السبت، 24 يناير 2015

غالب المسعودي - عذاب النار(قصة سريالية)

جواد سليم في ذكراه- فصول من كتاب











 في ذكراه/  فصول من كتاب

نصب الحرية لجواد سليم
ملحمة شعب وذاكرة حضارة*













القسم الأول

عادل كامل

[1] النصب ـ العلامة
    لم تكن أهداف غزو التتار لبغداد (1258)، هي إسقاط السلطة السياسة للخلافة العباسية، حسب، بل محو علاماتها، وما أنتجته في مجال الحضارة. وربما لم ينبهر (هولاكو)، وهو يقترب من بغداد، إلا بمنائرها، وببساتينها، وببقايا قصورها،  وبأسوارها  المتهالكة، غير الصالحة حتى لحمايتها من الضواري، ولكن، بعد تهديم العاصمة، ودك معالمها، وفي مقدمتها العمرانية، والثقافية، كاد يعزلها عن الزمن، وعن العالم.  فقد استطاع الغازي ان يجمد لغز تكوّنها، ولكنه لم يستطع ان يمحوها من الوجود. كانت علامات بغداد الحضارية هي امتداد للنسق ذاته الذي تأسست عليه حضارات وادي الرافدين: سومر، أكد، آشور، بابل، الحضر ..الخ، فلا علامة من غير مركز، بمعنى من غير سلطة. فثمة اقتران جدلي/ بنيوي، بينهما، لا يوجد إلا بوجود الآخر، ولا يغيب إلا بغيابه.


 
جواد في فرنسا/1939



   وعندما كلفت لجنة نصب 14 تموز، الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، عام 1961، التعريف بالنصب، وجد انه يتحدث عن علامة اقترنت بتحول بدأ بالسلطة السياسية ليمتد أثره في مجالات الحياة كافة؛ علامة لم يكن لها ان تتكون خلال غياب بغداد ـ حاضرة الأمس ـ إلا بما سيشكل حدا ً فاصلا ً بين مدينة غابت عنها الحضارة، ومدينة وجدت انها في مواجهة عالم تكونه الحداثات، فالنصب ليس محض (لافتة) تخص الحدث السياسي بالتحول من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، كما ذكر المهندس المعماري رفعة الجادرجي، مصمم النصب، وإنما لأن العلامة تضمنت محركاتها الكامنة وهي تستحدث وجودها في الحاضر، على صعيد مفهوم البناء، والخطاب الفني الحديث.
     فإذا كانت بغداد قد عاشت أزمنة تراكمت فيها العلامات، وتكدست، حد الاختفاء، والاندثار، حتى كادت تفقد هويتها، أو ان تكون من غير علامة، فان تجددها اقترن بنسق يسمح للحريات الكامنة، والمدفونة، ان تأخذ مداها في الحضور، وان تمتد ـ تلك المخفيات ـ لتأخذ مكانتها بين العلامات المعاصرة.
  كانت إشارة جبرا إبراهيم جبرا، استذكارا ًلمفهوم انبثاق (النص) بنسق اشترط عوامله الموضوعية، والذاتية، كي يمتلك دينامية تتجاوز مفهوم (التعبير) و (الانعكاس) و (الإعلان)، نحو مفهوم الخطاب الفني، وعناصره الفنية، البنائية، الرمزية، والجمالية.
    فالمخيال المجّمد للمدينة، سمح للذاكرة ان تتكون بنظام تأسس مع نشوء المدن في حضارة وادي الرافدين الأولى: المسمار؛ علامة الكتابة، والعدد، وتمثلها بموت البذرة، وخروج ديموزي من العالم السفلي.
   فالنسق الأسطوري لم يكن مظهرا ً خارجيا ً للتحولات حسب، بل كان جذرا ً له، ومحركا ً، حيث الولادة لا تمتلك دفقها إلا بعد اجتياز دورة الكمون. فمنذ سومر حتى الفتح الإسلامي للعراق، كان ديالكتيك الغياب ـ الحضور، يمنح تصادم القوى القانون الذي جعل من الفن علامة للتقدم، وليس للارتداد. فالعلامة لا يمكن عزلها عن مخفياتها، كي تبدو بنية غريبة وافدة أو هابطة من كوكب آخر، وإنما هي ستتحول إلى محرك مضاف عبر هذا الاشتباك، ذلك لأن الحديث عن موت الفن ـ وفي عصر جواد سليم كان رولان بارت قد تحدث، بعد قرن من إشارة هيغل إلى الموضوع ذاته، بموت المؤلف/ الفنان، كي يولد المتلقي مقترنا ً بالنص ـ وما يمتلكه من باثات تتجاوز الحدث، باحتوائه له، وكانبثاق للغياب بصفته حضورا ً.
   ولعل سؤال (هنري مور) لجواد سليم: من أي بلد أنت ..؟ تأكيد لدقة ان الحضارات لا تتوارى حتى لو دفنت تحت التراب، وحتى لو زالت علاماتها، بل تستيقظ ولكن ليس من العدم، وإنما بقانون يحافظ على ديمومة لغزه.
   فنصب الحرية ـ وفق هذا الاستهلال ـ تضمنت اندثارات ان لها ان تستيقظ، ليتمثلها جواد سليم، فضلا ً عن موهبته، بما استقاه برؤية تجريبية، ونقدية، وبوابات للحداثات،  ولتسمح له ان يبني تصوّرا ً هو ذاته لم يغب عن أسلافه سكان وادي الرافدين: التراكم باتجاه المستحدث. فذاكرته لم تغب عنها ان للحقب أو للعصور الحضارية علاماتها، منذ شيّدت الزقورة، والأختام، والجداريات النحتية، وتماثيل الأسس، والمجسمات، والفخاريات، وبوابات عشتار، والهة آشور، وثيرانها المجنحة، واللبوة الجريحة، وأسد بابل، وعاجيات نمرود، ورأس سرجون الاكدي، وموناليزا نينوى ...الخ، وهي علامات اقترنت، مرة بعد أخرى، بتضافر:  قوة الدولة، وسيادتها، وأمنها، أدى إلى ان الحضارات لا تبني مجدها بقوتها العسكرية، بل بما تحفره عميقا ً في أسفارها.
    فإذا لم تصغ الإمبراطورية العباسية، كما صاغت (الملوية) ـ وبعض ما قاوم المحو ـ علامة لها، فان اشتغال جواد سليم بالعلامة ـ وليس باللافتة، منحه مدى ابعد بتمثل (الحدث) من اجل النص الملحمي، بصفته يتضمن منهج البّناء،الحفار، النسّاج القديم، في حدود مدينة ـ كبغداد ـ تغادر ظلماتها. ذلك لأن الدافع غدا ليس محض مرآة لذات (قلقة)، بل نسقا ً بنائيا ً لحاضر ارتوى بانكسارات، مرارات قرون ثقيلة من الظلمات. كان جواد سليم منساقا ً بدينامية مدينة، تغادر سباتها، كما هو مثال ديموزي في سومر، كي يقترن نصب الحرية بالمدينة، ويصبح مركزا ً لها، بعد ان كادت رموزها تتوارى بعيدا ً حركة الزمن، والحضارات.
  وبالطبع هناك من حاول، بل وسعى، لمس النصب، بل وإزالته، إما بصفته (بدعة) أو مادة خام لصنع الأسلحة، أو لعنة، لكن تلك الأصوات تهافتت تاركة النصب يقترن بمدينة السلام، وهي تنسج حضورها المستعاد، العنيد، كمدينة حملت مشفرات أور والوركاء، أكد ونينوى، سبار وآشور، اشنونا والحضر ..الخ؛ مدينة الحرية، كما هي مدن الأحلام: تغادر رمادها.


