الاثنين، 29 سبتمبر 2014

البهائيون في إيران خوان كول- ترجمة نيڤين عبد الرؤوف

البهائيون في إيران
 خوان كول
 ترجمة نيڤين عبد الرؤوف

يستعرض خوان كول هذا «الدين العالمي» النبوئي والرافض للعنف والمؤمن بالعصر الألفي السعيد، الذي ولد زعيمه من رحم القلاقل السياسية والاجتماعية في إيران خلال القرن التاسع عشر والذي يعاني أتباعه منذ ذلك الحين من اضطهاد الشاه وآية الله على حدٍّ سواء.
بناءً على تقييم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كان سجل جمهورية إيران الإسلامية في مجال حقوق الإنسان خلال العقد الماضي أحد أسوأ سجلات حقوق الإنسان في العالم. بالطبع استهدف عددٌ كبير من الاعتقالات وتنفيذ أحكام الإعدام بإجراءات موجزة برعاية حكومية؛ تشكيلاتٍ سياسيةً كانت تقدم بديلًا للدولة الدينية. لكن نظام الخميني اضطهد كذلك جماعات لا تمثل خطرًا بعينه على استقرار الجمهورية الإسلامية، وأبرز هذه الجماعات البهائيون. يشكِّل البهائيون — الذين تتراوح أعدادهم ما بين ٣٠٠ ألف إلى ٤٠٠ ألف في إيران — أكبرَ أقلية غير مسلمة في البلاد، وقد أعدم رجالُ الدين الذين يحكمون حاليًّا قرابةَ ٢٠٠ من أكثر زعماء البهائية نشاطًا، وفرضوا معوِّقات شديدة أمام معتنقي هذه الديانة. وقد ردَّ البهائيون على هذا الاضطهاد دون اللجوء إلى العنف على عكس معظم الجماعات السياسية الإيرانية الأخرى. ورغم أن السنوات العشر الأخيرة قد شكلت أطول فترة من الاضطهاد الرسمي المتواصل للبهائيين في إيران، فإنهم واجهوا — منذ بداية دينهم في ستينيات القرن التاسع عشر — مذابح مدبَّرة تنطوي على عدائية شديدة بين الحين والآخر من المجتمع المسلم الشيعي الذي يعيش به. إذن ما شأن هذه الجماعة الصغيرة من الناس المسالمة على ما يبدو، التي تشكِّل الآن نسبة تقل بدرجة طفيفة عن ١٪ من سكان إيران وتثير كراهية الشيعة المؤمنين بتفوق مذهبهم؟ ما الذي يرمز إليه الدين البهائي؟ وهل من الممكن تصنيف البهائيين كأنبياء غير مكرمين؟

عبد البهاء، نجل بهاء الله والزعيم العالمي للطائفة البهائية منذ عام ١٨٩٢ حتى عام ١٩٢١.عبد البهاء، نجل بهاء الله والزعيم العالمي للطائفة البهائية منذ عام ١٨٩٢ حتى عام ١٩٢١.
تزامن ظهور الأديان في الشرق الأدنى مع حركات وتحولات سياسية كبيرة. فلطالما اعتقدت شعوب تلك المنطقة طيلة أربعة آلاف عام أن إلههم له دور في صنع التاريخ. يبدأ هذا التاريخ بالخلق، وتُشكِّل المواجهاتُ بين الرسل وأصحاب السلطة جوهرَه ويصل إلى ذروته مع مجيء المخلِّص (أو عودة مخلِّص ظهر من قبل). هذه أمور معهودة بالنسبة للديانات الكبرى التي نشأت في هذه المنطقة: اليهودية والزرادشتية والمسيحية والإسلام والبهائية. ومنذ القرن السابع بعد الميلاد، بدأ الإسلام يهيمن على الشرق الأدنى، ليقدم عقيدة جوهرها أن النبي محمدًا قد جاء ليكمل رسالة أنبياء الكتاب المقدس من إبراهيم حتى يسوع الناصري. وقد عبَّر كثير من المسلمين — من خلال المعتقد الديني الشعبي، بل وعبر التفسير المستنير للقرآن — عن توقع ظهور شخصيتين مخلِّصتين على الأرض قبل يوم القيامة؛ الأول: هو المهدي، الذي ينحدر من نسل النبي محمد وسيعيد العدل للعالم بعدما ملأه الجَوْر. والثاني: وهو المسيح عيسى، سيعود بعد ذلك. انتشرت الدعوات المؤمنة بالعصر الألفي السعيد بحماسة استثنائية بين المسلمين الشيعة. إذ يؤمن أتباع الشيعة الإمامية أن سلالةً من أحفاد محمد من نسل ابنته فاطمة كان من المفترض أن تحكم الدولة الإسلامية الأولى، لكنَّ السلالاتِ الحاكمةَ الأخرى أزاحت أولئك القادة أو الأئمة ظلمًا. ويعتقدون أن الإمام الثاني عشر من نسل النبي اختفى في عالمٍ غيبي سيعود منه يومًا ما باعتباره المهدي المنتظر. ومِن ثَمَّ انتهت سلالة الأئمة قبل أوانها وأصبح الشيعة دون حاكمٍ مكتمل الشرعية. ومع مرور الزمن، أكَّد رجال الدين الشيعة أنهم قادرون على الاضطلاع بدور نواب الإمام الغائب فيما يتعلَّق بالمهام الدينية لحين عودته. وبعدما أخضعت الدولة الصفوية الشيعية إيران عام ١٥٠١، التمستْ مساعدة رجال الدين في تحويل إيران إلى هذا الاتجاه العقائدي الإسلامي وإضفاء الشرعية على الدولة الجديدة.

أدى هذا التراث الديني بجانب مجموعة من المشكلات السياسية والاجتماعية إلى تشكيل الخلفية التي صعد نجم البهائية استنادًا إليها. كان شاهات الدولة القاجارية (١٧٨٥–١٩٢٥) يروِّجون للشيعة الإمامية ويدعمون شكلًا من أشكال الإقطاعية القبلية في إيران، وتعاون رجال الدين الشيعة في أغلب الأحيان معهم؛ مما ساعد بدوره على تدعيم أركان المعتقد الشيعي التقليدي. من سوء حظ القاجاريين أن حكمهم لإيران جاء في الوقت الذي شهد اندماجها على نحو قاطع في سوق العالم الرأسمالي والنظام السياسي الأوروبي الاستعماري والاستعماري الجديد. وفي الفترة من ١٨٠٤ إلى ١٨١٤ وكذلك من عام ١٨٢٦ إلى ١٨٢٨، خاضت إيران حروبًا مع روسيا كانت لها آثار كارثية على طهران التي فقدت أراضي منها وأُرغمت على دفع تعويضات فادحة والموافقة على تعريفات جمركية منخفضة وثابتة للبضائع المستوردة. انتقص التنافس الإنجليزي الروسي في إيران من سيادة الدولة وأعاق تطور البنية التحتية كما في حالة خطوط السكك الحديدية على سبيل المثال. ومع أن حجم تجارة إيران الخارجية قد ازداد اثنتي عشرة مرة على الأرجح خلال القرن التاسع عشر بينما تضاعف عدد سكانها إلى تسعة ملايين نسمة، فإن نموها الاقتصادي لم يضاهِ نمو مصر أو تركيا، فضلًا عن تخلُّفها الشديد عن دول شمال الأطلنطي الصناعية. ومن ثَم واجه الحِرَفيون والتجار منافسةً شرسة من السلع المستوردة والشركات المساهمة الدولية. وبَدءًا من ستينيات القرن التاسع عشر، تعرضت إيران لسلسلة من الكوارث الاقتصادية من ضمنها تدمير صناعة الحرير لديها نتيجة لمرض أصاب ديدان القزِّ، ومجاعة في عام ١٨٧٢، فضلًا عن الانهيار العالمي لسعر الفضة، أساس العملة الإيرانية. أدت هذه التطورات إلى خلق حالة من البؤس في عدد من القطاعات وتسببت في إعاقة النمو حتى مع استمرار الاقتصاد في توسعه البطيء.

وبعيدًا عن حالة السخط الاجتماعي، فإن الخلفية المباشرة التي شهدت صعود نجم البهائية هي الدعوات الشيعية الباطنية والمؤمنة بالعصر الألفي السعيد. كان عام ١٨٤٤ / ١٢٦٠ هجرية يمثل ذكرى مرور ألف عام على اختفاء الإمام الثاني عشر، ومِن ثَمَّ توقَّع أتباع المدرسة الشيخية الباطنية على وجه الخصوص ظهورَ المهدي في هذا العام. وانطلاقًا من هذا الإيمان بالعصر الألفي السعيد، ظهرت الدعوة البابية، التي أسَّسها شابٌّ من أُسرة كانت تعمل بالتجارة بمدينة شيراز يُدعى سيد علي محمد، الذي أعلن منذ عام ١٨٤٤ أنه تربطه بالإمام الغائب علاقة استثنائية. في البداية صرَّح أنه «الباب» المؤدي إلى الإمام الثاني عشر، لكنه قال بعد ذلك إنه هو نفسه الإمام المهدي العائد، وأكَّد على أن الوحي الإلهي أرشده إلى كشف النقاب عن كتاب مقدس جديد ينسخ القرآن. أباح الباب على ما يبدو وضعًا أفضل بعض الشيء للنساء وسمح بأخذ فوائد على القروض ومنع التجار غير البابيين من العمل في مناطق معينة في إيران، وفسَّر بعض العقائد مثل البعث على نحو رمزي. ووفقًا للكاتب والأستاذ الجامعي عباس أمانات انتشرت الديانة البابية سريعًا، وجذبت التجار والحرفيين والعمال في المدن والبلدات الصغيرة في إيران، ويرجح بلوغ عدد أتباعه مائة ألف مع حلول عام ١٨٤٩. لكن في هذا العام أُعلن رسميًّا عن أنه من المهرطقين. ومن ثم بدأت الاشتباكات بين الشيعة والأحياء البابية الجديدة في بعض المدن؛ مما استلزم تدخل القوات الحكومية. وفي عام ١٨٥٠ أعدمت الدولة القاجارية البابَ وتدخَّلت لصالح الشيعة في النزاعات المحلية. وفي عام ١٨٥٢ حاول زعماء المذهب البابي في طهران اغتيالَ الشاه ناصر الدين؛ انتقامًا لإعدامه لنبيهم، لكنَّ المحاولة باءت بالفشل. وردًّا على ذلك أمر الشاه بحملة تعقُّب للبابيين على مستوى الدولة أدَّت إلى تعذيب المئات منهم وقتلهم؛ مما نتج عنه مقتل قرابة ٥ آلاف بابي في الفترة ما بين عامي ١٨٤٩ و١٨٥٥.

شكَّلت الأزمة التي تعرضت لها الدعوة البابية الأهلية المتطرفة والمسلحة في بعض الأحيان البوتقةَ التي انبعثت منها البهائية، وهي دين مسالم عالمي يخلف البابية. بعد موت الباب أصبح الأخوان نوري — من النبلاء القلائل الذين اعتنقوا البابية — هما المركز الرئيسي للسلطة. ضرب الأخ الأشهر والأكبر ميرزا حسين علي النوري (الملقب ببهاء الله ١٨١٧–١٨٩٢) مثلًا في السلمية والزهد يكاد يحاكي شخصية من شخصيات تولستوي. لفت بهاء الله نظر الدولة القاجارية؛ نظرًا لرفضه العنف واهتمامه بصالح الفلاحين وتفانيه في نشر الدين الجديد منذ بدايته عام ١٨٤٤. لكن قيل إن أخاه الأصغر الخاضع لوصايته — المراهق يحيى نوري (الملقب بصبح الأزل) — كان قد عُين نائبًا للباب عام ١٨٥٠. أكد بهاء الله فيما بعدُ أن تعيين صبح الأزل كان حيلةً لإبعاد الأنظار عنه هو القائد الحقيقي. وفي عام ١٨٥٥ نُفي بهاء الله نتيجةً لمعتقداته البابية إلى دولة العراق المجاورة التابعة للإمبراطورية العثمانية، بعدما ثبتت براءته من التورط في مخطط الاغتيال. ثم انضم صبح الأزل إلى أخيه الأكبر غير الشقيق في بغداد، لكنه ظل متخفيًا.

ومع حلول حقبة الستينيات من القرن التاسع عشر، تطلَّع كثيرٌ من البابيين — المستائين من قيادة صبح الأزل الخفية والذين أصابهم الإحباط من تحول ديانتهم إلى دعوة سرية — إلى شكل جديد من أشكال المرجعية. وأدى الترقب واسع الانتشار لعودة المسيح بعد مجيء المهدي إلى توقع الكثيرين ظهور إحدى التجليات الإلهية قريبًا. فقد تحدث الباب نفسه عن مقدم نبي في المستقبل: «الذي سيُظهره الله»، والذي سينهض لتأكيد العقيدة البابية أو تعديلها. وفي عام ١٨٦٣ كشف بهاء الله أمام مجموعة صغيرة من أقربائه وأصدقائه عن كونه النبي الموعود الذي بشَّر به الباب، وفي نفس العام استجابت الدولة العثمانية للضغوط الإيرانية بنفي بهاء الله مجددًا، أولًا إلى إسطنبول ثم إلى مدينة أدرنة. أصرَّ صبح الأزل على مرافقة أخيه الأكبر غير الشقيق إلى تركيا، في حين بدأ بهاء الله خلال الفترة بين عامي ١٨٦٤ و١٨٦٧ بإرسال مُبشِّرين إلى إيران يحملون خبر كونه النبي الذي تنبأ الباب بأن الله سيظهره. لاقى هذا الإعلان استجابةً حماسيةً لدى البابيين الذين بدءوا في اعتناق البهائية — أي أتباع بهاء الله — بأعداد ضخمة. لكن ذلك أدى إلى امتلاء نفس صبح الأزل بالمرارة؛ إذ كان قد أصبح متعلقًا بامتيازات السلطة الدينية. ومِن ثَمَّ دفعت شكاوى صبح الأزل المستمرة السلطاتِ العثمانيةَ المحبطةَ إلى فصل الأخوين؛ مرسلةً صبح الأزل إلى قبرص وبهاء الله إلى سجن عكا الرهيب في فلسطين.

في البداية أعلن بهاء الله للبابيين في إيران عن كونه المخلِّص الذي تنبأ به البابُ عبرَ اقتباسات من مؤلفاته وتفسيرات لها. ثم في الفترة من عام ١٨٦٦ إلى ١٨٧٢ كتب رسائل إلى ملوك وحكَّام العالم، مثل: الملكة فيكتوريا والسلطان العثماني والشاه الإيراني ونابليون الثالث في فرنسا وقيصر روسيا والبابا. كان لتلك الرسائل هدفان رئيسيان؛ أولًا: إبلاغ الحكام من خلال القنصلية الفلسطينية بدوره المخلِّص وحثهم على الاهتمام بنصائحه. وباعتبار بهاء الله هو خليفة الباب (المهدي) فإن مقامه هو مقام المسيح العائد. ومِن ثَمَّ كتب قائلًا: «قد اتصل نهر الأردنِّ بالبحر الأعظم، والابن في الوادي المقدس ينادي: لبيك اللهم لبيك.» وعلاوة على ذلك، كان يعتبر نفسه مكملًا لجميع الديانات الكبرى في العالم.

