الخميس، 14 مايو 2015

قصة قصيرة حصل في وقت ما- عادل كامل

 قصة قصيرة

حصل في وقت ما




عادل كامل
     عندما لمحها تبتعد عن جسده، تركها تتمادى وكأنها كانت قد حصلت على موافقته، أو إنها ليست بحاجة إلى مثل هذه الموافقة، فشاهدها تحفر بضرب من اللامبالاة في التراب خطوطا ً متعرجة وملتوية ومتداخلة النهايات...، حتى وجد فمه يتلعثم بكلمات لم يفهم من معناها ما يؤكد انه منحها تلك الحرية، أو انه لم يعترض عليها على نحو مباشر. وعندما ميز إنها كانت مازالت متصلة بجسده، شاهد الأخرى مترددة في مغادرة حدودها، إلا بعد لحظات، حيث رآها  تتحرك مثل حلزون يدب بعيدا ً عن الماء...، وتبتعد عنه أيضا ً.  لم يصدم، ولم يستفز إلا عندما مر جار له تذكره بصعوبة وهو يخبره بان الأمر لم يعد يجري بحسب الأعراف والعادات. فهز رأسه  بحركة تقليدية في بادئ الأمر، لكن الجار أكد له أن النتائج ستكون ذات نهايات من الصعب التكهن بفداحتها:
ـ أنا لا أظن ذلك...، فانا في الأصل ...
    وفكر الذئب العجوز مع نفسه، بأنه كان يتكلم في أمر لا علاقة له بما كان يتحدث عنه الآخر، لأن الآخر قال له:
ـ فهنا أنت تراني فقدت السيطرة ...
فسأل نفسه بصوت مسموع:
ـ ما الذي حدث....؟
وخاطبه:
ـ كأنك تتحدث عن أمر محدد...؟
رد الآخر:
ـ الم تر إنني اجري من غير ذنب!
ـ آ ....، صحيح...، ومن غير ساق!
   فقال الآخر بصوت متردد:
ـ بل حتى انفي تخلى عني ...، فانا الآن امشي خلفه!
فسأل الذئب نفسه: وأنا امشي خلف من ...؟
   أرسل نظرات قلقة متابعا ً أصابعه وقد ابتعدت كثيرا ً عنه:
ـ آ ....، انظر ...، إنها انفصلت عني.
   لم يجب الآخر. فراح يصغي إلى انفه:
ـ منذ سنوات وأنت تعاملني بإهمال وعدم اكتراث حتى انك أصبحت تستنشق الهواء وكأنك تخليت عني...
ـ ماذا تقول...؟
   قال انفه:
ـ آن لي أن أخبرك بما عزمت عليه...
قال يخاطب انفه بخوف:
ـ أنت تذكرني بقصة روسية قديمة ...
ـ اسمع، لا مجال للهذار....، فانا سأتبع خطوات نابك الذي تركته يفر من فمك...، بعد ان تخليت عن القواطع ...
ـ آ ...
   عندما بحث عن جاره وجده اختفى. فترك رأسه يستقر فوق صخرة وهو يرى ذنبه يبتعد عنه:
ـ  وأنت أيضا ً...؟
ـ سأقوم بنزهة صباحية ...، ثم انك لم تعد تستخدمني..
  اعتذر الذنب له:
ـ هذا صحيح...ن فلم تعد لديك فائدة.
ـ إذا ً لا تغضب علي ّ.
ـ ولماذا اغضب...؟
   لم يعد يرى الأشكال والصور والألوان إلا هالات متداخلة النهايات، تبتعد وتقترب منه، وعندما لمح ساقه اليسار تمشي خلف ساقه اليمين كاد يعترض، لكن أذنه التي لم يستخدمها، همست له:
ـ دعهما! لا تعترض...، وهل كانت لك إرادة على أصابعك ...؟
   حرك رأسه قليلا ً، وهو يراقب شيئا ً شبيها ً بالحبال يتلوى فوق الأرض...، يبتعد عنه، حتى صدم وهو يرى كرات تتدحرج من حوله. فقال له لسانه:
ـ تبدو الأوامر صدرت لها ...
ـ أين معدتي؟
   لم يجد وسيلة يتلمس بها جسده، باستثناء نظرات  سمحت له أن يراقب أعضاء جسده تخرج الواحدة بعد الأخرى. فمر قنفذ بجواره ثم تبعه آخر:
ـ إلى أين...؟
   أجاب القنفذ الثاني:
ـ امشي خلف شبحي!
ـ هو شبحك أم أنت شبحه...؟
ـ ما الاختلاف ...، المهم إن احدنا لا ينوي الانفصال عن الآخر! فأنت تعرف إن الحديقة إذا تقسمت ذهب مصيرها إلى الحضيض، مثل هذا الكون إن لم يكن وحدة متماسكة فانه لن يغدو أكثر من كوابيس لا رابط يربطها!
   قال لسانه يخاطب القنفذ الأول:
ـ كأنك تنوي الهرب...؟
ـ ما شأنك أنت...، انتبه لمعدتك، وأمعائك، ومخرجك!
    نظر الذئب فشاهد حلقة تتمايل مبتعدة عنه:
ـ وأنت...، يا مخرجي، ماذا تفعل...؟
أجاب:
ـ أنا أنفذ أوامر قلبك؟
   قال القلب:
ـ أنا غير مسؤول عن ذلك...، صحيح، كنت أغط في نوم عميق، ولكنني لم آذن له بالمغادرة..
    صرخ المخرج:
ـ سيدي، أنت تكذب! فأنت نظرت إلي ّ كعضو تالف!
ـ آ ....، ولكن هذا لا يسمح لك باتهامي بالكذب، ولا بهذا التصرف المشين، أم انك لم تعد تستحي، فرحت تفعل ما تشاء...؟
ـ ها، وتعترض علي ّ...؟
ـ كنت لا أود الاعتراض...، ولكن اخبرني من أين أتبرز...؟
ـ آ ....، هذه مشكلتك أنت، وليس مشكلتي..
    فدار بخلد الذئب انه لم يغادر حفرته منذ زمن بعيد، ولم يتناول طعاما ً، وما ذاق قطرة ماء، بل اكتفى ـ إبان مرضه ـ بتنفس الهواء، والقيام بجولات سياحية عبر ساعات النوم الطويلة. ذهب مرات قليلة إلى بركة الحديقة الخلفية، ثم زار أجنحة الثيران، والنعاج، ومر بمغارات بنات أوى، والجرذان، من غير مشاكل تذكر.
ـ اسمع...
انتبه إلى الصوت:
ـ لم تبق إلا أنت يا لساني...، أيها السليط...، غير المهذب!
ـ أنا آخر من يتخلى عنك...، فانا أحذرك وأقول لك إن عقلك الأسفل الذي ينوي الهرب....
    تساءل الذئب: وماذا افعل وأنا من غير أدوات للعمل....
    رد ما تبقى من دماغه الأعلى:
ـ حذار من الطبقة الوسطى...، فهي ترى انك جمدت عملها، بعد أن دفنت الطبقة السفلى، وانك تنوي الالتحاق بماضيك!
ـ ها...، وهل لدي ّ ماض ٍ ...؟
ـ أنا معك ...، مع انك لا تمتلك شيئا ً يذكر، فلا تدع القلب يخلعك، ويغادرك...!
    وجد انه تحول إلى كائن لا حافات له. فلم يعد يذكر متى فقد جلده.