  


[2] البدايات ـ
     إذا كان الفنان حافظ ألدروبي، في طفولته المبكرة قد تولع بالرسم بتأمل أنامل والدته وهي تطرز بالخيوط الملونة، فان جواد سليم وجد بيئة استثنائية لسماع الموسيقا، ومشاهدة الفن، والإصغاء إلى روافد ثقافية مختلفة، فرعاية والديه في بيت توفرت به وسائل الراحة، حيث: " تكفلته العائلة بالتربية والتهذيب وتعهدته المدرسة بالتعليم والتوجيه، تهيأت له فرص الدراسة والمتعة. لم يرد له طلب ولم يوضع دون مبتغاه حاجز، فنشأ سليم الطبع، مرهف الحس، رقيق الشعور، هادئا ً هدوء حياته، وديعا ً وداعة تربيته، انصرف بحواسه لكل فن يسرق من أوقات دراسته ليشبع رغبته الفنية.." ويضيف الأستاذ عباس الصراف: " نشأ جواد في ذلك المحيط الفني، أطلق يديه في وسائل الرسم من أقلام وأصباغ وفرش، وتلفتت عيناه تحدقان بكل لون وخط وشكل، وأرهفت آذناه السمع لكل همسة فنية، جو فني تهيأ له ولم يتهيأ لغيره من الفنانين في طفولته" (1) وفي عام 1931 أقيم أول معرض للأعمال الفنية في جناح متواضع من (المعرض الصناعي الزراعي) اشترك فيه بعض الأساتذة والطلاب الموهوبين، وقد نال جواد سليم في هذا المعرض، وكان عمره 11 عاما ً، أول جائزة فضية للنحت بينما نال فتحي صفوة، معلم الرسم في دار المعلمين الجائزة الذهبية. (2) كي يزداد تشبثا ً بتطوير موهبته ببذل جهد تجاوز مفهوم الهواية لدى الرعيل الأول من الفنانين العراقيين، فبدأ مسيرته الفنية بالسفر إلى فرنسا لدراسة فن النحت (1938/ 1939) من ثم إلى روما (1939/1940) وبعدها في لندن (1946/ 1949)، ليواجه، في رحلة الدراسة، حداثات أوربا وهي في ذروتها، قبل نشوب الحرب العالمية الثانية، وبعدها، كي يعزز الإيمان بأعقد علاقة بين مخفيات الذاكرة، وآفاق المخيال ومدياته الأبعد. فالمعادل الموضوعي بينهما، لم يتمثل في التركيب، أو الجمع، أو التوليف، بل ذهب نحو فهم أعمق للتوليد. فالفنان مشبع بحضارات أزمنة متعددة: عصور ما قبل التاريخ، والمشاعيات، والعصور السابقة على الكتابة، ومن ثم الحضارات البدائية، والكتابية في وادي الرافدين، ومصر، والشرق القديم، والعصر الإسلامي، وصولا ً إلى الحاضر وهو إزاء تحولات بالغة التعقيد، لكنها، تاريخيا ً، أسست حقبة التحديث، بعد زوال الإمبراطورية العثمانية.
   لم تكن الحرفة ـ أي كيف يصبح المتعلم فنانا ً ـ إلا تدريبا ً أو مدرجا ً لتحقيق مفهوم: الإبداع ـ أو الخلق.  وكلما تقدم في البحث، وذاق مراراته، وحلاوته، كان يكتشف المزيد من المعضلات، وفي مقدمتها: ان ينسى ما تعلم، وان يتعلم كيف يكون هو، وليس سواه، كي يكّون منجزه الفني، في عصر محاط بمختلف المدارس والمؤثرات، وان تكون الحقيقة، بالدرجة الأولى، غير الوهم، وان لا يكون الأمل سرابا ً. (3)
   فيرى الباحث عباس الصراف، ان السنوات الأربع التي قضاها جواد سليم، في لندن، ستشكل (انقلابا ً) فنيا ً، لأسباب في مقدمتها معاصرته للنحات  (هنري مور) وفي موطنه بالذات، فكان له معلما ً روحيا ً ألهمه الكثير في فن النحت. (4) إلى جانب زياراته إلى المتاحف، والمعارض، والمكتبات، وديمومة اتصاله بباريس التي عشقها من زمان بعيد، وأخيرا ً، زواجه من الفنانة لورنا، كي يعود معها إلى بغداد. ومع هذه التطلعات والأفكار الجديدة، ، سيستثمر إتقانه للغات عديدة منها الانكليزية والفرنسية التي أتاحت له التعرف بدقة على احدث المنطلقات الجديدة في الفن والثقافة بصورة عامة كما ذكر الفنان إسماعيل الشيخلي، في مراجعته لتجربة الفنان، ودوره الريادي في الفن الحديث. (5)


 