لم يكتفِ بهاء الله بإعلام أولئك الحكام بأنه المسيح العائد، بل طرح كذلك بعضَ التعاليم الاجتماعية العامة. ففي عصر الحكم الديكتاتوري المطلق، كان بهاء الله يفضِّل الملكية الدستورية والاتحادَ العالميَّ وغالبًا ما كان ينحاز للفقراء. مدح كذلك إلغاء الرق وعبودية الأرض، وكتب إلى الملكة فيكتوريا قائلًا: «وَسَمِعْنا أَنَّكِ أَوْدَعْتِ زِمامَ المُشاوَرَةِ بِأَيادِي الجُمْهُورِ، نِعْمَ ما عَمِلْتِ …» وعلاوة على ذلك دعا بهاء الله أعضاء البرلمان في بريطانيا وغيرها من الدول إلى النهوض بأعباء إصلاح المجتمع وأضاف قائلًا: «وَالَّذِي جَعَلَهُ اللهُ الدِّرْياقَ الأَعْظَمَ وَالسَّبَبَ الأَتَمَّ لِصِحَّتِهِ هُوَ اتِّحادُ مَنْ عَلَى الأَرْضِ عَلَى أَمْرٍ وَاحِدٍ وَشَرِيعَةٍ واحِدَةٍ.» وخلال فترة الاضطراب التي أدت إلى الحرب بين فرنسا وبروسيا، طالب حكام العالم بإحلال السلام والتوقف عن الحشد العسكري الهدام الذي يدفعون تكاليفه عبر فرض ضرائب باهظة على الفقراء، وشجب تلك الأفعال باعتبارها «ظلمًا شنيعًا» ودعا إلى خفض الضرائب بحيث يطيقها الناس. أشار كذلك إلى أنه في حالة فرض أولئك الحكام السلامَ، فإنهم لن يحتاجوا إلى مثل هذا الكم الضخم من الأسلحة، وحثهم على قبول هذا «السلام الأصغر» السياسي بما أنهم رفضوا «السلام الأعظم» الذي كان من الممكن تحقيقه تحت راية البهائية.

اتسعت رؤية بهاء الله متجاوزةً نطاق الإصلاح الاجتماعي ضمن إطار الدول القومية المستقلة؛ إذ أوصى بأنه «ليس الفضلُ لمن يحبُّ الوطنَ بل لمن يحبُّ العالم.» وكان يعتقد ضرورةَ وضع هذه الرؤية العالمية الشاملة في إطار عملي؛ لذا دعا إلى «عقدِ اجتماعٍ واسع يشمل البشر جميعًا» يحضره الحكام والملوك أو نوابهم، ولا بد أن «يَدْرُسوا الوسائل والطُّرُق التي يمكن بها إرساء قواعد السلام الأعظم بين البشر»، ويقرروا أنه في حالة هجوم أية أمة على أخرى، فلا بد أن يتَّحد الجميع لردع المعتدي. كذلك دعا إلى إقرار لغة وحروف عالمية: «وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ إِذَا اتَّجَهَ أَيُّ شَخْصٍ إِلَى بَلَدٍ فَكَأَنَّهُ وَرَدَ إِلَى بَيْتِهِ.» كان بهاء الله يشعر أن الشقاق بين البشر يرجع إلى التعصب الديني والعرقي الذي رغب في الاستعاضة عنه بالتسامح والوحدة. ومن ثَمَّ ألغى في هذا الصدد مبدأ الجهاد البابي والإسلامي، بل وصرح أنه من الأفضل للمرء أن يكون مقتولًا لا قاتلًا.

وفي الكتاب الذي ألَّفه عبد البهاء — النجل الأكبر لبهاء الله — عام ١٨٧٥، دعا الإيرانيين إلى النهوض من غفوتهم ودافع عن نقل العلوم الحديثة والتكنولوجيا من الغرب. كذلك نادى بتقييد سلطة مسئولي الحكومة وتأسيس مؤسسات حكومية منتخبة نيابية وانتشال جموع العامة من الفقر وتحسين البنية التحتية لإيران ووضع نظام تعليمي حديث. كان عبد البهاء — مثله مثل أبيه — مناصرًا لتجريد العالم من السلاح ومناديًا بتأسيس جمعية عالمية وتجديد الدين لمحاربة الإلحاد الفولتيري (نسبة إلى فولتير).

لا بد من التشديد هنا على الطبيعة الثورية لتلك المقترحات في زمانها. كان السلاطين العثمانيون يتجنبون تشكيل برلمان أثناء القرن التاسع عشر، باستثناء فترة قصيرة من عام ١٨٧٧ إلى ١٨٧٨. جرَّب الشاه ناصر الدين نظام حكومة الأغلبية في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر لكنه قرَّر عدم تطبيقه، ولم يؤيد قط الحديث عن الدساتير والبرلمانات. كذلك كانت دول وسط أوروبا وشرقها تقبع في ظل أنظمة الحكم المطلق. ومن ثَمَّ، فإن القول بتخفيض الأسلحة وخفض الضرائب التنازلية على الفقراء وتشكيل جمعية عالمية كذلك لم يجذب سوى قلة قليلة من المؤيدين في معظم مجالس الدولة في أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر.

لاقت رسالة بهاء الله آنذاك استجابةً بين أتباع المذهب البابي في إيران، وتحوَّلوا كلهم تقريبًا إلى البهائية. وفي عام ١٨٨٥، لاحظ جيه دي ريس الموظف في الخدمة المدنية بالهند دليلًا على وجود عدد ضخم من أتباع البهائية بين طبقة التجار في مدينة قزوين وبين أهل مدن حمدان وآباده ومشهد. كانت القيادة المحلية للطائفة البهائية — التي لم تكن تشتمل على رجال دين رسميين — تنتمي غالبًا إلى طبقة التجار التي تعيش في المدن. وبالإضافة إلى أتباع المذهب البابي، استقطب بهاء الله أتباعًا من الطبقات الوسطى الشيعية ومن المجتمعات اليهودية والزرادشتية في إيران. انتشر الدين إلى الهند أثناء حياة بهاء الله، وسرعان ما امتد بعد موته إلى الولايات المتحدة.

أدى صعود نجم الدين الجديد إلى لفت انتباه المسئولين الحكوميين الإيرانيين ورجال الدين الشيعة؛ إذ كانت الدولة القاجارية تخشى البابية وظلت ترتاب في خليفتها. وعلاوة على ذلك هدَّد تأييد البهائية للنظام البرلماني والدستوري في إيران مسئولي الدولة القاجارية الرجعيين. وإلى أن اندلعت الثورة الدستورية التي استمرت من عام ١٩٠٥ إلى ١٩١١، كان البهائيون على الأرجح هم أكبر مجموعة إيرانية ملتزمة بالدعوة إلى حكومة ممثِّلة لفئات الشعب وإلى سلطة دستورية، وإن ميَّزهم تصوُّفهم ومعارضتهم للعنف عن الثوريين. كذلك شجعت الرؤية العالمية التي يعتنقها البهائيون على إقامة علاقات مع أوروبا وتعلم اللغات والانخراط في التجارة العالمية. ومع انضمام الجماعات التجارية البهائية إلى الطبقة المحلية الوسطى التي تربطها مصالح تجارية مع الأجانب أصبحت مختلفة بعض الشيء عن غيرها من جماعات التجار الإيرانيين، بمن فيهم الشيعة (وهي نقطة أشار إليها الكاتب بيتر سميث). رغم ذلك كانت النخبة الإيرانية المحافظة تصوِّر البهائيين على أنهم راديكاليون اجتماعيون وتقدميون سياسيون وخائنون لثقافتهم.

ومن ناحية أخرى رأى رجال الدين الشيعة أن البهائية هرطقة خطيرة. إذ ينكر البهائيون العقيدة الدينية القائلة بأن الله لن يبعث رسلًا آخرين بعد محمد، ويؤمنون بأن كتاب بهاء الله «الكتاب الأقدس» قد نسخ القرآن، بل ووضعوا شعائر خاصة بهم، وسمحوا للنساء بممارسة دور فعَّال في المجتمع ولم يؤمنوا بالحجاب أو بفصل النساء، وأنكروا أيضًا مبادئ إسلامية مهمة مثل شرعية الجهاد. وعلاوة على ذلك نزع البهائيون إلى التشكك في الحاجة لرجال الدين مع انتشار القراءة والكتابة، وهي آراء هددت وجود طبقة رجال الدين الإيرانية.

أصبح اضطهاد البهائيين من جانب الحكومة أو علماء الدين بالتعاون مع العامة الذين ينفذون أحكام الإعدام دون محاكمةٍ سمةً عامة لحياة البهائي في إيران. فأثناء حياة بهاء الله وقعت حوادث اضطهاد خطيرة في أصفهان عامي ١٨٧٤ و١٨٨٠، وفي طهران من عام ١٨٨٢ إلى ١٨٨٣، وفي مدينة يزد عام ١٨٩١. وفي عام ١٩٠٣ تعرض البهائيون في مدن رشت وأصفهان ويزد لمذابح كبرى منظمةٍ على يد غوغائيين شيعة. ومع مجيء الدولة البهلوية (١٩٢٦–١٩٧٨) التي تبنت منهج التحديث والعلمانية تحسَّن قليلًا وضع معظم البهائيين ممن لا يزالون يعيشون في كَنف المجتمع المدني الشيعي المعادي لهم. في الواقع شنَّ الشاه رضا حملةً لقمع البهائيين في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين كجزء من برنامجه الاستبدادي العام، بينما أيَّد الشاه محمد رضا لبعض الوقت المذبحة الوحشية المنظمة التي استهدفت البهائيين في جميع أنحاء البلاد عام ١٩٥٥، والتي كان يقودها رجال الدين الشيعة ومؤيدوهم في البرلمان والقوات المسلحة. ولم تعترف حكومة إيرانية قط — على عكس حكومة باكستان مثلًا — بحق البهائيين في حرية الفكر أو حرية الاعتقاد.

تغيرت طبيعة الزعامة البهائية في القرن العشرين تغيرًا كبيرًا، فبعد انتهاء فترتي الولاية الدينية الملهمة لعبد البهاء (١٨٩٢–١٩٢١) وشوقي أفندي رباني (١٩٢١–١٩٥٧)، انتخب البهائيون عام ١٩٦٣ هيئة حاكمة علمانية عالمية تُدعى بيت العدل الأعظم، وفقًا لتعليمات بهاء الله. أصبحت البهائية حركة جماهيرية وسط الفلاحين في أمريكا الجنوبية وأفريقيا، والهند على وجه الخصوص منذ أواخر خمسينيات القرن العشرين وأوائل الستينيات من القرن ذاته. وظهرت مجتمعات جيدة التنظيم في معظم بلدان العالم غير الشيوعية، ووصل عدد البهائيين في جميع أنحاء العالم إلى ٤٫٥ ملايين مع حلول عام ١٩٨٨، وفقًا للموسوعة البريطانية.

من ناحية أخرى اختلفت حدة الاضطهاد الذي تعرض له البهائيون الإيرانيون في عهد الخميني عن أيٍّ مما واجهوه من قبل، إذ اتخذ أجواءً كئيبة تكاد تماثل أجواء كتابات كافكا. اتهم رجال الدين الشيعة البهائيين ممن ساعدوا في عقد مراسم الزواج البهائي بنشر الدعارة، حيث كانوا يعتبرون تلك الزيجات غير شرعية، واتهموا من يحضرون المؤتمرات الدينية في نيودلهي أو لندن بالتجسس لصالح القوى الاستعمارية. كذلك وصموا البهائيين المتبرعين بأموال إلى مقراتهم في إسرائيل بمعاونة الصهيونية، حتى وإن لم يستفد البلد المضيف بأيٍّ من تلك الأموال مطلقًا (بينما لم يظهر استهجان مماثل حيال التبرع بأموال لدعم القضايا العربية الإسلامية في إسرائيل). وعلاوة على ذلك، اعتقلوا مئات الأطباء وموظفي الدولة وأساتذة الجامعات والتجار والطلاب البهائيين. وبينما اضطر بعضهم ببساطة إلى الاختفاء من المشهد، عُذِّب آخرون وأُعدموا، بل وطالبوا الأسر الثكالى بتحمل تكاليف الإعدام، ولم يتوقف هذا الاضطهاد إلا في أواخر عام ١٩٨٨. وصادر رجال الدين الشيعة ممتلكات البهائيين بالإضافة إلى أموال صناديق المعاشات وحسابات البنوك المخصصة للأطفال، وأصبح إرغامهم على الارتداد عن عقيدتهم أمرًا شائعًا. ورفضت السلطات منح البهائيين بطاقات تموين ومنعت أبناءهم من دخول المدارس والجامعات الحكومية، وحظرت عليهم ترك البلاد. وعلى الرغم من أن بضع مئات من أحكام الإعدام وأضعافًا مضاعفة من أحكام السجن لا ترقى إلى مستوى الإبادة العرقية، فقد كان الهدف من تلك الإجراءات استئصال الطائفة البهائية على المدى الطويل.

ونظرًا لأن الاتهامات الفعلية الموجهة إلى البهائيين تبدو غريبة بعض الشيء، فقد بحث الكثيرون عن الأسباب الخفية وراء ما يتعرضون له من اضطهاد. قد يكون من الأنسب مقارنة معاداة البهائية في إيران بمعاداة السامية في أوروبا، فمثل اليهود، اعتُبر البهائيون رمزًا للجوانب الخطيرة للحداثة، وصُوِّروا على نحو ساخر كرأسماليين فاسدين ومواطنين عالميين بلا جذور من السهل إغواؤهم بالتجسس لصالح قوى أجنبية وخيانة أوطانهم. كذلك تبنى البهائيون في حماس التعليم والعلم الحديث، فأصبح لديهم أعداد كبيرة من المفكرين والأطباء والمهندسين ورجال الأعمال، ومن ثم إذا كانت الحداثة تهدد هوية إيران، فإنهم قطعًا متواطئون. في الواقع، شكَّلت الثورة الإيرانية جزئيًّا صراعًا بين المجتمع الشيعي بطبقاته «القديمة» المؤلفة من منتجي السلع الثانوية ومسوِّقيها من ناحية وبين الطبقات الوسطى وطبقات أصحاب المهن الحرة الجديدة من ناحية أخرى. ورغم اشتغال البهائيين بقطاع السلع الثانوية بمعدل يزيد عن الملاحظ عادةً، فإن الصورة التي كوَّنها الإيرانيون عنهم تظهرهم كمنتمين للطبقة الوسطى.

وبعيدًا عن العوامل الاقتصادية، يعتبر البهائيون من وجهة النظر الشيعية مهرطقين. فمثلما أنكر اليهود العقائد المسيحية الجوهرية، أدخل البهائيون بدعًا على المعتقد الإسلامي. وعلى الرغم من تسليمهم بكون موسى وعيسى ومحمد رسلًا، فإنهم رفضوا اعتبار محمد خاتم الرسل (ودفعتهم رؤيتهم العالمية إلى قبول كريشنا وبوذا كذلك). مارس البهائيون طقوسًا دينية جديدة واعتُبروا مهددين لعفة النساء المسلمات وحشمتهن. والأسوأ من ذلك كله، أنهم أنكروا سلطة فقهاء الشيعة، في الوقت الذي تقوم فيه الدولة الحالية تحديدًا على وصاية رجال الدين على المجتمع باعتبارهم نوَّابًا عن الإمام الثاني عشر الغائب. ومن ثَمَّ يصبح الإصرار على أن الإمام الثاني عشر قد عاد بالفعل ونسخ تعاليم الإسلام تحديًّا للأسس الأيدولوجية الأصيلة التي تقوم عليها الحكومة. أخفت الصور الكاريكاتورية والأفكار الشائعة الحقيقة؛ وهي أن البهائيين معظمهم من مجتمعات الطبقات الوسطى والعاملة، ويتألفون غالبًا من مواطنين ملتزمين بالقانون على وعي هائل بالقضايا العالمية.

إن بُعد البهائيين عن العنف وإيمانهم بالديموقراطية البرلمانية والتزامهم بالعالمية الدينية والتسامح الديني وتأكيدهم على التناغم بين الدين والعلم الحديث جميعها عوامل تجعلهم جديرين بأن يلعبوا دورًا في العالم الثالث يماثل الدور الذي ينسبه المؤرخ هيو تريفور-روبير لأتباع العقيدة الأرمينية في المراحل الأولى من أوروبا الحديثة، والتي عززت حرية الاعتقاد اللازمة لتطور العلم الحديث والمجتمع السياسي. وعلاوة على ذلك، فإن التزامهم الجوهري بالعمل على ظهور حكومة عالمية قوية ومتحدة تساعد على منع الحروب بين الأمم يشير إلى كونهم جماعة مثالية حالمة، ربما تشبه الأنبياء. لكن في إيران على الأقل هم قطعًا أنبياء غير مكرمين.

