الجمعة، 17 أبريل 2015
الخميس، 16 أبريل 2015
خواطر ظبية عند بوابة الجحيم-عادل كامل
قصة قصيرة
خواطر ظبية عند بوابة الجحيم
عادل كامل
قالوا انه استحدث من العدم، وقالوا انه استورد من كوكب أخر غير كوكب الأرض، وانه لا ينتمي إلى المجموعة الشمسية، وقالوا انه هو الذي صنع نفسه، وهو الذي اخترعها، وقالوا انه ليس إلا وهما ً، وقيل انه ليس إلا مخلوقا ً افتراضيا ً، بحدود ما يدور في الخيال الجمعي، أو عبر الأساطير، ولكن أكثر الوقائع تشير إلى أن حجمه، وتكوينه، هيأته، لا مثيل لها مع مخلوقات القارات التي مازالت تشتهر بالإشكال ذاتها، أو الشبيهة به، كالتماسيح، والخراتيت، والديناصورات، والزواحف الأخرى. وقد أثارت هذه الأقاويل لغطا ً حول نشأته، وما قبلها، بحجة عدم وجود حياة أصلا ً بإمكانها أن تذهب ابعد مما هي عليه، أو بسبب إشاعات أصبحت مدعمة بالوثائق تؤكد إن أموالا ً كبيرة أنفقت من اجل اقتنائه، وتربيته، والعناية به حتى لم تعد للإشاعات قيمة تذكر، أو اثر للتداول حول هيبته، ومكانته، وموقعه بين كائنات الحديقة.
أتراه فكر بالضجة التي أحدثها، وجعلت منه أكثر شهرة من الجميع، ومتميزا ً بالرعاية، والعناية الاستثنائية، وقد غدا مشهورا ً، وعلما ً نادرا ً، خارج نطاق الحديقة، حد استحالة مقارنته بالمخلوقات الأخرى، كالأسود، والنمور، والتماسيح، والحيتان والزرافات، والماموثات، والثيران الوحشية، وأفراس المستنقعات، والأفاعي ذات الأبواق، والحيتان الحلزونية، والسحالي المتعددة الرؤوس والطيور البرمائية.... الخ...، دار بخلد الظبية، وهي تجلس القرفصاء، مكورة جسدها النحيل، داخل فمه الكبير:
ـ فأنت، يا سيدي، لا تنوي ابتلاعي...؟
ذلك لأنها فكرت انه لا ينوي تعذيبها أيضا ً، قبل أن يغلق فمه، رغم انه هدأ من روعها، ملوحا ً لها بأنه قد يمزقها، ويقطعها إلى أجزاء، قبل أن يسحقها، ويطحنها، كي يبتلعها دفعة واحدة. فكادت تصرخ، وتستغيث، لولا إن قواها كانت قد خارت، ولم تعد تتمكن إلا من محاولة استرضائه، ليرحمها، ويعفو، ويغفر لها، ويتركها في حال سبيلها، فتمتم بمرح لا إسراف فيه:
ـ هذا ما كنت أود سماعه منك ِ، أيتها النحيلة كثمرة يانعة!
ردت بصوت مذعور:
ـ دعنا الآن من الكمين الذي أوقعتني فيه...، ودعنا من غفلتي، ودعنا لا نتحدث عن انتشار الخبر، الذي يسيء إلى سمعتك، وشخصك...، فانا سأعترف بأنني انأ التي اختارت الجلوس في هذا الفم الجبار...، سأعترف، عبر وساءل الإعلام كافة، مباشرة، من غير رتوش، أو تملق...، بأنني كنت أقوم بنزهة، للمتعة، والاسترخاء، والاكتشاف....
فقال لها بالصوت المرح نفسه:
ـ لا مجال للمزيد من المناورة...، فأنت الآن جزء من أجزاء ثروتي!
اعترضت وهي ترتجف:
ـ سيدي الشبيه بالديناصورات التي تحدت إبادتها، وامتد زمن مجدها حتى يومنا هذا...
تململ، فاهتز جسدها، بعد أن حرك فكه الأسفل، وتمايلت، وكادت تسقط بعيدا ً عن حافة فمه:
ـ لا تفعل هذا أرجوك.
أجاب:
ـ أنا لا أشبه أحدا ً، أنا أشبه نفسي! بالأحرى نفسي وحدها هي التي تشبهني!
ـ آ ....، اجل، هذا صحيح، بحسب احدث النظريات، فأنت لا تشبه أحدا ً!
ـ بل أشبه نفسي ونفسي تشبهني!
ـ صحيح فانك لا تختلف عن نفسك، ولا نفسك تختلف عنك!
ـ هل هذا يعني إنني هبطت من كوكب يقال إنني لا أساوي فيه حجم فار من فئران هذه الحديقة، ولا ذبابة من ذبابها.....؟
ـ من قال هذا أيها الكائن الذي لا يختلف عن نفسه، ولا تختلف نفسه عنه؟
ـ المواقع الاجتماعية، والشبكات العنكبوتية، والإعلام الحر، الشفاف، والمستقل...؟
ـ ماذا تقول..؟
ـ آ ...، الإعلام الشفاف ....، جميل، خاصة بغياب سواه، لأن الإعلام الشفاف استطاع أن يصنع مني شبحا ً! والآن يعنيني معرفة من عمل على تشويه سمعتي، فهل أنا فأر، أم أنا ذبابة لا عمل لها سوى الطنين؟
ـ لا...، هذا هو رأي الإعلام غير المقيد، الطليق، الأبيض، المستقيم، أما انأ فمازلت أتنزه في المدخل....
أجاب بتذمر:
ـ سأغلق بوابة الفردوس!
ـ أرجوك، لا تفعل هذا...، فانا لم استمتع بحياتي بعد...، بل أنا حديثة الولادة، ولم أر شيئا ً من الدنيا ..
ـ حسنا ً...، هذا اعتراض مقبول، إن لم يكن لطيفا ً، فالمرونة ستفضي بتوازنات نافعة لنا جميعا ً!
ـ لنا؟
ـ لك ِ أيتها الظبية الناعمة، النحيلة من غير تعجرف، والهيفاء من غير تعنت...، يا صاحبة هذين العينين الساحرتين....، لك ِ ولي ... أنا، أنا الذي لا يشبهني احد والذي لا أشبه أحدا ً!
وسألها بعد لحظة صمت:
ـ الم يصفوني بأنني خرتيت العصر، ووحيده، وقالوا أن صفاتي تجاوزت صفات الديناصورات المنحدرة من الماضي السحيق....، وإنني أؤسس تاريخي من غير تاريخ؟
ـ سيدي، لكثرة صفاتك، وألقابك، وأسماؤك، وعلاماتك التي انتشرت، وذاعت، أصبحت أعظم منها، فهي لا تشبهك إلا لأنها نشأت منك...، فأنت أعظم منها جميعا ً! بل حتى لو رصت ورصفت وجمعت فإنها لا تساوي شيئا ًمما أنت عليه!
ـ ماذا تقصدين بهذا الكلام...؟
ـ سيدي، تستطيع أن تتأكد بنفسك...؟
ـ أنك تطلبين مني أن أغادر البحر؟
ـ لا...، بل أن تشاهد بنفسك ما تبثه الفضائيات، وشبكات التواصل، والإعلام المستقل، النزيه...؟
ـ لا تتندري علي ّ، فانا لست هزأة؟
ـ سيدي، أنا اقبع في باب الفردوس، في فمك المبجل، فهل ثمة مجال للمناورة، أو التندر؟
ـ جيد.
ـ فعندما تصغي إلى حديث يدور بين أي اثنين، من سكان حديقتنا الخالدة، فانك ستعلم انه يدور حولك! فاسمك أصبح خارج الأسماء، مثلما أفعالك خارج الأفعال! لأنك أصبحت خارج التاريخ ما دام الأخير مصيره إلى زوال!
ـ انتبهي....، يا ظبية شاردة الذهن...، فانا لست مغفلا ً...، وأنا لست بحاجة إلى إطراء، أو غواية، أو إلى مدائح.
ـ ليست هذه دعابة، ولا دعاية معادية، بل حقيقة ذهبت ابعد من الحقيقة ذاتها..!
ـ فانا أسطورة إذا ً...؟
ـ ليس أسطورة تماما ً إلا لأنك ذهبت ابعد منها. لأن الأساطير، سيدي، ما أن تبلغ ذروتها، حتى تسقط لتتهشم، وتندثر، كأنها تماثيل صنعت من الصلصال، وليس من المعادن الصلدة!
هز رأسه، فارتجت، وتمايلت، حتى بدت إنها ترقص، لأنها بدت له مثل باقة ورد:
ـ آسف...!
ـ كم أنت رقيق، سيدي، الرمز؟
ـ الرمز؟
ـ آسفة ...، هذه هفوة صنعها الإعلام الطليق، وصاغتها الإرادات الحرة، حيث ذهبت بالأسطورة إلى ذروتها..!
ـ ولكن لماذا الأسف....، مادمنا لا نمتلك الكثير في مواجهة النهاية؟
ـ إلا أنت، سيدي، لا نهاية لنهايتك!
ـ كفى، فانا لشدة يقيني قد اصدق، وقد يتسلل إلي ّ الشك، مادام الأخير لا يثبت اليقين بل يزعزعه!
تجمدت، مصغية إلى صمته. فاخبرها انه لم ينصب كمينا ً لها، لأنها لا تساوي إلا قشة، أو حبة دخن، وانه لم يكن بانتظار أن يعتدي عليها...، فقالت له بالذبذبات إنها هي التي أكدت استحالة حصول العدوان أو الاعتداء:
ـ فانا عندما خرجت في فجر هذا اليوم البارد، ذهبت إلى المحيط، لإقامة الصلاة، وتقديم النذور والقرابين ...
ـ تابعي، فانا بك أبصر البحر..ن وبك أرى السماء!
ـ ثم لمحت بوابة تدعوني للدخول..، فسألت كبير الحراس...، بيت من هذا..؟ فقال: هذا هو بيته!
ـ لم يذكر اسمي؟
ـ سيدي، الم أخبرك باستحالة أن ندعوك بالأسد، أو بالنمر، أو بالدب، أو بالتمساح، أو بالفهد، أو حتى بالثعلب؟
ـ لماذا هذا الاستثناء ؟
شرد ذهنه، فردت بصوت متلعثم:
ـ هذه قضية لا علاقة لها بما نحن فيه، سيدي، دعني ..
ورفع صوته:
ـ فالبرهان يقام عادة على المعادلة كي تكون صحيحة، مثل الأدلة التي ترافق التحقيق في الإجراءات، ومادمت، يا صاحب العظمة، عبرت إلى الضفة الأبعد ...، فهل يصح لأحدنا أن يفعل ذلك. فما معنى أن يحتفل بك البعوض، ويمجدك البرغوث، وتهتف لك الجرذان والقنافذ ..، وهل لخوار الماشية والدواب والزواحف والمنقرضات معنى في إعلاء شأنك، وأنت أعلى من أن تكون عاليا ً؟
ـ انتبهي ...، هذه كيانات لها حصانتها، فلا تشوشي علي ّ...، فانا اعرف ماذا اعمل!
