متحف نينوى: جريمة التخريب والدلالة
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
في لقاء دام حوالي الساعة مع إذاعة دويتشة فلله بالارتباط مع إذاعة صوت بيروت، وجه الإعلامي خلدون زين الدين أسئلته بشأن طابع الجريمة التي جرت في الموصل بحق الآثار العراقية وما الدلالات وما وسائل التصدي لها وحل المشكلات الناجمة عنها؟
وبهذا الخصوص قدم المتحاورون رؤى متفقة بشأن تلك الجريمة؛ أشير هنا إلى جانب من إجاباتي فيها تلك التي حاولتُ فيها وضع التصور المناسب في قراءة الجريمة ودلالاتها.
إن جرائم تخريب الآثار والاعتداءات التي تعرضت لها، ومنها جرائم النهب والسرقة والاتجار بها في سوق المافيا الدولية، وجهود تغيير هوية تلك الآثار وإلحاقها بحضارات مختلفة غير تلك التي أنجزتها، هي جرائم ذات جذور أبعد زمنياً مما جرى لمتحف الموصل، وهو المتحف الثاني عراقياً المسجل لدى الجهات الدولية المعنية. فلطالما تمّ رصد جرائم النهب من حول المواقع الأثرية بمختلف المناطق العراقية في ظل انفلات زمام الأمور وسطوة جهات ميليشياوية على الأوضاع مع انهيار سلطة الدولة وهزال وجودها والضعف الشديد بقدرات الحماية وتوفير الأمن المنتظر.. ومن المتكرر ما رُصِد لدى دول إقليمية مثل إيران وإسرائيل في السطو على قطع تاريخية أصيلة ومحاولة نسبتها لهوية بعينها غير الهوية العراقية القديمة السومرية منها والبابلية الاشورية وهو سبب من السباب التي تقف وراء جريمة سرقة الاثار.
وتجدر الإشارة إلى ما تمّ ضبطه في أوروبا وإعادته لمتحف بغداد المنهوب في الأيام الأولى للحرب في العراق العام2003. وإلى تلك القطع التي مازالت غائبة بين أيدي من سرقها. أما بمتحف الموصل فالأمر لا يخلو من محاولة طمطمة جريمة اتجار جرت بمحتوياته، فما شاهدناه في الفديوات التي سجلت الجريمة لا يُظهر كل القطع الأثرية الأصلية فيه. إذ هناك قطع صغيرة ومتوسطة كثيرة أخرى وهناك قطع أصلية كبيرة لم تظهر في جرائم التخريب والتدمير التي عُرِضت علينا..
ونذكّر هنا بجرائم إرهاب الدواعش ومن معهم من بلطجية المافيات المحلية والدولية التي طاولت تراثنا بحرق آلاف المخطوطات التي لا يمكن تعويضها! فضلا عن إحراق المكتبات نفسها بمحتوياتها. ونشير إلى تدمير مرقد النبي يونس ومراقد أخرى وما يعنيه ذلك مما تحت التلال من آثار غير منقبة حيث تتعرض القصور الآشورية للتدمير وللنهب تحت ستار تلك الجرائم الهمجية. أضف إلى ذلك هدم الكنائس والمعابد القديمة وتصفيتها مما فيها من قيمة تاريخية مهمة.
إنّ حجم الكارثة كبير فهو طاول الآثار ليس بوصفها علامات مادية صمّاء بل بوصفها الخطاب الناطق الذي عبر ويعبر عن المنجز الحضاري حيث تمثل تلك الشواخص الآثارية تراثا حضاريا لمهد الإنسانية وحضاراتها الأقدم مثلما تمثل قيما جمالية ومضمونية مخصوصة الهوية وهي تحمل قيما معرفية هي إجابات جد مهمة على خطاب قوى الظلام والجهل والتخلف بوساطة إبراز حجم شعوب المنطقة وجذورها التي لا تتحدد بالتهميش الجاري بمصطلح أقليات آيلة للانقراض على وفق الظلاميين وتشويهاتهم وتهويشاتهم!
وعليه فإننا نشخص هذا الفعل الإجرامي كونه جريمة تطهير ثقافي ومن ثمّ دخولها في جريمة التطهير العرقي الديني التي تقع على مجموعة إنسانية هم شعب أصيل ومكون أساس رئيس من مكونات شعوب المنطقة والعالم. والجريمة مستمرة بفعلها عبر دعشنة المنطقة بإشاعة فكر ظلامي أحادي يتعايش راضخاً لجريمة الإبادة لتلك المكونات الأصيلة ومحاولة إنهاء البنى التعددية وحال الاغتناء بالتنوع في وجود شعوب المنطقة. وإذا كنا سنفتقد لثقافة بصرية مناسبة في معايشة تلك الشواخص المهمة للآثار العريقة فإن المنطق العقلي سيصاب بتحولات خطيرة من منطق التعايش وثراء التنوع إلى منطق الأحادية ومزيد من الانفصامات المرضية في المشهد الإنساني، بظل سيادة الجهل واستمرار الجريمة.
