الأربعاء، 5 يونيو 2013

( نلكح من طلع نخلتنه كل بستان )النخلة العاشقة-حامد كعيد الجبوري


( نلكح من طلع نخلتنه كل بستان )
النخلة العاشقة
حامد كعيد الجبوري
       الكثير يعتبر النخل سيد الشجر وهناك بيت شعر للجواهري الكبير بمقصورته العصماء بهذا الباب يقول فيه  ، ( على النخل ذي السعفات الطوال / على سيد الشجر المقتنى / على الرطب الغض إذ يجتلى / كوشي العروس وإذ يجتنى) ، وربما النخل الشجر الوحيد الذي يستفاد من كل جزء فيه ، بدءاً من الساق وصولا للجذع والسيقان والأوراق ، وحتى الجذر الذي بجوف الأرض له فوائد جمة يعدها المختصون بالزراعة ، ناهيك أن التمر من أغنى الفواكه بالفيتامينات التي تمد الجسم بما يحتاجه من طاقة وسعرات حرارية ، ( بيت لا تمر فيه جياع أهله ) هذا ما روّي عن الرسول الأعظم ( صلعم )  ، أضف لذلك أن الكحول تستخرج من التمر ، والكحول دخل الصناعات الطبية وغيرها  ، وكذلك مادة ( الدبس ) التي تعتبر من متطلبات بيوت الفقراء ، وكثير من صناعة الحلوى تنتج من مادة التمر ،   ونوى التمر مفيد كعلف لكثير من الحيوانات وفي مقدمتها الجمال لاحتوائه على الكثير من المواد ( البروتينية ) والدهون  ، وجذع النخلة يستخدم كسقوف لبيوت فقراء الناس ، وما أكثر الفقراء في العراق ،  و (( جريد )) النخل هكذا يسمى عند العامة ) أي السيقان ( الطرف ) بعد نزع الأوراق ((الخوص )) وهذه تسمية العامة أيضا ، ويستخدمه العمال المختصون بهذه الصنعة النادرة في كثير من الصناعات وهي ( الأسرة ، الكراسي ، أقفاص الطيور الأليفة والمهجنة ) ، وأما الأوراق ( الخوص ) فتستخدمه النسوة في كثير من الصناعات البدائية ومنها ، ( الزنبيل ) وهو السلة أو السلال الصغيرة لوضع ما يشترى من الأسواق فيها ، المروحة اليدوية ( مهفة ) ، مكنسة لتنظيف البيوت ، الحصر -  الحصران -/ وهي عبارة عن نسيج من الخوص يخاط بعض لبعض ويفرش في بيوت الفقراء للجلوس والمنام عليه أيضا ، وأما الآن فأصبح من الصناعات التراثية لانقراض هذه الصنعة ) .
الحج لبيت الله الحرام خمسينات القرن الماضي يختلف عن حج أيامنا هذه ، كانت الرحلة تستغرق أكثر من شهرين وقد تصل لثلاثة أشهر متتالية ، وقسم من الحجاج ينطلق لبيت المقدس أولا ومن ثم الذهاب للديار المقدسة والعودة عن طريق إيران بعد زيارة مشهد الإمام الرضا ( ع ) ،ومنهم من يذهب لإيران ثم الديار المقدسة ثم العودة من بيت المقدس ، وتهيأت الفرصة لوالدي الفلاح أن يحج بيت الله الحرام ، أنطلق موكبهم لبيت المقدس مرورا بالديار المقدسة وعودة عن طريق المحمرة ثم البصرة ثم الحلة ، جاءنا يحمل بين يديه لينة ( فسيل نخل ) ، قلت له وأنا الطفل الصغير الذي لم يدخل صفوف المدارس بعد ، ما هذا يا أبي  ؟ ، أين هديتي ( الصوغة ) ؟ ، ضحك بوجهي وقال لا تستعجل لنزرع هذه النخلة أولا ،  لا يزال بملابس سفره وأقاربي تحيط به للسلام عليه وتهنئته بسلامة العودة وهو مشغول أين يزرع نخلته ، أختار لها مكانا قريبا لبيتنا الطيني وهيأ تربتها بعد أن مزجه بشئ من السماد العضوي  وزرعها وأمرني بسقايتها وعاد ليرحب بضيوفه الأقارب والأصدقاء ، كان يرقبها ويحيطها بعنايته وسورها بسعف النخيل ليحميها من حيواناتنا المنزلية ، سألته ما هذه النخلة يا أبي ؟ ، أجابني بثقة تامة أني أكلت تمرا من أمها في المحمرة ولم أجد ألذ منه ، وسألتهم عن أسمه فقالوا أنه ( الشُكَر ) بضم الشين وفتح الكاف ، وأضاف أن هذه التمرة طرية وحلاوتها ليست من النوع الذي يحرق القلب ونسميه نحن أصحاب البساتين ( تمرة باردة ) ، قلت له في بستاننا نفس هذا الصنف ، قال لا فهو يختلف عنه وهو أي التمر قابل  للجني اليومي وقابل للتخزين السنوي بعد أن يوضع بما نسميه ( كيشه ) ، وهي عبارة عن حاوية تصنع من سعف النخل لحفظ التمر فيها ، شاء الله أن تكبر نخلتنا ( الأحوازية ) وأكلنا من تمرها ، وفعلا كان لذيذا أفضل من ناتج نخلتنا شبيهتها بالتسمية ، ولأن والدي رحمه الله خصها بعنايته فقد ضَخُم جذعها وكبرت سيقانها – الأطراف - واخضرت بشكل ملفت لنظر من يدخل بستاننا الصغيرة ، لم نحصل من تمرها إلا القليل لأن والدي كان يوزعه لأصدقائه المقربين ولأقاربنا ، ومؤكد أن النخلة سيكون لها فسائل كثيرة لذا أحتفظ ببستاننا أكثر من فسيل ووزع الباقي لمن يحب ، فوجئنا أن رأس النخلة بدأ يميل جهة الشرق وبدا ذلك واضحا بمرور أشهر السنة ، ذهب لدائرة الزراعة ولم يحصل منهم على جواب شاف ، قال أحد الفلاحين المعمرين أنها أصيبت بداء ( الجرنيبه ) - تسمية محلية تختلف من مدينة لأخرى - وهي حشرة تشبه الأرضة تنخر رأس النخلة وجذعها لتصل إلى اللب وهو الغذاء لتلك الحشرة ، عالجها بمبيدات كيميائية ولم يحصل على نتيجة ، قالوا له أحرق رأس النخلة بالنار ، وفعلا حرقها وماتت الأطراف فترة  واخضرت من جديد وبقي رأس النخلة مائلا أيضا ، أحتار في ذلك كثيرا وخاف أن يفقد نخلته النادرة ، ونصحته جارة لنا من أهالي الناصرية أتت مع أبنتها المعلمة التي عينت على ملاك تربية بابل واستأجرت دارا لنا قرب البستان  وقالت له أن نخلتك عاشقة ، أجابها بتعجب واضح نخلتنا عاشقة !!!؟ ، قالت هكذا يقال لمثل هذه الحالة في الناصرية ، وحرام عليك أن تلقحها من طلع ( الفحل ) الموجود ببستانكم وعليك أن تطلب لها طلعا من ( فحل ) البستان الذي مالت أليه ، وفعلا السنة القادمة أخذ لها لقاحا من البستان التي مالت نخلتنا نحوه ، وأنتجت تمرها دون أن يعود رأسها للاعتدال مجددا ، لم يكترث لذلك وقال ربما السنة القادمة ، ومرت السنين ونخلته كما هي ، وتذكرت شطر بيت أستثمره الشاعر الشعبي الراحل ( كاظم الركابي ) بقصيدته ( مناجل ) بهذا المضمون الذي يقول فيه ( ونلكح من طلع نخلتنه كل بستان ) ، دلالة على الفكر ألأممي الذي أراد أن يسود الدنيا ، ولكن جهود والدي كلها باءت بالفشل وأستسلم لأمره معللا نفسه أنه طالما لم يتغير الناتج ولم تقل كميته عن السنين الماضية لذا أذعن لمصير نخلته وقبل بواقعها المر .
    كبرنا ورحل والدي وأستملك بستاننا لتوسعة مركز مدينة الحلة الفيحاء ، وبنينا دارا كبيرة بنفس مكان بستاننا التي أصبحت جزءا كبيرا من حي يسمى ( الخسروية ) ، وزرعت بحديقة دارنا نخلة نادرة جلبتها من محافظة البصرة  ( برحي ) ، وهي  أفضل من نخلتنا التي مرضت وقصت من قبل بلدية الحلة ، وتمتاز نخلة ( البرحي ) بميزات تشبه نوعية ( الشكر ) وتتفوق عليها  ، والنخلة التي رعيتها  تعملقت ، وكبر جذعها وأطرافها بشكل ملفت للنظر و يسمونها الفلاحون ( طاغية ) ،  و( للبرحي ) ميزات كثيرة تختلف عن بقية النخيل ، منها أن ( العثق / العثك  ) يكبر بأكثر من ضعف عن بقية النخيل ، و( للعثق ) زند – ساق أخضر يوصل الغذاء لحبيبات التمر متصلا بقلب النخلة - أطول بكثير عن أخواتها النخيل ، وأطرافها أكبر وأضخم من بقية النخيل ،  شاءت الظروف أن يميل قلب نخلتي كما مال قلب أو رأس نخلة والدي ، حزنت كثيرا لذلك وليس بيدي حيلة لأن والدي لم يترك سبيلا إلا وسلكه ، وأصبح الحصول على فلاح يقوم بتلقيحها وتنظيفها مهمة ليست بالسهلة ، وخاصة أنا سمنت وكبرت وليس بمقدوري تسلقها  وعنايتها ، وأنا أتابع حالتها خطر ببالي شئ بخصوصها ، لاحظت أن النخلة مالت تجاه الشمال ولاحظت كثرة ( العثوق ) تجاه الشمال أيضا ، بمعنى أن ثقل ( العثوق ) تسحب قلب النخلة تجاه الوزن الأكبر ، تناسيت وزني وعمري وتسلقتها وصعدت لقلبها وبيدي السكين الخاص بقص ( العثوق ) واجتثثتها مع قسم كبير من الأطراف ، وأتبعت عملي  هذا العام التالي فلاحظت أن رأس النخلة ( قلبها ) بدأ يعتدل شيئا فشيئا  وعادت لما كانت عليه ، هرعت لقبر والدي في النجف الأشرف ووقفت قبالة قبره وقرأت سورة الفاتحة وقت له لقد وجدت علاج نخلتك العاشقة يا أبي .



