الثلاثاء، 8 يوليو 2014

راهن الثقافة العربية بعيداً عن نقد الواقع ومواجهة أزماته-وليد خالد أحمد حسن

راهن الثقافة العربية
بعيداً عن نقد الواقع ومواجهة أزماته

وليد خالد أحمد حسن

تتضح أبعاد الأزمة الفكرية الراهنة في الوطن العربي ، عند اتهام الثقافة العربية بالبعد عن الواقع فيما تكتب أو تعالج . وقد تبدو في بعض طروحاتها نموذجاً حياً للفكر الغربي . إنها وجهة نظر مبنية على قناعة معينة لكنها بالتأكيد ليست تعبيراً عن فكر عربي لكونها تفترض استعارة فكر أخر يبنى على مقاييسه نقد الواقع العربي ومحاولة تغيير هذا الواقع في ضوء المقاييس الناقدة والمستعارة نفسها . وهذا ما يجعل من مشكلة الثقافة العربية تتجسد في لجوئها إلى الفكر الغربي في تعويض نقص عدم تمكنها من لغة الفكر العربي لا بمعنى عدم معرفة قراءته وإنما بمعنى التعمق اللغوي في مدلول ألفاظها ومعانيها . وهو أمر بقدر ما يبهم القصد يساعد على انحراف معناه ويتجه به إلى غير المراد فيأتي الفكر ضعيفاً وهزيلاً وعاجزاً عن التأثير وفاقداً للصفة العلمية التي تميز الفكر عن الأدب . وهذا مبني على قناعة مبدئية بعلمية الفكر الغربي ولغته ، وهي علمية زائفة لكنها قادرة على التأثير باستعمالها لألفاظ مباشرة تصيب المرمى عبر خط مستقيم ، فيستسهلها القارئ العربي ويقتنع بها ويحاول في ضوئها صيانة تصوراته الإصلاحية والسياسية ، مكتفياً بلقب مثقف ، وعاملاً على تعميم ثقافته تلك في بيئته ومحيطه ووطنه ، حيث يظهر بثقافته متميزاً عن الآخرين ممن يلفهم جهل التقاليد والأفكار الموروثة ، طارحاً بذلك ميزاناً سياسياً بين الرجعية والتقدمية ، وميزاناً اجتماعياً بين الجهل والعلم . وهو طرح خاطئ دون شك .
من هنا دار التساؤل الآتي :- هل لنا ثقافة أصيلة متميزة ذات سمات خاصة ، أم ثقافة مستعارة مهلهلة ؟
الإجابة عن هذا السؤال ، تأتي من خلال التعرض للهوية الثقافية التي تمثل بلاشك مركز الدائرة بالنسبة للهوية العربية أو الشخصية العربية إذا أردنا لها أن تكون في حاضرنا ومستقبلنا كما كانت لنا في ماضينا .
في اعتقادي ، أن هناك قضية ، هي جوهر تلك القضية العامة ، ألا وهي موقفنا من النتاج الفكري للحضارة الغربية المعاصرة ، وهي قضية كثر الحديث حولها حتى بلغنا فيها درجة الملل ، وذلك الملل في اعتقادي يرجع إلى إننا لخصناها في إطار قضية قتلت بحثاً دون جدوى ، وهي الأصالة والمعاصرة ، حيث تتابعت أحاديث المتحدثين وكتابة المتخصصين حول المواقف الثلاثة المحتملة . فإما أن يقفوا موقف المتقوقع داخل ذاته الرافضة للتراث الغربي القديم منه والحديث ، وإما أن يقف موقف المنبهر بالثقافة الغربية ومنجزاتها ، فيطالبوا بأن نكون غربيين منهجاً وموضوعاً . وإما الموقف الثالث والذي يمثله المعتدلون من المفكرين ، فهو محاولة المزج بين الموقفين السابقين ، حيث يرون ضرورة أن نكون معاصرين في تصوراتنا ومنهجنا ، وأصلاء في إحياء ما هو صالح من تراثنا للحفاظ على هويتنا الحضارية .
ولكني أرى أن للقضية وجهاً آخر ، يبدو إذا ما نظرنا إليها من زاوية نظرية المعرفة ، حيث أننا نميز فيها بين عارف ومعروف ، بين ذات هي التي تعرف ، وموضوع هو الذي نعرفه ، سواء كانت أداة المعرفة هي الحواس أو العقل أو الحدس أو بها جميعاً . وإذا ما طبقنا ذلك على معرفتنا بجوانب الحضارة الغربية المعاصرة لكان من الضروري أن نميز بين ذاتية العارف وموضوعية المعروف أو بين ذاتية الشارح وموضوعية المشروح . فما أنتجه التراث الغربي الحديث والمعاصر يمثل بالنسبة لنا باستمرار مادة موضوع المعرفة . وقد درجنا على أن ننقل هذا الموضوع بكافة مضامينه وأشكاله ونتوحد معه خاصة في العلوم الإنسانية .
وإذا كان هناك من يعي خطورة هذه المسألة ويحاول البدء في دراسات من واقعنا الاجتماعي أو الاقتصادي أو التاريخي ، فإنهم قلة لم يتوافر لهم المناخ المناسب للعمل كفريق مؤثر في مجال دراساتهم . وخطورة هذا التيار العام السائد الذي يتوحد فيه الدارسون مع الدراسات الغربية ، ويتخذونها كأنموذج ينبغي أن تبنى عليه دراساتهم التي تبدو مما في هذا الاتجاه من عدم التمييز بين موضوعية المعروف وذاتية العارف. فإن كان علينا أن نلم إلماماً واسعاً بالدراسات الغربية في مختلف مجالات العلوم الإنسانية ، فلايجب أن يمثل هذا الإلمام عائقاً أمام معرفتنا واكتشافنا لذاتنا ، والتركيز على إفراز نظريات ومدارس خاصة بنا ندرس من خلالها مجتمعنا واقتصادنا وتاريخنا .
في تصوري ، أننا لن نصل إلى هذه الدرجة الناضجة من العلم إلا بعد إدراك تلك الحقيقة المهمة المتمثلة في ما قدمه التراث الغربي من نظريات ، هي في عمومها نظريات غير صالحة للتطبيق علينا ، وعدم صلاحيتها نابع من أن لكل مجتمع ظروفه الخاصة وسيكولوجيته الخاصة وفكره الخاص ، بالإضافة إلى أن لكل مجتمع عاداته وتقاليده وقيمة الخاصة .
إن ثمة فارقاً هاماً بين أن ندرس تلك النظريات الغربية لنتمثلها ونهضمها ونفيد منها على المستوى النظري ، وبين أن ندركها ونفسر أنفسنا من خلالها ، أي أن نتخذها قوالب نضع أنفسنا داخلها . وربما يكون من المفيد هنا ، أن نعود إلى مثل حضاري نتفهم القضية من خلاله ، وأوضح مثل لدينا هو حضارتنا الإسلامية في العصر الوسيط . لقد كان إمام العلماء والفلاسفة المسلمين تراث غربي زاخر ، هو التراث اليوناني ، ولاشك أنهم قد شغلتهم القضية التي تشغلنا الآن . أينقلون عن اليونانيين إبداعاتهم أم يتقوقعون داخل ذاتهم ؟
