السبت، 9 مايو 2015

قصة قصيرة المصيدة -عادل كامل

قصة قصيرة

المصيدة



عادل كامل
     شاهد ـ عبر شاشة الحديقة ـ أسدا ً يفترس ثورا ً بريا ً، ففكر أن يعترض، لدي مدير الجناح، بضرورة منع عرض الأفلام المحرضة على الكراهية، والعنف، لكنه استدرك، أن مسؤول الجناح سيخبر الإدارة، بخلاف ذلك، وبضرورة عرضها مادامت تعمل على إدانة العهد البائد. ومادامت هذه الأفلام تأجج الغضب، والتوتر، وتعمل على إشاعة الفوضى، والتمرد.
   ولا يتذكر الثور كيف انتهى الفلم، فقد عرضوا فلما ً يوضح دفاعات القرود ضد الغزاة، فقال لنفسه، ما شأني. بانتظار مشاهدة فلم يروي حكاية حمامة أضربت عن الطعام، بعد أن فقدت شريكها.
    نهض، ومازالت مشاهد الافتراس تستفزه درجة انه وجد نفسه وسط قطيع النعاج، بدل أن يذهب إلى زريبة الأبقار، أو حتى إلى حظيرة الخيول والحمير، قال الكبش الذي استقبله بحفاوة:
ـ زيارة سعيدة..، أيها الأب ..
   انتبه لنفسه: ما الذي افعله هنا ...؟ وبدأ بالتراجع. صاح الكبش:
ـ إلى أين...، فلم نصدق حضورك...، كي تغادر...؟
ـ سأعود.
     ليعود ويجلس فوق العشب، يتأمل مشاهد جديدة. كانت المعركة تجري بالسلاح الأبيض، داخل الخنادق، والسماء تمطر، محدقا ً في بساطيل الجنود، تغطس في الوحل، ثم تتداخل الأجساد، بعضها بالبعض الآخر، فقال: ما شأني!
   لم تكن المشاهد ملونة، دار بخلده، فهي قديمة. لأنه لمح البساطيل بلون غامق، والغيوم، هي الأخرى لا تختلف إلا بالدرجة عن باقي الأشكال، والصور..
     أرسل نظره إلى الأجنحة، عامة، وتخيل أقسام الحديقة، وزرائبها، بركها، وباقي أقسامها، ولم يسترع انتباهه الحدود العازلة بين الأنواع، والفصائل، بل ولم يأبه لوجود القضبان، والمشبكات، والحواجز....، إنما شعر انه لا يقوى على الحركة، وان خدرا ً ما بدأ يتسلل إلى جسده، فيمنعه من التراجع، أو التقدم.
      رفع رأسه قليلا ً ولمح الأسد، في الشاشة، يقوم بحركات استعراضية، ويخاطب الثور. أصغى. كان الصوت خفيضا ً، مما اضطره للاقتراب، فسمع الأسد يقول للثور:
ـ دعنا نتصالح!
فقال الثور:
ـ ومن يشهد على هذه المصالحة...، بعد أن أصبحت وحيدا ً بين مخالبك وأنيابك...، ولا احد معي من أفراد القطيع...؟
ـ أنا اشهد! ألا تثق بوعدي...؟
     لم يجب. فقال الأسد:
ـ لن افترسك...، وسأدعك ترحل...، هل اتفقنا...؟
ـ غريب...، أنا لا اصدق!
    همس الأسد في اذن الثور: أصغ إلي ّ جيدا ً....، لقد رأيت كابوسا ً مروعا ً قبل ان ...، امسك بك...!
ـ هل كان ملونا ً؟
ـ بل ولم أر فيه إلا عاصفة هوجاء، خالية من الأصوات، اقتلعت الغابة، ودمرتها، ومحتنا من الوجود...، ثم رأيتكم تزحفون علينا من الجهات كلها....، والبعض منكم كان يهبط من السماء بأجنحة بيضاء مع المطر ...؟
ـ نحن لا نفعل ذلك، سيدي.
ـ في الكابوس...
   وسأل الأسد الثور:
ـ ولأنك كنت ضحيت بحياتك من اجل سلامة أبناء عشيرتك...، ولم تهرب...، فمن يضمن إن القطيع لن يشن هجوما ً مدمرا ً ضدنا ....، ثأرا ً لك ...، وحماية لأبنائكم وأحفادكم من الأذى والانقراض....؟
ـ آ ...، فهمت.
ـ جيد.
     دوى انفجار هز ارض الحديقة بأسرها. فانقطع التيار الكهربائي، فقال الثور لنفسه، حقا ً إنها قصة غريبة...، مصالحة تجري في العراء...، بين أسد طليق، وثور أسير...، للأسف...
   لكزه الكبش من الخلف، ففز الثور مذعورا ً:
ـ لم ترجع إلى زريبتك؟
 أجاب الثور:
ـ انتظر إصلاح التيار الكهربائي ... لأرى نهاية المصالحة!
ـ أية مصالحة؟
ـ آ ....، أرجوك، عد إلى نعاجك وتمتع بليلة خالية من الضوضاء...،  فانا أفكر بإجراء مصالحة ...
ـ مع من....؟
ـ مع هذا الأسد القابع خلف القضبان...؟
ـ آ .....، حسبت انك ستتصالح مع نفسك أولا ً...؟
ـ يبدو انك تتمتع بروح الدعابة، أم أصبحت شفافا ً...؟
    لم يدعه يكمل:
ـ  لقد سمعت احد الخطباء يهاجم الأشرار من البشر هجوما ً لاذعا ً حتى وصفهم بالنعاج!
ـ جيد...، ولم يصفهم بالثيران؟
ـ لا...، يا سيدي، فانا نفسي طالما حلمت ان أمي ولدتني مثلك...، كي ادخل أسفار التاريخ، وحكايات الجان، وأفلام رعاة البقر...!
ـ أقترب..
ـ ها أنا اقترب...
كم أنت مرح، فضلا ً عن اتزان عقلك!
ـ سيدي، ومن قال ان لدي ّ عقل...؟
ـ قبل قليل كنت تحتج على مقارنة الأشرار من الناس بالنعاج..
ـ آ .....، دعك من التذكر....، دعنا نتسلى!
فقال له الثور:
ـ أنا هربت من الزريبة لأنهم سيرسلونني غدا ً إلى الأبدية!
ـ يا للعيد! مبروك!
ـ يا نعجة؟
ـ سيدي، أنا ذكر....، أنا كبش...، أم لم تعد تميز بينهما، أم أصبت بعمى الإدراك؟
ـ يا أنثى....!
ـ اقسم لك أنا أصبحت جدا ً ولي حشد من الأبناء، والأحفاد...، بل وأحفادي أصبحوا أجدادا ً،  وجميع من تراهم هم من نطفتي، وينحدرون مني...!
ـ يا لسعادة قطيع النعاج!
ـ حتى أنت ...؟
ـ اسمع...، قلت لك: سأذبح! أي، غدا ً، سيكون يوما ً فاصلا ً بين وجودي وعدمه!
ـ سيدي...
ـ أصبحت  تفكر وكأنك تخيلت نفسك ثورا ً سماويا ً...؟
ـ اقترب...، اقترب.
    وهمس بصوت يخلو من الكلمات:
ـ بالفعل أنا هو هذا الذي قرأت عنه في الأساطير....
ـ آووووووه...، الآن، فهمت، فهناك معضلة إذا ً...؟
ـ لا...، لا توجد معضلة، توجد نذالة؟
ـ آسف ...، تعرف إنني عشت سنوات طويلة مع النعاج حتى لم اعد....
ـ واضح.....، لا تعتذر!
     عاد التيار الكهربائي، وعادت الشاشة تبث برامجها:
ـ دعنا نكمل نهاية الحكاية..
ضحك الكبش:
ـ هذه صور من المعركة...!
ـ آ ...، نعم، انظر...، الأقدام تزحف، تدك الأرض، الانفجاريات...، الطائرات تقصف....، الدخان ينتشر، الغيوم تتقدم...، انظر...، البساطيل تغطس في الوحل...!
همس الكبش بخوف:
ـ أغبياء!
ـ كيف عرفت...؟
ـ القصاب قال لي ذلك!
  بشرود سأله:
ـ ماذا قال لك...؟
ـ قال إن الحرب لم تبق من النعاج إلا هذا العدد الضئيل....، فلولا هذه الحرب لكنا حافظنا على قطيعنا من الإبادة...، ومن الاجتثاث...!
ـ وأنت صدقت القصاب...؟
ـ لا! لم أصدقه، لكنه قال إنهم خسروا الكثير من البشر لأسباب غبية...، فبدل أن يتصالحوا ويعمروا ويعملوا معا ً حولوا حياتهم إلى ساحة حرب طاحنة وراح احدهم يفتك بالآخر من اجل إن .....، يهزم الجميع!
     ضحك الثور وهو يشاهد عبر الشاشة: عاصفة حمراء تغطي ارض المعركة. قال الكبش هامسا ً من غير كلمات:
ـ لأن القصاب اخبرني بأنه استبدل رأسه برأس نعجة!
ـ آ...وووو...ه، ولم يستبدله برأس ثور...؟
ـ لا...، لأنه لم يبق من الثيران أحدا ً لم يرسل لإحراز النصر، إلا سيادتك!
ـ أخرس! الم اطلب منك أن ترجع إلى نعاجك ولا تقلقني...، فهذا هو آخر ليل لي أرى فيه الدنيا!
ـ لا تحزن...، سيدي، تنتظرك أزمنة سعيدة، حيث الظلمات ستكون شفافة!
ـ كيف عرفت؟
ـ إدارة الحديقة أعلنت ان كل من ولد، هنا، لن يذهب إلى الجحيم!
     لوي الثور عنقه، مبتعدا ً عن الكبش ونعاجه، مع انه مازال يستعيد صور الحرب، ويصغي إلى أصوات البساطيل تغطس في الوحل!
    ووقف يتأمل القفص الكبير، حتى خاله بلا نهاية. فقال للأسد:
ـ أنا كرموني بالطابق الأرضي! وباقي الطوابق وزعت بحسب الوزن!
    تخيلها عمارة شاهقة، فعّدل الأسد عبارته وقال:
ـ إنها ناطحة سحاب تليق بالمواليد الجدد...، والآن، أراك مكفهر كأنك خسرت الحرب ...، مع إنها انتهت منذ زمن بعيد!
ـ لا أنا لم اخسرها...، ولكني لم اكسبها.
ـ آ ...، تذكرت حكايتنا في البرية، والمصالحة ...، فقد كان عملا ً استثنائيا ً....، مع ان عشيرتك هاجمتنا وأنزلت فينا الهزيمة!
ـ عشيرتي...؟
ـ لقد تعاونت مع الصيادين الأشرار...،  وتم اجتثاثنا من الغابات، ومن البراري...
ـ ولان ما الذي تريده مني...؟
ـ كلما أريده هو العودة إلى شروط المصالحة...
ـ أنا لم اخل بها...، مع انه لم يبق لي من الحياة إلا ساعات هذا الليل...!
ـ هل سيرسلونك إلى جبهات الموت...؟
ـ تستطيع القول: لا تريث في الأمر....، فالجيوش ـ هي الأخرى ـ تزحف على بطونها!
ـ هناك النعاج، الماعز، الزرافات، الأرانب، والخنازير ...؟
ـ لا ...، جنودنا يفضلون لحم الثيران!
    حزن الأسد، وتمتم مع نفسه بصوت مسموع:
ـ كنت آمل ان تقدم لي يد المساعدة وتعمل على إرسالي إلى السيرك ....
قال الثور من غير تفكير:
ـ لن ترسل إلى الحرب، بل ستهرم هنا، داخل قفصك، وتتعفن! ولن تبول عليك الثعالب!
ـ اسكت!
ـ ماذا قلت كي اسكت...؟
ـ ذكرت سيدنا المدير...!
ـ لا تكترث ....، الإشاعات كثيرة وقد اختلطت الأوراق ولم يعد من يكترث لها...
     فقال الأسد بصوت ناعم:
ـ لدي ّ فكرة ...؛ سأنقذك فيها....، أو .... ادعهم يتريثون في إرسال لحمك إلى جبهات القتال!
     شرد ذهن الثور وراح يصغي:
ـ ان تتبرع بجلدك للأبطال البواسل....، فمادمنا جميعا ً أوفياء لحديقتنا...، فانك تستطيع ان تقدم درسا ً في القيم، والمعايير الوطنية.
ـ أتبرع بجلدي...؟
ـ ليس الآن....، بل بعد تبلغ حجما ً كبيرا ً...، حيث جلدك يصلح لصناعة اكبر عدد من البساطيل، ذات المواصفات الخاصة!  فأنت تعرف كم تشتهر حديقتنا بجلود ثيرانها الأصيلة؟
ـ فكرة جيدة! وماذا عن لحمي....، فهم اليوم يعيشون أزمة اقتصادية خانقة وندرة في العملات بعد انخفاض أسعار البترول...؟
ـ المسألة بسيطة فأنت ستتحدث عن أهمية الجلود وليس عن اللحم المتوفر...، لدى الخراف والنعاج والحمير...
ـ آ .....، يا لها من فكرة عبقرية...، لكن ماذا افعل للقصاب الذي سيأتي مع يزوغ الفجر...؟
ـ اسمع...، ما عليك إلا ان تستخدم قوتك في تحطيم باب هذا القفص اللعين...، فاخرج وأتربص به حتى إذا ما جاء فجرا ً حتى امسك به...، واعقد معه مصالحة!
ـ ضدي...؟
ـ لا ...، بل من أجلك...؟
ـ من يضمن....، فانا، يا سيدي، سأموت، ولم أر مخلوقا ً  عمل عملا ً يستحق الذكر! عدا الوشاية، والغدر، والنهب، والتزوير، والتشهير ...
ـ دعك من الظن...، فالمستقبل ليس وهما ً..
ـ كما ترغب..، سيدي.
   وجاء الكبش مسرعا ً وهو في حالة ذعر:
ـ ماذا حدث...؟
ـ القصاب ...، القصاب سيدي، القصاب يبحث عنك؟
      فقال الثور للأسد:
ـ هيا، جاء دورك...، كما وعدتني.
صاح الأسد في الثور:
ـ دعنا نهرب...
   صاح الكبش بالثور:
ـ تريث...، انه لم يأت لذبحك....، بل جاء لتساعده على الهرب!
ـ أساعده ...، وماذا افعل من اجله...؟
   قال الكبش:
ـ يمكنك ان تخفيه في رحم واحدة من البقرات السمان!
ـ وماذا لو بحثوا عنه ولم يجدوه...؟
ـ ما شأننا...، الحديقة كبيرة، وقد يكون لاذ بالفرار هربا ً من الخدمة العسكرية....؟
   قال الأسد:
ـ الفكرة جيدة..
    صاح الكبش وهو يحدق في شاشة التلفاز:
ـ يا للرعب....، انظروا ....، السماء اكفهرت ...، ولا أمل لنا بالنجاة...؟
    لاذ الجميع محتمين بقفص الأسد بعد ان عدلوا القضبان. كانت السماء تمطر حمما ً وتتساقط الحجارة حمراء متوهجة فوق الأجنحة، والبحيرات، والزرائب، والكهوف...
   وقف القصاب بباب القفص وصاح:
ـ أين انتم.....، أيها الأبطال الميامين.....؟
   مد الثور رأسه هامسا ً:
ـ لا تتهور ...، فأنت أول المتخاذلين...
ـ من ...؟
ـ أنا الثور السماوي الذي حطم رؤوس أجدادك!
ـ آ ...، أيها الثور اللعين...، آن لي ان استدعي الأرانب...؟
ـ ولماذا الأرانب...؟
ـ كي تشعر بالخجل...، وتحس بالحياء!
ـ ولكنك ستوزع لحمي....، وجلدي ستصنع منه أحذية ...، وإنا مازالت في مقتبل العمر...
ـ سأخصيك!
ـ لقد تم أخصائي ...، مع السيد الأسد...، ومع هذا الكبش الذي اختبأ في جحر الجرذان!
     انهالت الحجارة، والشظايا، وامتلأت السماء بالنار، وارتفعت أعمدة الدخان.
صاح الكبش:
ـ الحديقة تحترق!
   صرخ القصاب:
ـ أنا لا اصدق هذا .....، فالحمم مازالت تتدفق من الشاشة!
ـ بل وتأتي من وراء الأسوار ...، فلم تعد هناك شاشة، ولا حديقة!
     همس الثور في أذن الأسد:
ـ دعنا نجري مصالحة...، هيا ادعوا القصاب إلى عقد جلسة طارئة...
ـ أين هو القصاب ...، أنا لا أراه ....، لقد التهمته نيران المحرقة!
ـ آ .....، انظر....، لقد ظهرت الأشباح!
ـ دعنا نحتمي بالحفر، وبالمغارات...
ـ لا فائدة...، فالأرض تحترق، والحجارة تذوب، والتراب تحول إلى لهب...
ـ آ ...، دعونا نستنجد....، ونطلب الغفران.
    وظهر شبح القصاب يلوّح بالسكين، فسأل الثور الأسد:
ـ ماذا سنفعل...؟
   صرخ الأسد في وجه القصاب:
ـ هل تبحث عنا...؟
ـ من انتم...؟
ـ لو كنت تعرف من نحن ...، لعرفت من تكون...؟
ـ اختلطت ...، اقسم لكم اختلطت علينا الحقائق بالأوهام، فانا لم اعد أميز بين البلبل والكركدن، ولا بين الأفعى وبين السمكة....!
   حدق الثور في عيني الأسد:
ـ ماذا تفعل...؟
ـ اجري مصالحة!
ـ لم تبق من لحمي شيئا ً للجنود البواسل....!
فقال الأسد للقصاب:
ـ لم اترك لك حتى الجلد!
   احكم القصاب إغلاق باب القفص، وراح يقهقه:
ـ وقعتم في المصيدة، أيها الأغبياء!
وخاطب الأسد:
ـ أما أنت ...، فلن تخرج من عرينك هذا إلى الأبد!
5/5/2015


