( نلكح من طلع نخلتنه كل بستان )
النخلة العاشقة
حامد كعيد الجبوري
الكثير
يعتبر النخل سيد الشجر وهناك بيت شعر للجواهري الكبير بمقصورته العصماء بهذا الباب
يقول فيه ، ( على النخل ذي السعفات الطوال
/ على سيد الشجر المقتنى / على الرطب الغض إذ يجتلى / كوشي العروس وإذ يجتنى) ،
وربما النخل الشجر الوحيد الذي يستفاد من كل جزء فيه ، بدءاً من الساق وصولا للجذع
والسيقان والأوراق ، وحتى الجذر الذي بجوف الأرض له فوائد جمة يعدها المختصون
بالزراعة ، ناهيك أن التمر من أغنى الفواكه بالفيتامينات التي تمد الجسم بما
يحتاجه من طاقة وسعرات حرارية ، ( بيت لا تمر فيه جياع أهله ) هذا ما روّي عن
الرسول الأعظم ( صلعم ) ، أضف لذلك أن
الكحول تستخرج من التمر ، والكحول دخل الصناعات الطبية وغيرها ، وكذلك مادة ( الدبس ) التي تعتبر من متطلبات
بيوت الفقراء ، وكثير من صناعة الحلوى تنتج من مادة التمر ، ونوى
التمر مفيد كعلف لكثير من الحيوانات وفي مقدمتها الجمال لاحتوائه على الكثير من
المواد ( البروتينية ) والدهون ، وجذع
النخلة يستخدم كسقوف لبيوت فقراء الناس ، وما أكثر الفقراء في العراق ، و (( جريد )) النخل هكذا يسمى عند العامة ) أي
السيقان ( الطرف ) بعد نزع الأوراق ((الخوص )) وهذه تسمية العامة أيضا ، ويستخدمه
العمال المختصون بهذه الصنعة النادرة في كثير من الصناعات وهي ( الأسرة ، الكراسي
، أقفاص الطيور الأليفة والمهجنة ) ، وأما الأوراق ( الخوص ) فتستخدمه النسوة في
كثير من الصناعات البدائية ومنها ، ( الزنبيل ) وهو السلة أو السلال الصغيرة لوضع
ما يشترى من الأسواق فيها ، المروحة اليدوية ( مهفة ) ، مكنسة لتنظيف البيوت ،
الحصر - الحصران -/ وهي عبارة عن نسيج من
الخوص يخاط بعض لبعض ويفرش في بيوت الفقراء للجلوس والمنام عليه أيضا ، وأما الآن
فأصبح من الصناعات التراثية لانقراض هذه الصنعة ) .
الحج لبيت الله الحرام خمسينات القرن الماضي يختلف عن حج
أيامنا هذه ، كانت الرحلة تستغرق أكثر من شهرين وقد تصل لثلاثة أشهر متتالية ، وقسم
من الحجاج ينطلق لبيت المقدس أولا ومن ثم الذهاب للديار المقدسة والعودة عن طريق
إيران بعد زيارة مشهد الإمام الرضا ( ع ) ،ومنهم من يذهب لإيران ثم الديار المقدسة
ثم العودة من بيت المقدس ، وتهيأت الفرصة لوالدي الفلاح أن يحج بيت الله الحرام ،
أنطلق موكبهم لبيت المقدس مرورا بالديار المقدسة وعودة عن طريق المحمرة ثم البصرة
ثم الحلة ، جاءنا يحمل بين يديه لينة ( فسيل نخل ) ، قلت له وأنا الطفل الصغير
الذي لم يدخل صفوف المدارس بعد ، ما هذا يا أبي ؟ ، أين هديتي ( الصوغة ) ؟ ، ضحك بوجهي وقال لا
تستعجل لنزرع هذه النخلة أولا ، لا يزال
بملابس سفره وأقاربي تحيط به للسلام عليه وتهنئته بسلامة العودة وهو مشغول أين
يزرع نخلته ، أختار لها مكانا قريبا لبيتنا الطيني وهيأ تربتها بعد أن مزجه بشئ من
السماد العضوي وزرعها وأمرني بسقايتها
وعاد ليرحب بضيوفه الأقارب والأصدقاء ، كان يرقبها ويحيطها بعنايته وسورها بسعف
النخيل ليحميها من حيواناتنا المنزلية ، سألته ما هذه النخلة يا أبي ؟ ، أجابني
