راهن الثقافة العربية
بعيداً عن نقد الواقع ومواجهة أزماته
وليد خالد أحمد حسن
تتضح أبعاد الأزمة الفكرية الراهنة في الوطن العربي ، عند اتهام الثقافة العربية بالبعد عن الواقع فيما تكتب أو تعالج . وقد تبدو في بعض طروحاتها نموذجاً حياً للفكر الغربي . إنها وجهة نظر مبنية على قناعة معينة لكنها بالتأكيد ليست تعبيراً عن فكر عربي لكونها تفترض استعارة فكر أخر يبنى على مقاييسه نقد الواقع العربي ومحاولة تغيير هذا الواقع في ضوء المقاييس الناقدة والمستعارة نفسها . وهذا ما يجعل من مشكلة الثقافة العربية تتجسد في لجوئها إلى الفكر الغربي في تعويض نقص عدم تمكنها من لغة الفكر العربي لا بمعنى عدم معرفة قراءته وإنما بمعنى التعمق اللغوي في مدلول ألفاظها ومعانيها . وهو أمر بقدر ما يبهم القصد يساعد على انحراف معناه ويتجه به إلى غير المراد فيأتي الفكر ضعيفاً وهزيلاً وعاجزاً عن التأثير وفاقداً للصفة العلمية التي تميز الفكر عن الأدب . وهذا مبني على قناعة مبدئية بعلمية الفكر الغربي ولغته ، وهي علمية زائفة لكنها قادرة على التأثير باستعمالها لألفاظ مباشرة تصيب المرمى عبر خط مستقيم ، فيستسهلها القارئ العربي ويقتنع بها ويحاول في ضوئها صيانة تصوراته الإصلاحية والسياسية ، مكتفياً بلقب مثقف ، وعاملاً على تعميم ثقافته تلك في بيئته ومحيطه ووطنه ، حيث يظهر بثقافته متميزاً عن الآخرين ممن يلفهم جهل التقاليد والأفكار الموروثة ، طارحاً بذلك ميزاناً سياسياً بين الرجعية والتقدمية ، وميزاناً اجتماعياً بين الجهل والعلم . وهو طرح خاطئ دون شك .
من هنا دار التساؤل الآتي :- هل لنا ثقافة أصيلة متميزة ذات سمات خاصة ، أم ثقافة مستعارة مهلهلة ؟
الإجابة عن هذا السؤال ، تأتي من خلال التعرض للهوية الثقافية التي تمثل بلاشك مركز الدائرة بالنسبة للهوية العربية أو الشخصية العربية إذا أردنا لها أن تكون في حاضرنا ومستقبلنا كما كانت لنا في ماضينا .
في اعتقادي ، أن هناك قضية ، هي جوهر تلك القضية العامة ، ألا وهي موقفنا من النتاج الفكري للحضارة الغربية المعاصرة ، وهي قضية كثر الحديث حولها حتى بلغنا فيها درجة الملل ، وذلك الملل في اعتقادي يرجع إلى إننا لخصناها في إطار قضية قتلت بحثاً دون جدوى ، وهي الأصالة والمعاصرة ، حيث تتابعت أحاديث المتحدثين وكتابة المتخصصين حول المواقف الثلاثة المحتملة . فإما أن يقفوا موقف المتقوقع داخل ذاته الرافضة للتراث الغربي القديم منه والحديث ، وإما أن يقف موقف المنبهر بالثقافة الغربية ومنجزاتها ، فيطالبوا بأن نكون غربيين منهجاً وموضوعاً . وإما الموقف الثالث والذي يمثله المعتدلون من المفكرين ، فهو محاولة المزج بين الموقفين السابقين ، حيث يرون ضرورة أن نكون معاصرين في تصوراتنا ومنهجنا ، وأصلاء في إحياء ما هو صالح من تراثنا للحفاظ على هويتنا الحضارية .
ولكني أرى أن للقضية وجهاً آخر ، يبدو إذا ما نظرنا إليها من زاوية نظرية المعرفة ، حيث أننا نميز فيها بين عارف ومعروف ، بين ذات هي التي تعرف ، وموضوع هو الذي نعرفه ، سواء كانت أداة المعرفة هي الحواس أو العقل أو الحدس أو بها جميعاً . وإذا ما طبقنا ذلك على معرفتنا بجوانب الحضارة الغربية المعاصرة لكان من الضروري أن نميز بين ذاتية العارف وموضوعية المعروف أو بين ذاتية الشارح وموضوعية المشروح . فما أنتجه التراث الغربي الحديث والمعاصر يمثل بالنسبة لنا باستمرار مادة موضوع المعرفة . وقد درجنا على أن ننقل هذا الموضوع بكافة مضامينه وأشكاله ونتوحد معه خاصة في العلوم الإنسانية .