تبادل ألماني - عربي لصحفيي الصفحات الثقافية:-الثقافة ودورها في دعم الديموقراطية



تبادل ألماني - عربي لصحفيي الصفحات الثقافية:
الثقافة ودورها في دعم الديموقراطية




الصفحات الثقافية في الصحف العربية بحاجة ضرورية إلى تجديد.




بقلم مارتينا صبرا
ترجمة يوسف حجازي




 تبادل الخبرات بين صحفيي صفحات ثقافية ألمان وعرب هو هدف المشروع الذي تنظمه مؤسسة هاينريش بول حاليا. أربعة صحفيين من مصر ولبنان والمغرب وفلسطين زاروا ألمانيا في شهر آب/أغسطس الماضي. وسيسافر في المقابل أربعة صحفيين ألمان إلى بيروت ورام الله والإسكندرية ومراكش. تقرير مارتينا صبرا.

أنجز الصحفيون الأربعة الشباب، القادمون من مصر ولبنان والمغرب وفلسطين، برنامج عمل مكثف، دام خمسة وعشرين يوما. إلتقوا زملاء لهم، تعرفوا على وسائط الإعلام الناطقة بالعربية في المانيا، زاروا مشاريع ثقافية، شاركوا في مؤتمر، وسمعوا الكثير عن التاريخ الألماني.

الشاعر المغربي الشاب، مراسل الصفحة الثقافية لصحيفة عربية كبيرة، وعضو هيئة تحرير الجريدة الثقافية المستقلة "زوايا"، ياسين عدنان يقول: "كانت زيارة معسكر الإعتقال في زاكسنهاوزن مهمة جداً بالنسبة لي. إعتدنا في المغرب على أن نرى رابطاً ما بين الإبادة النازية والصراع في الشرق الأوسط ومعاناة الفلسطينيين. هنا اتضح لي أن هذا ليس سوى أحد الأبعاد وحسب".