  وقد عين جواد مدرسا ً للنحت في معهد الفنون الجميلة الذي كان قد افتتح حديثا ً، وفي الوقت نفسه عمل في المتحف العراقي على ترميم التماثيل والتحف الآشورية والسومرية، ولم يكن حينئذ قد جاوز الحادية والعشرين من العمر. (6)
  وثمة أسماء كثيرة عرفها جواد سليم، أساتذته، أو من درسهم، وأعجب بتجاربهم الفنية، من كبار فناني العصر، ولكل منهم دوره، وأثره، المباشر وغير المباشر. فمنذ دروسه الأولى التي تلقاها من والده الرسام، الحاج سليم، إلى الفنان عبد الكريم محمود، إلى أستاذ الرسم في المتوسطة الغربية، وناصر عوني، وشوكت الخفاف الملقب بشوكت (الرسام)،(7) إلى عدد من الرسامين البولنديين، ومنهم: مستر مايكا، جوزيف باريما، ماتوشال، كابتن جابسكي (8)، الذي خصه جواد بالمديح، (9) إلى جانب أستاذه في البوزار البرفسيور كاومونت، وأستاذه زونيللي، في ايطاليا، (10) ومعاصرته للنحات هنري مور (الذي كان ايامئذ أستاذ النحت في مدرسة سليد)، وأسماء أخرى مثل: براك، خوان ميرو، بيكاسو، ومارينو ماريني، كما كان قد تعرف على فنانين انكليز منهم: كنث وود، والكابتن تولست، وبودن، و سيتون لويد، وزوجته النحاتة هايدي، (11) إلى جانب أفراد أسرته، وزوجته الرسامة الانكليزية لورنا ..الخ
   ولا اعتقد ان جواد سليم، عندما لم يتقيد باختيار أسلوب أو منهج (النصب)، كان (حرا ً)، إلا بحدود مسؤولية إدراك إنها منحت له من لدن (مؤسسة) رسمية، دولة أو حكومة، بالصيغة المقاربة إلى تصميم: العلم ـ وشعار الدولة الوليدة، الجمهورية، اللذين أنجزهما الفنان، وكان اقتران شخصية جواد سليم، بالحدث (14 تموز 1958) وضعه إزاء مصيره تماما ً. فأي (قيد)هذا الذي سيشتغل ليوازن بين متطلبات: الدولة ـ المجتمع، والفن الذي طالما حلم ان ينجزه، القيد وليس العمل بالحرية التي بدت له كالعثور على شفرة مصباح (علاء الدين)، للعبور من الأمنيات إلى الإعجاز.؟
   فالدولة منحته حرية الاختيار، بمعنى، قيدته بالحرية، كالبذرة التي عليها ان تمد جذورها في الأعماق، كي تورق، وتؤدي رسالتها في الحفاظ على (الحياة).
   وبهذا المعنى، علينا ان نراجع ما الذي كان يحلم ان ينجزه الفنان، هذا اذا عرفنا ان المنهج (التجريبي) في العثور على إجابات مقاربة، وليس في إضافة تعقيدات يولدّها البحث ذاته. ذلك لأن (التجريب) في الحقل الفني ـ الثقافي، لا يقارن بما يجري في المختبرات، كما ذكر جون ديوي، فضلا ً عن ان " الفكرة القائلة ان الذكاء وقف شخصي أو انجاز شخصي ما هي إلا نزوة كبيرة ووهم من أوهام الطبقة المثقفة، مثلما ان الطبقة التجارية تتوهم ان الثروة نتائج كدّها وإنها ملكها" (12) وهو تأكيد للمنهج الذي تحدث عنه جون دوي " عندما نقول ان التفكير والمعتقدات لابد ان تكون تجريبية، وان ما من شيء مطلق، فهذا يعني ان لدينا منطق منهجي محدد وليس مواصلة التجريب على النحو الذي يجري في المختبرات" (13) فالعبقرية، قد تكون وحدها سببا ً لا يفضي للعبور من (الحلم) إلى (المنجز) عندما لا تتضمن اللغز ذاته للتجارب الخلاقة، أو الاستثنائية.
     كان فائق حسن، كما ذكر لي، سافر إلى فرنسا كي يتعلم الرسم، من اجل إعالة والدته. قال ذلك ببساطة، لا تخلو من نبل الاعتراف، ردا ً على سؤال والدته وهو يذهب إلى البوزار. ولكنه بعد ان حصل على ما تريد الوالدة، وأصبح بعيدا ً عن العوز، قال لي، بدأ يدرك ان هناك معضلات فنية تتطلب البحث. بل قال لي ذات مرة، قبل رحيله بعام، وأنا أزوره في مرسمه، ما المعضلات الجديدة في الفن..؟ كان قد أهداني لوحة، ولم يسمح لي ان اخبره بما كنت أود ان أقوله، لأن استأذنا فائق، لم يكرس وقتا ً للغوص في المعضلات الفنية.(14)
  جواد سليم، ومنذ العاشرة من عمره، وبعد ان حصل على اعتراف بموهبته في النحت، كان يفكر بان (الفن) هو حصيلة أسلوب صحيح يبذل في اختيار وسائل البحث، لكن الاختيار الصحيح شبيه بحكمة (لاوتسي): ضع قدمك في المكان الصحيح من الطريق. وهي التي طالما تركت صراعا ً مريرا ً لم ينقطع حتى يومنا هذا في الصين، فهل عثر الفنان على مقاربات تغذي ما كان يحلم ان ينجزه..؟
   ومع الثناء المتكرر، والاعتراف من لدن خالد الرحال،(15) لمواهب أستاذه جواد سليم، الذي قارنه بالنذر ـ كديموزي ـ إلا انه اعترض على كلمة الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا التي قال فيها: بان المستقبل لن ينجب آخر كجواد إلا بعد قرون طويلة! كان خالد الرحال ديالكتيكيا ً، وواقعيا ً في تفكيره، لأن جواد سليم نفسه، لم يكن يمتلك إجابات (معدّة ـ وجاهزة) أو لا تقبل الدحض، فتعلم، وهو إزاء أسئلة لا تمتلك إلا ألغازها، وأسرارها، كيف يضع خطاه في المسار غير الوهمي، وان ينذر حياته للفن. ولعل الكتابات النقدية المبكرة للفنان محمود صبري، في نهاية أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، هي الأخرى، كان لها دورها، بنقد النزعة الجمالية الأحادية، والانجرار مع النزعات المثالية، بل وحتى النفعية المباشرة منها، نحو سماع الأصوات الآتية من الماضي السحيق، ومن الحداثات، ومن الأصوات التي تتطلب قدرات استثنائية لفك مشفراتها. كانت مهمة جواد (التجريبية) طريقة نموذجية للعبور من الفن إلى ما هو ابعد منه.



  