ـ بل قصدت الزواحف كافة، والثدييات، وأصحاب القشور العليا..، من القرود إلى النمل البشري.
ـ اسمعي، مع إنني استمتع بنعومة صوتك ..، وعطر نبضات جسدك، ورقة إشعاعات قلبك، إلا إنني مازلت أكن بالغ المودة حتى للحمير!
ـ ولماذا الحمير...، سيدي!
ـ أنا أيضا ً لا اعرف ...، مع أن وحيد القرن هو الأجدر بهذا المنصب..!
ـ ولماذا وحيد القرن..؟
ـ آ ....، هذا سؤال مهذب: لأن ظاهرة القرون، أو النتواءات، أو الزوائد، أو هذا الذي يستخدم للدفاع عن النفس، أو للمباهاة ...، تحول إلى ما يشبه اليقين. فراح كل من يلمس أعلى رأسه يعتقد انه انأ من أرسله لينفذ أوامري ...، فطغى وتجبر وتكبر...، حتى إن البعض عمل على إزاحتي، أو استبدالي بخرقة، أو بعلامة من علامات الزوال!
ـ وحيد ...، وحيد.
ـ ولهذا أمرت كبير الأطباء، ومنذ زمان، أن يستأصل القرن الأوحد، والأحادي، والواحدي، غير المزدوج، وغير المتعدد الاستخدامات ..، وغير المركب، من اجل حياة بيضاء خالية من القرون!
ـ خالية من القرون، أم خالية من القرن الواحد ..، مع إنني ظبية، وليس غزالا ً...، أنثى ولست ذكرا ً، مع إنني لست متحيزة لأي منهما، لكنني لست خنثا، فانا لست على الحياد؟!
ـ فضلت إزاحتها، بل اقتلاعها، واجتثاثها من اجل أن يأخذ التمييز مجالا ً مهذبا ً يسري على الجميع؛ من النمل المراوغ إلى بنات أوى الماكرات! لأن جدي الأعظم تنبأ بمن يأتي ويحقق المسرة، والسلام.
ـ جميل.
وسألت الظبية نفسها: أهذه نهاية الحكاية أم فاتحتها؟
فقال لها:
ـ وهل تتمكن الطائرة من الهبوط من غير مدرج...؟
ـ ولا تتمكن من الإقلاع من غير مدرج أيضا ً...، مع إن طائرات اليوم تتمتع بمدارج ذاتية! أي، كي لا أربكك، من غير مدارج.
ـ أنا استحدثت المقدمة كي نذهب ابعد منها، من غير صدمات، وتقاطعات...، فأنت الآن لا تمتلكين التصوّر الكامل للمشهد: هل أوقعتك في كمين كي افترسك أم ....؟
صرحت غاضبة:
ـ كلا، كلا، كلا...، سيدي!
ـ إذا ً....، كيف حدث الأمر؟
ـ وأنا ذاهبة إلى البحر للاستحمام، والتطهر، وتقديم النذور...، رأيت بوابة الفردوس تدعوني.....، فهرولت، حتى لم اعد أتذكر أن هناك بوابة أخرى كبوابة المحرقة أو كأبواب الجحيم!
ـ لا يخلو صوتك من غواية!
ـ سيدي، أنا لا أساوي حجم ذبابة، أو فأر...، أو حتى كيان ضفدعة؟
ـ آ ....، لكن لا تشتمي هذه المخلوقات الظريفة، فالأخيرة تنق، طوال الليل والنهار، نقيقا ً كأن لا عمل لها غير التزاوج، والتناسل، والغناء، شبيه بالثيران لا عمل لها غير النز....، والعصافير غير الوثب!
ـ سيدي، نحن في حديقة موقرة، نموذجية، دستورية...، ولسنا في مرقص، أو ملهى، أو في كلجية؟
ـ لا فارق...، دعينا من العلة الأولى!
ـ آ .....، ما أرهفك، حتى ظننت انك تناور!
ـ أنا...، ومع من...؟
ـ لأنك، سيدي، لوحّت لي بذلك...؟
ـ عدنا إلى: من بدأ ...؛ الأقوى أم الأضعف...؟
ـ سيدي، لا احد...، فكلاهما استدرجا إلى المسرح...، لأن الضعيف أبدا ً لا يستطيع أن يقدر مقدار ضعفه، لهذا يظن دائما ً انه هو المنتصر، كي يسحق خصمه...، لكنه سرعان ما يدرك أن عليه تذوق مرارات الهزيمة وويلاتها، إزاء عدم تقديره لقوة العدو!
ـ العدو...؟
ـ هكذا بدأت الحكاية...، بالعداوة، والكراهية، والخصام...، لنرثها ...، ونمضي بها بعيدا ً في الخراب. لأنها موروثات غير قابلة للاستئصال، والاجتثاث، على خلاف البراءة، مثلا ً! لأن أصحاب الرؤوس الخاوية وحدهم يقدرون على تحقيق المكاسب، على حساب العلماء!
ـ أنت ِ حقا ً ظبية إذا ً...؟
ـ ليس لدي ّ قرن!
ـ جميل...، والآن آن لك الإصغاء إلي ّ بعمق....، لأن مصيرك بين فكي ّ!
ـ مع إنني كنت امتلك هذه القدرة...، إلا إنني استطيع قراءة ما تتوخى فرضه علي ّ؟
ـ أنا لا افرض، ولا أمر....، ولا اصدر قرارات، بل آمل أن تنفذي الأمر من غير كراهية، أو إرغام، أو تهديد، أو عداوة!
ـ سيدي...، وعلى من تعتدي...، فانا ساذجة، وبريئة، فانا انتمي إلى أكثر الفصائل أناقة، وخفة، ونعومة!
ـ آ ...، لو أخبرتك ماذا فعلت بي أيتها الساحرة...، فقد كان جمالك يرقد في ّ كما ترقد الحمم في أعماق البركان!
ـ ها أنت تناور؟
ـ إذا ً فأنت هي الغواية....؟
ـ تقصد ... ثمرتها؟
ـ وقد آن لنا أن نعقد صلحا ً...، فلا أنا اعتدي عليك، ولا أنت تلمسين الجمر الخامد في روحي!
ـ دعني إذا ً أجد حديقة أخرى اذهب إليها....، فالحديقة لم تعد صالحة لسكني فيها!
ـ هكذا ...، ببساطة، ادعك تفلتين وكأن شيئا ً لم يحدث؟
ـ اخبرني بماذا تضمر...؟
ارتج جسدها وهي تتأمل أسنانه الأمامية، وخلفها برزت سلسلة من الأنياب، امتدت بعيدا ً في العمق: بوابة النعيم، باب الفردوس! دار بخلدها، فقال لها:
ـ سأسمح لك ِ بالعودة...، وكأنك هربتي مني، وما أن تصلين إلى جناحك، وتلتقين مع صحبك، يكون لك حق التشهير بي...!
صاحت:
ـ أنا لا اعرف الكذب! فعندما ألقيت القبض علي ّ، وطلبت مني أن اعترف...، أخبرتك: أنا لا اعرف شيئا ً...، وقلت لك بوضوح: افعل ما شئت...، وها أنت تفصح عن...
ـ حسنا ً...
لمحت الأسنان تقترب منها، وثمة أخرى من الأعلى تطبق عليها. غاب وعيها، لبرهة، لترى إنها محاصرة برؤوس حادة تحاصرها.
وسمعته يتمتم مع نفسه:
ـ هل اقطعها إلى قطع، أم ادعها تخمد وتهمد وتصعد روحها إلى الغيوم، أم ابتلعها وهي مازالت تتنفس وتحلم بالفرار...، أم ماذا افعل...؟
لتسمعه يخاطبها:
ـ أنا لم اعتد عليك...، فانا لم أغادر مستنقعي...
ـ آ...، نعم، أنا اعتديت عليك...، لأنني اقتربت منك، فابتلعتنني...، أليس هذا هو قصدك؟
ـ لا!
ـ لا تدعني أغادر فأنجو ...، ولا تبتلعني فأموت...، فماذا تريد مني..؟
ـ أريدك ِ أن تعودي إلى جناح الغزلان، وتتحدثين عن الحقيقة؟
ـ سأفعل..، سأقول إنني رأيت بوابة الفردوس حسب!
ـ جيد...، ولكن ماذا لو سألوك: لماذا هربتي من الفردوس...، فماذا ستقولين...؟
لم تجد الإجابة، رغم انه سحب أسنانه حتى اختفت، وصارت تجلس فوق بساط رقيق، ناعم الملمس، وقد وجدت من يناولها حزمة من العشب، بدت لها طرية، وآخر يقدم لها الماء بإناء من فخار...، فدار رأسها: ماذا يحدث لي، وأين أنا؟ ربما يكون قد ابتلعني، وأنا الآن استيقظ في العالم الآخر؟
كرر السؤال عليها، فقالت مع نفسها: أم ربما أنا مازلت في مغارتي، مع أفراد عائلتي، بجوار الزرائب، والجحور، والحظائر....، مع الماشية، والدواب، والقطيع ....، ترعى طليقة في البرية، فلا ذئاب ولا ضباع ولا كلاب؟
ـ لا تحلمي...! فالحلم شبيه بمن يرى الذي لا وجود له! انه يمنحك متعة الأفيون التي تفضي إلى الخمول، والسبات، والموت!
ـ أأحلم ....، سيدي أنا لا احلم!
ـ إذا ً لا تترددي في اتخاذ القرار الصائب...، فمن لا يفعل ذلك لا يجني سوى الخسران، والندم. وأنا لا أريد لك إلا الاستمتاع بعمرك الجميل!
ـ لن افعل ...، لن افعل، سيدي، لن أتردد.
ـ ولا تخافي من الخوف، فالأخير يسلبك صحتك، واستقرارك، ويشوش عليه رؤيتك!
ـ لن افعل، سيدي، لن أخاف، وهل هناك أسباب للخوف، وأنا اعمل بمعية هذا العملاق، سيدي!
ـ ولا تدعي الظنون تنهشك....، لتورثك السقم، وفقدان الشهية، وسهر الليالي.
ـ لن افعل، لن افعل سيدي...، فالشك يزعزع اليقين.
ـ والآن...، ماذا ستقولين لصحبك، أبناء جلدتك...، شعبك الطيب الغاطس في الوحل...؟
ـ آ ...، أيها الزعيم الخالد....، سأقول لهم: أنا لن افعل ذلك من أجل حياتكم الفانية..!
ـ وماذا لو سألوك: من اجل ماذا تفعلين؟
ـ سأقول أنا افعل ذلك من اجل أن يدخلوا جميعا ً الفردوس، فلا وحل ولا مستنقعات، لا حفر ولا ثقوب، لا عثرات ولا قهر، لا ظلمات ولا علل....، ففي الفردوس تنعدم المنغصات، وتغيب الذنوب، فلا كد، لا عمل، ولا جوع، ولا أمراض! ففي الفردوس ستتذوقون لذّة الرفاهية، ونعيم الهواء الشفاف! فهيا أيها القطيع تعالوا معي للخلاص من القحط، والضيم، من الفقر والخوف، من الذل والاستبداد!
أجاب بصوت هادئ، وقور:
ـ كنت اعرف انك، أيتها الظبية الجميلة، لن تهدري فرصة عفوي، وسماحتي، ومرونتي، وحلمي معك!
