الثلاثاء، 19 مايو 2015

موسيقى كلاسيكية في الأراضي الفلسطينية: - عبدالكريم سمارة ـ رام الله مراجعة:عبده جميل المخلافي





موسيقى كلاسيكية في الأراضي الفلسطينية:
موسيقى موتسارت تصدح في سماء رام الله


عبدالكريم سمارة ـ رام الله
مراجعة:عبده جميل المخلافي


على مدى ساعات حلَّق جمهور الضفة الغربية في سماء الموسيقى الكلاسيكية التي عزفتها أنامل طلبة معهد برنباوم سعيد مع وتحت إشراف فرقة بوليفونيا برلين وبدعم من الخارجية الألمانية. عبدالكريم سمارة حضر الحفل الموسيقي وأعد هذا التقرير.


"الرسالة التي يحملها المشروع هو خلق التواصل الثقافي والفني بين ألمانيا والفلسطينيين" استمتع مئات الفلسطينيين وعلى مدار ساعتين ونصف بالاستماع إلى مقطوعات موسيقية كلاسيكية من عزف فرقة بوليفونيا برلين وبمشاركة من طلبة معهد برنباوم سعيد لتعليم الموسيقي. فقد غصت مقاعد قاعة العرض في مسرح وسينما تيك القصبة في الضفة الغربية بالمشاهدين من مختلف الأعمار والقطاعات، ممن أتوا لحضور الحفل، والاستماع إلى نتاج ورشات عمل امتدت ثلاثة أيام، درب فيها موسيقيون ألمان تسعة عشر طالبا وطالبة من أعمار ثمانية إلى سبعة عشر عاما، على عزف المقطوعات الكلاسيكية لكبار الموسيقيين الأوروبيين وخاصة موتسارت وهايدن وباخ.

كان الطفل الصغير سري باسم، يجلس في الصف الخامس، من مقاعد قاعة العرض في مسرح القصبة، عندما صعد الموسيقيون الألمان من فرق بوليفونيا برلين، على المنصة، فانتصب قائما وبدأ التصفيق وتبعه سائر الحضور في تحية العازفين. أخذت الموسيقى تتخلل الآذان والأذهان والقلوب، في عزف مقطوعة خماسية كلارينت.. وعلى مدار نصف ساعة ران الصمت على الحاضرين، باستثناء التصفيق في الوقفات بين مقطوعة وأخرى. حتى الأطفال الذين رافقوا أهاليهم إلى هذا الحفل، تفاعلوا بصورة لافتة. وتوالت فقرات الحفل، بعزف مشترك هذه المرة بين موسيقيين ألمان وطلبة معهد برنبناوم سعيد ، فقدمت عدة فقرات حيث عزف المحترفون الألمان مع الطلبة الفلسطينيين، في تناغم، لفت الأنظار.

دعم ورعاية ألمانيين 

"لقد فوجئت بمواهب هؤلاء الأطفال الذين تعلموا بسرعة وسلاسة وقدموا ، كما رأيتم، عزفا لمقطوعات ألفها موسيقيون عالميون كموتسارت وباخ وهايدن"

هذه الفعالية كانت حصيلة ورشات عمل، برعاية مؤسسة دويتشه فيله الإعلامية الألمانية بالتعاون مع وزارة الخارجية الألمانية بهدف خلق التواصل الثقافي بين ألمانيا وأوروبا من جهة والفلسطينيين والعرب من جهة أخرى. في هذا السياق يقول غيرو شيلس، مسؤول برامج التعاون في دويشه فيله ومنسق المشروع الذي ينفذ في الضفة الغربية، لـ دويتشه فيله: " الرسالة التي يحملها المشروع هو خلق التواصل الثقافي والفني بين ألمانيا والفلسطينيين، فالموسيقى خاصة والثقافة عامة، تربطان بين الشعوب وتوحد الأذواق. " ويضيف أن الفلسطينيين يستحقون هذا الدعم الفني والثقافي والإنساني. وفي اعتقاده أن هذه الرسالة قد وصلت حيث لوحظ التفاعل الجيد مع الإبداعات الموسيقية والفنية. وأشاد شيلس بالمجهود الذي قدمه المعهد الفلسطيني، برنباوم سعيد، ووفر المناخ لتعليم الأطفال والشباب، الموسيقي الكلاسيكية.

من ناحيته يقول نبيل الأشقر، مدير معهد برنباوم سعيد، لدويتشه فيله:"نوفر للطلبة التعلم على كافة الآلات الموسيقية، ولدينا مدرسين عربا وأجانب يقدمون جهدا كبيرا، وقد ظهرت نتائج ذلك عبر ورشات العمل والتدريبات التي تلقوها في اليومين السابقين للعرض، حيث استوعبوا تنفيذ عزف المقطوعات المطلوبة وأتقنوها كما ترون." ويتابع أن الموسيقى بصرف النظر عن نوعها وطبيعتها فهي لا تنحصر في منطقة معينة، بل إنها قابلة للانتقال من منطقة إلى أخرى، وهذا ما نجح هنا أيضا.

الموسيقى لغة التواصل بين القلوب والعقول

"الجمهور الفلسطيني بدأ يعتاد تذوق الموسيقى الكلاسيكية" 

العازفة الألمانية الشابة، فراوكه جيسون، دربت عددا من الأطفال على آلة الفلوت، تحدثت لـ دوييتشه فيله عن تجربتها، فقالت: " لفتني أن الفلسطينيين شعب ودود، وأنا أقابل هذا الود بان أقدم لهم كل ما لدي من موهبة موسيقية. أؤمن أن الموسيقي هي لغة تواصل فيها مع الناس الذين لا اعرفهم، ولا اعرف لغتهم، فهي تنتقل من القلب إلى القلب، دون حواجز.". لقد فوجئت بمواهب هؤلاء الأطفال الذين تعلموا بسرعة وسلاسة وقدموا ، كما رأيتم، عزفا لمقطوعات ألفها موسيقيون عالميون كمتسارت وباخ وهايدن.

الطالبة الهام أبو ريا التي تعزف على التشيلو، ترى أن الموسيقي الكلاسيكية الغربية قادرة على الانتشار في الشرق، وتابعت:" لقد تمكنا من العزف على الآلات الغربية وإتقان عزف المقطوعات المختلفة، وفي رأيي فان الذوق وان خلق مع الإنسان فهو قابل لهضم أنواع الموسيقى المختلفة." وحول المشاكل التي واجهتهم كطلبة في ورشات العمل، تقول :" لم نواجه مشاكل، بل اعتبرنا الأمر تحديا لنا كطلبة موسيقى، وقد خضنا هذا التحدي بنجاح كبير وهو ما رفع ثقتنا بأنفسنا وبمستقبلنا، حيث أتيحت لنا الفرصة في العزف مع موسيقيين عالميين من الدرجة الأولى.. "

تنامي الاهتمام بالموسيقى الكلاسيكية الغربية


يقول نبيل الأشقر، مدير معهد برنباوم سعيد: نوفر للطلبة التعلم على كافة الآلات الموسيقية، ولدينا مدرسين عربا وأجانب يقدمون جهدا كبيرا. خلال السنوات الأخيرة، قدمت فرق وعازفون عالميون، عروضا موسيقية كلاسيكية، في الأراضي الفلسطينية، وشهدت العروض وخاصة في قصر الثقافة ومدرسة الفرندز في رام الله، حضورا يرتفع باستمرار، ما يدلل على أن الجمهور الفلسطيني بدأ يعتاد تذوق هذا النوع من الموسيقى. يقول سمير الحسن ابن الخامسة والخمسين: " لقد شاهدت عدة عروض لفرق عالمية عزفت هنا، لكن الفرق أن ترى طلبة بل وأطفالا فلسطينيين، يشاركون عازفين عالميين في تقديم مقطوعات لعمالقة الموسيقي الكلاسيكية. وفي رأيي، فان تنامي الانجذاب إلى هذا النوع من الموسيقى، يحتاج إلى وقت أطول وزيادة عدد العروض". وأشاد الحسن بالدعم الألماني في هذا الجانب.