وإذا كان هناك من يعي خطورة هذه المسألة ويحاول البدء في دراسات من واقعنا الاجتماعي أو الاقتصادي أو التاريخي ، فإنهم قلة لم يتوافر لهم المناخ المناسب للعمل كفريق مؤثر في مجال دراساتهم . وخطورة هذا التيار العام السائد الذي يتوحد فيه الدارسون مع الدراسات الغربية ، ويتخذونها كأنموذج ينبغي أن تبنى عليه دراساتهم التي تبدو مما في هذا الاتجاه من عدم التمييز بين موضوعية المعروف وذاتية العارف. فإن كان علينا أن نلم إلماماً واسعاً بالدراسات الغربية في مختلف مجالات العلوم الإنسانية ، فلايجب أن يمثل هذا الإلمام عائقاً أمام معرفتنا واكتشافنا لذاتنا ، والتركيز على إفراز نظريات ومدارس خاصة بنا ندرس من خلالها مجتمعنا واقتصادنا وتاريخنا .
في تصوري ، أننا لن نصل إلى هذه الدرجة الناضجة من العلم إلا بعد إدراك تلك الحقيقة المهمة المتمثلة في ما قدمه التراث الغربي من نظريات ، هي في عمومها نظريات غير صالحة للتطبيق علينا ، وعدم صلاحيتها نابع من أن لكل مجتمع ظروفه الخاصة وسيكولوجيته الخاصة وفكره الخاص ، بالإضافة إلى أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده وقيمة الخاصة .
إن ثمة فارقاً هاماً بين أن ندرس تلك النظريات الغربية لنتمثلها ونهضمها ونفيد منها على المستوى النظري ، وبين أن ندركها ونفسر أنفسنا من خلالها ، أي أن نتخذها قوالب نضع أنفسنا داخلها . وربما يكون من المفيد هنا ، أن نعود إلى مثل حضاري نتفهم القضية من خلاله ، وأوضح مثل لدينا هو حضارتنا الإسلامية في العصر الوسيط . لقد كان إمام العلماء والفلاسفة المسلمين تراث غربي زاخر ، هو التراث اليوناني ، ولاشك أنهم قد شغلتهم القضية التي تشغلنا الآن . أينقلون عن اليونانيين إبداعاتهم أم يتقوقعون داخل ذاتهم ؟
وكان الحل لديهم ايجابياً وفعالاً ، فنقلوا معظم الإبداعات اليونانية في مجال العلوم المختلفة ولكن ، هل نقلوها قيداً إمام إبداعاتهم هم ؟
عند النظر فيما أنتجوه ، يؤكد أنهم أدركوا هذا التمييز بين موضوعية المشروح وذاتية الشارح . وإذا ما أخذنا مجال الفلسفة كمثال ، فسنجد أن الفلاسفة الإسلاميين قد شرحوا أرسطو . لكن هل كانت شروحهم لأرسطو مجرد شروح لفيلسوف يوناني انبهروا بفلسفته وبمنطقه ، كما انبهر به جميع مفكري العصر الوسيط ؟
إن الناظر لتلك الشروح يكتشف بوضوح ذاتية الشارح . فهم لم يقبلوا من أرسطو إلا ما وجدوا انه يتفق مع نظريتهم إلى الأشياء ، وما رأوا انه يتفق مع ما أتى به دينهم الحنيف .
والسؤال الآن :- أين نحن من نقل التراث الغربي الحديث المعاصر ؟
إننا لم نتجاوز بعد مرحلة النقل والتبعية لما ننقل ، لأننا إذا نقلنا وشرحنا فلانجد صدى واضحاً للذاتية في ذلك النقل والشرح ، بل إننا ننقل تلك النظريات الغربية ونطبقها على واقعنا الخاص دون فحص ودون تدقيق ، فكانت النتيجة الحتمية أن فقدنا هويتنا أمام زحف تلك النظريات الغربية وتسلسلها لتعشعش داخل – أدمغتنا أولاً وواقعنا ثانياً ، ومن ثم أصبحنا تابعين للغرب شكلاً وموضوعاً .
إذن ، ماهي الأسباب الكامنة وراء عجز ثقافتنا عن مواجهة أزماتها وأزمات مجتمعاتها ؟ ما هي الإجابات التي سنحصل عليها في حال طرحنا السؤال السابق له ، لكن بصيغة أخرى :- هل تمر الثقافة العربية في أزمة الآن ؟
كلنا يعرف أن هذا السؤال مطروح منذ زمن على المثقف العربي . ولو عدنا طرحه الآن طمعاً في الحصول على إجابة عليه ، لعدنا بسهولة ويسر إلى اجترار تلك الإجابات القديمة ، ولوجدنا أن الهيمنة السلطوية والقمع المخابراتي والتخلف الذي ورثنا إياه الاستعمار ، والخلل البنيوي للعقلية العربية ، وكون أزمة الثقافة جزءاً من أزمة عامة تعيشها المجتمعات العربية ، لوجدنا أن تلك الأسباب تقف وراء وجود هذه الأزمة .
الواقع ، أن البحث عن الأسباب الكامنة خلف الأزمة الثقافية التي يعاني منها الواقع العربي المعاصر، سيقودنا إلى التنقيب في طبقات الوعي الثقافي الدفينة للتعرف على المنابع التي ترتوي منها أكثر مشكلات واقعنا الثقافي إلحاحاً وأشدها استعصاء على العلاج ، بدءاً من إشكاليات التناقض التاريخي الحاد بين المثقف والمؤسسة السائدة ، سواء كانت مؤسسة السلطة أو غيرها من المؤسسات الاجتماعية الراسخة ، حتى مشاكل حرية التعبير وعزلة الكاتب عن جماهير الشعب العريضة وإخفاق الحركة العقلية في تحويل إنجازاتها إلى مؤسسة تبني الأجيال اللاحقة فيها على إنجازات الأجيال السابقة ، ولاتحتاج إلى إعادة خوض معاركها من جديد وفي ظروف أسوأ عادة .