وكان الحل لديهم ايجابياً وفعالاً ، فنقلوا معظم الإبداعات اليونانية في مجال العلوم المختلفة ولكن ، هل نقلوها قيداً إمام إبداعاتهم هم ؟
عند النظر فيما أنتجوه ، يؤكد أنهم أدركوا هذا التمييز بين موضوعية المشروح وذاتية الشارح . وإذا ما أخذنا مجال الفلسفة كمثال ، فسنجد أن الفلاسفة الإسلاميين قد شرحوا أرسطو . لكن هل كانت شروحهم لأرسطو مجرد شروح لفيلسوف يوناني انبهروا بفلسفته وبمنطقه ، كما انبهر به جميع مفكري العصر الوسيط ؟
إن الناظر لتلك الشروح يكتشف بوضوح ذاتية الشارح . فهم لم يقبلوا من أرسطو إلا ما وجدوا انه يتفق مع نظريتهم إلى الأشياء ، وما رأوا انه يتفق مع ما أتى به دينهم الحنيف .
والسؤال الآن :- أين نحن من نقل التراث الغربي الحديث المعاصر ؟  
إننا لم نتجاوز بعد مرحلة النقل والتبعية لما ننقل ، لأننا إذا نقلنا وشرحنا فلانجد صدى واضحاً للذاتية في ذلك النقل والشرح ، بل إننا ننقل تلك النظريات الغربية ونطبقها على واقعنا الخاص دون فحص ودون تدقيق ، فكانت النتيجة الحتمية أن فقدنا هويتنا أمام زحف تلك النظريات الغربية وتسلسلها لتعشعش داخل – أدمغتنا أولاً وواقعنا ثانياً  ، ومن ثم أصبحنا تابعين للغرب شكلاً وموضوعاً .
إذن ، ماهي الأسباب الكامنة وراء عجز ثقافتنا عن مواجهة أزماتها وأزمات مجتمعاتها ؟ ما هي الإجابات التي سنحصل عليها في حال طرحنا السؤال السابق له ، لكن بصيغة أخرى :- هل تمر الثقافة العربية في أزمة الآن ؟
كلنا يعرف أن هذا السؤال مطروح منذ زمن على المثقف العربي . ولو عدنا طرحه الآن طمعاً في الحصول على إجابة عليه ، لعدنا بسهولة ويسر إلى اجترار تلك الإجابات القديمة ، ولوجدنا أن الهيمنة السلطوية والقمع المخابراتي والتخلف الذي ورثنا إياه الاستعمار ، والخلل البنيوي للعقلية العربية ، وكون أزمة الثقافة جزءاً من أزمة عامة تعيشها المجتمعات العربية ، لوجدنا أن تلك الأسباب تقف وراء وجود هذه الأزمة .
الواقع ، أن البحث عن الأسباب الكامنة خلف الأزمة الثقافية التي يعاني منها الواقع العربي المعاصر، سيقودنا إلى التنقيب في طبقات الوعي الثقافي الدفينة للتعرف على المنابع التي ترتوي منها أكثر مشكلات واقعنا الثقافي إلحاحاً وأشدها استعصاء على العلاج ، بدءاً من إشكاليات التناقض التاريخي الحاد بين المثقف والمؤسسة السائدة ، سواء كانت مؤسسة السلطة أو غيرها من المؤسسات الاجتماعية الراسخة ، حتى مشاكل حرية التعبير وعزلة الكاتب عن جماهير الشعب العريضة وإخفاق الحركة العقلية في تحويل إنجازاتها إلى مؤسسة تبني الأجيال اللاحقة فيها على إنجازات الأجيال السابقة ، ولاتحتاج إلى إعادة خوض معاركها من جديد وفي ظروف أسوأ عادة .
إننا لو نظرنا إلى التشخيص الذي وضعه المثقفون العرب للحالة المرضية التي تعصف بالجسد الثقافي العربي ، لوجدناه صحيحاً . فالحرية شرط من شروط تطور المجتمعات البشرية وخاصة جوانبها الثقافية . والوعي شرط آخر ، وحل المعضلات الحضارية التي يعيشها شعب أو أمة ما شرط ثالث ، وبنية العقل على أسس علمية شرط رابع من شروط تطور المجتمعات البشرية وامتلاكها لأدوات إنتاجها والأدوات الثقافية منها .
إذن ، إذا كانت هناك أزمة في ثقافتنا ، ما هي ملامح هذه الأزمة ؟ هل هناك علاقة بين أزمة الثقافة وبين الأزمات الأخرى التي يعاني منها المجتمع العربي من أزمة الحريات .. أزمة عدم وضوح الرؤية .. وغياب مايسمى بالمشروع الحضاري ؟ أو عن كيفية الخروج من هذه الأزمات ؟ والعقبات التي تقف إمام تحقيق أهداف السياسة الثقافية ؟ عموماً ، نقول ومن وجهة نظرنا الخاصة :- بأن أزمتنا الثقافية ناجمة عن:-
1- الاختلاف في تفسير إبعاد الأهداف وفلسفتها والتي تتطلب منا عقلاً مفتوحاً ونوايا حسنة تتلمس الايجابيات وتتفادى السلبيات . وقد لعبت الكثير من العوامل الداخلية والخارجية والتي لايستبعد بالنسبة لبعضها على الأقل سوء النية ، دوراً كبيراً في تعظيم التعارف بين الثنائيات ، مثل القومية والقطرية ، الاصالة والمعاصرة ، النقل والإبداع ... هي أكثر الثنائيات فاعلية وحساسية .
2- تصنيف المثقفين حسب انتماءاتهم واستبعاد الكثير منهم وإقصاؤهم بعيداً عن مراكز السلطة واتخاذ القرارات ، بل وحرمانهم من إشكال النشاط والإنتاج بناء على هذا التصنيف ، ومن ثم حرمان المجتمع من عطائهم وإبداعهم وقدرتهم المكثفة لدفع عجلة تقدم أوطانهم .
3- التغريب والتخلف ، وقد جمعتهما لارتباطهما العضوي . فنحن لانفزع إلا بإحساسنا بالتخلف . ولايبدو توازن نفسي إلا بالقناعة عند عقلائنا تتمثل في أن لدينا من حكمة لاتقل أهمية عما لدينا من تقاليد ، وان مقاييس التقدم والتخلف لاتعتمد فقط عليهما . فنحن نمثل حضارة قديمة نعرف أنها مريضة في بعض مكوناتها ونريد أن تتشفى . ولا شك ، أن للتوحيد الأثر البالغ على بناء الإنسان وتكوينه الثقافي لمواجهة تحديات مصيرية مشروعة نابعة من ظروفنا ، ودون دعوة إلى الانفصال عن ثقافة العصر . لذلك ، نرجو أن تأخذ الثقافة العربية فرصتها الكاملة للمشاركة في بناء أجيال جديدة حتى يحدث التوازن المطلوب .
