الثلاثاء، 3 نوفمبر 2015

قصة قصيرة رائحة ما- عادل كامل

قصة قصيرة

رائحة ما


عادل كامل

     سمحت له نبضات قلبه باستدراك انه مازال قادرا ً على عزل رائحة الأعشاب عن القشور والأوراق، وعزل رائحة التراب عن رائحة الريش والصوف، وعزل الخشن منها عن الناعم، والجاف عن الرطب، وانه يمتلك قدرة ما للرؤية حتى بغياب أي مصدر من مصادر الإنارة، إن كانت من الشمس أو من المصابيح أو من القمر والنجوم.  فعاد منشغلا ً بتتبع انتقالها من اليسار إلى قمة رأس، وهبوطها من الأعلى إلى الأسفل، بعد أن توقفت لثوان في الوسط، فلم يعد يجادل نفسه، أو يحاورها، إن كان القلب هو مصدر الديمومة أم الدماغ أم كلاهما باستحالة عزل أي عضو له عن موقعه في العمل...، فلكل واحد من هذه الأجزاء وظيفته في الكل. ووجدها فرصة للتندر....، للتندر على نفسه، في ظلام الحفرة، وقد شعر أن الجسد الآخر الملتصق به، هو الآخر، مازال يشع حرارة، وانه لم يصبح متجمدا ً، وانه مازال مصدرا ً لرائحة حفزته للاستنشاق بعمق رائحة الريش الجاف الممتزجة بقشور بذور وجذور عتيقة غطت تراب الحفرة، من الأسفل، ومن الجانبين، حتى لذّ له أن يستعيد قدرة المراقبة، والتوجس، وانه لم يعد كتلة رخوة غير قادرة على الحركة.....، فقرب جسده بحركة غير مقصودة من جسدها، ثم ابتعد بإحساس سمح له أن لا يكتم نية ما لمعاقبة نفسه، وجلدها، فعاد يتحسس ضربات قلبه تصطدم بجدار الحفرة المتصلب، مستنشقا ً رائحة ما كانت تنبثق من باطن الأرض، فهو يعرف أن الحفرة تقع في مكان منخفض، بجوار زريبة الثيران وحظائر الخيول وأجنحة الحيوانات المستوردة، وان هناك ممرات للمياه الآسنة تصب في المستنقع، فأغلق انفه أو بالأحرى حاول تنفس ما يكفي من الهواء كي يحافظ على بقائه حيا ً، متجنبا ً الروائح ذات المذاق المر، والرطب الشبيه بما ينبعث من جحور الفئران والجرذان المجاورة لحفرته. فكر بمتعة غامضة، لم يؤلها، ليس لأنه تجاوز العمر المسموح له، ليصبح معمرا ً، بل لأن ما صدر بحقه لا يستدعي مثل هذا العقاب، كي يبقى أسير محنة أفضت به للاعتزال داخل حفرته...، ثم ليكتشف إن شريكته، التي ظن إنها غابت، أو اختفت، مازالت مصدرا ً غامضا ً لا يسمح له بتجاهل ما حصل له، ولا تدعه يتجاهل مصيره، بوصفه يستحق هذا الشقاء، حد التنكيل. وكم ود لو لكزها أو عضها أو هرب من الحفرة....، إلا أن قرارا ً كهذا القرار طالما كان عصيا ً، فدفع بجسده نحو جدار الحفرة حتى كف عن تحسس أية حركة لنبضات  القلب، فظن انه لن يعود للشعور بأنها مازالت تشاركه السكن في المكان ذاته، وقد ضاق بهما، حد استحالة مغادرته، بالأحرى لم يجادل إن كان لها حضور، فمنذ شاركته مصيره أدرك إن ما يشبه اللعنة قد حلت عليه، إنما تبدد ذلك بمرور الزمن، فلا يليق به ـ أو بأي ذي عقل أو أنياب أو مخالب ـ الايمان بأوهام لا تصمد طويلا ً إزاء الحقائق، فاعترف إن المعضلة رهن الأعراف وعادات الحديقة، ولكنه سرعان ما تراجع منكلا ً بضعفه، معترفا ً بالفارق الكبير بينهما، مما ضاعف الفجوة، وجعلها فراغا ً بلا حافات، فلا هو عرف كيف يرتقي بها للتفكير بدرجة أعلى ولا هو رضخ كي يداري مشاعرها، فأعلن موتها ـ في نفسه ـ مثلما أعلن موته، لها.
    ووجد انه في متاهة، لولا انه شعر برائحة ندية، رطبة راحت تتسلل إليه، ملأته حتى ود لو قلب جسده، وتحرش بها، مستسلما ً لرغبة ظنها شبيهة بما تمارسه الديدان، بل وحتى الحشرات، من وضاعة غالبا ً ما تبدأ بالبحث عن أنثى، لتواجه بذكور متربصين، من ثم إلى الاشتباك، عادة ما ينتهي بهزيمة الأضعف، بعد النصر الذي يحققه الآخر. انه فعل الأمر نفسه، قبل عقود، وظفر بها، كي تنجب له العشرات، والمئات، والآلاف...، حتى صارت جدة لجدات أحفاده، ولكنها أبدا ً لم تؤيده ولم ترض عنه، ولم تشاركه أفكاره، ولا مشاريعه، ولا أحلامه، ببناء حياة مشتركة خالية من العداء، والتنكيل، وسفك الدماء.
   عاد يستنشق الرائحة الممتزجة بصوت دقات القلب التي راحت ترتفع حتى حسبها صادرة عن آلة تعمل ذاتيا ً، أنسته انه قال ذات مرة: اغفر للحشرات، والبهائم، والأنعام، والكلاب، والديدان كافة ذنوبها، إلا ذنوب هذه ....، فحدجته مذعورة، وقالت إنها تترك الأمر للعلي القدير، ولا ترد عليه، لتوسخ ضميرها بترهات اللغو الفاسد، لكنها، منذ تلك اللحظة، لم تعد تشاركه حياته، ولا نظراته، ولا تراب الحفرة المشترك.
   ثم بدا له قلبه يتوقف عن الحركة، فلم يعد يحس بانتقال الألم من الصدر إلى أعلى الرأس، ومن الأعلى إلى الوسط، كما أحس بها قبل لحظات،  فقد شعر بفراغ بارد...، فدار بخلده انه ربما يكون فقد حياته، وانه لا يمتلك إلا صحوة للمراجعة الأخيرة، حصلت بسبب تتبع الألم، ثم الإصغاء إلى ضربات رتيبة، والانشغال برائحة كادت تحفزه إلى مغادرة الحفرة، والذهاب إلى مغارة لا تسكنها سوى أنثى كانت بانتظاره....، لكنه لم يفعل...، بل ترك أصابعه تتحرك منفردة من غير أوامر، تشارك انفه باستنشاق حرارة امتزجت بها رائحة جذور جافة، وقشور بذور مازال البعض منها طريا ً...، حتى وجد انه لا يستطيع أن يفعل شيئا ً محددا ً، إلا الابتعاد عنها، وعدم التحرش بها، وتجنب ملامسة جسدها...، إنما اعترف لنفسه انه لا يمكن أن يكون وحده على صواب...، كي يتخذ موقفا ً لا يسمح له بالتراجع، فالقضية لا تخص أحدا ً سواه هو....، داخل ظلام الحفرة، معترضا ً على نفسه بسؤال ...، ومن يعرف...؟ فلم يجب، فقد عاد يتحسس ضربات حادة تأتيه من نهاية أصابعه، سرعان ما انتقلت إلى الوسط...، مصغيا ً لقلبه يدق بإيقاع ثابت....، أحس بقوتها، حتى ظنها ستخلع قلبه وتجتثه من جذوره...، مما دفعه ليترك جسده يتراخى، بعد أن سمح لخواطره بالانحسار، وتركها تخمد. إلا أن ثمة حركة راحت توقد فيه رغبات هامدة لم تتركه يستسلم للرخاوة، والتجمد...؛ حركة مقصودة أم عفوية، إرادية أم شيطانية، تساءل، لينفي قيمة الإجابة وجدواها...، مادام وجد أن رغبة حارقة راحت تنتشر في جسده برمته، ولا تدعه يفكر بالأيام ذات المصير المجهول...، بل بحضور لا فائدة من الاعتراف بغيابه، ولا جدواه....، فأغلق فمه، تاركا ً الكلمات تذهب بعيدا ً عن فمه...، بل شعر إنها تلامسها، وإلا ما مغزى أن يستنشق أنفاسها ممتزجة بالرائحة ذاتها التي أسرته في لقائه الأول معها في الغابة....؛ شرد ذهنه، وأحس انه يستعيد طراوة فقدها، وان الالم انتشر وتسرب في مناطق لا تحصى من جسده، حتى اختفى....، عندما اخبرها بانه سينتظرها ـ فجرا ًـ عند البركة، فلبت الدعوة، والتقى بها، ومازال الظلام في أشده....، والهواء شديد البرودة، هي قالت إنها تسللت عبر الكثبان، والدغل، ولم تخبر أحدا ً بأمر اللقاء....، لأنها ـ سمعها تهمس ـ أصغت إلى الصوت الذي كان يناديها، فاعترف لها انه شعر بما لا يستطيع مقاومته، خاصة انه عاش محنة استحالة وقف التدهور،  هنا وهناك، فلم تستمع إلى صوته، ولا إلى كلماته، فقد راحت تهرول فوق الرمل الندي، الناعم، المبلل بالماء، وثمة هواء بارد كان يتسلل من خلف الأشجار، ممتزجا ً بلون فضة الفجر، ويحّوم فوق الأمواج....، تحت شجرة السدر، وبجوار الممر الضيق، خلف جناح الماعز، والخراف، والجاموس....، هناك، تحت صخرة كبيرة، باح لها بأنه لا يجهل سر تولعه بها، وانشداده لها، حد الجنون، باستثناء المصادفة التي حصلت بما يؤكد وجود ما لا يحصى منها، كي تحصل، فقد اخبرها بشتى العلاقات الحاصلة في الحديقة، وفي باقي الحدائق، وبحسب الأنواع، من الطيور ذات الممارسات الأقل فحشا ً، إلى المخلوقات الأحادية، ذات الطهر، إلى الأكثر دنسا ً، وقسوة، مؤكدا ً لها انه وجد الوفاء ضربا ً من التهذيب يفضي إلى السكينة، والاستقامة، فهل كانت تدرك انه لم يعد منشغلا ً بجسدها، وحده، بل بالشراكة الخالصة في مواجهة المحن، والأقدار...؟
     سمع أصوات دوي راحت ترج الحفرة، آتية من مناطق غير بعيدة...، رغم ان الليل لم يجتز بدايته، فلم تشغله طويلا ً فقد لمح في الظلام ثمة ومضات ناعمات مثل هالات راحت تتداخل، بعضها بالبعض الآخر، فكر إنها هي الحرارة، وقال ربما ان مصدرها إشعاعات صادرة عن الأرض...، أو إنها جزء من أجزاء الرائحة ذاتها التي استنشقها ـ عند الصخرة في ذات يوم قبل عقود ـ وهو يفقد الإحساس بجسده، معها، تماما ً. سمع قلبه يضرب في الوسط، يدق، وثمة وخزات حادة، وانه يوشك ان يختنق، فتنفس بقوة، تاركا ً جسده يتململ، ويتحرك بين الجدار وبينها. فانا لم أمت إذا ً...، دار بخلده، كأن الحياة تأبى ان تغادر، وتذهب ككل الذي نراه يتحول إلى هواء...، وغبار...، وفراغات. ولكنه لا يعرف لماذا تذكر انه قال لها ذات مرة: اغفر للبهائم والحشرات والصراصير والبرغوث وكل دابة تدب بأرجل ومن غير أرجل، وذات المخالب وذات الأنياب، وكل المفترسات والبرمائيات والفيروسات...،  ذنوبها عدا....، فانا غير مسؤول عن الغفران! بصمت ابتسم ومن غير صوت سأل نفسه: ومن أنا ...، سوى كتلة ذرات، في هذه الحفرة، في هذه الحديقة، فوق هذه الأرض، في هذا الكون....، يعنيه أمري...؟  فقد تذكر انه لم يغادر ابعد من حصوله على قليل من العشب، والقشور، والجذور، غير مكترث بالبحث عن الاعشاب الطرية، ولا عن الجزر، ولا عن الاوراق الزاخرة بالمواد الغذائية ...