إننا لو نظرنا إلى التشخيص الذي وضعه المثقفون العرب للحالة المرضية التي تعصف بالجسد الثقافي العربي ، لوجدناه صحيحاً . فالحرية شرط من شروط تطور المجتمعات البشرية وخاصة جوانبها الثقافية . والوعي شرط آخر ، وحل المعضلات الحضارية التي يعيشها شعب أو أمة ما شرط ثالث ، وبنية العقل على أسس علمية شرط رابع من شروط تطور المجتمعات البشرية وامتلاكها لأدوات إنتاجها والأدوات الثقافية منها .
إذن ، إذا كانت هناك أزمة في ثقافتنا ، ما هي ملامح هذه الأزمة ؟ هل هناك علاقة بين أزمة الثقافة وبين الأزمات الأخرى التي يعاني منها المجتمع العربي من أزمة الحريات .. أزمة عدم وضوح الرؤية .. وغياب مايسمى بالمشروع الحضاري ؟ أو عن كيفية الخروج من هذه الأزمات ؟ والعقبات التي تقف إمام تحقيق أهداف السياسة الثقافية ؟ عموماً ، نقول ومن وجهة نظرنا الخاصة :- بأن أزمتنا الثقافية ناجمة عن:-
1- الاختلاف في تفسير إبعاد الأهداف وفلسفتها والتي تتطلب منا عقلاً مفتوحاً ونوايا حسنة تتلمس الايجابيات وتتفادى السلبيات . وقد لعبت الكثير من العوامل الداخلية والخارجية والتي لايستبعد بالنسبة لبعضها على الأقل سوء النية ، دوراً كبيراً في تعظيم التعارف بين الثنائيات ، مثل القومية والقطرية ، الاصالة والمعاصرة ، النقل والإبداع ... هي أكثر الثنائيات فاعلية وحساسية .
2- تصنيف المثقفين حسب انتماءاتهم واستبعاد الكثير منهم وإقصاؤهم بعيداً عن مراكز السلطة واتخاذ القرارات ، بل وحرمانهم من إشكال النشاط والإنتاج بناء على هذا التصنيف ، ومن ثم حرمان المجتمع من عطائهم وإبداعهم وقدرتهم المكثفة لدفع عجلة تقدم أوطانهم .
3- التغريب والتخلف ، وقد جمعتهما لارتباطهما العضوي . فنحن لانفزع إلا بإحساسنا بالتخلف . ولايبدو توازن نفسي إلا بالقناعة عند عقلائنا تتمثل في أن لدينا من حكمة لاتقل أهمية عما لدينا من تقاليد ، وان مقاييس التقدم والتخلف لاتعتمد فقط عليهما . فنحن نمثل حضارة قديمة نعرف أنها مريضة في بعض مكوناتها ونريد أن تتشفى . ولا شك ، أن للتوحيد الأثر البالغ على بناء الإنسان وتكوينه الثقافي لمواجهة تحديات مصيرية مشروعة نابعة من ظروفنا ، ودون دعوة إلى الانفصال عن ثقافة العصر . لذلك ، نرجو أن تأخذ الثقافة العربية فرصتها الكاملة للمشاركة في بناء أجيال جديدة حتى يحدث التوازن المطلوب .
4- الربط المتخلف الناجم عن تعرض بدون فهم لمهاجمة بعض النظريات العلمية ، وإلقاء الشك على جدوى التقدم العلمي أو التخوف من أثاره المختلفة ، وفي المرحلة الحالية يستهدف التقدم العلمي والتكنولوجي بشكل أو بأخر إنسانية الإنسان وبالتالي ثقافته .
5- الانبهار الساذج بالغرب ، فيجب أن نفهم جيداً انه لايوجد في الشرق والغرب إلا ماهو ممكن ، ولايوجد هناك المستحيل ، مع ملاحظة التبسيط الذي قد يؤدي إلى الفهم الخاطئ .
6- أزمة لغة ، أي أزمة في أداة التفكير والتعبير والمدخل الأول والأكبر للنهضة الثقافية في الأقطار العربية هي النهوض باللغة .
7- أزمة التعليم بمختلف مراحله الدراسية الذي أصبح تقليدياً لاينمي روح الابتكار والتجديد وبالتالي لاينمي طلب الثقافة .
8- اتساع الفجوة بين الفكر والسلوك ، القول والفعل ، سواء على مستوى الأجهزة أو الأفراد .
9- زيادة عدد الأميين في اغلب أقطار الوطن العربي .
10- الهيمنة السلطوية بكل مؤسساتها ، والقمع المخابراتي ، وفقدان الحرية ...
