كتاب في حلقات
بئر
ارتوازي
أحمد الحلي
في مرحلة
الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي لم تكن السيارة متاحة على نطاق واسع ، وكان تداولها مقصوراً على عدد من السياسيين
المرموقين والأثرياء وكبار التجار ورؤساء العشائر ومن هم في طبقتهم ، وكذا الحال
بالنسبة لمعظم دوائر الدولة ، وبالذات المدنية منها ، الأمر الذي كان يضطر موظفي
هذه الدوائر إلى استئجار إحدى السيارات من شركات النقل الخاص ، التي كانت تقتني
السيارات الأمريكية والإنكليزية للمتانة والقوة التي تتميز بها ، أو بالأحرى أنه
لم يكن متاحاً في تلك الأوقات غيرها ...
يذكر أن مصرف الرافدين الكائن
في بغداد كان أحد الزبائن على شركة والده لتأجير السيارات ، وأن والده كان يذهب مع
موظفي البنك وبرفقتهم المدير في أحيان كثيرة ، بوصفه سائقاً كذلك ، من اجل إجراء
الكشوفات الضرورية والتنقل بين المدن والأقضية للوقوف على إمكانية افتتاح فروع
للمصرف هناك ، أو البحث عن فرص للاستثمار، وفي أحد الأيام وفيما هم بصدد القيام
برحلة إلى مدينة الأنبار المحاذية للصحراء ، وبعد أن زاروا مركز المدينة و عدداً
من أقضيتها , وأجروا كشوفاتهم ، أحسّوا بالجوع ، وعبثاً حاولوا العثور على مطعم
ملائم ، ولما أحس أبو فايق ( والده) بما يعانون منه ، قال لهم ؛ هل ترغبون أن
أطعمكم لحم ضأنٍ مشوياً ، استغرب المدير لهذا العرض السخي ، وظن أن أبا فايق ربما
يمزح معهم كعادته ، إلا أنه رغب بمجاراته ، قال له ؛ وأنى لك أن تُطعمنا في وسط
هذه البرية الشاسعة .
ـ إن هذا هو بالضبط ما سأفعله ،
ولكن بشرط !
ـ هات شرطك فعسى أن لا يكون
صعباً .
ـ ليس في الأمر أية صعوبة ، سوى
أن تجعلوا خرائطكم تحت تصرفي ، وأن لا تتفوّهوا بأية كلمة إذا رأيتموني أفعل أي
شيء ، وأخيراً أن تتذرعوا بقليل من الصبر .
قال المدير ؛ لك ذلك !
قاد أبو فايق سيارته بسرعة
كبيرة خارجاً من تخوم البلدة ومتوجهاً إلى عمق الصحراء ، وبعد أن سار بهم حوالي
نصف ساعة شاهد الجميع مضارب للبدو ، فاتجهت السيارة نحو أكبرها حجماً ، ترجلوا من
سيارتهم فتجمّع حولهم رجال البدو وصبيانهم مرحبين بهم ، اضطلع أبو فايق كما هو متّفقٌ عليه آنفاً بدور الزعامة حاملاً
الخرائط بيده وسار موظفو البنك من بعده ، وقبل أن يستجيب لطلب كبير القوم بالدخول إلى
المضيف ، أخذ يُلقي نظرة متفحصة على المكان ، ثم نشر الخرائط على الأرض يحوطه
موظفو البنك وحشدٌ كبير من رجال الصحراء ، قال مخاطباً إياهم ؛ والآن ، أين تريدون
أن نحفر لكم البئر الارتوازي؟! ، فتصايح الرجال مبتهجين وفرحين ، وكذا النسوة حين
تناهى إلى سمعهن هذا الخبر السار ، فعلت الهلاهل والهوسات ، وللحال أتوا بشاتين
وذبحوهما عند أقدامه ، ثم شمروا عن سواعدهم وهيأوا حطباً وابتدأت عملية الشواء
التي استغرقت لبعض الوقت ، وبذلك يكون أبو فايق قد وفّى بوعده .
