الخميس، 4 ديسمبر 2014

سعدي يوسف - نقد القرود، وقرود النقد!-د. ميثم الجنابي

سعدي يوسف - نقد القرود، وقرود النقد!

 

د. ميثم الجنابي
     
 
ليس في العبارات الحادة التي كتبها الشاعر العراقي والعربي الكبير سعدي يوسف، جديدا من حيث اللغة والعبارة والكلمات والتوجيه والتوجه. بمعنى أنها موجودة في قاموس اللغة العربية وقدرتها على "النحت" والتوليف، كما أنها موجودة في التداول العلني وغير العلني بين العراقيين (العرب) فيما يخص الأكراد و"كردستان". والشيء الوحيد الجديد فيها ضمن هذا السياق هو طباعة كلمة "قردستان" على "الورق"، التي أثارت ردود فعل مختلفة ومتناقضة، بين رافض لها وقابل، حانق ومتشفي، حزين وفرح، أي كل الأشكال المعقولة والمقبولة في حالات النزاع والخلاف. وإذا كانت حصة الرفض والحنق غالبة ومطلقة عند الأكراد، فان لها ما يفسرها سواء بمعايير الشعور القومي أو بمعايير المشاعر البشرية المميزة للأكراد في هذه المرحلة من تاريخ العراق السياسي.
وفيما لو تجاوزنا مظاهر هذه الحالة، بالدخول إلى صلب القضية، أو إلى البواعث الدفينة القائمة وراءها وأسبابها المتنوعة ومقدماتها الفعلية، فإننا سوف نقف أمام الإشكالية الجوهرية الحقيقة، ألا وهي إشكالية الوطن العراقي، والهوية العراقية، وفكرة الوطنية العراقية المختلفة والمتعارضة والمتناقضة بين العرب والأكراد في العراق، أي كل ما يؤدي إلى غاية هذا الاختلاف والتعارض والتناقض تجاه القضية القومية في العراق بشكل عام والعلاقة العربية - الكردية بشكل خاص.
لقد كان بإمكان الكثير قول هذه العبارة دون أن تثير ردود فعل. لاسيما وان المواقع الالكترونية تحتوي على ما هو أشنع منها عند العرب والأكراد تجاه احدهم الآخر. طبعا إن العرب اقل حساسية تجاه مختلف أنواع الشتيمة المبثوثة من جانب الأقليات القومية والدينية في مختلف المواقع الالكترونية، والتي يهبط اغلبها إلى مستوى يتسم بقلة الأدب والذوق، اللذين يعكسان بدورهما حالة الهوس الصغير المميز للصغار، وكذلك بسبب تشبعه بما يمكن دعوته بالبلادة التامة والغباء الغريب والجهل المعرفي والثقافي والتاريخي. وهي صفة الأقليات غير المندمجة، بالمعنى الثقافي، في كل مكان وتاريخ تجاه الأغلبية. والمقصود بذلك الأقلية التي تعيش بمعايير وقيم الانغلاق القومي أو العرقي أو الديني أو المذهبي أو الطائفي وغيره من الأشكال الأخرى. وسرّ ذلك يكمن في أن الأقلية كيان لم يكتمل. وهذه مفارقة ومأساة بقدر واحد تجعل من الهوس (القومي والديني وما شابه ذلك) "عقلا". بينما في الواقع هو مجرد نفس غضبية.
غير أن الأمر يختلف حالما تصدر هذه العبارة من شخصية بحجم ووزن سعدي يوسف. ويعود ذلك إلى سببين. الأول هو "طفح" المشاعر المعادية للأكراد في العراق، بحيث وصل إلى عقول وقلوب شخصياته المثقفة والمبدعة. والثاني هو صدورها من "الشيوعي الأخير" الذي تشبع في كل تجاربه الحياتية والشعرية بالفكرة الأممية، والتوجه الاجتماعي الديمقراطي، والنزعة والإنسانية، وعقيدة التسامح العقلاني. بعبارة أخرى، إن ما كتبه سعدي يوسف ليس شعرا ولا موقفا سياسيا، ولا نقدا قوميا، بل هو شيء اقرب ما يكون إلى ما دعته المتصوفة بالشطح. انه "شطح" المشاعر الصادقة لشاعر صدوق فيما يتعلق بفكرة النقد والبوح بما فيه كما هو.
لم يكن سعدي يوسف في يوم ما من الأيام مداحا للسلطة والأحزاب وما شابه ذلك، بل شاعر المشاعر الفردية الصادقة والمصقولة بفكرة الإنسان الحر، والمجتمع المدني، والانتماء الثقافي للكينونة العربية. وضمن هذا السياق لا معنى للهجوم عليه والمغلف بعبارات "الشوفينية" أو انعدام "الوطنية" و"الإنسانية" و"التسامح" وما شابه ذلك. فهناك فرق جوهري بين نقد القرود وقرود النقد.
بعبارة أخرى، إن نقد القرود لا ينبغي أن يكون حافرا لظهور قرود النقد، بمعنى أن نقد النزعة التقليدية والتقليد لا ينبغي أن يكون مبررا لظهور مقلدين أغبياء جدد لا يفقهون حقيقة النقد ومعناه ومغزاه وغاياته. وذلك لأن النقد اللاذع الذي كتبه سعدي يوسف لم يكن من حيث الجوهر موجها ضد الأكراد و"كردستان"، بقدر ما انه موجه ضد حالة العراق العربي، أي العراق التاريخي الثقافي الذي تمّثله ومّثله سعدي يوسف في إبداعه الشعري. تماما كما أجاب مرة أبو يزيد البسطامي عندما طرق الباب عليه رجل يستأذنه بالدخول، قائلا: "ادخل! ليس في الدار غير الله!". لقد فهمه الأغبياء على انه كفر والحاد، وذلك لأنهم فهموا من كلامه انه جعل من نفسه آلهة. بينما هو أراد القول، بأنه لا شيء في الدار غير الله، وان أبو يزيد لا يزيد عن كونه عدم الوجود المتسامي، الذي لا تفقهه قرود النقد المزيف.
فالنقد كما هو معلوم من النقد، أي من عض الدراهم من اجل معرفة ما إذا كانت ذهبا خالصا أم مزيف. لقد كان سعدي يوسف في مواقفه النقدية عضّاضا لدراهم العراق المزيفة، بينما عضه منتقدوه! وهذا فرق شاسع بين عض الأحباب وعض الكلاب. مع أن الأخيرة صادقة وفية، شأن الببغاء جميلة بترديدها للكلمات، والقرود في تقليدها البهلواني. وهي مقاربات إنسانية صرف، وذلك لأن حقيقة القرد ليست في التقليد، وحقيقة الببغاء ليست في الترديد، وحقيقة الكلاب ليست في النباح، كما أن حقيقة الإنسان ليست في البلادة والغباء بل في العقل والفكرة الإنسانية. ومن ثم لم يكن طفح المشاعر السياسية عند سعدي يوسف سوى شطح الفكرة الصادقة التي قالها قبله شاعر العراق والعرب الأكبر المتنبي:
وإنّما النّاسُ بالمُلُوكِ ومَــــا
تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلُوكُها عَجَـــمُ
لا أدَبٌ عِندَهُمْ ولا حَسَـبٌ
ولا عُهُودٌ لهُمْ ولا ذِمَـــــمُ
إنّي وإنْ لُمْتُ حاسدِيّ فَمَا
أنْكِرُ أنّي عُقُوبَةٌ لَهُـــــــمُ
إن مهمة الشاعر الكبير أن يكون عقوبة للحالة التي تجعل كل من لا أدب عنده ولا عهد ولا ذمة "ملكا"، كما هو الحال بالنسبة للبرازانية. وهي حالة غريبة ومثيرة بقدر واحد في العراق الحديث، بمعنى صعود نجم حثالة سياسية عائلية اتسم تاريخها الذاتي بالخيانة والغدر للمصالح العراقية الكبرى، مع أنها دخيلة عليه وعائشة على أرضه، ونكرة شبه تامة بالمعنى التاريخي والثقافي. أنها "قردية" بمعنى تقليدها (للدكتاتورية الصدامية) وتقليدية من حيث بنيتها العائلية والقبلية. وفي هذا يكمن سرّ خرابها وتخريبها للعراق، الذي أصبح "الرجوع" إليه بعد عام 2003 طريقا للخروج منه بغائم المادة 140، وقبلها بسرقة كل ما كان بالإمكان سرقته في مجرى الاحتلال الأمريكي للعراق. وأخير التواطؤ مع بقايا الصدامية ودواعش الغدر لاحتلال ما يمكن احتلاله وسرقته. وهذا هو ديدن من لا يسمع ولا يرى ولا يتكلم، أي كل ما وجد تمثيله في صورة القرود الثلاثة الشهيرة، أو القرد في صوره الثلاث. والحقيقة واحدة. بمعنى أن البرزانية وأمثالها في العراق من تشيع سياسي فاسد بمعايير الرؤية الاجتماعية والوطنية، وتيارات سنية إرهابية ومتفسخة بمعايير الفكرة الوطنية والقومية، لا يمكنهم رؤية وسماع الحقيقة القائلة، بان وجودها مؤقت، وان كل ما سرقته سوف يجري استرجاعه، وأنها سوف لن تكون قادرة على الكلام عندما يصدر الحكم التاريخي بإعدام وجودها في العراق مرة واحدة والى الأبد.
 