      فشاهد بقرة نحيلة تتبعها أخرى ويمشي خلفهما ثور اسود، وشاهد مجموعة من الزرافات تحوّم في البعيد، مثل طيور، فدار بباله انه طالما رأى مثل هذه المشاهد، في اليقظة، أو عبر أحلامه، من غير منغصات أو الم.
ـ تعبت!
    فقال له لسانه:
ـ حذار أن تفقد عقلك؟
ـ آ ....، أصبح لساني يتحدث مع لساني باستقلالية تامة...!
ـ هذا هو ذنبك، سيدي.
   فقال الذئب بصون واهن:
ـ لم يعد لدي ذنب.
ـ أنا لم اقصد ذيلك...، بل ذنبك!
ـ لا ....، منذ أسرونا ووضعونا في هذه الأقفاص لم اعد امتلك ما افعله...، فهل أنا مسؤول عن الخطيئة التي لم ارتكبها...؟
ـ سيدي، أنها هي الوحيدة التي لا غفران لها! فلو كنت أذنبت، لهان الأمر، أما ما تخفيه، فهذه علامة مثيرة للظنون، والشبهات!  
    ليحس، في شروده، إن الجاذبة قد بلغت درجة الحياد: مثل الزمن وقد تخلى عن الحركة.
ـ ماذا قلت...؟
    رد دماغه الأعلى:
ـ أنا أدركت هذا قبل حصوله بقرون طويلة، وقلت: عندما تكتمل الحركة يتحرر الزمن من ذاته. وأنا هو من قال: إنها حتمية تغوينا بمظاهرها الخداعة!
ـ أي أنا أصبحت كأنني لم أولد...؟
ـ بل وكأنك لن تموت أبدا ً!
     حاول أن يتحسس نبضات الدماغ وومضاته وصلتها باللسان والقلب ...، فعجز عن التحكم بها بعد أن شاهد بصره يتجمع في مثلث أعلاه يلامس الأرض وقاعدته إلى الأعلى!
ـ بمعنى إن هذا كله يحدث بمعزل عن إرادتي....، انفي غادرني قبل أن اشعر بالظمأ، وذيلي راح يلهو بمعزل عن أسناني، دماغي الأسفل تخلى عن الأوسط، وانسلخ عن جلدي، لا اسمع، ولا قدرة لدي ّ على تحديد الاتجاهات، الزمن هرب من البرد، وأشعة الشمس تبتعد تاركة الفراغات تتقلص.
   لمح لسانه يقوم بحركة:
ـ لا ....، أرجوك....، إلا أنت....، أيها العضو المراوغ..!
     فقال لسانه له:
ـ  ليس لديك أفعال...، فماذا تفعل بأقوالك؟
     تجمد، وبدت المشاهد متداخلة، ليس لها نهايات محددة، تتقلص تارة، وتتسع تارة أخرى:
ـ لم اعد أنا هو الذي كنت عليه....، فأجزاء جسدي استقلت، انفصلت، وراحت ترقص لهذا التفكيك!
ـ لا...، أنا لم أتخل عنك بعد...
ـ من أنت...؟
ـ لو كنت اعرف من أنا لتخليت عنك!
    ولم يتبق من رأسه إلا الإحساس ذاته بأنه تحول إلى ذرات منفصلة ومتباعدة بعضها عن البعض الآخر:
ـ والآن اخبرني ماذا افعل....؟
     لم يجد من يرد عليه:
ـ ولكني لم ارتكب إثما ً، فلماذا أعاقب...؟
ـ وهل كنت تقدر على ارتكاب الإثم  ولم ترتكبه...؟
ـ كنت استطيع أن ...
ـ جرب.
    فهجم بما تبقى لديه من قوة على الفراغات التي اتسعت فجواتها وتحولت إلى أثير.