البو شجاع
تقع جزيرة أم الخنازير التي جرى
تغيير اسمها إلى جزيرة الأعراس في منتصف سبعينيات القرن الماضي بوسط نهر دجلة ،
وهي جزيرة تمتد طولياً مع مجرى النهر بعرض حوالي 50 متر إلى مسافة قد تصل إلى 6 كم ، وتمتاز بان أرضها
خصبة ورسوبية ومن اجل ذلك فقد انتشرت فيها النباتات والأدغال بشكل كثيف أغرى عددا
من الحيوانات البرية أن تتخذها موطناً ومرتعاً وبالذات الخنازير التي تكاثرت بشكل
كبير حتى ضاق بها المكان ، الأمر الذي اضطر بعضها إلى العبور سباحة في الليل ليتجه
صوب الكرادة ، وقد كان ذلك يثير فزعاً وهلعاً بين الأهالي الذين لم يعتادوا على
وجود هذه الحيوانات بينهم ، وفي إحدى المرات عبر احد هذه الحيوانات واخذ يتجول بين
أماكن النفايات فيما كلاب الحي تتجمهر حوله محاولة طرده بالنباح والهرير دون جدوى
، فتنادى بعض فتيان الحي واستخرجوا سكاكينهم وبعض الآلات الحادة ، ووجدها بعضهم
فرصة لإظهار البطولة ، ووقفوا بوجهه ، إلا أن الحيوان وكمحاولة غريزية للدفاع عن
نفسه هاجمهم واسقط أرضاً احد المهاجمين وكاد أن يفتك به ، وفي هذه اللحظة هجموا
عليه هجمة رجل واحد وانهالوا عليه ضرباً وطعناً حتى خارت قواه وسقط أرضاً فأسرع
احدهم إلى قطع بلعومه بمديته ، وبعد أن اطمأن الناس ، خرجوا من بيوتهم وتجمهروا
حول جثة الخنزير وكوّنوا حلقة واخذوا يهتفون ويهزجون ، وكأنهم لم يقتلوا مخلوقاً
مسكيناً قادته إلى حتفه رائحة القمامة بل مارداً ووحشاً خرافياً ، وفي ذات الليلة
تناهى الخبر إلى أسماع أبناء المحلات الأخرى فأسرع احد المهاويل* إلى إطلاق تسمية (البو شجاع ) على أهالي الحي
الذي خرج منه هؤلاء الفتية ، حيث بقيت هذه التسمية شائعة وجرى تثبيتها في بطاقات
الأحوال المدنية .
______________________________
المهوال : شخص كان يعتبر لسان حال العشيرة أو قومه وكان
يجنح الى قول الشعر في بعض الأحيان .
وديعة مؤلمة
"
مرّت سنواتٌ طوال ، ضاعت وتبخّرت فيها ذكريات ، بعضها مؤلم وبعضها فيه شيءٌ من
الفرح ، وتوارت خلف حُجب النسيان ، وخفتت ملامح ذكريات أخرى ، إلا أن واقعة واحدة
من بين ركام هذه الذكريات ، ما تزال تنبض في وجداني وتحيا كأنها حدثت للتو ، على
ما كانت تتضمنه من ألمٍ ممضٍ وحزنٍ قدّر لي أن أحمله على كاهلي أينما مضيت
..."
كان
يجلس مع زملاء له في الصف الثالث
الابتدائي ، بانتظار قدوم المعلم ، دخل المعلم ، الذي كان مهيباً بأناقته المعهودة
، وبالعطر الفرنسي النفّاذ الذي ينبعث منه ، وبعد لحظات من دخوله ، وفيما هو منهمك
بالتفتيش عن الواجب البيتي ، دخل فرّاشُ المدرسة وبيده ورقة صغيرة سلّمها للمعلم ،
الذي قرأ ما فيها ، ثم أشار إليَّ أن أذهب إلى غرفة المدير مصطحباً معي كتبي
المدرسية ، كنت أتوقع أن أحدهم ، من عائلتي قد حضر ، وطلب إجازة لي لأمر هامٍ طارئ ، وبالفعل فقد أخبرني مدير المدرسة أن أبي
قد حضر وطلب إجازة لي لهذا اليوم ، وهو يجلس في المقهى الآن بانتظاري .
حملت
كتبي معي وذهبت إلى المقهى الذي اعتاد أبي أن يجلس فيه ويلعب لعبته المفضلة
الدومينو مع أصدقائه ، وجدته منهمكاً باللعب ، وتساءلت مع نفسي ، ترى ما هو الشيء
الذي دفع بأبي إلى طلب الإجازة لي من مدرستي ، وهو لم يفعل ذلك من قبل ؟
حين
رآني أدخل المقهى ، طلب مني أنت أقترب منه ، اقتربت ، فهمس في أذني أن أذهب إلى
البيت وأحمل جثمان شقيقتي التي كان لها من العمر أقل من ثلاثة أشهر، التي توفيت
منذ بضعة ساعات ، وأذهب بها إلى مقبرة السيد إدريس القريب ، وأن أقوم بتسليم رفات
الصغيرة إلى الدفان الذي كانت له صلة مودّة بأبي ، ليقوم بدفنها ، ذُهلت وصعقتُ
للخبر ، ولهذه المهمة العسيرة التي كلّفني بها أبي ، لم يكن أمامي من خيارٍ سوى أن
أذهب إلى البيت ، وأنفذ ما طلبه مني أبي ،
حملتُ
رفات الصغيرة ، كان خفيفاً جداً ، كنتُ أنظر إلى وجهها الزهري الآسر ، بدت لي كما
لو أنها ما تزال نائمة ، حتى أنني كنت متخوّفاً من أن أوقظها من نومها اللذيذ ،
وسرت ، كما لو أنني كنت منوَّماً مغناطيسياً ، ووصلت إلى المقبرة ، وسلمت الوديعة
إلى الدفان ، الذي أبدى استغرابه وإشفاقه هو الآخر ؛
- ولماذا لم يأتِ أبو فائق بنفسِه
، أليست هذه الصغيرة عزيزة على نفسه ؟
- أنا أعلم السبب يا عم ، إنه يريد
أن يُكمل مشوار الدومينو مع أصحابه .