ولكن ، إذا ماتتوفر عكس هذه النقاط التي ذكرتها آنفاً ، ألا تنتج المجتمعات ثقافتها المتطورة القادرة على مقاومة أسباب انعدام هذه النقاط ؟
أرى ، أن هذا الأمر ممكن ، بل أرى انه رد الفعل الطبيعي ضمن قوانين إدارة الصراع بين نقيضين . ومن التجارب التاريخية المعاصرة ، نرى القمع السلطوي لم يقدر من منع ظهور وسيطرة ثقافة المقاومة في روسيا القيصيرية – ديستويفسكي ، تشيخوف ، تورجنيف – وفي اسبانيا الفرانكوية – لوركا – وفي تركيا – ناظم حكمت ، عزيز نيسين ، كمال يشار – ونرى أن التخلف الحضاري في أمريكا اللاتينية لم يمنع ظهور كتاب من أمثال – ماركيز وامادو .. – ونرى أيضاً أن المجتمعات الأوربية الغربية التي تعيش أزماتها العنيفة والخاصة بها ولدت ثقافتها المتطورة . ونجد أن هناك بلداناً لا تختلف بنيتها العقلية عن بنية العقل العربي ، أنتجت ثقافتها المؤثرة واستطاعت تلك الشعوب والأمم أن تحل مشكلتها الثقافية وتتحدى أسباب عدم توفر شروط بيئة نمو المنتج الثقافي .
وفي الاستشهادات السابقة ، نستنتج أن انعدام توفر الشروط البيئية الصحية لخلق ثقافة إنسانية متطورة يدفع باتجاه خلق هذه الثقافة كرد فعل طبيعي واع على أسباب عدم توفر تلك الشروط . فجاء رد الروائيين الروس على قمع القياصرة وسلطتهم ، وجاء رد الكتاب الأسبان والأتراك على القمع الذي ساد بلادهم ، وجاء رد كتاب أمريكا اللاتينية التقدميين على التخلف الذي يسيطر على مجتمعات بلدانهم ، وجاء رد الكتاب الأوربيين التقدميين أيضاً عنيفاً في مواجهة الأزمات الحضارية التي تعيشها مجتمعاتهم .
والأسماء التي ذكرناها لم يتوقف تأثيرها في زمان إنتاجها ومكان كتابتها ، بل أنها اقتحمت قلاع الثقافات الأخرى وتفاعلت معها وأثرت فيها تأثيراً واضحاً . ومن ضمن هذه الثقافات الثقافة العربية .
إن التفاعل الذي خلفته النتاجات الأدبية التي استشهدنا بأسماء كاتبيها ، والذي وصل إلى درجة التأثير الايجابي في الثقافات الأخرى ، لهو خير دليل على قيمتها أولاً وحلها للمعضلات التي ولدت في كنفها.
وبعد ، أليس من حقنا أن نسأل عن الأسباب الكامنة وراء جعل الثقافة العربية استثناء في هذا المجال، فلماذا لاتزال ثقافتنا عاجزة عن مواجهة أزماتها وأزمات مجتمعاتها ؟
إن هذا السؤال يستحق أن يحمل علامة تعجب خاصة وإننا نتحدث عن أزمة طال عمرها وطال الحديث عنها ، وأشبعت من الحديث والكتابة مادة قد توازي مادة ثقافة كاملة بحد ذاتها ، ولكننا لازلنا نطرح الأسئلة ولازلنا لانبصر يوماً قد نكف به عن السؤال ، ولازلنا نسمع تلك الإجابات التي سمعناها منذ اغتصاب فلسطين ، هذا الحادث الذي وضع ثقافتنا على المحك منذ عام 1948 . نسمع أن انعدام الحريات وانتعاش القمع المخابراتي وازدياد التخلف وسيطرة الغيبيات على عقولنا .. هي السبب ، وكأن الحريات كانت مقدمة للكتاب الذين ذكرنا أسماءهم قدمت لهم على طبق من الحلوى ، وكأن التخلف قضى عليه فرمان سلطاني .
وبعد انقضاء هذا العمر لم نوجه الاتهام لأنفسنا ولو لمرة واحدة ، ولم نبحث عن خلل ما قد يكون موجوداً فينا نحن منتجي هذه الثقافة .
والسؤال الذي سنطرحه الآن هو :- لماذا لم يستطع المثقف العربي أن ينتزع حريته وينتج ؟ ولماذا لم يعيد المثقف العربي بناء عقليته على أسس عملية ؟ ولماذا لم ينتج هذا المثقف مادته النقيضة للتخلف ؟
إن الأزمة التي تعيشها ثقافتنا الآن ، لا أقول أن المثقف هو الذي خلقها وإنما أقول أن المثقف لم يعمل كما يجب ليخرج منها ويتجاوزها . فالمشكلة / الأزمة يقع حلها على عاتق منتج هذه الثقافة .
إن القمع والتخلف يولدان رد فعل طبيعي واع لدى المثقف ، فلماذا لايبادر المثقف بشكل جاد للتصدي لأسباب انعدام توفر شروط البيئة الصحيحة لإنتاج الثقافة ؟ ولماذا لايضع المثقف نفسه داخل دوائر عمله الحقيقية ويعمل بوعي لبناء ثقافته بعيداً عن الخوف والشراك المنصوبة له لكي يقع فيها وكأنه مربوط من يده التي يكتب بها بخيط طرفه الأخر في يد السلطة .
إن كل ما نحتاجه الآن هو إعادة صياغة الأسئلة حول الأزمة وإعادة صياغة الأجوبة أيضاً .