، مكتفيا ً حتى بالاوراق المتساقطة، والدغل، كي يعود الى حفرته محملا ً بمشاعر حيادية تماما ً، في البدء كانت ثمة نوبات من الغضب تنتابه، بل وحتى طالما أحس بالتحدي، شغلته بعض الوقت، حتى فكر بالصراخ، والثأر، دفاعا ً عن الحقوق التي سلبت منه، أو الاتهامات الباطلة كيلت ضده، من اجل التشهير،  إلا انه ـ مع مرور الوقت ـ لم يعد يفكر حتى بكلمة عتاب. مع ذلك كرر، وهو يصغي إلى ارتباك في وجيب القلب، ولوخزات كانت تتنقل عبر جسده، انه لا معنى لو غفر لها أو لم يغفر....، فهي ليست وحدها المفتاح، ولا هي القفل. فدار بخلده إنها محض مشاعر برمجت للتحكم بالسلوك، حتى الإشارات التي كانت تطمئنه، كانت تعمل وفق التراكم، وآليات النظام نفسه، الذي سمح له أن ينتظم بتجاهل المؤثرات...، على إن استنشاقه لرائحة الأوراق والجذور والريش سمحت له برؤية حزمة من الألوان تدرجت من الرمادي إلى الأحمر، ومن الأصفر التبني إلى البلوري المشع، ومن الوردي إلى الأزرق الغامق...، جعلته ينشغل بتأويل العلاقة ما بين الرائحة والإشارات، التي غدت متبادلة ما بينهما. فهل هذا ـ دار بباله ـ هو الغفران؟ أجاب بالامتناع عن البحث في قضية أصبحت من الماضي البعيد، فلقد كان عليه أن يهجرها، أو يدعها تهجره، عندما اتسعت الفجوة بينهما حد استحالة ردمها...، لكن لا هي، ولا هو...، أقدم على ذلك.
     مد انفه درجة ملامستها والإصغاء إلى ضربات قلبها، فلم تعترض، لم تبتعد، ولكنها لم تقترب منه. لقد تذكر ما لا يحصى من المرات التي صدته، ونهرته؛ تارة بحجة انه لم يذهب للاستحمام في المستنقع، وتارة إنها متعبة، وتارة أخرى إنها منشغلة بأداء الفرائض، فلا يصح أن تدنس، وتختلط شطحات الشيطان وغوايته بطهر الرحمن، وفي الغالب لم يكن يلح عليها تاركا ً رغبته تتلاشى بهدوء، كأنها فائضة، وتخمد، فيخمد هو معها أيضا ً. سأغفر للجميع ....، مبتسما ً: ولها أيضا ً! ساخرا ً من قناعته الأخيرة، وعدم جديتها، حتى كانت صادرة عما يكنه لها من ولاء، وحب.  فمن هو ـ دار بخلده ـ كي يتحكم بسلاسل محكمة لم يقدر حتى على فك واحدة منها، طوال عقود طويلة مضت كومضة ضوء في فراغ بلا حدود. فعاد يراها تهرول عند ضفة النهر تحت الأشجار...، فيهرول خلفها، يثب، ويقفز...، لتبلغ نهاية الممر وتتوقف عند صخرة كبيرة، فيحدق في محياها، وجها ً لوجه. لم يفتح فمه، كي ينطق، بل راح يراها تحدق في عينيه حتى اندمجت المسافة بينهما، وتلاشت.
    مد أصابعه، بالأحرى تركها تمتد من غير قصد أو أمر، أو إرادة، لتلامس أعلى جسدها، مصغيا ً لقلبه يوشك أن يغادر صدره ....، أتراها كانت تسمع؟ خاف أن يلقى ردا ً  أو تحذيرا ً يسحق آخر ما تبقى له من كبرياء....، لكن صوتا ً ما منها لم يصدر، فمكث يتحسس حركة ناعمة في جسدها سرعان ما وجدها مشجعة للاقتراب منها. لم يقترب...، كان يتابع حركة أصابعه اللاإرادية تستقر تحت رقبتها...، لم تعترض، فترك الأصابع تعمل بعيدا ً عن مشاعره المضطربة، بعد أن فقد قدرة السيطرة على ما سيحصل لو استجابت...، فقد ظن انه فارق الحياة، أو في الأقل، لم يعد على قيد الحياة.
   فلمح الذرات اتخذت أشكالا ً دائرية، وأخرى حلزونية، وثالثة بدت له مثل حزم ضوئية....، ممتزجة بحرارة سمحت له بالحركة، فابتعد عن الجدار قليلا ً  ليلامسها بالكامل....، لم تعترض، فدار بخلده إنها ـ هي الأخرى ـ لم تفارق الحياة، ولكنه أحس انه ـ هو الذي طالما اعترض على نظام القسوة والظلم والفساد ـ غير قادر على تلبية نداء ظن انه فقده، فالجرأة التي كادت تهلكه، تخلى عنها، مثلما لم يعد يعنيه ما كان يحدث...، من حوله. فكر إن الأمر ليس قدرا ً...، أو حكما ً نهائيا ً، فمادام القلب يعمل فقد يمتلك قدرة تساعده على تلبية نداء لا يعني كائنا ً آخر، في الحديقة، سواه. ليس لأن الأمر يجري بعيدا ً عن الأنظار، بل لأنه، في الحالات كلها، لن يغادر فضاء الحفرة. فماذا يعني ـ في الأخير ـ إن حاسبه ضميره أو لم يحاسبه، وفي قضية لا تستحق أن تأخذ مدى ابعد من علاقة بين شريكين، احدهما يختلف عن الآخر، درجة استحالة تحديد أيهما المذنب، وأيهما يستحق العقاب..؟ قال انه لم يعد ثمة ما يرتقي إلى المحاسبة، والحساب...، فمنذ عرفها، اخبرها انه ينوي إجراء تعديل... إصلاح، أو عدم ترك الأمور تجري كأنها غير قابلة للتعديل، أو الدحض...، فالغبن حد الجور لا يجدر أن يبدو من صنع الآلهة، ولا أبديا ً....، لم تعترض، في بادئ الأمر، حتى عندما تعرض ـ هو ـ للأذى، والتنكيل، إلا انه وجدها تحولت إلى  القفل الذي لا مفتاح له. فقال للآخرين انه يغفر للأعداء كافة آذاهم له عدا استحالة أن يغفر لها ما أنزلته فيه من عمى! ضحك من سمعه، فقال  انه عندما قرر أن تشاركه الحياة ظن انه وجد من يمشي معه في الدرب الموحش، القاحل، لا أن يفقده ما تبقى لديه من أمل، وإرادة.  لكنها أفلحت أن تجعله يدرك إن الظلمات وحدها لا حدود لها، وان الشر هو وحده القادر على إنزال اشد الضربات بمن يعترض طريقه.
     شعر إن أصابعه تلامس رائحة لها صدى مدوّن سرى عبر شرايينه، فثمة طراوة كثيرا ً ما افتقدها، أعادت لرأسه قدرة رؤية بلورات فضية راحت تتصاعد وتحيط بهما، حرارة بيضاء، سمحت له بالالتصاق بها، وإحاطتها بذراعية، مثل أسد لم يترك للبؤته الحركة، فتندر، فانا لست أسدا ً.....، لأنه تخيل الساعات الطوال التي كان يراقب فيها ما يجري خلف الأشجار...، وفي الأجنحة النائية، وما يحدث في الحظائر، والزرائب، وعند ضفاف المستنقع الكبير...، بل وما كانت تبثه شاشات الحديقة من فعاليات تلقي الضوء على أكثر العلاقات سرية، وخفاء ً. فشاهد ذات مرة زرافة أمضت وقتا ً طويلا ً بملاحقة أتان، وكلبا يغتصب قطة، وحشرة تقضم رأس الذكر، وتحافظ على جثته لغذائها بعد الوضع، شاهد عراك الذكور من اجل أنثى، لا ينتهي إلا بانتصار أكثرها شراسة، وقسوة....، فأحس بلزوجة ما سرى مذاقها الغريب كمذاق بذرة طرية لها رائحة أججت فيه حركة كان يظن انه فقدها، فمضغها، كأنه تناول حزمة عشب، ممتزجة بحرارة حادة، وتركها تدور داخل فمه، من غير أن يتفوه بكلمة. لم تعترض....، لأن أصابعه مكثت تصوّر له مشهدا ً آخر مضاء تحت سماء شديدة الزرقة، صافية، بجوار ضفاف النهر، بمحاذاة الأشجار...، وثمة هالات لها لون يبث عطرا ً وحدهما حد الصفر.
    إنما شعر بالحفرة تتعرض للضربات...، فسمع صوت انفجار، أعقبه آخر، فوجدها فرصة للتوحد معها ابعد من درجة الصفر، وجد جسده يتلاشى بجسدها، يغور، وينصهر.  ودوى انفجار آخر...، مستنشقا ً رائحة دخان، وعندما حاول الانفصال عنها وجد الأمر مستحيلا ً...، بانتظار ما سيحدث. فسمعها تهمس من غير صوت، فأحس انه وجد قواه استحالت إلى كيان آخر غير كيانه، فأدرك إن الحفرة لم تتهدم بعد عليهما، فقد لمح، من ثقبها، ومضات نجوم. فكر أن يمد رأسه ليرى ما حدث...، وهل وصلت المعارك كي تدور الاشتباكات، فوق الحفر والحزوز والشقوق...، أم إنها تمهيدات للحرب التي طال انتظار حصولها....، لكنها عادت وأخبرته أن لا يفعل، ولا يغامر برأسه، وبمصيره في هذا الليل، فوجد فمه يضيع منه، كما لم يجد الكلمات إلا وقد تحولت إلى حبيبات لها مذاق حرارة التراب...، مخلوطة ببقايا الجذور والقشور ...، فاستنشق عميقا ً أنفاسها...، ليجد إنها مازالت تهمس من غير صوت النداء الذي دفن فيه ذات يوم عند الفجر قبل قرون....، كان ذلك قبل الطوفان، وقبل تنبني القرى، والمدن، والمحميات....، نطق. فلم تجب. إنها لم تدع فمه طليقا ً، ولا جسده يبتعد عنها قيد أنملة. فود لو سألها هل هما على قيد الحياة، ومازالا في الحفرة، وفي جناح البهائم الأليفة؟ لأنه فكر أن يرى نتائج الدوى التي حصلت بالجوار، أو في مكان ليس بالبعيد:
ـ لا شأن لك ... بما يجري! كأنك لا تريد أن تتعض ولم تكوى بدروس الماضي!
    فلم يجد ثمة ضرورة للرد أو الدخول في عراك خشية أن يتلقى منها كلمة تخرب عليه لحظات السكون. فقال مع نفسه انه طالما كانت المسافة بينهما لم تتسع لحوادث لا معنى لها، كالسؤال عن حرارة الجو، او المواقيت، او قضايا اخرى ثانوية، كاحداث الشغب، والفتن، والحرب، فاي خلاف سينشب بيتهما قد يفسد ما عليه نشوة لا يريد ان يراها تزول، وتتلاشى.