ثقافة التمرد- أجرت الحوار: أميرة محمد مراجعة: عماد مبارك غانم



ثقافة التمرد

أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي ورئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب:
"فقدان المواطن لكرامته دافع للانتحار على خطى البوعزيزي"

أجرت الحوار: أميرة محمد
مراجعة: عماد مبارك غانم

عشر محاولات انتحار على خطى البوعزيزي، ومازال الحكام يقبضون أنفاسهم خوفاً من المزيد. هي موجة يُخشى أن تتحول إلى ظاهرة جماعية في ظل حالة من الهياج تنتاب الشارع العربي جراء ضغوط عديدة، فما هو رأي الطب النفسي؟ أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي ورئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب، يتحدث في حوار مع أميرة محمد حول هذه القضية.



البوعزيزي.. يائس حوله طغيان الحكام إلى قدوة تحول الانتحار حرقاً إلى حديث الساعة في الشارع العربي مع إقدام المزيد من العاطلين واليائسين كل يوم في البلدان العربية على محاولة جديدة للتخلص من حياتهم، احتجاجاً على غياب العدالة الاجتماعية ونقص فرص العمل والعيش الكريم. ومنذ نجاح ثورة الياسمين، تصدر محمد البوعزيزي، مفجر انتفاضة التحرير التونسية، اهتمام الشباب العربي، فهل اتخذوا منه قدوة؟ وباتت طريقته في الاحتجاج وسيلة للتعبير عن رفض غياب العدالة الاجتماعية. توجهت دويتشه فيله بهذه الأسئلة وغيرها للدكتور أحمد عكاشة، أستاذ الطب النفسي ورئيس اتحاد الأطباء النفسيين العرب، للإجابة عنها.

موجة الانتحار التي تجتاح الشارع العربي هذه الأيام تعبر بطبيعة الحال عن يأس المواطنين وشعورهم بالكبت والعجز، وما إلى ذلك.. ولكن علمياً، هل لهذا الأمر علاقة بـ"أحلام الاستشهاد" للشهرة التي تعد نوعاً من أحلام اليقظة؟

أحمد عكاشة: لا أعتقد أن لها علاقة بأحلام الاستشهاد ولكن هذه الظاهرة، بل وظاهرة الانتحار بشكل عام، تعتبر صرخة للمساعدة، للاحتجاج على مواقف معينة، وصرخة لإزالة العجز واليأس والإحباط الذي يعاني منه الناس. يجب أن نأخذ في الاعتبار أن في العالم ينتحر سنوياً ما لا يقل عن مليون نسمة. وهناك محاولات الانتحار التي لا تنتهي بالوفاة، وهذه تمثل عشرة أضعاف حالات الانتحار.

ولماذا انتشرت تلك الظاهرة فجأة بعد محمد البوعزيزي؟


الدكتور أحمد عكاشة: طالما ظلت كرامة الإنسان ممتهنة ستزيد حالات الانتحار عكاشة: ما حدث أنه عندما انتحر البوعزيزي الذي أحرق نفسه احتجاجاً على البطالة والظلم وأثارت العملية زوبعة في العالم العربي كله، تفاعل معه الكثيرون في المنطقة، ممن يشعرون أيضاً بالإحباط واليأس والعجز ولا يستطيعون التعبير عن أنفسهم، فكان البوعزيزي بالنسبة لهم نوعا من المثل الأعلى والقدوة. ولعلك تلاحظين أن حالات الانتحار، التي حدثت في مصر وغيرها، تحدث عادة أمام مواقع صانع القرار السياسي، أمام مجلس الوزراء، أو مجلس الشعب، وكأنهم يقولون: "ساعدونا نحن غير سعداء وغير راضيين.. إذا لن تستطيعوا مساعدتنا، سنتجه إلى الله". هو نوع من الهروب من المعاناة والعجز والاكتئاب.

من وجهة نظر علم النفس، لماذا يلجأ المنتحرون من بعد البوعزيزي إلى وسيلة الحرق نفسها؟

عكاشة: كل بلد لها طريقة معينة في الانتحار، البلاد المسموح فيها باستخدام المسدسات والبنادق والرشاشات مثل الولايات المتحدة، تجدين المنتحرين فيها يستخدمون الأسلحة النارية. أما في المجتمعات التي لا يتم فيها تداول تلك الأسلحة، فيلجأ المقدمون على الانتحار إلى أساليب أخرى. مثلاً في مناطق الفلاحين في مصر، النساء يلقين على أنفسهن البنزين ويشعلن النار، لا تجدينهن يتعاطين الحبوب وليست لديهن وسائل أخرى. الرجال أو النساء في المدن يلقون بأنفسهم من الجسور في النيل أو يحرقون أنفسهم أيضاً.

إذاً طريقة الانتحار تختلف بين شعوب وتتباين من ثقافة إلى أخرى؟

عكاشة: نعم، الانتحار يعتمد على الثقافة والميول الدينية ويختلف من بلد إلى بلد. وسيلة الحرق وإلقاء النفس في النيل هي مثلاً طبيعة الانتحار في الثقافة المصرية بل والعربية بشكل عام.

عودة لأولئك الذين أقدموا على محاولات انتحار من بعد البوعزيزي، هل تعتقد أن عقلهم الباطن صور لهم أن استخدم الوسيلة نفسها سيؤدي بالضرورة إلى النتيجة نفسها وهي تحرير الوطن؟ أم أنهم انتحروا يأساً دون النظر إلى أي أبعاد أخرى؟


محاولات الانتحار مرشحة للزيادة في الشارع العربي عكاشة: في لحظة الانتحار، التي مر بها هؤلاء ومن قبلهم البوعزيزي، كانوا يمرون بحالة يأس لأسباب اقتصادية ونفسية واجتماعية. البوعزيزي انتحر لأن كل شيء كان مغلقاً أمامه في الحياة. حاول أن يبيع الخضر، فمنعوه. شكاهم، فسخروا منه. لم يتمكن من الأكل أو الشرب أو تأسيس أسرة، فلم يكن أمامه سوى الهروب من هذا الموقف والاحتجاج على الحكومة والسلطة التي أوصلته إلى هذا الحد، كان لحظة الانتحار يهرب من هذا الألم.
دكتور عكاشة.. هل لك أن تصف لنا سيكولوجية المنتحر بشكل عام، وهؤلاء المنتحرين الجدد على وجه التحديد؟

تختلف سيكولوجية المنتحر من شخص إلى آخر. إن 70 في المائة من حالات الانتحار في العالم تكون نتيجة لمرض الاكتئاب والقلق. هذا المرض يعطي صورة تشاؤمية للحياة بأنه لا يوجد حاضر، وبأن الماضي ظالم، والمستقبل أسود. وبالتالي يكون الانتحار هنا للتخلص من المعاناة. وللعلم، فإن آلام الاكتئاب أكبر من آلام السرطان. مريض السرطان، الذي لا يعاني من الاكتئاب يرغب في الحياة، لكن لو أصابه اكتئاب، سيفقد الرغبة في الحياة وقد يقدم على الانتحار. الاكتئاب يصاحب الأمراض المزمنة المؤلمة بحوالي 40 – 50 في المائة من الحالات.

وما هي أسباب الاكتئاب؟

عكاشة: لاكتئاب ممكن أن يأتي لأسباب اقتصادية، مثل البطالة والفقر. ومن الممكن أن يأتي لأسباب اجتماعية، مثل الظلم والقمع والقهر وإهانة كرامة الفرد. ومن الممكن أن يقدم إنسان على إنهاء حياته لأسباب نفسيه، عندما يفقد حبيبته أو عزيزي عليه مثلاً. لكن هناك مرضى الفصام، هؤلاء عندما ينتحرون يقدمون على ذلك لأنهم يسمعون أصواتاً تأمرهم بالانتحار. يشعرون أنهم تحت رقابة أو اضطهاد، تحدث لهم ضلالات مثل الغيرة أو الخيانة الزوجية.

وهل يعكس الانتحار ضعف الفرد أم قوته على اتخاذ تلك الخطوة؟

عكاشة:
محمد البوعزيزي، مفجر ثورة الياسمين البعض يعتبر الانتحار هروباً وجبناً، وآخرون يعتبرونه شجاعة وكرامة، هذه آراء فلسفية مختلفة. لكننا كطب نفسي نعتبر أن أي محاولة للانتحار هي صرخة للمساعدة علينا أن نأخذها على محمل الجد، ولا نقول إنهم يمثلون أو يهرجون، لا يصح ذلك إطلاقاً. وأعتقد أن هذه الأيام وصلت الصرخة لصناع القرار السياسي، على الأقل في الكويت، هناك خطوات، وفي السعودية، هناك خطوات، وأرجو أن تلتفت سائر الحكومات إلى مواطنيها لدراسة مدى جودة حياتهم حتى لا يصل إلى درجة اليأس والعجز.