الاثنين، 3 يونيو 2013

اعمال زيتية جميلة بالسكين فقط











قصة قصيرة -ليس هذا بالضبط-عادل كامل



قصة قصيرة
ليس هذا بالضبط
عادل كامل
أنه يبدو متعباً بعض الشيء، كذلك دار بخلد السيدة فريال. أن زوجها – وهو يحلق ذقنه – أكثر شحوباً مما كان عليه في الصباح وعلى كل أقتربت منه وسألته:
-         ستذهب إلى المتنزه ..
-         بالتأكيد.
     بيد أنها لم تكن ترغب في مغادرة البيت. على الرغم من المتعة التي تشعر بها وهي تشاهد الحيوانات داخل أقفاصها..خاصة ذلك الأسد المثير للضحك. قالت له أنها لا تعرف لماذا يتم حجز تلك المخلوقات البرية داخل الحديد، كررت داخل الحديد. أنه لأمر مثير للأسى.
     لكنه قال:
-         وهل لدينا الوقت الكافي للحديث عن تلك الأمور.
-         هذا أكيد..لكن مشهد الأسد يبعث في الخوف.
-         ذات مرة رأيتك تبكين.
-         عندما لم أفهم لماذا يحجز الطاووس..ألم تر كيف كان قد فقد ريشه الجميل.
      رفعت رأسها وتأملت قسمات محياه. أنه مازال في سن الأربعين..وعندما ألتقت نظراتهما شعرت برجفة خفيفة جعلتها تكتم صرخة كادت تنطلق منها. أنها تقدر كم ضحى من أجلها، حتى كادت تقول أنها سببت له المزيد من الأعياء. قالت له حالاً:
-         وهل لديك رغبة..يا زوجي العزيز..بالذهب إلى المتنزه أم إلى حديقة الحيوان.
      لم تجد لديها ما تتفوه به. أنها كانت حائرة بين المعارضة والأستسلام لعمل يقوم به من أجلها، وهو الذي يبدو متعباً وشاحباً. نظرت إلى محياه..لم يثرها فيه إلا تلك التجاعيد..التي بدت لها مفزعة تماماً..أن مشكلتها، دار بخاطرها، ليست عدم الأنجاب، أو قتل الزمن الثقيل طوال ساعات العصر والليل. بل ما الذي يمكن أن تقدمه له، هو الذي قدم لها ما لايمكن وصفه.
-         أذن ينبغي أن نغادر؟
      أجابها
-         يقولون أن اللبوة أنجبت..
      قالها فجأة ثم عالج الموقف، في حديثه عن الرياح الباردة..إلا أنها رفعت صوتها بسعادة غامضة:
-         أكيد..
       ترى لماذا جرحت مشاعرها؟ كذلك تساءل مع نفسه: أكان عليّ أن أكون قاسياً؟ لكم ود لو صمت. وتابع حلاقة ذقنه، مثل كل يوم، وبهدوء تام؟ لكن لماذا يحدث هذا كله؟ أجابها بحذر:
-         أنها أشاعات على أية حال.
-         لكني، أيضاً، أكاد لا أصدق، أتتذكر..
-    منذ متى؟ أووه..قبل عقد تماماً. في العام الأول من زواجنا قالوا لنا، هل نسيت، أن ولادة قيصرية أجريت للنمرة البيضاء لكن وا أسفاه رحلت الأم. هل تتذكر ماذا قال لنا ذلك العجوز؟
-         أجل ..
     وحاول التحدث في أمر آخر..قال أنه تعاقد مع شركة جديدة..وأنه سيسافر..
-         ستسافر .. متى؟
-         أنها مجرد فكرة.
      ثم قالت بصوت عال، كأنها لدغت:
-    لكن النمرة ولدت..أليس كذلك؟ رباه..ما هذا الذي يحدث؟ بصمت تساءل، وهو يحدق في عينيها المرتجفتين. كلا. قال بصوت مسموع، أن الأمر لم يكن سوى مصادفة. سكت قليلاً ثم أضاف:
-         هذه ولادات نادرة.. ثم لم هذا الحديث؟
-    أنا أفكر في ذلك العجوز الذي قال لنا، وهو يبتسم، كم يدهشني العشاق الصغار..أنت قلت بلا مبالاة: من المؤسف أن ينطفئ هذا الجمال.
       أنهى حلاقته وحسب أنها تجاهلت الحديث عن ولادة اللبوة إلا أنها تساءلت:
-         هل كانت ولادة طبيعية؟
-         سنذهب إلى الحديقة..
