الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

إرهاب في مالي(قصة سُريالية)-د. غالب المسعودي

إرهاب في مالي(قصة سُريالية)
د. غالب المسعودي
ارسلت لي زوجتي فلم قصير من اليوتيوب عن طريقة سريعة لتقشير الرمان, تعرفني احب عصير الرمان, خلال متابعتي للفلم وجدته طويلا وانا اقشر خلال وقت المتابعة ,تبعتها بموسيقى هادئة اسلمتني الى نوم هادئ, غطست عموديا في حلمي واجهتني في القاع صخرة , ملساء تضيء, عليها علامات تحكم, كأنها شاشة لمس ,كانت قريبة من مقدمة راسي لا مست جبيني بخفة, انقلبت  الاشارات والصور الى صفحة فيس بوك ,الخانة الاخبارية, المحادثات مستمرة رغم تعثر الهدنة, احد المسؤولين يصل, زيارة مفاجئة ,المليشيات لا تلتزم بالهدنة, تحاصر, مواجهات حادة ,لكن المحلل العسكري قال انها هي من مستلزمات تعميق الحوار, قبل ان اغطس الى حلمي شبعت جدا من التحاليل الطبية, لذا فضلت ان اتابع قناتي المفضلة, على قمر قنوات الدواب, لكن للأسف ,كانت الدواب تنقل اسلحة ,يزودهم بها اهل الخير, مررت يدي على الخيار الثاني, لعلي اعثر قناة موسيقية ,الحقيقة عثرت على عدة قنوات, اكثرها حزينة ,بينها  اروع موسيقى هادئة وحزينة , انا متلبس بالحزن, اذن لأبحث عن موسيقى تساعدني على الطفو فوق الماء, نتائج البحث تشير الى موسيقى رسالة من تحت الماء ,حاولت ان اشغل مكبر الصوت, وصلني المقطع انك تغرق.... تغرق.........! اقفلت تلفازي في القاع ,هل ادخن...؟ قالت لي سيكاري انا مشتعلة فوق الماء, هناك الكثير من المعتقلين مثلك يراقبونني, ان كنت تستطيع العودة الى سطح الماء ستشم اول نفس من مؤخرتي, مؤخرتي الان مهملة المعتقلون كلهم تحت الماء ,منهم وزراء حاليون واخرون سابقون, انها لعبة قذرة ,الكل غطس في المستنقع ,حدد خيارك انا اطفو فوق الماء, حتى وان كان آسنا ....؟لا اعرف اتجاهي حتى ان عفن الماء تخلى عني..........! بائع الاسماك يجر عربته يبيع اسماكا ميتة, عربات الباعة المتجولين تحاصر اجزائي بأصوات مكبرات , يسيرون بلا هداية ,جائعون انفاسهم تغرق في مصيبتهم ,كلهم عاطلون عن العمل, هم متفقون على انهم عاطلون وجائعون ,لكنهم لا يختلفون في مذاق السوشي الذي اذهلهم بمذاقه المر ,يتطلعون الى مشاريع مشتركة مثل تعزيز السياحة الفضائية في العام المقبل داخل جزر مالي, ومحاربة الارهاب في المريخ, فك الارتباط بين عيد جلوس الملك والنظام الاشتراكي , وذلك بإعلان تحالف جديد يحوي على مركز ادارة واستعلام متطور, بين هذه الفوضى حزمت امري  وامتعتي ,هناك خط احمر اجلته الى القصة القادمة, علي ان ادافع عن الشرعية , صرخ الحاضرون رافعين ايديهم بعلامة نقطة نظام, نحن لا نسمح بتشويه القيم الاسلامية في هذا الجو المترب, غطست الى صخرتي الالكترونية وجدتها منفتحة على الحوار, المذيعة وجهها منقسم الى نصفين ,الاسفل عليه ابتسامة الموناليزا, الاعلى علية غضب درا كيولا ,علامة مغص كتابية بينهما ,حاولت ان اقلب القنوات ,لم افلح الصورة نفسها, صوت المخرج بين الكواليس عال جدا, ذيعي الخبر, انك تستمرين في المعاندة, تؤشر على جزئها الوسطي, اضطر المخرج ان يذيع الخبر تحت فقرة عاجل, عملية ارهابية في مالي, يبدو انها كانت تعاني من الام  تؤثر على جزئها الاسفل ,ترددت كثيرا في لفظ اسمه بالكلمات الدارجة, عاقبها المخرج , كما عاقبتها الطبيعة, كانت تعتقد ان حملها سيستمر كي توقعه بحبائلها, لذا كان وجهها ينتصف التعبير ,فرقعات فقاعات هوائية طفوت على حلمي وانا اعاني من مشكلة الارهاب في مالي.

قصة قصيرة الثعلب في المغارة- عادل كامل

قصة قصيرة

الثعلب في المغارة











"
أنت تتكلم، إذن أنت تحاول أن تقول غير ما تقول، أن تقول غير نفسك، غير الأشياء التي تتحدث عنها."
عبد الله القصيمي