كانت هناك محاولات انتحار مماثلة أيضا في أوروبا الشرقية في فترة من الفترات.. كيف تقارن بين الحالتين؟

عكاشة: الأمر واحد، عندما يكون هناك كبت وإحباط شديدين وانعدام لحريات التعبير، وكبت للديمقراطية، وعندما تكون هناك حالة من الطوارئ تحكم البلاد، وعندما يكون هناك اعتقال للسجناء وتعذيب للمعتقلين، عندما تهان كرامة الإنسان ويفقد آدميته، وعندما يهان الإنسان في كبريائه بالفقر والبطالة والقمع والقهر، لاشك أن كل هذه العوامل ستؤدي إلى زيادة حالات الانتحار.


أ. دوكر: دور الثقافة الشعبية ومتاعبها -بقلم أ. دوكر





أ. دوكر: دور الثقافة الشعبية ومتاعبها


 






بقلم أ. دوكر
"ما الساحرُ غير مُنظَرٍ ممارس" (أوبي ـ وان كينوبي)
في الدراسة المعاصرة للثقافة الشعبية يتم التسليم بضياع "ثقافة الشعب المشتركة" واستبدالها بثقافة جماهيرية متشظية، أي أن المقاومة  تكون هنا بين الفرد والمجتمع، ولعل ما يشغلنا اليوم هو وصف ثقافة المستهلك. فما الإنجازات السياسية التي حققتها الثقافة الشعبية إذا علمنا بخاطبها الديمقراطي؟ ما الذي حققته الحقول المعرفية الأكاديمية القليلة المهتمة حقاً بدراسة الشعبي، والتي تؤكد بأن عامة الشعب هم جزء من الصراع السياسي وبأن الحياة اليومية هي مُبدعة بطرق ما كانت لتتحقق في السابق إلا في ميدان الفنون الجميلة وأوساط المجتمع الراقية؟
كان أحد أهداف الدراسات الثقافية هو إبراز ثقافة عامة الناس التي لقيت إهمالاً كبيراً بدلاً من التركيز على الثقافة النخبوية للفنانين. ولأن الشعب في المجتمع الصناعي المتأخر هو من المستهلكين، أدى ذلك في النهاية إلى إهمال تام لإمكانيات الإنتاج الشعبي للثقافة. ولعل واحداً من أبرز الأمثلة على ذلك نجده في مقال جون فسك "فهم الثقافة الشعبية" (1990)؛ إذ يتناول فيه الاستعمال الشعبي للنصوص التي تقدمها صناعة الثقافة بمجملها. وهنا تكون حرية المضطهَدين ـ (لأن الثقافة الشعبية هي ثقافة المضطهَدين) ـ هي حرية قراءة وتأويل وإنتاج المعاني الشعبية من داخل المادة التي تقدمها القوى المهيمنة (ويفيد فسك هنا من مقال ميشيل دي سيرتو"ممارسة الحياة اليومية"، بل يركز عليه جداً).
المشكلات التي تعاني منها هذه المقاربة تؤثر في الفورية السياسية لهذه النظرية كما تؤثر في منظورها؛ فالتركيز المطلق على استعمال النصوص الشعبية ينكر على الشعب أية إمكانية لتناول أي موضوع آخر عدا الموضوعات التي تخص المستهلك، والناس ببساطة ليس بمقدورهم الإتيان بشيء عدا القراءة واستخلاص المعاني لكن بغض النظر عن مدى التخريب أو المعارضة التي تكنه هذه القراءات والمعاني فإنها لا يمكن أن تضاهي الإنتاج الشعبي للثقافة، والذي أراهُ ممكناً. الثقافة الشعبية، باختصار، ثقافة المستهلكين هي بالدرجة الأساس لا المنتجين.
ويكون طابع الاستهلاك المهيمن (والذي يطلق عليه فسك تسمية "الإنتاج الثانوي") فردياً وخاصاً (وهو غالباً ما يصف الناس الذين يشاهدون التلفزيون في منازلهم)، وبذا تكون تأثيرات المقاومة الشعبية مقتصرة في النهاية على فضاء غرفة الجلوس. إن هذا التشظي الاجتماعي الذي يُعدّ سمة المجتمع الرأسمالي المتأخر أدى أيضاً إلى جعل القوى (الرأسمالية) المهيمنة هي التي تحتل ذلك الفضاء، ولا عجب أن رأينا فسك يردد، ولمرات عدة، الاستعارة التي أطلقها دي سيرتو على السوبر ماركت بوصفه فضاء الثقافة الشعبية. وهكذا يتم إنكار التدخلات الشعبية العامة، التي تكون مشابهة لإمكانات الإنتاج الشعبي. وهذا بدوره يسهم في الفصل بين مديات السياسة والترفيه (بوصفه جزءاً من صناعة الثقافة).
وفي السياق المعاصر تكون القوة المهيمنة متمثلة بشركة ترفيه ـ صناعي (ومعلومات عسكرية) إلا أن هذا النهج لا يكون المسؤول عن إضفاء عنصر الجمالية على السياسة لأن ذلك لا يحدث بالدرجة الأساس إلا من خلال الثقافة الشعبية. الموقف الذي أتبناه هنا في تحليل الثقافة الشعبية ينبع من هذا النقد الفاحص، وأنا أركز بالدرجة الأساس على مواضع المنافسة والمقاومة، لا بمعنى القراءات التدميرية للنصوص التي تنتجها صناعة الثقافة ووسائل الإعلام (لأن القراءة المجردة تكون غير فاعلة سياسياً)، بل بمعنى الإنتاج الشعبي للثقافة الشعبية، هذه المواضع التي تخص إنتاج المعارضة هي موجودة حقاً، وهناك الكثير من الجدل في حقل الدراسات الثقافية يرمي إلى التنظير بشأن المشكلات التي تتناولها هذه الممارسات. والمهم أنها لا تلقى تجاهلاً تاماً، بل أرى أن ثمة إجحاف في تقدير مكامن قوتها.
كان على سمات، أو بالأحرى متطلبات، مثل هذه الممارسات الخاصة بالثقافة الشعبية، والتي تتبع النقد المذكور آنفا، أن تعتمد الاختلاف، أو أن تلجأ بدلا من ذلك إلى الثقافة المهيمنة مادامت الفرضية التي تقول بأننا نناقش ثقافة المضطهَدين فاعلة. ولعل مثل هذه الممارسة تتضمن، بالضرورة، إنتاج الثقافة لكن على وفق مبادئ تنظيمية واقتصادية، وفي النهاية، سياسية مختلفة تماماً. أي بعبارة أخرى سيحاول أن يبرهن على وجود فضاءات عامة مستقلة نسبياً يتم فيها إنتاج ثقافة شعبية معارضة.

تقاسيم الليل والنهار" لعبد الرحمن منيف: ملحمة روائية...دهاليز المكائد وعالم الحروب-أنغيلا شادر ترجمة: صفية مسعود









تقاسيم الليل والنهار" لعبد الرحمن منيف:
ملحمة روائية...دهاليز المكائد وعالم الحروب

أنغيلا شادر
ترجمة: صفية مسعود


تعتبر خماسية عبد الرحمن منيف "مدن الملح" التي يبلغ عدد صفحاتها الإجمالية نحو 2500 صفحة ركنا مهما من أركان الأدب العربي وتأريخاً للأحداث التي مرت بها السعودية. أنغيلا شادر تعرفنا بالجزء الثالث من الخماسية المعنون بـ"تقاسيم الليل والنهار" والذي صدر حديثاً بالألمانية.



رواية تشكل شاهدا على حقبة تاريخية وكذلك رصدا للتحولات التي مرت بها الدول العربية، ولاسيما النفطية منها كتب عبد الرحمن منيف خماسيته "مدن الملح" في سنوات الثمانينيات. ولا ترتكز الخماسية فحسب على المعلومات التي اكتسبها الكاتب خلال عمله سنوات طويلة في صناعة النفط العربية. لقد كان منيف - المولود عام 1933 ابناً لتاجر سعودي ولأم عراقية - ناشطاً سياسياً أيضاً، وهو ما جعله يتعرف مبكراً على آليات القمع التي تمارسها الأنظمة العربية مثلما تبين روايته "شرق المتوسط".