ويضيف ياسين عدنان، بأنه تمنى لو كان هناك مزيد من الوقت كي يتعمق في مثل هذه المواضيع. "لم يكن لدينا الوقت الكافي لنقوم بأبحاثنا الخاصة. وكانت لدي الرغبة لمعرفة المزيد عن عمل زميلتي في جريدة "برلينرتسايتونغ"، التي ستزوروني في الخريف المقبل في المغرب".

ووافقه زميله الفلسطيني نجوان رشيد الرأي: يحتاج صحفيو الصفحات الثقافية الفلسطينيين للدعم بشكل ملِّح: "نواجه مشاكل كبيرة في التواصل بسبب منع التجوال، وحواجز التفتيش وبسبب الجدار. الفنانون والجمهور ومحررو الصفحات الثقافية لا يستطيعون الوصول واللقاء في كثير من الأحيان. ويتم إفتتاح معارض لا يزورها أحد. لكن ثمة نقص في الوعي أيضاً، في هيئات التحرير قبل أي مكان آخر. ولا يمكن التحدث، عندنا في فلسطين، عن تقارير إخبارية ثقافية". الكلمة كبيرة، يقولها ممتعضاً.

دور الثقافة في عملية الدمقرطة

عليا ريان، الأخصائية في تاريخ الفن والعلوم السياسية، التي نظمت –اللقاء التبادلي العربي الألماني بين صحفيي الصفحات الثقافية– في مؤسسة هاينريش بوِل، على قناعة تامة بأن عرض التقارير الثقافية النقدية يساعد على نشر ثقافة سياسية ديمقراطية.

الفنانون في العالم العربي، هم حالياً الأكثر قدرة على تسمية المعضلات المجتمعية بمسمياتها، حسب رأي ريان: "المجموعات المحلية، التي تُعنى بشؤون المجتمع وتناقش المعضلات، على عكس الدولة، تثير إهتمامنا. هذه الوظيفة التي يقوم بها الإعلام في ألمانيا وأوروبا، يقوم بها الفنانون إلى حد ما في العالم العربي. يلعب صحفيو الصفحات الثقافية دورا هاما، إذ أن لديهم الإمكانية لنشر الأفكار النقدية على نطاق واسع".

هل يشكل الصحفيُّون المختصون في شؤون الثقافة محركا لرأي عام نقدي؟ هذا ما لم يوافق عليه المشاركون بلا شروط، في المؤتمر الذي عقد في إطار التبادل الصحفي في برلين، تحت عنوان "الإعلام، الفن والمجتمع المدني".

فقد احتج الصحفي راينر ماير على إزدياد التقارير الثقافية الإخبارية التجارية في المانيا، في حقل السينما والفنون التشكيلية وبالأخص الأدب: تزداد مراجعات الكتب في الصحافة، ليس بسبب جودة الكتب، بل لأن دُور النشر تضع الإعلانات في الصحف في ذات الفترة الزمنية، وكثير من الصحفيين لا يقرأون الكتب التي ينصحون بها، بل ينسخون الإعلانات الصحفية التي توزعها دور النشر، بدواعي ضيق الوقت أو الكسل.

ويؤكد أكثم سليمان، مراسل محطة الجزيرة في ألمانيا، أن الشروط في العالم العربي أكثر تعقيداً: ثلث العرب لا يجيدون القراءة والكتابة، عدد نسخ الصحف المطبوعة ضئيل، و بسبب إرتفاع الأسعار لا يستطع حتى المتعلمون شراء الصحف، ناهيك عن الكتب.

الفضائيات العربية والثقافة

وينتقد ياسين عدنان الفضائيات العربية، لإعتقادها بأنه يمكنها بشكل أو بآخر أن تستغني عن البرامج والتقارير الثقافية. "بدلاً من ذلك، تغرقنا وسائط الإعلام البصرية السمعية بالسياسة"، كما يقول الصحفي المغربي محتجاً، ويضيف "بيد أننا لسنا كائنات سياسية وحسب، بل بشر لنا إهتماماتنا ذات المناحي والثقافات المتعددة ".

وتحتد الأزمة من خلال مفهوم غامض للثقافة، يميل للمحافظة، وخصوصاً في الإعلام العربي المطبوع، بحسب ياسين عدنان. بينما تتناول الصحافة المغربية الناطقة بالفرنسية الإتجاهات الجديدة وثقافة الشباب المغاربية، مثل الهيب هوب وبريك دانس، ترفض الصحافة الناطقة بالعربية هذا التطور المُستلْهَم من العولمة، بإعتباره إستيراد ثقافي غربي، بالرغم من أن مغني الهيب هوب المغاربة، يؤدون أغانيهم بالعربية.

اليوم كما في السابق، يهيمن الشعر والموسيقى التقليدية والمقالات المطوَّلة التي تتناول الأسئلة النظرية على الحيز الأكبر من الصفحات الثقافية العربية، بحسب ياسين عدنان.

نلاحظ، على الرغم من كل ما سبق، بدايات جدية مهنية حديثة لتقديم الأخبار الثقافية. نشرات مستقلة على نحو مجلة "زوايا" التي تصدر في بيروت تنشر مقالات عن مستجدات الثقافة العربية والغربية.

ويزداد باضطراد عدد الفنانين الذين يستخدمون الشبكة والهواتف الجوالة كي يحققوا إشهاراً ذاتياً وليرفعوا من وتيرة الضغط على وسائل الإعلام السائدة. أقصر الطرق للوصول إلى الجمهور العريض، يمر أيضاً في العالم العربي عبر وسيط الإعلام السائد –التلفزيون: "لذا يجب أن يتجاوز إهتمامنا وسائط الإعلام غير الرسمية والشبكة"، كما يقول المغربي ياسين عدنان. "وسائط الإعلام العربية الرسمية تحتاج أيضاً للتجديد".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


الفنان فريد أرملي: "متى غدوت فناناً ألمانيا"؟-أجرى المقابلة أمين فرزانافر ترجمة يوسف حجازي


الفنان فريد أرملي:
"متى غدوت فناناً ألمانيا"؟




أجرى المقابلة أمين فرزانافر
ترجمة يوسف حجازي



تعامل فني مجرد مع القضية الفلسطينية.


فريد أرملي الأمريكي المتحدر من أصول فلسطينية-لبنانية، والمقيم حاليا في مدينة شتوتغارت، يتحدث في الحوار التالي عن عمله الفني "من/إلى" الذي قدمه سوية مع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي في دورة دوكومنتا 11 وعن قضايا الهوية والمنفى.

في نواة عملك "من/إلى" في دوكومنتا 11 كان هناك شبكة متسامتة [شبكة الإحداثيات الجغرافية] مأخوذة عن حجر رقمي ...

فريد أرملي: نعم، التقطنا صورة رقمية لحجر، ثم أخذنا جزءًا من الشبكة الإفتراضية التي نتجت عنها، وكبّرناه ومددناه خريطة على أرضية الصالة. ومددنا خطوط هذه الشبكة طرقاً يمكن التجوال عليها إلى الطابق الأعلى ...

لماذا إخترت نموذج الحجر – ولم تختر مثلاً كرة مطاطية مرنة؟

أرملي: اخترت الحجر، لأن المرء يحصل من خلال صورته الرقمية على شيء غير متوقع. ولأنه رمز الإنتفاضة كذلك. في البداية لفت الحجر إهتمام الإعلام العالمي نحو الإنتفاضة – والحجر وحده استطاع ذلك، لا الأسلحة، ولا التسلح العام الذي جرى لاحقاً.

أردت استخدام الحجر بطريقة مناسبة بصفتي مثقف، وأمريكي من الطبقة المتوسطة للجيل الأول. فاستخدمته لرسم خريطة. قيامي برميه كان سيكون ضرباً من الهراء.

هذا العمل كان محاطاً بنشاطات أخرى!

أرملي: نعم! تضمن "من/إلى" ندوات مع أخصائيين، مع مؤرخين، علماء اجتماع، علماء انسانيات، صانعي أفلام ومع عاملين في التلفزة. زوِّدتنا إضافة إلى ذلك أرشيفات الصور وقواعد البيانات، وافلام الفيديو وأشرطة التسجيل الصوتية بمواد ايضاحية أخرى. في كل هذه الحلقات الدراسية والأعمال الفنية نُعاين فلسطين على خلفية تاريخ الحداثة، حيث يبدو الوضع الفلسطيني حالةً شاذة.

كتب عصام نصار على سبيل المثال نصاً رائعاً عن المفاهيم التي كانت سائدة في التصوير الفوتوغرافي في مطلع القرن الماضي. بشكل أدق كتب عن التمثيل والغياب. حيث يبحث في أعماله كل أولئك الناس الذين أتوا إلى الأردن وإلى سورية للقيام "برحلة في الشرق"، فالتقطوا الصور الفوتوغرافية في كل مكان، ولكن لم يظهر البشر فيها على الصور الفلسطينية على الإطلاق! ثم بحث نصار في الأرشيفات فلم يعثر في السنوات العشرين الأولى لتصوير الأشخاص (بورتريه) على صورة شخص واحد!

إلى جانب ذلك هناك تلك المرحلة الزمنية "المجمّدة". كل البطاقات البريدية التي أرسلت من فلسطين، أثارت إنطباعاً يقارب صورة فلسطين في الكتاب المقدس. في حين يتبع الإسرائيلون تطورات الحداثة بالطبع: حيث تظهر البطاقات البريدية في الثلاثينيات، كما يتوقعها المرء: بعد العسكرة توجد بطاقات بريدية عسكرية وهكذا دواليك. يستطيع المرء تعقب كلا المسارين وملاحظة مدى تشابه كليشيهات البطاقات البريدية أو إختلافها.

هذا كله جزء من المشروع، ليس الهدف توثيق الأحداث وحسب، بل الإطلال على أهمية الإعلام أيضاً. كذلك يتعين علينا، نحن الجيل الناشئ، دراسة هذه الأرشيفات، أو البحث عن إثباتات لإظهار خطوط إرتباط وخطوط تواصل جديدة. بهذا نحقق ما يزيد عن مجرد التنقيب عن الآثار، إذ نسعى لإقامة دراسات في مجال تفاعل الإختصاصات ولربط حقول جديدة مع بعضها البعض ولتطوير مناهج وأشكال تعبيرية جديدة.

