا ً لموضوعات الفلسفة، والآداب، والفنون.
    فهل كان أياد حامد (1970 ـ 2015)، المنشغل بدراسة جدلية الحياة ـ الموت، منحازا ً بقصد ومعرفة، أم بنسق منح لا وعيه، مع لا شعوره، تأكيدا ً بان المعادلة ليست مشكلة معزولة عن دلالات الحياة ذاتها المهددة بالانتهاك، والغياب..؟
    ففي مجسماته ثمة موضوعات لا تكف أن تتخذ أشكالها بدينامية  تلخص أكثر أفكاره عمقا ً؛ دينامية لا تكتمل فيها الحركة، وأحيانا ً يكتفي بتصويرها مقيدة، وفي الغالب، تفصح عن عالم غير مستقر. إنها لا تنحاز لبنيتها إلا بحدود انفتاحها نحو الخارج، كعلاقة جدلية بين ما هو ذاتي، وبما سيشكل سمة للنحت بأبعاده الموضوعية. على أن ثيمات أياد حامد ـ هذه ـ هي واحدة من سمات جيل ظهر في أعقاب حقبة الستينيات في العراق، جيل نشأ في خضم  صراعات حادة، ومتعاقبة، لم تترك له إلا أن يتشبث بالحلم، ورمزيته، ومنحاه التعبيري، معادلا ً للصدمات، والمحن، وفي الوقت نفسه، راح يجسدها بنماذج نحتية أكثر علاقة بعالمه الداخلي...، صحيح قد لا تبدو مأساة الحروب مباشرة، ومشخصة، ولكن من الصعب استبعادها، أو عزلها عن نماذجه النحتية. فلم يصر الموت قضية، بالأحرى انساق النحات، على العكس، ببلورة اتجاه سمح لفنه أن يقترن بـ: الإنسان ـ المدينة، من ناحية، وبالبحث عن عالم مازال يتشكل، ينمو، ويتدفق، من ناحية ثانية.


 



    لقد جاء رحيله المبكر صدمة تلاشى صداها، بفعل العنف، وغرائبية الواقع، وفوضاه، التي انتشرت كوباء كامن راح يعمل عمل الطاعون، وعمل الأعاصير، والنكبات، إلا أن  مجسماته ستحافظ على مدى إخلاصه لمفهوم الفن، ولفن النحت تحديدا ً. فالنحات سيعيد نسج المسار المعقد للملحمة القديمة، ملحمة جلجامش، من غير سرد، وبعيدا ً  عن تمثلها أو استنساخ نماذجها المتحفية المعروفة، إلا أن لاوعيه العميق سيحافظ على صلة ملغزة وحيوية تعيد بعث أسئلة الملحمة، المعنية بما تتضمنه الحياة من دلالات، وليس بما توارى في الموت، بل عمل على تمثل الحضور بوصفه الحكمة غير القابلة للهدم، أو النسيان. فالنحات لم يجد مأواه في الماضي، كما لم يقم بدفنه في الحاضر، بل سمح للجدلية أن تعيد القراءة، وكأنها تغادر ماضيها، وتغادر حاضرها، كي تكّون مجالها المستحدث، الخاص بأحد أكثر دلالات الفن: المجال الحيوي، برمزيته، وبمعالجاته الجمالية.




    فثمة تنويعات لموضوعاته تفصح عن مسعاه، غير الذاتي، ولكن غير العام أيضا ً، سمح ببناء علاقة متجانسة ومتوازنة بين (أناه) وبين (الأنا) الجمعية، بين عالمه الداخلي والعالم المزدحم بالمتغيرات، والقسوة، والمتناقضات، مما  منح هذه الوحدة سمة من سمات أسلوبه، وهو يتكون عبر زوايا رؤاه المتنوعة، والمتداخلة، ولكن ليس بالخروج على المنجز الدينامي للنحت الحديث في العراق، فنراه:
أولا ً: فثمة معالجة للإنسان الفرد، الوحيد، المعزول، والمنقطع عن العالم، من ناحية، حيث يدفع النحات بهذه الشخصية نحو ذروتها: الصراع، وليس الركون إلى السكينة، أو الانغلاق. فالحركة تغدو واحدة من أكثر سماته الأسلوبية صلة بالعلاقة  ما بين الذهني، والواقعي، ما بين الخيالي والمباشر. فالنحات لا يتخيل، ولا يستمد من المنحى الافتراضي أشكاله النحتية، بل يسمح لها أن تغدو مزيجا ً  انصهر عبر تنصيصات سمحت للنسق الحديث بالنحت أن لا يغادر النص النحتي، من ناحية ثانية.








ثانيا ً: لم يعد (المربع) رمزا ً للقيد، رمزا ً شخصيا ً، ولكن النحات  يستثمره كعلامة مقترنة، مكملة، ومناقضة لباقي الأجزاء. فالمفهوم الهندسي للمربع لا يمثل التكامل، خاصة عندما يضعه على واحدة من زواياه، وليس مستندا ً إلى احد أضلاعه، بل تشخيصا ً للصراع بما يمثله القيد من تحديات للذات ـ وللحياة نفسها.





ثالثا ً: لا جديد في اختيار الحصان، أو الثور، في النحت العراقي الحديث...، إنما القديم ـ عند أياد حامد ـ يؤكد مدى عنايته بمنح الذات هويتها الايكولوجية ـ الاجتماعية، بحرصه على الذاكرة الثقافية ـ الشعبية، في سياقها المنبثق، والمتجدد. إنها علاقة صراع، متعدد التأويل، كالصراع مع الزمن، أو مع الطبيعة ( بوضع الحيوان طرفا ً إزاء النوع البشري) ـ وهو لا شعوريا ً يذكرنا بصراع جلجامش ابن المدينة، مع انكيدو المنحدر من البرية ـ فضلا ً عن أن ثيمة الصراع، بحد ذاتها، تفصح عن عاطفة النحات، ورهافته، في اختيار المجال العضوي للتعبير عن الصراع المستمد من الواقع، وقد غدا  موضوعا ً حرص على إعادة بناءه، فنيا ً وجماليا ً.