     انخفضت درجة الحرارة حتى شعر ان لسعات البرد بدأت تعزل اعضاء بدنه بعضها عن البعض الاخر، برد حاد لاذع جمده تماما ً، فكاد يتضامن مه جسده، متغاضيا ً عما جعله متوهجا ً بنشوة ظن لا وجود لها، لثوان، لولا انه استبعد أن تكون البرودة قد بلغت درجة التجمد، درجة الصفر. فقد شغله سؤال أوقد فيه لذّة غامضة تذوقها فأحس بمراراتها اللدنة، اللزجة، هل كان يتخيل وجودها على هذا النحو الذي تركه يدحض قراراته السابقة، ويفندها، والشروع بصفحة عمر لا تزول بزوالها، أم أن وجوده ـ هو ـ محض ضباب لا وجود له بالمرة؟ أثارت العبارة قلقه بوصفه  غدا حالة غير سوية، ما دام لم ير النور منذ زمن غير قصير، وان وجوده ليس إلا وجودا ً غائبا ً، وان ما لمسه، وأحسه، واستنشقه، وتذوقه، وتصوره، وما رآه ممتزجا ً بالموجات البلورية، الناعمة، ذات الحافات الرقية، لا يمكن أن يكون إلا وهما ً: محض انشغالات طالما أكدت رغبته بالتواري، وعدم مواجهة قضايا كادت تودي بحياته، وتذله إلى ما تحت الحضيض، كالتفكير ذاته، بوصفه حقا ً وليس هبة. ذلك لأنه تخيلها تمسك به من رأسه حتى أصابع قدميه، مثل كماشة، وتشده شدا ً قويا ً كما تفعل أفراس النهر، أو التماسيح، أو بعض النمل، حتى وجد كيانه برمته يتراخى ويستسلم لهدوء غريب، وكأنه تحول إلى طيف، أو نسمة هواء، ثم الاستمتاع بسكينة لم تصدع إلا ورأسه قد قضم بعّضة واحدة، بينما جسده مازال ملتصقا ً بها، حتى شعر أن الفجوة بينه وبينها قد تلاشت، زالت، إنما كاد يستنجد بحثا ً عن القليل من الهواء....، وليس لأمر آخر. فتبدد الكابوس عندما وجد أصابعه تتلمس أصابعها: كم كانت طرية، ناعمة، رقيقة مثل برعم يلامس بلورات الماء! وضغط  عليها، لتشاركه الاشتباك، والتداخل، كأنهما في حفلة رقص، حتى لمح إنها تتابع خطاه، مثل أعمى يتشبث بأعمى، لدرجة انه ود لو تجمدت اللحظات، وانعدم الزمن، وفنيت الحركة، وفقدت وجودها. فلم يكن يتصوّر إنها كم كانت شفافة، رقيقة، ناعمة، نورانية، فاقت طراوة نسيم الفجر، وإنها كانت تخفي شفافيتها في مكان محصن، ليوم طال انتظاره، وها هي تبدو كما ود أن يراها: أكثر سلاسة، مثل ضوء يلامس قطرات الماء، وإنها خالية من الشوائب! إلا إنها كانت ـ قال لنفسه ـ لحظة وجيزة لم تدم أكثر من مسافة تلاشيها، فقد شعر ان مخالبها راحت تخترق لحم جسده وتغور فيه، وكاد يراها تمسك بالقلب، بل رآها أمسكت به، واقتلعته، كأنها تخلع سنا  تالفا ً، وإنها راحت تحدق فيه بعنجهية المنتصر: يا قلبي...! ومضغته بشهية، ونشوة، ولذّة فائقة...، وابتلعته، فقد رأى قلبه تحول إلى كرة صغيرة من غير حافات، وقد اندمجت بجسدها، واختفت. فأفاق، مبللا ً، وثمة عرق بارد مازال ينز من رقبته، ومن وسطه، عرق لزج، حتى لم يعد يمتلك قدرة الحركة، فقد أحس إنها هي التي أوقعته في كمينها، واستدرجته إلى الحفرة، فانجذب لمكيدتها برضاه، مثل ضحية تدل الصياد عليها، برخاوة تامة. فما جدوى الاعتراض...، وما مغزاه...، وما فائدة استئناف قضية لا وجود لها، في نهاية المطاف؟
     لم يجد كلمة مناسبة لينطق بها، لأنه عاد يتلمس نهايات جسده، فوجدها تحولت إلى سائل مذاب، مرن، شديد اللزوجة، ولا حافات له، ممتزجا ً بالتراب، والقش، وبقشور البذور وسيقانها المتصلبة.  وعندما مد أصابعه كي تكون شاهدا ً على ما حدث ـ ومازال يراه يكمل لحظات شروعه ـ وجدها غائبة أيضا. فدار بباله ان الفجوة اتسعت حتى لم يعد لها وجود يذكر، لا هو باستطاعته ان يمتلك برهانا ً على وجودها، ولا هي منحته دليلا ً على انه مازال على قيد الحياة،  فأحس بلذّة غامضة شبيهة بلحظة اختفاء الألم، فجأة، وانه راح يبحث عنها بعد ان عاد يتتبع سماع حشرجة أصوات ملأت فراغ الحفرة، بعد اختفاء جسده: لذّة توارت قبل ان يمسك بها،  فلم يعد مكترثا ً للتفكير بالذي حصل إن كان وهما ً، أو انه لا يمتلك حتى هذه الدرجة، فقد راح يستنشق مرارة ذات ملمس  جاف، مرارة الغبار، ممتزجة ً برائحة شواء أجساد وسيقان أشجار وعشب ومعادن أيضا ً...، حتى لمحها تتدفق من فتحة الحفرة، تارة، وتنز من مسامات الجدران والسقف تارة أخرى، أحسها حصلت قبل زمن بعيد، وما ان رآه يتجدد حتى أدرك انه لا يمتلك قدرة على دحض ما يحدث، أو إثباته.
   إنما عاد يستنشق رائحتها، كأنها استجابت لنوايا حسبها سلبت منه، فراح يتلذذ بها كأنه لم يتذوقها من قبل، ولم يسبر أغوارها كما بلغت بذروتها الآن. إنما شعر انه بالغ بموت ضميره، أو انتفاء حضوره، واستبعاده عن سياق الحدث، ولا مبالاته بالانفجارات التي زلزلت الأرض، ورجتها، بعد انتصاف الليل...، لأن المرارة التي راح يتلذذ بها داخل فمه سرعان ما راحت تسري داخل جسده المتذبذب بين الغياب والحضور، حتى كادت تمنع الهواء عنه، لولا انه سألها هامسا ً ـ ومن غير صوت مسموع ـ ما إذا كان الخطر قد زال أم قد يتكرر، ويمتد، ويعصف بهم..؟  لم ترد لأنها جرجرت أصابعه ليحيط بها ثم دفعتها إلى الأسفل، فامتزجت برائحة الدخان والشواء وبروائح مختلطة أخرى كان لها اثر من لم يعد يرى شيئا ً محددا ً، بل من كف عن الرؤية تماما ً. ولكنه أحس انه يقف في أعلى قمة جبل، كأنه نجا من الغرق بأعجوبة...، ليرى المياه غمرت الحديقة، بأجنحتها، وزرائبها، وحظائرها، ومغاراتها، وغطتها تماما ً...، فتمتم مع نفسه من غير صوت، فقد حذرته أصابعه من الإسراف بالعودة لمعرفة ما حدث، ويحدث ...، لأن أصابعه طلبت منه ان يستنشق الهواء المشبع بومضات لها لون غبار الطلع، وعطر النرجس، وورود الياسمين، وما تبعثه رفيف أجنحة الطيور عند التزاوج.
     فكاد يعترف لها بان القدر أحيانا ً يتعثر بمصادفات لا يقدر العقل على ضبط مساراتها، وحركاتها، ولكنه لوي فكرته وجعلها جزء من العثرة ذاتها التي يصعب تصوّر حدوثها إلا كي تكون مكملة للقدر نفسه. مبتسما بأسى عميق ولكنه غير ضار، لأنه وجد رأسه ملتصقا ً بها درجة انه لم يعد يفكر ان كانت الانفجاريات قد أوقعت أضرارا ً جسيمة أم إنها، كما في المرات السابقة، ليست أكثر من مناوشات وتمهيدات لأحداث ليس باستطاعته ان يحدس نتائجها.
   ولم يكن باستطاعته ان يمتنع من مشاهده مشاهد أخرى كثيرا ً ما راقبها عن قرب، وأخرى عن بعد...، فها هو يشاهد أسدا ً يفترس أشباله، الواحد بعد الآخر، ثم يرى كيف استسلمت اللبؤة له وعادت تغازله. فنفي ان يكون ـ هو ـ فعلها، حتى لو لم يكن أسدا ً، بل محض واحد من القوارض، مازالت موروثات الزواحف تشتغل فيه، مثلما لم تكف دوافع الثدييات تعمل عملها أيضا ً، مع ان شريكته أنجبت له سلسلة من الأجيال والأجيال مهما تعرضت للإبادة فإنها لم تنقرض ولم ترسل إلى في رفوف المتاحف وتركن هناك، كما  هو حال الديناصورات، وما كان يراه من متحجرات لا تحصى ولا تعد، ليدور بذهنه، انه لم يكن معنيا ً بالأمر كثيرا ً لولا انه لم يهرب أو يفر بحثا ً عن مأوى آخر، رغم إنها كانت تتركه شاردا ً يجهل ما الذي عليه ان يفعله.
      مد أصابعه وتلمسها ليتأكد انه لا يخلط بين الأحلام التي يراها النائم، وبين أحلام  اليقظة، ولا بين ما يظهره السراب عن الماء، أو ما تتركه التصورات من مسافات شاسعة عن مكوناتها، راغبا ً لو اعترف لها بأنه هو  وحده الذي لا يستحق إلا أن يحاسب، وينال جزاءه، بدل ان يتصورها وحدها من كانت المذنبة، أو مفتاح الأغوار المظلمة، والخراب. لكنها لم تترك له فرصة الانشغال بصياغة عبارة أو بالنطق، فقد أحس انه لم يعد يمتلك قدرة الابتعاد عنها مساحة شعرة، رغم إحساسه بان المسافة بينهما غير قابلة للردم. لقد أحس انه راح يتنفس أنفاسها بنشوة مخدرة، وان جسده برمته توارى داخلها بعد أن ضاقت جدران الحفرة ومنعته من الحركة. لا يعرف لماذا شعر انه يحّوم داخل فراغ محصن، مثل جنين داخل رحم، لا يمتلك إلا رغبة سمحت له بالدوران، من غير حركة، داخله. ليرى ومضات لها أصداء همدت منذ زمن بعيد حتى كف عن التنفس، فلم يكترث إن كان انتقل من الحياة إلى الموت، ومن الحلم إلى التراب، أم العكس، لأنه وجدها مازالت لا تسمح له بذلك. فود لو اعترف لها بأنهما كلاهما يتحملان العثرات، وانه لا جدوى من تحديد أيهما المذنب وأيهما كان ملاكا ً. ذلك لأنه عاد يراها تهرول مسرعة فوق رمال ضفاف النهر ويتواريان تحت صخرة احدهما سد الطريق على الآخر.  وانه عندما أفاق وجدها مازالت تحدق في عينية شاردة تماما ً، فترك فمه يمنعها من النطق، حتى أحس إنها بدأت تقاومه بحثا ً عن الهواء، فابتعد قليلا ً عنها، ليراها تزداد شرودا ً، لكنها كانت قد أمسكت به كأنه وقع في المصيدة، فراح يبحث عن الهواء، فلم تفتح فمها، ولم يفتح فمه، فقد كانت الجدران تتقلص، الأعلى يقترب من الأسفل، واليسار يقترب من اليمين، مستنشقا ً رائحة  دخان حادة، امتزجت بغبار الحفرة، وعندما فكر لو طلب منها الخروج، أدرك إنها ستستجيب لأي طلب عدا المغادرة، والفرار. ذلك لأنه أدرك أيضا ً أن ما حصل، عمليا ً، لا يسمح لاتخاذ هذا القرار، ودار بخلده، انه مازال يتمتع بقدرة استرجاع اللحظات التي حسبها غابت، وتلاشت، مع زمنها البعيد...
   ترك صمتها فيه سكينة لا يعرف كيف ـ ومتى ـ فقدها؛ سكينة غير قابلة للوصف، عدا أن الهواء البارد كان مشبعا ً بعبق عطر جعله يدرك انه ليس القدر وحده يعمل من غير عثرات، بل العثرات ذاتها لن تحصل من غير هذا القدر. فكر انه فقد السكينة عندما بلغت ذروتها، وتخطاها، وباتت محض تسوية توازي الخيانة، أو الانحدار، والتهتك. إنما راح يتتبع أصداء ومضات فأسرع كي يجد انه راح يدفع بالجدار من غير جدوى، غير مكترث إلا بالانتباه إلى وخزات اخذ يتتبع انتقالها، من عضو إلى آخر، من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، ولم يجد ثمة ضرورة لإبداء الأسف، أو الندم، أو البوح لها بان ما حدث شبيه بالخلاف الذي قط لم يذهب ابعد من علله، لكنها لم تجب، فقال انه لم يكن بانتظار ردها ما دامت سمحت له باستنشاق رائحة ما تركها تختلط بالغبار، والدخان؛ رائحة لم تدع المسافة بينه وبينها تبلغ ذروتها، إلا وقد أيقن انه لم يعد يمتلك قدرة على استعادتها.
29/10/2015
    Az4445363@gmail.com