عادل كامل
ـ أنا لا أتحدث عن اختلافات بيني وبينك!
   وشرد ذهنه، للحظات، متابعا ً:
ـ بل بيني وبيني...، فانا لست أنا الذي تعرفه! حتى إنني لم اعد اعرف من أكون...، بل وحتى لا أريد ان امتلك تصوّرا ً لأكون عليه.
    توارى الثعلب في المغارة، وقد أغلق بابها، بعد ان طلب من مساعديه، وحرسه الخاص، محو كل اثر دال عليها.
  كانت المغارة مستطيلة، مثل قفص، مظلمة، وباردة، وقد وجد لذّة بسبب نعومة التراب، ممتزجة بالصمت.
ـ فأنا لا أشبه نفسي...
    فلم تكن ثمة مرآة، أو ضوء، أو صدى:
ـ اخبرني ـ أيها التراب ـ من أكون...؟
بشرود سمع من يقول له:
ـ أنت هو أنت!
أجاب ساخرا ً:
ـ اعرف أنا هو أنا، مثلما اعرف: أنا لست ـ هو ـ أنا...، فهل تغويني بلعبة لا يسترها قناع...؟
ـ آ ....، أصبحت تفكر، أيها الثعلب، يا سعادة المدير، بعد سنوات طويلة أمضيتها تصول وتجول...، تأمر وتنهي، تعاقب وتعفو، تنذر...و ..
ـ أفكر؟
   ودار بخلده انه ربما يكون قد هرم، أو جنّ، أو أصيب بالداء الذي لم يسلم منه احد، لا النمل ولا الحشرات، لا الفئران ولا القرود، لا الحجر ولا الشجر!
ـ أو بالأحرى لا معنى لوجودي من غير وجودهم!
سمع صداه، فأجاب:
ـ لكن ما الذي جنيته منهم، وما الذي حصلت عليه، سوى الشقاء، والأذى، والألم؟
ـ ها، ها، من أشقى من، ومن أذى من...؟
   راح يحدق في العتمة، ويحفر فيها:
ـ ماذا غير ذلك، فانا أيضا ً كنت أدافع عن وجودي.
ـ ولكنهم كانوا يستغيثون، ويطلبون الرحمة، فلم تترك ظلما ً لم توزعه بعدل عليهم، تارة، ولم تترك عدلا ً لم تسلبه منهم تارة أخرى. كانوا يمكرون فكنت تفرط بمكرك حتى أصبح أعظمهم مكرا ً.
أفاق:
ـ هنا، في هذه المغارة، أنا ـ هو ـ من طلب هذه المحاكمة!
   لم يجد ردا ً. ولا صدى. فراح يتلمس التراب بأصابع مرتجفة، كان باردا ً، ومازال ناعما ً، تاركا ً رأسه ينحني إلى الأسفل، بعد ان فقد قواه:
   وسأل نفسه بشرود:
ـ والآن ماذا افعل لو خرجت...؟ هل ساجد الصراصير تحولت إلى بلابل، أو الضباع غيرت طبائعها، أو الذئاب تخلت عن أنيابها، أو الصقور تنازلت عن مخالبها، أو العقارب تحولت إلى حمامات..، وأنا فشلت في ترويض ثور هائج، أو إخماد غضب خنزير..؟
ـ لم يعد لوجودك، معنا، معنى...، يا سيدي!
ـ سيدك؟ وقد أصبحت بلا حول ولا قوة، فمن أنت...؟
   لم يسمع ردا ً.
ـ فانا هو السبب إذا ً...؟ بالأحرى السبب هو أنا. فانا لست السبب حسب، لأن الأسباب هي التي صنعتني، وكانت سابقة لوجودي، حتى ان الجميع قالوا لي: لا تنظر إلى الخلف!
   شم رائحة الببغاء ـ مستشارته ـ فرفع رأسه:
ـ أنا لم اطلب منك الحضور.
ـ هذا هو عطري...، كم مرة تغزلت به، وقلت لي: طالما أسكرني!
ـ اعرف...، ولكني طلبت منهم ان أدفن كما يُدفن الموتى...، فلماذا هذا العطر؟
ـ هذا هو جزاء أعمالك، سيدي.
   ارتج جسده: من يهزأ بي، حتى إني لا امتلك إلا ان أرى الظلمات، وقد طوقتني من الجهات كلها.
   وسأل نفسه:
ـ الم ْ اطلب منهم حرقي، وذر رمادي فوق أجنحة الحديقة وزرائبها..؟
ـ لا ...، كنت تخاف من النار، وتخاف من الريح، وتخاف من الماء.
قال مذعورا ً:
ـ  حتى ان خزائني امتلأت بالخوف....، فصرت أخاف منها. أخاف من المجد، وأخاف من السلطة، وأخاف من النعيم، وأخاف من الخلود..، وأخيرا ً أصبحت أخاف من الخوف! فالأسد قال لي: يا سيدي، عندما أشيخ تبول الفئران علي ّ...، والفيل قال ان النمل سيلهو به عند الهرم. أما أنا فقلت: لا تدع أحدا ً يراك والحشرات تلهو بجسدك، والذباب يطن فوق رأسك.
   أغلق فمه، لبرهة، مصغيا ً لذبذبات كانت تأتيه عبر ذرات التراب:
ـ على من ينقلبون ...، وأنا بنفسي تخليت عن نفسي! أنا كرهتها، ليس من شدة إعجابي بها، بل بغضا ً لها.
سمع من يهمس في آذنه:
ـ لعبادتك لها، حتى صارت وثنك،  تجهل ان كانت هي أنت، أم أنت صرت خالدا ً، أيها الدكتاتور الطاغية!
فسأل نفسه بخوف:
ـ أكنت طاغية، أكنت دكتاتورا ً...؟
  لم يجد ردا ً، ولا صدى:
ـ إذا كان الكل على صواب، إذا ً  فالكل على وهم!
   ودار بخلده: لا معنى للتراجع، فانا اخترت ان اذهب إلى الموت بنفسي.
ورفع صوته:
ـ الم ْ اطلب منك ذلك؟
قال الموت:
ـ لا!
ـ ماذا قلت، أتنكر، أم تناور، أم تتسلى بمصيري؟
ـ ما ـ هو ـ برهانك انك تخليت عن السلطة، وعن المجد؟
ـ الم ْ اطلب من حرسي الخاص، وفرقي السرية، والتنظيم اللامرئي، صناعة هذه المغارة، هذا المدفن،  في هذا الموقع المجهول...، الم ْ اطلب منهم ان لا يعلنوا ذلك...، لأحد، وان أتوارى، بهدوء، بشفافية، والى الأبد؟
ـ من ْ من تسخر، وأنا اعرف ان الذي يتكلم فيك، ليس هو أنت، الذي تتخيل انك تصغي إليه...، لأنك مهما عملت لن تحصل على الذي ليس هو لك !
ـ طلبت الموت؟
ـ لأنك لم تطلب إلا ذاتك!
ـ وهل باستطاعتي ان أتخلى عنها، كي أكون الذي ابحث عنه...؟
ـ وهل بحثت حقا ً عن الذي لم تجده...، أم انك وجدت الذي عملت كي لا تفقده...؟
ـ ها أنا ..، لا اطلب إلا الموت.
ـ لن تجده.
ـ ها أنا حصلت عليه!
ـ لكنك لم تمت بعد، وإن كنت بعداد الموت، بل بعداد من لم يولد بعد!
ـ اخبرني ...، الم تكن الحياة هي أعلى درجات الموت، وإن الموت هو ذروتها؟ الم اقل ذات مرة ان الصمت هو أعلى درجات العويل، وان العبودية ما هي إلا ذروة الانعتاق، والحرية؟
ـ ها...، كأنك لا تريد ان تخسر هزائمك أيها الثعلب العنيد؟
ـ سأسألك، ببساطة، ماذا تريد مني؟
    لم يجد صدى أو ردا ً.
ـ حتى الموت الذي هربت منه، حتى الموت الذي ذهبت بنفسي إليه...، حتى هذا الموت له طبائعنا، وصار مناورا ً، وماكرا ً، كهذا الشعب!
  عاد يسمع:
ـ انهض.
ـ لا اقدر ان افعل.
ـ فانا سأدلك على الدرب، ألا ترغب أن تذهب إلى الفردوس؟
ـ لا! من قال لك أني كنت ابحث عن جزاء لا استحقه، وهل يجزى  مثلي ـ من غير عمل ـ وهو الذي خلق من وحل هذه المستنقعات...؟
ـ لا تجدف...، ألا تخاف...، فكل كلمة ستشهد عليك، وكل فاصل صمت ما هو إلا وزر، أم ترغب ان اخرج إلى الحديقة...، واطلب من شعبك ان يراك، ويرى ما أنت عليه؟
ـ لا، لا، افعل كل ما ترغب ان تفعله، عدا ان يراني شعبي وأنا في المغارة!
   ماذا قلت؟ دار بخلده، انه ـ ربما ـ فقد المنطق، وغدا يرى نهايته سابقة على يوم ولدته أمه في البرية، في يوم بارد، وتركته وحيدا ً في الدغل! لحظتها رأى الشمس ترسل أشعتها ممتزجة بالغبار، فسمع دويا ً، وضجيجا ً، واستنشق دخانا ً، حتى كاد يختنق، فحملته أمه إلى المغارة، وكانت ضيقة، لا تتسع إلا له، بعد ان لاذ الجميع بالبحث عن ارض آمنة.
أفاق:
ـ ثم وجدت جسدي داخل قفص، فماذا افعل...، سألت نفسي، فأجابت: كن مثل أسلافك. ها ..ها، فذهبت وتدربت عندهم، ليل نهار، حتى انتهت رحلتي...، إلى الحديقة، ثم ها أنا في المغارة. فطلبت الراحة، فاستعصت علي ّ، أبت، تكبرت، تجبرت، كي أذل، ثم جاء الموت ليقودني إلى المكان الذي هربت منه.
   هامسا ً راح يخاطب التراب:
ـ ماذا لو أطعت الموت...، وذهبت معه، فقد لا أموت؟
ـ ها، ها، ها أنت، أيها القائد، استعدت رشدك، وعرفت من هو أنت!
ـ ومن أنا...؟
ـ من غير جهد، ومن غير كد، ومن غير شقاء، ومن غير عمل.....، فمن تكون؟
ـ لا تسكت...، بح لي بالسر.
ـ وأبوح لك بالسر من غير ان انتزعه منك!
ـ وماذا يبقى لدي ّ...؟
ـ مجدك الذي حصلت عليه.
ـ لكني تخليت عنه.
ـ تقصد ...، هو الذي تخلى عنك؟
ـ لا فارق....، كبير بينهما، إن تخلى عني أو تخليت عنه، فانا أصبحت مديرا ً أوحدا ً، وزعيما ً...
ـ للسيرك؟
ـ نعم...، فقد حولت الأسد إلى لاعب امهر على الحبال، النمر صار يرقص كالنعامة، الدب يلعب كما تلعب القرود، وأنا هو من أنهى عصر الفتنة، وأوقف سفك الدماء، وأنا هو من اصدر قرارات المصاهرة، والمؤانسة، والمصالحة، فاستحدثت النوع التاسع، بعد تعديل المراحل السابقة، وإعادة برمجتها، برؤية كلية الاتساع، والمرونة، فصار الحمل يتنزه مع ابن أوى، والغزلان ترعى مع الذئاب، وصارت العصافير تمشي مع الفيلة، والضفادع، والماعز، والجاموس...، أشقاء بالدم، والأصل، والاستحداث...، الم ْ الغ ْ أجهزة التنصت، والمراقبة، ورفت الحواجز والأسوار، ومحوت سلطة المراقب فوق المراقبين، وحرمت التنابذ بالألقاب، والإشارات، فالجنس التاسع يستمد نشوته ولغزه من الفضاءات الكونية، لا يموت ولا يولد، ونقيت المدونات من الشوائب، ومن الأوساخ، وطهرت الحدائق من القاذورات، والعلل، والمجاعات، والخوف، هل تغفل إنني أنا هو من غسل الأسفار من الأصوات، وصارت الأقفاص فائضة، فتم هدمها، بعد ان صهرنا كل عتيق، فاعلنا العيد السرمدي الذي لا يعقبه هلاك، وحرمّنا آثام البغضاء...، الم ْ اجتث الكراهية، وأنظف جينات فقدان الهوية من أوحالها، والهرم من قاعدته، وسمحت للخلايا ان تقاوم ترهلها، وبلادتها، وقلت: من يظلم من...، بعد ان عانقت البحار الصحارى، والسماء بنجومها الأرض، وصار الليل يتجول طليقا ً مع النهار، والجور مع العدل، وصارت الظلمات دليلا ً للعميان في عرس الأنوار، والمباهج...
قال الموت بثقة:
ـ الآن بات من المستحيل ان أدلك على المكان الذي لا منفذ للخروج منه!
ـ آ ....، أنا أيضا ًطالما طربت للمحنة...؛ فتارة تبدو بلا حدود، وتارة تنغلق علينا، كما تفعل الرحمة بنا وهي تمد بعمرنا لنرى كم الظلمات شفافة، وكم الجور جميل!
ـ أصبحت تتحدث كأنك مازلت مديرا ً..؟
   ترك رأسه يتمرغ في وحل المغارة، فالجدران اتسعت، مستنشقا ً رائحة عطنة، رائحة جثث متفسخة، فدار رأسه، وفشل في رفعه، فتركه يغوص، ويغوص، ويغوص.
ـ كفى ...، كفى، فإذا كان قصدك ان تعاقبني..، فلا احد غيري المعاقب...، وهذا لا يليق بك ان تفعله، فانا عندما كنت أعاقب، كنت أنفذ العدالة، ولكن إذا كنت تريد لمعاقبتك لي ان يكون لها معنى...، فلا تدع أحدا ً يرى ما تفعله بي...، لأنها بلا أسباب، ولا مغزى لنتائجها! والآن بدأ الهواء يشح، وينفد، فلا غاية من معاقبتك لي إلا ان تشبع نزعتك بالارتواء من السراب! فمن أنا ـ يا سيدي ـ كي تذلني، ولا تشبع من إذلالي؟  أم ان لغز اللعبة يكمل حلقاتها كي تمتد...، كي تسأل الفريسة مفترسها: ماذا فعلت؟ فيقول الصياد: اذهبي وابحثي عن الذي أمرني...؟
   حدق في الظلام، فراى ما لا يحصى من الذرات مضاءة تحيط به من الجهات كافة: الجهات التي حكمها:
ـ كأنني ولدت ...، في هذه المغارة، في هذه الحديقة، توا ً! كي أشقى واشقي، أذل وأذل، أعاقب وأعاقب، وفي الأخير لا انتظر إلا من يحملني إلى العدم!
وأضاف يخاطب لا احد، بعد ان بدأ بالغياب:  
ـ  لم اعد اسمع صوتي..، ولا صوتي له رنين داخل رأسي، وراسي تحول إلى ومضات، ذرات، والى أجزاء متناثرة، فإذا لم أمت ـ الآن ـ  بهدوء، فلتذهب الحديقة، ومن فيها، إلى الجحيم.
4/12/2015


عن مهنة الكتابة/ إيزابيل الليندي

*ترجمة: توفيق البوركي

خاص ثقافات


الكتابة بالنّسبة لي محاولة يائسة لأحفظ الذّاكرة من النّسيان، فأنا سأظّل شريدة إلى الأبد. وعلى أرصفة الطّرق تبقى الذّكريات مثل قطع ملابسي الممزّقة. بمقدار ما أمشي تنفكّ عنّي جذوري الأصليّة. فأنا أكتب حتّى لا أندحر أمام النّسيان ولأُغذّي هذه الجذور المتعريّة وقد أضحت الآن مكشوفة للهواء.
-1-
مهنتي مهنة صبر وصمت ووحدة، فأحفادي الذين ينظرون إليّ ولساعات لا تنتهي وأنا أمام الحاسوب يعتقدون أنّني في عقاب. لِم أقوم بذلك؟ لا أدري… إنها وظيفة عضوية مثل النّوم والأمومة. أن أحكي وأحكي… إنّه الشّيء الوحيد الذي أريد القيام به. عليّ أن أُبدع قليلاً، لأنّ الحياة أروع من أي خيال سخيف تفرزه مخيّلتي. في أفضل الحالات فالكتابة تحاول أن تكون صوت من لا صوت له أو أن تكون صوت الذين تم إسكاتهم، لكن عندما أقوم بذلك فأنا لا أُمثّل أحداً ولا أقدّم رسالة ولا أفسّر أسرار الكون، بكلّ بساطة أحاول أن أحكي أحاديث ذات صبغة خاصّة، سعياً منّي ألاّ أنسى المرح والحنان، العنصرين الضّروريين لكي أمنح الحياة للشّخصيات.
أنا محظوظة لأنّني أنتمي لأسرة غريبة الأطوار، فكثير من المجانين هم من يشكِّلون سلالتنا الطّريفة. هؤلاء المجانين أوحوا إليّ كتابة جلّ رواياتي تقريباً، روايات استغنيت فيها عن الخيال، لأنّ في وُجودهم لن أحتاج إليه أبداً، ففيهم كلّ مكوّنات الواقعيّة السّحرية.

وُلدت كُتبي نتيجة عاطفة دفينة لازمتني زمناً طويلاً. فالحنين لتشيلي دفعني إلى كتابة رواية "منزل الأرواح" التي أردت من خلالها، وأنا في المنفى، أن أعيد بناء الوطن الذي أفسده انقلاب 1973، أن أُحيي موتاه وأجمع مُشتّتِيه. كنت في كاراكاس مثل غيري من آلاف المهاجرين واللاّجئين والمنفيّين، حين توصّلت في 8 يناير من العام 1981 من العاصمة سانتياغو بنبأ حزين أُخبِرت فيه أن جدّي، ذلك الشّيخ الرّائع الذي سيكمل حينذاك عامه المائة، يحتضر. 