   إن تجربة أياد حامد النحتية، تلخص مدى عنايته بمعضلات الإنسان المعاصر التي تؤكد مكانة رؤيته للتشخيص، وليس للتجريد، أو حتى للاختزال، وقد نفذها بالبرونز، بوصفه الخامة المناسبة لاختياراته، كأحد أهم مميزات رؤيته، وأسلوبه، ولكن ليس بمعزل عن تجارب جيل حرص أن تكون جذوره ضاربة في العمق، من ناحية،  معاصرة بقراءتها المتوازنة مع تيارات الحداثة، من ناحية ثانية، بل واحدة من علاماته. فالماضي ـ في تجربته الخلاقة ـ  ذهب ـ عبر الحاضر ـ ، نحو المعضلة، التي هي: الحياة، وليست هي: الموت. فكما حافظت ملحمة جلجامش على ديمومتها، استمد أياد حامد اشتغالها هذا، عبر المجسمات، ولكن بسرد مكتوم، خاص بالنحت، سمة لروح زمنه، وربما، لسنوات قادمة ما دام (المستقبل) لا يتحقق إلا بفعل صياغته، جماليا ً، ووفق حداثة لم تغب عنها معضلات عالمنا اليوم، وما يواجهه من: تهديدات، وانتهاكات، مازالت تشكل تحديا ً، وفي الوقت نفسه، استجابة للبناء، وليس للتقويض.  

1 ـ ينتمي الملك جلجامش إلى سلالة أوروك الأولى، وعدد ملوكها اثني عشر ملكا ً حكموا (2310 سنوات)، وهو الملك الخامس، الذي حارب أجا ملك لكش، ويقدر زمن حكمه في نحو عام 2675 قبل الميلاد، وقد حكم 126 عاما ً بحسب السنة السومرية. انظر: د. فرج البصمجي [كنوز المتحف العراقي] وزارة الإعلام ـ مديرية الآثار العامة ـ بغداد 1972 ص86

الأحد، 27 ديسمبر 2015

ليفون بوغصيان-د.احسان فتحي


أوهام الكتابة في التشكيل العراقي . خطوط أولية-علي النجار



أوهام الكتابة في التشكيل العراقي . خطوط أولية


علي النجار

أعتقد, والاعتقاد افتراض قابل للتداول, المناورة, المحاورة, الفحص, التجريب, التأكيد, الرفض. على الضد من الجزم. الذي هو قابل للنقض فقط. بأن هناك كثرة بأفعال الجزم في الساحة التشكيلية. وبالذات في مجال الكتابات التشكيلية, إن لم نقل النقدية( لعدم توفر أدوات النقد). أو لكون أفعال زمننا, في فوضاها الشاملة وبشكل عام, تراوغ وتداهن منطق النقد كما عرفناه. وعرفه أسلافنا. الجزم هنا, بمعنى إطلاق التصرف بالنص حسب هوى القناعات, أو أطلاق اليد على علاتها.
أعتقد, والاعتقاد موصول بما دونه الكتاب الموهومين بالموسوعية(بوهم بعض من مورثنا) عن نتاج بعض التشكيلين. تدبيج كتب, لا تزال على الرف(افتراضا), أو مقالات, لا تتعدى وهم المعرفة بالنتاج التشكيلي الذي يستحق أن يشار إليه, أو يشاد به. كمنجز يستحق جهد بحث التدوين. كتب, وكتابات, تتعاطى, وتعلي من شأن بعض الظواهر التشكيلية التزويقية. والفرق شاسع ما بين العمل الفني الذي ينتمي لزمننا( والذي يجب أن يكون كذلك, بما انه زمننا) والعمل ألتزويقي, وما أكثره(وصفة, مصنوعة بمواصفات وهاجس المتعة الزائلة) مضافا لها سقط متاع الازمنة التشكيلية الماضية. فهل يستحق أن يتداول, كمنجز يندرج ضمن مساحة تشكيل زمننا الحالي. عدا عن كونه يشكل جزء لا يستهان به من فضاء التشكيل العراقي الحالي الملتبس.

أعتقد أيضا أن جل من كتب في الموسيقى, كان, أو هو, يجيد العزف على آلة موسيقية ما. كما انه امتلك أو يمتلك أذنا موسيقية مرهفة, و ألم أو ملم بتاريخ وحاضر الموسيقى التي يود المساهمة في التدوين عنها. ولا اعتقد بأن لمقدرة التذوق الموسيقي الشخصية لوحدها, أن توفر إمكانية القدرة النقدية الموسيقية, بشكل كاف, أو مقتدر. فهل يكفي إن يكتب في التشكيل من له مقدرة على التذوق الفني الشخصي فقط, وهي مقدرة نسبية. دون دراسة, أو دراية كاملة بأساليب وتقنية الفعل النقدي, ومعرفة آليات وفضاءات الحراك التشكيلي. هل الذائقة لوحدها من تستحق شرف الكلمة الفصل في هذا المجال. أم هي مجرد خلفية ربما تكون مناسبة لممارسة هواية الكتابة لا أكثر. وهل القليل من الإدراك الفني, كافيا لذلك. فما بين القشرة واللب فرق شاسع, يتطلب قشط القشرة أولا, وهو أمر ليس بالهين بلوغه.
أعتقد, أن سيادة هكذا أفعال تشكيلية تدوينية, إن لم تؤدي إلى شيء, فإنها ربما تؤدي إلى تضخيم ذات الفنان المزعومة المنوه عنها. أو ربما تزيد من محنته(الغافل عنها). مع محنة الاستقبال, وهي محنة خاصة وعامة تزيد من مزالق الوهم. وتتعداه إلى سيادة الفهم السطحي للعمل التشكيلي. مثلما تؤدي إلى إطالة محنة المبدع الحقيقي الذي ينتظر منا اعترافا بقيمة عمله الإبداعي. فهل هو سعي صائب, هذا الذي يؤدي في نتائجه النهائية لمضاعفة تهميشه. ونحن في انتظار من يسعى لإعادة الفحص والتمحيص والفرز و إعادة تقليب النتاج التشكيلي العراقي من جديد, بالتوازي وجدة التشكيل المعاصر. وحتى بادراك مناطق مراوغته, التي تبدو أحيانا عصية على الاختراق. لكني اعتقد بان فهمنا للظروف الحالية, بأصعدتها المختلفة. وفهمنا لدهاليز السوق والذائقة التشكيلية المناورة, وعدم الاستقرار المصاحب لهما. ربما يقودنا إلى إمكانية إطلاق آراء نقدية(وليست أحكام) تتوازى والمقدرة الأدائية لتشكيلينا. وإمكانية العثور على خطوط وصل والمنتج التشكيلي الأوسع, الذي اعتدنا نعته بالعالمية. مع اعتقادي بان العالمية ليست وجها واحدا لعملة واحدة, بل هي تمتلك أكثر من وجه ووجه.