قبة كربلاء الجديدة- د. إحسان فتحي







قبة كربلاء الجديدة




د. إحسان فتحي
   هذه عملية غير ضرورية ابدا وستخرب الأصالة التاريخية للقبة الأصلية وبذلك هي غير مشروعة وتخالف قانون  الآثار العراقي.  إن جميع المهندسين والمسؤولين على هذا المشروع التخريبي سيكونون مسؤولين أمام التاريخ قبل كل شيء. كم إن هيئة الآثار والتراث مطالبة فورا بالمطالبة بإيقاف هذا المشروع ومحاسبة المسؤولين عنه كافة. المرجعية في النجف أيضا مطالبة بإيقاف هذا المشروع فورا وان سكوتها سوف يعني موافقتها عليه، والكل يتذكر بأنها كانت ضد مثل هذه المشاريع الارتجالية والتي لا تعير إطلاقا أية أهمية لحماية التراث المعماري الإسلامي العراقي. لقد سبق وان عارض عدد كبير من المعماريين العراقيين هذا المشروع اللا قانوني والذي سيؤدي بالتأكيد إلى تشويه معالم القبة الحسينية التاريخية وسيدخل أعمدة وعناصر حديدية   جديدة لا تمت بأية صلة بالمعالم التاريخية الأصيلة. وبالرغم من كل هذه الاحتجاجات والصرخات فان المسؤولين على الحضرة الحسينية التاريخية واصلوا استخفافهم المفزع بالتراث وباشروا في تنفيذ مشروعهم المخيف والذي ترفضه جميع القوانين والأعراف الدولية الخاصة بحماية الممتلكات الثقافي.  


الخميس، 29 أكتوبر 2015

قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل




9 قصص قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] جرح
    كان العاشق الشاب بانتظار حبيبته، في الحديقة، عندما امتدت يده وقطفت وردة بيضاء.. فخاطبت الوردة الشاب:
ـ  لِم َ فعلت هذا...؟
رد بلا تردد:
ـ كي اهديها إلى من أحب!
فقالت بأسى عميق، وهي تحتضر:
ـ ولكنك تركت حبيبي وحيدا ً...، بين الورود، ثم ما معنى أن تهدي حبيبتك وردة قتلها قلبك، قبل أن تجهز عليها بأصابعك..؟


[2] ديمومة

قالت البقرة للثور:
ـ دعنا نتوقف عن الإنجاب...، فمدير هذه المزرعة لم يبق عجلا ً إلا وأرسله إلى المسلخ...، فانا لم اعد احتمل أن أرى ذرتي تسمن، كي تذبح!
فسألها الثور:
ـ ماذا نفعل...، وليس لدينا ما نفعله، غير الإنجاب، أو أن يرسلونا إلى الموت؟
ـ لنهرب من هذه المزرعة، ونعود إلى الغابة، أو نجد ملاذا ً في البرية!
ضحك الثور:
ـ هناك السباع، التماسيح، النمور، الفهود، وهناك الذئاب والكلاب ...، فإن لم ننج من البشر فمن ينقذنا من أنياب تلك المفترسات...؟
هزت رأسها، وتمتمت بأسى عميق:
ـ الغريب إن مصائر البشر لا تقل بشاعة عن مصائرنا....؛ فها هم يقتلون بعضهم البعض الآخر، وها هي أشلاء أجسادهم صارت طعاما ً للضواري والطيور...
فقال لها بفزع:
ـ الحق أقول لك: لا هم افلحوا بعقد سلام دائم، ما بينهم، ولا نحن توقفنا عن إنجاب الضحايا، طعاما ً لهم! ثم من ذا ـ أخيرا ً ـ سيضع حلا ً للمعضلة ـ ما بينهم وبيننا ـ وكأن نهايتها وضعت قبل أن تكون لها هذه المقدمات!


[3] فضاء
    وجدت السمكة جسدها الصغير يرتفع قليلا ً في الهواء، بعد أن فلتت من فكي السمكة الكبيرة التي أجهزت على رفيقاتها في السرب. لم يدم فرحها إلا برهة وهي تجد نورسا ً بمنقاره يلتقط جسدها، ويرتفع به عاليا ً في الفضاء، آنذاك أدركت إنها إذا كانت نجت من السمكة الكبيرة، في المرة الأولى، فإنها، في المرة الثانية، لن تعود إلى الماء.
 
[4] حزن
ـ اعرف انك، أيها الغراب، لم تشترك في الجريمة، وانك لم تكن محرضا ً عليها...، ولكن اخبرني من علمك مهنة الدفن؟
ـ لو لم افعلها، فان القاتل لن يحتمل رؤية ضحيته أمامه إلى الأبد!
ـ إذا ً.....، ها أنت تجعلني اشك....؟
ـ بماذا..؟
ـ انك غير بري ء من الهمسات، والإشاعات...، وان لك علاقة ما بما حدث..؟
ـ أنا علمته أن يتستر على فعلته...، وهذا كل ما حصل.
ـ وصارت لديك مهنة؟
ـ أجل...، لأنه ـ هو ـ الذي أرغمني أن أتعلمها، وإلا لماذا لم استبدل لوني بلون آخر؟

[5] لافتة
    قرأت الحمامة كلمات دوّنت فوق لافتة علقت توا ً، فراحت تنشد بصوت حزين جذب انتباه الصقر الذي كان يراقب، فقال لها:
ـ لماذا تولولين، وتنوحين....؟
ـ الم ْ تقرأ...ما دوّن في هذه اللافتة..؟
   ضحك الصقر:
ـ ومن سمح للصمت أن يبلغ ذروته...؟!
فقالت الحمامة بحزن اشد:
ـ فأنا لن افتح فمي بعد اليوم!
ـ ولكن هل استطيع أنا أن أغلق فمي إلى الأبد؟


[6] النملة والفيل
 خاطبت النملة الفيل، وهو يوشك أن يسحقها:
ـ كن حذرا ً... فهل أنت أعمى...؟
ـ آ .....، لو كانت العدالة تساوي بين النملة والفيل.... لكانت الحياة اقل قسوة، واقل جورا ً!
ـ لكني لم افهم قصدك؟
فقال الفيل ضاحكا ً:
ـ  لو كنت أتمتع بعقلك، وحكمتك، لما تم اسري، ووضعي في هذه الحديقة، وجعلوني ارقص فوق الحبال!

[7] الحرب
   اقترب الحمل من والدته وسألها:
ـ يقولون إن الحرب ستقع قريبا ً، وستخرب حديقتنا...؟
  فقالت له بلامبالاة:
ـ لا تكترث، يا ولدي، فأنت لن تراها إن وقعت أو لم تقع!

[8] الحمامة والغراب
    سألت الحمامة الغراب:
ـ لماذا صوتك حزين، ولماذا ترتدي السواد...؟
ـ يقولون إنني كنت شاهدت الجريمة...، واني علمت القاتل كيف يتستر عليها...؟
ـ آ ....، يتركون الجاني، ويلاحقون الشاهد؟
   فقال الغراب للحمامة التي كفت عن الهديل:
ـ  اقسم لك إن الحكاية ناقصة....، لأنني شاهدت الضحية ينهض، وينتقم، وان الحكاية لم تنته...؛ فلا القاتل اكتفى بالنصر...، ولا ضحيته رضت بالهزيمة!
ـ آ ...، الآن عرفت لِم َ أنت حزين، ولِم َ رداءك بلون الليل!

[9] لون
    قال العجل الذي ولد أعمى يسأل أمه:
ـ ما ـ هو ـ لون النهار.
لم تجب. فسألها:
ـ وهل لظلام الليل لون مختلف...؟
لم تجب أيضا ً. فسألها بلا مبالاة:
ـ تقصدين...، إنني لن أنجو من الذبح، إن كنت مبصرا ً أو كنت ولدت أعمى، فاحدهما قصير المدى، سريع الزوال، والآخر سيمتد بعيدا ً، إلى ما لا نهاية!
22/10/2019

أنقذوا حمام الباشا في بغداد!- د.إحسان فتحي*



أنقذوا حمام الباشا في بغداد!