في تلك اللّيلة وضعت الآلة الكاتبة في المطبخ وبدأت كتابة رسالة إلى ذلك الجدّ الأسطوري. كانت رسالة روحية، رغم أنّه لن يقرأها أبداً. كتبت جملتها الأولى وأنا في حالة غيبوبة، وقبل أن أستعيد قدرتي على الإدراك كنت قد كتبت: وصل "برّاباس" إلى الأسرة عبر البحر. من هو برّاباس وما علاقته برسالة الوداع التي أكتبها لجدّي؟ رغم أنّني لم أعرف لماذا، ولكن وبثقة الجاهل، فقد تابعت الكتابة بلا توقّف ولا راحة، في كل ليلة ودون أن أحسّ بأنّني أبدل مجهوداً كبيراً، كما لو أنّ هناك أصواتاً خفيّة تهمس لي بالقصّة؛ وبانتهاء العام تجمّعت لديّ 500 صفحة فوق طاولة المطبخ. وهكذا وُلِدت رواية "منزل الأرواح"، فمجيء برّاباس عبر البحر قد غيّر قدري، ولا شيء عاد كما كان بعد أن كتبت تلك الجملة. هذه الرّواية دفعت بي إلى عالم الأدب وبلا رجعة. الإحساس العميق بالغضب والسّخط على الدّيكتاتوريات التّي خرّبت، ودمّرت قارّتنا في عقد السّبعينيات الرّهيب كانت وراء كتابة روايتي الثّانية: "عن الحب والظّلال". 

في تلك الصّفحات أردت أن أجد المفقودين وأدفن بقاياهم بكرامة وأبكي لأجلهم. ركّزت الرّواية، التي أضفيت عليها صبغة الخبر الصحفي، على الجريمة السّياسية. خلال الانقلاب سنة 1973، كان الآلاف من الأشخاص قد ماتوا أو اختفوا في الشيلي، بينهم خمس عشرة مزارعاً من بلدة لُونكين على بعد 50 كيلومتراً عن العاصمة سانتياغو. 

وقد تم تحويل الرّوايتين معاً إلى فيلمين سينمائيين، كانا بحقّ أفضل بكثير مما كتبت.
أما روايتي الثّالثة "إيبا لونا" ومجموعتي القصصية "حكايا إيبا لونا"، فكانا كتابين نسائيين جعلاني متأكدة أن لا أحد كان سيُطيقهما لولا الحسّ الشهواني والساخر للكاريبي. أما تأثير فنزويلا، ذلك البلد الأخضر والسعيد حيث عشت طيلة ثلاثة عشر عاماً، فقد أنقدهما من أن يكونا مجرد منشورات تحرّرية.

-2-
وُلدْتُ في مجتمع متقشّف، اختلطت فيه جينات المهاجرين القشتاليّين والباسكيّين بدماء الهنود القاتمة، وشدّة وعورة سلاسل جبال الأنديز مع عواصف المحيط الهادي، مما منحنا نحن الشيليين مزاجاً رصيناً وحذراً لكنّه أحياناً يكون فظّاً وخشناً، نأخذ كلّ شيء على محمل الجدّ ولا شيء يُخِيفنا غير احتمال أن نكون مثيرين للضّحك. في فنزويلا تحرّرت من هذا الخوف وغيره من الأوهام، تعلّمت الغناء والرّقص والضّحك من نفسي، فالمرح اعتاد أن يكون سلاحاً فعّالاً. لهذا تطرّقت في رواية "إيبا لونا" و "حكايا إيبا لونا" إلى الحركة النّسائية بشيء من الظّرافة مما أزعج بعض متعصّبات الحرس القديم، فاتّهمنني بالخيانة.
في الأيام الأخيرة، فقد مفهوم المتعصّبة النّسائية اعتباره وقيمته، ورأيت كثيراً من النّساء يتراجعن وهن خائفات عند سماعه. بالله عليكم، لا تحسبوا أنّهن لا يُحببن الرّجال ولا يحلقن سيقانهنّ، فانا أعلن وبكل فخر أني كذلك. منذ أيّام الشّباب استوعبت أوجه الاختلاف والتشابه بين الجنسين وازدواجية المعايير الأخلاقية التي أضرّت بالنّساء كثيراً، كما أني أدركت أن المجتمع الذّكوري هو المُهيمن على ثقافتنا، لقد تحرّيت عن كلّ شيء: التقاليد والأسطورة وثقافة العائلة والدّين والعلم، وكلّ ما يزاوله الرّجال. أعتقد أن الإحساس بالأنوثة هو ما يجعل أغلب النساء في وضع مريح. بالنّسبة لي، فقد استغرقت أربعة عقود لأتقبّل وضعيتي كأنثى، فيما قبل كنت أريد أن أكون رجلا: من فضلكم ليس هذا حقداً فرويدياً. فمن يستطيع أن يحقد على تلك الذّيل الصغير والمُتقلّب الأطوار؟ 
في سن الخامسة والأربعين، كنت قد تطلّقت حديثاً من زوجي الذي تحمّلني بصبر وأناة لأزيد من ربع قرن. وبينما كنت أتجوّل في كاليفورنيا، حدث أن تصادفت مع وليام غوردون، آخر عزاب سان فرانسيسكو الغير المثليّين، هذا الرّجل أضفى سروراً على حياتي وأوحى لي تأليف كتابي الخامس: "الخطة اللاّنهائيّة". بعد صدور الكتاب انتابني الخوف لأنّه لا يحتوي شيئا من الرمزية أو البطولة، كان شبقياً وشهوانياً خالصاً. عندما تعرّفت على وليام كنت أنام وحدي ولوقت طويل، رأيته لأسبوعين أو ثلاثة، فقد سَقطتُ عليه من أعلى مثل إعصار، وقبل أن أصل إليه لأنّه كان متزّوجاً، لم يتبقّ لي إلا الاستيلاء على قصّة حياته لأكتب رواية عن كاليفورنيا.
-3-
في سنة 1991، بالضّبط بعد أن قدّمت في مدريد كتابي "الخطة اللاّنهائيّة"، حدث أن أصيبت ابنتي باولا بالبورفيرّيا ودخلت في غيبوبة. هذا المرض ليس مرضاً قاتلاً، لكن حظّ باولا كان عاثراً. في وحدة العناية المركّزة، وبسبب قلّة الرّعاية، أصيبت ابنتي بجلطة دماغية عنيفة. خمسة أشهر بطيئة مرّت وهي في المستشفى، جعلتني أتقبّل ما قد حدث. أخيراً تسلّمت باولا وهي في حالة غيبوبة نباتية مستمرة، فأخذناها إلى منزلنا بكاليفورنيا حيث سأتعهّدها بالرّعاية مع باقي أفراد العائلة.

ماتت باولا بين ذراعيّ في صبيحة السّادس من كانون الأول عام 1992. كان ذلك أقسى ما تعرّضت إليه في حياتي، بعد رحيلها عمّ المنزل فراغ كبير نغصّ عليّ حياتي. لم افهم لِم لَمْ نمُت سويّة. حينئذ جاءت أمّي ومعها الخلاص ممّا أنا فيه: علينا ألا نتمنّى الموت، لأنّه قادم في جميع الأحوال، فالتحدّي هو الحياة… وضَعتْ على الطاولة، إلى جانب دفاتري الصّفراء، مائة وتسعين رسالة كتبتُها لها خلال ذلك العام، حكيتُ لها فيها، شيئا فشيئا، عن المرض الذي دمّر ابنتي، وقالت لي: إيزابيل، خذي، اقرئي ورتّبي كلّ هذا، لتفهمي أن الموت كان هو الخلاص الوحيد لباولا. قمت بما طلبتْه منّي رويداً رويداً، وجملة جملة، ودمعة دمعة، لقد وُلد كتابٌ آخر والذي سميته: "باولا"؛ لم يكن رواية لكنّه عبارة عن ذكريات عارية، كتبتها من أجل ابنتي كتعويذة لأتغلّب على الموت. انه ليس كتاباً حزيناً، بل احتفال بالحياة وبالقدر البوهيمي لعائلتنا. جدّتي تقول بأنّ الموت غير موجود وأنّنا نموت عندما ينسانا الآخرون. إذن فما دمت أنا أعيش فباولا تعيش معي. أليس هذا هو القصْد من وراء الكتابة؟ أن تقهر النسيان.

-4-
الروايات التي أكتبها لا أحملها في ذهني، وإنّما تنمو في أحشائي ولا أختار مواضيعها وإنّما هي من تختارني، كلّ عملي يكمن في أن أخصّص الوقت الكافي والهدوء ونظاماً للكتابة، لكي تظهر الشّخصيات بشكل تامّ وتتحدث عن نفسها؛ فأنا لا أختلقها، إنّها مخلوقات توجد في بُعْد آخر، وتنتظر فقط من يجلبها إلى عالمنا. وبالتالي فأنا لست سوى أداة، كالمذياع مثلاً، فإذا استطعت أن أضبط التردّد بدقّة، فربما ستظهر هذه الشّخصيات وتحكي لي عن حياتها.

في الثّامن من كانون الثّاني من كلّ عام، عندما أبدا كتاباً جديداً، أُقيم حفلة سرّية لاستحضار أرواح العمل والإلهام، ثم أضع أصابعي على لوحة المفاتيح، وأدع جملة الانطلاق تُكتب لوحدها كما لو أنّني في غيبوبة، تماماً كما حصل مع برّاباس، الذي جاء عبر البحر في رواية "منزل الأرواح". 

ليست لدي خُطّة، ولا أدري ما الذي سيحدث، تلك الجملة هي التي تفتح لي الباب لأتطلّع، وبخجل، إلى عالم آخر. وفي الأشهر المقبلة سأكتشف ذلك العالم كلمة بكلمة. في البداية تكون الشّخصيات غير واضحة المعالم، غير أنها تعلن عن نفسها رويداً رويدً، كلّ فرد بنبرته الخاصّة وسيرة حياته ومزاجه ومهاراته وعظمته، إنّها شخصيات حقيقيّة ومستقلّة، وإذا تدخّلت لاحتوائها والسيطرة عليها فسيكون ذلك غير ذي جدوى؛ فالقصّة تنفتح بتؤدة وأناة، حتى تصل في آخر المطاف إلى كشف مكنوناتها الدّفينة.

ومع ذلك، فهذا لم يحدث بعد وفاة ابنتي، إذ ولا شخصيّة جاءت لتطرق بابي، فاعتقدت أن منبع القصص- والذي كان معينه على ما يبدو لا ينضب - قد جفّ واضمحّل.