لقد تعاونت في هذا المشروع مع المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي. كيف كان هذا العمل المشترك بين سينمائي ملتزم وفنان يرنو منهجه نحو التجريد؟

أرملي: كلانا من الجيل الأول المولود بعد 1948، ولسنا متباعدين كثيراً فيما يخص سِيَر آبائنا. أبي فلسطيني عاش بعد 1948 مثل معظم الفلسطينيين الآخرين، حتى دفعته الأيام إلى أمريكا حيث وَلِدْتُ. ورشيد ولد في مخيم للاجئين في غزة.

كلانا مُطالب بأن يجترح جواباً معيناً على الوضع الذي نحن فيه، وكلانا متفق تماماً على أنّ ذلك لا يجب أن يتم بأسلوب تقليدي. أثناء التحضير لعمل الدوكومنتا تبادلنا وجهات النظر بشكل مكثف، ومن أحد المشاريع، أقصد "إنتظار"، انبثق فيلم رشيد الجديد لاحقاً.

غالباً ما يتم تجاهل ذلك، وكثيراً ما يظن الناس، بأننا غير قادرين على خوض حوار مشترك. لكن أجيالنا المشتتة عن بعضها البعض تجد، نوعاً ما بسرعة، مساحةً مشتركةً للإنتاج الثقافي، للفن، ولمواضيع الساعة التي تستطيع تبادل الآراء فيها. لم يحدث "شرخ" هنا، بل ما يشبه طريق إلتفافية فتحت لنا إمكانيات إضافية.

إلى أيّ مدى يختلف منظورك الذاتي عن منظور "منفي" يعيش في عالمه الخاص ولا يدور سوى حول نفسه؟

أرملي: يقوم "المنفى" تحت شروط معينة، وكذلك ما يسميه ستوارت هال بـ"هوية الشتات": أي شكل حياة الشتات الخالية من الرضات النفسية. على هذا النحو يتطور الأمر في خضم العولمة، ألتقي مثلاً بإطراد بعدد أقل من الناس الذين يقطنون في البلد الذي يتحدرون منه.

بالطبع ينطبق هذا بشكل خاص على أمريكا التي بنيت على أسطورة الهجرة وعلى قناعة مفادها أننا جميعاً أتينا من مكان ما، لنصبح هنا كائناً ما. لا نستطيع "مغادرة" أمريكا للذهاب إلى "المنفى" – فنحن على كل حال غير مستقرين في أي مكان.

تتخذ معضلات الإنصهار والتمثيل هذه، في فني وفي مشاريعي كما في "من/إلى" موضعاً مركزياً. نحن الأمريكيون لسنا متساويين جميعاً في هذا الجانب، كوننا لا نتمتع جميعاً بنفس الدرجة من الإنصهار.

أمّا في أيامنا هذه فوضع "العرب الأمريكيين"، بغض النظر يتحدرون من أصول فلسطينية أو لبنانية أو سورية، هو التالي: في الستينيات كان هناك ما يشبه الإنصهار، مارسه جيلي أنا بالذات، ولكن في السبعينيات وبالتأكيد في الثمانينيات انقلب الوضع، إذ أنّ تسييس الأجواء لم يعد يسمح بذلك أبداً.

يتكوّن الفرد من عدد لا متناهي من الهويات. فقط عند مراقبة الآخرين له يُختزل المرء إلى هذه الهوية أو تلك. هل واجهت في الأعوام الأخيرة، أكثر من قبل، أمراً كهذا؟

أرملي: نعم، أُعتبر في الأعوام الأخيرة "فنان ألماني". ولدت في الوسط الغربي من أمريكا، وترعرعت في كورن- بيلت، وذهبت بعدها إلى واشنطن، أي أني أكثر أمريكية من معظم الذين التقيتهم هناك، ولكني عندما عدت الآن ثانية لعمل مشروع في أمريكا، اعتبروني المانياً.

مع ذلك: الأعوام العشرة التي قضيتها في أوروبا، ورحلاتي وإقاماتي الكثيرة في الخارج، تركت آثار الثقافات والهويات الوطنية الأخرى عليّ. هذا لا يضيرني، ولكن السؤال الذي يهمني: متى بالضبط غدوت "فناناً المانياً"؟

كيف ترى في هذا السياق النقاش حول بلد الهجرة، الشيء الذي كانته الولايات المتحدة دائماً، ولا زالت المانيا تنفيه عن نفسها حتى اليوم؟

أرملي: من الصعب فهم العديد من هذه النقاشات الأوروبية، لأنه ينقصني إدراك المعنى الجوهري "للتحدر" من بلد معين. "أن تكون المانياً" هو أمر غريب تماماً بالنسبة لي كما هو أمر "أن تكون لبنانياً".

يوجد لبنانيون في عائلتي، ولكني لست كذلك. المفهوم القائل بأن الرجوع إلى العائلة، إلى النسب أو أي شكل خاص، هو الذي يمنحك هذه الجنسية أو تلك، أمر غريب بالنسبة لي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فريد أرملي (مواليد 1957) نشأ في عائلة لبنانية- فلسطينية في ولايو أيووا الأمريكية. يعمل منذ 1987 كفنان في أوروبا –لاسيما في ألمانيا- ، كما قام بتدريس الفن في أكاديميات فنون مختلفة. كان من 1999 حتى 2002 مدير بيت الفن في شتوتغارت. اشترك 2002 في معرض الدوكومنتا 11. يقيم أرملي حاليا في برلين.


الجمعة، 8 مايو 2015

برنهارد فون برايدن باخ: رحلة حج إلى الشرق-بقلم ساندرا شميس ترجمة عبد اللطيف شعيب



برنهارد فون برايدن باخ:
رحلة حج إلى الشرق






يرجع الفضل في شهرة تقرير رحلة حج برنهارد فون برايدن باخ إلى تلك الملحقات من النقوش الخشبية، التي أعد نماذجها الفنان إرهارد رويفيش







 نشأ فى العصور الوسطى المتأخرة نوع من السياحة الدينية المسيحية، واتجه المتدينون والمجازفون نحو الشرق لزيارة المواقع المقدسة والأماكن الغريبة. وكان برنهارد فون برايدن باخ هو أحد هؤلاء، وقد سجل مشاهد رحلاته، التي تعطينا انطباعا عن رؤيته للشرق فى ذلك الوقت.

فى الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان عام 1483 انطلق برنهارد فون برايدن باخ من مدينة أوبن هايم الواقعة على نهر الراين فى رحلة حج إلى الأرض المقدسة، واصطحب معه أحد النبلاء المسمى يوحنا فون سولمز، والفارس فيليب فون بيكن، والفنان إرهارد رويفيش من أوترشت، والطباخ يوحنا والمترجم يوحنا كنوص، حتى وصلوا إلى مدينة البندقية بإيطاليا بعد خمسة عشر يوما "بتكاليف غير قليلة وبطرق طويلة ملتوية".

حج نخبوي

كان من الطبيعي أن يستأجر الحاج مكانا على متن سفينة حج متجهة من البندقية إلى فلسطين. وكانت الرحلة البحرية مكلفة جدا وغير مريحة، وكان الحجيج من مختلف البلاد يحتشدون في مكان ضيق، وكان الطعام في أغلب الأحيان سيئا، حتى أصيب الكثير بالمرض أثناء الرحلة بسبب الظروف الصحية التي يرثى لها. ومن أتيحت له الفرصة تسلق فوق المسافرين وقضى حاجته فوق سطح السفينة، أضف إلى ذلك الخوف من تحطم السفينة أو من هجمات القراصنة.

ورغم كل هذا كانت رحلة فلسطين رحلة نخبوية، لأن الحجيج الأغنياء كانوا فقط الذين يقدرون على التكاليف الباهظة للرحلة، ومن ثم كانت الرحلة فرصة لرفع مكانة الحجيج. وكان عدد الحجيج الأوروبيين إلى فلسطين في العصور الوسطى المتأخرة يتراوح ما بين ثلاث مائة وخمس مائة شخصا كل عام.

وبعد أقل من شهرين بالسفينة لاحت الأرض المقدسة لبرنهارد فون برايدن باخ ومرافقيه، إلا أن النظرة الأولى تبعتها خيبة أمل، لأن الحجيج كان عليهم أولا أن يحصلوا على تصريح من المماليك يسمح لهم بدخول فلسطين. ولهذا اضطر برنهارد فون برايدن باخ ومرافقيه للبقاء ستة أيام على السفية حتى يذهب رجال البلاط إلى يافا لإستصدار تصريح لهم بدخول البلد.

عدم الثقة المتبادلة

وهنا تم تسجيل أسماء الحجيج وتحصيل الرسوم منهم، ففي الأرض المقدسة لم يكن هناك شيء مجاني. وأثناء هذه الإجراءات كان المماليك "يحجزون" الحجيج في كهف رطب على الشاطئ حيث يظلون محبوسين ليال طويلة،لأن الحجيج القادمين من بلاد الحروب الصليبية كان لا يسمح لهم بدخول البلد إلا برقابة.

وفي نفس الوقت كان الرهبان الفرانسيسكان يستقبلون الحجيج كما لو كانوا المعقل الأخير للمؤمنين في البلد المقدس، وكانوا يقومون على شؤون الحجيج حتى يتمكنوا من التعبد وتصفية الروح (والحصول على كثير من صكوك الغفران) أثناء زيارتهم لمدينة القدس.

وكان الرهبان الفرانسيسكان يرافقون الحجيج – مثل المرشدين السياحيين المعاصرين – ويلقنونهم دروسا بعدة لغات عن العادات الشرقية ويتولون تنظيم الإقامة في مدينة القدس، حيث يقومون معهم برحلات يومية للأماكن المقدسة ويوفرون لهم المبيت في بعض الأوقات.

ويركز تقرير برايدن باخ على وصف الأماكن المقدسة، ولا يصف المكان الأخير الذي تناول فيه المسيح آخر وجبة للعشاء أو قصة آلامه فحسب، بل أيضا الاصطبل الذي تربى فيه الحمل الذي كان وجبة المسيح في عيد الباساخ.