      كانت للحق لا تريد أن تصدمه إذا ما أعلنت أنها تعاني من الصداع أنه يعرف كم عانت منه، لكنها لا تريد، لا تريد أبداً أن تكذب. لم تفعل ذلك قط منذ أعترفت بأنه، هو هو الأبن الذي ملأ حياتها. الوليد العذب الذي لا يمكن أن تمسه الشيخوخة بسوء. لكنها أعترفت بأنها، آنذاك، بعد عشرين سنة، لن تأسف على شيء. ماذا لو مات فجأة ؟ لا تعرف لم دار بخلدها هذا السؤال. ولم راحت تحدق فيه، تراقب  حركاته. هاهو يرتدي ملابسه، ويستعد لمغادرة البيت. كادت تنفجر باكية. أنها لا تريد أن ترى أي شيء في الخارج. ولا تريد أن تستمتع بالذهاب إلى المتنزه. أنها تريد أن تتحدث إليه..تتحدث معه..مثلما يحدث ذلك، غالباً، في الأيام التي لا يذهب فيها إلى العمل، واليوم تريد أن تتحدث..تهمس، تتكلم.   
-         غريب ..
     قالها وهو يتأمل قامتها الطويلة، وشعر رأسها الاسود..كان يتأملها كأنه يراها لأول مرة، ثم اضاف..
-         هل ستخرجين بهذه الملابس.
    لقد أنكشفت نواياها دفعة واحدة..لدرجة أنها كادت تود لو فقدت الوعي، أو غابت عن الوجود..أنها كانت تراقبه طول الوقت. شاردة الذهن . ولم نفكر لحظة واحدة بإرتداء ملابسها يالسخرية، قالت لنفسها أنها لا تعرف ماذا تفعل الآن..أتبوح له بأنها تخاف عليه من البرد؟ أم تكلمة عن حوادث أصطدام السيارات؟ بأي الأسباب يمكن العدول عن النزهة؟ قالت ذلك دون أن تحرك جسدها، الذي تصلب، وقد أحست بالبرودة تسري فيه..
     تمتم بصوت خفيض:
-         أهو الصداع مرة ثانية؟
-         ابداً. أن صحتي جيدة. كنت أتمنى لو كان الصداع.
-         ماذا أذن؟
-         صدقني.
      وشعرت أنها تبتعد عن الصدق فهزت رسها لتقول:
-         أنا لا أفكر بالنمرة..بتلك الأم التي ماتت..
      كان سحدق فيها بشرود تام فهي لم تتحدث عن ذلك الحادث قط كما ركزت عليه الآن، تابعت:
-         ولا بالوليد الجديد.
-         مالذي يشغلك أذن؟
-    لا أعرف بالضبط، أحياناً لا أعلم بأي شيء أفكر. أعرف أني منشغلة بشيء وأني أفكر. لكني لا أعرف كيف مضى الزمن. ساعات طوال تمضي كالبرق ثم أكتشفت أني قادرة على التفكير. أنها إضاعة للوقت إليس كذلك؟.
      لم يجب في الحال، وعندما نظر إليها، أقترب منها. قال:
-         أنت مريض. حسناً لنذهب إلى الطبيب.
-         أبداً..أن صحتي جيدة للغاية. ألا تعلم أني لم أمرض منذ عرفتك عدا الصداع..
-         أعرف. لكنك شاحبة.
-         أنت المريض. ألم تر الشحوب في محياك؟ ثم لمَ هذه التجاعيد كلها؟
-         لم أعد أفهم..
     لكنها صرخت..
-    أنا أخاف عليك، أخاف، لا تقاطعني أرجوك، أخاف عليك البرد ومن حديقة الحيوانات ولا أعرف لماذا تخيلتك قد ضعت في المدينة..ثم ما معنى أن تتنزه؟ كلا ليس هذا الذي دار في رأسي..بل فكرت أنك بحاجة للراحة..أبداً وليس هذا أيضاً..لقد فكرت لو أننا خرجنا فأن أحداً منا سيصاب بمكروه..أنت أو أنا. ليس هذا هو المهم. لقد شعرت أننا سنضع في المدينة..وأن أياً منا لن يرى الآخر..كنت أخاف عليك من الهواء البارد ومن الليل ومن الحيوانات الشرسة ياطفلي..أرجوك..
     قال بهدوء..
-         حسناً .. لن نخرج إذا ً.
-         صحيح؟
      وكان قد أستحال، هكذا تخيلت، إلى طفل. كانت تستمع إلى قهقهاته. طفل في الرابعة..في السادسة من العمر..طفل..وعلى مدى ساعات الليل، لم يبح بكلمة فقد كانت سعادته مثل الموت.
  1988