الأربعاء، 3 ديسمبر 2014

11 قصة قصيرة جدا ً-عادل كامل

  11 قصة قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] في المغارة
   ُسمح له بالدخول إلى المغارة، بعد سنوات طويلة من الانتظار، فسار متلمسا ً جدرانها بأصابع مرتجفة،  متوغلا ً بعيدا ً في العمق. كان الممر ضيقا ً، ضيقا ً جدا ً، ولا يتسع إلا لمرور شخص واحد، متوسط الحجم، وللذهاب فقط. فترك أصابعه تتلمس المنحنيات، وتساعده في التقدم ببطء شديد. أخيرا ً، وبعد ساعات، من الزحف، وصل إلى نهاية الممر: حفرة مضاءة بفتائل تتغذى على شحم الحوت، وشمع النحل، وزيت الأشجار...، لا احد هناك إلا رجل عجوز، كانوا يطلقون عليه بالأب الأعظم، كبير كهنة الغابة، وكاتم أسرار الحياة والموت. ما ان رآه حتى تردد، في التقدم، بل   كاد يتراجع، إنما أدرك انه كان فقد مثل هذا الحق، ومثل هذا القرار، الذي هو وحده اختاره وأصر عليه.
     تجمد برهة من الزمن ظنها امتدت العمر كله، عند عتبة الحفرة التي بلغ نهايتها بعد جهد كبير وشاق، قبل ان يزحف، نحو وسطها، الذي لم يتسع لأكثر من شخص واحد أيضا ً، ثم اقترب من الكاهن، الذي بدا له مثل تمثال نحت بعناية، وقد كف عن الحركة تماما ً. مد أصابعه وتركها تنبسط فوق صخرة وضعت أمام الكاهن الأعظم.
ـ ما الذي جاء بك .... إلى ّ، وما الذي تريد ان تعرفه، بعد ان عشت سنوات طويلة في الغابة ...؟
    للمرة الأولى في حياته وجد ان الكلمات لا معنى لها، كأنها اختراع فائض، وجدت للتمويه، ولأنه لم يجدها، فرح قليلا ً، ولكنه وجد انه ازداد توقا ً للاعتراف بأنه لا يمتلك إلا رغبة ان لا يقول شيئا ً ما أبدا ً. حتى كاد يقهقه لهذا الاستنتاج، لولا شعوره برهبة الظلام، وصمت الكاهن، وما ظهر له من نقوش ملغزة فوق الجدران. كان كل منهما قد قرأ ما دار بخلد الآخر. فنطق الكاهن:
ـ تستطيع ان تساعدني على الموت!
ـ ولكنني جئت أسألك لماذا ......، فانا لم آت كي أموت عندك!
قال الكاهن بصوت  رقيق:
ـ بعد ان أموت ...، ستعلم الناس الموت، من بعدي، كيف يموتون بهدوء!
     لا يعرف كيف تكّونت لديه رغبة بالكلام، وكيف عثر على الكلمات، فقال بصوت مرتجف، خفيض، رآه يتمايل مع ذبذبات خطوط زرقاء ممتزجة برائحة الدخان كانت تقترب منه:
ـ جئت أقول لك ....، إنني اغفر لك انك خلقت الإنسان، في هذه الغابة، وربما اغفر لك انك سترسلنا إلى الجحيم...!
     ليجد قوة ما تمنعه من متابعة النطق. عمليا ً بحث عن الكلمات، في رأسه، فلم يجدها.  ابتسم الكاهن، ولم ينطق بكلمة أيضا ً.  إلا ان الآخر لم يجد ان هناك ضرورة للشرح، أو الإيضاح، لقد اخبروه، منذ البدء، ان من يدخل المغارة لن يغادرها أبدا ً، فما فائدة البوح بوجود، غير الجحيم، كما قال الكاهن له، مساحات خضراء، وبلورية، وبيضاء، تمتد بعيدا ً خارج ظلمات المغارة.