   وإذا لم يختر جواد سليم ان يكمل دراسته للموسيقى كي يصبح موسيقارا ً، أو كاتبا ً، أو أية مهنة أخرى، توازي قدراته النادرة، فان محنته بين الرسم والنحت، تذكرنا بالجدل الذي دار بين ما يكل أنجلو، وليوناردو دافنشي، حول أيهما أكثر قدرة على سبر أغوار الفن، انعكست لدى جواد سليم، حتى عندما كان يعد نفسه للنحت، بتجاربه في الرسم. ولم تكن محنة الاختيار بينهما خاصة بالموهبة، والإمكانيات، حسب، بل بالجانب العضوي. ومعروف ان الجهد الكبير الذي بذله في تنفيذ نصب الحرية كان قد عجّل في رحيله، وكأن اختياره للنحت، بشعور عميق، غير واع ٍ، يخبرنا بان الرسالة التي حملها تضمنت ألا يبخل ان يقدم حياته نذرا ً لها.
   وقد تكون إشارة الأستاذ شاكر حسن بان اختياره (الرليف) كان حلا ً لجواد بين النحت والرسم، صائبة، لكن (الرليف) عمليا ً، لم يغادر أقدم خامة كوّنت الإنسان، من الطين، مع (نفس) كان بمثابة هبة من الإله للإنسان كي يصنع تاريخه، كما ورد في كتاب (الكنز ربه)، للديانة المندائية، ذلك لأن جواد سليم لم يغادر مكونه الشرقي في اختيار خامته، ليس لأن الوعي ـ البشري ـ معزول عنها ـ أي عن الطين ـ بل لأنه حتى بانفصاله عنها فانه لم يفقد صلته الشائكة بها. فالخطاب الفني ـ بهذا المعنى ـ احد نتائج توازنات العناصر وقد استحالت إلى (علامة) تؤدي دورها من: الفنان ـ بصفتها ذاتا ً جمعية وفردية معا ً ـ وقد وجدت فرصتها للانعتاق ـ نحو: الشعب، لاستكمال دور (النصب) كبذرة خصب.
   من ناحية أخرى فان العدد القليل من تجارب الفنان الخزفية، هي الأخرى، سمحت له بدارسة التاريخ السحيق لفخار وادي الرافدين، الذي يرجع إلى ما قبل عصر الكتابة. (16) وقد تضمنت قدرات تعبيرية لا يمكن عزلها عن: النار/ الماء/ التراب/ الهواء، المكونة للفخار، بما أنجزه من غايات ابعد من الاستخدامات العملية، من إشارات، وحزوز، وعلامات هندسية، شكلت وعيه وأسلوبه ببلورة أبجديات التعبير ـ والإرسال. فإذا كانت تماثيل الأسس ـ وكان جواد مولعا ً بالأثر ـ تؤدي جسرا ً بين الأرض والسماء، فإنها كانت حصيلة خبرة متقدمة لتداخل العناصر في تحولها من مواد (رخوة/ طبيعية) إلى أدوات (مستحدثة)، كالمسمار، بصفته حرفا ً سيدخل في أبجدية الكتابة، بعد الرسوم التصويرية، لأنه لم يتكون إلا بالخبرة (العلمية) المبكرة، لدى صانعي الفخار مع اكتشاف (النار) ومهارات الخبرة في تلك الصناعة.
      فجواد سليم، لم يكن بانتظار هبات وكأنها تهبط من كوكب آخر، بل كان عليه ان يجد معادلا ً بين المنجز بما يمتلكه من عفوية ـ وصدق، وبما يمتلكه من خبرة تستند إلى العلم. فالحل الذي اختاره ـ في الرليف ـ لا يبدو مثل ختم معاصر ـ في عصر شاهد جواد سليم كوارثه الكبرى فحسب، بل للخواء، الانخلاع، والاغتراب أيضا ً، كخاتمة بلغت روافدها ان تسمح له ألا يفقد هويته: مقدمة كانت بمثابة الأسلوب الذي أنجزه في حياته، والذي لم يأت بعد موته، كما كان يقول بيكاسو. فالنصب خلاصة تقص ٍ في ما لا لم يعلن الفن عنه، ولكن ليس في ما لا وجود له تماما ً، إلا كي يحافظ على ما كان يدرك كم من الملغزات ستشكل هويته، ومشفراتها.
   وهكذا سنجد انه لم يعد نحاتا ً أو رساما ً أو فخاريا ً إلا بحدود متابعة ذلك النسغ العميق لدينامية هذا اللامرئي وقد صاغ من الجسد ـ والعلامات الأخرى ـ أبجدية عالمية بهويتها الرافدينية. فنصب الحرية مدوّنة لم تتكوم فيها الأسئلة، وتتراكم، إلا لتشكل ذاكرة وقد انفتحت عن مساحات غير مقيدة لمخيال لم يعد مقيدا ً، إلا بالحرية ذاتها لشعب رزح تحت الظلمات لقرون طويلة، فوجد انه يحطم قيوده.
    وأخيرا ً فان فكرة جون دوي القائلة " إن الذكاء وقف شخصي أو انجاز شخصي ما هي إلا نزوة كبيرة ووهم من أوهام الطبقة المثقفة" تفسر ان (التجريب) الذي اتخذه جواد سليم منهجا ً ـ وليس مذهبا ً ـ سمح له ألا يفرط بموهبته (الاستثنائية) في حقبة برمتها تبحث عن التدشينات ـ الريادات. فجواد سليم الذي اكتسب هالة تكاد ان تكون أسطورية، على حد كلمة للأستاذ جبرا إبراهيم جبرا، لا يمكن عزلها عما كان يجري في الحقبة كاملة. ريادات في مجالات الحياة كافة، ومنها النحت، كعلامة دمجت محركاتها بهوية كان عليها ان تمتلك أطياف حضارات وادي الرافدين، وسواها، وبمعالجة سحرية لمرور ذلك الذي يكمن في لغز الزمن ـ وليس في الزمن حسب ـ بين الحداثات التي درسها الفنان، وما سيغدو امتدادا ً: علامة شعب، أصبح نصب الحرية، رمزا ً لاستحالة قهره.



* صدر الكتاب عن دار الأديب/ عمان/ 2014
 1ـ عباس الصراف [جواد سليم] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 ص59 ويذكر الصراف: " فيعود إلى بيته ليعوض ما فاته في المدرسة، بيته البغدادي القديم حيث الممرات المقوسة والشناشيل الخشبية تتدلى، والأبواب المحفورة، واللوحات على الجدران، والأواني البديعة والتحفيات النادرة، ومعلم الرسم الكلاسيكي (الحاج سليم) ينقح رسومه، وزوجته تحيل الخيوط الملونة نسيجا ً.. البيت معهد صغير يضم فنانين هواة، الأب..الأم ..رشادا ً.. سعادا ً.. نزارا ً.. نزيهة"
2 ـ نزار سليم [الفن العراقي المعاصر ـ الكتاب الأول/فن التصوير] وزارة الإعلام ـ بغداد 1977 ص48
3 ـ وثائق. إعداد: ضياء العزاوي. المثقف العربي. العدد الرابع ـ السنة الثالثة 1971 ص 187 ويكتب جواد سليم، في دليل المعرض السنوي السابع للرسم، عام 1958 أيضا ً: " ليست المواضيع النبيلة سواء أكانت اجتماعية أو سياسية أو حتى إنسانية كافية لخلق فن نبيل وأصيل، ان على الفنان ان يهيئ نفسه قبل كل شيء لإخراجها بحق. إن (جورنيكا) لم تخلد لأنها قصفت بالقنابل، بل خلدت بفن بيكاسو"
4 ـ الصراف ـ مصدر سابق ص67
5 ـ إسماعيل الشيخلي [ جواد سليم .. نظرة جديدة في أعماله] مجلة الرواق ـ بغداد، العدد (14) 1983 ص11 وما بعدها.
6 ـ جبرا إبراهيم جبرا [جواد سليم ونصب الحرية] ص21
7 ـ نزار سليم ـ مصدر سابق ص 49
8 ـ شاكر حسن آل سعيد [مقالات في التنظير والنقد الفني] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1994 ص229
9 ـ ذكر جواد سليم في يومياته الفنان جابسكي :" ان بعض كلمات هذا الرجل ستبقى في راسي طول حياتي. سألناه مرة: هل تحبون بلادكم. فأجابه رسام كان معنا، على الفور: لا. فقال جابسكي: انك غلطان. فالإنسان لا يبدع في رسم شيء لا يحبه. إنكم لن تكونوا شيئا ً اذا لم يكن في قلوبكم الحب الصادق العميق للبلد الذي أعاشتكم تربته .." انظر: جواد سليم ونصب الحرية، مصدر سابق ص24 وما بعدها.
10 ـ المثقف العربي ـ العدد الرابع 1971 ص135 ملف أعده الشاعر خالد علي مصطفى حول جواد سليم
11 ـ عباس الصراف ـ مصدر سابق ص 66