حقول البترول بدلاً من نخيل البلح

هناك أسباب وجيهة جعلت دولاً عربية عديدة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، تضع "مدن الملح" على قائمة الأعمال الممنوعة؛ فالخماسية تعكس البانوراما التاريخية الشاملة والساخرة والنقدية لدولة النفط التي تدعى "موران". بسهولة يدرك القارئ أن المقصود بالقائمين على أمور تلك الدولة هم أعضاء العائلة السعودية الحاكمة. ونحن ندين بالفضل إلى دار نشر "ديدريشس" التي اختارت هذا العمل لتقدمه إلى القارئ الألماني وعهدت بترجمته إلى لاريسا بندر وماجدة بركات. هذا المشروع يصل إلى نهايته الآن بصدور الجزء الثالث المعنون بـ "تقاسيم الليل والنهار".


الرواية تعكس أيضا التحولات في المجتمع السعودي يعود الجزء الثالث بالقارئ إلى الأحداث التاريخية التي وقعت قبل أحداث الجزأين الأول والثاني من الخماسية، ولدى المطالعة ينتاب القارئ شعوراً بأن منيف يتناول عصراً لم يعايش أحداثه بنفسه.

الجزء الأول وعنوانه "التيه"، والثاني وعنوانه "الأخدود" يغطيان الفترة من 1933 حتى 1964، وفيهما يجد الكاتب صوراً بلاغية مدهشة يعبر من خلالها عن العنف الهائل الذي فجرّه التقدم الذي غزا البلاد مع اكتشاف النفط لدى أناس تعودوا على العيش في البيئة الصحراوية الضنينة.

دقة في التصوير 

لم يسبق لكاتب قبل عبد الرحمن منيف أن صوّر بهذه الدقة وذلك الغضب المقدس تلك الحالة البائسة التي وجد فيها أنفسهم المقتلعون من جذورهم الذين رأوا الدخان يتصاعد من حقول البترول العجفاء التي أخذت في الانتشار طاردةً أشجار النخيل المثمرة، أو تلك الإهانات التي شعر بها مربو الخيل والجمال الذين رأوا حيواناتهم التي طالما تغنوا بجمالها في أشعارهم تخلي الساحة للسيارات، أو إدمان الترف الذي انعكس في ذلك الأسلوب الفني الشرقي-الغربي الشنيع.


"الخماسية تعكس البانوراما التاريخية الشاملة والساخرة والنقدية لدولة النفط التي تدعى "موران". غير أن قارئ "تقاسيم الليل والنهار" يفتقد بعض الشيء تلك الصور المعبرة، وإن كانت أحداث الرواية تثير اهتمام القارئ بعد البداية الجافة بعض الشيء التي يستهل بها منيف هذا الجزء الذي تدور أحداثه خلال العقد الأول من القرن العشرين. الكاتب يصف هنا التوسعات التي قامت بها موران، تلك الدولة الصحراوية المتخيلة، ناسجاً– على نحو ما يوحي به العنوان - التناقضات العديدة التي ينطوي عليها الصراع بين طموحات الأمراء المحليين وشيوخ قبائل البدو من جهة ومصالح التاج البريطاني من جهة أخرى.

في هذا الجزء يدخر منيف إلى أقصى حد في الأوصاف الحسية، ويسلط الضوء كله على الشخصيات والأفكار والأحاديث التي تتبادلها. الكاتب يعتمد هنا بحذق ومهارة على نوع من الضبابية التي يقدم بها المشاعر والأفكار التي تنشأ داخل الإطار الضيق الذي تتحرك فيه حاشية الأمير التي تنسج المكائد، كما يعرض للأفكار التي تشيع في المجتمع الأوسع الذي لا يعرف قنوات إخبارية عامة. تلك الضبابية تتبدى أيضاً في التبادل العربي البريطاني حيث لا يريد أي طرف أن يكشف أوراقه تماماً أمام الطرف الآخر وحيث تؤدي الفروق الثقافية إلى سوء فهم إضافي.

قاعة المرايا التاريخية


في مركز الأحداث يقف السلطان خربيط وابنه فنر اللذان يرمز بهما منيف إلى مؤسس المملكة السعودية عبد العزيز بن سعود وفيصل بن عبد العزيز في مركز الأحداث يقف السلطان خربيط وابنه فنر اللذان يرمز بهما منيف إلى مؤسس المملكة السعودية عبد العزيز بن سعود وفيصل بن عبد العزيز. في البداية قد يعتقد القارئ أن شخصية البريطاني هاميلتون - الذي يقف في صفه السلطان وابنه في المفاوضات التي يجريانها مع انكلترا كوسيط نزيه ذي ولاء – تمثل صورة روائية لشخصية ت. أ. لورانس الذي دخل التاريخ باسم "لورنس العرب"، غير أن المقصود هنا هو هاري سانت جون فيلبي الأقل شهرة من لورنس. كان لورنس، مثله مثل فيلبي، شخصية مستقلة لا تصلح للوظيفة ولا تتقيد بقيودها، كلاهما كان يشعر بالانجذاب تجاه الثقافة العربية والبدوية، وكلاهما يقع فريسة لصراع الضمير ما بين سياسة المصالح الغربية وبين صداقاتهم مع العرب. غير أن كليهما وقفوا في صف الخصوم: كان لورنس يدعم الشريف حسين أمير مكة الذي انتصر عليه عبد العزيز بن سعود في عام 1924 ثم طُرد من بلاد الحرمين الشريفين.

لعل القارئ الألماني كان بحاجة إلى مقدمة أو تعقيب يلقي الضوء على الخلفيات التاريخية، فالقراءة تضعه في منطقة مجهولة إلى حد كبير. نادرة هي اللحظات التي يجعل فيها الكاتب أحداث الرواية تجري في مكانها التاريخي الحقيقي وفي زمانها، مطلع القرن العشرين، مثل المشهد الذي يركب فيه خربيط السيارة لأول مرة.

إن فتوحات السلطان والتحالفات الشائكة التي يعقدها مع أمراء القبائل المحلية متجذرة في التراث البدوي أكثر منها في السياسة أو الحروب الحديثة، أما الدسائس والمكائد في القصور حيث الخدم والوصيفات والمخصيون يخوضون باسم زوجات السلطان الغيورات حروباً غريبة الطابع، وكثيراً ما تكون حروباً وحشية أيضاً، فهي تكاد تعود بالقارئ إلى عالم ألف ليلة وليلة.

انسجام ظاهري

في جحيم الحسد والجشع هذا يلفت نظر القارئ من بين الأبناء العديدين لخربيط ابنه فنر الصموت الذي "يسمع بعينيه وقلبه وأذنيه" – ولهذا يبدو وكأنه مزود بقرون استشعارية تستشرف التحولات الضخمة التي ستعيشها بلاده. العالم بدا له مجموعة من الصخور الخفية التي ترتطم وتحطم بعضها بعضاً. خربيط وهاميلتون ينظران إلى الشاب المتأمل باعتباره ولياً للعهد، ولذلك يرافق هاميلتون في رحلاته الدبلوماسية إلى لندن حيث يتلقى الشاب هناك دروساً في اللغة الانكليزية من "ميس مارغو"، عمة مضيفه العجوز.


يعد عبد الرحمن المنيف أحد أهم الروائيين العرب في القرن العشرين؛ حيث استطاع في رواياته المتعددة أن يعكس الواقع الاجتماعي والسياسي العربي بكل تحولاته وتداخلاته، لاسيما في دول الخليج هنا يرسم منيف صورة مثالية بديلة لتلك العلاقة بين خربيط والرجال البريطانيين الذين يوفرون له الحماية، وهي علاقة تمليها لغة المصالح والنفوذ. وإذا كانت العلاقة بين التلميذ والأب الروحي تبدو غير متوازنة - بسبب شخصية فنر القوية من ناحية والتمزق النفسي الذي يعيشه هاميلتون من ناحية أخرى والذي يجعله في النهاية يختار لنفسه موران مقراً والإسلام عقيدة – لذلك لا يمكن النظر إلى تلك العلاقات إلا باعتبارها تنويعاً إيجابياً على أنماط السلطة الكولونيالية.