[2] النار والنعيم
ـ الحرية التي تبحث عنها...، لا وجود لها، لأن كل من حصل عليها، فقدها، فما جدوى ان تبحث عنها ....؟
ـ اعترف لك...، يا سيدي، انك سمحت لنا بالحصول على ما ستأخذه، وما ستسترده منا، وأنا اغفر لك ذلك، بل واغفر لك انك ستعاقبنا، وتنكل بنا، وتمحونا من الوجود.....، اغفر لك انك بشرتنا بالجحيم، والنار، والعذاب الأبدي ...، اغفر لك ذلك كله....، ولكن اخبرني، يا سيدي، ما الذي فعلناه كي نستحق ، ونجازى بالنعيم، وبالحور، والغلمان، والعسل، ما الذي فعلناه كي تهبنا البساتين، والأنهار، والشموس، .....، فانا لا احتمل مثل هذا النعيم!

[3] ظلمات
     قال عالم الفيزياء الشاب لزميله عالم الفيزياء الكهل:
ـ   ها أنت ترى ان سرعة الضوء، هناك، في الأعماق، التي تسمى الكوزرات، تتراوح بين 8 إلى 12 مرة أسرع من ضوء شمسنا المعتمة!
ـ اعرف!
ـ ماذا تعرف ..؟
ـ ان ضوء شمسنا، هذا، مقارنة بسرعة الضوء هناك، محض جدار...، صلب، معتم، وحجاب ...، وإننا أمضينا حياتنا في الظلمات...!
ـ اخبرني، إذا ً....، ماذا كنا نعني بالنور، والأنوار، في كلماتنا، ولغاتنا....؟
أجاب عالم الفيزياء الكهل:
ـ أنا رأيت ما هو ابعد من تلك الكوزرات.....!
ابتسم العالم الشاب وخاطب نفسه بصوت مسموع:
ـ الآن أدركت سر عدم تشبثك بما كنا نبحث عنه!

[4] درس
     افتتح معلم الفلسفة درسه الصباحي بالحديث عن وباء الايبولا:
ـ  انه وباء سريع العدوى وفتاك لا يرحم وهو درس آخر علينا ان نتعلم منه ...
وصمت. كانت آذان التلاميذ شاردة بانتظار ان يتكلم. لم ينطق، وهو يحدق في الوجود التي قرأ فيها ملامح الفزع، والخوف. فقال فجأة:
ـ انه مثل الموت....
 وصمت مرة ثانية، لدقيقة، ثم تابع قائلا ً:
ـ انتهى الدرس!
   غادر التلاميذ الصف، إلا طالبة واحدة اقتربت منه، وسألته:
ـ أستاذ..
منعها من المتابعة:
ـ لا معنى للكلمات، فالموت وحده يؤدي واجبه على أكمل وجه، فهو الوحيد الذي   يعرف ماذا يعمل...!
ـ أستاذ..
ـ ونحن، يا عزيزتي، لم نتعلم إلا ان نتتبع خطاه!

[5] قيود
     في الزنزانة الانفرادية، المظلمة تماما ً، والباردة جدا ً، والخالية من الهواء، لم يجد المحكوم عليه بالموت من يتكلم معه، عدا السلسلة الحديدية التي كانت تمنعه من الحركة:
ـ حتى أنت ِ، أيتها القيود، لا تتمتعين بالحرية!

[6] مرآة
نظر العجوز في المرآة:
ـ آ ....، سبق ان رأيتك!
لم تجب الصورة، فقال:
ـ حقا ً ها أنا اعرف أنني لا أشبه نفسي...، إذا ً....، هو يشبهني!
    قرب رأسه من المرآة ولمس سطحها:
ـ من منا ً أخيرا ً يشبه الآخر....، أم علي ّ أن أقول: لا احد يشبه احد...، مادامت المسافة بيننا غير قابلة للقياس...؟ آ .....، كنت اعرف أنني أضعت حياتي بالبحث عنها، والآن آن لي ان ادعها تغيب.
  ابعد وجهه عن المرآة قليلا ً، تاركا ً أصابعه تتلمس محياه:
ـ آن لي ان أتعرف عليك يا أيها الغريب ...!