4- الربط المتخلف الناجم عن تعرض بدون فهم لمهاجمة بعض النظريات العلمية ، وإلقاء الشك على جدوى التقدم العلمي أو التخوف من أثاره المختلفة ، وفي المرحلة الحالية يستهدف التقدم العلمي والتكنولوجي بشكل أو بأخر إنسانية الإنسان وبالتالي ثقافته .
5- الانبهار الساذج بالغرب ، فيجب أن نفهم جيداً انه لايوجد في الشرق والغرب إلا ماهو ممكن ، ولايوجد هناك المستحيل ، مع ملاحظة التبسيط الذي قد يؤدي إلى الفهم الخاطئ .
6- أزمة لغة ، أي أزمة في أداة التفكير والتعبير والمدخل الأول والأكبر للنهضة الثقافية في الأقطار العربية هي النهوض باللغة .
7- أزمة التعليم بمختلف مراحله الدراسية الذي أصبح تقليدياً لاينمي روح الابتكار والتجديد وبالتالي لاينمي طلب الثقافة .
8- اتساع الفجوة بين الفكر والسلوك ، القول والفعل ، سواء على مستوى الأجهزة أو الأفراد .
9- زيادة عدد الأميين في اغلب أقطار الوطن العربي .
10- الهيمنة السلطوية بكل مؤسساتها ، والقمع المخابراتي ، وفقدان الحرية ...
ولكن ، إذا ماتتوفر عكس هذه النقاط التي ذكرتها آنفاً ، ألا تنتج المجتمعات ثقافتها المتطورة القادرة على مقاومة أسباب انعدام هذه النقاط ؟
أرى ، أن هذا الأمر ممكن ، بل أرى انه رد الفعل الطبيعي ضمن قوانين إدارة الصراع بين نقيضين . ومن التجارب التاريخية المعاصرة ، نرى القمع السلطوي لم يقدر من منع ظهور وسيطرة ثقافة المقاومة في روسيا القيصيرية – ديستويفسكي ، تشيخوف ، تورجنيف – وفي اسبانيا الفرانكوية – لوركا – وفي تركيا – ناظم حكمت ، عزيز نيسين ، كمال يشار – ونرى أن التخلف الحضاري في أمريكا اللاتينية لم يمنع ظهور كتاب من أمثال – ماركيز وامادو .. – ونرى أيضاً أن المجتمعات الأوربية الغربية التي تعيش أزماتها العنيفة والخاصة بها ولدت ثقافتها المتطورة . ونجد أن هناك بلداناً لا تختلف بنيتها العقلية عن بنية العقل العربي ، أنتجت ثقافتها المؤثرة واستطاعت تلك الشعوب والأمم أن تحل مشكلتها الثقافية وتتحدى أسباب عدم توفر شروط بيئة نمو المنتج الثقافي .
وفي الاستشهادات السابقة ، نستنتج أن انعدام توفر الشروط البيئية الصحية لخلق ثقافة إنسانية متطورة يدفع باتجاه خلق هذه الثقافة كرد فعل طبيعي واع على أسباب عدم توفر تلك الشروط . فجاء رد الروائيين الروس على قمع القياصرة وسلطتهم ، وجاء رد الكتاب الأسبان والأتراك على القمع الذي ساد بلادهم ، وجاء رد كتاب أمريكا اللاتينية التقدميين على التخلف الذي يسيطر على مجتمعات بلدانهم ، وجاء رد الكتاب الأوربيين التقدميين أيضاً عنيفاً في مواجهة الأزمات الحضارية التي تعيشها مجتمعاتهم .
والأسماء التي ذكرناها لم يتوقف تأثيرها في زمان إنتاجها ومكان كتابتها ، بل أنها اقتحمت قلاع الثقافات الأخرى وتفاعلت معها وأثرت فيها تأثيراً واضحاً . ومن ضمن هذه الثقافات الثقافة العربية .
إن التفاعل الذي خلفته النتاجات الأدبية التي استشهدنا بأسماء كاتبيها ، والذي وصل إلى درجة التأثير الايجابي في الثقافات الأخرى ، لهو خير دليل على قيمتها أولاً وحلها للمعضلات التي ولدت في كنفها.
وبعد ، أليس من حقنا أن نسأل عن الأسباب الكامنة وراء جعل الثقافة العربية استثناء في هذا المجال، فلماذا لاتزال ثقافتنا عاجزة عن مواجهة أزماتها وأزمات مجتمعاتها ؟
إن هذا السؤال يستحق أن يحمل علامة تعجب خاصة وإننا نتحدث عن أزمة طال عمرها وطال الحديث عنها ، وأشبعت من الحديث والكتابة مادة قد توازي مادة ثقافة كاملة بحد ذاتها ، ولكننا لازلنا نطرح الأسئلة ولازلنا لانبصر يوماً قد نكف به عن السؤال ، ولازلنا نسمع تلك الإجابات التي سمعناها منذ اغتصاب فلسطين ، هذا الحادث الذي وضع ثقافتنا على المحك منذ عام 1948 . نسمع أن انعدام الحريات وانتعاش القمع المخابراتي وازدياد التخلف وسيطرة الغيبيات على عقولنا .. هي السبب ، وكأن الحريات كانت مقدمة للكتاب الذين ذكرنا أسماءهم قدمت لهم على طبق من الحلوى ، وكأن التخلف قضى عليه فرمان سلطاني .
وبعد انقضاء هذا العمر لم نوجه الاتهام لأنفسنا ولو لمرة واحدة ، ولم نبحث عن خلل ما قد يكون موجوداً فينا نحن منتجي هذه الثقافة .
والسؤال الذي سنطرحه الآن هو :- لماذا لم يستطع المثقف العربي أن ينتزع حريته وينتج ؟ ولماذا لم يعيد المثقف العربي بناء عقليته على أسس عملية ؟ ولماذا لم ينتج هذا المثقف مادته النقيضة للتخلف ؟
إن الأزمة التي تعيشها ثقافتنا الآن ، لا أقول أن المثقف هو الذي خلقها وإنما أقول أن المثقف لم يعمل كما يجب ليخرج منها ويتجاوزها . فالمشكلة / الأزمة يقع حلها على عاتق منتج هذه الثقافة .
إن القمع والتخلف يولدان رد فعل طبيعي واع لدى المثقف ، فلماذا لايبادر المثقف بشكل جاد للتصدي لأسباب انعدام توفر شروط البيئة الصحيحة لإنتاج الثقافة ؟ ولماذا لايضع المثقف نفسه داخل دوائر عمله الحقيقية ويعمل بوعي لبناء ثقافته بعيداً عن الخوف والشراك المنصوبة له لكي يقع فيها وكأنه مربوط من يده التي يكتب بها بخيط طرفه الأخر في يد السلطة .
إن كل ما نحتاجه الآن هو إعادة صياغة الأسئلة حول الأزمة وإعادة صياغة الأجوبة أيضاً .