بعيداً عن نقد الواقع ومواجهة أزماته
وليد خالد أحمد حسن
تتضح أبعاد الأزمة الفكرية الراهنة في الوطن العربي ، عند اتهام الثقافة العربية بالبعد عن الواقع فيما تكتب أو تعالج . وقد تبدو في بعض طروحاتها نموذجاً حياً للفكر الغربي . إنها وجهة نظر مبنية على قناعة معينة لكنها بالتأكيد ليست تعبيراً عن فكر عربي لكونها تفترض استعارة فكر أخر يبنى على مقاييسه نقد الواقع العربي ومحاولة تغيير هذا الواقع في ضوء المقاييس الناقدة والمستعارة نفسها . وهذا ما يجعل من مشكلة الثقافة العربية تتجسد في لجوئها إلى الفكر الغربي في تعويض نقص عدم تمكنها من لغة الفكر العربي لا بمعنى عدم معرفة قراءته وإنما بمعنى التعمق اللغوي في مدلول ألفاظها ومعانيها . وهو أمر بقدر ما يبهم القصد يساعد على انحراف معناه ويتجه به إلى غير المراد فيأتي الفكر ضعيفاً وهزيلاً وعاجزاً عن التأثير وفاقداً للصفة العلمية التي تميز الفكر عن الأدب . وهذا مبني على قناعة مبدئية بعلمية الفكر الغربي ولغته ، وهي علمية زائفة لكنها قادرة على التأثير باستعمالها لألفاظ مباشرة تصيب المرمى عبر خط مستقيم ، فيستسهلها القارئ العربي ويقتنع بها ويحاول في ضوئها صيانة تصوراته الإصلاحية والسياسية ، مكتفياً بلقب مثقف ، وعاملاً على تعميم ثقافته تلك في بيئته ومحيطه ووطنه ، حيث يظهر بثقافته متميزاً عن الآخرين ممن يلفهم جهل التقاليد والأفكار الموروثة ، طارحاً بذلك ميزاناً سياسياً بين الرجعية والتقدمية ، وميزاناً اجتماعياً بين الجهل والعلم . وهو طرح خاطئ دون شك .
من هنا دار التساؤل الآتي :- هل لنا ثقافة أصيلة متميزة ذات سمات خاصة ، أم ثقافة مستعارة مهلهلة ؟
الإجابة عن هذا السؤال ، تأتي من خلال التعرض للهوية الثقافية التي تمثل بلاشك مركز الدائرة بالنسبة للهوية العربية أو الشخصية العربية إذا أردنا لها أن تكون في حاضرنا ومستقبلنا كما كانت لنا في ماضينا .
في اعتقادي ، أن هناك قضية ، هي جوهر تلك القضية العامة ، ألا وهي موقفنا من النتاج الفكري للحضارة الغربية المعاصرة ، وهي قضية كثر الحديث حولها حتى بلغنا فيها درجة الملل ، وذلك الملل في اعتقادي يرجع إلى إننا لخصناها في إطار قضية قتلت بحثاً دون جدوى ، وهي الأصالة والمعاصرة ، حيث تتابعت أحاديث المتحدثين وكتابة المتخصصين حول المواقف الثلاثة المحتملة . فإما أن يقفوا موقف المتقوقع داخل ذاته الرافضة للتراث الغربي القديم منه والحديث ، وإما أن يقف موقف المنبهر بالثقافة الغربية ومنجزاتها ، فيطالبوا بأن نكون غربيين منهجاً وموضوعاً . وإما الموقف الثالث والذي يمثله المعتدلون من المفكرين ، فهو محاولة المزج بين الموقفين السابقين ، حيث يرون ضرورة أن نكون معاصرين في تصوراتنا ومنهجنا ، وأصلاء في إحياء ما هو صالح من تراثنا للحفاظ على هويتنا الحضارية .
ولكني أرى أن للقضية وجهاً آخر ، يبدو إذا ما نظرنا إليها من زاوية نظرية المعرفة ، حيث أننا نميز فيها بين عارف ومعروف ، بين ذات هي التي تعرف ، وموضوع هو الذي نعرفه ، سواء كانت أداة المعرفة هي الحواس أو العقل أو الحدس أو بها جميعاً . وإذا ما طبقنا ذلك على معرفتنا بجوانب الحضارة الغربية المعاصرة لكان من الضروري أن نميز بين ذاتية العارف وموضوعية المعروف أو بين ذاتية الشارح وموضوعية المشروح . فما أنتجه التراث الغربي الحديث والمعاصر يمثل بالنسبة لنا باستمرار مادة موضوع المعرفة . وقد درجنا على أن ننقل هذا الموضوع بكافة مضامينه وأشكاله ونتوحد معه خاصة في العلوم الإنسانية .