[7] رهان
     ظل يردد مع نفسه، في الطريق لتلبية دعوة تلقاها من سيدة يعرفها منذ زمان بعيد: ما النصر إلا هزيمة مؤجلة! مثلما كنت تقول: ما المستقبل إلا ماض ٍ مؤجل!
ـ شكرا ً لأنك لبيت دعوتي.
كلاهما عند حافة السبعين من العمر، قالت:
ـ  كان ذلك قبل نصف قرن تماما ً...
   فقال لها بصوت مرتبك:
ـ كنت اردد: لا خسائر ولا مكاسب...، في الحياة، لولا إنها برهنت أخيرا ً إنها هكذا: مرارات تعقبها أخرى!
ـ كأنك ولدت قسرا ً؟
ـ لا!
وأضاف:
ـ بل عشت كأن الحياة ضرورة لا بد منها!
ـ لم تتغير...؟
وسألته حالا ً:
ـ قلت كأنها، كأنها...
تنهد بعمق، مستعيدا ً رائحة العطر ذاته الذي طالما أسره، عطرها الشبيه برذاذ ناعم امتزجت فيه نسمات الفجر...
ـ العطر ذاته..
فقالت وهي تحدق في الفضاء:
ـ كأننا في السنة الأولى، لم نكبر، ولم يمض الزمن، ولم ....، لكن أرجوك اخبرني...
صمتت برهة، وسألته:
ـ لماذا لم تتشبث بي، لماذا تركتني اذهب ....؟
ـ أنا أيضا ً أسأل نفسي: لماذا لم تتشبثي بي، لماذا تركتني اذهب ....؟
ـ آ .......، كلانا إذا ً لم يتغير!
ـ ها أنا ليس لدي إلا ان أؤكد: ان الهزيمة هي آخر جواب على إننا كسبنا النصر! وكسبنا رهان هذا الوجود!

[8] مصير
ـ قتل نفسه، وقتلنا..
ـ من..؟
ـ سقراط!
ـ ماذا تقصد...؟
ـ اقصد بالضبط: قتل نفسه، ولم يترك لنا إلا ان نموت معه أيضا ً!
ـ كأنك تريد ان تقول: ان عمله يشبه أعمال هؤلاء الفتيان الذين يفجرون أجسادهم وسط حشد من الأبرياء!
ـ تماما ً، لأن سقراط إنسان بريء!
ـ رغم انه قتل نفسه وقتلنا معه!
ـ نحن قدناه إلى ارتكاب الجريمة!
ـ لم اعد أفهمك...؟
ـ لأن الفتيان الذين يفجرون أجسادهم الغضة في حشد من الناس الأبرياء، يقتلون أنفسهم، ويقتلوننا معهم، مثل سقراط، لم يجد سوى ان يلبي نداء الموت.
ـ مع ذلك قلت انه إنسان بريء...؟
ـ لو كنا نمتلك ذرة واحدة من البراءة، لعرفنا كم اقترفنا ونقترف من الآثام، والمعاصي، والجرائم....، حتى سمحنا لسقراط باختيار الموت، كما لم نترك لهؤلاء الفتية إلا اختيار هذا المصير!

[9] اعتراف
   استدعاني صديق لم أره منذ سنوات بعيدة، فقلت إنها مناسبة لمعرفة لماذا توارى عنا وعاش حياته وحيدا ً، حتى ظننا انه هاجر، أو فارق الحياة.  كان لا يشكو من المرض، وإنما ـ قال لي ـ : الإنسان لا يعيش إلى الأبد! ابتسمت، وقلت: اعرف، بانتظار معرفة أسباب دعوته لي. لكنه، بعد قليل، نهض، واخرج من خزانة الكتب، دفترا ً، وقال لي:
ـ بعد ان أموت...، يحق لك ان تطلع على ... ما دوّنت فيه.
فقلت حالا ً:
ـ وماذا لو سبقتك في الرحيل، يا صديقي...؟
ـ المشكلة لن يكون لها وجود!
ـ ثمة مشكلة في الأمر...؟
ـ نعم.
 وسألني:
ـ هل تتذكر عندما كنا نعمل معا ً...؟
ـ نعم.
ـ وهل تتذكر، أنت وأنا، عندما طلبونا لمقابلة الرجل الأول في الدولة، مع عدد من الزملاء...؟
ـ نعم، كأن اللقاء جرى قبل لحظات!
ـ عندما غادرنا القصر، هل التقينا، أنا وأنت، بعد ذلك ..؟
ـ لا.
ـ أنا عندما عدت إلى البيت، لم استطع مقاومة رغبة جامحة بالنحيب، والعويل، بل بالعواء!  أنا الذي كنت ارسم خططا ً لاغتيال الرجل الأول في الدولة!
ـ اعرف، فانا كنت شريكك في رسم الخطط!
ـ لا أقول لك بأنني صدمت، بل أقول لك: أفقت!
   وانتظرت ان يكمل، فقال بعد لحظات صمت:
ـ لقد أدركت بجلاء كم كان الرجل بحاجة إلى ...، إلى...، حنان، أو قل إلى: رعاية، بل إلى: عناية!
ـ عناية، الجلاد....، الطاغية، المستبد بحاجة إلى ...من يرعاه، ويحبه!
ـ لأنني أدركت كم كان وحيدا ً، تائها ً، شاردا ً، معدما ً، حتى انه عندما كان يخاطبنا كان كمن يستدعي آخر للكلام نيابة عنه!
ـ والخراب الذي أحدثه، يا صديقي، هل هو مجد، وعمران...؟
ـ كان هو الحلقة الواهنة في السلسلة!
   كدت اصرخ: أمن اجل هذا طلبتني..؟  لكنه قال:
ـ لا أريد الاعتراف بان في كل منا يقبع جلاد، بل أقول ان في كل منا هناك ضحية تأمل ان لا تتعثر خطاها  وتغدو وحيدة، تائهة، معزولة، وشاردة تحدق في الظلمات!
ثم أضاف:
ـ بعد ذلك اليوم...، كان علي ّ ان لا أصبح طريدة! وفي الوقت نفسه، ان لا أصبح صيادا ً!
   عندما أصبحت وحيدا ً، في الشارع، تعثرت، وكدت أقع، واسقط في حفرة، فقد شاهدت حشدا ً من الصبية يحدقون في ّ، وهم يتهامسون، ولأنني ثقيل السمع، قررت ألا افتح فمي بكلمة، وأنا أتوارى عن الأنظار، وأغيب.