الاثنين، 7 يوليو 2014

همنجواي في الحلة-ح4- كتابة احمد الحلي

قنابل الزينة
ما يزال يتذكر بوضوح ، بأنه بين عامي 1948 و 1949 وتحديداً بين شهري نيسان وأيار من العام 1949 ان المظاهرات الصاخبة كانت تجوب شوارع بغداد ، وفي منطقة الكرادة الشرقية حيث ولد ونشاً ، وكان عمره آنذاك لا يتجاوز العشرة سنوات حين وقعت عيناه للمرة الأولى على أول تظاهرة تخرج من دار تطبيقات المعلمين وهي تهتف ؛ ( فلسطين عربية فلتسقط الصهيونية)  ، وفي تلك الأجواء الملبدة أعلنت الأحكام العرفية ، وتم قمع المظاهرات ، إلّا ان زمام الأمور كان يفلت في بعض الأحيان فحصل الفرهود لبيوت اليهود الموسرين من قبل بعض الناس ، وبالنظر الى ان السلطات اتخذت آنذاك اجراءً يخولها تفتيش كافة البيوت ، فقد ؛ " طلب مني ابي أن انقل قنبلتين كنا نحتفظ بهما على عادة الكثيرين من أهالي بغداد آنذاك لأغراض الزينة ، وأمرنا انا وابن عمتي الذي كان يكبرني بعامين بأن نتخلص منهما والقاءهما في نهر دجلة القريب ، والذي كانت مناسيب المياه فيه تنذر بفيضان وشيك ، حتى ان الماء ارتفع الى أعلى السدة في منطقة السبع قصور، وعندما شاهدنا أفرادٌ من العوائل اليهودية ، ونحن نسير بهذه الوضعية ، اخذوا يتصايحون بان ابو فايق والذي هو ابي ، يريد تفجير السدة ليُغرق اليهود ، وشعر ابن عمتي بالخوف والهلع ، فطرح قنبلته في الشارع المؤدي الى نهر دجلة قريباً من بيت مدير أمن بغداد المرحوم بهجت العطية ، وولى هارباً ، فالتقطت قنبلته وحملتها على كاهلي ، وبذلك أصبحت احمل قنبلتين على كتفيَّ الصغيرين ... "
وبعد ان يصل الى حافة النهر ، يقوم بإلقائهما ، فلم يحدث أي انفجار مثلما كان يتوجس ، وبعد مرور حوالي نصف ساعة على هذه الواقعة يمتلئ الشارع برجال الشرطة والجيش والأمن ؛ " وجلبوا معهم صياداً كي يرمي شبكته في المكان الذي ألقيت فيه قنابلي ، ثم ألقي القبض عليّ واقتادوني إلى مركز الشرطة القريب بصحبة والدي للتحقيق ، وبعد أن أوضح لهم ابي بأنه هو من كلفني بهذا العمل ، تم الإفراج عني وبقي هو موقوفاً لبضع ساعات ليتم الإفراج عنه بعدها بكفالة ، لا سيّما وأنه استطاع إقناعهم بأن القنبلتين كانتا موجودتين في البيت لأغراض الزينة كما كان يفعل بعض الناس آنذاك ، وكان الذي اشرف على التحقيق معه بهجت العطية بنفسه وكان حق الجيرة يحتم عليه أن يفعل ذلك ، وعلى ما يتذكّر ، فان العطية كانت لديه عائلة تعيش ظروفاً اقتصادية متواضعة على الرغم من المنصب الرفيع الذي يشغله  ، فلم يكن يمتلك بيتاً وانما كان يسكن بالإيجار ، مع الأخذ بنظر الاعتبار انه متزوج من امرأتين أحداهما تسكن معه في الكرادة الشرقية والأخرى أو الأولى فكانت تقطن في عرصات الهندية ، " ومن المفجع حقاً ان أتذكر ، ان أبا غسان تم إعدامه بعد سقوط الملكية على يد محكمة المهداوي التهريجية في العام 1959" ، وكان مقتنعاً ان هذا الحكم انطوى على كثير من الظلم والتعسف حيث عرف عن بهجت العطية بين أهالي بغداد بأنه كان نزيهاً ومخلصاً ووطنياً في عمله ، بالإضافة إلى انه لم يتقدم ضده لتعضيد إدانته سوى شاهد واحد كان بيته مجاوراً لبيت العطية ومن بين المآخذ التي سجلها ضدّه شاهد الزور هذا أن العطية  كانت لديه ثلاجة كهربائية في بيته .
وبعد تنفيذ الإعدام بحقه اضطرت عائلته في الكرادة ان تعيش وضعاً صعباً للغاية ، حيث لم تكن تمتلك ثمن الخبز الذي تقتات به ، وكانوا يعتاشون على ما يقدمه الناس إليهم من صدقات ، كما ان والده الذي يمتلك شركة سيارات الحرية ، كان يقدم لهم العون المادي بين الفينة والأخرى ، أما هو نفسه فقد وجد في نفسه الحكمة الكافية لأن يبكّر في الخروج لصيد السمك يومياً في نهر دجلة ليعطي ما يحصل عليه الى هذه العائلة المنكوبة .
 على الرغم من مرور وقت طويل ، إلا أن ذاكرته تحتشد بالكثير من الصور حول حادث الفيضان آنف الذكر ، من بينها اعتقادٌ ترسّخ لديه ولدى غيره من أبناء جيله  أن الحكومة آنذاك  قد أسهمت بهذا القدر أو ذاك في وقوع الكارثة في أماكن محددة ، ذلك أنها عمدت الى استعمال حيلة قاسية لمواجهة سيل التظاهرات العارمة التي كانت تخرج الى الشوارع منددةً بالاتفاقية التي تم التوقيع عليها في العام 1948 بين العراق وبريطانيا ، وعلى خلفية إعلان قيام الدولة اليهودية في ذات العام ، وقد جرت العادة أن هذه التظاهرات كانت تخرج من دار المعلمين المسماة آنذاك بــ (التطبيقات) ، والواقعة في المنطقة المحصورة بين الجسر المعلق ومنطقة السبع قصور ، كانت بناية المعهد نقطة انطلاق للتظاهرات الصاخبة ، ومحفزاً لباقي المدارس الثانوية بل وحتى الابتدائية لكي يخرج طلبتها للتظاهر ، وسرعان ما ينضم إليهم أيضاً بعض الشبان المتحمسين ، ويبدو واضحاً أن القوى الوطنية المعارضة للسلطة هي من كان يقف وراء تأجيج الموقف بين الشارع والحكومة ، وهو يرى أن الحكومة انتهزت ارتفاع مناسيب المياه في نهر دجلة منذرة بحدوث الفيضان ، لتُحدث (كسرة) أي فتحة في النهر في جانب الكرادة تحت ذريعة التخفيف من ضغط الفيضان ، وقد أدى ذلك الى غرق أغلب مناطق الكرادة ، وأتى على مبنى دار المعلمين الذي إنهار بالكامل ، فاتخذت الحكومة ذلك ذريعة لنقل (الدار) الى منطقة أبو غريب البعيدة عن مركز العاصمة .
وهناك عددٌ من الصور المتفرعة عن هذه الحوادث الجسام ، ومن ضمنها أن أهالي الكرادة الذين نكبوا بالفيضان ، حيث أن أغلبية بيوتهم التي دخلتها المياه قد تهدمت بالكامل ، كانوا يعمدون الى استعمال الزوارق الصغيرة في تنقلاتهم ، وأن أصحاب الدكاكين من عطارين وبقالين وسواهم  قد ملأوا الزوارق ببضاعتهم وأخذوا يتجولون بها بين المنازل ، فأصبحت الكرادة بين ليلة وضحاها أشبه بــ (فينيسيا) ، ولكن بالمقلوب !