وإذا كان هناك من يعي خطورة هذه المسألة ويحاول البدء في دراسات من واقعنا الاجتماعي أو الاقتصادي أو التاريخي ، فإنهم قلة لم يتوافر لهم المناخ المناسب للعمل كفريق مؤثر في مجال دراساتهم . وخطورة هذا التيار العام السائد الذي يتوحد فيه الدارسون مع الدراسات الغربية ، ويتخذونها كأنموذج ينبغي أن تبنى عليه دراساتهم التي تبدو مما في هذا الاتجاه من عدم التمييز بين موضوعية المعروف وذاتية العارف. فإن كان علينا أن نلم إلماماً واسعاً بالدراسات الغربية في مختلف مجالات العلوم الإنسانية ، فلايجب أن يمثل هذا الإلمام عائقاً أمام معرفتنا واكتشافنا لذاتنا ، والتركيز على إفراز نظريات ومدارس خاصة بنا ندرس من خلالها مجتمعنا واقتصادنا وتاريخنا .
في تصوري ، أننا لن نصل إلى هذه الدرجة الناضجة من العلم إلا بعد إدراك تلك الحقيقة المهمة المتمثلة في ما قدمه التراث الغربي من نظريات ، هي في عمومها نظريات غير صالحة للتطبيق علينا ، وعدم صلاحيتها نابع من أن لكل مجتمع ظروفه الخاصة وسيكولوجيته الخاصة وفكره الخاص ، بالإضافة إلى أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده وقيمة الخاصة .
إن ثمة فارقاً هاماً بين أن ندرس تلك النظريات الغربية لنتمثلها ونهضمها ونفيد منها على المستوى النظري ، وبين أن ندركها ونفسر أنفسنا من خلالها ، أي أن نتخذها قوالب نضع أنفسنا داخلها . وربما يكون من المفيد هنا ، أن نعود إلى مثل حضاري نتفهم القضية من خلاله ، وأوضح مثل لدينا هو حضارتنا الإسلامية في العصر الوسيط . لقد كان إمام العلماء والفلاسفة المسلمين تراث غربي زاخر ، هو التراث اليوناني ، ولاشك أنهم قد شغلتهم القضية التي تشغلنا الآن . أينقلون عن اليونانيين إبداعاتهم أم يتقوقعون داخل ذاتهم ؟
وكان الحل لديهم ايجابياً وفعالاً ، فنقلوا معظم الإبداعات اليونانية في مجال العلوم المختلفة ولكن ، هل نقلوها قيداً إمام إبداعاتهم هم ؟
عند النظر فيما أنتجوه ، يؤكد أنهم أدركوا هذا التمييز بين موضوعية المشروح وذاتية الشارح . وإذا ما أخذنا مجال الفلسفة كمثال ، فسنجد أن الفلاسفة الإسلاميين قد شرحوا أرسطو . لكن هل كانت شروحهم لأرسطو مجرد شروح لفيلسوف يوناني انبهروا بفلسفته وبمنطقه ، كما انبهر به جميع مفكري العصر الوسيط ؟
إن الناظر لتلك الشروح يكتشف بوضوح ذاتية الشارح . فهم لم يقبلوا من أرسطو إلا ما وجدوا انه يتفق مع نظريتهم إلى الأشياء ، وما رأوا انه يتفق مع ما أتى به دينهم الحنيف .
والسؤال الآن :- أين نحن من نقل التراث الغربي الحديث المعاصر ؟
إننا لم نتجاوز بعد مرحلة النقل والتبعية لما ننقل ، لأننا إذا نقلنا وشرحنا فلانجد صدى واضحاً للذاتية في ذلك النقل والشرح ، بل إننا ننقل تلك النظريات الغربية ونطبقها على واقعنا الخاص دون فحص ودون تدقيق ، فكانت النتيجة الحتمية أن فقدنا هويتنا أمام زحف تلك النظريات الغربية وتسلسلها لتعشعش داخل – أدمغتنا أولاً وواقعنا ثانياً ، ومن ثم أصبحنا تابعين للغرب شكلاً وموضوعاً .
إذن ، ماهي الأسباب الكامنة وراء عجز ثقافتنا عن مواجهة أزماتها وأزمات مجتمعاتها ؟ ما هي الإجابات التي سنحصل عليها في حال طرحنا السؤال السابق له ، لكن بصيغة أخرى :- هل تمر الثقافة العربية في أزمة الآن ؟
كلنا يعرف أن هذا السؤال مطروح منذ زمن على المثقف العربي . ولو عدنا طرحه الآن طمعاً في الحصول على إجابة عليه ، لعدنا بسهولة ويسر إلى اجترار تلك الإجابات القديمة ، ولوجدنا أن الهيمنة السلطوية والقمع المخابراتي والتخلف الذي ورثنا إياه الاستعمار ، والخلل البنيوي للعقلية العربية ، وكون أزمة الثقافة جزءاً من أزمة عامة تعيشها المجتمعات العربية ، لوجدنا أن تلك الأسباب تقف وراء وجود هذه الأزمة .
الواقع ، أن البحث عن الأسباب الكامنة خلف الأزمة الثقافية التي يعاني منها الواقع العربي المعاصر، سيقودنا إلى التنقيب في طبقات الوعي الثقافي الدفينة للتعرف على المنابع التي ترتوي منها أكثر مشكلات واقعنا الثقافي إلحاحاً وأشدها استعصاء على العلاج ، بدءاً من إشكاليات التناقض التاريخي الحاد بين المثقف والمؤسسة السائدة ، سواء كانت مؤسسة السلطة أو غيرها من المؤسسات الاجتماعية الراسخة ، حتى مشاكل حرية التعبير وعزلة الكاتب عن جماهير الشعب العريضة وإخفاق الحركة العقلية في تحويل إنجازاتها إلى مؤسسة تبني الأجيال اللاحقة فيها على إنجازات الأجيال السابقة ، ولاتحتاج إلى إعادة خوض معاركها من جديد وفي ظروف أسوأ عادة .