السبت، 27 سبتمبر 2014

تاريخ ما قبل التاريخ- عبد الله حسين

تاريخ ما قبل التاريخ عبد الله حسين
يتناول هذا الكتاب تلك العصور السحيقة من التاريخ، والتي سبقت ظهور الحضارات القديمة، حيث يحاول «عبد الله حسين» أن يناقش مسألة ظهور الحياة على الأرض ونشوء الإنسان، وما صاحب ذلك من إنتاجٍ عقليٍّ وماديٍّ. ويرفض المؤلِّف اختزال التاريخ في الحضارات التي مارست عملية التدوين فقط، مُتمرِّدًا على هذا النوع من التأريخ المختزِل؛ وذلك لاعتقاده بأنَّ ثمة تجاربَ إنسانيَّةً ثريةً يمكن الاستفادة منها لم تُدوِّنها أقلام البشر، ولذلك فقد تطلَّبت عملية البحث والتنقيب عن هذا التاريخ ما قبل المُدوَّن اعتناءً شديدًا من المؤلِّف بالبحوث الفلكيَّة والجيولوجيَّة والأثريَّة، إلى جانب النظريَّات الفلسفيَّة والعلوم النظريَّة والتطبيقيَّة، وبعض الدراسات المتَّصلة بالآداب والفنون والسياسة.

تحميل هذا الكتاب مجانًا 
عن المؤلف
عبد الله حسين: محامٍ، وصحافيٌّ، ومؤرخ له العديد من المؤلفات التاريخية والأدبية والسياسية والاجتماعية.

ولد عبد الله حسين في محافظة القاهرة لأسرة قروية من بني عديات مركز منفلوط. الْتحق في صغره بمكتب البارودي لتعليم القرآن، ثم واصل تعليمه النظامي بمدرسة فكتوريا، فمدرستي الجمعية الخيرية الإسلامية والشيخ صالح أبي حديد، وعندما انتقل الصبي للمرحلة الإعدادية كان دائمًا ما يتصدر قائمة الأوائل. تخرَّج في مدرسة الحقوق الملكية (كلية الحقوق في جامعة فؤاد الأول). حصل على الدكتوراه من مدرسة الحقوق الفرنسية «شعبة العلوم السياسية والاقتصادية». كما حصل على دبلوم معهد الدراسات الإيطالية، ودبلوم المعهد الألماني. أجاد عبد الله حسين عدة لغات، هي: الفرنسية، والإنجليزية، والإيطالية، والألمانية.

كان عبد الله حسين أحد أعضاء اللجنة الاستشارية العليا للتعاون التي وضعت قانون التعاون في سنة ١٩٢٧م، وعضوًا في البعثة المصرية للسودان، كما أنه من مؤسسي جمعية نهضة القرى، ومؤسس جمعية الشبيبة المصرية، وجمعية الدراسات السودانية، وجمعية الدراسات الأفريقية، واتحاد ضاحية الأهرام. كما عمل عبد الله حسين محررًا بجريدة الأهرام، وكان أستاذًا بقسم الصحافة في الجامعة الأمريكية حتى عام ١٩٤٢م.

وقد أتاحت له أسفاره وعمله الصحفي مقابلة الكثير من كبار الرجال والزعماء في الشرق والغرب، أمثال: الزعيم الوطني سعد زغلول، والبابا ولبران، ولويد جورج، ومكدونالد، وتشمبرلين، وإيدن، وموسيليني، وبريان، وبلوم. كما عاصر في صباه العديد من أعلام الفكر، أمثال: محمد عبده، وعلي يوسف، وقاسم أمين، ومصطفى كامل، ومحمد فريد، وعبد العزيز جاويش.


وفي يوم ٣١ ديسمبر من عام ١٩٤٣م، توفي عبد الله حسين بعد أن داهمته سيارة يقودها مخمور أدت إلى بتر ساقه، وظل ينزف طوال الليل حتى فاضت روحه إلى بارئها.

الخميس، 25 سبتمبر 2014

سهيل المطوري: نجم من نجوم التشريعات البحرية-كاظم فنجان الحمامي



سهيل المطوري: نجم من نجوم التشريعات البحرية

كاظم فنجان الحمامي
بات من الصعب التحدث عن الرواد الذين شيدوا أركان القسم القانوني في الموانئ العراقية، أو التحدث عن الرجال الذين أسهموا في تطوير هذا القسم وتحديثه في مراحله الأولى التي سبقت عقد الخمسينيات، بسبب ضياع أرشيفنا البحري وتعرضه لحملات التمزيق والسرقة إبان الأحداث الفوضوية المتعاقبة، التي عصفت بالبصرة وقلبت عاليها سافلها. وربما تعرضت معظم ملفات القسم القانوني للتلف بسبب الإهمال والتقادم وسوء الحفظ والتخزين، حتى بات من الصعب تغطية الحقبة التي واكبت مسيرة الأستاذ نجم الدين بيك النقيب باعتباره المشاور القانوني الأول لمدير مصلحة الموانئ العراقية، أو باعتباره أول مشاور قانوني في الموانئ العراقية، وهو الذي أسس القسم المذكور. وبات من الصعب التعرف على الخطوات التي أنجزها الأستاذ قاسم الزهير باعتباره من أعلام القسم القانوني. وربما تتمدد خطوط جهلنا لتلتف حول مآثر الأستاذ عبد الحليم جواد، الذي كان يحمل شهادة الماجستير في القانون البحري، والدبلوم في القانون الجوي، ويُعد من الكفاءات القانونية المعروفة.
أحياناً أجد ضالتي في التحاور مع المشاور القانوني الأستاذ صادق جعفر حبش، أو في التحاور مع المشاور القانوني الأستاذ عمار مهدي العطية، أو مع الأستاذ فائق كزار، لكنني أجد صعوبة في الحصول على التغطية الكاملة للسجل التاريخية  المرتبط بالمحطات التي مر بها القسم القانوني في الموانئ العراقية.
وربما سيحالفني الحظ هذه المرة في تسليط بعض الأضواء على خلاصة خدمة الأستاذ سهيل المطوري، باعتباره من أشهر نجوم التشريعات البحرية في الموانئ العراقية. على أمل مواصلة الحديث عن بقية النجوم في فرصة أخرى.
ولد الأستاذ سهيل عبد الله المطوري في اليوم الأول من كانون الأول من عام 1946، وعلى وجه التحديد في منطقة السكك بالمعقل، حيث كان يقيم والده الذي كان يعمل مديراً عاماً لسكك حديد المنطقة الجنوبية.
كانت مدينة المعقل عبارة عن واحة اجتماعية وإنتاجية وثقافية. توفرت لها عوامل النمو والازدهار بفضل قربها من أرصفة ميناء البصرة، فأنشأت فيها المدارس التعليمية لكافة المراحل، وكانت منطقة السكك إحدى الواحات التي ضمت مدرسة مختلطة مخصصة للبنين والبنات بسبب انخفاض كثافتها السكانية، فكانت مدرسة (محطة المعقل المختلطة) هي الخطوة التعليمية الأولى التي خطاها (سهيل) في مشواره العلمي الطويل.
كان الأستاذ (داود شكر) هو الذي يدير المدرسة، بينما كان الأستاذ ميخائيل معلماً لمادة اللغة العربية، والأستاذ فداء الدين معلماً لمادة الإسلامية، والأستاذ يحيى عبد علي لمادة الرياضة.
كانت مدارس الخمسينات تنهض بواجباتها التربوية والتعليمية وكأنها من المعاهد الوطنية الكبرى المعنية بتنشئة الأجيال على الأسس التي قامت عليها حضارات وادي الرافدين، فأعدت سفرة مدرسية لزيارة زقورة (أور) والتعرف على حضارتنا السومرية العريقة، وكان برفقتهم عدد من رجال الشرطة لحمايتهم والسهر على سلامتهم، وكان معلم التأريخ يتحفهم بمعلوماته الغنية عن تاريخ حضارة أجدادنا الأوائل في هذه البقعة الأثرية الخالدة، فتعلق قلب التلميذ الصغير (سهيل) بالتشريعات الإنسانية المحفورة بالخط المسماري على مسلة حمورابي، التي أرست المبادئ الأولى للعدل والإنصاف، وربما كانت هي الدافع الرئيس للالتحاق بقلعة كلية القانون في جامعة البصرة.
أنهى (سهيل) دراسته الابتدائية عام 1958 وانتقلت أسرته للسكن في مدينة العشار، فالتحق بمتوسطة العشار في محلة (الساعي)، وكان يديرها الأستاذ (سليم البلداوي)، وهو من مدرسي مادة الرياضيات المشهود لهم بالكفاءة، ثم حل محله الأستاذ (عبد الجبار صابر)، وكان مدرساً لمادة الجغرافيا، وهو من التدريسيين الأكفاء ومعروف عنه الحزم والمتابعة، وكان الأستاذ خليل التميمي مدرساً لمادة الكيمياء، والأستاذ جورج مدرساً لمادة اللغة الانكليزية، والأستاذ فؤاد كمال الدين مدرساً لمادة التاريخ، والأستاذ نجم الجاسم مدرساً لمادة التربية الرياضية، والأستاذ سلمان مدرساً لمادة الرسم، والأستاذ محمد علي المظفر مدرساً لمادة الرياضيات.
أنهى (سهيل) دراسته المتوسط عام 1962، ثم التحق بالدراسة الثانوية للفرع الأدبي في الإعدادية المركزية بالعشار، والتي كان يدرها أيضاً الأستاذ (عبد الجبار صابر)، ويعمل فيها الأساتذة: كاظم العمّار، وخالد صابر، وكاظم بحر، وعبد اللطيف الدليشي، ويعرب السعيدي، وجعفر يسر صيوان، وسليم سمعان.
وما أن أنهى دراسته الثانوية حتى التحق بكلية القانون بدفعتها الأولى ضمن كليات جامعة البصرة في بداية تأسيسها، فوجد (حمورابي) ينتظره على مقاعد الدراسة، وهو يحمل أولى المسلات التشريعية في تاريخ كوكب الأرض.
كانت جامعة البصرة وقتذاك ترتبط أداريا بجامعة بغداد، وكان يترأسها الأستاذ الدكتور (عبد الهادي محبوبة)، أما عميد كلية القانون فكان الدكتور (غالب الداوودي)، وهو الذي يدرس مادة القانون الدولي الخاص للمرحلة الرابعة. ولكون جامعة البصرة في بداياتها الفتية فقد شكل الأساتذة المصريين العنصر الأساس في الفريق التدريسي، فكان الأستاذ الدكتور (عبد الودود يحيى) أستاذاً للقانون المدني، والأستاذ الدكتور (علي محمد بدير) أستاذاً للقانون الإداري، ومعهم الأستاذ الدكتور (غني حسون) أستاذاً لمادة العقود، والأستاذ الدكتور (سعيد مبارك) أستاذاً لمادة قانون التنفيذ، والأستاذ الدكتور (إبراهيم الغازي) أستاذاً لمادة التشريع المالي، والأستاذ الدكتور (صبيح بشير مسكوني) أستاذاً لمادة القانون الدستوري، والأستاذ الدكتور (منير الوتري) أستاذاً لمادة المدخل لدراسة القانون، والأستاذ ( يعقوب البا حسين) أستاذاً لمادتي المواريث وأصول الفقه.
تخرج (سهيل) في جامعة البصرة، وحصل على البكالوريوس في القانون عام 1968، وهو العام الذي انتمى فيه لنقابة المحامين في بغداد، والتي لم يكن لها فرع في البصرة آنذاك، فمارس المحاماة في محاكم البصرة لفترة وجيزة، ثم حصل على فرصة للعمل في جامعة البصرة وكان ذلك في شهر شباط 1969. لكنه كان يمني نفسه بالعمل في الموانئ العراقية التي كانت تضم كوكبة من المرشدين البحريين الأكفاء من أشقائه وأبناء عمومته.
كان رئيس جامعة البصرة وقتذاك الأستاذ الدكتور (خليل الطالب) من المعترضين على انتقال (سهيل) من الجامعة إلى الموانئ، لكنه وافق في نهاية المطاف على ترحيله وظيفياً، مصحوباً بكتاب (شكر وتقدير) تثميناً لخدمته المثمرة في الجامعة. وهكذا انتقل للعمل في الموانئ بموافقة مديرها العام الأستاذ (عدنان القصاب)، فباشر عمله في رئاسة النقليات، التي كان يرأسها الأستاذ (فالح الموسى)، وكان ذلك في 1/7/1970.
في عام 1975 أعلنت إدارة الشؤون الثقافية بالموانئ عن عدد من البعثات لاختصاصات مختلفة، ومنها درجتي ماجستير في القانون البحري، فوجد الفرصة سانحة لتحقيق طموحه في مواصلة الدراسة العليا، فكان من الطلبة المقبولين في الجامعات البريطانية. غادر العراق في العام نفسه ليلتحق بجامعة (ويلز)، التي حصل منها على درجة الماجستير عام 1977 في القانون البحري، وشهادة الدبلوم في القانون الجوي.
عاد إلى العراق ليصبح هو المدير التنفيذي لقسم شؤون الموظفين في الموانئ، ثم انتدبته وزارة النقل والمواصلات في شهر حزيران من عام 1980 للعمل خارج العراق في شركة الملاحة العربية المتحدة بالكويت لمدة سنتين، عاد بعدها في حزيران من عام 1982 ليعمل في القسم القانوني الذي يديره الأستاذ عبد الحليم جواد، وما أن أحيل إلى التقاعد حتى تناوب نخبة من زملائه على إدارة القسم ، ثم آلت إليه الإدارة بعد مضي عدة سنوات، فأصبح هو المدير الفعلي للقسم القانوني، وهو المشاور القانوني في الموانئ، فسنحت له الفرصة للمشاركة ضمن الوفد العراقي الوزاري في المؤتمر الدبلوماسي الخاص بمناقشة مشروع ضمان سلامة الأرواح في أعالي البحار، الذي انعقد في روما عام 1988، وشارك في اجتماعات الدورة (14) للجنة النقل البحري التابعة للمنظمة البحرية الدولية الآيمو في جنيف عام 1990، وشارك في اجتماعات فريق العمل المعني بامتيازات الرهون البحرية الذي نظمته المنظمة البحرية الدولية الآيمو في لندن عام 1989، وشارك في اجتماعات الدورة الخاصة لمجلس الخبراء المشترك بين المنظمة البحرية الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في جنيف 1987، وشارك في اجتماعات اللجنة الدولية القانونية والفنية الذي نظمته المنظمة البحرية الدولية الآيمو في لندن عامي 1986 و 1988. ثم كلفته الوزارة بمسؤولية الأمانة العامة لاتحاد الموانئ البحرية العربية وكالة في عام 1989، وذلك بعد انتهاء فترة انتداب الأمين العام السابق وهو من تونس، وشارك مع المدير العام الأسبق الأستاذ عبد الرزاق عبد الوهاب في اجتماعات اللجنة الاقتصادية للجامعة العربية بصفته أميناً عاماً لاتحاد الموانئ البحرية العربية بالوكالة في حزيران من عام 1990، وشارك باجتماعات وزراء النقل العرب في بغداد بصفة مراقب كأمين عام الاتحاد والموانئ البحرية العربية وكالة.
أحيل الأستاذ (سهيل) إلى التقاعد عام 1991 بناءً على طلبه، فعاد لمزاولة المحاماة في كافة محاكم استئناف البصرة، ثم أصبح معاوناً لعميد كلية شط العرب الجامعة في بداية تأسيسها، ورئيساً لقسم القانون ومدرساً لمادة المدخل لدراسة القانون لطلبة المرحلة الأولى، ثم تولى تدريس مادة المنظمات الدولية والقانون الدولي العام لطلبة المرحلتين الثانية والثالثة لغاية استقالته من العمل في الكلية في حزيران عام 2000 ومغادرته العراق للعمل في الخليج العربي بوظيفة مستشار قانوني في شركة الملاحة القطرية، ثم سكرتيراً لمجلس إدارتها. شارك أثناء عمله في شركة الملاحة القطرية بعدد من دورات التحكيم التجاري في دبي والبحرين، وكان هو ممثلها في إحدى قضايا التحكيم التجاري أمام مركز قطر الدولي للتوفيق والتحكيم.
سوف ينتهي عقده مع الشركة القطرية، وهو الآن تجاوز عتبة الخامسة والستين من العمر، ويتلهف للعمل في المؤسسات البحرية العراقية، التي يفترض أن تستفيد من تجاربه وخبراته الميدانية الطويلة في العمل البحري المرهق، فهل سيكون مصيره مصير الذين سبقوه من أصحاب الكفاءات العليا ؟.