فارس حميد أمانة - تداعيات ذوبان الحدود .. من سايكس بيكو وحتى داعش

الأحد، 6 يوليو 2014

همنجواي في الحلة-أحمد الحلي- 3

كتاب في حلقات

همنجواي في الحلة
                              3                                                 
أحمد الحلي
لا للتدخين
* وسط ظروف غير مواتية من الناحية الاجتماعية والاقتصادية ، وبعد أن رأى مضار تفشي ظاهرة التدخين بين أوساط الناس ،  قاد في العام 2000 والأعوام التي تلته حملة شعواء  ضد التدخين وأسس منظمة باسم (لا للتدخين) وكان شعارها ؛ (السكائر من صنع الشيطان ، اسحقها .. اسحقها أيها الإنسان) ، وشرع بطبع بوسترات ملونة بهذا الاتجاه ، وقام بنفسه  بإلصاقها فوق عدد من الواجهات المهمة بمدينة الحلة ، وكان نتيجة هذه الحملة ان اقلع عشرات المدخنين عن التدخين .
ومن أجل ذلك فقد شاعت في أوساط الناس عنه صورة المناوئ والخصم اللدود لظاهرة التدخين ، وهناك عددٌ من الحكايات التي تم تداولها ، نختار من بينها ؛
1
* في أحد الأيام قبيل الاجتياح الأمريكي للعراق في العام 2003 ، وبعد حوالي ثلاثة أيام من القرار المتعجل الذي اتخذه النظام والقاضي إطلاق سراح جميع المعتقلين والمدانين بجرائم مختلفة ، وفيما هو يجلس في مقعده داخل سيارة مزدحمة بالركاب تسير وسط العاصمة بغداد ، إذ وجد نفسه يجلس قبالة شخص يدخن بشراهة ، اغتاظ في بادئ الأمر ، وحاول أن يكتم غضبه ، ثم التمس من المدخن أن يطفئ سيجارته مدّعياً أنه مريض بالربو ، إلا أن المدخن لم يأبه للأمر ، وواصل التدخين بلذة ونشوة أكثر من السابق ، فلم يجد من سبيل أمامه إلا أن يُعلن عن سورة غضبه ، مادّاً يده الى حقيبته فاتحاً إياها بعنف قائلاً بصوته الأجش المزمجر ؛ ها أنتم تجبروننا على العودة الى السجن ثانية بعد أن تم إخراجنا منه ! ساور الركاب إحساسٌ بأنهم بإزاء مجرم خطير،  وظنوه يحاول أن يستخرج سكيناً أو خنجراً ، فأصيبوا بالخوف والهلع، وأخذوا يتوسلون إليه أن لا يفعل شيئاً ، أما بالنسبة الى الشخص المدخن ، فقد إنهار تماماً ، وأخرج علبة سجائره من جيبه وسحقها بقدمه عند أقدام ( أبي رياض) في محاولة لاسترضائه وإطفاء سورة غضبه .
2
*إعتاد الناس أن يروه إبان مرحلة السبعينيات والثمانينيات وهو يقود باص الركاب التابع لمصلحة نقل الركاب في مدينة الحلة ، ناقلاً إياهم من مركز المحافظة الى النواحي والأقضية والقصبات التابعة للمدينة وبالعكس ، وكان هو لا يتورع عن تطبيق قانونه الصارم بشأن التدخين في حافلته التي كان يعتني بها اعتناءً شديداً ، وفي أحد الصباحات صادف أن شغل المقعدين اللذين يقعان خلفه مباشرة أحدُ شيوخ العشائر وشخصٌ آخر كان بصحبته ، وما إن تحركت السيارة مسافة قليلة حتى استخرج الشيخ علبة سجائره المطرزة بخيوط حريرية ملونة ، مقدماً سيجارة لرفيقه ، وأخذ الاثنان يدخنان بنهم ولذة ، نظر الى سحب الدخان التي أخذت تتشكل فوق رأسه فتراءت له على هيئة غيلان ووحوش تحاول الانقضاض عليه ، ألقى نظرة في المرآة الى الشيخ الذي سمع به كثيراً ، فوجده أشبه بطائر   (الفسيفس) حين ينفش ريشه استعداداً للتزاوج  ، وساوره إحساس ٌ بأن هذا الشيخ ربما يظن أنه جالس ٌ في هذه اللحظة في صدر مضيفه ، خفف من سرعة السيارة وخاطب الشيخ بصوت مسموع ؛ هل تسمح لي أيها الشيخ الموقر أن أطلب منك شيئاً ؟ انتبه هذا إليه ؛ نعم تفضل ، وظن في بادئ الأمر أنه يطلب منه سيجارة ، فأستخرج علبة السجائر وناوله واحدة منها ، قال أبو رياض ؛ عذراً أيها الشيخ ، فأنا لا أدخن ، وأن الذي أرجوه منك هو أن تكف عن التدخين أنت وصاحبك ! اغتاظ الشيخ للهجة الصارمة الآمرة التي يخاطبه بها هذا السائق الحكومي الذي ربما لم يعرف سطوته جيداً  ، قال له هازئاً ؛ ومن أين لك السلطة في منعي من التدخين ؟