ـ لا...، كيف افعل ذلك...، وأنت لم تسمح لي إلا برؤية باب الفردوس...، فماذا هناك، في الداخل، وفي الأعماق...؟
أجاب بتوتر، بصوت لا يخلو من التوتر:
ـ أتتندرين...؟
ـ وهل امتلك قدرة التندر...، هل أبقيتها لي، كي اعرف ماذا أقول؟
ـ ما ـ هو ـ قصدك أيتها الماكرة....، إذا ً...؟
ـ دعني أجد قليلا ً من الهواء، كي امسك بصوتي، فانا اختنق. دعني أرى الضوء كي لا يغيب عقلي، دعني استيقظ كي لا اذهب بعيدا ً في الوهم!
لكنها لم تعد تسمع صوته، إلا بعد أن أفاقت، وسألت نفسها: أين أنا...؟
فسمعته يخاطبها:
ـ أنت في الباب...، في المدخل...!
ـ آ ....، أنا مازلت على قيد الحياة، أي أنا لم أمت، ولم اصعد إلى الأعالي، ولم انزل إلى العالم الذي لم يرجع منه احد...؟
ـ يا مجنونة! أنا سأطلق سراحك، وأعتقك، كي تكوني حرة من الأحرار.....!
ـ أتفعل ذلك حقا ً، ومن غير ثمن...؟
ـ سأفعل ذلك من غير ثمن...، فانا لا اكذب أيضا ً!
ـ آ ....، كلانا لا يعرف التمويه، ولا يعرف الغش، لا يزور ولا يرائي، لا يمارس الخديعة ويتجنب الأفعال الخسيسة، ، لا يخون ولا يفسق....، لأننا بالأحرى لا نقدر على ارتكاب الذنوب، والمعاصي، والآثام. آ ...، ما أشجعك، وأكثرك نبلا ً، ما أجملك وأكملك صورة، وما أعظمك رقة، ورحمة، وعدلا ً!
وأضافت بصوت أعلى:
ـ ولكن هل أدركت كم كنت صادقة...، ليس معك، بل مع نفسي؟
ـ هذا وحده لا اشك فيه...، مع إنني بحاجة إلى برهان ملموس يستدعي الإثبات! فالأعمال ليس بالنوايا، بل بالأفعال!
ـ وهل ظبية، مثلي، هي التي تأتيك بالبرهان...، ثم كيف تريد مني أن اصدق انك على صواب، وانك من الصادقين؟
ـ عدنا إلى العداوة الأولى...، عدنا إلى الجرثومة!
فقالت بصوت لا يخلو من الخوف ومن الغضب أيضا ً:
ـ أصغ إلي ّ جيدا ً: لا أنت عدوي...، ولا أنا عدوتك، لا أنت تكرهني ولا أنا أكرهك...، لا أنت تبغضني ولا أنا أبغضك....، لكن، يا سيدي، لا أنت تتركني اذهب طليقة، ولا أنا ساجد حديقة خارج سلطتك! فعندما تريثت في ابتلاعي، وافتراسي، وقتلي، تريثت بحجة إنني اعتديت على مستنقعك، في هذه الحديقة، فانك كنت تفكر أن اعمل لصالح أهلي، وصحبي، وأبناء عمومتي، مع إنني اعرف انك لن تؤذيني، بل ستهبني كل ما حلمت به، طوال حياتي، عدا أن أكون صادقة، أمينة، مخلصة، وفية، مع أهلي، وشعبي الطيب المسكين! فهل حقا ً لنصرك علي ّ معنى.....، وهل لعدم خيانتي بطولة، أم إنها الحقيقة التي لا أنت تستطيع التخلي عنها، ولا أنا استطيع تجنب مضارها....؟ فأنت خلقت مفترسا ً، متوحشا ً، وأنا ليس لدي ّ إلا مسافة الهرب، والهزيمة ....، فان هربت اليوم، منك، فأين سأذهب منك غدا ً...؟ إنها الحكاية التي نرويها قبل أن تتكون في الحناجر، لأنها سابقة علينا، وليس من المؤكد، حتى لو دخلنا في فردوسك، أيها السيد العظيم، لا نجد من يطردنا منه، كي ندخل بوابة المحرقة، ونحرق، نشوى، ثم يذر رمادنا، مرة بعد أخرى، مع الريح!
ـ آ .....، لو كنت اعرف من أغواني بصيدك، ومن أوقعك في كميني....، لما فعلتها أبدا ً...! فانا نفسي لم أكن ارغب أن أؤذي من لم يؤذني، عدا إنني اعرف إنني لست المذنب الوحيد....، فهل حقا ً كنت ِ تجهلين البراكين التي ما انفكت تتكون داخل هذا الجحيم....؟!
14/4/2015
خواطر ظبية عند بوابة الجحيم
عادل كامل
قالوا انه استحدث من العدم، وقالوا انه استورد من كوكب أخر غير كوكب الأرض، وانه لا ينتمي إلى المجموعة الشمسية، وقالوا انه هو الذي صنع نفسه، وهو الذي اخترعها، وقالوا انه ليس إلا وهما ً، وقيل انه ليس إلا مخلوقا ً افتراضيا ً، بحدود ما يدور في الخيال الجمعي، أو عبر الأساطير، ولكن أكثر الوقائع تشير إلى أن حجمه، وتكوينه، هيأته، لا مثيل لها مع مخلوقات القارات التي مازالت تشتهر بالإشكال ذاتها، أو الشبيهة به، كالتماسيح، والخراتيت، والديناصورات، والزواحف الأخرى. وقد أثارت هذه الأقاويل لغطا ً حول نشأته، وما قبلها، بحجة عدم وجود حياة أصلا ً بإمكانها أن تذهب ابعد مما هي عليه، أو بسبب إشاعات أصبحت مدعمة بالوثائق تؤكد إن أموالا ً كبيرة أنفقت من اجل اقتنائه، وتربيته، والعناية به حتى لم تعد للإشاعات قيمة تذكر، أو اثر للتداول حول هيبته، ومكانته، وموقعه بين كائنات الحديقة.
أتراه فكر بالضجة التي أحدثها، وجعلت منه أكثر شهرة من الجميع، ومتميزا ً بالرعاية، والعناية الاستثنائية، وقد غدا مشهورا ً، وعلما ً نادرا ً، خارج نطاق الحديقة، حد استحالة مقارنته بالمخلوقات الأخرى، كالأسود، والنمور، والتماسيح، والحيتان والزرافات، والماموثات، والثيران الوحشية، وأفراس المستنقعات، والأفاعي ذات الأبواق، والحيتان الحلزونية، والسحالي المتعددة الرؤوس والطيور البرمائية.... الخ...، دار بخلد الظبية، وهي تجلس القرفصاء، مكورة جسدها النحيل، داخل فمه الكبير:
ـ فأنت، يا سيدي، لا تنوي ابتلاعي...؟
ذلك لأنها فكرت انه لا ينوي تعذيبها أيضا ً، قبل أن يغلق فمه، رغم انه هدأ من روعها، ملوحا ً لها بأنه قد يمزقها، ويقطعها إلى أجزاء، قبل أن يسحقها، ويطحنها، كي يبتلعها دفعة واحدة. فكادت تصرخ، وتستغيث، لولا إن قواها كانت قد خارت، ولم تعد تتمكن إلا من محاولة استرضائه، ليرحمها، ويعفو، ويغفر لها، ويتركها في حال سبيلها، فتمتم بمرح لا إسراف فيه:
ـ هذا ما كنت أود سماعه منك ِ، أيتها النحيلة كثمرة يانعة!
ردت بصوت مذعور:
ـ دعنا الآن من الكمين الذي أوقعتني فيه...، ودعنا من غفلتي، ودعنا لا نتحدث عن انتشار الخبر، الذي يسيء إلى سمعتك، وشخصك...، فانا سأعترف بأنني انأ التي اختارت الجلوس في هذا الفم الجبار...، سأعترف، عبر وساءل الإعلام كافة، مباشرة، من غير رتوش، أو تملق...، بأنني كنت أقوم بنزهة، للمتعة، والاسترخاء، والاكتشاف....
فقال لها بالصوت المرح نفسه:
ـ لا مجال للمزيد من المناورة...، فأنت الآن جزء من أجزاء ثروتي!
اعترضت وهي ترتجف:
ـ سيدي الشبيه بالديناصورات التي تحدت إبادتها، وامتد زمن مجدها حتى يومنا هذا...
تململ، فاهتز جسدها، بعد أن حرك فكه الأسفل، وتمايلت، وكادت تسقط بعيدا ً عن حافة فمه:
ـ لا تفعل هذا أرجوك.
أجاب:
ـ أنا لا أشبه أحدا ً، أنا أشبه نفسي! بالأحرى نفسي وحدها هي التي تشبهني!
ـ آ ....، اجل، هذا صحيح، بحسب احدث النظريات، فأنت لا تشبه أحدا ً!
ـ بل أشبه نفسي ونفسي تشبهني!
ـ صحيح فانك لا تختلف عن نفسك، ولا نفسك تختلف عنك!
ـ هل هذا يعني إنني هبطت من كوكب يقال إنني لا أساوي فيه حجم فار من فئران هذه الحديقة، ولا ذبابة من ذبابها.....؟
ـ من قال هذا أيها الكائن الذي لا يختلف عن نفسه، ولا تختلف نفسه عنه؟
ـ المواقع الاجتماعية، والشبكات العنكبوتية، والإعلام الحر، الشفاف، والمستقل...؟
ـ ماذا تقول..؟
ـ آ ...، الإعلام الشفاف ....، جميل، خاصة بغياب سواه، لأن الإعلام الشفاف استطاع أن يصنع مني شبحا ً! والآن يعنيني معرفة من عمل على تشويه سمعتي، فهل أنا فأر، أم أنا ذبابة لا عمل لها سوى الطنين؟
ـ لا...، هذا هو رأي الإعلام غير المقيد، الطليق، الأبيض، المستقيم، أما انأ فمازلت أتنزه في المدخل....
أجاب بتذمر:
ـ سأغلق بوابة الفردوس!
ـ أرجوك، لا تفعل هذا...، فانا لم استمتع بحياتي بعد...، بل أنا حديثة الولادة، ولم أر شيئا ً من الدنيا ..
ـ حسنا ً...، هذا اعتراض مقبول، إن لم يكن لطيفا ً، فالمرونة ستفضي بتوازنات نافعة لنا جميعا ً!
ـ لنا؟
ـ لك ِ أيتها الظبية الناعمة، النحيلة من غير تعجرف، والهيفاء من غير تعنت...، يا صاحبة هذين العينين الساحرتين....، لك ِ ولي ... أنا، أنا الذي لا يشبهني احد والذي لا أشبه أحدا ً!
وسألها بعد لحظة صمت:
ـ الم يصفوني بأنني خرتيت العصر، ووحيده، وقالوا أن صفاتي تجاوزت صفات الديناصورات المنحدرة من الماضي السحيق....، وإنني أؤسس تاريخي من غير تاريخ؟
ـ سيدي، لكثرة صفاتك، وألقابك، وأسماؤك، وعلاماتك التي انتشرت، وذاعت، أصبحت أعظم منها، فهي لا تشبهك إلا لأنها نشأت منك...، فأنت أعظم منها جميعا ً! بل حتى لو رصت ورصفت وجمعت فإنها لا تساوي شيئا ًمما أنت عليه!