الأربعاء، 24 سبتمبر 2014

الأوثان الوثن الرابع -عادل كامل

الأوثان
الوثن الرابع




عادل كامل





[ نداءات الاستثناء]

[1]
    انطفأ الكلام فتوهجت الحكمة: هل عاد الغائب من عتمته بالكتمان: لا تقترب أيها القريب فمن ذا يتوهج إذا. أنا أنت. لا تغادر. خذ المغادرة فالأرض يباب. يدي الجذر وخرائبي سواحل. ما أثقل الليل بالنور: وما أثقل الروح بالنذور. هو ذا الصحو يكتمل بالصحو .. وهو ذا السكر يتلاشى بالسكر: أيها الجبل المزدهر بالورد كلماتي تنشد نشيدها فوق العرش، فخذ النار إلى مأواها، وخذني إلى الفضاء.
[2]
        اكثر الأنوار انتشاءً أضاءت فأضاءت:  يا لمسار العتمة، أوهن الجبل ليأخذ شكل الاستقرار ؟  انه المدى .. إذا .. لا يتداخل .. والحرف لا يسبق الحرف .. إنما الذكرى تمحى بالكلام، والتذكر بالجرح يصير وردة.
[3]
        ليس سوى بصمات فوق بصمات: من ذا جاء بظل أغوته المسرات: يا وردة هل اخترعتكِ الآثام أم الجرح يبحث للسكين عن غفران: أين أنت يا رؤيا أين أنت يا ماء: الروح أخذتها الروح، والنداء احتفل بالنداء. حبيبي يا مدينة غاب وأنا كفي بلا كتاب. اطرق أطرق .. البذرة أينعت واليد انشطرت وما كانت هناك بصمات.
[4]
        أينع الليل أم أورقت الحجارة: البرق أبرق بالصخرة.. والريح بالكف كتمت الكتمان: هذه جداول وهذا غزال يخترع الكلام.
        توقف عند الضوء، ويا جبل تزيّن، فالآثام نذور .. أم هو اضطراب فتية: أيها العابر أأنت العابر أم الأسئلة. الغربة معبد، والصلاة عيد، والأوثان نوارس: فتعال خذني إلى ارجع بروج الانطفاء .. أوقد ليلك فلا الماء بسابق ولا الحجارة ستلملم الكتمان: حبيبي لملمني/ نثرني/ وفي الكتاب وضعني وختم بالحروف علي ّ السلام.
[5]
        بأي الثقلين تتنقل، بأي النورين تستريح: خذي يا أرض النبض ويا روح أأنت الجبل: وردة فوق السكين تكتب تاريخ الغرقى، والأخرى للغرباء دليل، أهذا نهار أم بعض عتمة .. يا حبيبي لا تضع شارة فوق كتاب الدخان: الأمطار أينعت فصولها، والغابة لملمت بذورها للنار .. ويا حجارة أهذه المعابد سبقتنا أم سبقنا الاحتفال: اقتربت الموجة من الموجة والتراب صار للتراب مزار.
[6]
        عدل الماء استقامة المنادي: يا أرض من يدق ويا سماء من يدوّن: الأوثان احتشدت، القبائل تفرقت، السلالات امتدت، والحبيب للحبيب غبار.
[7]
        أكل هذا استئناف: الجبل والورقة يتنـزهان برفقة البحر والرأس حديقة. خذني وديعة، فانا الظل اكتمل لديّ: بلور برفقة بلور: يا صوت لا تخدش الفضاء، فانا ما بينهما نذر. أولا تعلم أني اجمّع نفسي للرحيل: الروح في الجمر انطفأت، وفي الماء اكتوت، وفي الأرض انشق لها الباب فدار القفل وغاب البّواب.
[8]
        برفقة من جمعّنا الليل، برفقة من نثرنا أرواحنا للرمال، ها هو كبير البوابين بالمفتاح يقول ادخلوا هنا النار لذة ماء وهنا المعبد خالٍ فأقيموا الاحتفال بكم الفصول تدشن استذكاراتها وبكم الأعياد تجمع نياشينها افتحوا بالوردة القبائل تناثرت المدن شيّدت وآخر الأوثان أطاح بالأوثان.
[9]
        وضع الوهن كتمانه فوق الوهن، وأنا أضع جرحي فوق السكين: فبأي العتمتين تتوهج، وبأي النورين تسير. قارة تمسك بالهواء وأخرى تبدل المواسم: ليتني اعرفه لكي اعرفه: ليتني أنساه لكي أنساه : هي جمرة ماء، نطفة أضرحة ، وتراتيل فضاء، فبأي البروج تستدل .. وبأي البحار تستنير .. كلانا الفجر والتراب وبعض تحولات الفصول.
[10]
        ليت الصخرة كتمت كتمانها وغادرت: أيها الضريح من محاك من أعاد لك تاج البذرة: الماء يغني وفوق الكف حدائق: البحر يتزّين والغرقى يرتلون: الغيمة تتنـزه، والحدائق في روحي تراتيل: أتناد الذي ناداك .. أتذهب للذي فيك .. أتدخل للذي منه خرجت: أيتها القوانين كلانا احتمال: كلانا احتفال. أيتها الزمردة ادخلي موكبي ما من خيال ما من عتمة: القلب يستذكر القلب والروح تنسج بالرمال هودجها: هو ذا الصوت أقسى الفصول يصطحب ظله: يا قلب أأنت الصائغ أم بالحكمة نقش النقاش ارتعاشات العواصف وبالريح محاها.
[11]
        انحنت الآثام حتى صارت زنبقة: وخلع الليل رداء الليل فكان الفجر: هو ذا الكف يتبسم للمارة: للخارجين من المدافن/ للعائدين إلى الحدائق:اضطرب الكف الأعمى، والرأس صار برية: العيد عاد والبوق اشتباك. يا أيتها القبائل أتتناثرين فيّ أم أتوزع صلاة ؟ الدم دم، والبروج تتكون/ تدور/ تندثر وتدور يا أيتها القبائل أما من وهن يورق غير الكلام ؟ ويا ريح انطقي يا صخرة تكلمي: روحي جرحت وجسدي كوكب ميت. لا حبيب في البراري ولا الأعالي تمد اليد. كل يبصر ظلمته وكل عتمة نهار: فلا تغلق الباب إن غادرت .. ولا تفتح إن دخلت: أنا فرحي مدارات .. فلا تخدش صدى من في المهد ولا صدى صوت من في اللحد: لا تبارك .. الراحل لم يرحل .. اكتمل البذار .. اكتمل الحصاد .. اكتمل النهار .. اكتمل الليل .. واكتملت الآثام حتى صارت براءة.
 
[12]
        العابد معبد: لا تراتيل العيد غادر، واليد اكتملت: لا غائب ولا من سيغيب: لكل وصاياه: لكل خطابه: الوردة والبحر كلاهما سيدان عند العتبة: يا تراب أتحولت إلى حرف: هو ذا مزار العطور والنشوة بالترف تعطّر فضاءات الحقول فتنهض الأفعال كاتمة أسرارها: لا ماء ولا نار: الكف جمرة والقلب غبار: تعال حدثني عن منفاك / أي يا نخلة هل من شكوى: يا  تويجات النباتات بالبخور ندخل وبالكتمان نغادر حدائقنا: يا سجادة بألوان التوحد نتوزع، كل إلى ظله، كل إلى منفاه، فالأرض فائض نعمة، والمعبد عابد .. العيد بالعرش تراتيل .. والروح بعض سلوى. لا تقاسمني عطاياك ، أنا بالحجارة أفك الألوان واندثر بنعيم المداخن: المدن البيض، أيتها الأسماء أنت اسمي .. في البروج في المواكب في الأدغال نفسي ومنها صار هذا الاسم: بالرحيل تكتمل المسافات، وبالمسافات نمحو المسافة.
[13]
        بالبخور قُدمت الولائم: نشوة للألم وكتمان للمسرات: أترتب الفصول فواصلها فيفتح البوّاب جرح الغابة يقول هذا عيد البلور هذا أنت هواء ادخل لك ما عليها وما عليها ابتداء: يا حكمة الحكيم الجمر ثمار والبذرة كوكب. وينفتح ينغلق المدار يقول البوّاب احمل إعراسك رفات التذكر البحر صلصال والغرقى فواصل. وباتساع المدى يكتم الكتاب مسافاته: الأصداء بيارق، والخاتم بالرمل مباهاة نشوة: ضع الروح فوق الروح هذه هي الإقامة: المنفى انتشاءات، والأسوار قلائد .. لا امتداد لا استدارة .. لا نقطة لا كلام .. وقال أشارتك المعبد فتطّيب ادخل أنت الغائب تزين رتل فالمعبد يتتبع ظلك: يا روح أترفرفين أم تغادرين للإقامة ؟
[14]
        وتمسك اليد بالمبخرة لتحرق نبات الكتمان: هذا الفجر يتطّيب بالنار. ويغيب الغائب .. ويتكشف خيط الاحتمالات. أيها الخزاف رفقاً بما بين يديك. فالنور اصطحب النور وشيّد بالصولجان أعراس القبائل. رفقاً فالغابة تتشهى رمادها. يا روح الدخان أأنت هابطة عليّ أم الكف استأذنت مغادرتها: البوّاب أعطانا خاتمة وبالقفل محي الأشكال: ويكتمل الماء تكتمل المسرة يقول البوّاب تعطّر بالعطر وبالبخور تطهر: أيتها البرية تعالي كلانا ليل تعالي كلانا نهار خذي شذى اللوعة لا ذبائح للأوثان ولا دخان للجنائز.
[15]
        اصطحبت الأرض أثقالها وغادرت: قال البوّاب هات نذرك معابدنا بالنذور زينت وبالبخور عُطّرت وبالنار اكتملت فأين يذهب الذي لم يأت. قال إن غادرت مكثت وان مكثت لم تدم الإقامة : يا قلب أتدق أم صوت المفتاح بالروح يدق. هو ذا الطريق شذى آثام ولوعة براءة: أيتها اليد التي طرزت مطرزات الغابة اصطحبي نذرك فبالبخور نقيم قداس الدخان: النقاش بالحكمة محا الذكرى، وبالأسماء ندوّن الأسماء: اليد لم تأت بالظل ولا المطرقة بالأوثان: هذه الأثقال بعض سلونا، وهذه الإقامة بعض شفاء للروح.
[16]
        ابلكافور يُمسك نزف الحجارة: يا روح تقلبي فوق الجمر الماء تزيّن للمباهاة: هو ذا الراحل يأخذ ذكرى المدافن.. والعائد بالكتمان اصطحب رماد الأحفاد.
 