اعتقد بان مساحة الكتابة التشكيلية العراقية المتداولة, ليست صغيرة. إذ لم يمر عرض تشكيلي, سواء في داخل العراق أو خارجه. سواء عرض شخصي, أو جماعي. دون الكتابة عنه. واعتقد, أن غالبيتها كتابات, مجرد كتابات, كأنها صنعت بالتوافق, الظاهر أو المبطن,
ما بين الفنان والكاتب. حسنا. ربما اختلفت الأهداف, فبالنسبة للفنان, ربما هي مجرد كتابة أرشيفية تذكارية, لكي لا تمر مناسبة عرضه بدون ذكر. وبالنسبة للكاتب, هي ممارسة مهارات اجتهادية. ربما تجيز له العبور من خلالها لممارسات مشابهة أخرى, ربما تشكل له امتداد أو شحذ لمهارات سابقة, يعتقدها تفي حق الفعل النقدي. لكني اعتقد بأننا لو جمعناها معا, فلا نحصل منها إلا على فعل الأرشفة. فلا كلمات التعظيم, ولا صيغ الوصف, ولا إقحام بعض المصطلحات النقدية, أو إيراد مرادفات أسماء فنانين عالميين أو محليين, ولا التعمية والغموض المقصود بوهم ممارسة عمل ثقافي( بدون تجنيس) واضح يكسبها صيغة النقد الحق. ولو تعدينا فعل النقد الأكاديمي وشروطه التدوينية التي ربما لا توائم كتابة المقالة. فمن الرابح, ومن الخاسر, ومن وقع في فخ الوهم.
أعتقد بأننا بحاجة إلى رد الاعتبار للكتابة النقدية التشكيلية. لكن من أين نبدأ وقد بات هذا المجال(عراقيا) عصيا علينا. ما عدى الندرة النادرة, واعتقدها هي الأخرى لا يمكن التعويل عليها لفهم ما يجري على عموم ساحتنا التشكيلية الحالية. اليس بإمكاننا الخروج من معطف الأرشفة, الى الإجادة في مستلزمات واليات النقد التشكيلي المعاصر, وترك ما أثقلتنا به حوادث الحداثة الأولى, وكتاباتها. نحن بحاجة لمخاطبة العالم تشكيليا, وليس الاكتفاء بمناورة ما لدينا من أفعال الماضي القريب التشكيلية ومخرجاتها النظرية.
أعتقد, من اجل الخروج من مأزقنا. البدء في معاودة بناء جسور عملية بالمصادر الثقافية التشكيلية العالمية في مراكزها الأكاديمية والتقنية, وكوادر المؤسسات المتحفية(مناهج تدريسية, وورش عملية, نقاد لهم وزنهم). مع عدم إقصاء لمحركاتنا الثقافية المحلية الأكثر إدراكا وعمقا. بالتأكيد ليست هناك وصفة جاهزة. بل اعتقدها وصفات لا تعد, لكنها في محصلتها النهائية تتجمع لتشكل ثقافة تشكيلية متنوعة المصادر, ملمة بعدة وحجم الحراك التشكيلي الأوسع و شساعة منطقته(التي نحن جزء منها, كما بقية شعوب العالم), دون إغفال الخوض في متاهة مراوغة وزوغان أفعاله التشكيلية. عدة يجب أن تنتبه لها المؤسسات التعليمية التشكيلية أولا, والمؤسسات الثقافية الرسمية.
أعتقد بان التشكيل العراقي ومنذ الخمسينات لم يكن منفصلا, في بعض خيرة اعماله, عن بعض من النتاج التشكيلي الأوربي. ربما جاء متأخرا, ربما مقلا, ربما هي أعمال فردية. لكني اعتقد بأننا نستطيع أن ننعتها بنفس نعوت المدارس التشكيلية الأوربية. وهي فعلا بعض من نتاجهم, بسبب من التحصيل الدراسي الفني الأوربي. لكن, بماذا يمكننا أن ننعت الكثير الكثير من نتاجنا الحالي. وأعتقد أنني لا استثني غالبية المغتربين الذين يعيشون ويتنفسون الثقافة الغربية. لا يكفي أن تتنقل عبر خطوط الجغرافيا, لتدرك ماذا يحدث في عالم التشكيل, وماذا تريد أو تستطيع أن تفعله. فالعمل التشكيلي حمال أوجه. وجه للتقنية, وجه للثقافة, وجه للإدراك, وجه باطني, وجه ظاهري. وهكذا لأكثر من ذلك. إذا هي لعبة حياة موازية, على الفنان أن يلعبها بمهارة لا تخلو من هاجسها الزمني. ليس للوهم من نصيب فيها. لكن يبقى السؤال عالقا, ربما موقتا, ربما لا ادري إلى أين أو متى, ماذا نفعل نحن التشكيليون العراقيون. بمن(أدواتنا) ولمن. أليست حسابات الزمن قاسية. الم يحن أوان إدراكها. قبل أن يدركنا أوان تجاوزها.


31- 10-2015

نضال الأشقر ومُني واصف وماجدة الرومي... صور مبدعات موشاة بالفضة وردة تزرع في السماء مع همسة كل امرأة- مؤيد داود البصام




نضال الأشقر ومُني واصف وماجدة الرومي... صور مبدعات موشاة بالفضة
وردة تزرع في السماء مع همسة كل امرأة


     مؤيد داود البصام


ما هو السر في الشعلة التي تتأجج باستمرار؟ فأي طاقة هي التي تحرك هذه الديناميكية، وتجعلها دائمة التوهج، إذا لم تكن مرتبطة بمزود لا ينضب يحملها علي الاستمرار والبقاء، إنها الطاقة التي تتجدد في داخل النفس البشرية، كلما أستوقفها ألم إنساني، أو مشاركة حميمية لوجع ما، الطاقة المتأصلة في النفس البشرية في كل زمان ومكان، لا تحتاج لتأجيج لأنها تتحرك من تلقائها، بمشاعر خارجة عن إرادة الفرد، الحلم الذي يراودها أن تكون البشرية عائلة واحدة، والإنسان حر سيد نفسه، ينتمي إلي الذين يقفون في صف المقهورين والمضطهدين أينما كانوا، نداً في مقابل صف من لا يملكون الحس الإنساني والمشاعر المتعاطفة مع المظلومين ضد الظالمين. هذه هي روح الإبداع بأنساقه، الذي يحمل الوجع الإنساني ويناضل من اجل قهره، تحركه المشاعر الإنسانية التي تتلبس الكائن فيغدوا من فرط حساسيته، مثل الطفل في انفعالاته، حتى لتحس انك أمام أطفال وليس أمام عمالقة خرج من بين أيديهم وأفواههم وعقولهم أعظم الإنتاج البشري وأخلده، ان عظمة المبدعين الحقيقيين والذين خلدتهم أعمالهم، هي تلك المشاعر الانسانية المفرطة في الحساسية، والتي لاتنظر لأي مكسب سوي التعبير عن مشاعرها اللحظوية تجاه الحدث، تجاه الألم الانساني في كل زمان ومكان، و صوت (انتجونا)، يدوي في الارجاء يقض مضاجع الطغاة والظالمين " ولدت لأحب لا لأبغض "، انه المعني الانساني الذي يحمله المبدع في داخله، يتقن ممارسة الحب ولايعرف البغضاء والحقد، ولا أريد ان اتخذ المطربة الرائعة فيروز مثالا، لان ما كتب عنها يغطي ما للقول مجددا عنها، ولكن للفت النظر كمثال لنقطة مهمة في أداءها، انها عندما تنطق الكلمات ذات الاثارة والمعبرة عن المشاعر والاحاسيس، فان جسمها ينتفض وكأنها تخرج الكلمات بهذا الدفع الضاغط، حيث تهبط يديها بلا شعور الي ما تحت خصرها، ومع انطلاق الكلمات، ترتفع بيديها وبرفع جسدها الي اعلي كانها تستخرج روحها مع الكلمات، تريد ان تطير، بينما تتمثل عند كوكب الشرق في الحركة الشبه دائرية التي تقسمها ما بين اليسار واليمين وهزة الرأس وشد الكفين، وكانها تعصر الروح لاخراج الكلمات، وهو ما سنجده يتكرر بصور متوازية اومختلفة فيمن سنكتب عنهن، انه التعبير عن اقصي درجات التوافق بين الحسي والروحي.