وفي الواقع كان كل مكان قصة مثيرة في حد ذاته، وكان ينطوي على جزء من قصة الخلاص. وكانت الذروة في زيارة كنيسة القيامة، حيث كان لا يسمح للحجيج بالمبيت فيها إلا بمقابل دفع رشوة. أما عن القدس كمدينة شرقية فلم يذكر التقرير عنها شيئا.

إنعدام التسامح الديني

يتعرض برنهارد فون برايدن باخ في تقريره إلى سكان مدينة القدس، ويكرر ذكر العامل الديني في المقام الأول، حيث يوضح رجل الدين أخطاء الجماعات الدينية الأخرى المقيمة في القدس.
وبحماسه التبشيري الموجه إلى الداخل نجد برايدن باخ يدعم في المقام الأول المسيحية الأوروبية في عقيدتها، حين يبين لهم صورة الإسلام السيئة.

والصورة التي تكونت عن الإسلام ومؤسسه محمد ماهي إلا حقائق وتزوير وأشياء مختلقة حسب الهوى. ويسب محمد بأنه "ابن للشيطان" و"كلب نجس"، وأنه تربى على يد أحد القساوسة المرتدين، وأسس في سن الشباب بفضل آمارات وشواهد كاذبة دينا جديدا لا يختلف في كونه عن طائفة أو مجموعة منشقة عن الكنيسة المسيحية.

وأقوال برايدن باخ عن الإسلام وعلى وجه الخصوص إهاناته لا تكاد تكون نتاج ما رآه هناك، بل مأخوذة من مراجع أخرى معاصرة.

كما أن المسيحيين الشرقيين لم يحظوا بالتقدير في كتابه، فنجده يصف المارونيين والنسطوريين بالإلحاد لانفصالهم عن الكنيسة الكاثوليكية. ومن الواضح هنا أنه يدافع عن السلطة المطلقة للكنيسة الكاثوليكية، كما أن الفرق بين المألوف والغريب يحدد ب "ما كان مسيحيا" ويفصل بين الحسن والسيئ.

ويرجع الفضل في شهرة تقرير رحلة حج برنهارد فون برايدن باخ إلى تلك الملحقات من النقوش الخشبية، التي أعد نماذجها الفنان إرهارد رويفيش، حيث تلقي صوره الضوء على الجماعات الدينية المختلفة من زوايا أخرى تماما.

فنرى مجموعة من الرجال العرب تقف هناك بلباسهم الفاخر وأسلحتهم، وبجانبهم نساء ممشوقات القوام – وتلبس إحداهن الخمار - يحاولن التصنت على الرجال. كما طبع الأبجدية العربية أيضا وإن كانت بها أخطاء.

وتظهر تلك الصور اهتماما إيجابيا مقبولا عن السكان الشرقيين، إلا أنه بعيد عن موضوع الديانة.

مقابلات مع مسلمين

وبعد انتهاء الجولات المختلفة في فلسطين اتجه كثير من الحجيج إلى أوطانهم ورجعوا بسفن الحج إلى مدينة البندقية، إلا أن برايدن باخ ومرافقيه عزموا على السفر إلى صحراء سيناء ومصر.

والقارئ يشعر أن برايدن باخ اضطر لترك مرشده السياحي الراهب الفرانسيسكاني في القدس. فتعليقات برايدن باخ على الطبيعة الغريبة وعلى الناس الأجانب تأخذ طابعا شخصيا، كما ابتعدت عن مغزى الرحلة الديني.

أما المقابلات مع المسلمين الذين يصفهم في الغالب بالسارزين Sarazenen فكان يغلب عليها الاستياء من ناحية بسبب الرسوم الجمركية غير المتوقعة وعمليات الغش، وإيجابية من ناحية أخرى.

فنجده يروي أن الناس أعطوه ومن معه من المرافقين ماءا للشرب في الصحراء "لوجه الله" على الرغم من أنهم يجدون "مشقة" في الحصول عليه، ويري أيضا أنهم انضموا إلى قافلة تجارية كان أعضاؤها "لطفاء".

كما يبدو أنه أجرى حوارات مع الأهالي بمساعدة أحد المترجمين، وكان يتبين له كل مرة أن الحجيج المسلمين يقدسون نفس الآثار التي يقدسها المسيحيون. ومع ذلك فلم تصحح تلك المقابلات صورة الإسلام التي أعطاها سابقا، لأن نظرة رجل الدين تظل ثابتة لا تتغير.

الشرق كمنطقة غريبة

ولم يذكر برايدن باخ عجائب الشرق وجماله إلا عند وصفه لمدينة القاهرة، فنجده يقول:

"إن قصر السلطان كبير للغاية لدرجة أنه يسع جميع سكان مدينة أولم Ulm أو نصف سكان مدينة نورنمبرغ Nürnberg. كما توجد مساجد جميلة ذات مآذن عالية لدرجة أني أعتقد أنه لا توجد في روما كنائس بمثل كثرة المساجد هنا".

وهنا أصبح الشرق منطقة غريبة مليئة بالطرائف والعجائب، فيصف باستغراب الأكلات السريعة في العصور الوسطى، وهي مطابخ موجودة في جميع شوارع القاهرة، ويقول:

"رأينا أيضا الكثير من العرب المسلمين يطبخون في الشوارع والأزقة (...). وكثير منهم يحملون القدور فوق رؤوسهم في شوارع المدينة، وما هي إلا نار موقدة وقدور تغلي وأسياخ شواء".

كما يلمح رجل الدين على الأحداث في أسواق العبيد، وأن الناس اعتبروهم – من قبيل الخطأ – عبيدا، وعرض أحد التجار على المرشد السياحي عشرة دوكات على كل شخص.

وأخيرا – وكما هو الحال في الرحلات المعاصرة إلى الشرق – فلا بد من دخول الحّمام:

"فدخل الكثير منا إلى حمام البخار إذ أن العرب المسلمين لديهم حمامات جميلة من الرخام، كما أنهم يؤدون خدمات جيدة في الحمامات. ويقومون هناك بتدليك أعضاء زوار الحمام بطريقة غريبة."

وبعد أن انتهى الحجيج من برنامج القاهرة السياحي عادوا إلى مدينة البندقية بالسفينة عن طريق الإسكندرية.

اهتمام حقيقي بالشرق

وعندما يقرأ المرء تقرير رحلة برنهارد فون برايدن باخ يظل برهة متحيرا، ويتساءل:

كيف يمكن لقُمص بأسقفية أن يكتب كلمات سيئة تحرض ضد الإسلام من جهة، وفي نفس الوقت يظهر إعجابه بالمساجد الإسلامية؟ وكيف يمكنه أن يوجه للمسلمين اتهامات عامة، ومن ناحية أخرى يمتدح خدماتهم؟

ثمة أشياء كثيرة ترتبط ارتباطا وثيقا بفهم الأدب في العصور الوسطى المتأخرة، فكان الكاتب يتحرك في حدود ضيقة بين ما يتوقعه القارئ من تقارير الرحلات وبين ما كان موجودا بالفعل في هذه الفترة حتى لا يثار شك في أقواله الشخصية. ولم يتوقع المرء من الأديب أن يأتي بشيء جديد، بل كان ينبغي عليه أن يعيد صياغة ما كان معروفا من قبل وما يتعلق به من ثوابت في قالب جديد.

ولا ينبغي أن ننسى أن برايدن باخ كان قُمص لأسقفية ماينز Mainz وذو منصب كنائسي كبير، وأن تقاريره عن الحج كانت تقرأ ضمن النصوص المسيحية في العصر الوسيط المتأخر، ولعل التعبير الإيجابي عن الرحلات أو التسامح تجاه "الكفار" كان في غير موضعه حسب معايير العصور الوسطى.

ومع ذلك فإننا نجد في تقارير برايدن باخ جوانب "توضيحية"، ويكفي أنه طبع الأبجدية العربية في فهرس عربي – ألماني أو أمره بطباعة صور ومشاهد لشعوب الشرق، مما يدل دلالة واضحة على أنه كان يريد أن يعطي صورة صادقة عن الشرق الغريب الذي كان يهتم به.


تاريخ التفكير الديني والاجتماعي في الإسلام الأول-بقلم إبراهيم الحيدري



المستشرق الألماني يوسف فان إس:
تاريخ التفكير الديني والاجتماعي في الإسلام الأول



بقلم إبراهيم الحيدري





فتح فان اس طريقا جديدا امام الباحثين للتحري العلمي عن قضايا ما زالت لم تطرح وتمارس وتنفذ


في موسوعته العلمية الشاملة "علم الكلام والمجتمع" يبحث شيخ المستشرقين الالمان فان إس في تاريخ التفكير الديني والاجتماعي والسياسي في القرنين الثاني والثالث للهجرة ويطرح مجموعة من المفاهيم والمواضيع والاطروحات المثيرة للجدل حول العلاقة الجدلية بين اللاهوت والمجتمع. مراجعة إبراهيم الحيدري

ارتبط علم الكلام (Theologie) منذ نشأته الاولى بمشاكل المجتمع المتعدد الثقافات. فبالرغم من انه يبحث في ذات الله، إلا انه لم يكن مجرد تأمل تجريدي لعلماء الكلام يقف بمنأى عن كل ما يحدث في المجتمع من صراعات اجتماعية واقتصادية وسياسية، ذلك ان علماء الكلام هم افراد في المجتمع يتأثرون ويؤثرون فيه ويكتسبون مكانتهم وهيبتهم الدينية من خلال تلك الصراعات، بالرغم من انهم يزعمون انهم يقفون فوق المجتمع بفضل علومهم القدسية.

ان تقديم عرض موجز لهذه الموسوعة العلمية الشاملة التي صدرت في ستة اجزاء ضخمة في تساؤلاتها العديدة ومفارقاتها الفائقة الدقة وكذلك في منهجيتها الابستمولوجية والانثرو-سوسيولوجية، امر ليس بهين، محاولين، قدر الإمكان، التعرض لأهم المواضيع والقضايا التي تناولها بالبحث والتقصي والنقد.