12 ـ [ الديمقراطية] تحرير: فيليب غرين. ترجمة: د. محمد درويش، دار المأمون ـ بغداد 2007 ص 234
13 ـ المصدر نفسه، ص 227
14 ـ عندما طلبت من الفنان د. خالد القصاب ان يجد فارقا ً بين جواد سليم وفائق حسن ذكر لي: ان جواد سليم كان يمتلك قدرات  فذة وفائقة في حل المعضلات، كان فائق حسن يبذل زمنا ً أطول في حلها. حوار منشور في مجلة ألف باء ـ 1984
15ـ قال خالد الرحال في عام 1985، بحق جواد سليم: " الشيء الذي أراه بعد هذه الحقبة من الزمن، أي ما يقارب ربع القرن، لازال العراق يذكر عباقرته، وما معناه الآن: ان أجيالنا ترد الجميل لهذا الرائد الذي ضحى من اجل إعلاء الفن في وقت لم يكن ثمة تشجيع للفن، أو للحضارة." جريدة القادسية، ملف حول جواد سليم، نشر بتاريخ:23/1/1985
16 ـ د. بهنام أبو الصوف ( فخار عصر الوركاء ) رسالة دكتوراه قدمت إلى جامعة كمبردج في خريف عام 1966 ـ المؤسسة العامة للآثار والتراث . وقد صدرت باللغة الإنكليزية . وقد ورد في إهداء المؤلف للكاتب الإشارة التالية:" هذه الرسالة كتبت في أواسط الستينات وقدمت في حينه إلى جامعة كمبردج. .. وفيها التأكيد على عناصر الحضارة العراقية واصلها في هذا الوادي، وان الفخار احد هذه العناصر البارزة لفترة ما قبل الكتابة. وقد حاولت إثبات (الفصل الخامس: خلاصة) ان فخاريات عصر الوركاء (ذلك العصر الذي نضجت فيه ما يسمى بالحضارة السومرية) تطورت عليها من فترات سابقة وقد صنعها عراقيون وليسوا غرباء عن هذا الوادي، كما كان رأي الاثاريين الأجانب في حينه"

الأربعاء، 21 يناير 2015

[ قراءة في تجربة عبد كريم سعدون التشكيلية ]- عادل كامل


[ قراءة في تجربة عبد كريم سعدون التشكيلية ]





 

عادل كامل


[1] إشارة/1
    يخلو الفن من المعتقد، بمعنى لن يصبح سلعة خاضعة للتداول، والاستهلاك،، عدا معتقده الخاص ـ الأقرب إلى بنيته الدينامية التي تحافظ على مجموعة من الجماليات والرموز والإيحاءات/ بوصفها مشفرة ـ لكن هذا لا يبدو مقبولا ً من الغالبية، على الرغم من توغله في أدق مفاصل الحياة  اللا فنية، لدى الغالبية المنشغلة بالضرورات، أو حتى لدى هؤلاء الذين لا علاقة لهم بالرهافة، وحرفيات الفن، وخصوصيته صلة تذكر.
     عبد الكريم سعدون، بتأثيرات رسخها قرن من الرسم في العراق ـ من مولوي إلى محمد مهر الدين/ ومن عبد القادر الرسام إلى فائق حسن ـ لم ينحز إلا إلى هذا الضرب الأقدم ـ والمتجانس مع الأكثر حداثة ـ من المعالجات الفنية القائمة على شعرية النص الفني، وتشذيبه من السرد والأصوات. فمنذ انجذب للعمل بصياغة رسومات غير دعائية، بل وغير أيديولوجية، سمح للموسيقا/ وللرموز/ وللطفولة/ والرهافة ان تعزل نسيج النص، ووحدته، باختلاف روافدها. فالهوية ليست معدة سلفا ً، ومعها لا توجد أزمنة  راسخة، بوصفها أوثانا ً او مقدسات لا تمس، بل انها قيد التشكل، تتلمس طريقها المنحاز لخصوصيات البناء الفني، وما يتضمنه من: لعب، وعلامات متداولة، لوضع الفن في مواجهة عصر: الاستهلاك، وأزمنته المتسارعة، وتحولاتها. فثمة صدمات لا يحدثها النبش في الماضي، بقراءة أصوله وما تلاه من متغيرات ـ ولا في مواجهة الغد، بوصفه حلقة مؤجلة للالتحاق بماضيه ـ بل لأن ثمة ما هو غير مؤكد، يكمن في الحاضر، سمح للفن ان يتبنى حضوره العنيد.  كريم سعدون، لا يعبث، أو يلهو ـ بحسب شلر ـ  ولا يبحث عن براءة محتملة، أو افتراضية، وفق انحيازه لعالم الطفل، وتحرره من القيود حسب، بل يؤكد ان هذا اللا متوقع، داخل النص الفني، يكتسب مغزاه بمواجهة مفهوم الثوابت، أو الإجماع العام، فالأصابع تغدو حاسة بصر، والجسد ومضات، والألوان حروف مثبتة في ألجين الحامل للشفرات الفنية، كما تحافظ العناصر ـ منذ أولى رسومات المغارات ـ على تجدد كل ما أصبح غير قابل للدحض، أو الاستبعاد، فالفنان اشتغل بدوافع لا وعيه من غير قصد عقلي، كي يمنح نصوصه الفنية ما يشبه التمتع بلذّة يصعب تحديد ماهيتها، حيث تكون (الدهشة) نتيجة، وسببا ً في آن، فتتضافر عوامل (اللعب) ـ حد اللامعقول أو العبث أو العشوائية ـ لتهدم صنمية الفنون الرسمية، التقليدية، لكن لا تقوضها، مادام اللا متوقع يخص التوغل، وليس الارتداد. فالفن ـ مع كونه ظاهرة عالمية عابرة للحدود والأزمنة ـ يرسم لغز (المرآة): الذات إزاء غيابها. فليس هناك غاطس أو ظاهر، ولا أنا عليا أو مستترة أو ممحوة، بل تغدو أهميتها بوصفها بؤرة للوجود: وجود يعيد نسج محتواه بما تمتلكه الأنا من قدرات على المشاهدة، حتى في اللا مرئيات، وفي المخفيات، كي يصبح النص الفني وثيقة ما، ترتقي بالذائقة إلى ذروتها.
لمتابعة الموضوع يرجى النقر على الرابط التالي
http://www.4shared.com/office/HJftqcNxce/______________________________.html