ما أوجه التشابه في الأداء؟ هل المقارنة تفي بالغرض لاكتشاف الحقيقة؟ قد تكون المقارنة احد الطرق للوصول الي الحالة، ولكنها ليس كل شيْ، فالملاحظة التي اوردناها عن الرائعة فيروز وام كلثوم، ممكن ان نجدها في أداء الراحل ناظم الغزالي او عبد الحليم حافظ بصورة واخري كما سبق القول، او عندما كان الراحل محمد مهدي الجواهري يلقي شعره، او عندما يلقي الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، او الشاعر مظفر النواب، وهناك امثلة كثيرة لاحصر لها في الوطن العربي لشعراء ومغنين وفنانين وممثلين، تنطبق عليهم هذه الحقيقة، ولكن هل هذا الرأي ينطبق عندما نتحدث عن ثلاث رائعات، بصمن باصواتهن وحركاتهن وسكناتهن، علي الفنون السمعية والمرئية، ليس في واقعهن المحلي بل تجاوزن محيطهن الي مداه الواسع عربيا وعالميا، وهنا نجد المفارقة، أن الراحل عبد الحليم حافظ كان بنفس الانفعالية في الاداء ويغرق في الاداء ويذوب مع الكلمات، بينما نجد اعظم الملحنين العرب محمد عبد الوهاب، كانت انفعالاته هادئة، ولا يتكلف مشقة الانفعال وتنساب الكلمات بتلقائية وسلاسة، وياتي السؤال، اين يكمن السر في هذه النقطة؟ .
ولسنا الان بمعرض الاجابة السريعة علي هذه النقطة، حتي نستوفي، ما اردنا ان نقوله، في اوجه التشابه في انفعالية الاداء بين المبدعات اللواتي اخذناهن مثالا علي صدق المشاعر، الذي جعل منهن قمما اينما وصل صوتهن او وقفن علي خشبة المسرح او ظهرن علي شاشة التلفاز، الفنانات نضال الاشقر وماجده الرومي ومني واصف، قمم وضعن بصماتهن في المسرح وفي الغناء، بصوتهن وادائهن الذي أبهر السامع والرائي، وعندما نتحدث عن كل واحدة منهن بخصائصها، فكانما نتحدث عن الأخريات .

نضال الاشقر.. وصوتها المعجون بالعسجد..

فهل تمتاز نضال الاشقر ببحة صوتها وتوناتها العالية، ذات النبرة الموسيقية المتعددة التونات؟ من دون ان تكون لهذه الحنجرة مثيلا؟ وللحق أن هناك مثل هذه الحنجرة الكثير، ولكن اني لهم هذا الايمان المترسخ بقضية الانسان، لتخرج الكلمات من القلب، بكل انحناءاته وتقلصاته، فتسمو الكلمات ويتعالي الجمال في اعمق معانيه، انه السحر الذي تعبر به حتي لكأنك تخر من وقفتك دهشة للكلمات من اين لها هذا السحر والجمال، انها تستخرج مكنونات النفس البشرية فتضيع في الانسجام الذي تحدثه فيك، الحركة، وتعبير الوجه، انه التعالي الذي تبثه، بين الاداء في حركة اليد والجسد وتعابير الوجه وانطلاق الكلمات، تختلط الاحاسيس بين الحس الرومانسي الشاعري الذي يوحيه رخامة الصوت، والبث الثوري لانطلاق الكلمة، الذي يجعل السامع تتجسد لديه الاحاسيس بشكلها المعمق كما اراد لها الكاتب او الشاعر، وتبتعد عن كونها كلمات مكتوبة او حروف منضودة، انما مشاعر متاصلة تصل بقوة اقناعها من خلال الصوت والحركة وجمال اللحن وابداع الخالق في تركيب هذه القيم الجمالية بتناسق مبهر، فتغرق بين لحن الكلمات وبسالة الحركة التي تمجد علو الانسان وشموخه، انها تحملك علي الارتفاع والسمو، تستخرج الكلمات بعمق احاسيسها التي انصبت من أعماق واغوار النفس الانسانية، التي تعيش الحب بكل جلاله لتمجيد الانسان والشجر والجماد وكل ما هو جميل، وهذه المشتركات تجدها تتكررعندما تسمع وتري الفنانة ماجده الرومي، اوتري المبدعة مني واصف.                       .

منى واصف وماجدة الرومي   والحميمية..   
الفنانة ماجدة الرومي بكل طابعها الدرامي، وهي تندمج بيديها وحركة جسدها، وزغللة عينيها وتعابير وجهها، تصل في لحظة النشوة الي فقدان السيطرة علي أجزاء الجسد، وتغدق تعابير وجهها صور الانتشاء والانسجام والذوبان بالكلمات، التي تخرج عن المألوف، وكأنها تحتار في اختيار الطريق الذي تخرجُ به هذه المشاعر، فتتحرك بتناقضٍ يصل الي حد التوهان، بهذا السمو الروحي الذي يسعي له المريد بالمجاهدة للوصول الي لحظة التجلي والتوحد، تنشر اطياف لكلمات تختلف مخارج حروفها عن مالوف ما نسمع، ان لحظة النشوة والذوبان التي تصاحب ماجدة وهي تنطق الكلمات، تجعلها كانها للتو تتذوق حلاوة ما تقول، وليس ما عملت عليه منذ لحظة اطلاعها علي النص والبروفات، فهو الزمن غير المحسوب للحظة التذوق والانتشاء، فاي كبرياء وسمو تحملها وهي تطوح بيديها وكانها تحارب جيوشا فتنزلق السيوف والرماح من بينهما، وليس أمامنا الا ما لخصت هذه الحالة بكلمات، في كيفية اندماج الكل بالجزء والجزء بالكل، ما عبرت عنه اعظم من ابتدع الرقص التعبيري في القرن العشرين، الراقصة الامريكية ايزادورا دنكان، 1878 ــ 1927، بقولها " المشهد هو أنا، لا تقولوا هو حالة نفسية، بل قولوا هو حركة نفس، أندفاعة نفس، انفجارة نفس، انني ارقص حركات روحي "، من مذكرات دنكان التي ترجمها الراحل حافظ الدروبي . انها حالة السمو التي تتحدث عنها في انطلاقة الروح في التعبير عن المكنونات الداخلية، حينما تتحرر الروح من قيود الجسد، وكذلك جسد هذه الحالة التعبيرية الخلاقة لسمو الروح وانطلاقتها، الراقص الروسي الاسطورة رودلف نورييف، 1938 ــ 1993، وهو نفس الاحساس والانطباع الذي تخلقه لنا الفنانة مني واصف، عندما تقف علي خشبة المسرح او أمام الكاميرا.