بشخصية هاميلتون خلق عبد الرحمن منيف بدوياً مفكراً مهموماً يتأرجح بين العالمين دون أن ينتمي لأي منهما، ولهذا تحديداً يستطيع الاحتفاظ بالمسافة النقدية الواجبة؛ أما فنر فهو أمير يعلو على مكائد القصر ودسائس القبيلة. وهناك أيضاً "ميس مارغو" الحكيمة التي تعلم الأمير الشاب أنه إذا أراد التوصل إلى انسجام بين الثقافات فعليه أن يراعي الفوارق بينها وليس فقط نقاط الاتفاق. مَن قرأ الجزء الأول والثاني من "مدن الملح" لن يغرق في الأحلام عندما يقرأ تلك الفقرات، فالصخور "التي ترتطم ببعضها بعضا" ستسحق موران وأهلها – سحقاً تاماً وبلا رحمة.




صدرت الترجمة الألمانية للجزء الثالث من خماسية "مدن الملح" لعبد الرحمن منيف تحت عنوان "تقاسيم الليل والنهار" لدى دار نشر "ديدريشس" في ميونيخ 2009 (448 صفحة). أنجرت الترجمة لاريسا بندر وماجدة بركات.

معهد مانيفيكات الموسيقي في القدس: عالم موسيقي موحد في مدينة مقسَّمة-ترجمة: رائد الباش





معهد مانيفيكات الموسيقي في القدس:
عالم موسيقي موحد في مدينة مقسَّمة

ترجمة: رائد الباش


تعد القدس عاصمة الديانات السماوية الثلاث وهنا في قبو أحد الأديرة في البلدة القديمة في مدينة القدس توجد المدرسة الموسيقية الوحيدة التي يتعلَّم فيها طلبة مسيحيون ويهود ومسلمون العزف والغناء الجماعي. دانيال بيلتز قام بزيارة لهذه المدرسة في مدينة القدس وأعد هذا التقرير.


 عندما يمارس شباب وشابات جوقة مانيفيكات تمارينهم تكون هناك واحدة من اللحظات القليلة التي يسود فيها الوئام في مدينة القدس القديمة. وهنا خلف مقاعد خشبية بُنِّية اللون، يقف ثمانية شباب وشابات يرتدون ملابس عصرية، ومن فوقهم سقف مقبَّب مصبوغ باللون الأبيض. ويعتبر هذا القبو الذي يقع أسفل دير الفرنسيسكان بعيدًا عن الأزقة الضيِّقة وجموع الناس الذين تعجّ بهم المدينة القديمة. وفي هذا القبو لا تُسمع إلاَّ أصوات جوقة الشباب والشابات وهم يتمرَّنون على غناء أغنية اسمها "زهور" .

وتتولى قيادة هذه الجوقة الشابة الفلسطينية المسيحية، هانية صبَّارة التي يبلغ عمرها أربعين عامًا وترتدي بنطالاً أبيض وقميصًا أخضر، وشعرها أشيب. وعندما تتكلم تضحك كثيرًا وتحرِّك يديها. ولكنها عندما تتحدَّث حول رسالة هذه المدرسة الموسيقية، فتصبح جادة ورصينة. وهي موجودة هنا منذ تأسيس المدرسة في عام 1995 وتقول صبَّارة: "يزور معهد مانيفيكات أبناء كلِّ الطوائف والمذاهب؛ طلاَّب من مختلف الطوائف المسيحية ومسلمون ويهود". وتضيف: "هنا يحصلون على الدروس نفسها، وعلى التعليم نفسه، ويلتقون ببعضهم في الجوقة ويكتشوفون أنَّهم جميعهم متشابهون".

جنبًا إلى جنب في مدينة واحدة


مدينة مقسَّمة - تتكوَّن البلدة القديمة في مدينة القدس من أربعة أحياء للمسيحيين واليهود والأرمن والمسلمين وهانية صبَّارة تعرف من خلال تجربتها الخاصة السبب الذي يجعل من مدرسة موسيقية مثل معهد مانيفيكات مهمة إلى هذا الحدّ. فقد نشأت في منزل لا يبعد سوى مائتي متر عن دير الفرنسيسكان. وكانت تشاهد منذ طفولتها من فوق سطح منزل والديها الشيء نفسه: أي أسوار المدينة القديمة وأبراج الكنائس. ومن هنا يتَّضح مدى تأثير الأديان المختلفة في صورة هذه المدينة. وفي مدينة القدس القديمة تكتظ الكنائس والمساجد والكنس اليهودية فوق بقعة لا تزيد مساحتها عن مساحة ثلاثين ملعبًا لكرة القدم. وفي كلِّ مكان بين قبة الصخرة وبين قبتي كنيسة القيامة ترتفع في الهواء كثير من الصلبان والنجوم السداسية والأهلة. وما يزال يعيش بين الكنائس والمساجد والكنس اليهودية ثلاثون ألف شخص - في مناطق مقسَّمة تقسيمًا شديدًا حسب الأديان. وتتكوَّن البلدة القديمة في مدينة القدس من أربعة أحياء، للمسيحيين واليهود والأرمن والمسلمين.

ولكن من ناحية أخرى يلتقي في معهد مانيفيكات أبناء المجموعات العرقية والديانات المختلفة من أجل تلقي درس على آلة الكمان. والطالبان المشاركان اليوم هما ديفيد وحبيب. ولا تبدو عليهما أي اختلافات من منظرهما الخارجي: إذ يبلغ عمر الأوَّل عشرة أعوام والثاني إحدى عشر عامًا، ولكليهما شعر أسود وبشرة سمراء. ويرتدي حبيب ملابس رياضية مخطَّطة باللونين الرمادي والأبيض، أمَّا ديفيد فيرتدي قميصًا أزرق وبنطال جينز. ويحمل كلّ منهما آلة كمان في يديه.

وينحدر حبيب من عائلة فلسطينية مسيحية، أمَّا ديفيد فهو من عائلة أرمنية؛ في حين أنّ معلمتهما تانيا بيلتزر، يهودية. وتقول إنَّها تنتظر زياراتها الأسبوعية إلى مانيفيكات بسعادة: "تعتبر البلدة القديمة دولة قائمة بذاتها داخل هذا البلد. وفي حياتي اليومية لا ألتقي بفلسطينيين وأرمن ويونانيين. وذلك لأنَّ هذه المجتمعات منغلقة جدًا". وتضيف: "لهذا السبب تعتبر هذه المدرسة فريدة من نوعها؛ هنا يمكن الاطلاع على طوائف، لا يمكن الالتقاء بها أو التعرّف عليها عن كثب في مكان آخر قطّ".

الموسيقى تجمع بين الناس


تقول مديرة المدرسة الموسيقية، هانية صبَّارة: "يزور معهد مانيفيكات أبناء كلِّ الطوائف والمذاهب؛ طلاَّب من مختلف الطوائف المسيحية ومسلمون ويهود". وبينما تتحدَّث معلمتهم، يذهب ديفيد في طريق العودة إلى البيت. ولكنه حتى الآن لم ينته من التمرين على آلة الكمان. ويجلس والده هارود على أريكة جلدية سوداء اللون ويراقب ابنه. و يقول: "في القدس لا توجد لدينا أماكن كافية يستطيع الشباب فيها الالتقاء ببعضهم. ولهذا السبب من الجيد أن يتمكَّنوا من الذهاب إلى معهد مانيفيكات". ويعدّ هارود وابنه شخصين من بين نحو ألفي شخص أرمني يعيشون في المدينة. ومعظمهم غالبًا ما يبقون ضمن محيطهم في حي الأرمن في القدس. وهارود أصلانيان يريد لابنه شيئًا مختلفًا - ولذلك أيضًا فهو يرسله إلى معهد مانيفيكات.

ويقول: "الموسيقى تجمع بين الناس، وتجعلهم ينسون السياسة والدين، بحيث أنَّهم يصبحون طائفة واحدة". ويستمر ديفيد في التمرين على آلة الكمان. وديفيد الذي يبلغ عمره إحدى عشر عامًا، لم يقرِّر حتى الآن إن كان سيصبح موسيقارًا محترفًا أو ربَّما طيَّارًا. ولكن على أي حال يأمل والداه أن تساعده المدرسة الموسيقية على أن يصبح شخصًا منفتحًا.