ـ اسمع...، أنا ذيلك عدت إليك!
ـ وماذا افعل بك...، أنا ابحث عن عقلي؟
ـ لا تحزن...، فلو كان لديك عقل لكنت حافظت عليه...، أما الآن فانظر ماذا حل بك...؟
ـ كأنك تطلب مني أن أولد مرة ثانية...؟
ـ اجل!
ـ لا ...، لن ارتكب هذه الحماقة مادمت استطيع الامتناع عنها.
ـ سترتكبها!  بل وستتضرع لارتكابها.
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد انك ستدافع عن كيانك...!
ـ غريب....، لا كيان لدي ّ وتطلب مني أن أدافع عنه...؟
ـ ها أنت تدافع عن ...
ـ وهل أدافع عن انف أمضى الوقت كله يستنشق رائحة الطرائد....، أم عن عين أمضت حياتها ترصد العدو، أم عن أنياب تتشهى لحم الفرائس، أم عن قلب أعمى.....، أم عن أصابع فرضت هيمنتها علي ّ حتى أصبحت عبدا ً من عبيدها...؟
ـ ها أنت تعترف انك تخليت عنها!
ـ هل أنا هو من تخلى عنها، أم هي التي تخلت عني...، فانا لم اعد إلا وهما ً مهمته اختراع الأوهام الأقل نفعا ً....! فأي دور علي ّ أن أؤديه....، وأنا اعرف تماما ً استحالة ذلك...؟
ـ اختر قناعا ً...
ـ أنا اخترت نفسي وفشلت! فماذا افعل بباقي الأقنعة...؟
ـ كي تبحث عن نفسك...
ـ أرجوك ....، أخبرتك بكل ما اعرف...، فهل تنوي أن تعاقبني بما لا اعرف...؟
ـ اجل!
ـ لن أدافع عن نفسي...، مادمت أنت هو من يحاكمني...؟
ـ آ ....، أنت تبحث عن العدالة إذا ً...؟
ـ لم أتفوه بهذا الطلب، ولم يخطر ببالي....، فالعدالة لديك!
ـ تقصد إنني أنا هو من قسمك، ونثرك، وحولك إلى أجزاء متباعدة، متصارعة، وأنا هو من فكك جسدك، ومرغك عقلك بالوحل...؟
ـ أنا لم اتهمك...، ولم اتهم سواك أيضا ً، فماذا تريد مني...، وأنا اغطس في قاع الوحل...؟
ـ أن تنتظر طريدة! فما أن تمسك بها، حتى تستعيد أجزاء جسدك عملها!
ـ ولكني أخبرتك بأنني ـ أنا ـ هو من أصبح طريدة!
ـ لا توهمنا أيها الماكر....، فالذي يرتكبون أبشع الآثام هم وحدهم الذين يرتدون أقنعة الملائكة.!
ـ ومتى استبدلت وجهي بوجه آخر...؟
ـ لم يبق لي معك كلام.
ـ أين ستذهب ...، وتتركني؟
ـ ستلتحق بي، وستتبع خطاي...، فها هو انفك يعود إليك، مثل جلدك، وها هي أصابعك ترجع لتؤدي عملها، ها هو قلبك الأعمى ينبض، ومخرجك عاد إلى موقعه، فافرح أيها الكاتم على أسرار بذرتك الأولى!
ـ ما أعظم هذه الغابة...!
ـ لا تتندر...!
ـ وهل لدي ّ قدرة على التندر...، أيها الكائن الغامض، بعد أن انتزعت مني كل ما تريد...، ولم تترك لي حتى ذريعة للوهم! حقا ً يا لها من حياة أما تمشي فوق وحلها، وأما أن يمشي وحلها عليها!
12/5/2015