إننا لو نظرنا إلى التشخيص الذي وضعه المثقفون العرب للحالة المرضية التي تعصف بالجسد الثقافي العربي ، لوجدناه صحيحاً . فالحرية شرط من شروط تطور المجتمعات البشرية وخاصة جوانبها الثقافية . والوعي شرط آخر ، وحل المعضلات الحضارية التي يعيشها شعب أو أمة ما شرط ثالث ، وبنية العقل على أسس علمية شرط رابع من شروط تطور المجتمعات البشرية وامتلاكها لأدوات إنتاجها والأدوات الثقافية منها .
إذن ، إذا كانت هناك أزمة في ثقافتنا ، ما هي ملامح هذه الأزمة ؟ هل هناك علاقة بين أزمة الثقافة وبين الأزمات الأخرى التي يعاني منها المجتمع العربي من أزمة الحريات .. أزمة عدم وضوح الرؤية .. وغياب مايسمى بالمشروع الحضاري ؟ أو عن كيفية الخروج من هذه الأزمات ؟ والعقبات التي تقف إمام تحقيق أهداف السياسة الثقافية ؟ عموماً ، نقول ومن وجهة نظرنا الخاصة :- بأن أزمتنا الثقافية ناجمة عن:-
1- الاختلاف في تفسير إبعاد الأهداف وفلسفتها والتي تتطلب منا عقلاً مفتوحاً ونوايا حسنة تتلمس الايجابيات وتتفادى السلبيات . وقد لعبت الكثير من العوامل الداخلية والخارجية والتي لايستبعد بالنسبة لبعضها على الأقل سوء النية ، دوراً كبيراً في تعظيم التعارف بين الثنائيات ، مثل القومية والقطرية ، الاصالة والمعاصرة ، النقل والإبداع ... هي أكثر الثنائيات فاعلية وحساسية .
2- تصنيف المثقفين حسب انتماءاتهم واستبعاد الكثير منهم وإقصاؤهم بعيداً عن مراكز السلطة واتخاذ القرارات ، بل وحرمانهم من إشكال النشاط والإنتاج بناء على هذا التصنيف ، ومن ثم حرمان المجتمع من عطائهم وإبداعهم وقدرتهم المكثفة لدفع عجلة تقدم أوطانهم .
3- التغريب والتخلف ، وقد جمعتهما لارتباطهما العضوي . فنحن لانفزع إلا بإحساسنا بالتخلف . ولايبدو توازن نفسي إلا بالقناعة عند عقلائنا تتمثل في أن لدينا من حكمة لاتقل أهمية عما لدينا من تقاليد ، وان مقاييس التقدم والتخلف لاتعتمد فقط عليهما . فنحن نمثل حضارة قديمة نعرف أنها مريضة في بعض مكوناتها ونريد أن تتشفى . ولا شك ، أن للتوحيد الأثر البالغ على بناء الإنسان وتكوينه الثقافي لمواجهة تحديات مصيرية مشروعة نابعة من ظروفنا ، ودون دعوة إلى الانفصال عن ثقافة العصر . لذلك ، نرجو أن تأخذ الثقافة العربية فرصتها الكاملة للمشاركة في بناء أجيال جديدة حتى يحدث التوازن المطلوب .
4- الربط المتخلف الناجم عن تعرض بدون فهم لمهاجمة بعض النظريات العلمية ، وإلقاء الشك على جدوى التقدم العلمي أو التخوف من أثاره المختلفة ، وفي المرحلة الحالية يستهدف التقدم العلمي والتكنولوجي بشكل أو بأخر إنسانية الإنسان وبالتالي ثقافته .
5- الانبهار الساذج بالغرب ، فيجب أن نفهم جيداً انه لايوجد في الشرق والغرب إلا ماهو ممكن ، ولايوجد هناك المستحيل ، مع ملاحظة التبسيط الذي قد يؤدي إلى الفهم الخاطئ .
6- أزمة لغة ، أي أزمة في أداة التفكير والتعبير والمدخل الأول والأكبر للنهضة الثقافية في الأقطار العربية هي النهوض باللغة .
7- أزمة التعليم بمختلف مراحله الدراسية الذي أصبح تقليدياً لاينمي روح الابتكار والتجديد وبالتالي لاينمي طلب الثقافة .
8- اتساع الفجوة بين الفكر والسلوك ، القول والفعل ، سواء على مستوى الأجهزة أو الأفراد .
9- زيادة عدد الأميين في اغلب أقطار الوطن العربي .
10- الهيمنة السلطوية بكل مؤسساتها ، والقمع المخابراتي ، وفقدان الحرية ...