 د.إحسان فتحي*

اشتهرت بغداد عبر تاريخها الطويل بحماماتها العامرة والعديدة حتى أصبحت احد أهم ما ميزها عن المدن الإسلامية الأخرى. وقد بالغ عدد من الرحالة الذين زاروها أثناء عصرها العباسي المتأخر أو حتى بعد سقوطها على يد المغول بالقول بأن عدد حماماتها قد بلغ أكثر من ستين ألفا! كما وصفها ابن بطوطة، الذي زار بغداد في 1326 ، بأنها أفخم حمامات شاهدها في حياته ، وانه أعجب جدا بالطريقة التي تم طلاء جدرانها بالقار الأسود الذي كان يلمع كالرخام وبتقسيماتها الداخلية وابحواضها المرمرية. ولقد تقلص عدد الحمامات التقليدية البغدادية في القرن التاسع عشر حتى وصل إلى حوالي 40 فقط!
أما الآن فاعتقد إن الحمامات التاريخية الباقية هي فقط حمام أيوب (أيتيم) في الكرخ، وحمام السيد في الصدرية، وما يتبقى من حمام الباشا في سوق الميدان، وحمام المالح في محلة حمام المالح، والجوادين في الكاظمية. ولربما قد تكون جميع هذه الحمامات قد هدمت منذ 2003 لعدم وجود أي رقابة حقيقية من الجهات المعنية.
هذا يعني إن نوعا ونمطا تاريخيا هاما جدا من أبنية بغداد قد اختفى كليا من الوجود وان مايتبقى من حمام الباشا حاليا ، وهي القبة الاجرية الكبرى للحمام مع بعض المرافق الاخرى، هوالمثال والشاهد الوحيد على عظمة الفن المعماري لحمامات هذه المدينة التي كانت عاصمة العالم لخمسة قرون. كان هذا الحمام الذي شيد في فترة الوالي حسن باشا (1704-1723) احد اكبر وأفخم حمامات بغداد والدليل على ذلك هو قبته المركزية (البراني) التي يزيد قطرها على 13 متر وارتفاعها عن مستوى أرضية الحمام بحوالي 15 متر! ولقد تعرض هذا الحمام العظيم الى هدم اجزاء هامة منه بسبب تشييد بناية البنك العقاري في 1962 (التعيسة) والمهجورة حاليا، واصبح مؤخرا مثارا لنزاعات شرسة حول ملكيته.
أناشد جميع الجهات المعنية بتراث بغداد، وامانة العاصمة، وهيئة الاثار، وكل بغدادي اصيل ان يطالب، بوضع اليد فورا على هذا الاثر العظيم وحمايته من الزوال الابدي.
*معماري ومختص بالحفاظ على التراث المعماري
جمعية المعماريين العراقيين
مؤسس قسم التراث بأمانة العاصمة عام 1982

الأربعاء، 28 أكتوبر 2015

أنزلق بنبوءة اليد-نجاح زهران- فلسطين



أنزلق بنبوءة اليد

مثلك أقف في سبات ،  أفكر بانفراد  النعامات في حياة تزاوج  الرمل بالرأس ، تؤاخي بين السحابة وأوراق الشجر ، بين الوشم والسرّة التي ترسم الايقاع، تفجر المستقيمات بمرايا لا ترى النوافذ.

مثلك أقف على طحالب لم تعرف عن  احمرار قلبي، على شرفة الله أتلوى بنصف بشريتي والكون
يزيد حجز أهدابي عند قرصة الجحيم ، حيث يضطرب فرعوني بأحلام  اليراعات و القمر يتكسر بفاكهتي المنسية بشقوق الدقائق .
 مثلك، يزور  السؤال أعصاب ملكوتي ،  أرى كيف ينسكب القديسين باضراب  الزمن الناطق،  بخيوط  الحوريات  في لُجة الطالع بقميصه ، بالموسيقى الدامعة بشرايين  نسيجها يُحدث العالم عن شقاء الطقوس بأسراب الفكر
، وأرى كيف  تحضنين الرياح على سرير الجسد وشرفات النرد  ، وسواءٌ أيتها الغيمة الحاضنة  لتشظيات المصادفة بالروح العصية  على الجوارح ، فقدت أجنحة تخيلك لحبيب ٍاعتقلته  بلاد الأرواح في السنة  الماضية، أو في سوق اللاهوت جنحت بحقول الحطب من تردد الحرق،   أو أن تلك الأجساد التي تتمضمض بجرحها صحوة الدروب .
فأنت خشخاش الأفق في تنكر الجمر لأقدام تُنمل بالحياة بنجمة  الصبح ، وأنت المدينة التي انتهكتها اللغة والحمم 
وكنت رأيتُ مزاج  الغيب يلبس عباءة قلب لا يخف من عرافات المطر  ولم يك هناك سوى فتيات ينتزع اسمها  الماضي وحاضر يؤتى بمكيال مثقل الضرائب والهباء

مثلك  انزلق بتجاعيد اليد ونبوءة ترحل مع الفجر ليضيئ الزبد مع الوحل


نجاح زهران

فلسطين

الثلاثاء، 27 أكتوبر 2015

نقوشٌ فوقَ الماء-أحمد الحلي

نقوشٌ فوقَ الماء

أحمد الحلي


أنْ يستغرقَ كلانا في قُبلة
فمعنى ذلكَ
أن الأفقَ سيحتفي بولادةِ
نجمة  !

يتدحرَجَ قلبي
خلفَ خطوِكِ
أعدو خلفَهُ
لا أنا أصِلُ إليهِ
ولا هوَ يصِلُ إليكِ

كثيراً ما أُمَنّي النفسَ
بأنّ غيابَكِ
قيلولةٌ
لا
سُباتْ !


تكونينَ بقربي
فأُصبحُ مؤهّلاً للجريِ
في مارثوناتٍ شتّى
وتَنأيْنَ
فأبحثُ لقلبي
عن عُكّـــــاز !!

أدنى إيماءةٍ منكِ
تُعلِنُ في مقابرِ خلاياي
النشورْ !

لا عَزاءَ لي في شيءٍ
بغيابِكِ
تنغرزُ ؛
أنسام الصُبحِ
شدوُ الطيرِ
خفقُ الفراشِ

إبَراً في رئتي !!

كتاب جديد للدكتور غالب المسعودي بعنوان المثقفون العرب مكارثية جديدة




سيصدر للدكتور غالب المسعودي كتاب جديد بعنوان المثقفون العرب مكارثية جديدة عن المركز الثقافي للطباعة والنشر باشراف المبدع ولاء الصواف , ياتي الكتاب بمئة وخمس وسبعون صفحة من القطع المتوسط يتناول الكتاب موضوعات فكرية وكتابات فلسفية صاغها الكاتب من وحي ماتمر به الثقافة والمثقفون .

*المركز الثقافي للطباعة والنشر-بابل-دمشق- القاهرة

مقدمة لمستعمرة الديناصورات-عادل كامل

تجارب
من النبات إلى حدائقنا المعاصرة:
نكوص أم ارتقاء ..؟


عادل كامل


* إشارة:  هناك مثل سومري قديم غدا عابرا ً للزمن والقارات: "لم تلد امرأة ما ابنا ً بريئا ً قط!" ليس لأنه يوهمنا بقبول اشد الحقائق مرارة، أي القبول بالحياة بوصفها تامة البرمجة، ونهاياتها قائمة على مقدماتها، فحسب، بل لأنه يسمح للعقل أن يستأنف إجابات تعيد صياغة الأسئلة بالمضاف من الخبرة، والحكمة، بحسب المصائر، وما آلت إليه المخلوقات ـ بصنوفها وأنواعها ـ من رقي، أو من نكوص...، فالبراءة مكثت شبيهة بالحصول على الخلاص، بعد الاستغفار، وحسابات التسوية...، إزاء عالم الجبر، والضرورة، والقيود....، وانشغالي هذا ـ في مستعمرة الديناصورات أو في (الغزلان في السماء) وفي باقي الحكايات، لم يغوني بالركون إلى السكون، ولا إلى السكينة، فثمة جرثومة ـ سابقة في وجودها وجود الجماد والنبات والحيوان وسابقة أيضا ً في وجودها كل ما سيشكل بنية وآليات عمل القشرة الدماغية العليا للبشر فوق الغاطس من عصور الثدييات وعصور الزواحف ـ لا يغدو إلا مجموعة مخلفات وأثار تركها أصحابها، فرحت أعيد نسجها، بالدافع نفسه الذي للأمل وهو يذهب ابعد من الوهم، وابعد من الإثم، وربما ابعد من: البراءة. انه انشغال شبيه بأعراض المرض، إن لم يكن هو المرض نفسه! فهل كان باستطاعتي أن اذهب ابعد من موتي، أم كان لهذا الموت أفعاله البهلوانية، الشبيهة بما يجري داخل أقفاصنا، في حدائق العالم، إن كانت للجماد، أو للنبات، أو للحيوان، أو لنا، بوصفنا لا نمتلك ذريعة إلا للامساك بالبراءة، كالتي حلم بها السومري، عندما اخترع: جنة عدن...؟ معظم النصوص نشرت في: الحوار المتمدن، القصة العراقية، سومريننت، أدب وفن، وغيرها...، وهي ـ في مجموعها ـ تمثل أصل هذا الخطاب الافتراضي، لكن ليس مجردا ً عن واقعيته، بوصفها وحدها غير قابلة للدحض.
13/10/2015

 [1] وثيقة
   نشرت، إلى جانب سلسلة من القصص المستمدة من الحياة اليومية، إبان سنوات الحرب العراقية ـ الإيرانية (1980 ـ 1988)، حكايات شخصياتها شركاء لنا في الوجود: عصفور، فيل، ذئب، حمل، حصان، بغل ..الخ، فلفتت نظر زميلي (احمد هاتف) ليجري معي ـ بدافع الغرابة أو لأي دافع آخر ـ حوارا ً...، كي يضع عنوانا ً له ـ بدافع الاستفزاز أو لأي قصد آخر ـ : عادل كامل في مملكة الحيوانات....، فما الذي تغير...، وأنا أواصل استكمال هذه الحكايات، سوى متابعة السرد.


عادل كامل في مملكة الحيوانات
الواقعية سلاح ابيض ضد القبح!




تصوير: جاسم الزبيدي ـ 1980

بغداد: أحمد هاتف
 آخر ما صدر لعادل كامل، بعد كتابه (الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق ـ الستينات) مجموعة قصص تحمل عنوان (ذاكرة البحر) وهي المجموعة الرابعة له.. ويستعد عادل كامل لإنجاز كتاب الرسم المعاصر في العراق.. فضلا ً عن إعداد مجموعة خامسة أبطالها كائنات غريبة: الفيل .. والحصان... والكائنات التي لا تحمل اسما ً.
وكان سؤالنا الأول له: لماذا هذا المنحى الجديد في تجربتك.. لماذا الحيوانات؟
ـ " لست رمزيا ً أولا ً.. فالحيوانات تقاسمني قدري. أنا أحب الفيل والحمار والكلاب مثلما أحب البشر. بل كم اشعر بالأسف لأني لم اعمل في حديقة للحيوان.. بل اشعر، أحيانا ً، بعذاب لأني لم أولد سمكة. هذا لا يعني إني ضد الوعي .. كما إني لست رمزيا ً في هذه الإشارة. كلا .. بل الإنسان يحلم بسعادة تنتمي إليه. وربما لهذا السبب، أصبحت اكتب عن أشياء تنتمي إلى قارات مجهولة: إلى ضحايا بلا أسماء."
انك تريد أن تقول شيئا ً آخر؟
ـ " مشكلة الكاتب العربي انه مزور كبير.. انه كذاب حتى وهو يروي أكثر الحقائق صدقا ً.. انه لا يعرف، مثلا ً، كيف يتحول إلى حصان مكسور.. والى نمر في مستنقع.. والى سمكة للزينة. أقصد إننا مازلنا في مرحلة ما قبل التاريخ."
لغة لم تلوث..