إصدارات لا .. يا شيخ-رواية لـ سعيد حبيب


إصدارات
لا .. يا شيخ

رواية لـ سعيد حبيب
 

  عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة،  صدرت رواية " لا .. يا شيخ" للكاتب الصحفي "سعيد حبيب" في 148 صفحة من القطع المتوسط ، تصميم الغلاف: إسلام الشماع
"لا .. يا شيخ" هي الرواية الأولى لـ"سعيد حبيب" والتي استوحاها من قصة حقيقية، وتتناول حياة شقيقين الأول ملتزم دينيًا والآخر عابث؛ غير ملتزم؛ تحركه رغباته.
الرواية تقدم صورة مغايرة عن عالم الملتزمين دينيًا، حيث يستند سعيد حبيب في روايته على معايشته عن قرب لهذا العالم، فوالده هو الدكتور كمال السعيد حبيب أحد رموز الحركة الإسلامية في مصر، فبطل الرواية "منصور" الشاب الملتزم دينيًا الذي يغمر زوجته بحبه، ويمطرها بكلمات الغزل؛ يتم اعتقاله بموجب قانون الطوارئ لإجباره على العمل مرشدًا لأحد ضباط المباحث.
هذه الصور المغايرة يرسمها "فتحي" الشقيق العابث من خلال أحداث الرواية؛ قائلاً:
(هو دا عيب التليفزيون والمسلسلات والأفلام.. دول ناس عاديين جدًا كل حاجة حلال عندهم إلا اللي قال عليه ربنا حرام.. ملتزمين شوية بيصلوا ويصوموا ويزكوا ويتفسحوا ويحبوا ويتحبوا وبياكلوا كل حاجة إلا الحرام وبيشربوا كل حاجة إلا الحرام وبيتفرجوا على التليفزيون ويروحوا سينما ويسافروا برة. طب دا أنا اخويا منصور دكتور حب زميلته واتجوزها عمري ما شفت اتنين بيحبوا بعض كده بس مش حب بوسة ونغمض ويالا وجنينة الأسماك وكوبري الزمالك وتحت بير السلم أو ابقى تعالي بالليل وأنا أوريك الويل لا، حب بتاع رحمة ومودة وخلفة عيال حب يدوم مش حب لف وارجع تاني. ومشفتشاتنين أسعد منهم لغاية ما الحكومة قفشته. بس المصيبة أننا بنقعد نتفرج على التلفزيون كده ونصدق أي حاجة غلط.)

تستعرض الرواية أيضًا قانون الطوارئ وظاهرة الاعتقال المتكرر، وبحسب المنظمة المصرية لحقوق الإنسان فإن الاعتقال المتكرر يمثل أحد التطبيقات الشاذة لإساءة السلطات الأمنية استعمال صلاحيتها الاستثنائية بموجب المادة الثالثة من قانون الطوارئ والتي تجيز لها اعتقال الأشخاص المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام. وتؤكد المنظمة المصرية لحقوق الإنسان أن الاعتقال المتكرر أخذ طابع الظاهرة العامة المطردة وذلك بالنظر لكثافة أعداد المعتقلين بشكل متكرر من ناحية، وتعمل السلطات الأمنية على إعادة اعتقالهم بموجب قرارات إدارية جديدة بمجرد حصولهم على أحكام نهائية بالإفراج عنهم من ناحية أخرى.

( تتمنى لو كنت تاجر مخدرات أو حتى قاتل أو متهم في قضية قلب نظام الحكم؛ على الأقل كنت ستعرف التهمة الموجهة إليك والعقوبة التي تنتظرك..
تتذكر المرة التي قلت فيها لحمدي بك:
- سيادتك أنا دكتور.. مش مسجون جنائي.. أنا مسجون سياسي وليا حقوقي.
أجاب بشراسة بدائية:
- دا عند أمك، يا روح أمك.. انت هنا مش داخل بتصريح ومحدش يعرف عنك حاجةني ممكن أموتك دلوقتي عادي.. لأنك مش عندي ومحدش حيسألني عنك وعلشان تصدق أنا حاحكيلك القصة في حاجه اسمها الاعتقال المتكرر يعني إيه بقى؟ يعني المادة الثالثة من قانون الطوارئ تجيز اعتقال الأشخاص المشتبه فيهم أو الخطرين على الأمن والنظام العام ودا رأي أو وجهة نظر وأنا ممكن أقول أنك خطر على الأمن والنظام العام بمزاج أمي، المهم حضرتك بعد ما باعتقلك حتتظلم وبعد ما تتظلم حاطلع قرار جديد من وزارة الداخلية بتاريخ لاحق لتاريخ الإفراج عنك.. وممكن القرارات دي تطلع لمدة عشرين سنة عادي.. بمزاجي.. وعلشان إحنا كويسين وقلبنا رهيف ساعتها حنبلغ أهلك علشان يجولك زيارات وحنقعدك مع بقية المساجين وحتعيش حياتك بقى في السجن كأنه بيتك.. أتمنى تكون فهمت؟..
ترتبك لأن كلامه منطقي فأنت بلا تهمة.. أنت معتقل بموجب قانون الطوارئ ولا أحد يسأل.!)

لم ينس حبيب أن يستعرض في روايته أزمة العنف والعنف المضاد، حيث يقول على لسان "منصور" بطل الرواية:
( ... نشأة فكر التكفير الذي ترفضه تمامًا لا تختلف كثيرا عن المناخ الذي تعيش فيه ولا علاقة لها بأي تأصيل ديني، إنها فكرة نفسيه جاءت نتيجة العنف والتعذيب الشديد، وبدأت بأسئلة منطقية:
هل من الممكن أن يكون ذلك العسكري الذي يواظب على ضربي بالخيرزانة تارة وبالسوط يع تارة أخرى مسلمًا؟
هل الضابط الذي أمره بأن يفعل ذلك مسلم؟
هل الحكومة التي وضعت هذه القوانين حكومة مسلمة؟
هل العنف الذي يتقنون ممارسته مع أهالي المعتقلين من الإسلام؟
ولماذا يندهشون إذا تم الرد عليه بعنف مماثل..
القضية برمتها تتحول إلى ثأر وليس عمل إرهابي. إنه عنف وعنف مضاد ليس أكثر من ذلك، لكن الناس لا تعرف ذلك؛ هي تعتقد أن العنف مجاني وأنه يمارس من قبل جماعة من البدائيين يطلقون لحاهم ويرتدون جلابيب قصيرة ويمارسون العنف لمجرد العنف.
إذا عرفت أن زوجتك تم تهديدها بهتك العرض أمامك وأنت معلق كالشاه المذبوحة ماذا ستفعل؟
دعك من أن أول قرار ستتخذه هو أن تطلقها وإن كانت روحك في يدها لأنك انكسرت أمها مثل كوب من البلور رديء الصنع، لكن ستصبح قضيتك الشخصية هي أن تنتقم.. الانتقام يصبح قضية حياتك مهما كلفك ذلك من فاتورة.. ستصبح.. "بايعها")!!!

سعيد حبيب في روايته الأولى يكشف لنا صورًا ومشاهد من واقع الصراع الأمني في المجتمع المصري، في لغة سهلة بسيطة، لكنها مرسومة بدقة وعناية.


الخميس، 14 مايو 2015

اللغة التعبيرية -دأنور غني الموسوي



اللغة التعبيرية
دأنور غني الموسوي

التعبيرية في الادب لغة شعرية جميلة و فذة ، تبحر بالفكر و الكاتب و القارئ الى اعماق اللغة و اعماق الاشياء و اعماق النفس الانسانية ، انها ببساطة ،  العمقُ الرفيع للحواس و الشعور و الوجود ، تبحر بنا الى اعماق الاشياء فلا تكون الاشياء هي الاشياء كما نعرفها  و انما تظهر بحلة و شكل و صورة جديدة و معنى جديد ، باحاسيس اخرى ،بصور اخرى . ان التعبيرية هي تعريف جديد للشيء و معناه ،و كشف عن عوالم شعورية عميقة ، حيث المعنى يتحدث عن المعنى ،  الاشياء تتكلم عن الاشياء ، انها استخدام خاص جدا للغة ، انها من  صنف اللغة العالمية العميقة ، المتجاوزة للمحلية و الزمان ،حيث العمق التعبيري المبهر و المدهش .
وهنا مقاطع مقتطفة لنصوص عربية بلغة تعبيرية قذة :