بيعوا مصفحاتكم وابنوا العراق- كاظم فنجان الحمامي

بيعوا مصفحاتكم وابنوا العراق


جريدة المستقبل العراقي

كاظم فنجان الحمامي

انظروا كيف تصرفت السيدة (جويس باندا Joyce Banda) بسيارات ديوان الرئاسة في جمهورية (مالاوي Malawi), الدولة الإفريقية الأفقر والأصغر, وكيف قررت بيعها كلها لتوفر السيولة لبلادها, التي تمر بضائقة مالية صعبة, وكيف قررت تخفيض 30% من راتبها الشهري, وكيف باعت الطائرة الرئاسية الصغيرة بمبلغ (15) مليون دولار, وهي الطائرة الوحيدة التي تمتلكها بلادها, وكيف ألزمت نفسها بتحمل برامج الترشيد والتقشف في بيتها ومكتبها, وكيف ألغت رحلاتها الخارجية من أجل صيانة المال العام وتقليل النفقات, وكيف قررت خياطة ثيابها بماكينتها المنزلية الصغيرة, وكيف بذلت قصارى جهدها لإصلاح اقتصاد بلادها المشرفة على الانهيار, وكيف حرصت على مؤازرة الطبقات الفقيرة والأسر المتعففة, ووفرت الأرصدة لمشاريعها الوطنية بكل السبل المتاحة. . .
باعت الرئيسة المالاوية (35) سيارة مرسيدس (غير مدرعة), ووفرت (300) دولار كانت تُصرف سنويا على صيانة الطائرة الرئاسية الخاصة ومستلزماتها. .
لا توجد إحصائية رسمية صريحة وواضحة في العراق لأعداد السيارات الشخصية المدرعة, والعربات المنزلية المصفحة, التي يمتلكها الوزراء والسفراء ووكلاء الوزارات والنواب وأعضاء المجالس المحلية ومدراء الشركات والمؤسسات والمراكز والجامعات والهيئات الحكومية ورجال الدين, لكننا نكاد نجزم إن أعدادها بلغت أرقاماً فلكية, ولسنا مغالين إذا قلنا إنها أكثر بكثير من كل السيارات والعربات والعجلات المصفحة في الأقطار العربية كافة, وان مبالغها الإجمالية تكفي لتغطية نفقات شراء أكبر محطات توليد الطاقة الكهربائية, وستكون من أروع الهدايا التي نأمل أن يقدمها أصحاب الدروع والمصفحات للشعب العراقي في هذا الصيف القائظ, الذي يبدو انه سيكون صيفا طويلا, بطول الصيف الذي تمر بها مدن المالاوي الاستوائية, فمتى يقفون معنا في التصدي لهذه البلاوي ؟. .
من نافلة القول نذكر ان قافلة الرئيس العراقي الحالي هي الأطول والأضخم والأفخم من حيث عدد السيارات المدرعة والمصفحة, والعربات المضادة للصواريخ والألغام, والمضادة للعبوات الناسفة والعاصفة, ولا تضاهيها قافلة في عموم أقطار كوكب الأرض, تأتي بعدها في التسلسل قوافل سيارات السادة المسؤولين. .
قد يقول قائل منهم: إن الأوضاع الأمنية المتأرجحة هي التي اضطرتهم للاختباء خلف الحواجز الكونكريتية, والمصدات الخراسانية, والأسلاك الشائكة, وهي التي اضطرتهم لركوب السيارات المصفحة, وأجبرتهم على اقتناء احدث موديلاتها, وأجودها متانة, وأكثرها ضماناً لسلامتهم وسلامة أفراد أسرهم, فنقول لهم: نعم هذا صحيح, ولكن من يحمينا نحن من العبوات الناسفة, والسيارات المفخخة, والمسدسات الكاتمة, والعيارات النارية الطائشة ؟؟. .
السيدة (جويس باندا) من مواليد نيسان (أبريل) 1950, تولت الرئاسة في الشهر نفسه من عام 2012 خلفاً للرئيس الراحل (موثاريكا), هي ليست مسلمة, لكنها آمنت إيماناً قاطعاً بالمبدأ الإسلامي الذي يقول: ((كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)), وآمنت بمبدأ ((رأس الحكمة مخافة الله)), فهي تخشى الله وتعبده وحده, ولا تخشى العصابات الإرهابية, ولا الميليشيات المسلحة, ولا تفكر بحماية نفسها وأسرتها فقط مثلما يفعل جماعتنا, في الوقت الذي نتعرض فيه نحن لبراكين الجحيم, التي أحاطت بنا من كل حدب وصوب. .
بالأمس القريب قدمنا للقارئ الكريم مثالا رئاسياً رائعاً من الأورغواي, فتحدثنا بإسهاب عن سيارة الرئيس (خوسيه موخيكا), والتي كانت عبارة عن عربة من الطراز القديم, من نوع (فولكس واغن), لا يزيد سعرها في معارض السيارات العراقية المستهلكة عن (800) دولار فقط, وتحدثنا في مقالة منفصلة عن الدراجة الهوائية التي يركبها رئيس الوزراء الهولندي (روتتي) في جولته اليومية من وإلى مقر عمله, وتحدثنا كثيراً عن دراجة رئيس الوزراء البريطاني (ديفيد كاميرون) التي يركبها في عطلة نهاية الأسبوع أثناء قيامه بالتسوق, ونتحدث اليوم عن هذه المرأة التي تعد الرئيسة الأولى في بلادها, والثانية في عموم البلدان الإفريقية, وشاهدنا كيف باعت طائرتها الرئاسية اليتيمة, وكيف تخلصت من سياراتها كلها, فوفرت المال العام, وتجنبت الإسراف والتبذير, واختارت ركوب أوتوبيس الأجرة في تحركاتها اليومية بين بيتها ومقر عملها في القصر الجمهوري, فمتى تبيعون مصفحاتكم ومدرعاتكم وحقولكم وبساتينكم وقصوركم حتى تبنوا العراق, وتقفوا مع الفقراء في محنتهم ؟؟. . .