ولكن لماذا الحيوانات؟
ـ " لأنها تتكلم بلغة لم تلوث بعد. هل تفهم لغة الكركدن؟ كلا. إننا لم نكتب روايات أصيلة عن عذاب مليون صنف من حيوانات امة تعيش مجاعة وتخمة في الوقت نفسه! وهذه للحق دعوة للكتابة عن البشر.. أما أنا فدعوني اكتب عن حيواناتي المعذبة."!
لكنك بدأت تكتب عن النبات والأزهار والأشجار أيضا ً؟
ـ " سأكتب عن صخرة مهملة في الطريق. وسأكتب عن الهواء. لم لا .. أنا أحب الأشياء البسيطة التي تعلمنا النبل. احد أصدقائي، وهو بطل قصة، قتلته نباتاته ولقد رفضت هذه القصة لأنها لا إنسانية، كما إنها تخلو من الصراع! لكني سأكتب عن صراع بلا معنى: عن زهور تعيش في الصخر.. وعن اسماك متحجرة تعيش معنا. ان التخمة والمجاعة في امتنا لا تحل بالمؤتمرات الزراعية والصناعية، أما أنا الذي ابحث عن سيكارة أدخنها، ولا اعثر عليها إلا بشق الأنفس، فأعود إلى صمتي. دعونا نحتفل بالصمت ... فلا معنى للحديث عن أشياء كبيرة جدا ً."
بعد روايتيك (رغبات قيد الاستيقاظ) و (أعوام الشمس)هل ستعود الى الرواية؟
ـ " لا أعظم من الرواية إلا الصمت. ومادمت من المخلوقات الناطقة، فالرواية خلاصي الأجمل. إنها سيدة الفنون بلا منازع، بعد السينما .."
هل لديك تجربة جيدة؟
ـ " من الأفضل ان نتعلم .. لا ان نصبح أساتذة! ان الرواية تظهر عندما لا يستورد الشعب، أي شعب، القمح ويوزعه على الفلاحين! أجل ..السومريون كتبوا ملحمة جلجامش .. ومصر القديمة العظيمة شيدت ملحمة الأهرامات.. لكن تلك الشعوب كانت لا تستورد اللحم أو البيض.. ان هذه المفارقة وحدها تدعونا إلى الأسئلة. نحن امة بحاجة إلى أسئلة وإجابات أصيلة. ترى أين نحن من العلم المعاصر؟ من الطب المعاصر؟"
اذا عدنا إلى الفن.. أعرف انك أقمت ستة معارض شخصية.. ودرست الرسم أكثر من عشر سنوات، وبعد أشهر ستعود إلى مقاعد الدراسة أيضا ً.. فماذا عن الرسم؟
ـ " الرسم لؤلؤة.. نجمة..ذكرى عصر ذهبي.. هل تصدق إني أخاف من الرسم! مع ذلك لدي ّ مئات من اللوحات الكرافيكية التي لم تعرض.. وأكاد احسد نفسي عليها! لكني سأعود إلى الرسم.."
من رأى الشمس مرة ..
لديك ستة كتب في النقد.. وأنت عضو رابطة نقاد الفن الدولية التابعة لمنظمة اليونسكو .. فضلا ًعن نشاطك النقدي في الصحافة.. فهل تنوي ترك هذا المجال؟
ـ " لا. ذات مرة قال جدي: من رأى الشمس مرة لا يفكر ان يعود إلى الظلام. النقد الفني جزء من بناء الشخص. والثقافة لا معنى لها إلا  بالنقد.. والجهد المبذول في هذا المجال لا ينفصل عن بناء حضارتنا. ولكن للنقد أسبابا ً وشروطا ً.. مثلما للناقد .. في البدء لا بد من زمن .. ولا من رؤية ثاقبة أصيلة لا علاقة لها بالأهواء .. والرغبات العابرة. نحن اليوم بحاجة إلى مليون ناقد في الشعر والفن والأدب ولسنا بحاجة إلى مليون شاعر يحمل هوية زائفة للشعر. إني أؤمن، واكرر هذا دائما ً: علينا ان نعمل بدل الانتظار. [كودو] لن يعود ... وهؤلاء الذين ذهبوا إلى العالم السفلى، حسب الأساطير السومرية القديمة، يذكرونا باستحالة الرجوع. النقد اليوم يمثل وضع حد للقبح، لا في مجال الفن أو الإبداع عامة، بل على مستوى أخلاقيات البشر.. فإذا كان الفن لا يخدش البشرة الرقيقة لأصحاب الثروات الخانقة، فعلينا ان نقذف بهذا الفن إلى جهنم. الفن الذي نريد، مثل النقد، لا بد ان يدخل معركة بالسلاح الأبيض.."
في هذا السياق.. كيف تنظر إلى ظاهرة استلهام الفنان العربي للحرف؟
ـ " هذه واحدة من مظاهر الترف! فالفنان يرسم في عصر ما بعد الوفرة! بل في عصر الخيال! لكني لا ادعوا إلى أسلوب موحد، ولا إلى مليون أسلوب.. ببساطة علينا ان نبدأ من الشعب.. ومن ضميره الداخلي.. كي نتلافى تقدم العالم علينا، أي علينا ان نتذكر إننا ننتمي إلى أعظم الحضارات في العدل والإبداع والعلوم والشرائع، وان نبدأ، عندما نبدأ، من عمق التاريخ وليس من سطح العالم. عودة إلى السؤال لا اعتقد ان ظاهرة الحرف إلا تجربة لا يبقى منها إلا القليل.. بل والقليل جدا ً.."
هل تدعو إلى واقعية في الفن؟
ـ " أنا أتمسك بأصالة التجربة: الوعي بها، علميا ً، تاريخيا ً..وانظر بإعجاب للإبداع الذاتي الذي يعدل حتى من مسارات النقد.. إلى هذا الإبداع الذي يصنع النقد في الأخير.. ولا أريد ان أتحدث عن مدارس واقعية أو غير واقعية، ولكني لا اعتقد ان هناك إبداعا ً لا ينتمي إلى واقعه الروحي والإنساني. كل الفنون، وحتى منها السوريالية والدادائية واقعية إلى حد بعيد. لا توجد واقعية على الضفاف.. بل هناك واقعية تمثل، أو لابد ان تمثل، حركة أعماق البحر.. الضمير البشري.. وجماله.. ورسم آفاق لا يمكن ان تذهب سدى، وبلا معنى. ان الواقعية تعني، كما أرى، ان نحارب بالسلاح الأبيض القبح، فالواقعية تعني، في البدء، وفي الأخير، ان نبقى عشاقا ً للجمال، والفن الواقعي هنا، هو ديمومتنا، على الرغم من إننا نتحدث عن أزمنة الفناء."
[اليوم السابع ـ باريس. الاثنين10 آب (أغسطس) 1987]



[2] إشارة/1
     وأنا لا أجد إلا اختلافات، في النوع، تميزني عن الآخر ـ الجماد، النبات، الحيوان ـ في الجذور ـ أو ما قبلها ـ كي انتسب إلى مخلوق فاق الجميع ـ بما يتمتع به من وعي وإرادة بلغت حد الإصرار في استحداث مصائر لا تحدق إلا في رمادها. فالبركان غير مسؤول عما يسببه من أذى للحياة، لكن مع استحالة إحصاء فوائده! كالنار، والماء، والريح ...الخ، لكل منها توازنها في الموجودات، وفي الوجود. النبات، هو الآخر، يتمتع بنظام البذرة ذاتها، معنا ـ من الخلية الأحادية إلى رأس أفلاطون أو دماغ  اينشتاين ـ فهو يأخذ بالقدر ذاته يعطي، الحيوان، بآليات عمله، محكوم بالديمومة ذاتها، وجد ليقاوم الاندثار. انه مهد لنا ـ بفعل التخصص في عمل الأعضاء ـ هذا التحول نحو: سيادة النوع البشري.
   فانا ـ إذا ً ـ لا امتلك قدرة وضع فواصل بيني وبين أي عنصر من هذه العناصر في الوجود، فانا أتشكل منها، باستثناء هذا (الوعي) الذي راح يراقب ما يؤديه الوعي من أفعال ـ وقرارات...؛ وهو استثناء يخص (النوع) بما يمتلكه من خامات، تجمعت،  وانصهرت، وسمحت لنا بالاختلاف، مع إننا ننتمي إلى فصيل راح يتحكم بالأدوات، ويمتلك امتيازاته: الأرقى.
   فهل انتمي ـ حقا ً ـ له، كي أتمتع بهذا الامتياز، مع إنني، بسخرية برنارد شو، أتأمل تاريخنا، فازداد إعجابا ً ليس بالكلاب، فهي مؤذية، وإنما بأي كائن آخر اجهل هويته، ولكن لا مناص الاعتراف بعدم وجوده!
    إنما هذا ليس محض اعتراف للتخفيف من الذنب، بسبب إنني وجدت هكذا، حسب، بل لأن الحرية لدي ّ لن تسمح لي إلا أن أكون شريكا ً في الإثم! وعلامة التعجب ذاتها، هنا، لا معنى لها لولا إنها دالة على المحنة: فانا احمل جنازتي كلما توغلت بالانفصال عن صفاتي، بل وعن صفات العناصر، مادامت ليست مستقلة، وخالصة، ومادامت وجدت بمعزل عن حريتها في هذا الوجود، فماذا عن حريتها في الاختيار...؟
    وأنا اجهل تماما ً من منا كان يحرص على صداقة الآخر: أنا معها أم هي معي ...، ولكنني سأبقى اشعر بأنني معاقبا ً لأنني لم انس ـ في ذات مرة ـ قد تم التشهير بي لأنني كنت لا استطيع ذبح دجاجة! لأن هذا لا يخفف من وجود شركاء لي كانت قسوتهم، إزاء الأطفال والنساء وباقي الأعمار، لا تقارن ببركان يطمر مدينة ويخفيها من الوجود، أو بطوفان يجهز على ملايين الكائنات، أو عاصفة تشرد ما لا يحصى من الكائنات ...الخ فهناك شركاء لي اجهل الأسباب التي جعلت من ممارستهم القسوة بإفراط لذّة خالصة طالما اقترنت بمبررات يصعب العثور على أسباب لها...
      فمن ذا يعلم ماذا كنت سأفعل لو قدر لي ان امتلك أكثر من غرفة في بيت صغير، وأكثر من بضعة كتب، وبضعة دنانير لا تدعني استجدي...، وقصة شيخنا محي الدين بن عربي شاخصة عندما طلب من مريديه إقامة ضريح للملك بعد اعتراضهم أو سؤالهم...، فقال ان الملك قهر إغراءات السلطة كما قد يفشل فيها سواه.
   فانا إذا ً باختيار هذه (الحديقة) الافتراضية، وأنا في نهاية عقدي السادس من العمر، لم أتوخ كتابة المواعظ، أو إشغال ساعات الفراغ، تجنبا ً للهموم، والعزلة، ولا لمحاورة النفس أو تسليتها أو معاقبتها،  أو تقصي خلجات هذه الكائنات التي تشاركني، الحدود ذاتها، القفص، وإنما لأن ثمة هذا المستحيل الشبيه بأطياف الحرية وغوايتها، والشبيهة بصداقات أو مؤانسات تخفف أوزار اختياراتنا التي نقوم بها ...، فثمة إرادة تدحض كل محاولات الانعتاق مكثت تعمل عمل أية غواية من اجل عدم التوازن بين الحياة والموت، بل لها امتياز احدهما على الآخر، بحجة ما من الحجج، لديمومة كل ما نراه يغيب، فهل لا تتألم العناصر وهي تنصهر الأفران الكونية، وتستبدل هويتها، هل لا تتألم البذور بدفنها، والذبائح بقطع رقابها، أو بقتلها، كي نرى الدب يرقص، والأسد تحول إلى بهلوان، والنمر إلى مخلوق ظريف، والدولفين إلى لاعب باليه ...الخ هل يتألم البغل باستذكار غواية والده الحصان لوالدته الأتان، وهو يعيد قراءة تحول الأنواع الأخرى، من نوع إلى نوع آخر...؟
      أم ان هذه الحكايات، ضمن هذه (الحديقة) تحكي الذي يعيد استحالة وضع زمن، للفاني، والزائل، في هذا السياق، إزاء  المتشبث بالبقاء...؟