[10] ظل
    رأيته يمشي وحيدا ً ببطء، ببطء ملفت للنظر، وهو يلملم ظلاله من خلفه، واضعا ً ما جمعه في كيس، ثم يتابع سيره، ببطء، ببطء شديد. فدار بخلدي: هذا ما كنت ابحث عنه...، فانا كنت أفتش عن أكثر الناس بخلا ً! كي أكون عثرت على ابخل إنسان فوق سطح الأرض، مع إنني لم اترك كتابا ً في البخل، والبخلاء لم اطلع عليه، فضلا ًعن إنني مازالت اقشعر إلى حكاية  تلك التي ما ان كانت ترى ضيوفا ً إلا وأطفأت النار، ولكن بالقليل من بولها، بإقساط، وليس دفعة واحدة!
  التفت الرجل نحوي وقال، والابتسامة لم تفارق شفتيه، هامسا ً:
ـ لا تكن سيء الظن بي، أيها العابر، إلى هذا الحد، فانا عندما رأيتكم تهدرون الضوء، قلت لنفسي: ليس لديك ما تفقده، فاجمع ظلك، ولا تدعه يضيع!

[11] عتمة
سألت الزوجة زوجها أستاذ الكيمياء:
ـ ماذا تفعل في هذا الصباح الجميل...؟
ـ يا زوجتي العزيزة، ألا تشاهدين أنني استخراج  العتمة من أشعة الشمس..!
ـ وهل في الضوء ظلمات؟
ـ مثلما في أجسادنا شوائب، وربما في عقولنا اضطراب....!
فقالت بعد صمت وجيز:
ـ أي انك تبحث عن الضوء الخالص؟
   حدق في عينيها، وقال بحزن عميق:
ـ مثلما كنت منشغلا ً...، منذ سنوات بعيدة، بلغز هذا الذي مكثت تنبثق منه الومضات، تجديني لم افقد الأمل....!
11/11/2014


الأحد، 30 نوفمبر 2014

7 قصص قصيرة جدا ً- عادل كامل

7 قصص قصيرة جدا ً



عادل كامل
[1] معجزة!
ـ قلت انك مرسل من السماء، وهذا جيد، ولكن ما هي معجزتك...؟
     نظر في العيون التي كادت تمزقه، قبل ان تلامسه المخالب، والأنياب...، فأدرك ان أي رد، أو أي جواب، لن يكون مقنعا ً، ولن ينقذه منهم...، فقال بلا مبالاة:
ـ معجزتي...، معجزتي، إنني بلا معجزة!
   عندما وجد نفسه طليقا ً، لم يصدق، ولكنه لم يبح لأحد، بعد ذلك اليوم بسرها!

[2] سجن
     في المرة الأولى، تم سجنه، لأنه لم يهتف بحياة الزعيم، مع الملايين التي كان يراها تملأ الأزقة، والشوارع، والساحات. وفي المرة الثانية، اقتادوه إلى السجن أيضا ً، لأنه كان قد أغلق فمه، ولم يتفوه بكلمة نابية ضد الزعيم الراحل!

[3] محنة
     نظر إلى الأمام، فراه، ونظر إلى الخلف، فراه أيضا ً. آنذاك فكر بالفرار من اليسار، أو من جهة اليمين، بعد ان أدرك انه بلغ المكان المغلق من الجهات كلها. اقترب الآخر منه، وسأله:
ـ والآن ...، أين المفر...؟
فكر لبرهة وقال:
ـ الآن أوافق ان أكون مساعدا ً لك...!
فقال الآخر بمرح:
ـ دعنا نتبادل الأدوار، أنت تصير الموت، وأنا أصير الحياة!
  حدق  في محياه بشرود، متمتما ً:
ـ الآن، الآن، أدركت انك، مثلي، لم تكسب شيئا ً!
[4]  موعظة
     بعد ان واصل إلقاء مواعظه، وخطاباته، لسنوات طويلة، ولم يلتفت احد له، قرر ان يغلق فمه، ويسد باب بيته، ويقبع في حجرته أمام الجدار حتى الموت. ولكنه استغرب ان يجد، في اليوم التالي، حشدا ً كبيرا ً من الناس يتجمهرون عند الباب، يطلبون منه ان يلقي موعظة. فقال:
ـ آن لي ان القي موعظة الصمت!
صاحت الجماهير:
ـ لن ندعك تصمت...، لن ندعك تغلق فمك!
واقترب احدهم منه، وقال بصوت مرتفع:
ـ أرشدنا، فماذا نفعل من غيرك!
ـ الموعظة الأخيرة التي كان علي ّ ان ابدأ حياتي بها، أيها الناس، تقول:  ان لا تنتظروا شيئا ً يأتيكم من احد.
ـ وماذا نفعل أيها الواعظ الحكيم...؟
ـ افعلوا أي شيء عدا انتظار هذا الذي تعتقدون ان يأتي لكم بالمعجزات!