ـ ماذا تقصدين بهذا الكلام...؟
ـ سيدي، تستطيع أن تتأكد بنفسك...؟
ـ أنك تطلبين مني أن أغادر البحر؟
ـ لا...، بل أن تشاهد بنفسك ما تبثه الفضائيات، وشبكات التواصل، والإعلام المستقل، النزيه...؟
ـ لا تتندري علي ّ، فانا لست هزأة؟
ـ سيدي، أنا اقبع في باب الفردوس، في فمك المبجل، فهل ثمة مجال للمناورة، أو التندر؟
ـ جيد.
ـ فعندما تصغي إلى حديث يدور بين أي اثنين، من سكان حديقتنا الخالدة، فانك ستعلم انه يدور حولك! فاسمك أصبح خارج الأسماء، مثلما أفعالك خارج الأفعال! لأنك أصبحت خارج التاريخ ما دام الأخير مصيره إلى زوال!
ـ انتبهي....، يا ظبية شاردة الذهن...، فانا لست مغفلا ً...، وأنا لست بحاجة إلى إطراء، أو غواية، أو إلى مدائح.
ـ ليست هذه دعابة، ولا دعاية معادية، بل حقيقة ذهبت ابعد من الحقيقة ذاتها..!
ـ فانا أسطورة إذا ً...؟
ـ ليس أسطورة تماما ً إلا لأنك ذهبت ابعد منها. لأن الأساطير، سيدي، ما أن تبلغ ذروتها، حتى تسقط لتتهشم، وتندثر، كأنها تماثيل صنعت من الصلصال، وليس من المعادن الصلدة!
هز رأسه، فارتجت، وتمايلت، حتى بدت إنها ترقص، لأنها بدت له مثل باقة ورد:
ـ آسف...!
ـ كم أنت رقيق، سيدي، الرمز؟
ـ الرمز؟
ـ آسفة ...، هذه هفوة صنعها الإعلام الطليق، وصاغتها الإرادات الحرة، حيث ذهبت بالأسطورة إلى ذروتها..!
ـ ولكن لماذا الأسف....، مادمنا لا نمتلك الكثير في مواجهة النهاية؟
ـ إلا أنت، سيدي، لا نهاية لنهايتك!
ـ كفى، فانا لشدة يقيني قد اصدق، وقد يتسلل إلي ّ الشك، مادام الأخير لا يثبت اليقين بل يزعزعه!
تجمدت، مصغية إلى صمته. فاخبرها انه لم ينصب كمينا ً لها، لأنها لا تساوي إلا قشة، أو حبة دخن، وانه لم يكن بانتظار أن يعتدي عليها...، فقالت له بالذبذبات إنها هي التي أكدت استحالة حصول العدوان أو الاعتداء:
ـ فانا عندما خرجت في فجر هذا اليوم البارد، ذهبت إلى المحيط، لإقامة الصلاة، وتقديم النذور والقرابين ...
ـ تابعي، فانا بك أبصر البحر..ن وبك أرى السماء!
ـ ثم لمحت بوابة تدعوني للدخول..، فسألت كبير الحراس...، بيت من هذا..؟ فقال: هذا هو بيته!
ـ لم يذكر اسمي؟
ـ سيدي، الم أخبرك باستحالة أن ندعوك بالأسد، أو بالنمر، أو بالدب، أو بالتمساح، أو بالفهد، أو حتى بالثعلب؟
ـ لماذا هذا الاستثناء ؟
شرد ذهنه، فردت بصوت متلعثم:
ـ هذه قضية لا علاقة لها بما نحن فيه، سيدي، دعني ..
ورفع صوته:
ـ فالبرهان يقام عادة على المعادلة كي تكون صحيحة، مثل الأدلة التي ترافق التحقيق في الإجراءات، ومادمت، يا صاحب العظمة، عبرت إلى الضفة الأبعد ...، فهل يصح لأحدنا أن يفعل ذلك. فما معنى أن يحتفل بك البعوض، ويمجدك البرغوث، وتهتف لك الجرذان والقنافذ ..، وهل لخوار الماشية والدواب والزواحف والمنقرضات معنى في إعلاء شأنك، وأنت أعلى من أن تكون عاليا ً؟
ـ انتبهي ...، هذه كيانات لها حصانتها، فلا تشوشي علي ّ...، فانا اعرف ماذا اعمل!
ـ بل قصدت الزواحف كافة، والثدييات، وأصحاب القشور العليا..، من القرود إلى النمل البشري.
ـ اسمعي، مع إنني استمتع بنعومة صوتك ..، وعطر نبضات جسدك، ورقة إشعاعات قلبك، إلا إنني مازلت أكن بالغ المودة حتى للحمير!
ـ ولماذا الحمير...، سيدي!
ـ أنا أيضا ً لا اعرف ...، مع أن وحيد القرن هو الأجدر بهذا المنصب..!
ـ ولماذا وحيد القرن..؟
ـ آ ....، هذا سؤال مهذب: لأن ظاهرة القرون، أو النتواءات، أو الزوائد، أو هذا الذي يستخدم للدفاع عن النفس، أو للمباهاة ...، تحول إلى ما يشبه اليقين. فراح كل من يلمس أعلى رأسه يعتقد انه انأ من أرسله لينفذ أوامري ...، فطغى وتجبر وتكبر...، حتى إن البعض عمل على إزاحتي، أو استبدالي بخرقة، أو بعلامة من علامات الزوال!
ـ وحيد ...، وحيد.
ـ ولهذا أمرت كبير الأطباء، ومنذ زمان، أن يستأصل القرن الأوحد، والأحادي، والواحدي، غير المزدوج، وغير المتعدد الاستخدامات ..، وغير المركب، من اجل حياة بيضاء خالية من القرون!
ـ خالية من القرون، أم خالية من القرن الواحد ..، مع إنني ظبية، وليس غزالا ً...، أنثى ولست ذكرا ً، مع إنني لست متحيزة لأي منهما، لكنني لست خنثا، فانا لست على الحياد؟!
ـ فضلت إزاحتها، بل اقتلاعها، واجتثاثها من اجل أن يأخذ التمييز مجالا ً مهذبا ً يسري على الجميع؛ من النمل المراوغ إلى بنات أوى الماكرات! لأن جدي الأعظم تنبأ بمن يأتي ويحقق المسرة، والسلام.
ـ جميل.
وسألت الظبية نفسها: أهذه نهاية الحكاية أم فاتحتها؟
فقال لها:
ـ وهل تتمكن الطائرة من الهبوط من غير مدرج...؟
ـ ولا تتمكن من الإقلاع من غير مدرج أيضا ً...، مع إن طائرات اليوم تتمتع بمدارج ذاتية! أي، كي لا أربكك، من غير مدارج.
ـ أنا استحدثت المقدمة كي نذهب ابعد منها، من غير صدمات، وتقاطعات...، فأنت الآن لا تمتلكين التصوّر الكامل للمشهد: هل أوقعتك في كمين كي افترسك أم ....؟
صرحت غاضبة:
ـ كلا، كلا، كلا...، سيدي!
ـ إذا ً....، كيف حدث الأمر؟
ـ وأنا ذاهبة إلى البحر للاستحمام، والتطهر، وتقديم النذور...، رأيت بوابة الفردوس تدعوني.....، فهرولت، حتى لم اعد أتذكر أن هناك بوابة أخرى كبوابة المحرقة أو كأبواب الجحيم!
ـ لا يخلو صوتك من غواية!
ـ سيدي، أنا لا أساوي حجم ذبابة، أو فأر...، أو حتى كيان ضفدعة؟
ـ آ ....، لكن لا تشتمي هذه المخلوقات الظريفة، فالأخيرة تنق، طوال الليل والنهار، نقيقا ً كأن لا عمل لها غير التزاوج، والتناسل، والغناء، شبيه بالثيران لا عمل لها غير النز....، والعصافير غير الوثب!
ـ سيدي، نحن في حديقة موقرة، نموذجية، دستورية...، ولسنا في مرقص، أو ملهى، أو في كلجية؟
ـ لا فارق...، دعينا من العلة الأولى!
ـ آ .....، ما أرهفك، حتى ظننت انك تناور!
ـ أنا...، ومع من...؟
ـ لأنك، سيدي، لوحّت لي بذلك...؟
ـ عدنا إلى: من بدأ ...؛ الأقوى أم الأضعف...؟
ـ سيدي، لا احد...، فكلاهما استدرجا إلى المسرح...، لأن الضعيف أبدا ً لا يستطيع أن يقدر مقدار ضعفه، لهذا يظن دائما ً انه هو المنتصر، كي يسحق خصمه...، لكنه سرعان ما يدرك أن عليه تذوق مرارات الهزيمة وويلاتها، إزاء عدم تقديره لقوة العدو!
ـ العدو...؟
ـ هكذا بدأت الحكاية...، بالعداوة، والكراهية، والخصام...، لنرثها ...، ونمضي بها بعيدا ً في الخراب. لأنها موروثات غير قابلة للاستئصال، والاجتثاث، على خلاف البراءة، مثلا ً! لأن أصحاب الرؤوس الخاوية وحدهم يقدرون على تحقيق المكاسب، على حساب العلماء!
ـ أنت ِ حقا ً ظبية إذا ً...؟
ـ ليس لدي ّ قرن!
ـ جميل...، والآن آن لك الإصغاء إلي ّ بعمق....، لأن مصيرك بين فكي ّ!
ـ مع إنني كنت امتلك هذه القدرة...، إلا إنني استطيع قراءة ما تتوخى فرضه علي ّ؟
ـ أنا لا افرض، ولا أمر....، ولا اصدر قرارات، بل آمل أن تنفذي الأمر من غير كراهية، أو إرغام، أو تهديد، أو عداوة!
ـ سيدي...، وعلى من تعتدي...، فانا ساذجة، وبريئة، فانا انتمي إلى أكثر الفصائل أناقة، وخفة، ونعومة!
ـ آ ...، لو أخبرتك ماذا فعلت بي أيتها الساحرة...، فقد كان جمالك يرقد في ّ كما ترقد الحمم في أعماق البركان!
ـ ها أنت تناور؟
ـ إذا ً فأنت هي الغواية....؟
ـ تقصد ... ثمرتها؟
ـ وقد آن لنا أن نعقد صلحا ً...، فلا أنا اعتدي عليك، ولا أنت تلمسين الجمر الخامد في روحي!
ـ دعني إذا ً أجد حديقة أخرى اذهب إليها....، فالحديقة لم تعد صالحة لسكني فيها!
ـ هكذا ...، ببساطة، ادعك تفلتين وكأن شيئا ً لم يحدث؟
ـ اخبرني بماذا تضمر...؟
ارتج جسدها وهي تتأمل أسنانه الأمامية، وخلفها برزت سلسلة من الأنياب، امتدت بعيدا ً في العمق: بوابة النعيم، باب الفردوس! دار بخلدها، فقال لها:
ـ سأسمح لك ِ بالعودة...، وكأنك هربتي مني، وما أن تصلين إلى جناحك، وتلتقين مع صحبك، يكون لك حق التشهير بي...!