عالم غريب يستحق الاكتشاف-بقلم أستريد رايمان




عالم غريب يستحق الاكتشاف




    تتيح سالمة صالح في معرضها المقام تحت عنوان "نوافذ" للمشاهد أن يلقي نظرة في عالم المدهش للرسم بالكومبيوتر. عرض بقلم أستريد رايمان

تمارس الكاتبة والمترجمة والرسامة هذا النمط من الرسم والكرافيك منذ عدة سنوات، يجتذبها إليه ما لا ينضب، التنوع، "الحقل الواسع"، وقد عرضت أعمالها أكثر من مرة بنجاح. وسيرة حياة الفنانة هي في مثل تنوع وإثارة أعمالها. فقد ولدت في الموصل /العراق، وهي تعيش وتعمل منذ1978 في ألمانيا. وقد درست القانون في بغداد والصحافة في لايبزك.

وإذا كانت نصوصها هادئة وشعرية تمس القلب وتسري تحت الجلد، فإن رسومها تتكلم بصوت عال، تنادي: أنظر، دع نفسك تسقط، تفاجأ. لا تفرض نفسها قسرا ولكنها تقول الكثير.

تقول الفنانة: "ليس ما أبغيه هو تقليد الطبيعة، فالطبيعة كاملة، وثمة عناصر جميلة تستحق الاكتشاف حتى في الزوايا الأكثر قبحا. إنني أقوم برحلة اكتشاف مع كل لوحة، أحاول أن أجعل غير المرئي مرئيا."

وراء النافذة لقد اكتشف الضيوف الذين حضروا افتتاح المعرض في 9 كانون الثاني/ديسمبر في بيت الجيرة الكائن في شارع آم بيرل ما هو غير مرئي أيضا، وقد بوغتوا وفتنوا بما رأوه. لقد ذكروني بالأطفال الذين ينظرون إلى العالم بانفتاح وبراءة، بحرية وفضول. ذكروني كيف كنت أرى وأنا طفلة الغيوم في السماء واكتشف فيها دائما صورا جديدة.

هكذا هو الحال مع رسوم سالمة صالح - يكتشف المشاهد جديدا مرة بعد أخرى، وكل شخص يكتشف شيئا مختلفا، هذا هو الأمر الرائع. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ




الأربعاء، 13 مايو 2015

مجلة الأدب العربي المعاصر : طواميرٌ تتزيّنُ ...../ وغرابٌ رشيدٌ

مجلة الأدب العربي المعاصر : طواميرٌ تتزيّنُ ...../ وغرابٌ رشيدٌ:   كريم عبد الله غريبٌ ميراثكَ تتناهبهُ قيود الطوامير ..../ وعطورُ جِنانكَ محنّطةٌ سياطٌ آثمةٌ تدنّسها .........../ فيمتدُّ ...

مجلة الأدب العربي المعاصر : لوحة العدد للاديب و التشكيلي العراقي د غالب المسع...

مجلة الأدب العربي المعاصر : لوحة العدد للاديب و التشكيلي العراقي د غالب المسع...: لوحة العدد السادس من مجلة الادب العربي المعاصر  للاديب و التشكيلي العراقي د غالب المسعودي

مجسمات -عادل كامل










جامعة دهوك الخاصة والحلم الأمريكي !-د.إحسان فتحي



جامعة دهوك الخاصة والحلم الأمريكي !