ولعل من جملة ما يُنتظر من حلول ومعالجات بشكل مخصوص أن يجري اتخاذ الآتي من الإجراءات:
1. توحيد التشريعات والقرارات الوطنية والأممية المخصوصة.
2. تعميم وثائق أرشفة الآثار وسجلاتها على المنصات الدولية لضبط المسروقات.
3. حظر وتجريم البيع والشراء لكل قائمة الآثار الموثقة المنقبة وغير المنقبة.
4. التحفظ على المضبوطات في متحف مخصوص برعاية اليونسكو.
5. سرعة التفاعل مع الأحداث والوقائع الجارية.
6. الاستعداد للانتقال الفوري إلى المناطق المُستعادة من قوى الإرهاب وعصابات ومافيات الانفلات الأمني.
7. إيجاد جهات ارتباط ولجنة دولية متخصصة للإشراف والمتابعة بمعرفة المنظمة الدولية \ اليونسكو وكل من ممثلي العراق وسوريا.
8. صياغة تقرير دوري ونقله عبر اليونسكو إلى مجلس الأمن لاتخاذ الإجراءات اللازمة بشكل عاجل وفوري.
9. تفعيل حملات وطنية وأممية بخاصة من منظمات معنية بعينها للتصدي للتخريب الجاري ولنتائجه الكارثية وأن يجري التفعيل عبر خارطة طريق ومأسسة العمل.
ولعل جهودا استثنائية تستجيب لنداءات حضارية ولخطاب التنوير الثقافي هو ما يمكن أن يضغط عمليا فعليا للتصدي الحاسم والحازم لهذه الجرائم الداخلة في جريمتي الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وليس التوقف عند حدود جرائم نهب وسرقة واتجار دولي مافيوي محسوب مادياً فالقيمة هنا أعمق غورا في الحراك الإنساني والحضاري المعاصر.
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
في لقاء دام حوالي الساعة مع إذاعة دويتشة فلله بالارتباط مع إذاعة صوت بيروت، وجه الإعلامي خلدون زين الدين أسئلته بشأن طابع الجريمة التي جرت في الموصل بحق الآثار العراقية وما الدلالات وما وسائل التصدي لها وحل المشكلات الناجمة عنها؟
وبهذا الخصوص قدم المتحاورون رؤى متفقة بشأن تلك الجريمة؛ أشير هنا إلى جانب من إجاباتي فيها تلك التي حاولتُ فيها وضع التصور المناسب في قراءة الجريمة ودلالاتها.
إن جرائم تخريب الآثار والاعتداءات التي تعرضت لها، ومنها جرائم النهب والسرقة والاتجار بها في سوق المافيا الدولية، وجهود تغيير هوية تلك الآثار وإلحاقها بحضارات مختلفة غير تلك التي أنجزتها، هي جرائم ذات جذور أبعد زمنياً مما جرى لمتحف الموصل، وهو المتحف الثاني عراقياً المسجل لدى الجهات الدولية المعنية. فلطالما تمّ رصد جرائم النهب من حول المواقع الأثرية بمختلف المناطق العراقية في ظل انفلات زمام الأمور وسطوة جهات ميليشياوية على الأوضاع مع انهيار سلطة الدولة وهزال وجودها والضعف الشديد بقدرات الحماية وتوفير الأمن المنتظر.. ومن المتكرر ما رُصِد لدى دول إقليمية مثل إيران وإسرائيل في السطو على قطع تاريخية أصيلة ومحاولة نسبتها لهوية بعينها غير الهوية العراقية القديمة السومرية منها والبابلية الاشورية وهو سبب من السباب التي تقف وراء جريمة سرقة الاثار.
وتجدر الإشارة إلى ما تمّ ضبطه في أوروبا وإعادته لمتحف بغداد المنهوب في الأيام الأولى للحرب في العراق العام2003. وإلى تلك القطع التي مازالت غائبة بين أيدي من سرقها. أما بمتحف الموصل فالأمر لا يخلو من محاولة طمطمة جريمة اتجار جرت بمحتوياته، فما شاهدناه في الفديوات التي سجلت الجريمة لا يُظهر كل القطع الأثرية الأصلية فيه. إذ هناك قطع صغيرة ومتوسطة كثيرة أخرى وهناك قطع أصلية كبيرة لم تظهر في جرائم التخريب والتدمير التي عُرِضت علينا..