[17]
        تهاوى القلب أم تهّدم المعبد: يا خاتم الهواء أي الأرواح أينعت .. وهل آن أوان استبدال المراعي: البرق أبرق، والثكلى استعارت عويل النار .. فمن ذا بالخاتم أعاد للباب النسيان. البّواب آفاق .. والحفل في البذرة لم يبدأ بعد .. هذا هو الغريق هو البحر .. والساحل ذكرى مدافن.
[18]
        بالبخور تكتم الصخرة الأصوات: ملكات الماء اللائي رتلن للنجوم وبغايا عصر البراءات: هو ذا السيف ينحني فوق الظلال: أميرات يتعطّرن بالقرنفل .. هنا ، موشحات بألوان الكلس، يثرثرن، بغايا صالحات ومعابد تلملم فضاء الأجساد: بخور الأعراس يتوحد بطيف الدخان : أيتها النار أما من ماء نطهر به الماء.
[19]
        للكف تفككت الخفايا، للصخرة انحنت الغيمة، ومالت الأشجار: جرح الأرض لملم بيدره، والبحر للأعالي انبسط: هو ذا الذي لا أراه فيّ جمع الأشلاء. يا فصول ويا أيام، يا نار ويا فضاءات، بالكلام أدوّن دخاني: نبض القلادة فوق النبض، واضطراب التحولات: جمرة الآثام ولوعة الموجة فوق الموجة: خصب الرحم الباطل، ومهرجان الحنّاء، احتفال بعيد الدفن، وآخر بالبخور يتم الاستدعاء: الحرف الذي وشي بالحرف، الأمير الذي خلعته القبائل: كل عيده بيمينه، كل معبد بيساره، وأنا بالسر بالسحر أخذتني الغفلة. وبيد المحنة دار المفتاح بقفل الوردة، نهض الوثن فصرنا له أوثان.
[20]
        كتم التراب لوعة العواصف: اكتملت العاصفة خفايا التراب: يا بذرة تفتحت انطفأت توزعت تجمعت أما آن للغابة أن تتمهل رغبات الجمر: يا ممرات انحنت بالصمت أما من سبيل لإعلان المباهج: أي فؤاد سكن الرمل، انتشى بفجر الانثلامات، وغادر سواحله قبل عيد الليل.
[21]
        على مَِ الاستغاثة والمعبد عيدك .. روح رفرفت وغابة استقامت: ليت لي يد لا تأخذ .. لا تعطي .. اذهب معها إن غابت .. وأقسامها البلية بالأفراح: هي أخذت ما أعطت ونثرت ما جمعت وبالأنوار محت ما كتبت: هي لم تعط وهي لم تأخذ: البرق ابرق، وبالمحو  دٌونّت الإشارات .. وبالحجارة كتب الكتاب.
[22]
        وصاغ الصائغ قلائد المحو: قديس يجرجر قديس والمثوى بالدخان فتح كتاب الفضاء: أكل هذا احتفال أم بذرة توحدت مع البذار: أهذا الرمل نذر وهذا الوثن مزار: تعال معي يا نبض البرية فانا أصغيت إلى القفل وبالماء أوقدت الجراح: يا نفس المنادي نادى: الكف غابت، والكلام صار يلملم الكلام.
[23]
        نجمة انطفأت أم جمرة توقدت: الكف أعطت ميلادها وغادرت. أغادرت ؟ يا برية الأرض جرح والعيد حجارة والبرق خاتم: ليس إذا الفؤاد إلا بذرة فمن ذا انشطر .. من لملم القبيلة : فعلى – مَ – الشرق على مَ الغرب ونحن نجمّع للميلاد الاقامات: كل يلهو بترابه والفضاء أثقل علينا بالفضاءات: يا أشجار الوهم، أهاجر البحر أم النوارس سحرتها المسافات: الخاتم دار كقفل والوعد جذر .. فإلى أي القرى تغادر .. وبأي المعابد تقيم الاحتفال. ألم تر إنهما يتبادلان كتاب الليل بفجر والكتاب تراب: لا الميلاد بسابق الاستئذان ولا الرحيل بسابق الحساب: العاصفة أنذرت فأنذرت .. وها هو الغريق يبادلنا الكتمان بالكتمان: يا روح خذي أثقالك : الاسم نفى الاسم، والأسماء محت الأسماء.
[24]
        أعيد يطرق باب الميت أم الأنوار أوقدها البواب: صدأ البرق أم أينعت الثمار: الأنهار غادرت لوعتها، والجمرة بالأضداد أقامت معبدها: يا طيف من أنا .. وهن صوتي فتعال خذني منك غادرني أنا عندك أمانة: وتقول النار من جاءنا بالحطب والنار لا توقد لا تطفأ إلا بالنار: اشتعل يا قلب الماء بخور والجدران هياكل: كل محب بالمسرة أعطى للدار الزوال: لا مفتاح عند التائه فبأي اللوعتين أشاطر الأوثان: ما أنا إلا حرف سبق الكلام وما أنا إلا كلام سيأتي بعد الكلام.
[25]
        بصمت كتاب لم يكتب وبصوت لم ينطق أقمنا الاحتفال: الفلك أخذت وعودنا وعند السواحل أقمنا الأسوار: واجلس في البرية اكتم عويلي: أيها الموت لا أنت بذاهب لا أنت بآت. وئد الجرح والوردة في المهد: أيها الرمل أتصغي أم – أما – كفاك الإصغاء ؟
[26]
        أآثام أعياد أم فاتحة مسرات: الماء اصطحبنا، الليل فرقنا، ومن أدلنا أضاعنا: يا قصيدة ترقد فوق الأعشاب الكلام لوعة: والحجارة بالعويل شيّدت كتابنا: من ذا يدلني على سكون الأعياد. بصري أبصر والذاكرة دخان: ليس من أحد ادعوه فيدخل معبدي، المأوى وأنا بالكف أجمعّ من كتب فوق الرمال: قصة تسبق راويها، وراوٍ قبل المولد دوّن كتاب الأمطار: أزل عني الأسماء، فأنا طيف فضاء الإنسان.
[27]
        انشد النشيد بذرة الاكتمال: يا مسرة المباهاة هو ذا عيد الحجارة : بالنار أوقدنا الأسماء وبالبخور استقبلنا الأطياف: حقول الروح أينعت وجرح الأرض لملم كتابه: الاحتفال اكتمل بالذكرى وبالمفتاح فتحنا بوابات الوردة: الريح اصطحبتنا إلى ملكوتها والسماء كتمت عويلها: إنا للاستيقاظ غادرنا، ويا طيف لا شكوى لا أنهار نبكيها، المعبد اكتمل والخاتم دار والأوثان نثرت برقها والكف اصطحبت ترابها إلى الفضاء: أبالبذرة اكتملت الأناشيد أم بالكلام محونا الغابات ؟
[28]
        أين حجارة النهار أين معبد الليل: اينهما والغيمة اصطحبت أمطارها إلى المنافي: هناك، أشواك الرمل تفتح أسرارها: العيد لم يكتمل والأسماء لم تكتب والفصول نشوة آثام: كل نفسٍ بالفضاء لاذت، فنهض من لم يأت بعد وأغلق جرح التراب: يا ارض الانحناءات هذه هي الاستقامة: تاج الملكة نخلة والخاتم جذر: وأنت يا بّواب الفواصل أشغلتك الغفلة: القلب أخذته سنة غفوة، الكل يبحث عن الكل، والكل يبحث عن نفسه: يا يد تحركها الريح هذا كلام غيمة، الأمطار أنذرت والنار في الحقل توقدت والأوثان فتحت للموتى باب الاحتفال.
[29]
        وتوقد الصخرة قنديل من سكنها: لا أسماء للاسم: حبيبي الذي فيّ أخذني إلىّ: أيتها اللذة أأنت غفلتنا ؟-: العيد وزّع الكافور نثر نذره وختم البوّاب بابه بالريح: ومرت القوافل، أعلن الدوى احتفال الموت: المؤودون نيام والأسماء فوق المآذن: لا عاشق أبقى الدخان للعاشق، والبراءة إنذار. أثقلتنا اللذة بالتراتيل، والماء طوقنا بالمنافي . خذ الروح فهي لا تُؤخذ .. أعيدوا لي روحي فهي لا تعاد : كل الفضاءات بذرة .. والأسماء تكتب الأسماء، والدخان يشيّد وثنه بالدخان.
[30]
        هتف الماء مستذكراً لا مبالاة الضفاف: لا .. لا : العيد جمع الأعياد، وأميرة النوار توارت: أيكتم البرق كتابي: الرماد فوق الجمرة .. الكف سارية والنذور أوثان: أيا نداء المستحيلات أفق .. أين ختم الكاهن أين المعبد والليل تاه في الممرات ؟ -: ورأت الصخرة الأمة ورأت الأمة الناس ورأى الناس الناس كل في عيد أضرحة وحدائق .. وقناديل تطفئ قناديل: حبيبي أخذه الفضاء: فهات يا منادٍ ترابي باب وزادي حجارة: أبالماء تطهر الأوثان: يا ماء النار خلت من قبلها النار.. أنا .. بعدي .. قبلي .. فبأي الأوجاع اطهر الأوجاع.
[31]
        يد للذكرى وأخرى للتذكر: قلب للتدوين وآخر للمحو: كتاب للحفظ وثان للاستئذان: يا صولجان الوردة، البرق اصطحب النوارس، والبحر لملم أخطاء السواحل، وأنا بيني وبين نفسي اكتفيت بالكتمان.
[32]
        ما لا نهاية، إذا ً، عمر المعبد: ما لا نهاية .. إذاً .. كتُب الاسم ومحته العواصف: ما لا نهاية، إذا، عمر الميت عمر الوليد .. لكن في لحظة برق، لماذا خلعت يا خاتم الوعد.
        إلى ما لا نهاية، إذا ً، ستولد: إلى ما لا نهاية ستجلس عند الوردة، في المعبد، وبالقفل تفتح خاتمة الدخان والنار.
[33]
     ليس من برق: المطر بالليل تعطّر والأضرحة اصطحبت موتاها، بلا استئذان، لترتل عند لا أحد: من ذا يطرق بالمطرقة صدأ المنازل .. أمن جسد يا تراب والجرح بالبخور أعلن أعياده، أم بسارية الوهن تتجمع القبائل: الكف وعد، والأشجار بالنار تطهرت .. أهذه روح أم أجزاء ظلال: قلب النجمة غاب وأنا قلبي ما زال في المهد.
[34]
        بقلب من يتوقد كتمان الخاتم: الحرف غادر الاسم .. ومن يجلس يولول في الفضاءات كفت عنه المعابد .. هذا العيد رمل .. وهذه اليد رماد: أيا كلام أتأتي بالطيف وتمحوه، وبأمواج نياشين الغرقى توسوس: روحي كانت هناك .. هنا .. وستكون: يا للصفر بين عدمين، ويا للخيط الفاصل بين المحبة والمحبة: لا السماء تدنو لا التراب له سلالم  أتشتعل بالصخرة وتغيب في الكلام: هو ذا مهرجان القبائل .. الدم منثور .. والجسد توزع .. فمن ذا بالنار يطفئ النار .. ومن ذا بالماء يطهر الماء؟
[35]
        أتبحث في العتمة عن نور قليل: أتبحث في البحر عن موجة اختطفها الغريق: أتبحث عن عيدك في التراب: يا من لم يبدل الاسم بالاسم .. ولا المحو بالقلائد، كفك الفضاء، وقبرك وردة اكتمل فيها الحصاد.
[36]
        أهي الروح رفرفت بجناح الدخان أم الدخان فتح باب الخاتمة: هو ذا العيد: أنباء التراب لملمت قبائل العواصف والماء تزيّن للاحتفال. سينطق الناطق بالصخرة: هذا نشيد البرية: مدن الأسلاك الملونة بالبرد. الغرباء للغريبات: أيها الوعد صغ قلائد العروس البحر دخل الرمل والبراري توحّدن بالغرقى: لا نطق ولا ميلاد: الكاتم جسده للكاتمة خاتمها: يا أضواء العتمة من كسر جناح البذرة: من جرح الصوت بالكلمات ؟
[37]
        ويدخل البرق مملكة التذكر: الغريبة للغريب: فبأي الأصوات تشيّد صوتك: الذاهبون أخذونا، والبحر لملم هبات الموتى .. فبأي الأعياد تعّيد والكف وثن، هذا نهار مخلوع وهذا نهار تائه: فمن ذا جاء بالعرش ومن ذا توحد بالصخرة: تعال كطيف فرماد الموجة تذكار. والفاني للفانية .. يوم لا أسوار ولا أبواب .. يوم القفل فضاء والكلام ذبائح.
[38]
        وثم تفتتح الذبيحة عرش التذكر: الزائلون للزائلات.. والباطل للباطل .. أهذه حكمة أم جدار: القفل الوسنان يتعثر بفصول الرماد .. والنذور تتكوم فوق النذور: هذه مزارات بلا زائر: وهؤلاء غرباء بلا معبد: يا ورقة بلا شجرة من خبأ غابتنا أين الفلك: الأمواج بلغت أعالي الروح واليباب جمعنا عطشى هي المستحيلات، والنار بالدخان كتمت عويل الأنهار.

[39]
        انحنى غصن الاستقامة والتراتيل دفنت في الفضاء: أتشّرع للقلب القانون والأميرة في الغياب: لا الماء امتلك السر.. ولا التراب كتم النار  الرحلة مباهاة والاحتفال شريعة: يا ضجة الغرباء سترجع النفس إلى النفس والأزمنة ستمحو الأسماء: هذا دهر برق وسنة ندم: لا آدم جاء ولا الأسماء اخترعت هذا الوثن: البروج تزينّت، والريح في القلاع دارت، والميت قام: يا وردة تشابكت فاتحتها بالكلام، الخاتم حرف والحكاية كلام.
[40]
        بالغفلة أسرتنا الجمرة: الموتى الظرفاء ينثرون الورد، والفجر غادر مثواه: أيأتي من لم يأت ؟ - : ضع الحكمة مع الحكمة والسكين مع السكين: الغرباء احتشدوا في الغربة، المدن تسوّرت، وبالموت نطق الرحم: أيتها المرضعة أهذا وليدك أم وعد بالانتظار: إنا بالبخور وحدنا الأطياف: إنا بالمعابد جمّعنا الأسرار، وللفضاءات وزعنا الأوثان.
 
[41]
        أخطاب عرش هذا أم بعض دخان ؟ -: بالبخور احتفل الميت بنشيد، أقام نخلته، ومنح الماء الكلام.
        أخطاب رمل هذا أم بعض بذار: لا السكين قطفت الحكمة ولا الحكيم وشى بالأوثان : أيكون استدار بالعاشق، والمحارب جاء بالأنصار: شيّدنا للقبائل خيامها وهدمنا أول الكلام: جبل فوق جبل كغابة لا جذر لها ولا فرع لها في الأسرار: انحنى العرش ولملمت فضائح البحر وضاع البحار: لا ترقص على طبل، يا نسوة لا تزغردن، الكاتم دخان الرمل آفاق، والمعبد بالأسرار محى الأسرار.
[42]
        أجلسُ عند الذي غادر: المرضعة أضاعت رضيعها: والغريق بادل الغريق الكتمان: بماذا همس فانجلى الغبار ؟ -: كان العصف يأكل منا زادنا، وقبورنا تلاشت مع الأكفان: فبأي كلام نهض العرش وبأي نور أطفئت الأنوار ؟ -: لا أبدل مثواي بعاشق، هو ضدي، يلحق باللاحق، ويغادر قبل الانتظار، لا التاج  أعلى من تراب الجرح، ولا عذارى البحر تخلبن الألباب: يا نسوة الوادي أما من سبيل لصخرة النطق: المنشغلون شغلهم الانشغال: وفصول الأفراح تدور دورتها: لا نقطة تحت الحرف ولا حروف للكلام: العيد كورنا فنثرت المدافن، عاد وسام الرمل للرمل، وقاسمنا الغرباء خبز الغرباء.
[43]
        أبنشوة الأمطار ختمت الريح تراتيل الغابة: أم بالعرش كوُرنا فتكورنا: أيتها المخبأة تحت الأنوار غفلتنا أخذتنا .. وبالبرق غادر الغرقى مملكات الجان: هي طبقات إذا: سبع أو تسع أو عشر أو اكثر .. الجرح تراب والعيد خاتم. أميرة الماء اصطحبت راحلها فأغلق المعبد فضاء المدافن .. يا من آخذته اللذة، الكلام أطربه المتكلم، والعابد لملم أناشيده: الحبيب حبيب بين حبيبين: والوثن أضاع ظله .. يا قبائل الروح الكاتب بالريح يدوّن والباب بالقفل دارت: فهل اخذ الفجر شيئاً: هي انبتت فطلع الزرع فانحني لها العشاق: المسرات آخذتنا وقرع الطبل أنذرنا، فجئنا بالموتى وجئنا بالزاد: هنا الولائم حفنة رمل، فالنذر بالمفتاح فتح البحر، أيتها النفس الوسنانة اشتاقت نفسي لقلائد الشذر .. فالذي هجرنا أخذنا والذي آتى غادر: أنظمة أمطار وخفايا انطفاءات: وكل يأتي، بعد دهر، بكلام: كل يمحو محوه، والأسماء تأتي بالأسماء: فضاء اخترع الفضاء والأرض لملمت ذريتها. اكتمل العيد، والروح أفاقت بعد أن اضطربت، نهضت، فوضعت البرية أثقالها وما استراحت. وجاءت النذور بصاحب النذر، والذبائح بكبير البوابين: هذه البحار نولجها كما النار نخرج منها الزرع، كل يأتي بكتاب، فهل كفت النفس عن النفس: يا جميل المؤانسات عويل من وحدنا فرقنا وأمر لنا بالزاد، ثم تنفرط القلائد كقبائل دخان، تجتمع الأعياد في حرف، وتتناثر في الكلام.
[44]
     أبرقت العتمة فنطق الناطق نطقاً وتوارى من عليها: الأعياد أينعت .. الأطياف تجمعت .. الأوثان تناثرت .. فكلمت المرضعة وليدها بالغيب وما تكلمت: الأيام نولجها بالأيام وما اكتملت: كل يأتي بكتاب والحاضر لم يحضر. يا من غاب أما من باب للباب: وكل ينسخ ضده: الريح وهنت .. والبحر فوق البحر وحّد ظله: يا روح ما طلبتك للإقامة، ولا النفس اشتاقت، بي لوعة من لوعته اكتملت ، وبي منه هذا الظلام.
[45]
        آفاق من عليها ثم غاب: بالخاتم ختمنا لوعتنا .. وبالنذر للبرية نذرنا .. وللحرب بالطبل قرعنا .. كل من عليها غاب وجاء: الفانون للفانيات .. والدخان للماء. كل من عليها انشطر: القبائل توزعت ومن غفى آفاق: الحجارة أبرقت .. ومن في المهد جاءنا بالأنباء: فمن ذا يا روح يخبرنا بالأخبار .. كل من عليها غاب .. والأسماء محت الأسماء.
[46]
        يا مطرقة لست السندان ويا سندان لست أنا المطرقة: بعضي خاصم بعضي ، وكلي انشطار. روحي لم تتوثن؛ إنما بغفلة العيد أخذتنا سنة ندم .. وببخور الأطياف انتشينا .. لم نختم بالختم الفاتحة ولا بالمفتاح فتحنا مكر الأحفاد. الفجر أغوانا .. وقلائد الليل وزعتنا .. الأصداء احتشدت حتى صرنا لها الأصداء .. والكلام أخذنا للمنافي حتى صرنا له الكلام. ولم نكن السندان ولم نكن المطرقة .. كنا ما بينهما المطرقة والسندان.
 