                                                  مني  واصف وحلم الشموخ..

أي اداء تقدمه هذه المبدعة واي كبرياء وشموخ، ينطلق في تعابير وجهها وحركة يديها وصلابة جسدها، حتي عندما تبكي، ففي بكائها كبرياء وكرامة المقهور الذي لايملك امكانية الرد، ولكنه لا ينحني لمذليه، في كل مشاهدها التي قدمتها في لقطات البكاء، هناك كبرياء وعزة نفس، وليس خضوع واذلال، انها تمثل روح الشموخ والعظمة، وليس شكل الذل والهوان، وهنا مكمن عظمة الاداء الذي تنسجه بقوة صوتها ورسوخ حركتها التي تمنحك طابع التحدي والسمو والشموخ، لما قرأناه عن المرأة المناضلة والفارسة، والجزء المهم في حياتها الاجتماعية والفكرية، المرأة العربية في حركتها الواقعية والاجتماعية والفكرية عبر العصور،] وهذا لايعني حصر الفكرة بطابعها القومي، ولكن ما قدمته من اعمال صورت المرأة العربية في عصورها من الخنساء ولحد الان [، انها تمنح البناء الدرامي للشخصية ابهي صورة، اذا كان دورا تاريخيا او اجتماعيا، لاتحس فيه تلك الميوعة، التي تخذل الممثل لعدم ادراكه وغوره في معرفة البناء الدرامي للشخصية المنوط به تمثيلها ضمن الجو العام، انها تمثل حالة الانسجام، وكأنما الدور هي وهي الدور، فلا يمكنك الا ان تنسجم مع انسجامها وتكسر الحاجز الذي بينك وبينها، بان ماتراه حقيقة وليس تمثيل. ان الجهد المفعم بتصوير الحالة واعادتها الي البناء العام للنص، هو ما تؤديه مني واصف وكأنها خلقت له.
فماذا يسع السامع والرآئي، الا ان يدرك الحلم الذي يتجسد علي ارض الواقع، ليتمثل حلمه، عندما نقف لاحتساب الرؤية والانصات، سندرك ان نشيد الانشاد الذي تتلوه نضال الاشقر بسحب الكلمات والالحان من الاعلي الي الاسفل، تقابلها مني واصف التي تبني قاعدة صلدة البناء لرفع الصورة والكلمات من الاسفل الي الاعلي، وتجتمع الصور والكلمات بين السماء والارض، عندما تشدو ماجدة الرومي، وكأن العالم يخلق من جديد، ويبقي أن ابداع المثال الذي اتخذناه نموذجا، هو الذي يحسسنا بانسانيتنا ويدخلنا في المتاهة بين الواقع والحلم، والرؤية والفنتازيا، ومرده عندما يكون الصدق في المنطلق هو الدافع الاساس الذي يلتزم به المبدع، يصدر هذا الابداع الرائع، وما يأتي بعده تحصيل حاصل.

4 قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل





4 قصص قصيرة جدا ً


عادل كامل
[1] حزن

   سأل صاحب الحمار حماره، عندما احرن:
ـ أتفضل أن أجعلك وليمة لكلابي الجائعة، أم تعود إلى رشدك، وتمشي؟
بعد صمت طويل، رد الحمار:
ـ المشكلة أني لو مشيت، فعلي أن احمل ما لا يحتمل حتى تحين ساعة موتي...، من ثم  سترسلني إلى كلابك أيضا ً، لهذا أنا سأكون سعيدا ً لو فعلتها الآن، كي لا أراك، ولا أرى كلابك، ولا أفكر برؤية وجهي هذا القبيح! فقال له:
ـ لن أحقق لك هذه السعادة، مادمت عنيدا ً!
ضحك الحمار بشدة حتى سقط فوق الأرض:
ـ من منا الحمار، يا سيدي، أنا أم أنت؟
ـ ماذا قلت؟
ـ لقد تعلمت منك الغباء، فأنت تكرمني، بعد أداء عملي الشاق، بإرسالي طعاما ً إلى كلابك الشرسة، بينما كنت أريدك أن لا ترسل أحدا ً آخر غيري، ولكن المصيبة وجدت كي تبقى مصيبة، وإلا لكانت الحياة قد بلغت ذروتها، وصارت تعمل كما تفكر!
ـ حمار وتفكر...؟
ـ ولكن ماذا عن مصيبتك، إنسان ولا يفكر!


[2] نزف
   كتمت الحمامة فزعها وهي تراهم يفترسون شريكها الذي كان ـ قبل لحظات ـ يقف بجوارها، فوق غصن، في أعلى الشجرة. فراحت تبحث عن ملاذ لها حتى وجدت الأرض قد اكتظت بالوحوش الغريبة، وقد ارتدت أقنعة الدببة، والتماسيح، والصقور...، فسعت للعثور على ممر، أو شق، أو فجوة للفرار، فلم تجد...، فرأت غيمة سوداء تقترب منها، فاستنجدت بها، وهي مازالت ترى شريكها يتوزع جسده بين الفكوك، ويتمزق بين أنيابها ومخالبها، فرفعت صوتها مستنجدة:
ـ النجدة...، النجدة، أيتها الغيمة ...؟
وأضافت:
ـ خلصيني أرجوك فانا سأموت..
اقتربت الغيمة قليلا ً منها، وقالت لها، وهي تبحث عن حل لمساعدتها:
ـ وماذا افعل لك...، وأنا نفسي ابحث عن ملاذ!
فعادت الحمامة تتضرع:
ـ سيمزقون جسدي من غير رحمة!
فقالت الغيمة بعد تفكير:
ـ لا تضطربي...! فكل ما استطيع قوله لك: اهدئي، تجلدي، اصبري، وتظاهري بالموت! لعل نصرهم بافتراس شريكك العزيز يعمي بصائرهم فتتخلصين منهم.
   ولكن الحمامة التي صدمت بالرد، شاهدت الغيمة تحولت إلى زخات من المطر الغزير، أنزلته فوق الحديقة، فاختفى الضوء، وساد الظلام، آنذاك  أدركت الحمامة إنها نجت، إنما شعرت، في اللحظة نفسها، إنها قد تكون نجت من الموت، لكنها لم تكن تعرف من ذا سيوقف نزف قلبها الجريح!