صاحت:
ـ أنا لا اعرف الكذب! فعندما ألقيت القبض علي ّ، وطلبت مني أن اعترف...، أخبرتك: أنا لا اعرف شيئا ً...، وقلت لك بوضوح: افعل ما شئت...، وها أنت تفصح عن...
ـ حسنا ً...
لمحت الأسنان تقترب منها، وثمة أخرى من الأعلى تطبق عليها. غاب وعيها، لبرهة، لترى إنها محاصرة برؤوس حادة تحاصرها.
وسمعته يتمتم مع نفسه:
ـ هل اقطعها إلى قطع، أم ادعها تخمد وتهمد وتصعد روحها إلى الغيوم، أم ابتلعها وهي مازالت تتنفس وتحلم بالفرار...، أم ماذا افعل...؟
لتسمعه يخاطبها:
ـ أنا لم اعتد عليك...، فانا لم أغادر مستنقعي...
ـ آ...، نعم، أنا اعتديت عليك...، لأنني اقتربت منك، فابتلعتنني...، أليس هذا هو قصدك؟
ـ لا!
ـ لا تدعني أغادر فأنجو ...، ولا تبتلعني فأموت...، فماذا تريد مني..؟
ـ أريدك ِ أن تعودي إلى جناح الغزلان، وتتحدثين عن الحقيقة؟
ـ سأفعل..، سأقول إنني رأيت بوابة الفردوس حسب!
ـ جيد...، ولكن ماذا لو سألوك: لماذا هربتي من الفردوس...، فماذا ستقولين...؟
لم تجد الإجابة، رغم انه سحب أسنانه حتى اختفت، وصارت تجلس فوق بساط رقيق، ناعم الملمس، وقد وجدت من يناولها حزمة من العشب، بدت لها طرية، وآخر يقدم لها الماء بإناء من فخار...، فدار رأسها: ماذا يحدث لي، وأين أنا؟ ربما يكون قد ابتلعني، وأنا الآن استيقظ في العالم الآخر؟
كرر السؤال عليها، فقالت مع نفسها: أم ربما أنا مازلت في مغارتي، مع أفراد عائلتي، بجوار الزرائب، والجحور، والحظائر....، مع الماشية، والدواب، والقطيع ....، ترعى طليقة في البرية، فلا ذئاب ولا ضباع ولا كلاب؟
ـ لا تحلمي...! فالحلم شبيه بمن يرى الذي لا وجود له! انه يمنحك متعة الأفيون التي تفضي إلى الخمول، والسبات، والموت!
ـ أأحلم ....، سيدي أنا لا احلم!
ـ إذا ً لا تترددي في اتخاذ القرار الصائب...، فمن لا يفعل ذلك لا يجني سوى الخسران، والندم. وأنا لا أريد لك إلا الاستمتاع بعمرك الجميل!
ـ لن افعل ...، لن افعل، سيدي، لن أتردد.
ـ ولا تخافي من الخوف، فالأخير يسلبك صحتك، واستقرارك، ويشوش عليه رؤيتك!
ـ لن افعل، سيدي، لن أخاف، وهل هناك أسباب للخوف، وأنا اعمل بمعية هذا العملاق، سيدي!
ـ ولا تدعي الظنون تنهشك....، لتورثك السقم، وفقدان الشهية، وسهر الليالي.
ـ لن افعل، لن افعل سيدي...، فالشك يزعزع اليقين.
ـ والآن...، ماذا ستقولين لصحبك، أبناء جلدتك...، شعبك الطيب الغاطس في الوحل...؟
ـ آ ...، أيها الزعيم الخالد....، سأقول لهم: أنا لن افعل ذلك من أجل حياتكم الفانية..!
ـ وماذا لو سألوك: من اجل ماذا تفعلين؟
ـ سأقول أنا افعل ذلك من اجل أن يدخلوا جميعا ً الفردوس، فلا وحل ولا مستنقعات، لا حفر ولا ثقوب، لا عثرات ولا قهر، لا ظلمات ولا علل....، ففي الفردوس تنعدم المنغصات، وتغيب الذنوب، فلا كد، لا عمل، ولا جوع، ولا أمراض! ففي الفردوس ستتذوقون لذّة الرفاهية، ونعيم الهواء الشفاف! فهيا أيها القطيع تعالوا معي للخلاص من القحط، والضيم، من الفقر والخوف، من الذل والاستبداد!
أجاب بصوت هادئ، وقور:
ـ كنت اعرف انك، أيتها الظبية الجميلة، لن تهدري فرصة عفوي، وسماحتي، ومرونتي، وحلمي معك!
ـ لا...، كيف افعل ذلك...، وأنت لم تسمح لي إلا برؤية باب الفردوس...، فماذا هناك، في الداخل، وفي الأعماق...؟
أجاب بتوتر، بصوت لا يخلو من التوتر:
ـ أتتندرين...؟
ـ وهل امتلك قدرة التندر...، هل أبقيتها لي، كي اعرف ماذا أقول؟
ـ ما ـ هو ـ قصدك أيتها الماكرة....، إذا ً...؟
ـ دعني أجد قليلا ً من الهواء، كي امسك بصوتي، فانا اختنق. دعني أرى الضوء كي لا يغيب عقلي، دعني استيقظ كي لا اذهب بعيدا ً في الوهم!
لكنها لم تعد تسمع صوته، إلا بعد أن أفاقت، وسألت نفسها: أين أنا...؟
فسمعته يخاطبها:
ـ أنت في الباب...، في المدخل...!
ـ آ ....، أنا مازلت على قيد الحياة، أي أنا لم أمت، ولم اصعد إلى الأعالي، ولم انزل إلى العالم الذي لم يرجع منه احد...؟
ـ يا مجنونة! أنا سأطلق سراحك، وأعتقك، كي تكوني حرة من الأحرار.....!
ـ أتفعل ذلك حقا ً، ومن غير ثمن...؟
ـ سأفعل ذلك من غير ثمن...، فانا لا اكذب أيضا ً!
ـ آ ....، كلانا لا يعرف التمويه، ولا يعرف الغش، لا يزور ولا يرائي، لا يمارس الخديعة ويتجنب الأفعال الخسيسة، ، لا يخون ولا يفسق....، لأننا بالأحرى لا نقدر على ارتكاب الذنوب، والمعاصي، والآثام. آ ...، ما أشجعك، وأكثرك نبلا ً، ما أجملك وأكملك صورة، وما أعظمك رقة، ورحمة، وعدلا ً!
وأضافت بصوت أعلى:
ـ ولكن هل أدركت كم كنت صادقة...، ليس معك، بل مع نفسي؟
ـ هذا وحده لا اشك فيه...، مع إنني بحاجة إلى برهان ملموس يستدعي الإثبات! فالأعمال ليس بالنوايا، بل بالأفعال!
ـ وهل ظبية، مثلي، هي التي تأتيك بالبرهان...، ثم كيف تريد مني أن اصدق انك على صواب، وانك من الصادقين؟
ـ عدنا إلى العداوة الأولى...، عدنا إلى الجرثومة!
فقالت بصوت لا يخلو من الخوف ومن الغضب أيضا ً:
ـ أصغ إلي ّ جيدا ً: لا أنت عدوي...، ولا أنا عدوتك، لا أنت تكرهني ولا أنا أكرهك...، لا أنت تبغضني ولا أنا أبغضك....، لكن، يا سيدي، لا أنت تتركني اذهب طليقة، ولا أنا ساجد حديقة خارج سلطتك! فعندما تريثت في ابتلاعي، وافتراسي، وقتلي، تريثت بحجة إنني اعتديت على مستنقعك، في هذه الحديقة، فانك كنت تفكر أن اعمل لصالح أهلي، وصحبي، وأبناء عمومتي، مع إنني اعرف انك لن تؤذيني، بل ستهبني كل ما حلمت به، طوال حياتي، عدا أن أكون صادقة، أمينة، مخلصة، وفية، مع أهلي، وشعبي الطيب المسكين! فهل حقا ً لنصرك علي ّ معنى.....، وهل لعدم خيانتي بطولة، أم إنها الحقيقة التي لا أنت تستطيع التخلي عنها، ولا أنا استطيع تجنب مضارها....؟ فأنت خلقت مفترسا ً، متوحشا ً، وأنا ليس لدي ّ إلا مسافة الهرب، والهزيمة ....، فان هربت اليوم، منك، فأين سأذهب منك غدا ً...؟ إنها الحكاية التي نرويها قبل أن تتكون في الحناجر، لأنها سابقة علينا، وليس من المؤكد، حتى لو دخلنا في فردوسك، أيها السيد العظيم، لا نجد من يطردنا منه، كي ندخل بوابة المحرقة، ونحرق، نشوى، ثم يذر رمادنا، مرة بعد أخرى، مع الريح!
ـ آ .....، لو كنت اعرف من أغواني بصيدك، ومن أوقعك في كميني....، لما فعلتها أبدا ً...! فانا نفسي لم أكن ارغب أن أؤذي من لم يؤذني، عدا إنني اعرف إنني لست المذنب الوحيد....، فهل حقا ً كنت ِ تجهلين البراكين التي ما انفكت تتكون داخل هذا الجحيم....؟!
14/4/2015
رسائل إلى حبيبة في المنفى -جميل ابراهيم
* مسافر إليك ... مسافر إلى أرضك الخصبة ، محملاً بالشوق والدموع ... أجدك في كل لحظة ... بين أشيائي وحاجياتي ، وفي دقات جرس الهاتف ، وبين نسيم الصبح ، وفي الأغنية التي أحبها ، وفي عطر الوردة التي أشمها ، وبين سطور ما أقرأ وأكتب ... أجدك في وجه أمي ، وأختي ، وابنتي ... أهذي عنك : في هذا الوقت تنام ، وفي تلك الساعة تصحو ، وعلى هذه الأريكة تجلس ، وعلى تلك الأنغام تستمع ... فما أروع وجهك الصبوح ، حين يلوح لي غصن زيتون ، وما أحزنني عندما تغادرين ... بدونك أكون نهر ، تحترق في جوفه المياه ، والعالم يضيق بخطواتي باحثاً عنك في كل مكان .. في الطريق تذكرني بك الوردة والعصفور ، وأغاني الربيع ... ويمر صمتي كالحجر ، وبلهفة الشوق قلبي يعتصر ... ما معنى ؟ أن تقفي في الضفاف البعيدة ، وأنا أنتظر ؟ وفي داخلي تتقد جمرات الشوق ، يعذبني الحنين ... وما السبيل إلى نسيانك ؟ وأحلامي عنك تتجدد ، وهل من إنسان عاقل قادر أن ينسى أو يهجر الحياة ؟ ..قبل أن أعرفك : كنت كالحيوان البري ، لم أأنس الوجود ، متوحش ، أجوب البراري والطرق البعيدة والغابات ، فيا أنت : التي ولدت خارج زمانها ؟ كيف لي أن اصبر ؟ ومنك تعلمت الحضور ، ومغازلة الوردة ، والمحاورة بالكلام .. فأنت التي تذوب في عينيك القصائد والكلمات ... أبحث عنك وراء سبعة بحار ، ومن بين الحرائق الشاسعة في الأرض .. أريدك ... أريدك ، فأنا القادم إليك ، لقد مزقتني الشوارع وطرقاتها المبتلة بالدموع أينما أتجه تصير الأماكن أنت ، ولا شيء يطيب لي إلا حضورك ، فأنت أرضي وسمائي ، فمن أجلك أقصيت الأحبة ، وفي مرساك أحرقت ما مضى ...