مرّت ثلاث سنوات ولم أستطع كتابة قصص خيالية، آنذاك تذكرت بأنني صحفيّة، وإذا ما أُعطي لي موضوع ما مع مهلة زمنية للتقصّي والبحث، فباستطاعتي أن أكتب عن أيِّ شيء كيف ما كان. تسلّمت أحد المواضيع البعيدة كل البعد عن الآلام والأحزان وانتهيت إلى كتابة "أفروديت" وهي ذاكرة للحواسّ. إنها كتاب عن الشّراهة والشّهوانية، عن الطّبخ والحُبّ. هذا الموضوع الذي استلزم التطرّق إليه نوعاً من المزاح والسّخرية، انتزعني من حالة الكآبة والانقباض الذي كنت أعيشهما، فعُدتُ إلى جسدي وإلى الرّغبة في الحياة وكتابة الخيال.
في الثامن من كانون الثاني عام 1998، بدأت رواية "ابنة الحظ"، وكان موضوعها هو الحرّية. فالبطلة الشابة إليزا سومرس، أبحرت في العام 1849 من ميناء مدينة بالباراييسّو باتجاه كاليفورنيا، لاهثة وراء حبيبها الذي غادر منذ شهرين، وبحكم نشأتها الأرستقراطية، فقد أُجْبِرت في كاليفورنيا على استبدال لباسها بآخر رجالي والخروج لغزو عالم ذكوري معتمدة على سلاح الشّجاعة دون غيره. وخلال مسيرتها لسنوات ساعية وراء ذلك الحبيب المنزلق اكتسبت إليزا شيئا ثميناً كما الحبّ: اكتسبت الحرّية.
عندما أنهيت تلك الرواية كتب لي بعض القرّاء بأنهم يودّون معرفة المزيد عن الشّخصيات، فافترضت أن النّهاية المفتوحة التي وضعتها للكتاب لم ترُقْهُم، وهكذا في العام 2000 كتبت رواية "صورة عتيقة"، هذه الرّواية ليست جزءاً ثانياً لسابقتها، لأنها تتيح إمكانية قراءتها بشكل مستقلّ رغم أنها أخذت من الرّواية الأولى بعض الشّخصيات.
تحكي الرواية قصة أُرورا ديل باييّ حفيدة إليزا سومرس، التي وُلدت بالحيّ الصّيني بسان فرانسيسكو، والتي عانت في طفولتها من صدمة فقدت على إثرها ذاكرتها في السّنوات الماضيّة؛ فتبنّتها جدّتها لأبيها حتّى لحظة هجرتها من كاليفورنيا إلى الشيلي على عكس ما قامت به إليزا سومرس.
جرت أحداث الرّواية بداية، في فترة من أهمّ الفترات في تاريخ الشيلي أواخر ثلاثينيات القرن التّاسع عشر، في ذاك الوقت مرّت البلاد بحروب وثورة دموية. أعتقد أنّه حينئذ تمّ إنشاء المجلس الوطني. تيمة هذه الرّواية هي الذّاكرة، التيمة الأساسيّة في حياتي والمتكرّرة في جلّ أعمالي.
في هذا الكتاب أخذت كذلك بعض الشّخصيات من روايتي الأولى "منزل الأرواح"، مُشكّلة بذلك ثلاثية وهي: "ابنة الحظ" و"صورة عتيقة" وأخيرا "منزل الأرواح". 
أحدث كتبي الآن هي "مدينة البهائم"* *، قصّة عن المغامرات وعن السّحر الموجود في الأمازون، أتمنّى هذه المرّة أن يكون قرّائي من الأطفال والشّباب، فبعد أن كتبت روايتين تاريخيّتين طويلتين، فأنا بحاجة لأنْ أستعيد مرح الطّفولة. أليست الكتابة للصغار إذن شيئاً جميلاً؟ لَمْ أتسلّى قطّ بالكتابة كما أفعل الآن، وأتمنّى أنْ تعود شخصيّات "مدينة البهائم" لمرافقتي في كتب ومغامرات أخرى. 

-5-
كلّ الأحداث والأشخاص الذين عرفتهم في حياتي هم مصدر إلهامي الوحيد، لهذا أحاول العيش بشغف وأن أتعرّض لجميع الأهواء دون خوف من الآلام التي لا مناصّ منها، فتجارب اليوم، هي في الغد ذكريات، هي الماضي الذي يُنسّم وجودي. إذا تطلّعت إلى حياة مستقرّة فلن أستطيع الكتابة، وماذا سأكتب؟ ذاكرتي ذاكرة المغامرة والحبّ والألم والفراق والغناء والدّموع. عندما أنظر إلى الخلف يتملّكني انطباع بأنني بطلة ميلودراما، لكن يمكن أن يكون ذلك غير صحيح: فقد خانتني المخيّلة. أمضي عدّة ساعات وأنا وحيدة وصامتة فيتلاشى الواقع من أمامي وأنتهي إلى سماع أصوات ورؤية أشباح وأختلق نفسي بنفسي. أوقعني الزّمن في شراكه ثمّ بدأ دورانه، لقد عشت ما يكفي لأرى العلاقة بين الأحداث والتحقّق من أنّ الدوائر مغلقة، لذا أخطو بحذر شديد، لأنّ ما حدث معي يستوجب أنّ كلّ حركة وكلّ كلمة وكلّ قصد له أهمّية في التشكيل النّهائي للوجود. ربّما فالزّمن لا يمضي، وأننا نحن من يعبُره. ربما يكون الفضاء مليئاً بهيئات من جميع الحقب، كما تقول جدّتي. فكلّ ما حصل وسيحصل يتعايشان معاً في حاضر أبدي. باختصار: أعتقد أن كلّ شيء ممكن.
الآن وقد وصلت إلى سنّ محترمة. فإنني أنظر بابتسامة إلى الماضي وأترقب الموت بفضول كبير، فلا شيء يحرّرك أكثر كالتّقدم في العمر... والألم. ليست لديّ خطط ولا تخوّفات ولا أشعرُ حتّى بالنّدم: فأنا أستطيع أنْ أكتُب بحرّية تامّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* * رواية "مدينة البهائم" صدرت سنة 2002، وقد ألّفت بعدها الكاتبة حوالي 12 عمل روائي، كان آخرها رواية "العاشق الياباني" التي صدرت أواخر شهر مايو الماضي. (المترجم).

الاثنين، 14 ديسمبر 2015

مؤيد الراوي ... الخلاص المستحيل-عادل كامل

مؤيد الراوي ... الخلاص المستحيل



عادل كامل
  في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لم اعد أتذكر من أوشى بمؤيد الراوي، كي يتم حجزه، لفترة قصيرة، بعد أن تدخل عدد من زملائه، وفي مقدمتهم فاضل العزاوي، على إطلاق سراحه، مع إن فاضل العزاوي، والراوي، ذكرا اسم هذا المخبر...، المهم إن الشاعر والرسام شفيق الكمالي ـ وزير الثقافة أو الإعلام ، هو من أسهم في تحريره من الحجز ...، فأقام العزاوي حفلة في بيته احتفاء ً بهذه المناسبة، لكن صديقنا جان دمو، بعد أن ثمل، قال ساخرا ً:
ـ حررتم الرجل من السجن، كي تخرجوه إلى السجن الأكبر!
    لم أر مؤيد الراوي بعد تلك الأمسية، فقد سافر إلى بيروت، ولا أتذكر من اخبرني ـ بعد أشهر قليلة ـ  إن الراوي قال له: لم يبق تروتسكيا ً في بغداد  إلا عادل كامل!
    لم اصدم، بل ذعرت، مع إن اسم تروتسكي لم يكن يشكل تهمة، كما هو اسم ماركس، أو لينين، أو ستالين، أو فهد، أو سلام عادل، فالذين تصفحوا "الثورة المغدورة" و كتاب تروتسكي حول الإرهاب والشيوعية، وبعضا ً من مقالته حول الفن والأدب، قلة قليلة...، ولا اعتقد إن أحدا ً من العاملين في الأجهزة الخاصة كان على معرفة بها..، أو تعنيه مثل هذه المعرفة! وأنا بدوري لم أبد إلا إعجابا ً، بفكرة الثورة الدائمة، المفهوم ـ الذي لم أتخل عنه، مع نفسي في الأقل ـ فلا يمكن أن ينفصل عن قوانين الطبيعة، والمجتمعات، وصيرورة التاريخ...الخ، فمادام الخلود، بوصفه ذروة ـ وهو يعني بالعربية: السكون، الجمود، والموت ـ فان ديمومة الحركة ليست عشوائية، أو محض تراكمات مصادفات، وإنما ـ كي تصير تاريخا ً ـ  فإنها بانتظار من يمنحها شرعية أن تسهم في تقليص المسافة بين حدود المتضادات: الثراء الفاحش إزاء الفقر المدقع، المدينة الريف، الإسراف في العنف إزاء المهادنة، التفاؤل المطلق إزاء اليأس التام، الإفراط في التشدد إزاء الفوضى، الاجتهاد في اختراع الممنوعات والمحرمات، إزاء الانفلات، الإرهاب إزاء المرونة، الغباء إزاء العقل...الخ، إنما كان تروتسكي  قد أغواني ـ بفعل غيفارا ً الذي قدمته هوليود ببذخ فاق وعينا ً لمفهوم الثورة الدائمة ـ كان السبب كي أتذوق مرارة تجربة لم ادعها تمتد أكثر من زمنها....، كي أدرك إننا كنا إزاء صعوبات كان مؤيد الراوي قد اكتوى بجمراتها أيضا ً.
   كان الراوي، نموذجا ً متقدما ً لجماعة أنتجتها كركوك، لأسباب عديدة، ومنها إنها مدينة نسجتها وبنتها تنويعاتها الثقافية، الدينية، القومية، كما كان لنشوء شركات النفط الأثر في منح المدينة مبررات أن تكون رائدة بالانتقال من ظلمات القرون الطويلة إلى ما كان يحدث في مدن العالم من حداثات، وتقدم...
   فظهرت جماعة كركوك، قبل 1964، ولكنها سرعان ما واجهت مصيرها، خاصة بعد نكسة حزيران 1067، بإعلان حضورها المتمرد، والشروع بكسر قيود بلغت ذروتها، فكان لهذه الجماعة أثرها المباشر، في البيئة البغدادية المتعطشة للتجديد، في مجالات الفنون، والشعر، والوعي النقدي قبل ذلك. فالعالم لم يعد قديما ً فحسب، بل كابوسا ً.
   لم تقو الجماعة ـ بأفرادها ـ إلا الرضوخ لصدمات حتمت الاحتماء بعالم آخر، غير بغداد أو كركوك، فتفرقت، تاركة  ما أنجزته للتاريخ.
   إن مؤيد الراوي ـ ومعه زملاءه ـ سكنه الحلم ذاته الذي رواد السومري، رمز العدالة وضحيتها، فصار اسمه "العادل المعاقب" في نص دوّن قبل خمسة آلاف عام، وليعاقب بذنب لم يقترفه.   فالجماعة عملت على نقل الحلم من الرأس، نحو الواقع، والعمل على قهر المستحيلات، كالتجديد والإبداع بوصفهما إرادة واعية لمواكبة العالم الحديث، لكن هذا التوجه سرعان ما اصطدم، بالثوابت، ولكن ليست الاجتماعية، النفسية، والاقتصادية، الرمزية فحسب..الخ، بل بفعل العوامل التي ستبقى  تبرهن إن دور (الطليعة) لن تمتلك إلا قدرها، إزاء مجتمعات لم تتخط  اقتصاد الموجة الأولى، اقتصاد الطبيعة، البرية، وعصر الأصوات.  ولقد كان الراوي، في كتاباته المبكرة، ومنها حول جماعة المجددين، وجواد سليم، والتشكيل العراقي عامة، قد إدراك إن العالم قد تخطى عصر: الأيديولوجيات، المعتقدات، القوميات، وكل ما يفضي بالتعصب إلى العنف، والعنف المقابل، وكل ما يفصل التنمية عن الحرية، والحرية عن بناء عالم أفضل. وهذا ما جعل مصائر زملاء الراوي، تصطدم بالكابوس، وحتم على الجميع ـ إن أرادوا البقاء على قيد الحياة ـ فلا مناص من البحث عن كوكب آخر، أو العثور على عزلة مشرفة*.
     لكن مؤيد الراوي سيرحل، مبكرا ً، حتى لو كان قد بلغ الـ 74، مما يحتم على العدالة ـ وأنا أجد صعوبة حتى بالتعرف على معناها في حدها الأدنى  ـ أن تتخذ من إبداع الراوي وحياته ،شهادة  تناسب انجازه، الفني والجمالي، ليس بوصفة حالة ذاتية، وإنما بوصفة علامة لجيل تم نفيه، وعزله، وتركه يغيب. وهي إشارة لفتح ملفات إن لم تقم بها المؤسسات المعنية بحقوق البشر، أو حتى بحقوق الحيوان، داخل البلد أو خارجه، فان أكثر المواهب رهافة ستلقى المصير ذاته، وكأن بلده صار شبيها ً بأسطورة سيزيف، لا الصخرة توجعت، ولا المعاقب تخلى عن حمل الصخرة!