[3] إشارة/2
   لا فجوات/ مسافات/ فراغات بين ان تكون هذه (الكائنات) داخل كياني، من الرأس إلى أخمص القدمين، أو خارجه، أو أكون أنا هو من اخترعها، لمحض الاختراع، أو هي التي ألحت علي ّ، باليات عملها، من اجل هذا الحضور..، أقول لا مسافات/ فجوات بين ان أكون قد افترضت وجودها، وسكنتها، وتركتها تستنطق ذاتها، عبر ذاتي، في وهم وجود هذه (الحديقة)، أو عبر وجودها الافتراضي ـ الواقعي، والتاريخي.، أو إنها هي سكنتني، فالمسافات استحالت إلى صفر.
    فانا ـ ربما ـ كنت أكثرها عدم تقيّد بالهدوء، السكينة، والصمت، فرحت أدوّن عوائي، طالما القيود، لها صوت شبيه بصوت مرور المفتاح بالقفل، في باب من أبواب البيوت القديمة، والسراديب، أو السجون، وهو يبعث صريرا ً للحفاظ على ما يريد ان يذهب ابعد من صداه.
    كائنات شكلت هيأتي: يد قرد، عين تمساح، ذيل أرنب، ريش حمامة، منقار نسر، مخالب ذئب، أنياب أسد، جلد ضفدعة، سم عقرب، فحيح أفعى، ثغاء بقرة، عواء ابن أوى، وشوشة خنافس، طنين ذباب...الخ، كي أتتبع الدرب الذي لم يبق منه لا الغائب ولا أثره، متتبعا ً الأصداء، بإرادة وليد وجد انه بلغ من العمر أرذله، كعمر اتنوبشتم، لم تبق من ذكراه إلا لقى نقشت عليها كلمات، تارة، أو ارتد كي يتلقى الصدمات، والمحو، تارة أخرى.
     إنها المسافات ذاتها التي يختفي المسافر فيها وقد استحالت إلى ممرات، وبراري، ووديان، كي يجد انه أسير حدود تنتهي وتمتد بما هو ابعد منها، من فجوة إلى أخرى، أكثر اتساعا ً ..، فكلما ضاقت اتسعت: من بدء نشوء حلم النجاة، مرورا ً بعثرات الدرب، وليس انتهاء ً بالجحيم، فثمة هذا كله يغدو استغاثة، أو صمتا ً، مادامت المؤجلات محكومة بحكم ماضيها، عبر جسور لا مرئية كونت الدورة بتمامها الممتد في كل فعل من الأفعال، وقد استحدثت تجددها بالمستحيلات.
   وقد لا أكون عبرت إلا عن مكنونات خلايا هامدة في جمجمة ديناصور تحجرت  وهلك صاحبها قبل ملايين السنين، وبزغت، وراحت تبث، مثل جنين غادر ظلمات (حديقته) نحو الظلمات الأشد إنارة، وسطوعا ً، بما تمتلكه من الضوء، باحثا ً عن قليل من السكينة، كي لا يجدها، إلا وقد غدا منجذبا ً للعبور إلى ما بعد الموت، وهو يعيد سرد حكاية أسد امسك بغزال، أو ثور وقع بين فكي تمساح، أو حمل صار فريسة ذئاب جائعة، ليجد انه تحول إلى اثر في كتاب، في متحف، كلمات يعيد غزلها مخلوق ينظر إلى العالم عبر نافذة يجهل ما إذا كانت الشمس تنسج منديلا ً للبكاء، أم كفنا ً للموت؟
     فثمة ممرات تجرجر الأصابع التي بدورها تجرجر الجسد الذي بدوره يكمل سلسلة الومضات وهي تارة تنبثق من الرأس، وتارة تتوارى فيه، إنما الأصابع مازالت تنقش أمامنا هذا القليل من أصداء ما جرى لها في زوايا هذه الحديقة، في مستنقعاتها، سراديبها، وأجنحتها السرية...؛ حكايات تحكي كم تقلصت المسافات إلى نقاط، حروف، فواصل، وكلمات...، وسرد يماثل في عمله، عمل الأسرى داخل الظلمات، وعمل الومضات التي تجهل إنها كلما اتسعت فإنما لتحافظ على ديمومة الامتداد.
    يا لي من (كائن) توزعت سماته، صفاته، ذراته، وتناثرت، وقد كان قصده هو البحث عنها..،فتجمعت لديه هذه الحكايات، ليعيد سردها، لنفسه، وهو كلما حاول الانعتاق، ضاقت به الفجوات باتساعها، وإنما للتسع إلى ما لا نهاية في ضيقها! فراح يكرر نغمات طير في قفص، أو عواء ذئب جريح، او فزع غزال أمام الصياد، مادامت الحديقة لم تغلق أبوابها، مع إنها ليست أكثر من كلمات نسجتها الأصابع التي لم تخلق إلا لتلمس ومضات القلوب، وليس غيابها.

[4] إشارة/3
     عندما قررت الببغاء إصدار جريدة "هيا نرقص" بتكليف من الثعلب، وبأمر مباشر من السيد المدير، لم يتم استدعائي للعمل فيها، أنا ذهبت، بنفسي، فسألني الببغاء: غريب ان تأتي للعمل في المكان الذي طالما انشغلت بإدانته، والتشهير به، حد تقويضه! فما الذي دعاك إلى هذا القرار...؟ أجبت بسؤال: ومن قال إنني انشغلت بهدمه!
ـ لدينا ما يكفي من الأدلة على ذلك.
نهضت، للمغادرة، لكن رئيس التحرير سألني:
ـ ستعمل ضدنا، أليس كذلك...؟
ضحكت، وأنا أتمتم:
ـ ها أنت تتحدث مثل البشر..، يقولون لا يوجد إلا اله واحد ثم يطلبون منك ان لا تعبد سواه!
نهض مسرعا ً نحوي وأغلق فمي:
ـ اشش!
   نطقها بفزع تام، هامسا ً:
ـ منذ هذا اليوم، أنت واحد منا...!
ـ لا ،  يا سعادة المدير، لا أنا معكم، ولا انتم معي!
ـ جميل! حقا ً هذا هو مفتاح المناورة، ان تقول نعم لأنك تقول لا، وتقول لا لأنك تقول نعم، وبينهما، تمتد المسافة، فلا نعم هناك، ولا ... تختتم الموقف بها!
   لم انس إنني دشنت عملي بزيارة إلى مرافق الحديقة، ووحداتها العلنية، والأخرى القابعة في الظل: من المحرقة إلى السراديب، ومن المتاحف إلى صالات العرض، من المصحات إلى مراكز المعلومات، ومن المعابد إلى المواخير، ومن المدافن إلى المتنزهات، فضلا ً عن المغارات، الجحور، الثقوب، الأقفاص، الحظائر، الزرائب، وما بينها من برك، وجداول، وبحيرات، ومن مخفضات ومرتفعات ومستنقعات..
    ولم انس أبدا ً إنني، خلال سنوات عملي الطويلة، والشاقة، لم اترك أحدا ً، ولا مؤسسة، ولا دائرة، ولا مكانا ً مخفيا ً إلا وذهبت إليه، ولا مخلوقا ً إلا وحاورته. فنلت وسام "هيا نرقص/ هيا نلهو" من الدرجة الأولى ـ ذئاب.
    كان هذا قبل الطوفان الأعظم ...، عندما كانت هيئة التحرير متمثلة بأعضاء تم استدعائهم من الفصائل كافة، من غير استثناء، فالأسد يعمل بجوار الكركدن، والبغل مع التمساح، والبلبل بجوار وحيد القرن، النملة مع النعامة، والهدهد مع الكلب، الغزال مع الذئب، والنورس مع الدب ..إلى آخر زملائي من الأساتذة الكبار، أو من هم بعمري، أو من صغار العهد بالعمل في إسطبل الخيول ...، وتشاء المصادفات ـ بالمعنى المتداول وإلا فانا حيوان أدرك تماما ً استحالة وجود مصادفة من غير مصادفة في القانون الذي ينفي المصادفات ـ ان اعمل مع جناح القرود، لفترة وجيزة من الزمن، بعدها عملت في جناح الأفاعي، ثم الضباع، ثم العقارب، حتى أدركت استحالة بقائي حيا ً لو لم أجد عذرا ً مشروعا ً للاستقالة، والعودة إلى جناحي، بجوار الأسماك، والقنافذ، والسحالي، والطيور.
   ثم حل الطوفان الآخر، وبدأ العصر الذي حمل شعار: الانعتاق الشفاف، لتدب الحياة مجددا ً كأنها القسم الآخر من الرواية التي تنتظر من يكمل فصولها. فانا نفسي أدركت استحالة وجود (أنا) خالصة، باستحالة وجود مرآة لا تتستر على ما لا يحصى من المرايا، واللا مرئيات، فالأنا ـ هنا ـ اعتراف بواقع الحال، للتداول، واستكمال تتابع هذا الذي يمتد بإرادة الامتداد، وإلا هل ثمة (أنا) يمكن عزلها عن فجوتها الواقعة بين مقدمات مسبوقة بالمقدمات ونهايات ليس لها نهاية...؟ وهذه ليست مداعبة، ولا مناورة، فانا ارتكبت من الأخطاء بعدد الأفعال المغايرة، فنسجت للثعلب خطابات، وللببغاء قصائد وظيفتها دحض الوظائف، وسردت للكركدن بطولات لم يفعلها حتى في أحلامه، وغردت للفيل حكايات فاقت أحلام العصافير نشوة، وقمت بما يدحض ذلك كله أيضا ً، تاركا ً أمر الحقائق للرمال، لعلها تحضي بالنبش، والتعقيب، والتفكيك!
   فعادت جريدة "هيا نرقص"  للصدور بالعنوان نفسه، فترة وجيزة، ثم ليسدل ستارها، وتذهب مع الريح؛ مع من هاجر، أو مات، أو قُتل، أو توارى داخل جناح من أجنحة حديقتنا، وتشاء الملابسات والمفارقات  ان يكون معنا قرد اشتهر بلحيته الشعثاء، عديمة اللون، كأنها مكنسة متهرئة، ممسحة مراحيض، طالما افتخر إنها ليس مزورة، بعطنها، ونتانتها، وبرأس صغير كأنه رأس دبوس، وأصابع كستها بثور وقشور وزعانف ركبت ومكثت خليطا ً بين أصابع الضفادع ومخالب الضباع، وقد دبت شائعات لا تحصى عنه، لم تؤد إلى طرده، بل سمحت له بالعمل بوصفه واحدا ً منا! فعاد شعار "هيا نرقص/ هيا نلهو" إلى الوجود، من غير غبار، أو شكوك.
      ومثلما بدأت عملي بأسئلة طالما أعقبتها أسئلة صارت الإجابات تعقبها إجابات...؛ الأسئلة راحت تحفر في ّ والإجابات راحت تكون صدماتها، فراح الفراغ يمتد حتى بانت مساحات مشغولة بالدورة ذاتها بعد ان غدا الخلاص منها بمثابة التوغل فيها، من الصفر إلى اللانهائي، ومن المطلق إلى العدم. وهل كان باستطاعتي البوح بما توارى عميقا ً فيما كانت دوامة الشغل لا تسمح لنا إلا بمراقبة الدوامة تمضي ابعد منا، وهي تجرجرنا معها، حيث الإفلات منها أصبح مستحيلا ً كالبت في أمر وجودنا بعد ان تحول غيابنا إلى لعبة يومية تجري كالمشي فوق الحبال الوهمية من تركها سقط ومن تشبث بها هلك ...، لتتكدس الوثائق والصور والأدلة كأنها شبيهة بالعقد ما تنتهي الأولى حتى تفضي إلى الثانية حتى تزداد متانة، وحبكة نسج...، فالصدمات الأشد صارت علامات عبور في الدرب ذاته دامجا ً محونا ً بالضلال، وبالظلال، بعد ان انتزع منا كل الإرادات إلا إرادة الولاء له.
     فهل كان باستطاعتي أن استبدل ذرات ذاكرتي وخلايا عمري بدرب آخر وقد بان إنها كلها قد نسجت قبل ان تكون هناك سفينة، وطوفان، ونجاة!
    سخر زميلي القرد صاحب اللحية الشعثاء مني زاعما ً انه وحده من امسك بالمفتاح، مثله مثل الآخر المنحدر من الأفاعي، لم يترك عقوبة إلا وأصدرها ضدي، حتى أصبحت الإنذارات والتهديدات خزانة صحف شبيهة بمدوّنة لم تترك واردة إلا وضمتها مع الشاردات في سجلي الشخصي.
     صحيح إنني ـ و(أنا) ـ هنا ـ تأتي بمعنى مجموع الممحوات والمندثرات وليس الأنا التي طالما تبجح بها الكركدن أو وحيد القرن أو القرد الذي زعم إنني كنت أتتلصص عليه لصالح الببغاء أو من اجل دكتاتورية القائد الثعلب أو الزعيم الأبدي مديرنا الذي ظله امتد ابعد من حساب القرون ونهايات الزمن ـ أبصرت كيف أبصر في الفراغات، إلا إنني كنت لم أتخل عن ولع رؤية هذا الذي توزع علينا جميعا ً، من الفاقة إلى الذعر، من الكوابيس إلى المرض، ومن الشرود إلى الذهول، فهل كنت أثما ً أو باغيا ً كي يكون الأخر ملاكا ً، أم أنا هو الغزال وهو الضبع أو النمر...؟ الأسئلة تتعثر بالإجابات، والإجابات لا تترك لنا إلا ان نمضي في تدشين ما لم يدشن، وما كان ذلك اختيارا ً مني أو عنادا ً أو بسالة، كما لم يكن هشاشة، أو رخاوة، بل كلاهما توحدا حيث أصبح قدرنا يحملنا كجنازة مغذاة باللغز نفسه حملناه معنا في الطريق وهو يقطع مسافاته وأقدامنا مازالت لم تتقدم ابعد من نهايات مقدماته، ومتاهاتها. كان الأعمى يتكأ على الأعرج، والذي فقد الإصغاء يصغي إلى من فقد فمه، العاقل يلهو مع العناكب، والمجذوم ينتصب وسط الساحات ندور من حوله بإصرار قهر المجهول والقفز فوق السراب، حبال حول الحبال تمتد سابقة خاتمتها مقدماتها، وما كف الميت يستغيث طالبا ً الموت.
   خرجت من السرداب وأنا ألهو بشعار: هيا نذهب ابعد من مدانا، ابعد من دربنا، ابعد حفرتنا. فلم يكن لدي ّ ما اخسره، غير الذي نهايته شبيهة ببدايته: حديقة راحت تعصف بها حنكة اللعبة وتقذف بها حيث يتلقاها الأمهر لعبا ً والأشد مكرا ً، والأكثر انحدارا ً من الرذائل. فما أوشيت بأحد، وما سرقت زاد احد، ولا  تمنيت ان أكون غير هذا الشارد، يتلعثم داخل أسوار الأفران، وغليان براكينها، مع إنني مكثت وحيدا ً أداري عزلتي بالوحدة، مشذبا ً الضوضاء بالسكينة، والخسران أرممه بالخسران، إلا إنني لم اعتد شتم احد، ولا الذي أوشى بي زورا ً، أو اتهمني بالتلصص على موبقاته بوصفه ً تعلم ما كانت تفعله البغال بالبغال، وليس ما كانت تفعله الكلاب مع الذئاب، فانا بطبعي تطبعت على حمل ما حمله الهواء، والماء، وما كانت تحوله النار إلى أثير.
   أكانت الديناصورات  تخفي بجيناتها ومشفراتها مصائرنا، أم كان الغبار اقل أذى من الموت يوزع لدغاته علينا بركات، وهبات لم تفض إلا إلى تشبثنا بمغارة من المغارات، أو بجناح نوصد قفله علينا كي نموت...؟ لقد راح الجدب يسمح لنا بالفائض منه: مصائرنا تتآكل، تذوب، تتعفن، تتجمد، تتناثر، تلغم، تفكك، وتتبخر في نهاية المطاف.....، فهل كان باستطاعتي الحفاظ على لغز تشبثي بأكثر من وهم سمح لي ان احفر مدفني داخل أسوار هذه الحديقة وليس أن أتشبث بها حسب...؟
   وأنا اقبع تحت تراب هذه الحديقة أبصرت ما جعلني لا اصدم بما أبصرته عبر الحظائر، الأجنحة، الزرائب، الأقفاص، المحرقة، المصحات، الزنازين، الأفران، المعابد، المغارات، الوديان، الآبار، الملاهي، المسالخ، المواخير، الكلجيات، البارات، الخرائب، المزابل ...الخ، فالأسرار مكثت تبخل بمد ذراعها ابعد حتى من مدانا الشحيح...، فلم يبق مني ما يكفي إلا للمرور فوق تراب كان ذات يوم مشغولا ً برقصات الغزلان، وبتغريد البلابل، وصهيل الخيول ...، فلم يعد للأمل إلا ما للوهم الدوافع نفسها تسمح لليد ان تمسك بالحبل تارة ليدور حول الشمس وغالبا ً ما كانت الشمس تدور حول اليد، فلا المحو أدرك ما دوّن، ولا المدوّن كف عن التوغل في المحو.