[5] قبل الطوفان
   في الحرب التي وقعت قبل عصر الطوفان الأعظم، عثر على رقيم طيني وجد النص التالي مدوّنا ً عليه.
   [ أصغى القائد الباسل  لمساعده يخبره:
ـ سيدي، انظر...، جنودنا لم ينفذوا أوامرنا...، أنظر: إنهم يطيعون أوامر العدو، من غير اعتراض، بل ومن غير تذمر...، وها أنت تراهم يذهبون إلى الموت، أفواجا ً أفواجا، ومن غير مقاومة تذكر!
فقال القائد الباسل لمساعده:
ـ دعنا نلحق بهم...، قبل ان توجه لنا تهمة الخيانة العظمى! ]
[6] أسرار
    عندما وجد نفسه محاصرا ً بالديناصورات، من الجهات كلها، لم يجد وسيلة للحفاظ على فمه مغلقا ً، فهتف:
ـ ليسقط من لا يمجد عصر الديناصورات!
   ولكنه لم يبح لأحد بما دار بخلده: فالأحفاد سيحافظون على  أسرار أسلافهم بحرص تام!
[7] كاتب
     سأل الكاتب القلم:
ـ لِم َ أطعتني أيها القلم، طوال هذه السنوات، مثل كلب...؟!
فقال القلم بصوت رقيق:
ـ أسأل أصابعك!
فسأل الكاتب أصابعه السؤال ذاته، فقالت الأصابع من غير تردد:
ـ أسأل عقلك!
    ضحك وقال يخاطب نفسه:
ـ آ ...، لو كان لي عقل!
  لم يدعه عقله يكمل عبارته:
ـ ماذا كنت ستفعل...؟
ـ كنت سأعرف كيف أتخلى عنك....، بدل ان أنفذ أوامرك ككلب!

  بغداد ـ 2/10/2014

الجمعة، 28 نوفمبر 2014

بروس رايلي -فنان موهوب من شيكاغو









بروس رايلي هو - ,يخلق لوحات تبدو كمخدر جميل سكب من الطلاء و تقطير الراتنج. أعماله الفنية تحتوي على عدد لا يحصى من التفاصيل و الهياكل التي تشكل مخلوقات سريالية أو المندالا في اختبارات عمى الالوان..

يقول رايلي أن معظم إبداعاته هي نتيجة الارتجال النقي والتجريب. "لا يمكن أن تكون أي نوايا باتجاه الآخرين ولكن الانتقال . لا يمكنك تقلق بشأن ذلك ، لا يمكن أن تتوقف ، لا يمكنك خنق توهجات الروح . وهذا واضح عندما كان يعمل . وعندما يفشل "، ويوضح بشاعرية رايلي . " اللوحات ليست عن أشياء محددة، انها جميعا عن نوع من الشيء نفسه . و أنا لا أسعى حقا لتحديد أي أفكار ، وأنا مجرد السماح لها التدفق " .

الخميس، 27 نوفمبر 2014

ديوان جديد للشاعر ناهض الخياط بعنوان البلبل خارج اقفاصه




صدر للشاعر ناهض الخياط ديوان البلبل خارج أقفاصه عن المركز الثقافي للطباعة والنشر
بابل -دمشق
قدمت له الشاعرة الفرنسية جوزيه عبد الله الحلو.

12 قصة قصيرة جدا ً- عادل كامل

12 قصة قصيرة جدا ً





عادل كامل
[1] هستريا
     بعد ان انهالت الصواريخ بعيدة المدى، على المدينة ، ودكتها القاصفات، وبعد ان تم هدم مراكزها الكبرى، وبعد ان  فقدت مقاومتها، ودخلت قوات المشاة إلى المدينة، ظهر احدهم يصرخ، غير آبه بالحرائق،  ولا بأعمدة الدخان المتصاعدة نحو السماء، ولا  بالأنقاض، ولا  بأشلاء الجثث المتناثرة:
ـ هذا هو يوم النصر، هذا هو يوم التحرير، آمل ان يكون مناسبة للاحتفال بالحرية!
اقترب رجل عجوز منه وخاطبه هامسا ً:
ـ تأدب ....، ألا تخجل ان يسمعك أحفادنا ....، هذا إذا كنت لا تكترث لو سمعك أسلافنا وأجدادنا، وتراب وطنك.
لكن الآخر تابع يهتف بصوت أعلى:
ـ هذا هو يوم الأيام ....، وعيد الأعياد...، واطلب ان يكون عيدا ً وطنيا ً!
     الآخر صمت، وبشرود خاطب نفسه:
ـ  ليس الغريب ان تجد من يحتفل بخراب مدينته...، وان يدعوا إلى جعله عيدا ً للحرية، لكن الأغرب ان تجد من يجادل هذا الذي فقد صوابه، وتطلب منه ان يشعر بقليل من الخجل!

[2] حوار

قالت البعوضة للقملة تبوح لها بهمومها:
ـ ان سبب شقائي أنني تزوجت دبا ً عنيدا ً، بليدا ً وغبيا ً، لا هو مات وأراحنا، ولا أنا مت وأرحته!
   فقالت القملة للبعوضة ساخرة:
ـ نأمل ان لا يتكرر هذا في حياتنا القادمة!
فقالت البعوضة بألم بالغ:
ـ من أخبرك ِ ان حياتنا هذه هي الأولى!
[3] عقوبة
     ما ان بلغ الثالثة من عمره حتى راح يبحث عن سجن المدينة، وما ان عثر على الباب، ودخل، وقابل السيد مدير السجن، حتى وجد الأخير يقول له:
ـ تفضل... أنا استمع إليك.
فقال الطفل بثقة تامة:
ـ أرجو ان تصدروا أمرا ً بسجني!
ـ لكنك لم تقترف لا جريمة ولا جنحة ولا حتى إساءة إلى احد، فأنت طفل عاقل، طيب، وديع!
ـ هذا إذا كنت، كما تقول، لم اقترف ذنبا ً كبيرا ً، أو ذنبا ً صغيرا ً....، لكن ما إدراك إنني لم ارتكبه، في الماضي، وأنني لن ارتكبه في الأيام القادمة...؟
ـ لكن ليس لدينا مادة قانونية تسمح لنا بإلقاء القبض على من لم يرتكب الجريمة، أو يشرع بارتكابها!
  فكر الطفل قليلا ً وقال بثقة تامة:
ـ الم تقرأ المثل القديم القائل: ما من امرأة قط ولدت ابنا ً بريئا ً!