_______________
ـ تكونت جماعة كركوك من: فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي، أنور الغساني، صلاح فائق، جان دمو، جليل القيسي، يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد،
ـ إصداراته الشعرية:

1 ـ نزهة في غواصة ـ 1970  لم تحصل موافقة الرقابة على نشرها.
2 ـ " احتمالات الوضوح " بيروت ـ 1974
3 ـ  ممالك ـ دار الجمل ـ برلين 2010
4 ـ سرد المفرد ـ دار الجمل ـ برلين 2015



* نموذج غير معروف كتبه مؤيد الراوي، يوضح مدى اهتمامه بالرؤية الفنية:

القاعدة التي ينطلق منها المجدد •







مؤيد شكري الراوي

ظل الفنان العراقي قاصراً عن أداء مهمته دون ((جواد)) وخلال سنوات طويلة ألحقت بالفن خاصية التحريك دون أن يكون لهذه الخاصية من وجود غير الجانب الإعلاني وهو يستعرض الخواص الأكثر إثارة الناس، عندما تقوم من خلال سيكولوجية رديئة تقر واقعهم القائم دون تغيير أو تشذيب، وفي الجوهر كانت المحاولات تلك خاضعة لرؤى مقطوعة الجذور عن إدراك طبيعة القطاعات البشرية وأساس علائقها وجوهر تكوينها.
بهذا فقد الفن معنى الإدامة. وكان ينهض على أرضية هشة، سرعان ما زاغ فألقى ظهره للجمهور، ولم يأت الابتعاد من خلال تعميق مفهوم الفن الحقيقي – المفهوم الذي يمتنع عن التشبث بالعواطف الآتية والانفعالات اليومية، بل جاء من خلال القحط الذي أصاب الفن عندما أنسلخ عن الناس.
أن حركة الردة – الفنية – عمدت إلى الركوع أمام جمهور جديد يقيم كل شيء تقييماً تجارياً بحتاً، وهذه الحركة خانت نفس الفنان قبل كل شيء ودفعته على سلالم المهنة لينتهي صانعاً مجرداً.
من هنا فقد الفن العراقي معناه وتحول إلى مجرد أشياء: لون وخط وتركيب سقيم يعرض في الظاهر بضعة ملامح عراقية فجة، أو ينقل طريقة غريبة تلحق بمشاهدات إقليمية دون حرارة.

*   *   *
لقد ولد التجريد تمرداً على الخطوط البائسة للفن وتثبيتاً للمفهوم الذي ينطلق من العصر بكل أبعاد إنسانية وموقفه: الإنسان الباحث عن أزمته في كل حركة وجودية، ومن كل انتماء يحدد عمق الموقف وانفتاحه على الكون.
وعلى خلاف الآخرين، يحاول المجدد أن يطرح نفسه ككائن واحد لصيق، دوماً بالتجربة، دون أن يحدث انفصالاً بين مفهوم وآخر، ويدق إسفيناً بين حياته كفرد وحياته كفنان يعيش رؤى خاصة.
أن الفن العصري قد للفن العراقي وسائل تعبير غنية، ووضعه على أعتاب التمكن من تحليل نظرته إلى الأشياء وإعادة بناءها وفق مفهومه الخاص. فالتمكن بالتكنيك وضبط الشكل ومختلف القضايا الحرفية الأخرى إزاحة عن الأتباع وطرح عنده قاعدة للخلق دون أن ينفصل عن ذاته وعن أرضه وجعل من هذه الخامات البنائية وسيلة لتجسيد الرؤى ومحاولة لخلق فن غير متمسح.
بيد أن المجددين يجمعون قطب الذات والآخرين تحت محور واحد، دون أن تغطى الوصولات الانتهازية لتبرر موقعهم. على خلاف مفاهيم أرستقراطيي الفن الذين عاشوا دوماً في مياه الآخرين.
أن الزمن الحالي يلح جذرياً ليكون الإنسان نفسه، وينظر إلى وسائله بحرية واحترام، بهدمها وبعيد بنائها تحت شروطه الخاصة. لا أحد يعرض على الفنان شرطه القبلي. وليست ثمة وسائل محددة وقسرية تضعه على طريق معين. أن الفنان يبدع داخل ملابساته الخاصة ويبدع عندما يحل أزمته بحرية وبجرأة دون أن يكون ظلاً للآخرين وللقوالب.   )
ملف كامل عن تجربة الفنان على الرابط التالي

http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N




الاثنين، 7 ديسمبر 2015

تداعيات في مقهى-أحمد الحلي

تداعيات في مقهى
أحمد الحلي
اعتدت أن أذهب بين وقتٍ وآخر ولا سيما في فترة الصباح  إلى مقهى يحمل اسم " مقهى أبو سراج" وهو  مقهىً يمتد بشكل طولي بمحاذاة شط الحلة قريباً من أقدم  وأعرق جسر في المدينة والذي اعتاد الحليون أن يطلقوا عليه تسمية " الجسر العتيق" ، هذا الجسر الصغير الذي أصبح عند طرفيه مكباً معلناً لنفايات وقاذورات المدينة  يقتصر دوره الآن على عبور المشاة فقط وهو يعاني على الدوام زحاماً شديداً في الذهاب والإياب ، على جانبيه يحتشد خليطٌ  غير متجانس من الباعة ؛ هناك عند طرفه بائع أو بائعان للسمك يضع  أحدهم  في إناء كبير ثلاث أو أربع سمكات  وهناك بائعو السنارات وخيوط الصيد ومستلزماته وكذلك بائعو مبيدات الحشرات وغيرهم ،  هذا الجسر سيرسّخ ثيمته بشكل نهائي شاعر الحلة موفق محمد بإحدى قصائده حيث قال ؛
جسر الحلة / مكتئباً أسيان/  طالت لحيته وابيضّت/ فتعلّق فيها الصبيان !
علمتُ أيضاً أن عدداً من مثقفي المدينة يرتادون هذه المقهى ، فذهبت إليها وهناك أتيح لي أن أتعرف على المكان الذي اعتاد أن يجلس فيه الناقد ع . ع  بمعية عدد من مثقفي المدينة ، وقد كنت معجباً بكتاباته النقدية التي ينشرها في كبريات الصحف العراقية ، ومع أنه ابتدأ حياته شاعراً وأصدر مجموعة شعرية بعنوان " أشواك الوردة الزرقاء" إلا أنه  شاع في الأوساط الثقافية العراقية أن كتابه عن الشاعر بدر شاكر  السياب يعد من أهم وأفضل الكتب التي صدرت عن هذا الشاعر الذي ترك بصمة لا تُمحى في ميدان الشعر، بيد أن الذي حببني إلى هذا الناقد بصفة خاصة  أن اسلوبه كان واضحاً  محبباً وإن تكن جمله قصيرة ومقتضبة إلا أنها  منغّمة ومحملة بالمعاني العميقة ، بعكس نقاد آخرين اعتادوا أن تأتي  كتاباتهم النقدية  متخمة بمصطلحات واستشهادات فجة  مقحمة مقتبسة من الكتابات النقدية المترجمة ربما ليس للكثير منها علاقة بما يتكلمون عنه ، فهم والحال هذه لا يقدمون نقوداً للنصوص المعنية وإنما يستعرضون أنفسهم وثقافتهم كطواويس ثقافية برّاقة  ليس إلا ، خاصة وأن الناقد الحلي الشهير الدكتور علي جواد الطاهر كان أثنى على ناقدنا واعتبره واحداً من أنبه تلامذته وعقد عليه آمالاً كبارا في استكمال ما كان بدأه هو في مشوار النقد الأدبي ، ملقباً إيّاه بـ" فتى النقد الأدبي" .
بعد مرور وقت ليس بالقصير ، استطعت أن أقترب من عالم الناقد المثير على الرغم مما لاحظته  من تحفظه الشديد تجاه الأشخاص الجدد الذين كانوا يرومون الدخول في حلقته ، لاحظت أنه كان يأتي إلى المقهى صباحاً على دراجته الهوائية التي كان يُطلق عليها تسمية " العراقي" ، الذي كان رفيقه الدائم في تنقلاته داخل المدينة ،  وقد علمت أنه رفض التعيين في دوائر الدولة وهو اختار العزوبية  بمحض إرادته ، لأنها تتواءم وتنسجم مع انطوائه وشخصيته الانعزالية ، وقد مر ناقدنا بأوقات عصيبة جداً بعد أن تم فرض الحصار الاقتصادي على العراق ....
استطعت أن أقتنص عدداً من الحكايات الطريفة حوله وفيما يلي أبرزها ؛
الجماعة ضايجين منّك
أثناء جلوسي بقربه وهو منهمك بتصفح جريدته ، كنت كثيراً ما أستمع إليه وهو يردد وكأنه يحدث نفسه ؛ "الجماعة ضايجين منك " ، لم أشأ أن أسأله عن ذلك ، لأنني لم أكن قريباً منه بما يكفي لكي أسمح لنفسي بمثل هذه الأسئلة  التي ربما سببت نفوره مني ، وكعادتي في مثل هذه الحالات سألت أحد أقرب أصدقائه وهو فنان  تشكيلي يحمل لقب " الصعلوك" والذي صارت تربطني به علاقة وطيدة ، فأخبرني بأن هناك حكاية تقف خلف هذه الجملة  ، وهي كالتالي ؛
في وقت ما أصبح عدي صدام حسين رئيساً للتجمع الثقافي العراقي ، وهو مجلس بصلاحيات أعلى بكثير من إمكانيات اتحاد الأدباء والكتاب  ، وقد حاول بعض الأدباء النافذين الإفادة من وجود ابن الطاغية رئيساً لهذا التجمع فتكلموا معه عن الأوضاع المزرية التي يعاني منها غالبية أدباء العراق ولا سيما الكبار ، فأوعز بتهيئة قوائم بهم وتنظيم أسمائهم ضمن درجات هي أ وب وج من أجل صرف مخصصات نقدية  لهم ، وأرسلوا تبليغاً رسمياً لكل واحد منهم ، وحين وصل المغلف الذي يتضمن التبليغ إلى يد ناقدنا وفتحه بتوجس شديد ، واطلع على ما فيه رده بتحفظ إلى الشخص الذي سلّمه إياه طالباً منه أن يعيده إلى الجهة التي ارسلته له ، وأوصاه  أن يقول لهم إنه غير محتاج وإذا شاءوا فليأخذوا هم هذه المخصصات ، بعد أن خرج هذا الشخص التفت الأستاذ إلى محدثه قائلاً باشمئزاز ؛ عوع ! ولم تمر سوى أيام قلائل  ، وأثناء جلسة ليلية في مقر اتحاد الأدباء  ببغداد  همس أحدهم في أذنه ؛ "الجماعة ضايجين منك " ، فهم الأمر ولكنه تساءل  بحذر محاولاً إخفاء اضطرابه ؛ " منو يا جماعة ؟ ، أخبره محدثه أنهم " جماعة الجماعة " ... فشكلت لديه هذه الجملة هاجساً مزمناً ، وأخذ يرددها  باستمرار بينه وبين نفسه  حين يتاح له أن يكون وحيداً أو يحس أنه بمأمن  من المحيطين به ...
برهوم أنا جبار
أتيح لي أن أحظى معه  بعدد من الجلسات الليلية في مكتبة أحد أصدقائنا ، وكثيراً ما كنت أراه منطلقاً ومنشرحاً كما لم أره من قبل ، وكان مولعاً بشكل خاص بأن يغني بصوته الرخيم عدداً من المقامات الشجية ، من بينهما أغنية تراثية يرد فيها المقطع التالي ؛ تعال وشيل عني هموم ... عنّك وعني ، إلا أنه كان مولعاً بشكل خاص بالترنم بأغنية نجاح سلام الشهيرة ؛ برهوم حاكيني" ، وقد أنه كان يضيف إليها من عندياته ؛
برهوم أنا جبار شغلي نقد أشعار !
همس أحدهم بخبث أنه  في فترة ما من حياته كان يعشق من طرف واحد شاباً اسمه ابراهيم .
ضحوكُ الوجه
في إحدى الليالي وبينما صديقنا الفنان التشكيلي يعزف  على عوده مغنياً بيتين  شعريين رائعين مستلين من قصيدة بعنوان " ليل المُعنّى" كان نظمها  شاعر ضرير اسمه غالب ليلو البزاز من أصدقائنا ومن روّاد المكتبة أيضاً إلا أنه لم يكن من محتسي الخمر  والبيتان هما ؛
لا الصبحُ عندي كصبح الناس
مبتسِماً ولا الليلُ في آفاقِه قمرُ
يا ليت ما كان لي حِسٌّ يُعذّبني
كم كان يُبهِجني لو أنني حجرُ
 لم تمر سوى أيام قلائل حتى جاءنا  ناقدنا بقصيدة خمرية  تتألف من أكثر من ثلاثين بيتاً جادت بها قريحته  ، وقد قالها مثنياً على جودة الخمرة  التي اعتاد صديقنا صاحب المكتبة أن يجلبها لنا ، يحضرني منها  الآن هذه الأبيات ؛
ضحوكُ الوجه وضّاحُ الجبينِ
يسلُّ الشمسَ من فلكِ الظنونِ
ولم أوهبْ سواه فقلتُ مرحى
لما وهبَ الكريمُ إلى الغبينِ
حُبالى يا حُليماتٍ عِتاقاً
ولِدنَ قبل ميلاد القرونِ
وقالوا قد تُجَنُّ به فندّتْ
من الأعماق ؛ بوركَ من جنونِ