تاريخ العلاقة بين الإنسان والله

يتضمن الجزء الاول من الكتاب اسس العقيدة الدينية واركان الاسلام الاساسية وانتصاراته وتشكيل الوعي الاسلامي والهوية ورموزها. ويتضمن الجزء الثاني انتشار الاسلام في العراق ومصر والشام. اما الجزء الثالث فيبحث في وحدة الفكر الاسلامي وازدهار علم الكلام.

ويعالج الجزء الرابع تطور الفكر العقلاني –التنويري لدى المعتزلة، وازمة المعتزلة ونهاية المنهج الجدلي. كما يتضمن الجزء الخامس على نصوص من فكر المعتزلة والشيعة والمتصوفة. اما الجزء السادس فيبحث في تلامذة النظام والعلاف واشكالية خلق القرآن.

ان تشكيل الوعي الاجتماعي والهوية الدينية بمختلف رموزها، وبخاصة العلاقة بين الانسان والله وبين الفرد والجماعة وبين العقيدة والمسؤولية وكذلك تشكيل صورة الرسول من خلال القرآن والسنة، لم تحدث مرة واحدة، وانما تطورت مع الاحداث التي رافقت انتشار الاسلام في الامصار المختلفة.

وقد ارتبطت هذه التطورات بوحدة الامة ووحدة الفكر الاسلامي واثرت بدورها على تطور علم الكلام وازدهاره في البصرة ثم في بغداد، مثلما اثرت على تطور المعارف والعلوم، وانتجت انثروبولوجيا اسلامية كما عند ابن هذيل العلاف.

الفكر المعتزلي أول حركة عقلانية في الاسلام

لقد مثل الاعتزال حركة تنويرية طرحت افكارا بالغة الاهمية في تحديد العلاقة بين الله والانسان والنظرة المتطورة الى طبائع الاشياء، حيث نظر المعتزلة الى الانسان بوصفه كائنا حرا ومسؤولا عن افعاله، والى الكون باعتباره وحدة متناسقة من العلاقات والقوانين التي تربط بين اجزائها، وهو ما يمثل جوهر الاعتزال.

والحقيقة، فان ثمة اهمية فائقة للعصور الاسلامية الاولى التي مثلت مجتمعا في بداية تكونه ووحدته وبداية انفتاحه على الآخر، الذي استطاع تأسيس حركة فلسفية قدمت خدمات جليلة لمعنى الوجود وولدت فكرا متنوع الموضوعات لم يرتبط بالبديهيات ولم يستطع الفكر الذي تلاه ان يرتقي اليه ابدا.

ويعود ذلك الى استعداد المجتمع الاسلامي الاول نفسه الى ان يستمع الى ما يقوله علماء الكلام وان يتقبله برحابة صدر وان يجعله محورا ليس لتشكيل الحياة الاجتماعية اليومية فحسب بل وربطه بما هو اجتماعي واقتصادي وسياسي، بحيث امتد علم الكلام من ديوان الخليفة الى العامة من الناس وشمل مواضيع متعددة ومختلفة، من الاجور والعمل حتى العائلة والجنس.

وكما يقول فان إس، يمكن فهم" اللاهوت" بمعنى الكلام عن امور دينية ودنيوية. وبمعنى آخر عن الواقع الاجتماعي بكل ما فيه من اختلاف وتناقض. وبالرغم من ان كلا من اللاهوت والمجتمع ما زالا يبحثان، في تلك المرحلة، عن هويتهما وخصوصيتهما، فان الاسلام "الاول" من منظور متأخر لم يتغير كثيرا.

دور المثقفين

من هذه الرؤية السوسيولوجية انطلق فان إس في اطروحاته المختلفة لدراسة الاسلام ومراكزه الدينية وتطور العقيدة والفرق والمدارس الفقهية في جميع الامصار الاسلامية التي اعتبرها دوائر حضارية تتداخل بعضها مع البعض الاخر وتتمحور في مراكز حضارية.

بغداد، مثلا استقطبت العلماء والادباء والشعراء من جميع المراكز الحضارية الاخرى لاجراء المناظرات الفكرية التي تحولت الى تقليد ثقافي قام على التسامح والحوار، والتي ساعد على تنشيط الحركة الثقافية والعلمية وفجر اشكاليات تأويلية نقدية فيما يخص حقيقة التراث وقادت الى قيام المدارس والجامعات – كدار الحكمة والمستنصرية وغيرها.

كما بحث فان إس في دور المثقفين في نشأة علم الكلام منذ الخلافة الاموية حتى نهاية القرن الثالث للهجرة حيث دخل الاعتزال آخر مراحله المدرسية، لتبدأ مرحلة هامة اخرى في تاريخ علم الكلام وهوعلم الحديث، وما دعي بـ "البحوث".

غير ان فان إس يشير الى ان جميع ما يرتبط بالقرن الاول للهجرة من احاديث كان يدخلها الشك لاختلاف الاراء حولها، ولذلك يكون من الصعب اصدار حكم، واذا صدر اي حكم فهو غير دقيق. ولذلك كان من اهدافه تحقيق ما ارتبط منها بالكتابات الاولى التي تقع بين علم الكلام والحديث، خصوصا اذا عرفنا بان جمع الحديث جاء بشروح شحيحة جدا، وهو ما يدفع المرء الى ان يكون شديد الحذر ونقديا.

استخدام السيرة الذاتية

ومن الناحية المنهجية، لا يتجه فان إس الى التساؤل عن الاشياء ذاتها، بقدر ما يتجه نحو "السيرة الجماعية " للفاعلين الاجتماعيين. كما يستخدم "السيرة الذاتية" ايضا لمعرفة دور واهمية الحركات الدينية والاجتماعية والسياسية التي قامت منذ بداية تكوين الفرق الاسلامية.

هذه المنهجية الابستمولوجية من الممكن مقارنتها بمنهج البحث الاكاديمي الذي بات يطبق في الدراسات الاسلامية الحديثة في الجامعات الالمانية، الذي يستخدم المنهج الانثرو- سوسيولوجي.

هذه بعض القضايا التي يطرحها فان إس للبحث، التي اعطاها ابعادا اجتماعية استثنائية بفضل ثقلها السوسيولوجي، ومحاولاته لتفكيك اشكال "التقليدية" التي خلعت عليها اسدال التقديس زورا وبهتانا، والتي تشكل احدى اهم المهام الملحة في الدراسات الاسلامية الحديثة.

وكما يقول محمد أركون، لقد فتح فان اس طريقا جديدا امام الباحثين للتحري العلمي عن قضايا ما زالت لم تطرح وتمارس وتنفذ، رغم ان المسلمين مازالوا يعيشونها ويعبرون عنها في حياتهم اليومية بنحو او آخر.

ان هذه الموسوعة الجادة تكشف عن قضايا فكرية وفلسفية ذات دلالات دينية واجتماعية وتضع امام المهتمين بالفكر العربي – الاسلامي نموذجا رصينا في البحث العلمي الذي نحن بامس الحاجة اليه.

Josef van Ess: Theologie und Gesellschaft im 2. und 3. Jahrhundert Hidschra، Band 1-6، Berlin New York، 1991-1997.




الاثنين، 4 مايو 2015

قصة قصيرة-ها أنا عدت إليكم!عادل كامل-مجسمات عادل كامل







قصة قصيرة

 
ها أنا عدت إليكم!


عادل كامل
ـ ها أنا عدت إليكم!
    عم الفزع وجوه الجميع باستثناء الأم التي استقبلت ابنتها الغائبة بشرود، لكن بترحيب:
ـ كنت اعرف انك ِ لم تغادرينا، رغم إنهم اختطفوك، وتسلوا بك، ثم افترسوك، ورموا الباقي إلى المزبلة!
     اقتربت الأتان من أمها:
ـ كنت اعرف مشاعركم، صدقها، وحزنكم علي ّ....، ولكن ها أنا عدت...، لزيارتكم، أخيرا ً.