[4] قراءة
   تذكر قصة الألماني إبان الحرب العظمى الثانية عندما وضع في السجن، لأنه ـ قبيل اندلاعها ـ كان يولول، ثم أعيد إلى السجن ـ بعد انتهاء الحرب ـ لأنه لم يكف عن القهقهة، فقال يخاطب نفسه، انه أمضى الخمسين عاما ً الأولى من حياته، يبحث عن أمل، ولم يجده....، وها هو يوشك ان يكمل الخمسين عاما ً الثانية من عمره، ولم يفلح بالعثور حتى على وهم!
ـ ما الحكمة في هذا أيها العجوز...؟
  تمتم ـ مع نفسه ـ وهو يمشي خلف رجل رآه يمشي خلف آخر:
ـ الناس، في الغالب، لا يقرأون....، وإذا اجبروا على القراءة فإنهم لا يفهمون....، وإذا فهموا فإنهم لا يحركون ساكنا ً!

[5] طلقاء
    عندما ذاع خبر وفاة السيد مدير السجن، انتشرت أنباء عن إطلاق سراح  السجناء، بعد ان كانوا قد امضوا سنوات طويلة فيه. لكن أحدا ً من السجناء لم يكترث للشائعات، أو كانت تعنيهم بشيء. حتى إنهم، في اليوم التالي، عندما شاهدوا أبواب السجن مشرعة، الأبواب الداخلية، وأبواب الممرات، والبوابات الكبرى، لم يلتفتوا للأمر، فراح كل منهم، كما في الأيام السابقة، يؤدي عمله الذي اعتاد عليه، بهدوء، ومن غير تذمر، أو شكوى تذكر.
     مدير السجن الجديد سأل مساعده:
ـ الم تخبرهم بأنهم أصبحوا أحرارا ً!
ـ نعم، أخبرتهم، سيدي.
ـ لماذا لم يغادروا السحن، بعد ان أصبحوا طلقاء....؟
أجاب المساعد مضطربا ً:
ـ بعد حوار طويل وشاق معهم، قالوا ان وجودهم، هنا، لا علاقة له بالراحل المبجل، آمر السجن! ولا علاقة له بالمدد الزمنية للعقوبات، فالجميع كانوا قد انهوها منذ زمن بعيد ...
ـ ماذا إذا ً...؟
ـ قالوا إنهم عندما يخرجون من السجن، فليس لديهم ما يعملونه، أو يفكرون به...، وقالوا إنهم، لو تركوا السجن، فقد تحدث الفوضى، وتسود الاضطرابات..
فسأل المدير مساعده بحيرة:
ـ ولكن أين سنضع السجناء الجدد...؟
ـ أنا فكرت طويلا ً في الأمر، وقد حصلت على موافقة الجهات العليا ...
ثم أضاف بعد لحظة صمت:
ـ لا معنى لبناء أجنحة جديدة، ما دام لا احد يفكر بالهرب، فالمدينة مازالت واسعة، وتتسع للجميع!
[6] مشاهد

    بشرود، تمتم مع نفسه: كانت رصاصة واحدة تكفي إنهاء حياة إنسان، أو ....، طائر، أو غزال: رصاصة لا يتجاوز حجمها نواة التمر، أما اليوم.... متابعا ً بالشرود نفسه: فالمشاهد العادي، في فترات الاستراحة، أو التسلية، فانه يشاهد، عبر وسائل البث المباشر، بتنوع تقنياتها، ما لا يحصى من وسائل القتل.....؛ بالكاتم، والمدافع، والهاونات، والراجمات، والصواريخ بعيدة المدى، وبالكيماوي، وبالسيارات المفخخة، بالخبل  أو الذبح بالسيف، بالحرق أو بالرجم، بالصعقات الكهربائية أو التذويب بالأحماض، بالإشعاعات النووية أو بالبراميل المتفجرة، بالعبوات، والأحزمة الناسفة أو بالسكاكين ....
   قبل ان يفقد وعيه، تساءل، وهو لا يعرف أأغلق التلفاز أم أغلق رأسه:
ـ فهل المشاهد العادي يستطيع الذهاب إلى النوم وهو قرير العين؟

[7] اختلاف
   وجد نفسه يتساءل: كانت وسائل الإعلام، قبل عقود،  تحرص على إخفاء كل ما كان يخدش الذوق ...، ويؤجج العواطف، ويستفزها، وكل ما كان يثير القلق، والخوف، والاضطراب.... ثم قال متابعا ً: أما اليوم، فهناك وسائل الاتصال ـ بتنوعها وتقدمها وجوده البث ودقته وصفاءه ـ فإنها تحرص على النقل المباشر  ....، كانت فضائح الماضي تحدث بعيدا ً عن الأنظار، تجري بسرية، وكتمان، على خلاف ما يتم عرضه، الآن، بسلاسة، وشفافية، للتطور الحاصل في الأسلحة، ولتتطور الحاصل في وسائل متابعة أكثر البشاعات خفاء ً، وعرضها، أمام أنظار الملايين، وعلى مدار الساعة.

[8] اختلاف آخر
     متابعا ً: كانوا يلتقطوننا من الشوارع، ومن البيوت، ومن المزارع، ويأخذوننا مقيدين ومعصوبي البصر إلى السراديب، والى الغرف الموصدة، وهناك كانت تجري حفلات أنزاع الاعترافات ....، بعدها أما يتم إطلاق سراحنا، بعد دقائق، أو  ان تختفي أخبارنا إلى الأبد، لا كاميرات تصور، ولا مخبر يخبر بما جرى.
    اليوم، أضاف بلا مبالاة، يتم الاحتفال بالقتل، في الهواء الطلق، أمام أنظار الجميع، ومن غير اعتراضات تذكر، وهذا هو الفارق بين ما كان يجري في ظلمات الغابات، والوديان، وأعماق البحار....، وبين ما يتم تصويره بأكثر التقنيات تقدما ً: موت صامت، ذهب مع الزمن، وموت آخر، راح يعيد صياغة الزمن!