أخشى أن يُهشّم هذا الرأسَ الجميل
أثناء جلوسنا في هذه  المقهى ، لاحظت أن بعض المتطفلين من أدعياء الأدب كانوا في بعض الأحيان  يحشرون أنفسهم في مجلسه  ، حضر أحدهم  بهيأته الرثة وكانت تبدو عليه  امارات الثمل على الرغم من أن الوقت ما يزال ضحىً ، لاحظت أن الناقد كان كعادته في كل يوم منشغلاً بقراءة إحدى الجرائد ، وهو وقت مستقطع  شبه مقدس  لم يكن مسموحاً لأحد أن يثير فيه أية مواضيع أخرى ، إلا أن الوافد الجديد اقتحم المكان وجلس بالقرب منه مباشرة  قائلاً له ؛ "أستاذ جبار ، لقد كتبت بالأمس قصيدة جديدة وأرجوا منك أن تستمع إليها وتبدي رأيك فيها " ، أحس الناقد بالمأزق الذي حط على طاولته منتبهاً إلى مدى رعونة وصلف ضيفه بالإضافة إلى رثاثة ملابسه ، فحاول تهدئة الأمور موعزاً له أن يقرأ قصيدته ، فوجد هذا فرصته وأخذ يقرأ ويقرأ بكل حماسة واندفاع ، وحين أوشك على إنهاء قصيدته العمودية الطويلة جداً ، حانت منه التفاتة إلى وجه الناقد ليقف على الانطباع الذي تركته فيه ، فوجده منشغلاً كلية بقراءة جريدته ، فاستشاط غضباً ، قائلاً ؛ ما هذا أستاذ جبار ! أنا أقرأ لك قصيدتي وأنت لا تكف عن قراءة جريدتك ، يبدو أنك لا تحترمني ! فقال له ؛ أقرأ يا أخي أقرأ فأنا أصغي لك ! ، لم يشأ الشاعر إلا أن يقول بغضب ؛ بل أنت تحتقرني ! ثم هجم على الناقد الذي يبدو أنه كان متأهباً ومتوقعاً حدوث ذلك ، فانفلت من مكانه بخفة فهد ، لحقه الشاعر ممسكاً بكنبةً صغيرة  وهو يسبه ويلعنه ، فتدخل عدد من الأصدقاء وحالوا بينهما ثم دفعوا الشاعر إلى خارج المقهى  ، وبعد أن اطمأن الناقد وعاد إلى مجلسه سأله أحد الأصدقاء مازحاً ؛ مؤسف أن نراك أستاذنا  بمثل هذا الجبن ، فرد بأريحية  واضحة  ؛ كيف تريدون مني  أن أرد على هجوم وحش كاسر ، ثم أنني لن أسمح  له بتهشيم  هذا الرأس الجميل !
عبثيات خارج السياق
في يوم ما اتفق ثلاثة أشخاص أو أصدقاء ، سمّهم ما شئتَ  ؛ صاحبنا الناقد وصديقه الحميم الفنان التشكيلي وشخص آخر اسمه ع. أ على الذهاب إلى " الكاولية" ، وعلى الرغم من تحفظ الناقد الشديد  وانطوائه على نفسه إلا أنه وجد نفسه مسوقاً  بصورة قهرية للقيام بهذه المغامرة غير محسوبة العواقب  ، وبطبيعة الحال فإن من قام بترغيبه بذلك هو الشخص الثالث الذي عرف عنه أنه يهوى ويعشق أمكنة كهذه لا سيما وأن بيتهم كان مفتوح الأبواب على زائرين مخصوصين ، وقد ظل لمدة طويلة يتكلم بطريقة ساحرة عن هذا المكان المسمّى بـ " الفوّار" الواقع إلى الجنوب الغربي من مدينة الديوانية ، تكلم بطريقة أخّاذة  ومسهبة عن الأجواء الغرائبية المغرية الموجودة هناك ، عن القوادين  ذوي الشوارب الكثة الغليظة  الذين يلبس أحدهم الكوفية  والعقال  والملابس المكوية النظيفة وعن تبسّطهم بالحديث مع الزائرين الجدد الوجلين ، وعن القوّادات المحترفات اللواتي يبرعن في التعامل  الزبائن وإخفاء بعض الصبايا الهاربات من قسوة أزواجهن وأهلهن ، وأسهب في الحديث عن الصبايا الصغيرات الساحرات اللواتي  ربما وقعت إحداهن في حب أحدهم  فتأخذ هي بالإنفاق عليه  بإسراف وقد يؤدي بها ولعها وهيامها به إلى اعتزالها البغاء والاقتصار عليه بوصفه حبيباً أوحد ، وقد تهرب معه إلى الوجهة التي يختارها ، فيتحول بمرور الزمن وضيق ذات اليد إلى قواد محترف ،  وتكلم أيضاً عن حلقات القمار التي قد يربح أحدهم فيها المال الوفير بضربة حظ مواتية  ، وربما يضطر القائمون على طاولة القمار إلى دفع النقود إلى أحدهم من دون أن يلعب أو من أجل أن لا يلعب  وذلك لأنه ضليع ومتمرّس بأسرار اللعبة بما يكفي لعدم إمكان خسارته ، ومنذ الوهلة الأولى  كان من السهل على الفنان التشكيلي أن يقتنع بمشروع الذهاب  إلى مستعمرة  اللذة هذه ، فأخذ  بدوره يحبب الفكرة إلى الناقد ، الذي اقتنع أخيراً واشترط عليهما أن يكون أمر ذهابه معهما  سرياً  ، وأنهما حين يتحدثان بعد عودتهما عن ذلك فلن يأتيا على ذكره قط  ، فتعهّدا له بذلك .
ربما يستهجن  البعض توريط ناقدنا الحصيف  بخوض مغامرة  غير محسوبة العواقب كهذه  ،  وقد يندهشون من  موافقته  أصلاً على خوضها ولكن  هناك خلف الستار يمكن أن تختبئ بعض الحقائق على غرابتها ، وسنتكلم الآن عن أكثرها حسماً ، فاستناداً إلى حقيقة عزوبيته المديدة وإصراه عليها ، تلك العزوبية التي توفر له عالماً مثالياً  للكتابة النقدية  وممارسة رياضة التأمل وتوفر له أن يتحلل من مسؤوليات عديدة ينفر منها  ، ولكنها بمرور الوقت أضحت وبالاً عليه وأخذت تأكل في جرف صموده وإصراره  مع تقدمه في العمر، فعلى سبيل المثال حين اقتادوه قسراً إلى للانضمام إلى  صفوف الجيش الشعبي إبان فترة الحرب العراقية الإيرانية  والتي لم ينجُ منها أحد ممن لم يكونوا مشمولين  بالخدمة الإجبارية  ، وعلى أية حال تم اقتناصه بوشاية  أحدهم في منطقته  رغم حرصه الشديد على الاختفاء والتواري عن الأنظار ، أعطوه صرة الملابس وباقي التجهيزات  ،  وفي اليوم التالي وحال وصوله إلى المعسكر زوّدوه ببندقية كلاشنكوف روسية ووجد نفسه ذات صباح يتدرب مع المتدربين  ، يهرول ويطلق صيحات الحرب  ، عاد ذات مرة من التدريب الصباحي مجهداً محطماً ، فوجد في حظيرته عدداً كبيراً من القرويين ممن تم اقتناصهم في اليوم السابق ، فعرّفوه إليهم  وعرّفوهم إليه ، وكان الجميع ينادونه بـ الأستاذ ، وبعد أن استراحوا  في القاعة المخصصة  بانتظار وجبة الغداء ، تكوّموا على شكل مجموعات  يتحدثون عن شؤونهم الخاصة ويتحاشون التحدث عن الحزبيين و الوشاة  الذين كانوا السبب الأساس في قدومهم إلى هنا ، وعلى أية حال لم يجد الجميع  مناصاً إلا أن يتأقلموا مع وضعهم الجديد بوصفه واقعاً مفروغاً منه ، أخذ كلٌّ منهم يتحدث عن شؤونه وشجونه  ، يتذكرون زوجاتهم ويسهبون بالحديث عن أبنائهم  ومشاكساتهم  المحببة ، شكل هؤلاء الريفيون الجدد ما يشبه التكتل داخل هذا التجمع الحضري ، ولكنهم وجدوا أنفسهم مرغمين  على التواصل مع باقي أفراد المجموعة ، أراد أحدهم أن يتقرب أكثر من ناقدنا كاسراً حاجز الأستاذية  قائلاً ؛ " شسمه الزغيّر" ؟ هذا السؤال البريء المباغت كان بمثابة لكمة  قوية  مفاجئة يوجهها ملاكم محترف إلى فم ملاكم مبتدئ ، عقدت الحيرة  لسانه  ، حاول أن يتملّص من الإجابة ، إلا أن أحد رفاقه أوضح لهم أن " الأستاذ" غير متزوج  ، فانتبهوا  له  باندهاش  واستنكار؛ " شلون ؟ قال آخر ؛
ــ بهذا العمر وبعدك ما متزوّج  ، شنو السبب ؟
لم يلبث الأمر أن تحوّل إلى المزاح  والطرافة الريفية السمجة ؛ حين همس أحدهم في أذن أصحابه فانفجر الجميع بضمنهم أصحابه  ضاحكين ضحكاً مديداً دمعت له عيون بعضهم  ، فهم الأستاذ أن هذا المارق  قال لهم "أظنه ماعنده سلاح !"
لم يعلم أحدٌ أن ثمة حوارات كانت ثتور وتحتدم بين الفينة والأخرى بينه وبين  كائن آخر ، كائن سري هو جزءٌ منه  ، من جسده ، كان هذا الكائن يحس بالظلم والحيف والغبن الذي يعانيه  جرّاء قرار القدر المجحف الذي قضى بأن يكون جزءاً منه  ، وبالتالي إرغامه على تجرّع سلسلة الحرمانات  المديدة والتي يبدو أن لا نهاية لها ، كان يُحس ببعض الحنو الذي لا طائل من ورائه  ، حين تمتد كفّه إليه وهي تربت عليه مواسية  ...
من بين الحوارات التي جرت بينهما نقتبس الحوار التالي ؛
-  أصدقني القول واخبرني ؛ هل ثمة  ما يلوح في الأفق القريب أو البعيد من شأنه أن يبدد وحشتي ويضع حداً لعطالتي  ؟
-  همممممممم  !
- إذن لا أنتظر حلاً لمعاناتي وأنا في عهدتك  ، تلك العُهدة التي كُتبَ عليَّ أن أدفع فاتورتها الباهظة .
- قليلاً من الصبر يا صاحبي !
-  وهل أنا بارعٌ في شيءٍ سوى الصبر ؟ لو أتيح لي أن أنفلت منك لخرجت بتظاهرة  أجمع فيها حشداً ممن هم على شاكلتي فنجوب الشوارع نهتف بأعلى أصواتنا  ؛ فلتسقط العزوبية وليسقط العزّاب ولا سيّما العاطلون ! ولكنني أوجه إليك سؤالاً ؛ ألم تفكّر لحظة فيما يفعله الأزواج مع زوجاتهم ليلاً  ؟ لماذا لا تتزوّج وتنقذني من هذه الصحراء القاحلة التي أجد نفسي ملقىً فيها وأنت معي بطبيعة الحال ؟
- أنا أعتبر الزواج مسؤولية  قهرية ، وأنا كما يعرف الجميع أتهرّب  دوماً من حملها .
- هذا  يمكن أن ينطبق على الأشياء التي لا تربطك بها صلة  ، أما أنا ، فجزءٌ  أساسيٌّ منك  بل وأخطر جزء شئت أم أبيتَ ، أم أنك تفضل إلغاء دوري مصراً على إعطائي أذنك الطرشاء ؟
اتفق الثلاثة على يوم حددوا فيه موعد انطلاق رحلتهم نحو جزيرة السعادة  ، وبعد أن علم الأستاذ أن الطريق إلى هناك طويل قرر أن يستثمر وقت وجوده في السيارة فاصطحب معه أحد الكتب النقدية  المهمة  .
مضت ساعات طويلة  ملأت فيها الوساوس والقلق قلب الناقد ، فلم يُتح له أن يخوض تجربة شائكة كهذه ، هل هي ورطة وجد نفسه ملقىً فيها ، فكّر بالرجوع وترك صاحبيه لحالهما  ، ولكنه تذكر الحوارات المستديمة بينه وبين عضوه وتقريعه  المستمر له فآثر المضي قدماً في هذه التجربة الجديدة والمثيرة على ما يحوطها  ويكتنفها من تبعات ...
وأخيراً وصلوا إلى المكان المقصود ، وجدوه عاجاً وصاخباً ، فأصوات مكبرات الصوت تطرق أسماعهم بأغنيات غجرية  تقليدية  ، والزبائن الثملون يتطوّحون هنا وهناك ، بعضهم  ممن قضى وطره يتحلّقون حول طاولة يلعبون القمار ، وآخرون يقفون أمام البيوت  الصغيرة على أمل أن تخرج لهم القوادة من أجل أن تتكلم معهم عارضة بضاعتها  ( أي ما لديها) من الفتيات  ثم يتم الاتفاق على السعر ، ولم تكن المتعة متوفقة على ممارسة الجنس فقط ، فقد كان  البعض يهوى  العزف والرقص فحسب ، حيث  يدخلون الزبون إلى إحدى الغرف  ويجلسونه على كرسي وثير وتأخذ إحدى الفتيات بالغناء فيما تقوم أخرى بالرقص ويتمايل جسدها البض أمامه  ومن خلفها عدد من العازفين وأحياناً بعض الضاربات على الطبل وبين الفينة والأخرى تنطق المطربة باسمه ، فيشكل ذلك بالنسبة إليه عالماً اسطورياً ، ويشعر بالاكتفاء ويداهمه إحساس بالأهمية ولو لساعة أو ساعتين حسب الوقت المتفق عليه  ...
 ومن أجل تسهيل المهمة  عليهم وامتلاكم ناصية الجرأة  اقترح الفنان التشكيلي أن يحتسوا كأساً أو كأسين من الخمرة  التي كانت تباع في دكاكين صغيرة يديرها أشخاص مصريون  ، فذهب ع . أ وجلبها إليهم  .
ثم اقتادهما ذو الخبرة إلى بيت سبق له وأن تعامل معه  في وقت سابق ، خرجت امرأة مسنة تبدو على سيماها  بقايا جمال غابر  ، أخبرته أنه لا توجد لديها فتيات الآن  ، وأن الفتاة التي جاء من أجلها تزوجت قبل حوالي شهرين  وانتقلت للعيش في المدينة  مع زوجها ، سألها ؛ من يكون هذا المحظوظ  الذي تزوجته ؟ قالت ؛ إنه أحد أثرياء مدينة الحلة الذي وقع في غرامها وأصر على التزوج بها مهما كلف الأمر .
ذهب بهما إلى بيت آخر ، فسمع صياحاً وصراخاً  يأتي من  الداخل ، فهم أن هناك مشادة كلامية  ، هدأت الأمور قليلاً ، فتقدم وطرق الباب ، خرج له رجل عريض المنكبين بكوفية وشاربين كثين ، اختبأ الأستاذ خلف الفنان التشكيلي ،  وبعد أخذ ورد أدخله إلى البيت وأراه الفتاة ، صاح عليهما  ، وبالكاد استطاع الأستاذ الوقوف على قدميه ، أما عضوه فقد غار في أعماق سحيقة  فشجعه الفنان ممسكاً بيده ودخلا سوية ، وحين وقعت عيناه على الفتاة  استظرفها وأظهرت هي موافقتها  مقابل مبلغ باهض بعض الشئ  ، وخرج الاثنان من البيت حتى يقضي صاحبهما وطره ...
حين عادا بعد نصف ساعة ، لا سيما وأنهما سمعا صراخاً وصياحاً وجدا صاحبهما أشعث الشعر ممزق القميص ، فلما انتحيا به جانباً طلبا منه أن يحكي لهما عما حدث ، قال لهما والغصة والغضب يأكلانه أكلاً ؛ لقد سرقت العاهرة نقودي ولم تسمح لي بممارسة  الجنس معها  ، وحين طالبتها بأن تعيد لي نقودي صرخت وانهال جميع من في البيت عليَّ بالضرب والسب والشتم ، ثم أنهم مزقوا كتابي ...
ابتلعها صاحبنا ، وظل لوقت طويل مختبئاً في بيته  لا يجرؤ على الخروج  ، وبعد حوالي ثلاثة أشهر خرج وذهب كعادته إلى المقهى فوجد هناك في ذات المكان صديقيه  الفنان التشكيلي ومرشدهما  العتيد ع . أ ، بالإضافة إلى أصدقاء آخرين نظر الثلاثة كلٌّ منهم إلى الآخر ، وأخيرا نطق الأستاذ قائلاً بحنق شديد مخاطباً ع . أ  ؛ " هيه كلهه خمس دقايق خليتنه نروح لهناك ونتحمل كل هذه البهذله والرزاله ، ݘان خلّيتنه نفضهه ابيتكم " !