هذا أنا : بدونك تذرني والعواصف ، ضباب كل ما في الدنيا إلا أسمك .. ومن بعدك : أيوجد طريقاً معبداً إلى غيرك ؟
حين يضيق بيّ السبل ، تدور في ذهني أسئلة السنين ، وقحط الأيام ، وأنا أسأل عنك ، وعن الحياة ، وعن المصير ، في هذا الزمن التي تجردت نفوسنا من كل بهجة وفرح ، وأكتوى عالمنا الذي كان آمناً بسطوة الموت وإرهاب المفسدون الذين عبثوا ، وأشاعوا في نفوسنا الخراب ... بعد هذا الحصاد المر من سيعيد لهذا العالم توازنه ونظامه ؟
أسألك : كيف تطلبين مني أن أكتب عن الربيع والبهجة ولي وطن يأن من الجراح ؟ ومن أين أأتي بلغة الفرح ؟ وأن التي أحبها تسكن المنفى ؟
أتذكرين : يوم الأثنين من عام 2004 فيه قتل قاسم عبد الأمير عجام ، كان يوماً مأساوياً ... ذهب ذلك المفكر والإنسان والصديق ...
كان يوماً مشؤوماً لا يصدق ، أن يمحي من الوجود إنساناً موسوعياً في العلم والثقافة والمعرفة ، تألم الجميع ، واحترقت المشاعر بين من يصدق ، وبين من لا يصدق ... نسأل : هل تموت النجوم ؟ ويطال الموت أعز الناس وأقربهم إلى النفس ، كانت صدمة ، وذهلنا لما حدث ، وكنا لا نصدق أن يرحل عنا قاسم عبد عجام والأديب والصديق والإنسان ، من يصدق موته ؟ ونظراته الحنونة ، وهو يراقب كل منا في حضوره الدائم في أمسيات إتحاد أدباء بابل تجعلنا نتابع أثره لحظة بلحظة ، لن ننسى صمته الوقور ترافقها ابتسامة عذبة ، وحنونة نابعة من شغاف قلبه الكبير ، وطلعته البهية حين تطل ، ليلتف حوله من يهزه الشوق ، أو يحضر أمامه من يريد أن يسأل : وهو حين يحاور ويجيب يرسم للحضور أجمل صورة عن الوجود والحياة .
*الآن ... رحل عنا جسداً ، ولكنه لم يرحل عنا مبدعاً فإشعاعاته في المعرفة والفكر والأدب باقية بيننا ، وحاضرة في كل الأزمنة ، فهو لم يغادر ندواتنا ، وصحفنا ، وأفكارنا ، وباقي في أرضنا وسماءنا ... فأديبنا وصديقنا قاسم عبد الأمير عجام : لم تشغله هموم الحياة ومتاعبها عن دروب الثقافة والمعرفة والاطلاع ، فكان يتبع الكتاب والمعلومة من مصادرها الرئيسية ، فهو لم تلهيه أية مغريات تحول دون سريان الأدب في شرايينه وأوردته كنا نتسائل ... من اراد ان يوقف هذا الصوت ؟ ومن هؤلاء اللصوص والقتلة الذين أدنوا إليك وأرادوا ما أرادوا بك ؟
وأنت : الذي بت شامخاً مترفعاً بسمو فكرك وأدبك الجم ، رافضاً في السر والعلن كل ما يسيء للناس ، ويقف في طريق طموحاتهم في الحياة ، إن رصاصة الغدر التي اخترقت الجسد الطاهر لقاسم عبد الأمير عجام كانت عمياء لا تفرق بين من وهب نفسه للحياة وبينما يكرس ارادته لخدمة الشر وأعوان الموت ، فلا عجب أن يطوله الغدر في وقت مبكر ويمضي ، ونحن كنا ننتظر منه ونريد أن يطول البقاء ، وأن لا يذهب قبل أن تترك خطاه مزيداً من العطاء الذي نطمح به لأغناء الثقافة بما هو نبيل وأصيل .. أنهم قتله : تنبهوا إلى وقع خطواتك إلى أين تتجه .. وما يدور في رأسك من طموح وأحلام عن الوطن وعن الحياة وعن الثقافة ، لذلك تعجلوا تنفيذ خطواتهم الشنيعة ، والقوا بكل شرورهم وغدرهم وقد فاتهم كلصوص وقتله ، أن موتك أصبح رمزاً ، وقتلهم المتعمد الذي ارتكبوه جهلاً وحقداً وأجراماً لم يرحل بك كما يرحل من يموت ، لأنهم مأجورون ، ولأنك إنسان بار ومبدع وصاحب قضية .
فغياب قاسم عبد الأمير عجام : ليس موتاً ، فهو ذاهب إلى ذمة الخلود ، وهناك سيجد علي وسقراط والمسيح قتلوا غدراً ومضوا قبل الأوان .
*لقد تغير الزمن ، وعالمنا أصبح شائكاً ، فكم تغيرت حولنا مواقف وطباع ... فبين عام 1966 – 1986 وعام 2010 مضت عقود طويلة من الزمن ، كم عانيت في بداياتي ، وكم عذبتي حالات كنت أجهل التصرف حيالها ، لذلك فقد أخفقت في تجاوز كثير من المواقف دون أن أعي ما يتستر ورائها من نوايا .. بقيت مصراً ، ومتحدياً ، رغم ما أصابني من جزع وخيبات أمل .. الآن : مشوارك قد بدأ ، ينبغي التعامل مع الحياة بشيء من التروي فالمشوار طويل ، وينبغي أن تكوني متسلحة بتجارب الآخرين وحكمتهم ... حذار من السير بين الجدران الآيلة للسقوط ، أو الإعتماد على الزيف ، فالمزيفون بيننا كالبكتريا تنهش سمومها بالجسد الحي ، وتتحول الحياة على اياديهم إلى انتكاسات ومحن ينبغي أن نحدد مساحة الخطوة التي تقف عليها ليس المهم أن ننال جميع استحقاقاتنا لنكسب ، المهم أن نؤثر فيما حولنا ، ونمضي للتواصل والتغيير ، علمتني التجارب : ليس بمقدور أحد أن يمنحني طولاً ، أو يزيد من قامتي ، فالعمل هو الذي يمنحنا القدرة على الثبات ، في حياتي أنهارت عروش ومماليك ، وسقطت رؤوس ، لأنهم لعبوا بطريقة الغالب والمغلوب ، فمن أجل أن نضع أقدامنا على أرض راسخة ، علينا أن نتعلم ، ونتعلم ، ونتعلم ، وإذا ما أجاز لنا أن نتعلم ، علينا : أن نعرف : كيف نحب ؟ ولماذا نكره ؟
علينا : أن نحب الفضائل الإنسانية أولاً ، ونبارك تلك الأيادي التي تزرع القمح وتعمل الرغيف وأن نحب مجددي المعرفة والثقافة والفنون ، وأن ننحني لرجالات الفكر والعلم والأدب ، فمن هؤلاء يصاغ النموذج الإنساني ، وتصنع الحضارة ، ومنهم جميعاً تتجدد أوردة الحياة بكل ميادينها الإنسانية ..
بعلمهم يتبدد خوفنا ، وبهم يزال تشاؤمنا ، وعندهم تنتهي أحزاننا ...
حبيبتي : لم يدر في خلدي أن الزمن يمّر ويتقرر الفراق فالميدان الذي جمعنا انتهى ! فماذا أقول عنك ، وأنا في عتبة الوداع ... هل لي أن أواسيك ، أم أواسي نفسي ؟ لا تحزني لما كان فالحياة تجري كنهر ، من يستطيع أن يوقف جريان مائه ، أو يحصي كميات المياه التي تمر .. غداً غداً نذهب إلى البعيد ... ولا شيء بين يدي من حصاد السنين سوى المتاعب ومشيب الرأس وأوجاع لا يمكن تسكينها ... ها أنا : الململم أشيائي الورقية وكتبي الخاصة للرحيل ، وعلى الأوراق التي بين يدي سقطت دمعة لتتلاشى بين غبار الزمن ومرارات الوداع ..
اعذريني أيتها الحبيبة : أن كان جنوني أختياراً ، وحساباتي متخبطة وأن كانت خطواتي إليك متعثرة ، وإن كنت تائهاً ، وممزقاً ، وشريداً ... لا شيء ، إلا لأني أحببت الناس ، ولأني أحببت عملي ، وأحببت مدينتي بابل ، ولأني ... لأني أحببتك أحببتك ملايين المرات .
الثلاثاء، 14 أبريل 2015
في تجربة أنوار الماشطة التشكيلية جمالية النص الفني ومشفراته-عادل كامل
في تجربة أنوار الماشطة التشكيلية
جمالية النص الفني ومشفراته
عادل كامل
إذا كان التناص، في احد أنساقه، يدحض مفهوم: الأثر فوق الأثر، فانه، في الوقت ذاته، لا ينفيه ـ ولا يهدمه. فليس هو محض ديمومة، إلا بوصفه قطيعة؛ فهو بنية ـ مهما سعت نحو مظاهر استقلالها ـ تحافظ على مخيال تتراكم عبره مصادره، ومرجعياته المستعادة. انه حلقة لا مرئية للمرئيات تارة، وحلقة مرئية للمخفيات تارة ثانية.
والرسامة أنوار الماشطة، وهي تعيد بناء عناصرها التشكيلية وفق أسس الرسم، لا تنتهك مفهوم التناص، ولا مفهوم الرسم، بل تعيد له موقعه في الثقافة العراقية الراهنة، إن كانت بصرية، أو لغوية، أو رمزية. فهي ليست رسامة حسب، بل تسمح للمتلقي باستخدام أدوات المعرفة في القراءة، ومنها الحفر في مكونات تجربتها الجمالية.
إن الرسامة تنبت، تشيّد، وتنسج ـ بوعيهاـ ديمومة الحفر في النظام ذاته لتاريخ الرسم العام، بما يمتلكه من أصول سابقة على الكتابة ـ والتدوّين. فالمعنى لا يخدش البصر، أو يعمل ضده، أو يتجاوزه، كما إن عناصرها الفنية لا تتخلى عن محركاتها النائية، وغير المباشرة، فثمة تجانس يجعل الأشكال تستحدث نظامها، لكن ليس بالهدم، بل بالحفاظ على المعادل المستتر بينهما، بين المعنى اللا وعي للوعي، والمعنى المختار بالحفر في الأعماق، وفي المناطق المخبأة.
ولأن التأويل لن يسمح غالبا ً إلا بالمزيد من تفكيك (المعنى) فانه لن يمارس الدحض بما يعلنه الرسم من حضور، بل يرسخ، يثبت، ينصص، مفهوم إن الفن يستحدث ديمومته، وفي زمن انحسار (الثقافة) داخل جحيم المتغيرات العراقية، وتحولاتها.