   صاح احدهم:
ـ أين أنت...، لأنني لا أرى إلا ذيلك وحده يتحرك...؟
وأضاف آخر:
ـ لا ...، أنا لا أرى إلا ساقها...
وقال ثالث:
ـ لم يبقوا منك إلا الجلد....، أين هو الجلد..؟
فقالت الأم بأسى مكتوم:
ـ صبرا ً يا أولاد...، المهم إن روحها عادت، وإنها لم تقهر!
ـ نعم...، صحيح إنهم اختطفوني، ودنسوا شرفي، ثم افترسوني....، لكنهم لم يقدروا على قهري أبدا ً.
    ضحك الجد، بعد أن حك رأسه بالجدار:
ـ كأنها لعبة أرواح...، يا حفيدتي...، المهم إننا أقمنا دعوى ضدهم!
ـ جيد.
ـ ومع إننا خسرناها، إلا إننا أقمنا دعوى أخرى وبعثنا بها إلى باقي زرائب الحديقة، بل وسربناها إلى الخارج أيضا ً، تضمنت إن ابنتنا اختطفت، وتم اغتصابها، ومن ثم تم افتراسها.
    لم تجب الأتان، فقالت الأم لها:
ـ كان ظلك يزورنا يوميا ً، وروحك ترفرف مثل هواء الفجر.
   وقال آخر:
ـ وكنا نراك تجلسين عند باب الزريبة، تراقبين الخيول، في حظيرتهم.
   فقال الجد بصوت متعب:
ـ آلاف المرات حذرتك من ذلك...
    قالت الأم:
ـ لا معنى لهذا العتاب ...، فانا نفسي كدت أقع في الغواية، وتقهرني الرغبة...، الم تخبرنا إن من لم يرتكب الخطيئة كأنه لم يولد، وانه لن يحصل على الغفران...، وإلا ما معنى لو خلقنا بلا ذنوب، ومن غير هفوات، وبدون آثام؟
ـ أنا لم أصرّح بذلك....، أنا قلت: من لم يقترف الذنب لن يحصل على البراءة، ومن لا يتعثر لا يحق له أن يمتطي صهوة المجد!
قالت الأتان:
ـ جدي...، أنا أخبرت الذئاب بذلك، فقالوا: إننا لا نرتكب الفحشاء، بل نعمل على محوها!
    فسألها الجد:
ـ كانت مكيدة إذا ً ...؟
ـ بل وشاية !
ـ ولكن ما التهمة التي وجهت لك ِ يا عزيزتي...؟
ـ المساهمة بالانقلاب على الشفافية، والتستر على زوجي الميت!
ـ تهمتان قاسيتان...، مع إنني أعرفك، يا حفيدتي، عاملة نشطة في الدفاع عن حقوق الحمير!
ـ أخبرتهم بذلك، ولكن من غير جدوى...، فقد استندوا إلى معلومات مزيفة، مموهة، وخادعة...، فقد اتهموني بأنني طالما كنت احلم بالعودة إلى قرانا القديمة التي سلبت منا...، فقلت لهم: لم تعد هناك قرى، كما لم نعد نحلم بالعودة لها، ثم إننا سعداء بالعيش في هذه الزريبة، وداخل هذه الأقفاص..
     قالت الأم:
ـ يا له من عمر نكد...، فلم نسلم من الأذى في البرية، ولم نسلم منه في هذه الحديقة...، فلماذا يرغموننا بالارتداد إلى مستنقعات الماضي...؟
   صفقوا. قالت الأتان:
ـ والآن دعوني أعود...
صاحت الأم:
ـ لم تمكثي إلا قليلا ً...، ثم إلى أين سترجعين؟
ـ  إلى الفراغ الأعظم الذي لا ذئاب ولا خنازير ولا عقارب ولا أنذال فيه!
قال الجد:
ـ صحيح، أسألك، ما الذي جاء بك، وما هي أسباب هذه الزيارة...؟
ـ جئت أتفقدكم، واطلع على أحوالكم...
ـ آ ....، يا عزيزتي، كم أنت بنت وديعة...، ومع ذلك السفلة أقاموا دعوى ضدك بالانقلاب على البراءة؟
ـ لا ...
وأضافت محتجة:
ـ هذا مجحف...، فما هو ذنب الشفافية، والبراءة...؟
ـ ذنب من ...؟
ـ ذنب لا احد!
ـ لم افهم؟
ـ عندما تم اختطافي، والاعتداء علي ّ، وافتراسي أخيرا ً...، سألتهم السؤال ذاته. فضحكوا... فقلت لهم: يحدث هذا كله وانتم تضحكون؟ فقال كبيرهم: ماذا نفعل...، أنبكي...، أم ندع الكلاب تفترسنا؟
صاح الجد:
ـ الآن فهمت...، حتى لو لم يحدث ذلك فسنموت في الإسطبل، كما تموت البلابل في أقفاصها، والأسماك في جداولها، والقرود في أجنحتها..
   قالت الأتان:
ـ لكن، يا جدي، جاء كبير الذئاب ليعتذر...
صرخت الأم:
ـ أيتها المجنونة...، جئت بالعدو إلى عقر دارنا، إلى إسطبلنا؟
ـ لا ..، أنا لم آت به، ولماذا افعل ذلك، أنا جئتكم بطيفه!
فسألها جدها:
ـ أنت لم تأت ِ بكبير الذئاب...، بل جئت بقطيع كبير من الذئاب...؟
ـ أنا لم افعل ذلك...، وأنت تعرف...، فانا لست سوى حزمة من الفراغات!
ـ وهل اختطفوك بوصفك فراغا ً؟
ـ لا.
ـ وهل اغتصبوا بوصفك شبحا ً..؟
ـ لا.
ـ وهل افترسوك بوصفك طيفا ً..؟
ـ لا ...، لا يا جدي، لكنها هي الحقيقة..
ـ ما ـ هي ـ هذه الحقيقة...؟
ـ إننا اعتدينا عليهم!
ـ ماذا تقولين؟
ـ هم يقولون...، وماداموا هم الحقيقة، فهم على صواب! ولكن أرجوك، قبل أن تقاطعني أصغ إلي ّ: هل كانت الذئاب وحدها هي التي قامت بأعمال تلك الليلة...، أم كانت هناك الثيران، والجاموس، والنمور، والجمال، والأرانب، والخيول، ومعها الضباع، وبنات أوى، والثعالب، والجرذان...والتماسيح، والحيتان..؟
صاحت الأم:
ـ حتى الأرانب...؟
ـ أماه...، بعد أن أصبحت وحيدة في العراء، رأيت العجائب، رأيت السيد صغير الفئران، ذاك التافه، الذي كان يمضي الوقت يبحث عن قشة، في زريبتنا، يقود الدببة، والتماسيح، والنمور، وكانت الفيلة تؤدي التحية له، فقد أصبح زعيما ً!
ـ صغير الفئران؟
ـ لا ...، ليس صغيرها، تماما ً، بل أشدها خسة...، ونذالة، وقد صار باسلا ً، ومغوارا ً، وبطلا ً!
     تراجع الجد إلى قاع السقيفة، ومعه باقي الحمير، ومكثت الأم حائرة لا تعرف ماذا تعمل. قالت ابنتها:
ـ في الواقع...، لا معنى للفزع...، ولا معنى للخوف...
ـ ابنتي...، أنت ِ جئت بجيش جرار لمحونا من الوجود، فلا إسطبلات ولا حديقة بعد هذا اليوم؟
ضحكت الأتان:
ـ أي إسطبل هذا الذي تتحدثين عنه...؟
ـ الإسطبل الذي ولدتك فيه....، نشأتي، وتعلمتي، وكبرتي...، قبل اختطافك منا..
ـ للمرة الألف اكرر القول: إن ذلك لم يحدث..!
ـ ماذا حدث إذا ً....، يا طفلتي الشبح..؟
ـ أنا لم اعد شبحا ً، بل طيفا ً، وبعد قليل سأعود إلى ما كنت عليه...، ولكن خوفكم هذا لا مبرر له.
     نهق احدهم:
ـ سيفترسوننا جميعا ً!
     هدأته الأتان بصوت مرح:
ـ يا حمار...، لقد جاءوا لتحريركم من الإسطبلات!
     فسألها جدها بصوت مذعور:
ـ هل سيعيدوننا إلى البرية...، والى البساتين...؟
ـ لا...، سيتم بناء إسطبلات حديثة، شفافة، لا أسوار لها....، بعد تبديد ذعركم!
ـ ابنتي...، هل أنت لسان حالهم؟
ـ لا ! أنا قائدتهم!
ـ غريب...، ابنتي أصبحت زعيمة! وغدا ً سيشيدون لها نصبا ً في اكبر ساحات الحديقة...، فما علينا إلا أن نصفق لك، ونتغنى باسمك، ونهتف لمجدك!
   لم يصفق احد، ليمتد الصمت. فقال الجد بصوت غير مسموع:
ـ آن للحديقة أن تزول...، وهذه واحدة من علامات زوالها.
صاحت الأتان:
ـ أرجوك، يا جدي العظيم، تكلم بشجاعة، فأنت لا تمتلك شيئا ً تخسره، فلماذا لا تدع المستقبل يستبدل جلده...؟
ـ أنا لا أخاف أن يفترسوني، بل اشعر بالقرف أن تركوا جثماني يتعفن في العراء..؟
ـ ها ..، قبل الموت أم بعده...؟
ـ ليس قبل الموت...، ولا بعده...، فانا لم أمت كي أولد، ولم أولد كي أموت!
ـ وأنا مثلك!
     تقدم كبير الذئاب ممهدا ً الدرب للفار بالتقدم. فقال الأخير:
ـ آن لنا قول الحقيقة....
    لاذت الأم بالفرار...، وتكدسوا جميعا ً في نهاية السقيفة، في قاع الإسطبل. قال الفأر:
ـ فهي ليست كباقي الحقائق...، تولد ميتة...، بل تولد لتقاوم موتها...، والآن...
     ونظر الفأر إلى كبير الذئاب، وخاطبه:
ـ أفترسهم!
   قال الحصان الأسود:
ـ وماذا نفعل نحن...، نرجوك...، اجل الوليمة إلى اليوم التالي!
   قال القائد:
ـ كلوه.
    اختفى الحصان الأسود، فقال الذئب:
ـ تم التنفيذ، سيدي.
   قال الفأر:
ـ والباقي بحكم الأسرى...، فانا طالما حلمت أن أراهم يدفعون الثمن؟
     صفق الضبع. فخاطبه الفأر بصوت حاد:
ـ اخرس! فانا لم اطلب مشورتك..!
   متابعا ً وهو يحدق في الإسطبل:
ـ نظفوه! طهروه، أمحوه ولا تتركوا له أثرا ً..!
فرد الذئب:
ـ نعم سيدي...، لكن ماذا نفعل بالأسرى ...؟
ـ آ ...، دعوهم يبحثون عن ملاذ فلا يجدوه إلى ابد الآبدين، هكذا جدي قال في قديم الزمن.
   صاح طيف الحصان الأسود:
ـ ومصيرنا نحن...، سيدي؟
ـ أغلق فمك...، فالأسيرات بعدد رمال الصحراء...، فخذ ما تشاء منهن، فهن متاع لكم حتى آخر الزمن.