[9] مقارنة

    عندما أدرك ان مدينته، تتهدم، تتفكك، وتتوارى، سأل نفسه:
ـ اخبرني كيف تكونت اصلب المعادن، وأكثرها مقاومة للاندثار ...؛ المعادن التي طالما بدت إنها غير قابلة للزوال، والتلف...؟
أجاب، بلا عاطفة:
ـ العوامل التي كونتها هي ذاتها تضمنت زوالها!
فقال بمرح شارد:
ـ وهكذا إذا ً، عندما تموت مدينتي، أجد مصيري يتهاوى معها!

[10] تذكر
    راح يردد مع نفسه: لا تمش خلف مبصر، حذار ان تفعل ذلك، فانه ـ لا محالة ـ يقودك للمشي في دروب موحشة، قاسية، قاحلة، تفضي بك إلى الوحدة، والسكن في أقاصي الاعتزال....، امش خلف أعمى يسبقه أعمى.....، وامش خلف أعرج يهرول خلف أعرج، وتابع اثر من يتابع اثر خسيس....، فالخروف ما ان يغادر القطيع، لا تتركه أنياب الذئاب طليقا ً.
     إنما تذكر أيضا ً، انك عندما تكون في القطيع، لا تمشي إلا باتجاه بوابات المجازر، كي تخرج منها، معلبا ً، فالأفواه البشرية بانتظارك، فاختر بينهما، لأنك لا تمتلك إلا ان تخرج محفوظا ً بأكياس، وعلب، أو يتوزع جسدك بين الضواري.

[11] مشاهد
   شاهد، للمرة الآلف، الفلم: هناك من يتضرع، طالبا ً الرحمة، مستغيثا ً، مستنجدا ً، وطالبا ً العفو ....، وفي الجانب الآخر، هناك من يطلق النار  ..
 متابعا ً ـ غير مصدق ما كان يراه ـ ان الجثث كانت تتكدس، وثمة من لم يمت بعد: والله نحن أبرياء....، لسنا قتلة، ولا علاقة لنا بهم، لسنا من التكفيريين، ولا من الكفار، لسنا أولاد زنا، ولا متعصبين، نحن كائنات بشرية ......، ولدنا، وعشنا.....، كالبهائم، بل لم نحصل حتى على حقوق الحيوان.....، لسنا من الأحرار، ولا من العبيد، ولا من أنصار الله، ولا من أنصار عمر، ولا من أنصار فرعون....، نحن حيوانات لم يكتمل نموها.....!
   كانت الجثث تتكدس، غير مصدق ما كان يراه، وقد شرد ذهنه، لبرهة، انه لا يرى فلما ً أو عرضا ً مسرحيا ً، بل يرى صورا ً واقعية، موثقة، وغير مزيفة .....، فاستعاد .....، في لمحة ـ انه في ذات مرة، ومع زميله الشاعر ـ عاش المشهد ذاته بلا رتوش!
   وجد انه لا يرى شيئا ً، عدا رائحة باردة، لها مذاق العفن، راحت تحاصره من الجهات كافة، مرددا ً: والله نحن بهائم لم تغادر زرائبها بعد!

[12]  امرأة ما

     بعد سنوات طويلة من البحث عن امرأة ان يمضي معها ما تبقى له من العمر، لم يعثر على واحدة تمتلك الشروط التي وضعها نصب عينيه...، فقرر، أخيرا ً، ان يذهب إلى الماخور، وهو اكبر مبغى في المدينة. التقى المسؤول وطلب منه ان يرى أجمل سيدة فيه....، حصل الأمر. وما ان شاهدها حتى كف عن النطق. ابتسمت السيدة وقالت له: أنا لست جميلة فحسب، أيها المحترم، بل جادلني في ما تشاء من موضوعات الجدل. جادلها، فأفحمته، حتى ود لو أعلن عن أسفه لها انه تأخر كثيرا ً في التعرف عليها. فقالت له ولم تفارقها ابتسامة ملغزة رقيقة: تريث ...، أيها الموقر، فانا أود ان تلقي نظرة على هذا الدفتر!
      ألقى نظرة دقيقة ليعرف إنها، في نهاية كل شهر، كانت تتبرع بمبالغ طائلة للأيتام، وللأرامل، وللنساء العفيفات!
فقال يخاطب نفسه بصوت شارد: آن للمشرد ان يفقد سعادته إلى الأبد!
وخاطبها: جميلة، وفيلسوفة، ومؤمنة، لا اصدق!
لكنها قالت له: تريث! لأنها أخبرته إنها اقتنت مساحة من الأرض شيدت فوقها قبر لها ، تزوره، عند الفجر، ترقد فيه، ثم تعود إلى الكلجية، فهل ـ خاطبته ـ بصوت رقيق:
ـ أنت مستعد ان تحفر لك قبرا ً، بجوار قبري، وتزوره في فجر كل يوم، لتدرك ان الدنيا لا تدوم لأحد...؟
شرد ذهنه، وخاطبها، بعد قليل:
ـ أتسمحين لي ان أعلن عن اسمك، وشخصيتك، ووجودك ...؟
ـ تقصد .....، اسم شريكتك في الحياة؟
ـ نعم!
ـ لكنك لو فعلت، يا شريكي، فأنهم سيهدمون المبغى هذا فوق رؤوسنا، وآنذاك ـ لو فكرت في العثور على شريكة حياة لك ـ فانك لن تجدها، ليس لأنها بلا وجود....، بل لأنك تكون قد فقدت وجودك!

بغداد: 20/8/2014