[47]
     تفك الورقة تراتيل التراب: القلب حديقة والروح اشتياق، وبالبرق تعدل مسارات الأمطار: البرية عذراء والصدى غبار: القبائل ختمت عهدنا، والنذور رمال .. الدهر يبذر بذرته فبأي الأيام الأسماء تخترع الأسماء. هذا التراب مدينة وهذا التراب مسلات: بيارق ترفرف وغرقى فوق القاع يلملمون الأسرار : - يا كهنة الليل يا عذارى الفجر الفلك تتبعها فلك ومن كلم الناس في المهد كف عن الأخبار: العرس جوقة اصداء، والأمير انتخبته الأسوار .. هذا المنفى امرأة .. رمال .. وأصداء كلام.
[48]
        تسبقني الآثام أم اسبقها أميرتنا نذرت عرشها للرمال: عواصف المحارب سكنت .. وغبار الأضداد توارى .. أميرتنا جاءت بالبحر قلائدها بضع نجوم خاتمها برج كلامها كلام ما بين الكلام .. فمن ذا يفك الأسوار يفتح باب الرمل ويقول وهن الفؤاد .. اليد تأخذنا إليها .. نتجمع في بذرة .. هذه مملكات الفناء .. الدهر أثقلنا بالدهر .. وكل يمسك دوره، فتخرج من النار الوردة، يكتمل الفرح ويصير مثل مثل .. جاء كمضرب للأمثال.
[49]
     وتمحو الصخرة آثام براءتها:تكتم لوعتها: أما ترى الذي سيأتي غاب: والراحل آتى .. كلاهما كلاهما: انا فرقتنا الوحدة .. انا جمعتنا المسافات. وبالنفس أعراس ومدافن .. وما بينهما فضاء: الكون تكوّر ثم استدار آفاق .. غفى .. واستقام: ويأتي المعهود يهدم ما شيده المعِّول: بالروح تشيد الأوثان: نصبٌ تمحو يد صانعها ، فتخرج النار من الدخان، فيخرج الداخل، يكتب يلهو ويغادر بلا عنوان: كل يدور كمثل يضرب للأمثال.
[50]
     أسفل أسفل، نلملم الأشلاء: الصخرة والسماء يتذكران: اليد بيضاء والقلب فضاء. وبالبخور ندخل كهنوت الموتى: نتجمع، يا لصخب الأخطاء، ونتناثر، عند الوادي مقبرة بلا أسماء، يساراً أو إلى اليمين تتجه، بوهن، الروح إلى الليل، ثم يستيقظ النور:  جنرالات من ورق. وتبرق خاطرة فينهض العابد: طرقات وحدائق وقرع طبول عابرات القارات. يتصدع جرح الشجرة والتراب يرقد تحت .. فوق .. بلا كلل.. ويتوارى مع عظام لرجالات في الكتب: الملكة ماتت والملك يتعثر بممرات المبغى. مدن تحت اليد زرقاء .. رجال بكيانات مزركشة تختطفهم نسوة الاستثناء : ليس ابيض لون النسيان .. والفتية يستحضرون الأرواح .. العانسان .. يجمّعن الدراهم: كل سينسى قبره. الملك مات والملكة راقدة تتسلى بالدستور، ويبرق البرق بأضرحة من فولاذ.. يتعفن الوعد وتتكور اليد والكلام يرتب حسب استدارة الفصول. العيد جرجر أذيال الخيبة، وبيان آخر عن البنفسج، عن رؤوس للشهرة وأخرى للولائم .. والرواية يحكيها كل من لم يأت .. وترويها كل من لم يمسسها الصيف. أسطورة فوق سطح الماء أو موجة سم. الإدارة الأخيرة للموسيقى رتبت، بلا منازع، استحصال البراكين: شركات تتولى أحوال الصواعق، والنثر يشحن بكمائن التذكر .. ابيض، هو القلب، مثل نبيذ استخرج تواً من المدافن، أو أسود مثل خاتم القيامة، إنما ستبقى الريح تحمل الأسماء كلها ولا تحمل أي أسم.

[51]
        بالصخرة محت الموؤدة معبدها: وردة الماء اختطفها البرق: يا قلب الذبيحة تنـزه، فالصحراء فوق الكف نذور: لمن .. أعلى أو أسفل، تورق السواحل: لمن، أسفل أعلى، المجرات تستأنف الدوران. الصوت توحد، وبختم الملكِ ختمنا قوافل الخروج، ثم كتم البحر سطوته: نوارسه البيض تلونت تفرقت وتجمعت في جمرة: أيتها الحكومات كفي عن العشاق: فبمفتاح الفضائح تسري صحف الموتى وأنباء الرياح: لا غالب لا مغلوب: اليد انشطرت، والنار تنادي أما من مزيد: أمراء خلف أمراء، طوابير جنرالات وفقراء يبعثرون الفقراء: حفلة موتى تحت الصفر: أهذا ما سعت إليه الشمس.. أهذا ما قصده القمر: الفضاء يمسنا فنأتي بالشذر. فنأخذ أكفاننا نهبها ونتوحد مع الأوثان.
[52]
        ويوم لا زرع لا برق، لا حكومات،  حفنة غبار في القاع: ابيض اسود وبكل الألوان يتلون الصوت: يصرخ من في الأرض: هو ذا الكلام مقبرة. كم لطيف هذا الأمير الديمقراطي يرقد لصق الشعب، وهذا القاتل، هذا القاتل نهض يعانق قتلاه: كم أعطت الأرض عذراوات وخبز، معابد وثكنات، وكم أعطت شارات استئذان: يا قلب لا تتكلم: الناس موتى قبل الموت وبعد الموت دخان. لا. نطق قفل الكتمان. كم مسلٍ هذا الملك وزّع دراهمه على الرعية، وأوقد تاجه استئذان: كم أعطت الأرض وكم باحت الروح فما كان للصوت إلا هذه الأصداء، وما كان للصدى إلا هذه الأصوات.
[53]
        فيما هم يدفنون العظام الطرية، يستيقظ تاريخ المرمر: لحظة، ليس من ميت، الزمن والكتاب كلاهما يلونان الممرات، فيما الأعالي تهبط تحت ثقل الأناشيد؛ مثل من ستضرب به الأمثال: المرمر الناصع البياض يتقدم: هؤلاء سيولدون مرة ثانية. تدخل المدن عصرها الأخر. هات أيها البوّاب قوائم الجرد: كم مرة هذا الوثن توّثن .. كم مرة هذا القاتل عانق قتلاه، كم مرة هذا الليل غادر عرشه. هات يا سياف سيفك.. ما من ميت ما من وليد .. الغيمة نطقت، ما من راحل ما من آتٍ. الغيمة انحنت .. الغيمة بكتمانها نزفت، والمدية ما زالت تعمل في القلب.
[54]
        جمعت الشجرة كلامها، كصخرة ما زالت نابضة بالوعد، ومثل مثلِ ستضرب به الأمثال، أنت: ثمار بعظام مرتجفة، براعم برؤوس ذهبية، ستلقى كلمات التراب، بعيداً بعيداً، عن قاعات المرافعات: ليس من أسباب، مضاعفة، لكتمان الموسيقى: الحكمة تتدحرج .. لا تتجاهل انك أقوى أقوى من ملك لم يخلع بعد: الرأس وضع فوق الطبق، والكف أخذتها الاحتفالات.
[55]
        ليس من أسباب، إذا، لاستئناف المودات:  الحجر آتى بالحجر، والبحر اكتمل بمنفاه: غرباء يزرعون نباتات الإقامة: ما من طيف أعظم، هكذا دائماً، خلف الأزمنة، تجلس الأفعال للذكرى: قطرة المطر الثقيلة، واستعارات الفصول: بكاء الغزال الوحيد بين الغزلان .. أو تمسك الأمير بدفة الخيال. تأتي الريح وتأخذ .. بعيداً عن الأشكال .. قلب المنشد: الأطياف البلورية هي الأخرى تُدفن تحت تحت .. الدفن من الأسفل .. الآمال تفكك الآمال حسب الحركة: هو ذا العدد الكامل: الفردوس الأول، الجحيم المستعاد: الأضداد الأليفة .. ممرات مزركشة بالقرنفل، الكف تصير حكاية، والأمراء ينثرون للدخان: تباً للدخان الذي ما انفك يتلذذ بالدخان. الصلابة تستجدي خيالها من الأشجار .. فالمدن ترقد تحت المدن، كل نفس ذائقة الفرح: الجداول، أيضا، لديها استعاراتها، حكاية بلا حكاية:  الدوى والاستراحة: العيد الليل: تولول حتى عند انهار الشذر، ولا بصحبة أحد، تنظم، ليس من أسباب، يقيناً، للموت والمهد، عدا انك أقوى، بنبل مبهم، من مقبرة بهذا الاتساع.
        وتأتي نهاية، بداية، الدور .. ما من شيء آخر، قرع طبول أو صد الموتى، الغزاة، أيتها الدماء تسوّري، نداء، الموسيقيون يرتبون الألحان، والشمس بعكازين تنهض: الياقوت والمزركشات والمطرزات لا تكفي للأميرة ! -: العرش يتباهى، كما العيد، أغنية الغريق فوق الأمواج، تحت القاع، وشوارع ملونة بحناجر دخان: لا تتشكى، الفلك تدور، والاحتفال، بلا نهاية أو وعد، لم يبدأ.
[56]
        مثوى من هذا المعّطر بعطر الأطياف: لا تبك كثيراً لأجل ملكة لم تخُلع بعد: الليل بأطرافه يتجمع، مبهماً: كل سينال رضاه: الحديقة منفى، والنار بعض أطراف حكاية.
[57]
        عند اكبر المصبات ضيقاً، دشنت الملكة أيامها بالعويل. على مَِ حزنك، يا ماء، الغلمان جاءوا بالرأس، بطبق من ذهب، وأخمدت غواية الفتنة، أم باستثناء خطاب العرش، يتكشف الوعد: مواثيق الكتب وتمتمات العشاق، يا رأس لا تجادل، ما الأدوار إلا استعارات .. وهل قدر للصوت أن يتلبس هذا الجسد . عبثاً يا جند فالخاسر كسب الرفات: هو ذا يرثي من لم يمت بعد، يشيد بالكلام أعياد التستر: ويوزع للقبائل التراب. ليس دسيسة عرش: الملوك للدخان والملكات للعويل. فعلى مَِ تبصر، وهل تقدر أن تبصر ؟ - : هو ذا المسرح، كل يرتدي مطرزاته، يتلهى، يجادل، هو ذا المسرح، في الخارج ، كل يرتدي أسماله، ويغادر.
[58]
        يتباهى من في المهد أن النار ستتبع خطاه: لا مبالاته الإقامة.. زحزحت المنشد ومحت النشيد: فمن ذا يدّون شذر الأعياد:  الضال للضالة، والتائهة للتائه، ومن ضج بالكلام سيكتفي بالينابيع، صخرة البهاء، فلا تطرب لا تولول .. هذه منازل قدرت تقديراً: من المهد إلى المهد كمثل الميت يخرج من الموت: وادٍ له يمرحون، واحتفال به يهتفون، كل سيعود إلى الكل، والأشياء بكتمانها تمحو الكل، وبالكتمان يتوارى الكتمان.
[59]
        وكزرع يابس جاء حفل الاختتام: وداعاً يا برق، ثم احتشد من احتشد عند البوابات: مرحاً يا أميرة الماء .. وداعاً يا ملكة بوابات الشمس. مرحاً بالعرش يفتتح العروض .. وداعاً للجثمان يوم الجرح يلملم رماد التاج .. هو ذا الزرع يخرج يافعاً .. مرحاً لوداع الأتي .. مرحاً لمن لم يأت .. الأفعال كلام والصوت نوايا. يا يد القفل صفقي للقاتل صفقي للقتيل، الملكة دشنت مملكتها بقلائد النذور. لا كتمان بين عهدين: كل يلعب برهة، وكل يمحو دوره: هكذا تدّون اليد لا مبالاة الأدوار.
[60]
        احتشدت فيّ الأصوات اضطربت كأن مثار الذكرى تشظا فانشطر الواحد وتلاشى الكل: من ذا بدل أضرحة النوارس من ذا للمعبد دعا وأنا فيّ الرمل توحدت .. وأنا فيّ الكل تناثر نذور.
[61]
        بكتمان شذى الشذر، أعلنت الفصول فاتحتها: مقبرة التلال توحدت بمطرزات الرماد: كلاهما إشارات وأطياف، تدق تدق: تكتب بالرمل افتتاح البدائل: الميت للميتة، والموتى بلا مدافن.
        والقلب يكتظ بقرع حناجر منسية، وأخرى ما زالت في الجذر، نطفة حكماء، فالآثام عواصف تتلوها هدنة، فالمصباح الأكبر أنار خطا الأمراء .. ويهتف من في الماء أنا ها هنا الدخان يحك ذاكرته فيخرج الزرع وأخرى لصق الجنة تتحاشى حساب الأضداد.
        اني أتلهى بصدى صوت لم يخرج مني، اني أتوحد بالمدية واعمل في روح الأرض.
[62]
        تنشطر البذرة يتوحد الكل: ظل الملكة، هو الأخر، ينهض يلقي خطاب العرش، ينسحب التاج إلى مثواه. لكم كان الاحتفال موجزاً، موجزاً بعمر الأرض، مثل حرف اجتمعت فيه القبائل: من آذاك حتى تكف عن التذكر.
        ويعانق أمير الياقوت موتاه. الملك يصالح قتلاه: حفل آخر للحفل: اليد التي اخترعت لذائذ الليل توزع حلواها ويتم الصلح.. فيخرج المتوحد من وحدته، يبصر بالعتمة تاريخ الميلاد، يتمهل عودته، ومثل قمر انطفأت فيه الرغبات، يرجع إلى كهف النور: خذ أضدادي، مثلما، هناك، نثرتُ النذر للفضاء.
[63]
        بينهما ليل، بينهما نذر؛ القلب تراب والشمس ذرة رمل: يا أطياف بمثل البحر، هذا كفي، هذا وعدي، فأين الحاضر مني، وأنا اسمي ضاع بين الأسماء.
 [64]
        ويكف الصوت عن الصوت: المدن السفلى تتباهى .. وأنا بعتمة أنواري عروسي اكتحلت، اكتملت .. فغادر يا قلب غادر مثواك، ويا مسافة بينهما أينتظر القلب من لم يود القلب، أنغام الأعياد للذي لم يأت. بينهما خيط أم طيف، صار الجسد مثوى للبرق، وصار البرق مقبرة للبرق.
[65]
        في الجسد الواهن يدفن عويل الإنسان : يستيقظ جند الليل، لا أحد في الغابة .. فيعود الحالم. يلملم أطراف البحر: يأخذ حفنة زاد،  ويغادر. يصرخ فيه الجند. فيعود:  هو ذا تراب الغرباء .. هذا ماء النار، يكتم فرحه، ويعلن خاتمة الأعياد.
[66]
        يوزعني إلى ضفتين، قلب غاب عنه القلب وآخر لا يبصر ما في القلبين: قلادة الليل توزعت، العرش نثر ياقوت الأرض، وبأحجار النذر انشق الجرح، ضفة للأخرى وجرح لا يبصر ما في الجرح، وجرح لا يبصر ما في الجرحين.