فالصدمات المعاشة لا تتوارى، ولا تنسحب، ولكنها لن تصبح مركزا ً أو عائقا ً على حساب تقاليد الرسم، وأنساقه الجمالية.
أنوار الماشطة، هنا، لا تستعرض مهاراتها، أو رغبتها بالتلوين وانحيازها للألوان، أو باستثمار باقي العناصر، كالخط، أو الملمس، أو الحركة، بل توظفها لحرية التعبير، وعفويته، ومقاصده، غالبا ً، بما يسمح للهاجس الجمالي أن يشكل بناءات فنية باستبعاد (الصوت) لصالح النص الفني؛ التأمل لصالح التجريب، بالحفاظ على نزعتها الشخصية في التوازن بين مرجعيتها، والمستحدث الفني. فالمسافة بين (التخبط/ أو مغامرة البحث) وبين (الرسم/ كنظام) ليست إلا مسافة بين (المكونات) والحصيلة، بوصفها تعلن عن حضورها، وليس عن غيابها. فتحرير (النص الفني) بما يمتلكه من دوافع سمح للفنانة بهذا الانعتاق: فالبذرة أو أصولها المشفرة، في الرسم العراقي ـ منذ نيازي مولوي وجواد سليم وعلي النجار وإسماعيل فتاح ..الخ ـ لا تعلن عن نظامها العنيد حسب، بل تمده بأبعاد ما انفكت تتراكم ـ بمعنى تتواصل: تحديات تلخصها بالفن في مواجهة الانتهاكات ـ والرداءة؛ وبحضور الرسم إزاء الاستنساخ، والارتداد.
فالدائرة تكاد تلملم، تجّمع، توّحد، نصوصها الفنية ضمن سلسلة مترابطة ًفي مساحة تستعرض مخفياتها الدفينة، المحورة، والمشفرة، فيها: تكبرّها، حيث اللا مرئيات تعلن عن مركزها، ليغدو المحيط، شبيها ً بنظام النجم، وبنظام الجنين. فثمة متابعة حثيثة تجعلها تعيد تصوير، رصد، التقاط، آليات نظام الموت بوصفه قهرا ً للغياب، وتجعل منه أن يؤدي دوره كنظام: ولادة ـ وتجدد. فالغياب يراوغ البصر، وهو لا يخفي أن علاماته تتضمن مخفياته، وهي تترك البصري يمتلك عفويته، وأحيانا ً لعبه، ولكن بقدر كبير من تجنب العشوائية، والمصادفات.
إن الرسامة لا تنتج (إعلانات) ولا (تصميمات)، كما إنها لا تقذف برسوماتها سلعا ً في سوق الفن، ومهرجاناته السلعية، الاستعراضية، لجذب الأنظار، للصالح البضائع، مع إنها لا تخفي مدى تشبعها بالصدمات، وما شاهدته من آثار الخسران، والتلف، بل تمسك بما في (لغز) البذرة من آليات عمل لا تجعل من (التعبير) قفلا ً، أو ذروة، أو خاتمة، بل: مغادرة، لاستكمال ما هو قيد التتابع، والاكتمال. فالفنانة لا تمحو ـ بمعنى تختزن ـ تجارب من سبقوها، في الرسم العراقي ـ كتجربتي ارداش كاكافيان أو محمد علي شاكر مثلا ً، ولكنها سمحت لهويتها الخاصة ـ وجودها المعاصر إزاء التحولات والاندثار ـ أن تتكون، كما تتكون (وحدات النسيج)، كحاصل جمع، صهر، ترابط، وليس خاتمة أو ذروة. فالتشتت يكف ليغدو شبيها ً بعمل أسلافها النساجين العراقيين: استخدام امهر للغزل بمغزل القلب، وليس بالأصابع حسب.
فهل ثمة جنسانية تحدد هذه الهوية، أم إنها تعبر من المحدود إلى العام، ومن الأحادية إلى الحوار، ومن التزمت إلى الانفتاح..؟ رسوماتها تكتم ما يستحق القراءة: فالبذرة تمتلك اللغز، مع إنها تعلنه، إلا إنها لا تنحاز إلى طرف على حساب الآخر، فالنص الفني يبتكر توازناته، وهي ذاتها تقترح قراءتها، لأن البصري لا يعلن عن أشكاله، ورموزه، ونواياه، بل يتضمنها لمساحات قيد المجهول، وإلا لكانت مصغرات آلهة الأم قد فقدت ديناميتها، ومكثت شاخصة بولائها لمفهوم الخصب، وليس الذهاب به ابعد من علاماته، خارج الانحياز، والوظيفة المباشرة، لتلك الأشكال. فالانحياز يتهدم لصالح ديالكتيك العلاقات وتشابكاتها، وبما تتضمنه الأسس البنائية من معالجات لا واعية لنظام البذرة، كانفتاح لا يقبل أن يكون التناص تكرارا ً، أو استنساخا ً، إلا بحدود مغامرة الاكتشاف، وما يتضمنه الرسم من دينامية عابرة للجنسانية ـ بمعنى الأحادية ـ، بما تمتلك من عناد، هو ذاته عناد البذرة: لا تموت إلا كي تنبثق، ولا تغيب، إلا لتجدد قدراتها الفريدة على الانبثاق، والتجدد.
على إن هذا كله سيبقى مهددا ً، ما لم تشكل هذه التجربة الفنية، تحديا ً، ليس للرسامة، بل للرسم، فقد كان فائق حسن لا يبدي دهشته عند بواكير التجارب، بل بما تمتلكه من ديمومة.
* سيرة
أستاذه في كلية الفنون الجميلة/ جامعة بابل وفنانة تشكيلية.أستاذه لمادة التخطيط والألوان في قسم التربية الفنية والتخطيط في قسم التصميم والإنشاء التصويري لقسم التربية الفنية.مقررة قسما لتربية الفنية سابقا.اهتمامات بالنشاطات الثقافية والتشكيلية ومشارك في عدد من المهرجانات والمعارض الثقافية والفنية داخل وخارج القطر/ معرض قاعة الق ـ بغداد ـ 2015 .
اجلوا بناء أوبرا بغداد-د. إحسان فتحي
اجلوا بناء أوبرا بغداد
تحياتي
في عام 2013، كنت كتبت
ضد مشروع بناء
دار الأوبرا في بغداد التي أعطيت على عجل لشركة
تركية ـ وتجدون الرسالة منشورة بالكامل هنا ـ ومرة أخرى، أود أن أحيطكم علما أنه بعد أكثر من عامين، وفي الموقع، كما ترون، لا يزال فارغا ولم يحدث شيئا ً! وقد ودفع
إلى الشركة، Rotam 18 مليون دولار.بطريقة ما، ويسرني أن الفت
نظركم إلى هذه الفضيحة، لأنني
أعتقد أن إغلاق الطريق المؤدي إلى
المسرح الوطني والمجمع يستحق
اهتماما فوريا من السلطات،وينبغي
أن يتم تأجيل مشروع أوبرا.
د. إحسان فتحي
السبت، 11 أبريل 2015
الأربعاء، 8 أبريل 2015
قصة قصيرة اللا احد-عادل كامل
قصة قصيرة
اللا احد
عادل كامل
وهو بانتظار أن يقذف إلى المحرقة، لم تبد عليه علامات ارتباك، أو خوف، فسأله كبير الحرس:
ـ لماذا لا تروي لنا قصصا ً شفافة، وسعيدة ..، بدل أن ...؟
رفع الديك رأسه، وحدق في عيني الضبع:
ـ ذات مرة، قبل سنوات بعيدة، كتبت قصة سعيدة، بالأحرى تامة السعادة، وكان ذلك قبل الطوفان، فأمروا بسجني، والآن، بعد الطوفان، لم يعد لدي ّ ما يروى، فاخترت الصمت، لكن...، للآسف، بات الصمت خيانة، والحزن نذالة، والشرود تهمة يعاقب عليها الضمير!
ضحك كبير الحراس، وهمس في إذنه:
ـ أنا استطيع أن أساعدك على الفرار....!
تعجب الديك، وشرد ذهنه:
ـ لماذا تفعل هذا، وتجازف بمنصبك، إن لم اقل بحياتك، أيها الضبع؟
ـ لو وعدتني بسرد حكاية ذات نهاية مغايرة، لا تبعث على الأسى، والنكد؟
ـ تقصد أن اروي وكأنني أعيش في حديقة أخرى، وفي زمن آخر؟
ـ نعم.
ـ ولكن هذا الزمن، يا سيدي، هو ابن ذاك، ليس لأن الأب هو الأب، بل لأن الابن هو الابن!
ـ جد حيلة، جد مخرجا ً..، ألستم انتم من يشتغل بالحكمة التي تقول: إن لم تمسك بالذي لا وجود له فدعه هو يمسك بك..؟
ـ آ...، علمني، أيها الشاطر، فانا وهن خيالي، وعقلي تحجر، وأصابعي صارت تعمل عمل الأشواك!
ـ ماذا تقول...، وكيف ترضى أن تتلقى النصح من ضبع، لم يتدرب على هذه الحيل...، ثم هل ترضى أن استبدل وظيفتي بكاتب شحاذ، يمضي عمره، كالكلاب، لا يبحث إلا عن فتات موائد!
ـ لو كنت استطعت أن اختار غير هذه المحنة، لكنت اخترتها، لكن كلما اخترت، وجدت اختياري لا يسمح لي إلا بهذا الاختيار...، حتى قلت لنفسي: أنت فعلت ما عليك، فدعهم يفعلون ما عليهم!
ـ آ ...، فهمت، أنت تريد أن اسرد لك حكاية لذيذة، طرية، فكهة، كي تستمد منها مدخلا ً للخروج من ورطتك؟
ـ كما تحب..؟
ـ هكذا يبدأ الفساد، أليس كذلك، الجلاد يساعد ضحيته؟
ـ أنا لم اطلب منك المساعدة، أنت اقترحتها، وإلا أرسلني إلى النار، فانا أفضلها على الهرب، كي امضي ما تبقى من عمري أعيش كرماد ممتزج بغبار الدروب!