السبت، 5 ديسمبر 2015

الحرية للرفيق عقيل الربيعي

ديوان جديد لغالب المسعودي

عن المركز الثقافي للطباعة والنشر-بابل-دمشق- القاهرة-سيصدر ديواني الرابع بعنوان هكذا تمرد ابن عربي -المركز باشراف المبدع ولاء الصواف لوحة الغلاف من اعمالي

الخميس، 3 ديسمبر 2015

قصص قصيرة جدا ً مستعمرة الديناصورات-عادل كامل






قصص قصيرة جدا ً
 مستعمرة الديناصورات

  عادل كامل



      [ويأخذ مورغان العشيرة عند الايروكوا، وعلى الأخص عند قبيلة "سينيكا" كشكل كلاسيكي لهذه العشيرة البدائية. ففي هذه القبيلة توجد ثماني عشائر مسماة بأسماء حيوانات: 1 ـ الذئب؛2 ـ الدب؛ 3 ـ السلحفاة؛ 4 ـ القندس؛ 5 ـ الأيل؛ 6 ـ دجاجة الأرض؛ 7 ـ مالك الحزين؛ 8 ـ الصقر.]
انجلز. " أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة"


* رسالة من الكاتب عدنان المبارك، بتاريخ 16/10/2015 إلى عادل كامل"
    ["عزيزي عادل.( مستعمرة الديناصورات ) ملحمة سردية . نعم هي سردية  بامتياز ، ولا يهم هنا إذا تحولت إلى قصص قصيرة جدا. السؤال الآن : متى الإصدار ؟ لا أعرف كيف هي مستجدات النشر الورقي وهل ما زال ( ليس في الإمكان أحسن مما كان  )...
اللائق أن أجيب على كل رسالة  منك ، لكن لا أريد أن  أكتب روتينيا خاصة لصديق ورفيق روح مثلك. وهذا هو كل عذري...
 أنام وبمواجهتي صور العراق واستيقظ هكذا أيضا. لا أحد يقنعني بأن سبب كل هذا هو حماقة بعضنا وبعضهم.انه التأريخ الي يكشف عن مثل هذا القدر المرهب من الخبث والدهاء واللا إنسانية أيضا. هؤلاء  ( الحفّاي )  سابقا  يتصورون أن كل الناس صاروا حمقى ولا يفقهون جلية الأمر . ما العمل يا عزيزي، فكل إناء بالذي فيه ينضح...
أكتب وأكتب، وكأن الحياة سرمدية !  انه هوس  الغريق المتشبث بقشّة ، ولربما كل هذا وهم ، ففي الحياة الثانية ، إن وجدت ، مجرد رجوع إلى حديقة الحيوان الكبرى ( صورة مهذبة لمستعمرة الديناصورات ) !]


      [ إلى الصديق الذي سألني، قبل ثلاثين سنة، لماذا تكتب عن الحيوانات، أقول: هناك أشقاء لنا مازالت خطاهم لم تصل هذه العتبة!]