[3] لماذا؟
    بعد أن أدى التحية، اقترب المساعد من قائده، وقال:
ـ سيدي...، تم القضاء على البعوض، فقد هدمنا مستعمراتهم، كما تم تخريب بيوت الصراصير، وتمزيق شملهم، مثلما أنزلنا ضربات قاصمة بالفئران، والديدان، والحشرات، والبراغيث، ومازلنا نطارد فلولهم المنهزمة، سيدي!
هز القائد رأسه وقال لمساعده:
ـ أحسنتم...، فلا مفاوضات، لا مصالحة، لا هدنة...، ولا رحمة بكل الخارجين على القانون!
ـ أمرك، سيدي.
   لكن القائد راح يخاطب نفسه:
ـ آ ...، لو عرفت ما الجدوى من وجود هذه المخلوقات الوضيعة، فما أن نعمل على اجتثاثها، ومحوها، حتى نراها تتشبث بالعثور على وسائل مستحدثة للمقاومة؟! آ .....، لو اعرف لماذا هذه المخلوقات الوضيعة خُلقت؟
     اقترب المساعد الذي سمع الكلام، من قائده، وقال هامسا ً بصوت مرتجف:
ـ سيدي...، أنا نفسي سمعت قائد البرغوث، وقائد الفئران، وقائد البعوض، يقولون وأنا اسحق رؤوسهم سحقا ً من غير شفقة، أو رحمة: آ ...، لو عرفنا ما الفائدة من وجود هذه الكلاب الشريرة...، ولماذا خُلقت؟!



[4] حمل
   سأل الحمل أمه وهو يرى النور للمرة الأولى:
ـ كنت أظن انك ِ، يا رمز الرحمة، ستدركين الدرس...، فبعد أن ذبحوا آباءنا، أجدادنا، وأسلافنا...، انك ستكفين عن الحمل، والولادة، ولا تأتين بنا للذبح!
   ضحكت النعجة بمشاعر آلية:
ـ أنت قد لا تعرف ماذا كان سيحصل لو لم ْ افعل....، فهناك ما لا يحصى من النعاج، يحملون، وينجبون ما لا يحصى من الحملان.....، فالعلماء استبدلوا عمليات الإنجاب بالتخلص من أسلافك وأجدادك وآباؤك أيضا ً...، بالوسائل الجديدة، حتى لو مكثنا من غير ذكور...! ولكننا ـ مع ذلك ـ نأمل أن يسترجعوا رشدهم، هؤلاء الأشرار، ذات يوم، وهذا هو آخر أمل لنا بالنجاة، لنرجع عذارى نرعى في البراري، ونتنزه طلقاء في المزارع... ؛ الخرفان مع النعاج، محتفلين بذريتنا ولكن ليس للذبح!
23/12/2015

الخميس، 24 ديسمبر 2015

غالب المسعودي - آيس كريم(قصة سُريالية)

آيس كريم(قصة سُريالية)-د. غالب المسعودي

آيس كريم(قصة سُريالية)
د. غالب المسعودي

كنت صغيرا اعمل في مطبخ ملهى ليلي لأصحاب النفوذ ,اسهر ليلي لأصبح في المدرسة ,لم تكن بعيدة عن محل عملي, اننا, انا والملهى والمطبخ وغسالة الصحون في وحدة جغرافية واحدة ,المدرسة تبعد عنا اشبار ,اصحو صباحا ,ملابس المدرسة هي ملابس العمل, وعدونا في المدرسة ان يعطونا كسوة معونة الشتاء, قررت ان اذهب للمدرسة بإرث ثيابي ,علما ان ملابسي كلها رثة, طلبت من رئيس الطباخين ان يعيرني ملابس جديدة كي اقضي تلك  الليلة في مطبخ الملهى فقط ولهذا اليوم, لأني ابلغت ,انه سيحضر ضيف مهم ,وهذا الضيف سيكرمني ان اعددت له طبق ايس كريم مما يشتهيه ,سالت اصحابي ومن لهم خبرة في استقبال مثل هذا الضيف ,اخبروني انه لا يحبه تقليديا, يشتهيه اكثر عندما يكون مغطي بالشوكولاتة, ان يكون مرتفعا عن قاعدة الماعون, ان لا يكون عريضا, يصعب على فمه التقاطه ,يشبه منارة المسجد ويتحمل اسلاك الضغط العالي, واجهت نفسي, انا صانع صغير ان فشلت محاولتي سأبحث عن عمل ليلي في ملهى ثان ,وان شغلت خيالي قد افوز بجائزة من هذا الضيف المهم, احضرت مواد صنع الايس كريم من ثلاجة المطبخ عملت بكل ما اوتيت من خبرة ,صنعت تمثالا يشبه مردوخ, متعالي له عين واحدة, سكبت عصير الشوكولاتة فوقه ,اصبح يشبه قضيبا افريقيا منتشي في السماء, جاء النادل .........!هل احضرت ما اوصيت به.....؟ قلت نعم, سحبت الطبق من بطن الثلاجة, احمرّت عينا النادل صرخ بأعلى صوته....! هل هو ايس كريم....؟ تريد ان يبطش بنا الضيف الهام ,حاول ان يضرب وجهي بلكمة انسحبت تحت الطاولة لم يصبني بأذى, لحظتها حضر الضيف المهم كان يتفقد ما يعد له من الطعام, سمع صراخ النادل, استفهم منه ,قال لي ما اعددت لي ,ناولته طبق الايس كريم, أحتضنه بفرح غامر, خاطب النادل قل له ان يعد واحدا اخر, ناولني عدة قطع نقدية, خرج النادل خائبا وانا مبتسم, امضيت ليلي بصنع مردوخ اخر ,اكملته وضعته بالثلاجة, اخذ التعب مأخذه, نمت...! حلمت كأنني اطفو فوق ماء اسن رائحة البول تزكم انفي ,كائنات لا اعرف جنسها تغطس تصعد تطبل, يضيق الافق ,تسلقت فوق يدي حرباء صغيرة, استلذذت بملامحها ,ذيلها مقطوع اسنانها مشققة ,لونها سرمدي غاطس في الافق, تتباكى مع خاصرتي, وضعتها فوق راسي استكملت سبعون عاما مما تعدون, ذيلها نمى الى اخره بيضتها صخرة نمت على عنقي, بدأت اغطس في الوحل تحت ثقلها ,اسعفني تحملي, جرذان بيض وسود تنمو تحت كاحلي ,اجرّب  الغيم من تدخل ملامحها ,اطفال ينزحون من الهموم الى الهموم, فراشات سوداء تظلل افئدتهم, المشهد مرتبك ,عقارب ترش فوق راسي الماء, عصافير تضحك, مسامير تغني, ماذا حدث هل فقدت الارض جنسيتها ام بطاقتها التموينية ,ارتسم فوق جبيني شفق يسخر من النوم, سحب طبق الايس كريم من الثلاجة, ضغطه بهدوء ومعرفة في مؤخرة الطيف المهم, انتشى ضيفنا, زار كل الاراضي القدسية, عند العرب واليهود, اعلى سبابته في الهواء تجشا اولا ثم ابتلع ريقه, شرب حفنة ماء مقطر, صرخ مليء حنجرته ,الموت للاستعمار, الله اكبر ........!كانت صرخة مدوية صحوت على اثرها من حلمي, لم استلم معونة الشتاء وصلت في الدرس الرابع ,طلب مني المدير ان اجلب ولي امري, ولي امري في الملهى الليلي اما الراقصة او الطبال, فضلت الراقصة لعلها تهز كرامته بغنجها واحصل على الصفح من لدن عميل كريم.