د.إحسان فتحي

     قبل أيام لفتت انتباهي بعض الصور التي أظهرت بناية الجامعة الأمريكية الخاصة في مدينة دهوك وهي تحت الإنشاء وعلى وشك الانتهاء. من الواضح إن المصمم المعماري المسؤول عن التصميم (لا اعلم من هو) قد لجأ إلى الطراز الكلاسيكي الإغريقي أو الروماني، أو بشكل أدق، إلى ما عرف في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية منذ بدايات القرن التاسع عشر، بحركة "الإحياء" أو"الريفايفل". وقد شيدت المئات من أهم الأبنية الرسمية بشكل يحاكي تماما المعابد الاغريقية او الرومانية او القوطية، ومن بينها، على سبيل المثال لا الحصر، المتحف البريطاني في لندن، وبناية الكونغرس، والمحكمة العليا في واشنغطن، وجامعات عديدة منها هارفرد ولندن وتارتو في استونيا، وكذلك محطات للقطار منها بنسلفانيا، وكنيسة ماديلين العملاقة والبورصة في باريس، وغيرها الكثير. لكن هذه الحركة انتهت منذ بداية القرن العشرين حيث إزاحتها بقوة الحركة الحديثة واستهجنتها بشدة باعتبارها تيارا سلفيا عقيما لايراعي ابدا التطورات التقنية وتبعات الثورة الصناعية التي غيرت بشكل راديكالي تقنيات البناء وطورت مواد معمارية جديدة تماما. كانت هذه الأبنية عظيمة في زمانها ومكانها لانها عكست تماما القيم الجمالية والتقنيات السائدة آنذاك، لكن استنساخها بعد موتها بمئات او حتى آلاف السنين يشكل عملا عبثيا ورجعيا بكل معنى الكلمة.
 ومن المحتمل أن يكون المعماري قد خضع لتوجيهات محددة من مالكي مشروع  جامعة دهوك الخاصة أجبرته على محاكاة هذا الطراز الغريب جدا عن الارث الثقافي والمعماري بهدف عكس "أمريكية" الجامعة و"عراقتها" الكلاسيكية حسب اعتقادهم! إني لا أتردد بالقول بان الطراز الكلاسيكي التي تم تبنيه في هذه الجامعة هو امر محزن تماما ويعبر عن جهل عميق ولافت للإرث الثقافي العراقي أو الرافدي الذي كان بالإمكان الاستلهام منه بدلا من الإرث الإغريقي الذي اندثر منذ 2000 سنة!  ان طراز هذه الجامعة المضحك يعبر عن شعورواضح بالنقص ويبين للجميع مدى الانحدارالمخزي الذي وصل اليه البعض من معماريينا، عربا وأكرادا، ووو، في تعاملهم المبتذل مع العمارة والبيئة الحضرية باعتبارها منجزا ثقافيا وحضاريا.
 أشير بهذه المناسبة الى 3 تصاميم لجامعات عربية شيدت منذ فترة ليست بعيدة. الاولى هي جامعة الشارقة ( العربية والامريكية) التي صممهما المعماري الفرنسي (جامبرت) عام 1996 مستلهما طرازا اسلاميا كلاسيكيا محدثا ولم يقلد الطرز الكلاسيكية الاوروبية. وانا، بهذه المناسبة، لست متحمسا جدا لما سميته بالطراز الشارقي المعتمد رسميا في هذه الإمارة، ولكنه أفضل بأشواط بعيدة جدا عن مثال دهوك.
 المثال الثاني، وهو برأي احد أهم التصاميم الجامعية المعاصرة في منطقتنا، هو حرم الجامعة الأمريكية في القاهرة الذي صمم عام 2001 من قبل مكتب الياباني ساساكي وبالتعاون مع المعماري المصري عبد الحليم إبراهيم. وقد أبدع المصممون في تصميم حرم جامعي حديث يشكل تجربة متميزة حقا في توظيف الموروث الإسلامي في فن العمارة. أما المثال الثالث فهو بعض أبنية جامعة الأميرة نورا بنت عبد الرحمن للبنات والتي صممها المكتب الاستشاري العملاق (بيركنز+ ول) الذي تأسس في 1935 ويعمل فيه أكثر من 1500 موظف ومهندس! إن تصاميم العديد من أبنيتها الأكاديمية التي يرجع تاريخها إلى 2008 تمثل أيضا تجارب متميزة ومبدعة في توظيف فكرة المشربيات الضوئية العربية والأفنية الداخلية والحدائق الخلابة والبرك المائية والزخارف الإسلامية المؤثرة بصريا، والتي اعتقد بأنه يجب أن تكون أمثلة تدرس يحتذى بها حقا من قبل طلابنا ومعماريينا على السواء، بدلا من الأمثلة المزرية التي نراها الآن في كل مكان من زاخو إلى الفاو كما يقال.
نحن بحاجة إلى ثورة كاملة لإعادة تثقيف أنفسنا بعظمة موروث الحضارة الإسلامية وفنها المذهل الذي تبلور عبر أكثر من ألف سنة من التجارب والمنجزات الجبارة. نحن بحاجة إلى رد الاعتبار لذاتنا والشوق المتواصل لفهم ومعرفة موروثنا.