[5] ثناء وشكر
[1]
     مازالت الكلمات طرية، مرتبة بعفوية، عناية، بوضوحها وسحرها وبما فيها من أسرار، فقد كانت جدتي ـ لامي ـ واسمها (صفية) تروي لي ان الصخور، في الجبال والوديان، شبيهة بنا، لها أم وأب، فهي مخلوقات تولد، وتنمو، ولها أجنحة....، كانت تروي لي تلك القصص عن الجماد، والنبات، والحيوان، كي لا اغفوا! لأنها كانت لا تعمل عمل "الملقن" ولا تعمل عمل "الواعظ"،  فكانت تقول ان الشمس مثل الإنسان الطيب، لها عقل وقلب وعملها ان تهب ضوءها للحياة ...، فبقلبها تفرح الكائنات، وتّعيد، وبعقلها، يتم البناء. فبدل ان اخلد إلى النوم ـ وأنا في سن الثالثة من عمري ـ كنت انتظر قدوم الليل كي تمتد ساعات النهار، لتروي حكايات مستمدة من حياتها، وخبرتها، وحكمتها، حول قصص الدببة والذئاب والصخور والأشجار والريح...
   فماذا تبقى...، كي يتسلل إلي ّ منها،  أكثر من سلاستها، وهي تصور لي حديقة (نوح) ـ أو سفينته ـ مثل حياة خالية من الأوهام، والقسوة، والآثام.
[2]
    هل قرأت "كليلة ودمنة" قبل سن العاشرة من عمري، أم بعد ذلك بقليل...، لا أتذكر..، عدا ما رسخ في ذهني من مشاهد لا تفرق بين الحيوان والإنسان...، ولم أتعامل معها بوصفها مواعظ أو وصايا، بل تركتها تتسلل إلي ّ وأنا ازداد شغفا ًبها، كي اصدم، عندما عرفت، بما آل له مصير ابن المقفع، وان يكون مصيرنا، كمصير شركاؤنا، في هذا الوجود!
[3]
    ولم يكن حيوان الجاحظ مادة للتسلية، أو حتى لتعلم كتابة الإنشاء، بل ممرا ً للذهاب بعيدا ً في اللغز ذاته: الحيوان الذي مازالتا نشترك معه بالخصائص، والعذابات، بالخامات والألغاز: أصلنا المتمثل بما رواه الجاحظ، كأقدم عالم نفس في دراسة أغوار اللاوعي السحيق ـ الذي هو لاوعينا، رغم دور (الوعي) الذي مازال يشتغل باليات لغز وجوده، واندثاره، وانبثاقه أيضا ً.
[4]
    وغير حمار الحكيم، وغير حمار سرفانتس، وغير مزرعة جورج أرول، لا تعد الحكايات ولا تحصى، ففي كل نص من نصوصها ثمة محركات، وبالدرجة الأولى: نظامها البنائي: الفكرة/ السياق/ الأسلوب. فثمة خلاصة تعمل عمل الضوء وهو يتحول إلى طاقة، والزمن إلى مكان، والأصوات إلى كلمات.
     ثنائي لهؤلاء، ولنصوصهم السحرية، البلاغية، ولفاضل العزاوي، ومدني صالح، وبهنام أبو الصوف، ود.عبد الستار الراوي، ورعد عبد القادر، وعدنان المبارك، وكل منهم يلتقي عند اختلافه مع الآخر، لا يدعني اغفل كل من تحمّل لساعات وساعات العوامل التي صاغت تجربتي....؛ فلولا العثرات، الهفوات، الأخطاء، الشطحات، هل كان باستطاعتي ان احتمل وجودي...، من غير مساندتهم، وعونهم المباشر، والرمزي.
[5] اعتذار
     ربما أكون قمت بالدور نفسه ـ ككل مخلوق آخر يتخلق بصفات الملائكة ـ بعلم مني، حد العناد، أو بشرود، أو بغباء، أو ببراءة، فواجب الاعتذار، لمخلوقاتي التي عاشت في ّ، وعشت معها، يسمح لي بالمرور منحنيا ً لها، للغزلان ولأضدادها، وللمفترسات وأضدادها، مادامت الأسماء كونتها أفعالها، قبل ان تأخذ عبورها نحو البعيد، ثم الأبعد. فالاعتذار علمني إنني لم أتعلم إلا القليل...، وجعلني أتقدم، في كل لحظة، للاعتذار للجميع، من النمل إلى الأسماك، ومن القرود إلى الأرانب، ومن الذئاب إلى الفئران، ومن بنات أوى إلى الطيور...الخ، بمثابة تخفيف من وزر آثام لم انوي ارتكابها، وفي الوقت ذاته طالبا ً الصفح، وربما الغفران، منها، حتى لو جاء هذا بعد فوات الأوان، أو لا يساوي لحظات عذاب ثور يشم رائحة الموت في السكين. إنما هذا ما دار برأسي، وأنا داخل جدران حديقتي، بعد أن صار التشبث بالأمل أقسى من التشبث بالسراب، وبعد إدراك أن اللغة، بموت المتلقي، وبما لا يحصى من الميتات، أصبحت خارج الاستخدام، مثل فأس صنعتها الآلهة، بعد تشكل القرى الأولى، ولم تعد سوى اثر في متحف. فهل لصمتي رائحة عواء ديناصورات تسللت جيناتها إلى رأسي، والى رؤوسنا، في هذه الحديقة، ولكنها لم تمنعني من الاعتراف بتحمل كامل المسؤولية، وأنا أحدق في المجهول!
13/10/2015

مقدمة