غالب المسعودي - يوتيوب(قصة سريالية)

السبت، 17 يناير 2015

جرائم داعش-



جرائم داعش


      يؤسفني إعلامكم بان مجموعة من ما يسمى ب(داعش) قد فجرت قبل أيام أسوار قلعة تلعفر التاريخية التي ترجع أصولها إلى الفترة الأشورية لأسباب مجهولة. ولا تضم هذه القلعة التاريخية أي مبان دينية أو أضرحة والتي كانت قد ستشكل ذريعة (حسب منطقهم العبثي الإجرامي) لهدمها. وترتفع القلعة حوالي 25 متر عن مستوى الأرض الطبيعية، بينما ترتفع الأسوار المنيعة حوالي 6 متر عن مستوى ارض القلعة، وتبلغ مساحتها حوالي ال 30 هكتار.  وتذكر المصادر التاريخية بأنه سبق ان هدم اغلبها من قبل العثمانيين بعد عصيان محلي وطني عام 1841، وكذلك المحتلين الانجليز عام 1920. بعد ذلك أهملت القلعة لفترة طويلة إلى ان تم ترميم بعض أسوارها في 1981، بينما زالت اغلب الأبنية التاريخية التي كانت متواجدة داخلها. ان هذه خسارة أخرى لا تعوض وجريمة حرب أخرى في سجل هذا التنظيم الإجرامي المتوحش.
د. إحسان فتحي
جمعية  المعماريين العراقيين

حكايات ولدي الشاطر-عادل كامل



حكايات ولدي الشاطر



عادل كامل




[31] بكاء




    بعد أن زار حديقة الحيوانات، مع طلبة صفه، وعاد إلى المنزل، سألني:
ـ هل تتكلم الحيوانات ؟
ـ لا ..
فقال :
ـ بل كانت تتكلم .. وكنت أتكلم معها ..
ـ ماذا كانت تقول ..؟
ـ كانت تبكي بصمت عميق !

[32] أصدقائي







     ذات مرة ذهبنا إلى الصيد .. في الصحراء .. معا ً.. لكنه كان، كلما اكتشفت صيداً، يمنعني من إطلاق النار،أو يشوش الهدف علي ّ.
صحت به :
ـ ماذا تفعل ؟
     حدق في ّ، قائلاًن بحزن:
ـ هؤلاء هم أصدقائي.. لماذا تطلق النار عليهم .. يا والدي الطيب ؟

[33] وصية



     ذات مرة مرضت، وشعرت باني سأموت في اليوم القادم.. فقلت له :
ـ يا ولدي اعتن بالحديقة .. والطيور.. وبقطتنا الجميلة.. وبالكلب الرائع .. و.. و..
ـ نعم .. سأفعل ذلك .. لكنني سأعتني بالكتب التي جمعتها لنا..
   ثم رفع صوته :
ـ علي ّ ان اعتني بك أولا ً .. يا والدي العزيز !

[34] أحلام

 

    سألته عن آخر حلم مازال يتذكره .. قال :
ـ إنها كثيرة .
ـ وأخرها ..؟
ـ ذهبت إلى قاع البحر .. فجر احد الأيام الجميلة. كنت أتجول بين الأعشاب والمحار.. فجأة سمعت سمكة ذهبية تقول لي : أيها الولد الشاطر لماذا لا تبقى معي في البحر .. فأنت ولد لطيف ؟
   أجبتها: أقترح عليك ان تعيشي معي في الغابة .. حيث الأزهار الملونة تملأ الأرض .. فقالت بحزن: لا  أستطيع ان أغادر البحر. قلت: وأنا  لا أستطيع ان أعيش تحت الماء! قالت السمكة  الذهبية: لكن حاول ان تتذكر صداقتي لك. قلت لها : في الأحلام !


[35] ذنوب



     ذات مرة طلب مني ان نذهب إلى النهر للاستحمام .. فذهبنا .. وأمام الأمواج الفضية سألني:
ـ هل تستطيع ان تمشي فوق الماء ؟
قلت :
ـ لا ..لا أستطيع ان امشي فوق  الماء ..!
فقال وهو يحدق في وجهي :
ـ ما أثقل ذنوبك يا بابا ..!

[36] رجاء



ذات مرة طلب ولدي مني:
ـ أرجوك أن لا تكبر.. ألاّ تصبح مثل جدي العجوز ..!
ـ ولكن .. لماذا ؟
ـ كي أبقى، أنا، في هذا العمر !

[37] قمر





سألني: لماذا لا تحب القمر ؟
قلت : ومن قال أني لا أحبه ؟
قال: لكنه لا يأتي ويجلس معنا في الحديقة !

[38] ليل






قال لي: الشمس تنام في الليل ..
قلت له: إنها تنام في الليل !
فقال : لا .. نحن الذين ننام في الليل ..!


[39] اسماك

 


وطلب مني ذات مرة:
ـ أريد أن تأتي لي بحوت !
ـ انه كبير جدا ً .
ـ ويسكن البحر .
ـ أجل !
    لكنه سألني :
ـ حسنا ً .. لماذا تأتي لنا بالأسماك الصغيرة فقط ؟!


[40] حوار


ـ لماذا يموت الإنسان ؟
قلت له: لأنه لم يعد يحتملها.
قال : لا .. لأنه يريد أن يحلم !