مقطع مقتطف من نص ( بطاريق الهوس ) سعد مهدي غلام  (2015)
( الشموع تبكي
والطيف يرغب بالرحيل
لتنام السدرة
فالجنادب تخاف وقع اﻻقدام
ساخرج اقطف وردة كاردينا
واعود لاكمل كأسي
اتطير من الدموع
فقط الندى في الفجر بلل شهي
دعيني اطلق فراشاتي الملونة
لتبقى بمنأى عن اللهب
انت تعرفين اين تحط
ستترك كحلا
دغدغ وكرها
ثم تموت  )

مقطع مقتطف من نص ( رغبة ) لجواد الشلال (2015)
(وهناك حدائق الفلسفة ..
تلك التي تغص بالجمال والتراب وماء يشتعل من شدة صهيل الخيول الجامحة بشهقة جنونية هادئة .. وعلي حين غرة سقطت بايدينا قصيدة سمراء .. تعلمنا على اثرها اقامة حفلات الشواء النزقة بحدائق الفلسفة ...
قلبنا كل الاشياء بدأنا
الفلاسفة
الصعاليك
الحوذي الي كان بامرة يوليوس
حفاري القبور
جنود البلاط المتاكلين من الترف
القوارير الذهبية
حلاق بيت المال
قاضي القضاة .. ذو الانياب الجارحة )
مقطع مقتطف من نص ( دجلة القرمزي ) لأنور غني الموسوي (2015)
( سأجوب زوايا الظلّ  كهماسات القمح في ساعات الفجر  الاولى، سأنذر زورقي و جزري  المتوهجة ، وقميص  الافق البنيّ لغد بهيج ، سأهدي شواطئ دجلة  أغنية ما سمع بها قط ، أحملها فوق كتفي مع بقايا الخيزران ، و أكتب إسمي في الموتى باكراً لأنّ النهار بات مخيفاً .
لقد رأيت الشمس في خيمتها القاصية ،  أجلستني على التلّ الأبيض ،كنت مذهولا حتى انّي أبحرت بغرابة في لآليء همسها . كانت  زجاجية تنعم بالحكمة .  كانت تشبه الى حدّ بعيد السلحفاة المتوردة  التي أكل قشرتها أطفال قريتي. )    

