عبد الملك نوري في بيته
ميسلون هادي
الأغصان الكثيفة تندفع من السور المعدني للسياج الخارجي وخلف السياج سلّمان مغريان يلتويان قليلا ً ليلتقيا في القمة الواطئة عند باب خشبي كبير جدا ً.
التفت إلى "عادل" وقلت له:
ـ انه يبدو مثل بيت من بيوت قصص أجاثا كريستي.. فابتسم عادل وهو يضغط على زر الجرس .. ووقفنا ننتظر انفتاح الباب ونحن نتأمل واجهة البيت العالي بصمت.. ونشكر الله ان المطر قد كف عن الهطول..
سمعنا صوت انسحاب الرتاج من الداخل ثم أطلت امرأة كبيرة من خلف الباب وهي تقول: من؟
قلت: هل هذا منزل الأستاذ عبد الملك نوري؟
قالت:
ـ نعم ..
قال "عادل":
ـ نريد ان نراه ونسلم عليه.
قالت:
ـ هل أنتما من آفاق عربية؟
قلنا:
ـ لا .. من "ألف باء"
فاختفت خلف الباب لوهلة وجاءت بعد قليل ومعها "عبد الملك نوري". هبط الينا عبر السلم الملتوي وهو يرحب بنا.. صافحناه ثم صعدنا معه.. نحن من سلم وهو من سلم آخر وعند القمة التقينا واجتزنا الباب المفضي إلى مدخل صغير يؤدي الى صالة واسعة سقفها عال جدا ً..رحبت بنا شقيقته ودعتنا إلى الجلوس. فجلسنا وجلس "عبد الملك نوري" في الزاوية اليسرى لأريكة واطئة.. فقالت شقيقته:
ـ [هذا مكانه..انه لا يغيره مطلقا ]
ثم اخرج سيكارة من علبة سكائر (بغداد) وراح يدخن.. المكان قديم..ولكنه أليف: مكان من تلك الأمكنة التي يقع المرء في حبها منذ النظرة الأولى.. رائحة حلوة فيها نكهة الجدات.. طراز البناء يدل على الثراء والفخامة .. ولكن الأثاث بسيط جدا ً ومتواضع .. أربعة كراسي وأريكة تتوسط الصالة وتحيط بها مكتبتان مليئتان بالكتب.
فتح "عادل" الحديث معه بالسؤال عن مجموعة ذيول الخريف.
فقال "عبد الملك نوري":
ـ فؤاد التكرلي هو الذي جمعها وقدمها للنشر.
ثم ضحك وهو يضيف:
ـ لم أفراها حتى الآن..
وراح عادل يذكره ببعض قصص المجموعة: "فطومة" و "معاناة" و "نزهة" ثم انفتحت مغاليق الكلام ودار الحديث عن الأدب والصحافة والترجمة والقراءات .. كان يضع بالقرب منه كتابا ًضخما ً باللغة الانكليزية يبدو انه كان يقرأ فيه قبل مجيئنا سألناه عنه فقال:
ـ انه تولستوي لهنري ترويا.. لقد أخذته من فؤاد التكرلي، ولاحظت ان المكتبة تحتوي مجموعة كبيرة من الكتب الانكليزية: اللغة التي يجيدها "عبد الملك نوري" إضافة إلى الفرنسية.
قلت له:
ـ الا تقرا ما يصدر بالعربية؟
قالك
ـ قليلا ً.
ونهضت لألقي نظرة على المكتبة الصغيرة التي كانت رفوفها تزدحم بكتب اغلبها باللغة الانكليزية: روايات لهمنغواي وآرثر هيلي ودوريس ليسنغ وفوكنر، قصص من الخيال العلمي وقصص أشباح، روايات بوليسية وكتب سيرة ذاتية.. كتب عن الموسيقى وأخرى عن نجوم السينما.. كتب كثيرة مختلفة .. وعلى منضدة بقرب المكتبة كان هناك درع فضي داخل علبة قطيفة حمراء نقش عليه اسم ملتقى القصة الأول الذي انعقد في صلاح الدين عام 1978.. انطلقت من الساعة الجدارية إحدى عشرة دقة رنانة فضغط (عبد الملك نوري) على زر الراديو وقال:
ـ مؤشر هذا الراديو لا أغيره.. انه على إذاعة لندن.. وفي الحادية عشرة صباحا ً من كل يوم استمع إلى مختارات من الموسيقى الكلاسيكية. انسابت الموسيقى من المذياع ومر الوقت ونحن نستمع معه إلى قطعة موسيقية عرّفها لنا.. ونتبادل أطراف الحديث عن صحته وقراءاته وحديقته التي يعتني بها بنفسه. وأحسست وأنا انظر إلى المنضدة الواطئة التي يضع عليها "عبد الملك نوري" مذياعه وحاجاته التي تلازم مكانها دائما ً .. ان لهذا الإنسان عالمه الخاص الذي اختاره بنفسه: الكتاب والموسيقى والدواء (ربما!) وفسحة من الوقت للتمشي أو استقبال الأصدقاء أو الاعتناء بالحديقة.. عالم يبدو محدودا ً للذين تشغلهم الحياة والوظيفة والمصالح.. إلا ان "عبد الملك نوري" يبدو مكتفيا ً بعالمه مستغنيا ً عما سواه و(عبد الملك نوري) الإنسان الذي تعرفنا عليه وحادثنا وشربنا القهوة معه .. كان شيئا ً مختلفا ً عما توقعناه.. فالصورة التي في أذهاننا ونحن نذهب إليه كانت قديمة ومشوشة مثل صورته الوحيدة الموجودة في أرشيف كل الصحف والمجلات.. أما الصورة التي رأيناها ..فكانت حيوية وشابة ومليئة بالدفء والألفة .. صورة إنسان مرهف لم يسأم الحياة كما قيل لنا بل انه أبدى استغرابه بشدة أثناء الحديث عن الانتحار لأن "ستيفان زفايج" انتحر هو وزوجته بسبب الحرب العالمية الثانية.
وقال:
ـ لماذا ينتحر؟ كان يجب ان يكون أكثر أملا ً بالغد.
صورة فنان عاش حياة زاخرة [ اطلعنا على صوره في أماكن مختلفة من العالم وروى لنا جوانب من الأحداث التي دفعته إلى بعض القصص .. وترددت ضحكاته وضحكاتنا وهو يطلق النكات على ـ اللقطات ـ التي طالبناه بها للكاميرا]
هذا هو (عبد الملك نوري) . متجدد وصميم ينظر إلى الغد بأمل ويؤمن بان الحنين إلى الذكريات هو إفلاس وينتظر انقضاء الشتاء لكي يتخلص من "اللفاف" الذي يدثر بلعومه .. ويخرج إلى الهواء الطلق والى حديقته التي يحب.
****