أنا رجل عتيق. خواطر في الفن وماحوله- علي النجار




أنا رجل عتيق. خواطر في الفن وماحوله







علي النجار

أنا الآن رجل في الرابعة والسبعون. لذلك وحسب المعايير الزمنية لفن وثقافة ما بعد الحداثة, أنا الآن فنان عتيق. لكن ليس من يومي هذا. بل من قبل ذلك بأعوام لا ادري ما هو عددها. العتق بالتأكيد لم يكن مشروعا مستقبليا. فالمستقبل بات زمن تتحكم بنبوءاته الكثير من الأدوات الافتراضية التي لم أكن, أو لم نكن نعهدها في بداية زمننا العتيق ذك. لكن وفي خضم مناورات الافتراض, هل باتت أفعالي(أفعال جيلي) الفنية مشكوك في قيمتها. إن لم تكن فعلا بلا قيمة. فلماذا أنشأت المتاحف وقاعات العرض الاسترجاعية التي تغص بها عواصم الثقافة والفن العالمية. لكن إن ابتكرت ما بعد الحداثة أفعالها, فهل صيرتنا هذه الأفعال فعلا أناس عتيقين, سواء إن كنا في بلدنا الأصلي, أو خارجه, بعد أن صادرت ارثنا الفني, وبخرته بقدرة مجنزرات الاحتلال وسلطته السياسية والثقافية ألما بعد حداثية. قبل ذلك تهنا زمنيا وسط دوامات هاجس الأصالة(العتيقة). لنلحقها بتوهان شبكة مسالك العولمة وافتراضاتها التي حولت حوادث أيامنا, صوريا, لدراما القتل والدمار العبثي(عبث فيما يخصنا فقط, ومنفعة لصناعها), حروب افتراضية لتسلية الصبيان والصبايا.
أبي كان عتيق, هذا شأن زمنه الذي شيئه كائنا ماضويا, كما شيء صحبه وصحب صحبه وصحبهم, الى ما لا نهاية. رافقت عتقه في صغري, وبقي شيء من صدأ ذلك العتق عالقا بي. والدتي هي الأخرى عتيقة كما هو حال غالبية جنسها في ذلك الزمن, الذي لم يعد ماضويا, بما تمخض مؤخرا في بلدي عن محاولة جادة لاستعادته أو استنساخه من جديد. كانت الكثير من تفاصيل الزخارف البدائية تنقط من فرشاة والدي على صفحة الألواح الخشبية. وكان درسي الأول الذي لم يبق منه تفصيلا سوى مسحة الفرشاة على سطح اللوح وعبق عتق إصباغها الترابية. والدي الذي كان مزهوا بعتق تفاصيله القليلة. حولني لمجرد مؤدي دور, سرعان ما تركته على عتبة دارنا العتيق.
ما بين عتق, وجدة مفتعلة. كان معهد الفنون الجميلة البغدادي في زمني ذك يراوح مكانه. فنان أستاذ لا يدرك من مهنته التدريسية سوى مهارة فرشاته. أستاذ فنان لا يتعب من ترديد جملته ( اللازم ة) باستمرار. أستاذ آخر يحاول على استحياء أن يدلنا على الأقل من القليل من ومضة الفن. أستاذ يناكد أستاذ. أستاذة لا تعرف سوى التلصص بحياء على ارث العائلة الفني, ولا تدري ماذا تفعل بنا... كان بعضنا يحرث نفسه من اجل اكتساب القليل من الخبرة الفنية, لا التصور, وعشت (عشنا) وهم الخبرة. 

هل أصبح تكريسنا مؤخرا لإيقونات العتق دليل هدايتنا في مسالك الحياة, أم وصمة, علامة فارقة. إن كان وصمة. فقد استثمرت خير استثمار. وان كانت علامة فارقة. فقد كرست بأخبث ما يكون. لكن, إن كانت لعنة. فمشكلتنا تكمن في عدم استيعاب مفاصل لعنتها, من اجل أن يتم لنا تفكيكها ومحو آثار تفاصيلها المدمرة. فماذا يعني أن تكون المرأة عورة في مجال الحياة والإبداع. وماذا يعني(كمثل) آن يكون موديل رسم أنثوي لصف الرسم النسوي, وموديل رسم ذكري لصف الرسم ألذكوري, في معهد للفنون الجميلة. رحم الله ماضينا على كل عتقه. فقد كان أفضل من حاضرنا الماقبل(الماضوي) هذا. يا للعجب فقد تحجب درس الفن أيضا, ورجعنا لعتق(عصملي).
لم استطع أن أكون كائنا رقميا افتراضيا. فانا رجل عتيق. لكن الكثير من فن اليوم. ومن هواة فن اليوم رقميون. ميزة الفن الرقمي كونه فن أدوات مشاعة لكل الأجناس والفئات والأعمار. هو إذا جزء تمهيدي من المشروع الأعم للإنسان الرقمي الشعبي المستقبلي. ما صادره الفن الرقمي من الفن التقليدي بمدارسه ومذاهبه المختلفة ليس كثيرا, بما انه صور ثابتة, وصور متحركة, لا يهمها سوى اختراق الدماغ. ليس الا. أما أنا, ولكوني رجل عتيق, فلا يسعني الاعتماد على دماغي فقط. من اجل آن اصنع صوري.هذا هو شأني. وان يكن أيضا شأن آخرين غيري. ربما اختلفوا بعض الشيء معي. وربما وافقوني الرأي.
هل بإمكاني أن أكون افتراضيا, بعد أن تحول الافتراض الى أفعال عالم اليوم. اعتقد, وبما أني رجل عتيق, ربما استطيع, وربما لا استطيع ذلك. فالافتراض وهم ربما كان جميلا, فنتازيا, خارقا. لكنه اليوم بات تكنولوجيا. والتكنولوجيا حمالة أوجه( بندقية افتراضية للصيد, تحولت لقنص البشر), من الخليج عبرت الصواريخ الراجمة رقميا الى جسور بغداد فهدتها على رؤوسنا. وببلاغة افتراضات اقتراحات الجيل الرابع من الحروب تفككت ودمرت بنياتنا العمرانية والاقتصادية والاجتماعية. ضمن فضاء هذه الحروب الرقمية الكونية وألعابها الصورية الغير بليغة, تحولنا الى مجرد تابعين, لا مبادرين إبداعيين.