ـ آ...، حسنا ً، تذكرت حكاية قديمة، فقد كان هناك، في الزمن القديم، لا احد...، لا احد تماما ً، أي لا احد معه أبدا ً...، ففكر اللا احد أن يأتي بأحد. فسأل اللا احد الأحد: ماذا نفعل؟ أجابه بوقار: لا تقترب من هذا السر. فقال له: أنا سأحمل السر إذا ً وعلي ّ أن لا أبوح به. قال اللا احد للأحد: لكن لا تعلن انك تخفي سرا ً، أو انك تتستر عليه. فسأل اللا احد الأحد: وما مغزى هذا الذي فعلته، ما الحكمة منه...؟ رد بصوت حاد: الم ْ أخبرك إن لا تقترب منه، لا تلمسه، ولا تحوّم من حوله؟ أجاب: حسنا ً، وماذا افعل إن هو اقترب مني..؟ فضحك ورد: أنا هكذا عملت ولم أبح به، فماذا تريد مني أن افعل، ولا احد يريد أن نفعل شيئا ً...؟
قال الضبع للديك مذعورا ً:
ـ بحق السماء والأرض أنت لا تستحق الموت...؟
ـ أرجوك...، فانا لم اعد احلم إلا به، فلا تفكر بإنقاذي أو إعادتي إلى ما هو أقسى من الموت، رغم إن فقدان الأمل يعد رذيلة، ومعصية، بل كفرا ً..؟
ـ ومن قال لك انأ نويت أن أخلصّت...، أيها المشاغب، بل أنت تستحق ما هو أقسى من الموت؟
ـ أن ترجعني إلى قفصي...؟ أرجوك لا تفعل ذلك...، الم ْ ترتو من عويل الثكالى، وبكاء الأرامل، وانين الأيتام...؟
ـ لا....، أنا أفكر بعقوبة أشنع من الموت، ومن إعادتك إلى القفص؟
ـ ما هي، يا كبير الحرس، ويا أمين أمناء باب جهنم؟
ـ أن تروي لي حكاية لا علاقة لها لا بالشقاء، ولا بالسعادة، رواية خالية من الممرات، والضفاف، والمنعرجات؟
ـ آ .....، عندما هرم، وبلغ اللا احد أرذل العمر، واقتربت أيامه من خاتمتها، بحث عن الأحد، فلم يجده. فقال يخاطب نفسه: لا بد أن هناك حكمة ما جعلته يتستر، ويتوارى، ويغيب، فما شأني بالبحث عن هذا الذي جاء بي...؟
ضحك الضبع وقال له:
ـ كم سأكون سعيدا ً وأنا أراك تشوى، تحترق، ودخان لحمك يصعد إلى الأعالي، ممتزجا ً بالغبار، وبعطر المستنقعات!
ـ أنت ـ سيدي ـ هو اللا احد الذي يسره أن يرانا نولد كي نموت...!
ـ بل أنا ازداد بهجة عندما أراكم تولدون من رماد الموت وغباره...؟
ـ آ ...، هل فهمت، أيها الضبع، لماذا قطعوا رأسي عندما رويت لهم حكاية حزينة...، ولماذا قطعوا رأسي أيضا ً عندما رويت لهم حكاية سعيدة ...؟ لا تجب. أنا أقول لك، لا تضطرب...، لأنهم سيقطعون رأسي عندما أغلق فمي. فالرأس هو سر الحكاية، وأثيرها!
ـ وهل سيقطعون رأسي أنا أيضا ً...؟
ـ لا...، أنت لم تبلغ هذه الدرجة، فلم يحن أوان قطاف رأسك، يا كبير أمناء هذه البوابة؟
وأضاف بمرح حذر:
ـ فبعد أن تكف البحث عن الجثث...، وزج نفسك في ما لا يعنيك..، ستبحث عن الطرائد، كباقي المخلوقات...!
ـ إذا ً فهذا اللا احد الذي اخترعنا، صنعنا، كوّننا، جمعنا، برمجنا، لم يبح لك بالسر..؟
ـ لا، اخبرني أن أعلن إنني اجهله، ولا اعرف شيئا ً عنه!
ـ أنت تعرفه..؟
ـ يا حمار، هو اللا احد اخبرني بأنه ليس من واجبي إلا التستر عليه، وأنت تريد أن أعلنه؟
ـ إذا ً ...، لن أرسلك إلى المحرقة، بل سأنتظر أن أراك تشوى وتموت كي أتمتع باستنشاق دخان جسد وهو يتلاشى في الفضاء!
ـ ضبع!
ـ مع انك شتمتني، ووصفتني بالحمار، إلا إنني أسألك: هل أنا هو من اختار أن يكون ضبعا ً...؟
ـ لا، مثلي، فهل أنا هو من اختار أن يكون ديكا ً...؟ مثل ذلك الأحد الذي أمضى حياته كلها يبحث عن اللا احد، فوجده أخيرا ً!
ـ جيد، جيد جدا ً، بل ممتاز...، أين عثر عليه؟
ـ عند بوابة المحرقة!
ـ آ ...، إنها حكاية غير سارة، وأنا اشترطت عليك العكس...؟
ـ إذا ً جد لي حديقة أخرى..؟
فكر الضبع، وقال بحزن:
ـ أينما تذهب فلن تخرج منها!
ـ إذا ً لماذا طلبت مني أن اروي حكاية سارة، مادمت، في الحالات كلها، سأموت؟
ـ آ ...، عندما تحكي حكاية سعيدة، لن تموت حزنا ً...!
ـ ولو استبدلت الحقائق...، وقلبتها، هل اقدر أن استبدل النهايات؟
هز رأسه:
ـ الآن لا استطيع حتى أن أجد عذرا ً كي ادعك تهرب!
ـ ومن طلب منك أن تفعل ذلك...؟
ـ الزعيم!
ـ ماذا طلب منك القائد؟
ـ أن تروي لنا قصصا ً ناعمة عن فردوسنا، ولو فعلت، فانك ستحصل على وسام الحرية!
ـ آ ...، وسامها، وسامها...، أي لن احصل عليها...؟ آ... ، الحرية، إذا ً....، كم أنت قاسية، ومرة!
صمت الديك فترة غير قصيرة، وقال:
ـ عندما عجز اللا احد من العثور على الأحد، وجد الأخير انه حسنا ً فعل، فلم يعد ثمة سر يبحث عن احد، ولا ثمة احد يبحث عن السر!
ـ أين توارى؟
ـ في هذا الفضاء الشاسع المترامي الأطراف...، داخل اللا متناهي، وبعيدا ً عن الحافات!
ـاذهب واسأله...، فان عثرت على جواب، فانا سأروي لك قصة سعيدة، لا تنتهك فيها حقوق الكلمات!
ـ آ ....، تلك هي المعضلة!
ـ ما هي؟
ـ أنك كلما توغلت فيها تجدها ذهبت ابعد منك!
ـ وهل هذه معضلة؟
ـ ما هي إذا ً...؟
ـ المعضلة إنني سأشوى، واحرق...، إن رويت قصة افتراضية، وهمية، مخترعة، ملفقة، مزورة، أو قصة حقيقية، خالية من التزويق، من التمويه، ومن الغش...، إن بكيت أو توقفت عن البكاء، إن طلبت الرحمة أو طلبت الغفران...، فانا سأذبح، وعظامي سترسل إلى القطط، والى الكلاب الضالة!
ـ ماذا أبقيت لي، وأنا بدأت اشعر بالجوع؟
ـ دعنا نتبادل الأدوار...، لبرهة من الزمن؟
ـ ماذا تقصد؟
ـ أنا سأمثل دور كبير الحراس...، وأنت تمثل دور المتهم، الواقف بانتظار الدخول إلى جهنم؟
ـ كما تشاء!
ـ ارو لي شيئا ً صالحا ً للنشر، لا يعترض عليه الرقيب، ولا تمنعه الرقابة !
ـ نعم...، سأصمت بانتظار أن تخطر ببالك حكاية ما...
ـ آ ....، كان هناك اللا احد السعيد...
ـ صاح الديك:
ـ وجدتها! وجدتها! كيف عرفت؟
ـ من شدة سعادته أدرك انه فقدها!
ـ فشلت أيها الضبع، والآن عليك أن تختار مصيرك بنفسك!
ـ وأنت؟
ـ أنا رويت ما رأيت، وسمعت.
ـ إنها حيلة مكشوفة.
ـ مثل السر الذي لا وجود له تماما ً. فأنت طلبت مني أن اروي الذي لا وجود له، فرويت، فكانت هذه الحكاية!
ـ ولكن اخبرني، أيها الديك، كيف كدت تخدعني وتدعني أطلق سراحك؟
ـ لم أخدعك...، أنا موهت عليك، وهذه هي النهاية، أنت سيرسلونك خلفي، لتحرق، وحكايتنا تكون ذهبت مع الريح.
ـ لا تؤلمني..، ألا يكفي إنني رأيت هذا كله، كي تخبرني باني لن اكسب حتى رماد جسدي؟
ـ لكنك لم تخسر شيئا ً...، لقد استمتعت بوقتك، فانا أمتعتك بحكاية لا معنى لها...، وهذا تحديدا ً هو معناها!
ـ والمحرقة؟
ـ هي الأخرى...، يا كبير الحراس، ستذهب مع الريح!
ـ آ .....، ما اقساك! حتى كلماتك صارت خالية من الرحمة..؟
ـ اسكت...، ألا تخاف أن تدان، لزلة لسانك هذه؟
ـ وماذا فعلت؟
ـ انك استمعت إلى حكاية حزينة...، في هذا اليوم السعيد!
ـ آ ...، الآن عرفت من أنت..؟
ـ ومن أنا...؟
ـ هو هذا اللا احد، الذي...، اخترعني، صنعني، كوّنني؟
ـ وهل أنت احد....، كي أخترعك، أو أستحدثك، أو أحبل بك، وأنجبك...، أم أنت الشاهد الذي لم ير إلا هذا الذي سيصبح عدما ً؟
ـ آ ....، لقد فهمت الآن، أن السعادة وحدها هي هذا الأحد الذي سيبقى يبحث عن اللا احد...، فما أن يجده حتى يفقده، وما أن يفقده حتى يجده، وكأن النهايات ـ مهما اختلفت ـ سابقة على مقدماتها؛ فمن يسمعها لن يفهمها، وإذا فهمها، فإنها لا تعنيه، وإذا كانت تخصه، فانه لا يمتلك شيئا ً يعمله!
2/4/2015
علامات :المستنصرية ليلا ً!-د.إحسان فتحي
علامات
المستنصرية
ليلا ً!
الأعزاء المعماريون العراقيون والأصدقاء
تحيات طيبة وبعد
ك
فان جميع المدن القديمة تبرز أبنيتها التاريخية
ليلا عن طريق الإضاءة الليلية الجميلة والمدروسة بشكل علمي دقيق يراعي الزوايا
المختلفة وأجزاء المبنى الهامة كالأبراج أو المآذن وغيرها. ومن هذا المفهوم فان بغداد مثلا، وخاصة ضفة
الرصافة الممتدة من جامع الخفافين والمدرسة المستنصرية، ثم جامع الاصفية وجامع
الوزير، والمدرسة الرشدية، والقشلة وبرج الساعة، والسراي ثم قصر الوالي والقصر
العباسي والى أبنية وزارة الدفاع، هي بأمس الحاجة الى مشروع اضاءة ليلية متكامل.
وهذا ينطبق طبعا على مدن وأبنية أخرى عديدة في العراق مثل قلاع اربيل وكركوك
وتلعفر وسنجار وهيت، ومدينة الموصل، والعتبات المقدسة، وسلسلة البيوت التراثية على
خور العشار في البصرة، وغيرها الكثير.غير انه وصلتني مؤخرا بعض الصور للمدرسة
المستنصرية مضاءة بألوان زاهية (زرق ورقية) بدرجة مبتذلة لا تنم عن أي دراية بفن الإضاءة
إطلاقا، وذكرتني بفكرة تغليف الأبنية بألواح (ألالكوبوند) الملونة ، والفارق
الوحيد هنا هو أن هذا العمل هو الكوبوندية ضوئية وليس مادية. أرجو من المسؤولين
العدول عن هذا الأسلوب الذي يليق فقط لمدن الألعاب والملاهي، وإتباع الأسلوب الهادئ
والرصين كما هو الحال في بعض الأمثلة المرفقة وهي جامع قرطبة والجامع الأموي في
دمشق.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)