الأربعاء، 23 ديسمبر 2015

وداعا علاء الشبلي


قصص قصيرة جدا ً 7×7-عادل كامل

قصص قصيرة جدا ً


7×7

عادل كامل



[1]الحمل والغراب
سأل الغراب الحمل:
ـ لِم َ لم ْ تعد خائفا ً...؟
فأجاب بلا مبالاة:
ـ لم يبقوا أحدا ً من القطيع...، فهل أنوح واشتكي كي يسمعني الراعي ويزداد طربا ً، وبهجة، ألا يكفي إنني لم اعد أفكر حتى بالإصغاء إلى صوتي؟!

[2] صمت
ـ ما هي أحوالك...؟
  مكثت الغزال، بعد أن ابتلعها التمساح، لا ترد على تساؤلاته، ليس لأنها أدركت إنها لن تخرج، كما دخلت، بل لأن التمساح ذاته سينشغل متربصا ً بثور تائه، أو بغزال أخرى أضلت الدرب!

[3] سؤال
    بعد أن افترس السبع أشباله، الواحد بعد الآخر، شاهد اللبوة تقترب منه، لعلها تغويه...، فقال لها:
ـ الآن أنا اجهل من منا أكثر اقترافا ً للذنوب؟

[4] عماء
    سمع الثور القصاب يخاطب السكين:
ـ من منا الأعمى...؟
أجاب الثور:
ـ لا أنت..، ولا هي...، ولا أنا أيضا ً!
صدم القصاب بالجواب، فسأل الثور:
ـ من إذا ً...؟
قال الثور، وهو يخور شارد الذهن، وينزف دما ً اسود:
ـ آ ...، لو كنت اعرف!
فسأله القصاب باستغراب:
ـ وماذا لو كنت عرفت...؟
    لم يجد الثور إلا جوابا ً واحدا ً:
ـ لكنت قتلت نفسي قبل أن تعذبني بسكينك العمياء!
   قالت السكين حالا ً، وهي تفطس من الضحك:
ـ هذه هي العدالة...؛ لا احد منا ارتكب الإثم...، هذه هي العدالة...؛ لا احد منا يستطيع أن يكون بريئا ً قط!

[5] كرامة
   سأل البغل الشاة التي ولدت حملا ً توا ً:
ـ من منا أفضل درجة من الآخر...؟
قالت بثقة:
ـ أنت!
فسألها متعجبا ً:
ـ ولكني لم أحبل كي ألد حملا ً جميلا ً حتى لو أرسلوه إلى المسلخ...، فأنت ِ ـ يا سيدتي ـ أفضل درجة مني...
ـ آ ...، أيها البغل السعيد...، كيف تقول هذا، وأنت أفضل منا درجات...، لأنك تمضي حياتك الطويلة من غير شكوى، ومن غير تذمر، عدا...، أحيانا ً، عندما يمسون كرامتك، آنذاك تلقي بجسدك إلى الوادي!
ضحك البغل بصوت شفاف:
ـ الآن أدركت إن احدنا صار اقل درجة من الآخر...! فأنت لا يؤنبك ضميرك بالحبل والولادة...، ولا أنا أجد خلاصي إلا عندما تداس كرامتي!

[6] استحالة
قالت الحمامة تخاطب البلبل بعد أن فتحت له باب القفص:
ـ أيها الأسير...، آن لك أن تتحرر، وتتمتع بالطيران ..!
ابتعد البلبل عن الباب المشرع، منزويا ً في احد زوايا القفص، وقال لها:
ـ صحيح سأحلق في الفضاء...، وأتمتع بالحرية..، ولكن من اجل أن امنحهم متعة مطاردتي، وصيدي، وربما ـ في هذه المرة ـ لن أنجو من رصاصات الموت، حتى لو صعدت إلى السماء السابعة!

[7] لا تتردد
     عندما مد إصبعه ليضغط على نابض الحزام الناسف، شاهد الغزلان والطيور والأسماك تتجمهر من حوله، تسأله:
ـ أستاذ...، بعد أن تفجر جسدك، هل ستصعد أرواحنا معك إلى السماء؟
أجاب الحمل:
ـ هذا أفضل من البقاء هنا تتعفنون في هذه الحديقة!
   ولكنه تردد في الضغط، وتفجير جسده، فسحب إصبعه، كي يسمع الجميع يصرخون بصوت واحد:
ـ افعلها، افعلها، افعلها...، في الأقل، لن نبقى نستنشق هذا العفن، أو نموت ألف ألف مرة في اليوم الواحد، فأنت لن تموت بعد هذا اليوم، ولا نحن سنطلب الرحمة!
13/12/2015
Az4445363@gmail.com