بعد كم المدارس الفنية الإبداعية الحديثة, وما بعد حداثتها الأولى. في أوج عطائها المتقدم. هل بإمكاننا ان نشطب على كل منتجها, مادام أصبح عتيقا, و بأقل تقدير, أن نتغاضى عن النظر إليه كما هو منتج فني أنساني لأجيال بشرية متتالية. أنا العتيق, لا استطيع أن أغظ بصري عن التلصص على كل هذا الكم الهائل من الإنتاج الإبداعي. فن الديجتال, وفن الكومبيوتر, أو فن الميديا. وكوسائط فن عولمية تلصيقية ودادائية, لا توفر لي سوى الوهم. وبالرغم من كوني رجل عتيق, فانا أيضا أقر بشساعة الوهم الذي توفره لي الأعمال الفنية الغير رقمية. لكني اعتقد أيضا أنها الأقرب الى نفسي لكونها تشرك اليد والدماغ والعاطفة والحالة النفسية, والكثير من تفاصيل أثر البيئة والأحداث الخاصة والعامة, والقدرة الأدائية الفردية لالتقاط عناصر التعبير وجمالياته, و استخراج العتمة من غياهبها.
بما أننا نعيش ونعمل وسط عالم رأسمالي. فهل يعني أننا رأسماليون في استثمار قدراتنا الإبداعية, بما ينسجم وأطروحات الثقافة الرأسمالية. بعضهم وكفناني ما بعد الحداثة, يقرون ذلك بفخر. بمعنى ما, هم لا يجدوا ذواتهم إلا فيما تطرحه القنوات الرأسمالية الميديوية من نتاج نخبتها الفنية. أنا الرجل العتيق. لا أود أن أكون صامولا في الماكنة الرأسمالية الإعلامية الفنية(بما أن غالبية هذا النتاج الفني يقع ضمن خانة الإعلام الميديوي. والباقي للتسويق الشعبي العولمي). بالتأكيد هناك إغراءات كثيرة تحت يافطة الحرية الثقافية ومنها الشخصية بالذات. لكنها تبقى حريات فردية, لا تتجاوز مفاعيل فرديتها المنظومة الاقتصادية الرأسمالية الجبارة لحفنة من أصحاب الثورة العالمية التي تتحكم باقتصاديات ومصائر مليارات من سكان عالم اليوم, دون التفات الى كل الآثار الكارثية التي لحقت بالكثير من العوالم, مثل عالمنا الثالث, وبلدي العراق بات حقل تجارب لتقنية تكنولوجيا السلاح الرأسمالي, ورهط إعلاميه الميديويين. فماذا نفعل بخارطة النحر والتهديم والحراب الطائفي المسترجع تكنولوجيا. ماذا نفعل بمشاريع التقسيم والتشتيت والتهجير. أليست هذه كلها أيضا من سلوكيات سياسات معاصرة ما بعد الحداثة, وآلاتها المعولمة. هل اترك كم هذا الغث المستخرج بقدرة سلطة الانتداب والاحتساب, وكم الخراب الإنساني والبيئي الذي أصابنا, من اجل أن امجد صناعة الحدث, من قبل, ومن بعد إطلاق قوته المدمرة. 
العولمة الفنية ومن احل أن تكون شمولية التواصل, خطط لها لان تنتمي لمصدر عولمي واحد , أو مصادر موحدة. أنا الرجل العتيق لا يعنيني هذا اللون الواحد. فانا لا أزال احن الى معزوفات أقوامي السابقة على سطوح أختامهم الاسطوانية.. جدران معابدهم.. معمار زقوراتهم.. وحتى نقش أوانيهم البدائية. تلك الأرواح العتيقة تنظر لي بعتب. مثل نظرات المطويات الصينية والأحجية الأفريقية. فهل يراد لي أن اصدق ما يشاع عن موت اللوحة وموات الرسم بتقنياته المختلفة, لصالح الصورة الميديوية المفهومية ووسائلها الآلية. فان كان بعض من ذلك مقبولا بنسبة ما, في حدود إنتاج أعمال تحمل عناصر جديدة لمضامين ثقافية, سياسية, وبيئية إنسانية. و بما يترشح منها أحيانا, كأعمال تمس الحدث, أو تشير إليه. لكن, ليس كما هو كم العبث المحير والطاغي, الذي تكتظ به كبريات دور العرض الفني المعولمة. فان كان إنتاج الوهم كإيهام صرف, وتكراره الى ما لا نهاية. فانا عتيق بامتياز. 

ربما تجاوزني الزمن. أو هو فعلا كذلك. فانا العتيق أحب آن المس نتائجي بيدي. بينما الكومبيوتر في طريقه لأن يسرق دوري ويلمس نتاجه الفني دون أن يترك لي دورا. حسنا ليسرق ما يشاء. فالآلة محكومة بسياق تطورها الى ما لانهاية. وكما نشاهد الآن من تدخلات اصغر الوحدات الفيزيائية على الإطلاق(النانو) في بناء سلوكيات واكتشافات جديدة في طريقها الى الاستقلال التام عن كل ما هو مألوف. فهل يعني هذا ذوبان أحلامنا وانصهارها بلا عودة. لتتشيأ وحدات نانو أيضا, وما يأتي بعدها من تجاوزات لا ندرك قدرتها الآن. أم سوف يبقى هناك حد فاصل ترتع فيه أحلامنا الشخصية وأفعالها الثقافية الفنية. أنا الرجل العتيق أبقى على ريبة من كل ذلك. لا بد أن يبقى احدنا عتيقا, من اجل موازنة معادلة الثقافة الفنية كما أحزر لقطيع البشر المنتشر على أطراف الكرة الأرضية. ربما يعاد للهامش دور جديد, كما هي دورة تاريخ الفن في فصولها العديدة. ربما يكون هذا الهامش طليعيا من جديد لإعادة توازن المعادلة الإنسانية المفقودة. أو التي في طريقها للضياع. ولكي لا ابقى, وتبقوا انتم أيضا عتيقين, ولو في حدود أحياز صغيرة.
كان التطرف حاضرا في الحركة النسوية(فيمن) وشخوصها الثقافية والفنية من الجيل الثاني الستيني بتبنيها للكثير من العلامات والسلوكيات الهجومية الشاذة ضد الرجل تحت ذريعة عدم المساواة بين الجنسيين. ذريعة مقبولة بحدود عدم التجاوز على حيزها الواقعي. ثم جرى انتقاد سلوكياتها من قبل العديد من الرموز الثقافية النسوية ذاتها. في وقتنا الحاضر وضمن سلوكيات ما بعد الحداثة الفنية والثقافية, يتم الترويج للجنسية المثلية كعلامة, ماركة مهمة للعصر الرأسمالي(ولنقل العولمي). أخيرا أنا الرجل العتيق, لا تعنيني الصرعات الجنسانية, ولا غيرها. ولا يعنيني أن اصنع منها أعمال فنية كجواز مرور لقاعات ومحافل فنية بشروط مسخ جنسي. أعمال ممهورة بصك القوة الشرائية للآلة الإعلامية الميديوية لصناع منجزات, أو أحيانا ترهات ما بعد بعد المعاصرة الفنية الحالية. فهل يعني ذلك أنني شاذ عن سلوكيات عصري, وأنا أرى وسائل الميديا البصرية تغص بنماذج مختارة منهم. عتقي لا يسمح لي بالخوض في ملابسات سلوكيات يراد لها أن تكون مشاعة وكاسحة. إذا لأبقى كما آنا عتيقا, يزداد أو يزدرد عتقا. في انتظار آن يتم تجاوز هذه السلوكيات, تفكيكا من داخلها, أو إعطائها الحجم المناسب, من دون التجاوز على ارث الآخرين وسلوكياتهم. و لأجل إعادة معادلة التوازن الإنسانية, لا قهرها عنوة.