[67]
        أغاب عنا لنراه، أغاب عنا ليرانا: أم الروح ولدت منكسرة، تارة، ولدت مرحة كجنرال يطلق النار.
        البذرة انحنت فلملمت أطراف السماء، والذرة فضاءات شوق. هو ذا الذي يسمى والذي لا يسمى: أعياد جمعتها الأطياف، ونذور فرقتها الشكوى: إنا نجمع ذكرانا بعيداً عن الذكرى: فكلانا كنا إشارة، وكنا للإشارات كلام.
[68]
     هل نطق الخاتم وأصغى الدخان: من دوّن لم يولد، وما كتب محاه الكلام. توحدت المعادن واكتمل السؤال .. الروح أخذتها الرجفة .. طوقها الكتمان .. الأطياف توارت، والمعبر غادره الأبصار: هو ذا أنا أميل بثقل العيد اطلب من أحب فما وجدت يا جند الغابة أضاع الذي أدلني أغبت لكي اشتكيه: اكتملت حجارة النذر .. وأنا لا املك الدليل.
[69]
     خاطبتُ الصخرة بكلام الأرض .. حكمت الماء كأني لا اكلم إلا الماء. خاطبت من في المهد كأني في المهد .. وكلمت الأشجار كبذرة، ناشدت الطير برفيف نداء البرق .. إلا اني كتمت كلامي وأنا احلم اني استيقظ في الأحلام، مثلما ضاع كلامي لما آخذني الكلام إليه.
[70]
        يدّون الدغل ترنيماته: ما الذي فعلته الأنوار بالصخور: أي يا نقاش لماذا اخترعت للموتى كتمان كلام البرق.. أم هو ذا همس الأطياف للأطياف. يد الماء غادرت توارت وعند الفجر نذرت نذرها .. أفزعها البرد. ها هي، في ركن الدخان، فوق مطرزات الموتى، تستكمل أعيادها: ليس في الوردة إسرار. غريقان في موجة، وشبح فوق الأعشاب يلملم وصاياه، هو ذا المفتاح يدور بالفضاء، وبروح الأصداء تختتم الفصول نذورها.
[71]
        للريح  صمت، الباب تدوّن ؛ اصداء همسات الجنادب، ولون القمر فوق التراب، الباب تدوّن: الكل يرقدون على بعد يسير من مركز الأرض، فقط، في كل مكان، أطياف ماء: الأبواب وحدها تبصر، لا تدوّن، والأطياف يحّومون في مركز ما من الفضاء.

[72]
        إني نفسي لم أر إلا المرآة الأولى، قبل قرون: ملكة تولول. إني نفسي لم أر، هناك، لا وصايا ولا دخان: ظلال فحسب تتراقص فوق الموج، فضة أو أحيانا رمال، ملكة أخذت حاشيتها، بهدوء، هبطت أو تلاشت، كانت بمحاذاة مرآة قديمة، هناك، تدوّن ما لا يُرى،وتكتم دوران الباب حول الباب.
[73]
        وأخيرا، لا حاشية لا ملوك: التراتيل، هناك، والنياشين توارت مع الدخان .. الجبل اصطحب النوارس، ومدن الرمال ما انفكت تلملم أطرافها: إذا .. لا .. لا أحد قرع الطبل .. ولا لا أحد تكلم .. ولا لـ أحد نذرت النذور .. لا .. : النحل يملأ الفضاء ، ومملكات الدود بلا كلل تقضم ساق الرياح ، الرماد يتدثر بالأصداء ، وأنا فقط، أكوّن مسراتي مع الرمال.
[74]
        تكتم الغابة استئذانات الفضاء، الجذر توحد والأرض اكتملت: الصدى أتاناً بالمستحيلات والكلام أطياف: أين تقيم والأعياد سبقتك للذكرى .. أين ترحل ولك في الأرض حوار: يا نفس خذي عويلي وهني خطابي فذريني وان شئت قاسميني رمادي دخاني فانا ما كتبوا .. وأنا ما كتموا .. وأنا للذي لا أراه اشتياق.

[75]
        بعد اختتام الحفل: وضعنا الجثمان تحت، بين شجرتي  لوز، أمام الماء، ذلك ان الملكة قبل ان تتوج، أحبت أن ترقد تحت، عند الطريق المؤدية للقمر .. إنما لم تنفذ الوصية . منذ ذلك اليوم ، بعد كل عيد للموتى ، كانت ، دون أن ترى، أو أن يراها أحد، تغادر مملكتها.
[76]
        ميتان جميلان، احدهما أضاع الأخر : إنما دوّن فوق الصخرة، إنهما سيولدان، مرة بعد أخرى، عند كل عيد نذور، إنهما ، يقيناً، سيلتقيان، كذلك جاء الصوت وإنهما افترقا لأجل ذلك.
[77]
        بماذا إذن أبصر المبصر، ليس هذا محض مصادفة، القلب في المرآة جمّع استعاراته، عبثاً امتلك الحزن اكثر، مما، اكثر مما لو كان محض وهم. ثم، لا أنت ولا أنا، لا نمتلك اكثر من أفراح. بلا نهايات أو مسميات، كلانا، هذا الصوت المتوهج، اكثر مما لو كان، أو نسبياً، من قبائل موحدة. كلانا غالباً، لم نكتب ولم نمح آثام صدى الرغبات، الفصول لملمت ثمارها، هكذا بالقدر غير المحدد، ربما هو المطلوب، أن نترك النوافذ، مثلما الأبواب، مشرعة.
[78]
        أميرة الشذر، بالسحر أبطلت تعويذات العرافات، وأمير بقلب مخلوع، هو ذا ، مثلما قط ، لم يفق ، يدشن ايامه : اخذته الدهشة ، لم يغادر ، كأن الأعراس جرجرته، ربما العكس، فالأعياد، كما الرمال ، تحتضر، انه لا يتباهى ،قط، فأميرة الشذر بالنشوة أبطلت سحر الدخان .. ثم لم يفق، اكثر مما دوّن، بالمسرات ذاتها ، وتلاشى كأنه التاج فوق العرش.
[79]
        ليس للنور ، مثلما للعتمة ، جمرة: باحت وردة البرية: العرش باطل. فانشد من انشد، بعيداً بعيداً أو في البذرة: النجمة لا تبحث عن شيء، والبحر اكتفى بالسواحل، البحر اكتفى بالغرقى.
[80]
        وجيء بالغريق: انشد .. قالت الصخرة .. نحن لنا أغنيات المواسم. قالت النار: لا تتعجل الرحيل .. فابرق البرق .. عيد العيد، وآثام الليل اكتملت، ثم غاب الغريق.
        تراب من هذا ولمن هذه الذكرى: يا بوق لا تفزع من لم يجرح بعد، الأطياف رحلت، والموؤدة لا تمتلك السؤال. إنا كلانا في حبه رمل، والريح تلاشت، انشطرت، إنا كلانا في سفر، الكاتم كتمانه والوثن: هو ذا ظلي عند النافذة يرتب خطاب النور ، وعروسي بثمار الجنة جاءت ، قبائلي بالسيف تبارت ، فمن ذا يجمَّع قلادة الدهر : البادية خالية إلا من ابار الذكرى ، وعند الحد ينهض الغريق يجمّع لذات الموت . لا تفق، قال الوثن ؛ العرش هواء ، والزمن مدية تعمل في القلب . افرح . قالت القبائل : افرح ، قالت الصخور . افرح ، قالت النار والمواسم : لملم الغريق نثار المسلات ، جمع اوزارها ، انحنى للكلام ، وغاب.
 
[81]
        ويعود آخر الغرقى بحرف الصمت: من فك المعنى تعال انجدني من لم يأت فتح لنا باب النار أدخلنا الكهف .. تعال انجدني الموؤدة تسال والملك بالبرق وزع ثمار
الأدغال.
        وان جئت فتعال كرماد، كل فصول الماء غواية. ومسرات الأعياد انكسار: ما من باب لا يدور بها القفل، والكون نهار، دوار تعال انجدني بالصمت أو غادرني بما هو كلام مثل دخان ، فانا مثلُ سأصير مثل لكل الأمثال: غادرني بما ملكَ الملك أو أزال عني وزر عبادة هذه الأوثان.
[82]
        كصخرة طرية يخرج الزرع من الزرع .. وكبرق ، أيضا، يغادر الحشد، أكلهم غرباء إذا .. ولادة البذرة واختتام الحفل .. أكلهم غرباء إذا .. عند البدء قبيل تدفق الأصوات ، وبعد ، بالقفل تقفل الأقفال، أيتها الشجرة، أيتها المسرات، أيتها النهايات ، ما الذي حدث بين ضجتين .؟ بالصمت تُولد وبالصمت تغادر .. فمن ذا الذي بينهما : دوّن ومحى ، أرسى وأزال ، أعلن وكتم ؟ من ذا بينهما أعلن كل هذه الضجات : محى ودوّن .. أزال وأرسى.. كتم وأعلن واختتم الأفعال بصمت الأفعال.
[83]
        ما الذي توارى إذا ً .. بين الظلال: البرق أم الحشائش: ليس هذا بالسؤال .. اني أرى ، تارة اسمع ؛ الرياح تهمس بلا الوان ، في الغالب ، إنها أطياف عجوز أضاع طريقه في الممرات.. إنما هو ذا ، مثلي ، ينقر فوق جلد قديم .. تحت وهن الضوء ، أو ربما العكس ، إنها لا مبالاة الخروج من المأزق : صناعة نقوش فوق الأصداء .. أو بحيلة ما ثانية لاستدراج الفجر .. إنما دائماً ، هنا أو هناك من يتوارى ، بهدوء ، كأن العويل لا مبالاة ثالثة ، ليس هذا كله مثار جدل : العجوز السعيد عاش وحيداً ، وكفى.
[84]
        آخر الملوك ضوى عرشه وللصخرة باح بالسر: خلع الشوك وتوارى. هل ظلك ناداك .. أم هو ذا السحر ، الريح الصرصر اكلت حفنة الزاد . . الأرض بالمفتاح أغلقت كلامها، والملك بالبرق استدعى الرمال .. دار الفلك ودارت طبقات الأحلام ، التراب مدافن ، والفضاء سلالم . ها اني اسلم بابي وأعود. نهض العشب ومجد أيام الإنسان. قال الملك الشوك وشى بالملك، وماء الكف أطفأ آخر الأنوار، نهض العرش وبالفاتحة ختم لوعة النسيان.
[85]
        أصرنا له الذكرْ أم صار لنا الذكرى: يا نفس، أدار المفتاح، ليخرج هذا الخارج من ظلمته ثم تدور به الدورة. كم أخذنا السهو وأخذناه سهواً، البرق غدر ، وخيام البدو منازل عند منازل شكوى، الرمل دليل وبطبل الريح هتفنا أنا البيدر والبدر ، وإنا الذكر قبل الذكرى. فجاء عروس الأعراس بقلائد منثورات لملم غابتنا وطوانا طياً. ثم اختلطت أوراق العمر، لا هذا ذكرٌ ولا تلك أنثى، المدافن فاضت فخرج من الموت أمير وأميرة، كل بالأسرار أعلن وكتم سره . آه من ذا للتيه أدلنا سيرنا وبالبرق بالختم جمعنا. حفل وما هو بحفل ، فتى شرد لبه فاستقام ينهض القاتل بقتلاه ، والعاشق بالدخان جمع صحبه ، وإنا لذكراه محونا الذكرى.
[86]
        احدنا آفاق أم احدنا توارى: هذه نياشين الود وهذه قلائد كلما انفرطت صارت لها الأرض مأوى. أهذا ظلي أم أنا بالظل بلوى. يا أميرة بالقرع على القلب وهنت أطياف الزرّاع والمدن استفاقت ثكلى: هذه موؤدتي لا تعرف أتسأل أم تُسؤل ولمن الشكوى: ويحملنا الكتاب أياما وأياما نحمل مثواناً إلى المنفى : هو العقل أم الذكرى ، اني رأيت من عمل الحسنى ، فيسر الأنهار والمجرى، فلك نحاورها وتجاورنا حتى صرنا لها سلوى . ونحاور الرمل بالرمل حتى ختمنا بالريح باب الذم والتقوى.
[87]
        أنكفن الكفن أم نكتم سره: الرمل استعاد خطاه والساحل بالغرقى غادر ظله: كلانا من أبرق أو ابرق يقين تراب ومسرة غفلة. كلانا احتفال ورايات ذكرى: حكايات تدوّن وأخرى تمحى.
[88]
        طوى المتكلم ذكراه ، وخبأ الحرف ظله . هو ذا تراب اليد يلملم نياشين سره .. يفتح باب الماء وبالكتمان يكتم ضده. يا نفس اكتمل الرماد ، الكهف مأوى ، والجمرة أطياف بذرة، فان شئت اكتب فوق الرمل فالمتكلم طواه الكلام وطوته الذكرى.
[89]
        الكروم القديم أو انحناءات نخله، هنا، كلاهما غيمة تتوحد مع غيمة: ينبوع آت كمطر لمعابد الأطياف : وهل عليك أن تشرح: أيتها الإيماءة ادخلي ارضي اسكني آخر قطاف الرمال: مرارة ، وامرأة أن لا تكون امرأة: قناديل تتجول أسكرها إنها أضاعت ما بينهما .. أم اليقين يعترض على اليقين ؟ قلبي لا يتباهى بالنطق .. وكلامي بالكلام كشف وكتم سره .. فمن ذا يدل الباب على الباب .. ومن ذا بالريح يوقد جمره ؟
[90]
        اشارة من انبأت : الوردة بشارة ليل ! وفي الرحم اكتملت البذرة : أيها النص تساوت مذاقات المرارات بمسرات الهوى : الموتى يدفنون الموتى والاحياء يتنـزهون : يا لغفلة ورقة الشجرة .. يا لغفلة نار الرماد : أيها النص اما من بحر يجمّع لغاته في موجة .. اما من جبل يتوحد ؟ .. أما من ضد الأضداد ؟ أيها الغرباء أيها الظرفاء اصطخب الضوء .. فاكتمل الباطل بالباطل. الغائب للغائبة .. وأنا شجرتي وضعت تاجها فوق مرمر الموت، أهدت للريح خاتمها، وبالمحو طرزت الأسماء.
[91]
        آفاق الذي آفاق وكتم الكتاب سره: يد الجمر لملمت رمادها .. وتاج العرش خاطب ظله : يا نفسُ لمن المُلك ومن في الارحام غادر عرشه .. كل الخمور كأنها جاءت بكفن لقلب غادر فجره : هذا وذاك نذر لنذر كمفتاحٍ لا يقفل إلا قفله.
[92]
        اتتعجل الرحيل أم طيفك استدعاك : لا أحد عاد من الدخان ، لا أحد برمالك شيّد امطار القيامة .. في السر إسرار الشرائع ، يا جوهرة اللفظة ، وفي القفل كتمان الأنوار : غفلة كأنها سندس زيّن مرمر الرغبات : يا اضرحتي يا حدائقي انه الصوت بالصخرة اخترع الكلام : هذا نعش الميلاد قلائد نسوة القبائل .. فماذا قالت الشجرة .. وبأي الأنوار كتم القادم عنا إسرار الرحيل؟
[93]
        بالضوء تبادلنا كتمان الأعياد : النشيد اخذنا والماء قلدنا قلائد النذور : ابرقت الأرض فخرج الزرع من الزرع تراتيل حجارة . لمن هذا الراحل ما بين التاج والسماء : فوق اللوح بقايا عشائر .. لمن يا روحي اشتعال النداء : هذا الدهر ماضٍ أم بعض وعود : القلب قرأ صمته وغادر ، ولدته العواصف .. فصاغ نياشين النوارس ، القلب بعض هدايا .. وكل الرماد .
[94]
        وتساوى ثقل الليل بثقل النور : أيها البلور متى الاحتفال : يد البحر انبسطت ، الاطلال تباهت . فمتى تكف متى عن الحضور ؛ لا اثقال للنذر ، الجمرة حرف . هذا الغائب عيد .. والخرائب رياح عواء .. الماء اصطحب الباب إلى المأوى، اليد لكاتمها باحت ،فهل يتساوى ثقل الليل بثقل النور؟
[95]
        نياشين: الحرف غريق والبحر كلام. من ذا يعيد للوثن لذة الفجر: النوارس أخذتنا، وبالصلصال صنعنا كلام التراتيل: يا حبيبي العيد موجة، والنسيان تاج.
[96]
        غابتي: أنا الوهن فوق الوهن، فمن ذا محا خطا العابر فوق الرمل: الأسماء تزيل الأسماء، والوثن وردة !
        يا قلب أنت الكلام: عابرون وعابرون: الحجارة تنطق بالنطق: هذا حبيبي هنا لا أراه . هذا أراه حبيبي الغائب .. يا ما بين الكلامين صمتي لك كلام .. وصمتي بينهما نطق.
[97]
        تتوقد الأنطفاءات، اكثر فأكثر، كأن الصخرة فقدت براءتها: أي الأحلام أضاعتها الغابة، وأي الأناشيد دونت فوق الغيمة. هو ذا الصوت والظل يتوحدان. ملك وملكة .. فعلى أي الأضداد تميل: الريح أخذت هباتها ، والنار تقول هل من مزيد: اهو شجار معادن أم تقلبات بحر : اليد سبقتنا إلى المثوى.. والقلب خالٍ إلا من رماد.
[98]
        أتهدم المعبد أم عاد الكلام إلى الرمال، يا برق الدخان للموجة والخاتم للأوثان: هذا استذكار أعياد: الدرة للريح، والنار للأمطار، وروحي ما بينهما: لازمن للنسغ: الذي أحببت أخذك، والذي أخذك وهبك المنفى . الحروف لا تنطق والنجوم حفنة هباء: يا تراب لم تكن – لم تصر – غابة ولا ينابيع : النفس عادت بما ملكت وما ملكت هو النسيان ، وأنت يا ملكة الاوز ويا ساحرات أورك انتن يا نسوة الممرات انتن مثل نجمة انطفأت فابرقت فصار الطوفان : من كل ظلٍ اثنين فبأي العتمتين تسير . لا تأخذك الأرض والاسماء مع الأسماء عويل : خذ قافلتك وتدثر بأحد الحدين: نداء لنداء لم يأت .. أو كن العابد والمعبد قرباناً لقرابين : هذه قبور تزينت بالتيجان والانساب والنسيان : فما