وداعا وسماء الاغا-1954-2015


مجلة الأدب العربي المعاصر : النقد السياقي وأزمة الثقافة

مجلة الأدب العربي المعاصر : النقد السياقي وأزمة الثقافة: د غالب المسعودي ليس النقد السياقي، في أساسه، سوى تسمية أخرى لما يعرف بـالنقد الجديد في الولايات المتحدة خاصة، أي النقد الشكلاني ...

الأحد، 10 مايو 2015

ابعد من القًسم.. !-عادل كامل



ابعد من القًسم.. !


عادل كامل
هناك حوار قصير جرى ـ أمامي ـ بين قاض ٍ ومشتكى عليه. وقد طلب القاضي من المتهم أن ينفي الاتهام بالقسم! لكن الأخير رفض! وقال للقاضي: إن لم تصدق .. فان القسم ـ بحد ذات ـ إدانة!!
لا اعرف لماذا ذكرني هذا المشهد بأحاديث كثيرة وصاخبة تجري بين الناس، أساسها، بالدرجة الأولى: الشك ـ لكن ليس بالمعنى الذي ذهب إليه الغزالي أو الفيلسوف الفرنسي ديكارت ـ  وإنما بمعنى عدم الثقة!
ففي الأدب أو الفن ـ على سبيل المثال ـ تثار أسئلة حول أهمية المنجزات [ المعرفية ] ـ خاصة أن التقييم والنقد يأتي متأخرا ً إن لم يغب نهائيا ً! ـ ومدى صدقها بما يتضمنه الإبداع من إشكاليات مزدوجة بين المبدع وبين من يتولى منحه الشرعية من جهة.. والعمل بما يتضمنه معالجات غير مناسبة او مغامرة أو مخالفة، من جهة أخرى.
هنا تتشكل صعوبات القناعات وما هو ابعد من الرضا والاستحواذ والهيمنة. فالإبداع  عمل ـ كما في أكثر الآثار حيوية  ورمزية كالدمى الطينية وتماثيل عشتار وجذور الكتابة العراقية ـ لا يتوقف عند قواعد ثابتة أو نهايات لا تقبل الدحض.. وإلا لغدا الوجود بصفته مجموعة آلات ـ لا  غاية له سوى إنتاج زواله: عبر الاستهلاك! مع أن الواقع غير [ الشعري ـ الروحي ـ الجمالي ] ينسحب على المشهد عامة، وهو الذي شكل سمة ما من سمات الحضارات المتعاقبة.
لكن العمل على دحض [الأشياء] أو الروحي المقيد داخلها، لم يحصل بمحض المغامرة أو المصادفة.. فثمة ما بعد المعرفة ذاتها: ما بعد إنتاج الموت!! الذي أعطى دينامية سمحت باختراع المجهول  بالدرجة الأولى! ـ: هذا الإبداع الاستثنائي، يماثل، لغز تكّون بذور  الخلق البكر: إن مادة البذرة، متوفرة، بيد أنها ليست محض معادلات قابلة للإدراك. لكن هل هذا هو [ ما وراء الطبيعة ـ الميتافيزيقا ] أو هو علم الروح..؟ أو ـ: الذهاب وراء عصور الاغتراب والتصادم..؟ لا   تتحد الإجابات بقرارات المنتج ـ التكنوقراطي المعاصر أو القديم ـ ولا بالربح ومكونات لغز الملكية [ السلعة ] بل على العكس: انه قدرة التحرر منها، ومن نظام راسخ وعنيد يجعل إنتاج [الاستهلاك] عقبة قابلة للدحض.  هذا العمل ليس بحاجة إلى شهادة ! أو نفي.. وليس حاجة إلى قاض ٍ [ ناقد ـ أو مؤرخ ] أو شهود: انه ظاهرة تمتلك ديمومتها عبر أكثر المناطق قسوة، وعزلة: لأنها لا تحدث إلا في مساحة بلا حافات! بالرغم من كل قيود شروط حضورها في عالم غير قابل إلا للذهاب بعيدا ً في المجهول!!