ونذكّر هنا بجرائم إرهاب الدواعش ومن معهم من بلطجية المافيات المحلية والدولية التي طاولت تراثنا بحرق آلاف المخطوطات التي لا يمكن تعويضها! فضلا عن إحراق المكتبات نفسها بمحتوياتها. ونشير إلى تدمير مرقد النبي يونس ومراقد أخرى وما يعنيه ذلك مما تحت التلال من آثار غير منقبة حيث تتعرض القصور الآشورية للتدمير وللنهب تحت ستار تلك الجرائم الهمجية. أضف إلى ذلك هدم الكنائس والمعابد القديمة وتصفيتها مما فيها من قيمة تاريخية مهمة.
إنّ حجم الكارثة كبير فهو طاول الآثار ليس بوصفها علامات مادية صمّاء بل بوصفها الخطاب الناطق الذي عبر ويعبر عن المنجز الحضاري حيث تمثل تلك الشواخص الآثارية تراثا حضاريا لمهد الإنسانية وحضاراتها الأقدم مثلما تمثل قيما جمالية ومضمونية مخصوصة الهوية وهي تحمل قيما معرفية هي إجابات جد مهمة على خطاب قوى الظلام والجهل والتخلف بوساطة إبراز حجم شعوب المنطقة وجذورها التي لا تتحدد بالتهميش الجاري بمصطلح أقليات آيلة للانقراض على وفق الظلاميين وتشويهاتهم وتهويشاتهم!
وعليه فإننا نشخص هذا الفعل الإجرامي كونه جريمة تطهير ثقافي ومن ثمّ دخولها في جريمة التطهير العرقي الديني التي تقع على مجموعة إنسانية هم شعب أصيل ومكون أساس رئيس من مكونات شعوب المنطقة والعالم. والجريمة مستمرة بفعلها عبر دعشنة المنطقة بإشاعة فكر ظلامي أحادي يتعايش راضخاً لجريمة الإبادة لتلك المكونات الأصيلة ومحاولة إنهاء البنى التعددية وحال الاغتناء بالتنوع في وجود شعوب المنطقة. وإذا كنا سنفتقد لثقافة بصرية مناسبة في معايشة تلك الشواخص المهمة للآثار العريقة فإن المنطق العقلي سيصاب بتحولات خطيرة من منطق التعايش وثراء التنوع إلى منطق الأحادية ومزيد من الانفصامات المرضية في المشهد الإنساني، بظل سيادة الجهل واستمرار الجريمة.
ولعل من جملة ما يُنتظر من حلول ومعالجات بشكل مخصوص أن يجري اتخاذ الآتي من الإجراءات:
1. توحيد التشريعات والقرارات الوطنية والأممية المخصوصة.
2. تعميم وثائق أرشفة الآثار وسجلاتها على المنصات الدولية لضبط المسروقات.
3. حظر وتجريم البيع والشراء لكل قائمة الآثار الموثقة المنقبة وغير المنقبة.
4. التحفظ على المضبوطات في متحف مخصوص برعاية اليونسكو.
5. سرعة التفاعل مع الأحداث والوقائع الجارية.
6. الاستعداد للانتقال الفوري إلى المناطق المُستعادة من قوى الإرهاب وعصابات ومافيات الانفلات الأمني.
7. إيجاد جهات ارتباط ولجنة دولية متخصصة للإشراف والمتابعة بمعرفة المنظمة الدولية \ اليونسكو وكل من ممثلي العراق وسوريا.
8. صياغة تقرير دوري ونقله عبر اليونسكو إلى مجلس الأمن لاتخاذ الإجراءات اللازمة بشكل عاجل وفوري.
9. تفعيل حملات وطنية وأممية بخاصة من منظمات معنية بعينها للتصدي للتخريب الجاري ولنتائجه الكارثية وأن يجري التفعيل عبر خارطة طريق ومأسسة العمل.
ولعل جهودا استثنائية تستجيب لنداءات حضارية ولخطاب التنوير الثقافي هو ما يمكن أن يضغط عمليا فعليا للتصدي الحاسم والحازم لهذه الجرائم الداخلة في جريمتي الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وليس التوقف عند حدود جرائم نهب وسرقة واتجار دولي مافيوي محسوب مادياً فالقيمة هنا أعمق غورا في الحراك الإنساني والحضاري المعاصر.