 شأنك يا نفس، الروح خرائب ، والروح اكتملت بالعويل : لؤلؤ فوق لؤلؤ في ليالي المنفيين : هذا هو عيدك أن يأتيك العيد بعيد ، ولا أعياد في هذه الأعياد.
[99]
        أي يا أنت يا خاتم التراتيل من ذا أدلنا من ذا أضاع المسير: هذا صداي مثلي يتبارك فضاءات تخرج منها الأناشيد. صوت آت من الصوت.
        ورأت نفسي دخانها فاحتفلت ، ورأت أعيادها فتزينت وتعطرت ، ورأت كتمانها فباحت وكتمت : إلا يا نداء أنا لست المنادي .. لا في الظل ولا في النور لي كلمات ، عبرت من السر إلى السر وطرزت الأصداء بالأصداء: لا القفل يدور ولا الباب اكتملت بالباب : الأسماء تناثرت تشظت تجمعت ثم استقامت : كم مرة يدخل الداخل للخروج . الحرف أم الكلمة جمعتنا : يا حراس الماء يا دليل القوافل تناثر الوعد اثر الوعد توزع الكلام .. هذا حبيبي فيّ آخذني اليّ وضاع.
[100]
        ما الذي تكتمه الصخرة عن الضوء: الحبيب غادر إليّ   – معي – إليه .. وكلانا نشيد .. وكلانا برق برق .. المعبد فتح بابه.. والعيد غاب مع العيد .. أيتها الأنباء الجسد علة .. والروح سبقتنا إلى الفضاء. ويا أيتها اليد امتدي .. ناولي الأعمى كفاف الأدلة: كلانا إشارة .. فالمحو يأتي بالمحو، والأسماء تناثرت كرمل في رمل: هو ذا المفتاح ولا قلب يكتمه القفل: المنفى بذرة، والأعراس ولائم نسيان. لا تحفر أيها النقاش كثيراً فوق الشاخص، دع الصخرة تحمل الأسماء فوق الأسماء: هذه شجرتي آخذتني إليها، والنار لا ترغب إلا بالنار: تلك هي الأيام محتها الذكرى، والغرقى في القاع يلملمون بقايا الأوثان. كل يحسب مثواه جنة، يا أيتها النهاية وهن المسافر، فالدرب طويل، والصلصال أزاله الصلصال، امن برد أم جوع خشيت أم النار زرعت فيك بذور القيامة. كل يحسب ظله بدر: يا نفس ارجعي انبسطي سلام للبرية للموتى عند البدء سلام ليوم يدور فيه مفتاح الروم لوح الكتمان: ويا نفس أتدور بك الدوائر، لتخرج البذرة من البذرة والماء من النار،  ولولي عند البحر كمنتصر يحتفل بالجنائز ؛ كاتم الكتمان بظله توارى، وما الأنوار إلا دخان أنوار .
Az4445363@gmail.com
 6/5/1993

الثلاثاء، 23 سبتمبر 2014

فصول من المثنوي جلال الدين الرومي- ترجمة عبد الوهاب عزام

فصول من المثنوي جلال الدين الرومي
 ترجمة عبد الوهاب عزام
«فصول من المثنوي» هو كتاب ترجم فيه الأديب والناقد الكبير عبد الوهاب عزام فصولًا من كتاب المثنوي لجلال الدين الرومي. وقصد عزام بهذا الكتاب التعريفَ بهذا الأديب الصوفي العظيم، وبالأدب الصوفي الذي زخرت به اللغة الفارسية. والمثنوي هو ديوان شعر باللغة الفارسية يعني بالعربية النَّظْم المزدوج، وهو النظم الذي يُقَفِّي فيه الشاعر شطرَا البيت، ويتحرر من وحدة القافية في القصيدة. ومن الجدير بالذكر أن للمثنوي شهرة أدبية عريضة. وقد تُرجم إلى لغات عدة، وتناوله العديد من الكتب والدراسات الأدبية والنقدية.
عن المؤلف
جلال الدين الرومي: شاعر صوفي انتزع بحُسن ديباجته الشعرية مقاليد الاعتراف من المستشرقين الذين أقروا بأنه الشاعر الصوفي الأعظم في كل الأزمان؛ ولا عجب في ذلك فهو أعظم شعراء الحب الإلهي. وهو المُنَظِّر القانوني، والفقيه الديني الذي لُقب «بخداوند كار» التي تعني (شيخنا)، والأديب الماهر الذكي الذي ستظل عبقريته حديث الإبداع في كل الأزمان. وقد لقب بالرومي لأنه قضى جُلَّ حياته في حضرة سلاجقة الروم في تركيا الحالية.

ولد محمد بن محمد بن حسين بهاء الدين البلخي عام ١٢٠٧م في منطقة بلخ بخراسان (أفغانستان حاليًّا) في فترة كانت تموج بالعديد من الصراعات بين رجال الدين والإمبراطورية، والصراعات بين الشرق والغرب، والصراع الذي يبدو أزليًّا بين إيران وطوران، وقد تلقى الشاعر تعليمه الديني على يدي والده الذي كان أستاذًا صوفيًّا، وعالمًا دينيًّا، وواعظًا بليغًا، التف حوله العديد من المريدين ولقبوه بسلطان العارفين، كما تتلمذ على يد الشيخ «برهان الدين محقق» ونهل من بحر علمه الصوفي والديني الزاخر.

وقد هاجرت عائلته هربًا إلى نيسابور؛ فكانت هذه الهجرة بداية السبيل إلى مَلْقَى الروحانية؛ فقد أتاحت له هذه الهجرة لقاء الشاعر الصوفي «فريد الدين العطار» الذي أهداه ديوانه الشهير «أسرار نامه» مما أعطى الشاب دفعة قوية للغوص في أعماق الشعر والروحانيات الصوفية، وحينما وصل إلى مدينة «قونية» حالفته أيادي التوفيق؛ حيث التقى بالشاعر «شمس الدين التبريزي» الذي وجد فيه ضالته المنشودة. وقد آمن جلال الدين الرومي بأهمية الترقي الروحي الذي تحدثه الموسيقى في نفس الصوفي؛ وذلك باعتبارها رحلة روحية تأخذ النفس في رحلة تصاعدية سعيًا للوصول إلى الكمال.


وقد أثرى جلال الدين الرومي المكتبة الإنسانية بالعديد من المؤلفات الشعرية ومنها: ديوان شمس الدين التبريزي، ومثنوية المعاني، والرباعيات. ولم يحرم النثر من بديع بيانه القلمي؛ فقد قدَّم لفن النثر العديد من المؤلفات منها: «الرسائل»، و«المجالس السبعة». وقد أعلنت شمس الروحانية الصوفية مغيبها عن الأفق عندما انتقل إلى الرفيق الأعلى عام ١٢٧٣م.

الأحد، 21 سبتمبر 2014

لو أن المثقف راقصة !!*- محمود شاهين *

لو أن المثقف راقصة !!*


محمود شاهين *
ثقافات


( برسم السلطة الفلسطينية واتحاد الكتاب العرب واتحادات الكتاب في الوطن العربي )

( من يبعد عني شبح المسدس ) !!

آمل أن لا أظلم الراقصات والمغنيات في مقالتي هذه ، فثمة احتمال شبه مؤكد أنهن يعانين من مشكلة ما تواجههن في حياتهن وفي ظروف عملهن بين فينة وأخرى ، فليس هناك انسان لا يواجه منغصات وما إلى ذلك في حياته وفي عمله ، غير أنني أعتقد أن معاناتهن قد تكون هينة إذا ما قورنت بمعاناة أي مثقف في أوطاننا العجيبة ، بغض النظر إن كان روائياً أو قاصاً، أو شاعرا ،أو باحثا ، أو فيلسوفا، أو كاتبا سياسيا ، (وإن كانت فرص هؤلاء الأخيرين في الكتابة والحوارات واللقاءات المتلفزة والمذاعة متاحة لهم أكثر من غيرهم بما لا يقارن ) فالراقصة يمكن أن تهز خصرها في أكثر من مكان ، وإذا ما أجادت في ابرازمفاتن جسدها فستحتل مكانتها على أكثر من شاشة متلفزة ، وربما عشرات الشاشات ، وفي الغالب تحفظ بعض حقوقها في كل ظهور عن كل هز بطن على معظم الشاشات إن لم يكن جميعها ، والمغنية كذلك ،خاصة إذا ما رافقت كلمات أغنيتها بآهة ما ، أو غنجة ما ، أو حركة تكشف عن ساق ممشوقة وفخذ مكتنز، أونهدين كاعبين صاخبين .. أما إذا تمادت في الشخلعة والإثارة ، فإن فرصها في احتلال الشاشات على مدار الساعة تكون متاحة أكثر من فرص أي مؤمن بالجنة ! وفي الغالب تحفظ حقوقها عن كل ظهور ، أو بث أثيري إذاعي ..

أما عن المثقف المسخم إن وجد بعد عناء ، صحيفة أو مجلة تنشر له مقالا فأول شرط تشترطه الصحيفة أو المجلة أو الموقع الألكتروني المأجور وحتى بعض المواقع غير المأجورة ، أن لا يرسل المقال لغيرها ، وأن لا يكون منشورا من قبل ، وأن وأن إلى آخر المحظورات الممنوع على المثقف الإقتراب منها ، وعلى المثقف أن ينتظرأياما إن لم يكن أسابيع أو شهورا لينشر مقاله ، ثم عليه أن ينتظر شهورا ليقبض حقوقه . وبعض الصحف تشترط الدفع بعد عدد معين من المقالات ( ست مقالات مثلا ) وإذا لم يبلغ المثقف العدد المعين فإن حقوقه البائسة ستذهب أدراج الرياح ، لأن الصحيفة قد تجد عذرا( وما أكثر الأعذار ) لعدم نشر مقالات لاحقة حتى لا يبلغ الكاتب االرقم المفترض ليتم الدفع .. وإذا ما نقلت صحيفة ما أو موقع ما المقال عن الصحيفة المنشور فيها ، فإنه لا يدفع للكاتب من هذه الأخرى . فالثقافة بضاعة كاسدة في أوطاننا ، والصحف تمن على المثقف الكاتب بنشرها مقاله ..

هذه هي الحال باختصار ، وتكون نهاية المثقف إما العيش على الكفاف ، أو الموت جوعا على أرصفة العرب ،كما حدث للفنان والأديب السوداني بهنس الذي مات جوعا وبردا في شوارع القاهرة أواخر العام الماضي. أو الإنتحار شنقا ، أوانتظار طلقة المسدس ، هذا إن كان المثقف قادرا على شراء مسدس ينتحر به كما هي الحال معي !! فأنا كنت أدخرحوالي خمسين ألف دولارلشيخوختي ، وفرتها من الرسم وليس من الأدب أو كتابة المقالات ، من معارض لي في باريس وبرلين وغيرهما ومعرض دائم في دمشق ، وأصرف منها منذ قرابة أربعة أعوام من عمر الأزمة السورية ، وأعيش في عمان بكرامة حتى الآن من هذه النقود - وقد تركت بيتا ومتحفا في دمشق لا يقدر ما فيه من فنون ومخطوطات بثمن مهما كان - وقد أوشكت على النفاد ، ولست مستعدا على الإطلاق أن أهين كرامتي وأن أبقى جائعا أو مشردا ولو ليوم واحد .وسوق الرسم في عمان شبه ميت ، فخلال عامين في عمان لم أبع أكثر من عشر لوحات بأسعار بخسة . أسعى خلف السلطة الفلسطينية عبر كبار الكتاب والمثقفين والمسؤولين الفلسطينيين منذ عامين بالتمام والكمال ، للحصول على عمل أو تقاعد ، بصفتي خدمت في حركة فتح بين أعوام 1968- 1985، حملت روحي على كفي خلال ما يقرب من عامين منها مقاتلا في سبيل فلسطين ( 69-70) امتص البق في كهوف جبال القدس وبيت لحم خلالهما الكثير من دمائي ، ، وفي السنوات اللاحقة في المنافي وفي دمشق تحديدا لم تكن حالي أفضل ، فقد كنت أعيش في دمشق مع زوجتي وأولادي في غرفة قميئة ارتادها العديد من المثقفين العرب ، بدءا ب ممدوح عدوان والكثير من الكتاب السوريين مرورا بالطاهر وطار وواسيني الأعرج والزاوي أمين وانتهاء ب أحمد فؤاد نجم ،حتى أنني اضطررت إلى عرض مكتبتي للبيع على مكتب الدراسات الذي كنت أعمل فيه ويرأسه الأخ أبو مازن الرئيس الفلسطيني حاليا ،الذي صرف لي حينها خمسين ليرة سورية حتى لا أبيع المكتبة !

رسائلي للأخ أبو مازن لم تثمر عن شيء مجد حتى الآن فكل رسالة مني له ، إما أن تحول بالخطأ إلى محافظ القدس ، أوإلى المسؤول عن الإدارة والتنظيم ليبدي رأيه في صحة ما أذكره في رسائلي، أوإلى المذكور نفسه ليبدي رأيه في أوضاعي وعن إمكانية تخصيص تقاعد استثنائي لي بناء على ترشيح من الأديب يحيى يخلف وزير الثقافة السابق ، وأخيرا حول الأخ أبو مازن آخر رسالة مني في عمان إلى السفارة الفلسطينية مستفسرا عن أوضاعي ، ويبدو أن استفسارات الأخ أبو مازن عن أوضاعي ستطول دون أن يتخذ قرارا حاسما بشأن وضعي، ولو مجرد عمل ، فأنا والحمد لإلهي ما زلت قادرا على الكتابة في الادب والفن والفكر والفلسفة وحتى السياسة التي أكرهها وكذلك ما زلت قادرا على الإبداع فقد صدر لي كتابان هذا العام ، أهديت الأخ أبو مازن والسفير أحدهما . كما أنني قادر على الرسم .. فلي في العالم أكثر من سبعة آلاف لوحة في أكثر من ثمانين بلدا .
آمل أن لا يطول انتظاري لقرارات الأخ أبو مازن لأن طلقة المسدس التي تتوعد دماغي أسرع بكثير من اتخاذ قرار .


*****
* من صفحة الكاتب على الفيس بوك مباشرة