ـ سيدي...، لكننا كنا نحلم بحفلة؟
ـ حفلتكم تأتي بعد انتزاع المعلومات..
قال الذئب:
ـ سيدي الفأر الخالد...، لسنا بحاجة إلى اعترافاتهم...، فالمعلومات لدينا كاملة، حتى قبل شروعهم بالممارسة!
ـ يا حمار! ألم تفهم إن المطلوب هو تركهم يتمرغون بعار الهزيمة، حتى قبل دخول الحرب!
   فسأله تمساح كان يقف بجوار كبير الخنازير:
ـ وما هو دورنا، سيدي؟
ـ أنت عد إلى ... مستنقعك...، فمهمتك ستبدأ بعد ... إقامة حفلة العرس الكبرى.
      صهل حصان هبط من الأعلى:
ـ حذار...، حذار...، سيدي قبل التأكد من سلامة فروجهن، وأدبارهم، وخلوها من الأمراض الفتاكة! فالشر كل الشر في ما تخفيه الفتحات، والثقوب!
    هز الفأر رأسه:
ـ هذه هي مهمة جهاز حماية الأجهزة الناعمة.
  مسترسلا ً:
ـ ثم ...، بعد الليلة الحمراء، أقيموا الوليمة!
اقترب شبح الأتان من الفأر:
ـ سيدي، لكنكم وعدتموني بإطلاق سراح أهلي...، شرط ان أضحي بحياتي، وأنا فعلت ذلك..؟
ـ يا حمارة...،  ومن اخلف في الوعد؟
ـ ممتاز!
     فصاحت الأتان تخاطب أمها وجدها وباقي أفراد العشيرة:
ـ ابشروا ...، ابشروا ...، الفأر لا ينكث عهدا ً، ولا يخلف وعدا ً...
   قال الفأر بكبرياء:
ـ كفى تملقا ً، ولغطا ً، ودعاية!
وخاطب كبير الذئاب:
ـ باشروا...
صاحت الأتان بصوت مذعور:
ـ سيدي...، الكل أبرياء...، ولا احد تعاون مع العدو...، فلا احد تذمر، ولا احد عصى، ولا احد رفس، ولا احد ارتكب حماقات، ونذالات، ودناءات،و ...
ـ اعرف...، وإلا هل كنت سأغفر لهم؟
ـ  كم رحيم قلبك، سيدي، أيها الفأر الكبير!
ـ لا فائدة من التملق، والمدائح، فأنت لم يعد لديك دور، لا معنا، ولا معهم!
ـ آ .......، ستعتقني؟
ـ يا حمارة، من غير الشفافية، لا يستتب العدل، ولا تأخذ النزاهة مجراها، ولا يسود الوفاق!
ـ ولكن اخبرني ماذا سيحصل لنا بعد الليلة الحمراء...؟
    ضحك الفأر:
ـ أنت تعرفين...، وهم سيعرفون...، فما فائدة الكلام، الم يقل زعيمنا لا تولد الكلمات إلا كي تكنسها الريح! وكل الحكايات تحكي كي لا يسمعها احد...!
صرخ الجد بتضرع:
ـ سيدي، فانا في أرذل العمر، أعمى، وكسيح، ومصاب بالخرف، وأمراض السراديب،  كما تراني....، فأمر جندك البواسل بافتراسي....، أم لا مناص من فعل المنكر؟
ـ المنكر...؟
  وسأله الفأر بغضب:
ـ وهل في حديقتنا هناك من يرتكب المنكر...، يا كبير قادة الحمير...؟
ـ لا.. لا...، ولكنك لا تستطيع أن تعرف ماذا تفعل الضباع، والكلاب، والثيران...، ولا تلك التي تحّوم تحت الشمس، فانا  لا أريد أن أتعفن فوق تلال النفايات، والمزابل...
ـ اقسم لك ...، لن يحصل ذلك!
ـ إذا ً ... دعني أرى موتى قبل بدء الحفلة! فانا سأكون ممتنا ً لسيادتكم لو أمرتم بذلك.
    أمر الفأر الديدان والحشرات والبكتريا بالاستعداد. فصرخ الجد:
ـ ولكن، يا سيدي القائد، لماذا لم تأمر السيد التمساح، بابتلاعي...، بدل أن تشغلك جيشك بعمل منهك...، وبدل أن أتوزع في مقبرة جماعية...؟
   ضحك الذئب:
ـ الحمار يحلم بإقامة شاخص له! وربما يحلم أن نشيد له صنما ً...؟
   رد الفأر:
ـ لا ...، لو كان يحلم، لكف عن الأحلام!
ـ ربما يفكر...؟
ـ ولو كان فكر لحظة واحدة، لعرف كيف يكف عن التفكير...؟
اقتربت الأتان من الفأر:
ـ سيدي، اخبرني، قبل أن أتلاشى وأزول: ما المجد الذي تحصل عليه...، وأنت تدمر عشيرة الحمير...، بعد أن جمعت المفترسات، والكواسر، والحشرات، والديدان، وكل صاحب ناب، ومخلب، وفكوك عنيدة ...، ما الذي تكسبه، بعد أن نكون بخبر كان...، فمن يصفق، ويهتف، لمجدك...؟
ـ يا حمقاء، ها أنت تكررين السؤال ذاته الذي سبق افتراسك، مرة ثانية، بلا مراعاة للأصول، ولا للشفافية، فماذا قلت لك...؟
ـ آ ...، لا أتذكر، سيدي، آسفة، لا أتذكر!
ـ ها، ها، وتطالبيني بالتذكر...؟
ـ آسفة...، مرة أخرى، لكنني أسألك الآن:  هل تزهوا وتفرح وتفتخر لأنك انتصرت علينا، نحن عشائر الحمير والأرانب والضفادع...؟
ـ لا! أنا لا افتخر بأعمالي...، لكن يمكنك توجيه السؤال إلى عبيدي...؟
ـ اووووه...، وهل باستطاعتي أن اسأل الذئب...، أم أسأل التمساح، أم أسأل وحيد القرن...، أم اسأل العقارب...؟
ـ إذا ً....، قصدك إن أعمالك هي التي تتحدث عنك، مع انك اعرف مني أن ما يأتي مع الريح يذهب معها...، فلا زرائب، ولا جحور، ولا حظائر، ولا حدائق.... بعد اليوم!
ـ الروح تتكلم...؟
ـ آسفة، هذا هو ظل زوالي يتكلم..، أما روحي فلا اعرف أين توارت، وتسترت، وغابت...؟
ـ إذا ً...، لنترك ظلي يقول لك: من آذانا طوال الدهر...، من أسكننا الحفر، من شردنا، من أمرضنا، من أخافنا، من أذلنا، من...، ومن ...،ومن جعل منا ولائما ً له....، ومن دعا إلى تمزيق وحدتنا، وهدر دمائنا، وإزالتنا من الوجود...؟
ـ آ ....، أجئت تنتقم، وتثأر، وتروي غليل الدهر منا ...؟
ـ لا ! فانا آخر من يلذ ّ له إنزال العقاب بالمعاقب، وتخريب ما هو مخرب، وإيذاء من لا موضع فيه للإيذاء.....، أو إنزال العلل بمن مات، ونفق، وزال...؟
ـ أسأل من ....، إن لم أسألك، أيها العظيم بين العظماء ..؟
ـ اسألي من أرسلني...؟
ـ لم يرسلك احد!
صاح الذئب:
ـ ماذا تظن هذه الأتان بنفسها...، وقد أمضت الزمن كله لا عمل لها سوى حمل الأوزار، والنفايات، وجر عربات نقل الموتى...؟
صاحت الأتان بالذئب مذعورة:
ـ لا تقل ذلك، أرجوك، فانا لم ارتكب ذنبا ً، وما زل لساني، وما ارتكبت الفحشاء، أو دنت نفسي من الخطيئة...، بل كنت احمل أثقالكم، ثم، كانت نهايتي معروفة: أسيرة هذه الحظيرة بانتظار إرسالي إلى أفواه العاطلين عن العمل!
ـ آسف...
فخاطبها الفأر:
ـ اقتربي، لا تخافي، اقتربي مني...
   اقتربت كثيرا ً حتى غابت:
ـ الذي أرسلك إلي ّ هو الذي أرسلني إليك!
قال الخنزير:
ـ تأخرنا ...، سيدي، فالحمير لم تعد تغرد!!
صرخ الفهد:
ـ سيدي، ولم تعد تتنفس!
فقال الغراب:
ـ لقد نفقت للأسف!
    اقترب الفأر من الجد العجوز:
ـ حتى أنت...؟
      رفع الجد رأسه وقال:
ـ  ها هي روحي تقول لك: الذي أرسلك لتأسرنا، وتغتصبنا، وتفترسنا، هو نفسه الذي سيرسل من سيشتت شملكم، وهو من سيصنع منكم نهارات حمراء، وليال ٍ بلون القير، وهو الذي سيأمر بالأقوى أن يبطش بالأقل قوة، وهو الذي يأمر بالضعيف أن ينكل بالأشد ضعفا ً...، وأنا أدعو السيد الغراب ليروي شهادته بهذا الصدد...؟
    صاح الغراب:
ـ أنا لم أكن طرفا ً لا مع هذا ضد ذاك، ولا مع ذاك ضد هذا...
     قال جد الحمير يخاطب الغراب بغضب:
ـ حقا ًمن تستر على الجريمة....، لا يحق له أن يتنصل عن إثمها!
    از الفأر أزيزا ً مدويا ً:
ـ لا تاسروووووه...،لا تغتصبوووووه....، ولا تفترسوووووه...، بل اتركوه يتعفن!
   وخاطب الديدان:
ـ وانتن يا ديدان الأرض حذار من مس لحمه ألاثم!
وراح يبحث عن الأتان:
ـ أين أنت ِ....، أيتها الجميلة، يا من قضيت ِ حياتك في إسطبلات الخيول، وبيوت الرجال.. ..!
قال الجد:
ـ آ ...، لقد بدأت أراك تتفسخ...، قبلي، وجيفتك بدأت تملأ الريح!
   عوى الذئب:
ـ  أبعدوه...، لا تتركوه يتكلم، فزعيمنا أصبح شارد الذهن، يبحث عن أتان لا وجود لها...!
   فقال الفأر يخاطب نفسه:
ـ كانت الأتان على حق...، وحدها كانت على حق...، ولكن هل كنت أنا على باطل...؟
    قال جد الحمير:
ـ لو كنت على باطل...، فلا حق هناك! ولو لم ترتكب الآثام فمن كان سيعيد لنا براءتنا....، ولو لم تكن تجهل ماذا كنت تفعل فكيف كنا سنهتدي إلى الصواب، ورؤية خارطة الدرب...؟
ـ من أنت...؟
ـ أنا هو صوت الضحايا التي صنعت منك زعيما ً...، وإلا ماذا لو كنا جميعا ً طغاة؟!
   ضحك الفأر:
ـ ستجد أمي مخصيا ً لتحبل به وتلد ضحية لن يدع طاغية يدوم طغيانه إلى ابد الدهر...، وستعود لتحبل أمي العذراء لتلد الآخر الذي لن تدوم حديقته أكثر من زمن هذا الاحتفال!
28/4/2015