ـ هذه حافلتي وإن تكن سيارة حكومية ، وأنا اعتدت أن أطبق هنا قوانيني !
-       وأنا أقول لك بكل بساطة ؛ يؤسفني أنني لا أحترم قوانينك ، فما الذي بوسعك أن تفعله ؟
لم يفعل شيئاً ، وإنما قلل من سرعة الباص الذي كان يقل موظفين يرومون الوصول الى دوائرهم في الوقت المحدد ، فتصايح هؤلاء ؛ ما الأمر ؟
قال أبو رياض مخاطباً الشيخ ؛
ـ ألا ترى ؟ إن هؤلاء سلاحي !
أصر الشيخ على موقفه وتملكته سورة الغضب ، عند هذه النقطة ، أوقف صاحبنا السيارة تماماً وركنها الى جانب الطريق ، ظن باقي الركاب أن ثمة عطلاً أصاب السيارة فظهر منهم التذمر والاستياء ، قال أبو رياض مخاطباً الجميع ؛ اطمئنوا فليس في السيارة سوى عطل واحد هو هذا الشخص الجالس خلفي ، والذي يُصر على الاستمرار في تدخين سجائره المقيتة ، وفي هذه الحالة ، وكما تعرفون ، فلن أدع السيارة تتحرك شبراً واحدا ً ما لم يكف هو تماماً عن التدخين ،
وبأسرع من لمح البصر تحول غضب الركاب الى الشيخ الذي وجد نفسه في موقف لا يُحسَد عليه ، هذا يصيح به ، وذاك ينهره ، وكاد أحدهم أن ينهال عليه بالضرب ، فتدخل في اللحظة المناسبة ، قائلاً للشيخ بحزم ؛ والآن من فضلك أعطني علبة السجائر، فأعطاها إياه وهو لم يَكدْ يُفيق بعدُ من ذهوله وارتباكه ، فأخرج السجائر منها وطرحها أرضاً وأخذ يسحقها بحذائه ، ثم أعاد إليه العلبة الثمينة فارغة ،  وإزاء هذا الموقف ، لم يجد الشيخ المغلوب على أمره  من سبيل أمامه للخروج من هذا المأزق سوى أن قدم اعتذاره  له ولباقي الركاب مصرحاً أمام الجميع ، أنه ومنذ هذه اللحظة قرر التوقف عن التدخين ، رامياً العلبة الفارغة الثمينة من نافذة الباص دونما أسف .
3
يذكر المقربون منه ، أنه عمد إلى استعمال طرائق متعددة في مكافحة ظاهرة التدخين ، ولا سيما في حافلته  هذه ، ومن ضمنها أنه أشاع لدى ركابه الذين إعتاد أن يراهم كل يوم في رحلة ذهابهم وإيابهم الى دوائرهم الحكومية ، أن سيارته تم تزويدها مؤخراً بجهاز الكتروني ياباني لدى خلاياه حساسية قوية من الدخان المتصاعد من السجائر ، الأمر الذي يؤدي أن يبطئ الباص من سرعته تلقائياً ، وكان الركاب يتساءلون فيما بينهم بين مصدّق ومكذب ؛ هل حقاً يوجد هكذا جهاز ؟
              
                           
                 


الجمعة، 4 يوليو 2014

جسدُكِ قيثارتي-أحمد الحلي

جسدُكِ قيثارتي
أحمد الحلي
1
تمرّين، والوقتُ خريفْ
بمحاذةِ أدغالٍ بريةٍ
فيلتبسُ الأمرُ على غصونِها
تُحِسّ بدفءِ الربيعِ
يسري في عروقِها
ثم يلتبسُ الأمرُ عليها
كرّةً أخرى
فيتبرعمُ فيها
جوريٌّ و ليلكْ !
2
هل لي أن أُشبّهَ جسدَكِ
الماثلَ ، بكل أبّهتِهِ أمامي الآنَ
بمائدةٍ ملكيّة ؟
أتسللُ إليها خِلسةً
فأُشبِعُ نهمي
بكل ما لذَّ وطابْ
ثمَّ أتوارى قبلَ
أن يلتئمَ شمْلُ المدعوّين
كما لو كنتُ ظِلّا  !