قصة قصيرة حصل في وقت ما- عادل كامل

 قصة قصيرة

حصل في وقت ما




عادل كامل
     عندما لمحها تبتعد عن جسده، تركها تتمادى وكأنها كانت قد حصلت على موافقته، أو إنها ليست بحاجة إلى مثل هذه الموافقة، فشاهدها تحفر بضرب من اللامبالاة في التراب خطوطا ً متعرجة وملتوية ومتداخلة النهايات...، حتى وجد فمه يتلعثم بكلمات لم يفهم من معناها ما يؤكد انه منحها تلك الحرية، أو انه لم يعترض عليها على نحو مباشر. وعندما ميز إنها كانت مازالت متصلة بجسده، شاهد الأخرى مترددة في مغادرة حدودها، إلا بعد لحظات، حيث رآها  تتحرك مثل حلزون يدب بعيدا ً عن الماء...، وتبتعد عنه أيضا ً.  لم يصدم، ولم يستفز إلا عندما مر جار له تذكره بصعوبة وهو يخبره بان الأمر لم يعد يجري بحسب الأعراف والعادات. فهز رأسه  بحركة تقليدية في بادئ الأمر، لكن الجار أكد له أن النتائج ستكون ذات نهايات من الصعب التكهن بفداحتها:
ـ أنا لا أظن ذلك...، فانا في الأصل ...
    وفكر الذئب العجوز مع نفسه، بأنه كان يتكلم في أمر لا علاقة له بما كان يتحدث عنه الآخر، لأن الآخر قال له:
ـ فهنا أنت تراني فقدت السيطرة ...
فسأل نفسه بصوت مسموع:
ـ ما الذي حدث....؟
وخاطبه:
ـ كأنك تتحدث عن أمر محدد...؟
رد الآخر:
ـ الم تر إنني اجري من غير ذنب!
ـ آ ....، صحيح...، ومن غير ساق!
   فقال الآخر بصوت متردد:
ـ بل حتى انفي تخلى عني ...، فانا الآن امشي خلفه!
فسأل الذئب نفسه: وأنا امشي خلف من ...؟
   أرسل نظرات قلقة متابعا ً أصابعه وقد ابتعدت كثيرا ً عنه:
ـ آ ....، انظر ...، إنها انفصلت عني.
   لم يجب الآخر. فراح يصغي إلى انفه:
ـ منذ سنوات وأنت تعاملني بإهمال وعدم اكتراث حتى انك أصبحت تستنشق الهواء وكأنك تخليت عني...
ـ ماذا تقول...؟
   قال انفه:
ـ آن لي أن أخبرك بما عزمت عليه...
قال يخاطب انفه بخوف:
ـ أنت تذكرني بقصة روسية قديمة ...
ـ اسمع، لا مجال للهذار....، فانا سأتبع خطوات نابك الذي تركته يفر من فمك...، بعد ان تخليت عن القواطع ...
ـ آ ...
   عندما بحث عن جاره وجده اختفى. فترك رأسه يستقر فوق صخرة وهو يرى ذنبه يبتعد عنه:
ـ  وأنت أيضا ً...؟
ـ سأقوم بنزهة صباحية ...، ثم انك لم تعد تستخدمني..
  اعتذر الذنب له:
ـ هذا صحيح...ن فلم تعد لديك فائدة.
ـ إذا ً لا تغضب علي ّ.
ـ ولماذا اغضب...؟
   لم يعد يرى الأشكال والصور والألوان إلا هالات متداخلة النهايات، تبتعد وتقترب منه، وعندما لمح ساقه اليسار تمشي خلف ساقه اليمين كاد يعترض، لكن أذنه التي لم يستخدمها، همست له:
ـ دعهما! لا تعترض...، وهل كانت لك إرادة على أصابعك ...؟
   حرك رأسه قليلا ً، وهو يراقب شيئا ً شبيها ً بالحبال يتلوى فوق الأرض...، يبتعد عنه، حتى صدم وهو يرى كرات تتدحرج من حوله. فقال له لسانه:
ـ تبدو الأوامر صدرت لها ...
ـ أين معدتي؟
   لم يجد وسيلة يتلمس بها جسده، باستثناء نظرات  سمحت له أن يراقب أعضاء جسده تخرج الواحدة بعد الأخرى. فمر قنفذ بجواره ثم تبعه آخر:
ـ إلى أين...؟
   أجاب القنفذ الثاني:
ـ امشي خلف شبحي!
ـ هو شبحك أم أنت شبحه...؟
ـ ما الاختلاف ...، المهم إن احدنا لا ينوي الانفصال عن الآخر! فأنت تعرف إن الحديقة إذا تقسمت ذهب مصيرها إلى الحضيض، مثل هذا الكون إن لم يكن وحدة متماسكة فانه لن يغدو أكثر من كوابيس لا رابط يربطها!
   قال لسانه يخاطب القنفذ الأول:
ـ كأنك تنوي الهرب...؟
ـ ما شأنك أنت...، انتبه لمعدتك، وأمعائك، ومخرجك!
    نظر الذئب فشاهد حلقة تتمايل مبتعدة عنه:
ـ وأنت...، يا مخرجي، ماذا تفعل...؟
أجاب:
ـ أنا أنفذ أوامر قلبك؟
   قال القلب:
ـ أنا غير مسؤول عن ذلك...، صحيح، كنت أغط في نوم عميق، ولكنني لم آذن له بالمغادرة..
    صرخ المخرج:
ـ سيدي، أنت تكذب! فأنت نظرت إلي ّ كعضو تالف!
ـ آ ....، ولكن هذا لا يسمح لك باتهامي بالكذب، ولا بهذا التصرف المشين، أم انك لم تعد تستحي، فرحت تفعل ما تشاء...؟
ـ ها، وتعترض علي ّ...؟
ـ كنت لا أود الاعتراض...، ولكن اخبرني من أين أتبرز...؟
ـ آ ....، هذه مشكلتك أنت، وليس مشكلتي..
    فدار بخلد الذئب انه لم يغادر حفرته منذ زمن بعيد، ولم يتناول طعاما ً، وما ذاق قطرة ماء، بل اكتفى ـ إبان مرضه ـ بتنفس الهواء، والقيام بجولات سياحية عبر ساعات النوم الطويلة. ذهب مرات قليلة إلى بركة الحديقة الخلفية، ثم زار أجنحة الثيران، والنعاج، ومر بمغارات بنات أوى، والجرذان، من غير مشاكل تذكر.
ـ اسمع...
انتبه إلى الصوت:
ـ لم تبق إلا أنت يا لساني...، أيها السليط...، غير المهذب!
ـ أنا آخر من يتخلى عنك...، فانا أحذرك وأقول لك إن عقلك الأسفل الذي ينوي الهرب....
    تساءل الذئب: وماذا افعل وأنا من غير أدوات للعمل....
    رد ما تبقى من دماغه الأعلى:
ـ حذار من الطبقة الوسطى...، فهي ترى انك جمدت عملها، بعد أن دفنت الطبقة السفلى، وانك تنوي الالتحاق بماضيك!
ـ ها...، وهل لدي ّ ماض ٍ ...؟
ـ أنا معك ...، مع انك لا تمتلك شيئا ً يذكر، فلا تدع القلب يخلعك، ويغادرك...!
    وجد انه تحول إلى كائن لا حافات له. فلم يعد يذكر متى فقد جلده.
      فشاهد بقرة نحيلة تتبعها أخرى ويمشي خلفهما ثور اسود، وشاهد مجموعة من الزرافات تحوّم في البعيد، مثل طيور، فدار بباله انه طالما رأى مثل هذه المشاهد، في اليقظة، أو عبر أحلامه، من غير منغصات أو الم.
ـ تعبت!
    فقال له لسانه:
ـ حذار أن تفقد عقلك؟
ـ آ ....، أصبح لساني يتحدث مع لساني باستقلالية تامة...!
ـ هذا هو ذنبك، سيدي.
   فقال الذئب بصون واهن:
ـ لم يعد لدي ذنب.
ـ أنا لم اقصد ذيلك...، بل ذنبك!
ـ لا ....، منذ أسرونا ووضعونا في هذه الأقفاص لم اعد امتلك ما افعله...، فهل أنا مسؤول عن الخطيئة التي لم ارتكبها...؟
ـ سيدي، أنها هي الوحيدة التي لا غفران لها! فلو كنت أذنبت، لهان الأمر، أما ما تخفيه، فهذه علامة مثيرة للظنون، والشبهات!  
    ليحس، في شروده، إن الجاذبة قد بلغت درجة الحياد: مثل الزمن وقد تخلى عن الحركة.
ـ ماذا قلت...؟
    رد دماغه الأعلى:
ـ أنا أدركت هذا قبل حصوله بقرون طويلة، وقلت: عندما تكتمل الحركة يتحرر الزمن من ذاته. وأنا هو من قال: إنها حتمية تغوينا بمظاهرها الخداعة!
ـ أي أنا أصبحت كأنني لم أولد...؟
ـ بل وكأنك لن تموت أبدا ً!
     حاول أن يتحسس نبضات الدماغ وومضاته وصلتها باللسان والقلب ...، فعجز عن التحكم بها بعد أن شاهد بصره يتجمع في مثلث أعلاه يلامس الأرض وقاعدته إلى الأعلى!
ـ بمعنى إن هذا كله يحدث بمعزل عن إرادتي....، انفي غادرني قبل أن اشعر بالظمأ، وذيلي راح يلهو بمعزل عن أسناني، دماغي الأسفل تخلى عن الأوسط، وانسلخ عن جلدي، لا اسمع، ولا قدرة لدي ّ على تحديد الاتجاهات، الزمن هرب من البرد، وأشعة الشمس تبتعد تاركة الفراغات تتقلص.
   لمح لسانه يقوم بحركة:
ـ لا ....، أرجوك....، إلا أنت....، أيها العضو المراوغ..!
     فقال لسانه له:
ـ  ليس لديك أفعال...، فماذا تفعل بأقوالك؟
     تجمد، وبدت المشاهد متداخلة، ليس لها نهايات محددة، تتقلص تارة، وتتسع تارة أخرى:
ـ لم اعد أنا هو الذي كنت عليه....، فأجزاء جسدي استقلت، انفصلت، وراحت ترقص لهذا التفكيك!
ـ لا...، أنا لم أتخل عنك بعد...
ـ من أنت...؟
ـ لو كنت اعرف من أنا لتخليت عنك!
    ولم يتبق من رأسه إلا الإحساس ذاته بأنه تحول إلى ذرات منفصلة ومتباعدة بعضها عن البعض الآخر:
ـ والآن اخبرني ماذا افعل....؟
     لم يجد من يرد عليه:
ـ ولكني لم ارتكب إثما ً، فلماذا أعاقب...؟
ـ وهل كنت تقدر على ارتكاب الإثم  ولم ترتكبه...؟
ـ كنت استطيع أن ...
ـ جرب.
    فهجم بما تبقى لديه من قوة على الفراغات التي اتسعت فجواتها وتحولت إلى أثير.
ـ اسمع...، أنا ذيلك عدت إليك!
ـ وماذا افعل بك...، أنا ابحث عن عقلي؟
ـ لا تحزن...، فلو كان لديك عقل لكنت حافظت عليه...، أما الآن فانظر ماذا حل بك...؟
ـ كأنك تطلب مني أن أولد مرة ثانية...؟
ـ اجل!
ـ لا ...، لن ارتكب هذه الحماقة مادمت استطيع الامتناع عنها.
ـ سترتكبها!  بل وستتضرع لارتكابها.
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد انك ستدافع عن كيانك...!
ـ غريب....، لا كيان لدي ّ وتطلب مني أن أدافع عنه...؟
ـ ها أنت تدافع عن ...
ـ وهل أدافع عن انف أمضى الوقت كله يستنشق رائحة الطرائد....، أم عن عين أمضت حياتها ترصد العدو، أم عن أنياب تتشهى لحم الفرائس، أم عن قلب أعمى.....، أم عن أصابع فرضت هيمنتها علي ّ حتى أصبحت عبدا ً من عبيدها...؟
ـ ها أنت تعترف انك تخليت عنها!
ـ هل أنا هو من تخلى عنها، أم هي التي تخلت عني...، فانا لم اعد إلا وهما ً مهمته اختراع الأوهام الأقل نفعا ً....! فأي دور علي ّ أن أؤديه....، وأنا اعرف تماما ً استحالة ذلك...؟
ـ اختر قناعا ً...
ـ أنا اخترت نفسي وفشلت! فماذا افعل بباقي الأقنعة...؟
ـ كي تبحث عن نفسك...
ـ أرجوك ....، أخبرتك بكل ما اعرف...، فهل تنوي أن تعاقبني بما لا اعرف...؟
ـ اجل!
ـ لن أدافع عن نفسي...، مادمت أنت هو من يحاكمني...؟
ـ آ ....، أنت تبحث عن العدالة إذا ً...؟
ـ لم أتفوه بهذا الطلب، ولم يخطر ببالي....، فالعدالة لديك!
ـ تقصد إنني أنا هو من قسمك، ونثرك، وحولك إلى أجزاء متباعدة، متصارعة، وأنا هو من فكك جسدك، ومرغك عقلك بالوحل...؟
ـ أنا لم اتهمك...، ولم اتهم سواك أيضا ً، فماذا تريد مني...، وأنا اغطس في قاع الوحل...؟
ـ أن تنتظر طريدة! فما أن تمسك بها، حتى تستعيد أجزاء جسدك عملها!
ـ ولكني أخبرتك بأنني ـ أنا ـ هو من أصبح طريدة!
ـ لا توهمنا أيها الماكر....، فالذي يرتكبون أبشع الآثام هم وحدهم الذين يرتدون أقنعة الملائكة.!
ـ ومتى استبدلت وجهي بوجه آخر...؟
ـ لم يبق لي معك كلام.
ـ أين ستذهب ...، وتتركني؟
ـ ستلتحق بي، وستتبع خطاي...، فها هو انفك يعود إليك، مثل جلدك، وها هي أصابعك ترجع لتؤدي عملها، ها هو قلبك الأعمى ينبض، ومخرجك عاد إلى موقعه، فافرح أيها الكاتم على أسرار بذرتك الأولى!
ـ ما أعظم هذه الغابة...!
ـ لا تتندر...!
ـ وهل لدي ّ قدرة على التندر...، أيها الكائن الغامض، بعد أن انتزعت مني كل ما تريد...، ولم تترك لي حتى ذريعة للوهم! حقا ً يا لها من حياة أما تمشي فوق وحلها، وأما أن يمشي وحلها عليها!
12/5/2015