مقدمة [1]

من النبات إلى حدائقنا المعاصرة:
نكوص أم ارتقاء ..؟


عادل كامل


* إشارة:  هناك مثل سومري قديم غدا عابرا ً للزمن والقارات: "لم تلد امرأة ما ابنا ً بريئا ً قط!" ليس لأنه يوهمنا بقبول اشد الحقائق مرارة، أي القبول بالحياة بوصفها تامة البرمجة، ونهاياتها قائمة على مقدماتها، فحسب، بل لأنه يسمح للعقل أن يستأنف إجابات تعيد صياغة الأسئلة بالمضاف من الخبرة، والحكمة، بحسب المصائر، وما آلت إليه المخلوقات ـ بصنوفها وأنواعها ـ من رقي، أو من نكوص...، فالبراءة مكثت شبيهة بالحصول على الخلاص، بعد الاستغفار، وحسابات التسوية...، إزاء عالم الجبر، والضرورة، والقيود....، وانشغالي هذا ـ في مستعمرة الديناصورات أو في (الغزلان في السماء)  أو في (حديقة نوح)، وفي باقي الحكايات، لم يغوني بالركون إلى السكون، ولا إلى السكينة، فثمة جرثومة ـ سابقة في وجودها وجود الجماد والنبات والحيوان وسابقة أيضا ً في وجودها كل ما سيشكل بنية وآليات عمل القشرة الدماغية العليا للبشر فوق الغاطس من عصور الثدييات وعصور الزواحف ـ لا يغدو إلا مجموعة مخلفات وأثار تركها أصحابها، فرحت أعيد نسجها، بالدافع نفسه الذي للأمل وهو يذهب ابعد من الوهم، وابعد من الإثم، وربما ابعد من: البراءة. انه انشغال شبيه بأعراض المرض، إن لم يكن هو المرض نفسه! فهل كان باستطاعتي أن اذهب ابعد من موتي، أم كان لهذا الموت أفعاله البهلوانية، الشبيهة بما يجري داخل أقفاصنا، في حدائق العالم، إن كانت للجماد، أو للنبات، أو للحيوان، أو لنا، بوصفنا لا نمتلك ذريعة إلا للامساك بالبراءة، كالتي حلم بها السومري، عندما اخترع: جنة عدن...؟ معظم النصوص نشرت في: الحوار المتمدن، القصة العراقية، سومريننت، أدب وفن، وغيرها...، وهي ـ في مجموعها ـ تمثل أصل هذا الخطاب الافتراضي، لكن ليس مجردا ً عن واقعيته، بوصفها وحدها غير قابلة للدحض.
13/10/2015

 [1] وثيقة
   نشرت، إلى جانب سلسلة من القصص المستمدة من الحياة اليومية، إبان سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988)، حكايات شخصياتها شركاء لنا في الوجود: عصفور، فيل، ذئب، حمل، حصان، بغل ..الخ، فلفتت نظر زميلي (احمد هاتف) ليجري معي ـ بدافع الغرابة أو لأي دافع آخر ـ حوارا ً...، كي يضع عنوانا ً له ـ بدافع الاستفزاز أو لأي قصد آخر ـ : عادل كامل في مملكة الحيوانات....، فما الذي تغير...، وأنا أواصل استكمال هذه الحكايات، سوى متابعة السرد.


عادل كامل في مملكة الحيوانات
الواقعية سلاح ابيض ضد القبح!




تصوير: جاسم الزبيدي ـ 1980

بغداد: أحمد هاتف
 آخر ما صدر لعادل كامل، بعد كتابه (الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ الستينات) مجموعة قصص تحمل عنوان (ذاكرة البحر) وهي المجموعة الرابعة له.. ويستعد عادل كامل لإنجاز كتاب الرسم المعاصر في العراق.. فضلا ً عن إعداد مجموعة خامسة أبطالها كائنات غريبة: الفيل .. والحصان... والكائنات التي لا تحمل اسما ً.
وكان سؤالنا الأول له: لماذا هذا المنحى الجديد في تجربتك.. لماذا الحيوانات؟
ـ " لست رمزيا ً أولا ً.. فالحيوانات تقاسمني قدري. أنا أحب الفيل والحمار والكلاب مثلما أحب البشر. بل كم اشعر بالأسف لأني لم اعمل في حديقة للحيوان.. بل اشعر، أحيانا ً، بعذاب لأني لم أولد سمكة. هذا لا يعني إني ضد الوعي .. كما إني لست رمزيا ً في هذه الإشارة. كلا .. بل الإنسان يحلم بسعادة تنتمي إليه. وربما لهذا السبب، أصبحت اكتب عن أشياء تنتمي إلى قارات مجهولة: إلى ضحايا بلا أسماء."
انك تريد أن تقول شيئا ً آخر؟
ـ " مشكلة الكاتب العربي انه مزور كبير.. انه كذاب حتى وهو يروي أكثر الحقائق صدقا ً.. انه لا يعرف، مثلا ً، كيف يتحول إلى حصان مكسور.. والى نمر في مستنقع.. والى سمكة للزينة. أقصد إننا مازلنا في مرحلة ما قبل التاريخ."
لغة لم تلوث..

ولكن لماذا الحيوانات؟
ـ " لأنها تتكلم بلغة لم تلوث بعد. هل تفهم لغة الكركدن؟ كلا. إننا لم نكتب روايات أصيلة عن عذاب مليون صنف من حيوانات امة تعيش مجاعة وتخمة في الوقت نفسه! وهذه للحق دعوة للكتابة عن البشر.. أما أنا فدعوني اكتب عن حيواناتي المعذبة."!
لكنك بدأت تكتب عن النبات والأزهار والأشجار أيضا ً؟
ـ " سأكتب عن صخرة مهملة في الطريق. وسأكتب عن الهواء. لم لا .. أنا أحب الأشياء البسيطة التي تعلمنا النبل. احد أصدقائي، وهو بطل قصة، قتلته نباتاته ولقد رفضت هذه القصة لأنها لا إنسانية، كما إنها تخلو من الصراع! لكني سأكتب عن صراع بلا معنى: عن زهور تعيش في الصخر.. وعن اسماك متحجرة تعيش معنا. ان التخمة والمجاعة في امتنا لا تحل بالمؤتمرات الزراعية والصناعية، أما أنا الذي ابحث عن سيكارة أدخنها، ولا اعثر عليها إلا بشق الأنفس، فأعود إلى صمتي. دعونا نحتفل بالصمت ... فلا معنى للحديث عن أشياء كبيرة جدا ً."
بعد روايتيك (رغبات قيد الاستيقاظ) و (أعوام الشمس)هل ستعود الى الرواية؟
ـ " لا أعظم من الرواية إلا الصمت. ومادمت من المخلوقات الناطقة، فالرواية خلاصي الأجمل. إنها سيدة الفنون بلا منازع، بعد السينما .."
هل لديك تجربة جيدة؟
ـ " من الأفضل ان نتعلم .. لا ان نصبح أساتذة! ان الرواية تظهر عندما لا يستورد الشعب، أي شعب، القمح ويوزعه على الفلاحين! أجل ..السومريون كتبوا ملحمة جلجامش .. ومصر القديمة العظيمة شيدت ملحمة الأهرامات.. لكن تلك الشعوب كانت لا تستورد اللحم أو البيض.. ان هذه المفارقة وحدها تدعونا إلى الأسئلة. نحن امة بحاجة إلى أسئلة وإجابات أصيلة. ترى أين نحن من العلم المعاصر؟ من الطب المعاصر؟"
اذا عدنا إلى الفن.. أعرف انك أقمت ستة معارض شخصية.. ودرست الرسم أكثر من عشر سنوات، وبعد أشهر ستعود إلى مقاعد الدراسة أيضا ً.. فماذا عن الرسم؟
ـ " الرسم لؤلؤة.. نجمة..ذكرى عصر ذهبي.. هل تصدق إني أخاف من الرسم! مع ذلك لدي ّ مئات من اللوحات الكرافيكية التي لم تعرض.. وأكاد احسد نفسي عليها! لكني سأعود إلى الرسم.."
من رأى الشمس مرة ..
لديك ستة كتب في النقد.. وأنت عضو رابطة نقاد الفن الدولية التابعة لمنظمة اليونسكو .. فضلا ًعن نشاطك النقدي في الصحافة.. فهل تنوي ترك هذا المجال؟
ـ " لا. ذات مرة قال جدي: من رأى الشمس مرة لا يفكر ان يعود إلى الظلام. النقد الفني جزء من بناء الشخص. والثقافة لا معنى لها إلا  بالنقد.. والجهد المبذول في هذا المجال لا ينفصل عن بناء حضارتنا. ولكن للنقد أسبابا ً وشروطا ً.. مثلما للناقد .. في البدء لا بد من زمن .. ولا من رؤية ثاقبة أصيلة لا علاقة لها بالأهواء .. والرغبات العابرة. نحن اليوم بحاجة إلى مليون ناقد في الشعر والفن والأدب ولسنا بحاجة إلى مليون شاعر يحمل هوية زائفة للشعر. إني أؤمن، واكرر هذا دائما ً: علينا ان نعمل بدل الانتظار. [كودو] لن يعود ... وهؤلاء الذين ذهبوا إلى العالم السفلى، حسب الأساطير السومرية القديمة، يذكرونا باستحالة الرجوع. النقد اليوم يمثل وضع حد للقبح، لا في مجال الفن أو الإبداع عامة، بل على مستوى أخلاقيات البشر.. فإذا كان الفن لا يخدش البشرة الرقيقة لأصحاب الثروات الخانقة، فعلينا ان نقذف بهذا الفن إلى جهنم. الفن الذي نريد، مثل النقد، لا بد ان يدخل معركة بالسلاح الأبيض.."
في هذا السياق.. كيف تنظر إلى ظاهرة استلهام الفنان العربي للحرف؟
ـ " هذه واحدة من مظاهر الترف! فالفنان يرسم في عصر ما بعد الوفرة! بل في عصر الخيال! لكني لا ادعوا إلى أسلوب موحد، ولا إلى مليون أسلوب.. ببساطة علينا ان نبدأ من الشعب.. ومن ضميره الداخلي.. كي نتلافى تقدم العالم علينا، أي علينا ان نتذكر إننا ننتمي إلى أعظم الحضارات في العدل والإبداع والعلوم والشرائع، وان نبدأ، عندما نبدأ، من عمق التاريخ وليس من سطح العالم. عودة إلى السؤال لا اعتقد ان ظاهرة الحرف إلا تجربة لا يبقى منها إلا القليل.. بل والقليل جدا ً.."
هل تدعو إلى واقعية في الفن؟
ـ " أنا أتمسك بأصالة التجربة: الوعي بها، علميا ً، تاريخيا ً..وانظر بإعجاب للإبداع الذاتي الذي يعدل حتى من مسارات النقد.. إلى هذا الإبداع الذي يصنع النقد في الأخير.. ولا أريد ان أتحدث عن مدارس واقعية أو غير واقعية، ولكني لا اعتقد ان هناك إبداعا ً لا ينتمي إلى واقعه الروحي والإنساني. كل الفنون، وحتى منها السوريالية والدادائية واقعية إلى حد بعيد. لا توجد واقعية على الضفاف.. بل هناك واقعية تمثل، أو لابد أن تمثل، حركة أعماق البحر.. الضمير البشري.. وجماله.. ورسم آفاق لا يمكن أن تذهب سدى، وبلا معنى. ان الواقعية تعني، كما أرى، ان نحارب بالسلاح الأبيض القبح، فالواقعية تعني، في البدء، وفي الأخير، ان نبقى عشاقا ً للجمال، والفن الواقعي هنا، هو ديمومتنا، على الرغم من إننا نتحدث عن أزمنة الفناء."
[اليوم السابع ـ باريس. الاثنين10 آب (أغسطس) 1987]
لمتابعة القصص على ارابط التالي:http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N