ولكن ، إذا ماتتوفر عكس هذه النقاط التي ذكرتها آنفاً ، ألا تنتج المجتمعات ثقافتها المتطورة القادرة على مقاومة أسباب انعدام هذه النقاط ؟
أرى ، أن هذا الأمر ممكن ، بل أرى انه رد الفعل الطبيعي ضمن قوانين إدارة الصراع بين نقيضين . ومن التجارب التاريخية المعاصرة ، نرى القمع السلطوي لم يقدر من منع ظهور وسيطرة ثقافة المقاومة في روسيا القيصيرية – ديستويفسكي ، تشيخوف ، تورجنيف – وفي اسبانيا الفرانكوية – لوركا – وفي تركيا – ناظم حكمت ، عزيز نيسين ، كمال يشار – ونرى أن التخلف الحضاري في أمريكا اللاتينية لم يمنع ظهور كتاب من أمثال – ماركيز وامادو .. – ونرى أيضاً أن المجتمعات الأوربية الغربية التي تعيش أزماتها العنيفة والخاصة بها ولدت ثقافتها المتطورة . ونجد أن هناك بلداناً لا تختلف بنيتها العقلية عن بنية العقل العربي ، أنتجت ثقافتها المؤثرة واستطاعت تلك الشعوب والأمم أن تحل مشكلتها الثقافية وتتحدى أسباب عدم توفر شروط بيئة نمو المنتج الثقافي .
وفي الاستشهادات السابقة ، نستنتج أن انعدام توفر الشروط البيئية الصحية لخلق ثقافة إنسانية متطورة يدفع باتجاه خلق هذه الثقافة كرد فعل طبيعي واع على أسباب عدم توفر تلك الشروط . فجاء رد الروائيين الروس على قمع القياصرة وسلطتهم ، وجاء رد الكتاب الأسبان والأتراك على القمع الذي ساد بلادهم ، وجاء رد كتاب أمريكا اللاتينية التقدميين على التخلف الذي يسيطر على مجتمعات بلدانهم ، وجاء رد الكتاب الأوربيين التقدميين أيضاً عنيفاً في مواجهة الأزمات الحضارية التي تعيشها مجتمعاتهم .
والأسماء التي ذكرناها لم يتوقف تأثيرها في زمان إنتاجها ومكان كتابتها ، بل أنها اقتحمت قلاع الثقافات الأخرى وتفاعلت معها وأثرت فيها تأثيراً واضحاً . ومن ضمن هذه الثقافات الثقافة العربية .
إن التفاعل الذي خلفته النتاجات الأدبية التي استشهدنا بأسماء كاتبيها ، والذي وصل إلى درجة التأثير الايجابي في الثقافات الأخرى ، لهو خير دليل على قيمتها أولاً وحلها للمعضلات التي ولدت في كنفها.
وبعد ، أليس من حقنا أن نسأل عن الأسباب الكامنة وراء جعل الثقافة العربية استثناء في هذا المجال، فلماذا لاتزال ثقافتنا عاجزة عن مواجهة أزماتها وأزمات مجتمعاتها ؟
إن هذا السؤال يستحق أن يحمل علامة تعجب خاصة وإننا نتحدث عن أزمة طال عمرها وطال الحديث عنها ، وأشبعت من الحديث والكتابة مادة قد توازي مادة ثقافة كاملة بحد ذاتها ، ولكننا لازلنا نطرح الأسئلة ولازلنا لانبصر يوماً قد نكف به عن السؤال ، ولازلنا نسمع تلك الإجابات التي سمعناها منذ اغتصاب فلسطين ، هذا الحادث الذي وضع ثقافتنا على المحك منذ عام 1948 . نسمع أن انعدام الحريات وانتعاش القمع المخابراتي وازدياد التخلف وسيطرة الغيبيات على عقولنا .. هي السبب ، وكأن الحريات كانت مقدمة للكتاب الذين ذكرنا أسماءهم قدمت لهم على طبق من الحلوى ، وكأن التخلف قضى عليه فرمان سلطاني .
وبعد انقضاء هذا العمر لم نوجه الاتهام لأنفسنا ولو لمرة واحدة ، ولم نبحث عن خلل ما قد يكون موجوداً فينا نحن منتجي هذه الثقافة .
والسؤال الذي سنطرحه الآن هو :- لماذا لم يستطع المثقف العربي أن ينتزع حريته وينتج ؟ ولماذا لم يعيد المثقف العربي بناء عقليته على أسس عملية ؟ ولماذا لم ينتج هذا المثقف مادته النقيضة للتخلف ؟
إن الأزمة التي تعيشها ثقافتنا الآن ، لا أقول أن المثقف هو الذي خلقها وإنما أقول أن المثقف لم يعمل كما يجب ليخرج منها ويتجاوزها . فالمشكلة / الأزمة يقع حلها على عاتق منتج هذه الثقافة .
إن القمع والتخلف يولدان رد فعل طبيعي واع لدى المثقف ، فلماذا لايبادر المثقف بشكل جاد للتصدي لأسباب انعدام توفر شروط البيئة الصحيحة لإنتاج الثقافة ؟ ولماذا لايضع المثقف نفسه داخل دوائر عمله الحقيقية ويعمل بوعي لبناء ثقافته بعيداً عن الخوف والشراك المنصوبة له لكي يقع فيها وكأنه مربوط من يده التي يكتب بها بخيط طرفه الأخر في يد السلطة .
إن كل ما نحتاجه الآن هو إعادة صياغة الأسئلة حول الأزمة وإعادة صياغة الأجوبة أيضاً .