هل لي أن أشبّههُ بسفينة
اختطفها قرصانٌ
يعلمُ أن بداخِلِها
لؤلؤةً
لم يُبصرْ مثلَها أحدٌ
من قبلُ قطُّ
فاعتزل البحرَ
واختار أن يتوارى بها
في إحدى جزرِ الله
المنسيّة ؟

هل لي أن أشبّهُهُ
ببابٍ  موشّى
بطلاسمَ وتعاويذَ
تنفتحُ
على أسرار الملكوتْ ؟

هل لي أنْ أشبهه
بشجرةِ نارنجٍ
تنفتح على مشارف
غابة ؟

هل لي أن أشبّهه بوطنٍ
لا يقطنه سواي؟

أو بجواز سفرٍ
يُعطيني تأشيرةَ الدخولِ
إلى عوالمَ سحريةٍ وأسطورية

هل لي أن أشبّهه
بمركبةٍ فضائية
تطيرُ بي
لأقصى المجرّات
نخترق  معاً حاجزَ الزمنِ
تتيحُ لي أن أكون شاهداً
على اندثارِ أكوانٍ
وولادةِ أخرى
ثم تحققُ لي أمنيتي
بأن أستحيلَ قمراً
أدورَ جذِلاً لبعض الوقتِ
حول كويكبٍ أختارُه !

هل لي أن أشبّهه
بخمرةٍ معتّقة
أرشفها  ببطءٍ
ويبقى لساني عالقاً
لأمدٍ طويلٍ
بموطنِ الشهوةِ منها
فيدخلُ  كلانا
في طور التلاشي
أصيرُ أنا محضَ خيالٍ
وأنتِ مجرّدَ فِكرة !

هل لي أن أُشبّهه
بنافورة ملذّاتٍ غرائبية
أصلُ إليها ظمآناً
بعد مسافاتٍ ضوئية
فأشربُ منها وأشربُ
أراني وقد ازددتُ عطشاً
وأرى ذاتي ،
وقد تفجّرَ فيها
جنونُ الشبقِ !


همنجواي في الحلة-2-كتابة احمد الحلي

همنجواي في الحلة
2
Oh my god  أو الله حي
تختزن ذاكرته الكثير من المرارات وخيبات الأمل التي غلّفت حياة العراقيين عبر مديات تأريخهم المختلفة ، والتي تمتد مثل حقول أشواكٍ  لا تنبت  المسرّات خلالها   إلا عرضاً وفي حالات نادرة ، يتوقف هنا عند المرحلة التي تلت تأميم النفط العراقي في أوائل سبعينيات القرن الماضي ، حين أصدرت الحكومة ما أسمته (سندات الصمود) آنذاك لتعطيها للموظفين وتستقطع منهم مبلغا قدره 3 دنانير من الراتب ،  وكان هذا المبلغ يؤثر تأثيرا كبيرا على مدخول العائلة ، فنظم أغنية المعنونة ؛(الله حي) وهي موجهة إلى الخالق لكي يساعده على الخروج من هذا المأزق المادي ، وقام بتأليف الأغنية باللغة العربية والانجليزية التي يجيدها ، وبعد السقوط وبالتحديد في العام 2007 أجرى تجديدا على هذه الأغنية في مضمونها ولحنها ، إلا ان الأغنية لم تجد لحد الآن من يخرجها إلى النور سواء على صعيد النشر أو الإذاعة وهي تتعلق بحوار الأديان وضرورة تآخي الجنس البشري وفيما يلي نص الأغنية بالإنكليزية : 
oH My God
My god help me
Do some thing for me
I am Angle From Babylon
Please My God don't Leave Me Alon
Make The World Happy






أما النصُّ العربي فقد صاغه كالآتي ؛
بجاه كليمِ الله موسى النبي
بجاه روحِ الله المسيح النبي
بجاهِ حبيبِ اللهِ محمد النبي
اللهمَّ اجعلِ السلامَ والوئامَ يسودانِ الأرضَ
الله حي !

oH My God

حامد كعيد الجبوري - ( حزب الحمير ) قصيدة شعبية

الخميس، 3 يوليو 2014

همنجواي في الحلة-الجزء الاول- كتابة احمد الحلي

مقتربات أولى
1
تعرف مدينة الحلة ، وعلى الأقل الوسط الثقافي ومرتادو بعض المقاهي الشعبية أبا رياض جيداً ، بوصفه سمياً وشبيها لأرنست همنجواي ، ذلك الروائي الشهير ، صاحب المغامرات التي لا يجرؤ أديبٌ على الخوض فيها ، كما انه صاحب الروايات التي شكلت منعطفاً في الأدب الانكليزي والعالمي ولاسيما لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية .
(أبو رياض) واسمه الكامل كما هو مدون في بطاقة أحواله المدنية ؛ صباح شكر محمود ، وتشير البطاقة أيضاً إلى انه مولود في مدينة بغداد عام 1941 بمنطقة الكرادة الشرقية ، أحس منذ نعومة أظفاره بان لديه ميلا فطرياً نحو الفنون والموسيقى التي جرفته باتجاه عوالمها الخلابة ،
وبدأت تباشير الرحلة الثقافية لديه مع كتاب (ألف ليلة وليلة) بطبعته المصرية المذهبة المتكونة من مجلدين كبيرين ، ثم وبفضل أساتذته في المدرسة المتوسطة يتعرف على الروايات العالمية المترجمة ليقرأ بشغف كل ما كان يقع في يده منها ،
شكلت الموسيقى ، كما قلنا هاجساً للفتى الصغير الحالم ، فحاولت أصابع خياله ، أن تتلمس سحرها، وتقف عند منابعها ، فشرع هو وابن عمته سعيد بادخار (اليومية) التي يحصلان عليها من أبويهما، وبالتالي اشتريا آلة العود الخاصة بالملحن محمد نوشي الذي كان يعمل خياطاً بالقرب من منزلهما ، غير أن نشوة الفتى بامتلاك العود العائد إلى محمد نوشي سرعان ما تبددت وتلاشت أمام هجمة الأب الشرسة محطماً الباب الذي كانا يتواريان خلفه هو وابن عمته ليتدربا على العزف، وليحطم بالتالي العود على رأسيهما ، وقد بكيا بحرقة وألم ، كما يذكر ، ليس لآلام الضرب المبرحة التي عانياها وإنما لأنهما وجدا عودهما الأثير محطماً وأوتاره مقطعة بغير رحمة ..
إلا انهما ، الفتى وابن عمته ، قررا مواصلة السير على هذا الطريق الوعر الذي سلكته قبلهما أجيال وأجيال من المبدعين الذين لم تنثني همتهم أمام عواصف الجهل والتخلف التي تحكم مجتمعنا، ما زال بوسعه أن يتذكر ، كيف أن جذوة الأمل قد تم إحياؤها في نفسه من جديد على يد الفنان القدير منير بشير وأخيه الموسيقار جميل بشير ، لاسيما بعد ان تعرفا على المخاض المؤلم الذي مر به ، فرحبا به في معهد الفنون الجميلة الأهلي الذي كانا يديرانه أبان فترة الخمسينيات ، غير ان الفتى ما لبث ان ترك الدراسة في المعهد لسوء الأوضاع الاقتصادية التي كانت تمر بها عائلته واستيقظ في نفسه إحساس آخر بالانتماء إلى الأدب والشعر بصفة خاصة ، وقد تفتحت هذه الجذوة لديه منذ بداية سبعينيات القرن الماضي ، مع انه ظل محتفظاً ومتوائما مع خطه السياسي  حيث قدم من كلماته وألحانه وأدائه وباللغة الدارجة أغنية ؛ (يا مصر يا أهرام بابل بتقولك حرام) وكانت موجهة آنذاك ضد زيارة الرئيس المصري أنور السادات لإسرائيل، وتمت إذاعة هذه الأغنية عبر إذاعة (صوت مصر) التي كانت تبث برامجها من بغداد .