الاثنين، 21 ديسمبر 2015

شعراء بلا قصائد روائيون بلا روايات--*خيري منصور


شعراء بلا قصائد روائيون بلا روايات
*خيري منصور


في غياب النقد الذي يعادله حضور الممالأة والمقايضات والحكّ المتبادل، فقدت الكتابة وفي مقدمتها الشعر الكثير من هيبتها التقليدية، فهي خارج اهتمام الدولة إلا بقدر ما هي موظّفة لصالح الميديا، أو لاستكمال مهرجانات تهدف إلى حجب الفساد الثقافي، والأنيميا التي أفقدت مهنة الكتابة مناعتها.
لهذا لا يتردد أي فرد في إطلاق اسم الشعر أو الرواية على ما يكتب، حتى لو كان مجرد هذيان، وهو لن يعدم من يصفق له تماما، كما أن الأحمق الذي تحدثت عنه سيمون دي بوفوار في كتابها «واقع الفكر اليميني» يجد من هو أشد حمقا ليطري أخطاءه بانتظار رد الجميل على هذيان وأخطاء أخرى.
في ستينيات القرن الماضي بلغ التجريب ذروته في الشعر والتنظير للثورات، والتمرد على موروث استمد شرعية استمراره من مجرد التكرار والحصانة ضد النقد. وكانت الحركة النقدية في العالم العربي موازية لتيارات شعرية بالغة الحيوية، وكان لدى الحالمين بالألقاب درجة تحول دون اندفاعهم إلى ما يجهلون، لكن ما أن انحسر النقد الجاد وتوارى خلف متابعات صحافية عابرة تجتر بضع عبارات مستعملة حول كل النصوص، حتى اتسع الهامش لمن يعتقدون أنهم أول من كتبوا أو رسموا أو غنوا، ثم جاءت العولمة بمحاصيلها التكنولوجية ليصبح كل شيء مباحا ومتاحا ليس على طريقة ديستويفسكي والدلالة الميتافيزيقية لعبارته الشهيرة، بل على طريقة: قُل ما تشاء، وسمه ما تشاء ولا تنتظر صداه، وساهمت ظاهرة الغموض التي صاحبت الشعر الحديث منذ بواكيره في تقديم ذرائع لمن لا يفرقون بين غموض الفحم وغموض الماس المتلألئ.
وكان كتاب ويليام امبسون «سبعة أنماط من الغموض» بمثابة فك اشتباك مزمن بين الغموض والإبهام، فالغموض عمق وإيحاء واستبطان. أما الإبهام فهو ناتج عن عجز في أدوات الكتابة وبالتحديد الشعر، وعلى سبيل المثال استوقفت عبارة للشاعر إليوت نقادا من طراز ماثيسن بسبب قابليتها لعدة تأويلات، وهي البوابات الحارة، فهي ذات إيحاءات جنسية، كما أنها قد تعني ما تبقى من أطلال وبوابات لحروب قديمة، وربما لهذا السبب اضطر إليوت إلى إضافة ملحق بهوامش كثيرة لقصيدته «الأرض اليباب».
ما أعنيه بشعراء بلا قصائد ذلك النمط الطارئ من سلالة شعرية رضعت اللون الأخضر من الحبر أو دهان الجدران وليس من العشب، فهي مضادة لكل ما هو عضوي، واشبه بمستحضرات تجميل لغوية وبلاغية يكفي قليل من الماء أو العرق أو الشمس لإزالتها وافتضاح ما كانت تخفيه من ندوب، وهناك شعراء لا نجد لديهم، رغم وفرة إنتاجهم قصيدة متكاملة العناصر والمعمار الفني، لأنها تفتقر إلى الرؤيا والاستبصار ومن هنا نمت ظاهرة جديدة هي البعارة، والبعارة كما يعرفها الفلاحون هي التقاط ما تبقى تحت الشجر من ثمار، سواء سقطت من تلقاء ذاتها لعدم مقاومة جاذبية الأرض، أو عفّ عنها الفلاحون، وحصيلة البعارة غير متجانسة على الإطلاق تماما كما هي البعارة الشعرية التي تسطو على مفردة هنا أو صورة هناك من قصائد استحقت تصنيفها شعرا.
وهنا أتذكر ما قاله يوجين يفتشينكو ذات يوم وهو، أن الشاعر في نهاية المطاف هو حاصل جمع قصائده ولا شيء آخر، ورغم أن يفتشينكو اشتهر بقراءة قصائده مسرحيا وبأداء صوتي وحركي، لكن تشبّث العربي بالألقاب حتى لو كانت مجرد قبعات أو أقنعة يصرفه عن مراجعة ما ينجز، وإذا كانت هذه الإصابة قد بلغت ساسة وجنرالات أصبح لبعضهم سبعة ألقاب على الأقل، فإن جذر الظاهرة أدبي وشعري بامتياز، لهذا تم تصنيف شعراء وكتاب في خانات، منها الكبير والأكبر، وكأن هناك شعراء صغارا، وتسبب هذا الانتحاء اللغوي في تصنيف الشعر ذاته إلى صغير وكبير، والحقيقة أنه إما أن يكون شعرا أو لا شيء على الإطلاق، لأنه عندئذ سيفقد أيضا خاصية النثر. إن ما سماه نقادنا القدامى وقع الحافر على الحافر وما أطلق عليه النقد الحديث التنّاص يحتاج إلى تسمية ثالثة، قد تكون السّطو أو البعارة أو برادة الحديد أو غبار الذهب المتطاير منه أثناء صقله.
ثلاثة عوامل ساهمت في جعل الكتابة الحائط الأوطأ والهامش المهمل هي تفشّي الأمية بكل تجلياتها الأبجدية والمعرفية والجمالية، وسلالة الإنترنت التي جعلت البعض يصافحون أنفسهم أو يقبّلونها في المرايا، بحيث أصبح حتى الشعر مشمولا بعادات غير علنية. إن زمنا ترصع فيه الأوسمة صدور جنرالات تتلخص سيرتهم العسكرية في ست هزائم على الأقل علينا أن لا ندهش فيه من شعراء بلا قصائد وروائيين بلا روايات وأوطان بلا مواطنين ومهاجرين بلا أنصار.
وما قلناه عن شعراء بلا قصائد ينطبق على روائيين بلا روايات، لأن كثيرا مما يصدر عن دور نشر بلا تقاليد، هو مجرد بوح أفقي ونثر وظيفي، وقد لا يصل إلى دون كيشوت لسرفانتس لأن من بدهيات الرواية وتعريفاتها أنها ملحمة البرجوازية، كما قال لوكاتش، وإسقاط الأقنعة وإطراح الحياء كما قال البيريس، وأخيرا هي فن اللاامتثال المضاد للقطعنة كما قال كامو .
لقد أدت البطالة النقدية إلى ازدهار في مواسم الكتابة، خصوصا لدى من لا يقرأون غير أنفسهم، وما أعنيه بالقراءة هنا ليس الكتب، بل استقراء الواقع والطبيعة والعلاقات الإنسانية. ومن الطريف أن شحة الديمقراطية في العالم العربي أصابت الروائي بالعدوى، فهو طاغية ينطق نيابة عن شخوصه وقد يجرهم إلى الهلاك لعجزه عن التحكم في مسار مصائرهم.
إن واقعا أصبح المبتدأ فيه بلا خبر والفاعل مفعولا به لا بأس أن يكون من إفرازاته شعراء بلا قصائد وروائيون بلا روايات!
________
*القدس العربي


التاريخ : 2015/12/18 11:08:19