شبيه همنجواي
بشأن كيفية اكتشاف الشبه الخلقي بينه وبين الروائي العالمي ارنست همنجواي  يشير إلى أن الناس والمحيطين به هم الذين انتبهوا أولا إلى هذا الأمر لاسيما بعد ان ترك ذقنه تنمو كأحد مظاهر إعلان الحزن التي اعتاد الناس عليها ، ويتذكر حادثة غريبة وقعت له في أعوام الستينيات (لا يتذكر بالضبط متى) ، حين وجد نفسه يشهر مسدسه نحو رأسه محاولا الانتحار ، بسبب تعرضه لوضع اجتماعي قاهر ، حيث تمت الوشاية بأبيه معيل العائلة الوحيد آنذاك وكانت التهمة الجاهزة الموجهة إليه انه ساعد في تهريب احد كبار تجار اليهود الأثرياء إلى خارج العراق ، إلا ان لم ينفذ ما اعتزم عليه ، إذ وجد ابنه ذا العامين فقط وهو يحبو إليه في ظلمة الليل ، فوضع المسدس جانبا وقرر مواصلة الحياة ، على العكس من قرينه همنجواي الذي مضى بالمهمة قدماً في  2 يوليو عام ١٩٦١.
ويوما بعد يوم أحس انه يتواشج مع شخصية هذا الروائي الأمريكي ، لاسيما في مزاياه الإنسانية وعلى صعيد المغامرات أيضا وان لم يصل إلى سوى الحدود الدنيا من تخومها ، كما يعترف ، فقد احترف مهنة صيد الأسماك على نهر دجلة ومن ثم على نهر الحلة ، وفيما إذا كان يعتقد انه تجسيدٌ ما لشخصية الشيخ في رواية هيمنجواي الشهيرة (الشيخ والبحر) قال  بتواضع جم ؛ كلا ، فانا أجد نفسي الصياد في النهر ، إذ ان البحر بعيد عنا ، ولم نتعرف في حياتنا سوى على النهر
وقد عرف عن الروائي ، بأنه كان لديه ولع خاص بالصيد والمغامرات وركوب المخاطر ، وقد بات معروفاً لدى الجميع ان حبكة روايته (الشيخ والبحر) استقاها بناءً على تجربة شخصية له في صيد الأسماك على الرغم من الرمزية التي غلّفت هذا العمل المهم الذي أهله للفوز بجائزة نوبل للآداب أبان فترة الخمسينيات .
وهو إذا استطاع توظيف حيثيات تجاربه الشخصية ومغامراته في كتاباته الروائية والقصصية ، فان بطل حكايتنا هذه لم يتح له ان يفعل ذلك ، على الرغم من ان عملية استنطاقه الآن لم تكن بالمهمة الشاقة أو العسيرة ، فحديثه أشبه ما يكون بالمائدة العامرة التي تتوفر على شتى صنوف الأطعمة والاشربة والمقبلات ، وان احتوى بعضها على توابل كثيرة إلا ان محدثه يستطيع ان يختار وينتقي منها ما يشاء ..
* وبالنسبة للقوة البدنية التي عرف بها الروائي الأمريكي ، والتي أهلته لان يقوم برحلاته الشهيرة في مجاهل الغابات في أمريكا وأفريقيا  بغية اصطياد الحيوانات المتوحشة ، بالإضافة إلى كونه ملاكما محترفا ، فان أبا رياض أصبح سباحا ماهرا في وقت مبكر من حياته ، وعرفه نهر دجلة بمحاذاة منطقة الكرادة حيث ولد وعاش سني حياته الأولى ،  وكذلك شط الحلة ونهر الفرات في منطقة سدة الهندية ، وحصل على بعض بطولات السباحة واحترف الملاكمة أيضا متدربا على يد الملاكم محمد سلبي بطل العراق بالملاكمة في أعوام الخمسينيات كما برز في عدد من الألعاب الرياضية التي تتطلب القوة والجهد ، وقد حدثنا احد أصدقائه من الأدباء انهم كانوا قد خرجوا للتو منتشين من سهرة في مقر اتحاد أدباء الحلة ، فانتبهوا إلى جذع ميت لإحدى الأشجار يقف منتصبا بتحدٍ على مقربة منهم أثناء خروجهم فما كان من صاحبنا المنتشي إلا ان أحاطه بساعديه القويين وسط صياح الأصدقاء وتشجيعهم له بعبارة ؛ همنجواي .. همنجواي  ! وبعد قليل من الجهد استطاع ان يقتلعه من جذوره !