بثقة تامة أني أكلت تمرا من أمها في المحمرة ولم أجد ألذ منه ، وسألتهم عن أسمه
فقالوا أنه ( الشُكَر ) بضم الشين وفتح الكاف ، وأضاف أن هذه التمرة طرية وحلاوتها
ليست من النوع الذي يحرق القلب ونسميه نحن أصحاب البساتين ( تمرة باردة ) ، قلت له
في بستاننا نفس هذا الصنف ، قال لا فهو يختلف عنه وهو أي التمر قابل للجني اليومي وقابل للتخزين السنوي بعد أن يوضع
بما نسميه ( كيشه ) ، وهي عبارة عن حاوية تصنع من سعف النخل لحفظ التمر فيها ، شاء
الله أن تكبر نخلتنا ( الأحوازية ) وأكلنا من تمرها ، وفعلا كان لذيذا أفضل من
ناتج نخلتنا شبيهتها بالتسمية ، ولأن والدي رحمه الله خصها بعنايته فقد ضَخُم
جذعها وكبرت سيقانها – الأطراف - واخضرت بشكل ملفت لنظر من يدخل بستاننا الصغيرة ،
لم نحصل من تمرها إلا القليل لأن والدي كان يوزعه لأصدقائه المقربين ولأقاربنا ،
ومؤكد أن النخلة سيكون لها فسائل كثيرة لذا أحتفظ ببستاننا أكثر من فسيل ووزع
الباقي لمن يحب ، فوجئنا أن رأس النخلة بدأ يميل جهة الشرق وبدا ذلك واضحا بمرور
أشهر السنة ، ذهب لدائرة الزراعة ولم يحصل منهم على جواب شاف ، قال أحد الفلاحين
المعمرين أنها أصيبت بداء ( الجرنيبه ) - تسمية محلية تختلف من مدينة لأخرى - وهي
حشرة تشبه الأرضة تنخر رأس النخلة وجذعها لتصل إلى اللب وهو الغذاء لتلك الحشرة ،
عالجها بمبيدات كيميائية ولم يحصل على نتيجة ، قالوا له أحرق رأس النخلة بالنار ،
وفعلا حرقها وماتت الأطراف فترة واخضرت من
جديد وبقي رأس النخلة مائلا أيضا ، أحتار في ذلك كثيرا وخاف أن يفقد نخلته النادرة
، ونصحته جارة لنا من أهالي الناصرية أتت مع أبنتها المعلمة التي عينت على ملاك
تربية بابل واستأجرت دارا لنا قرب البستان
وقالت له أن نخلتك عاشقة ، أجابها بتعجب واضح نخلتنا عاشقة !!!؟ ، قالت
هكذا يقال لمثل هذه الحالة في الناصرية ، وحرام عليك أن تلقحها من طلع ( الفحل )
الموجود ببستانكم وعليك أن تطلب لها طلعا من ( فحل ) البستان الذي مالت أليه ، وفعلا
السنة القادمة أخذ لها لقاحا من البستان التي مالت نخلتنا نحوه ، وأنتجت تمرها دون
أن يعود رأسها للاعتدال مجددا ، لم يكترث لذلك وقال ربما السنة القادمة ، ومرت
السنين ونخلته كما هي ، وتذكرت شطر بيت أستثمره الشاعر الشعبي الراحل ( كاظم
الركابي ) بقصيدته ( مناجل ) بهذا المضمون الذي يقول فيه ( ونلكح من طلع نخلتنه كل
بستان ) ، دلالة على الفكر ألأممي الذي أراد أن يسود الدنيا ، ولكن جهود والدي
كلها باءت بالفشل وأستسلم لأمره معللا نفسه أنه طالما لم يتغير الناتج ولم تقل
كميته عن السنين الماضية لذا أذعن لمصير نخلته وقبل بواقعها المر .
كبرنا ورحل والدي وأستملك بستاننا لتوسعة مركز
مدينة الحلة الفيحاء ، وبنينا دارا كبيرة بنفس مكان بستاننا التي أصبحت جزءا كبيرا
من حي يسمى ( الخسروية ) ، وزرعت بحديقة دارنا نخلة نادرة جلبتها من محافظة
البصرة ( برحي ) ، وهي أفضل من نخلتنا التي مرضت وقصت من قبل بلدية
الحلة ، وتمتاز نخلة ( البرحي ) بميزات تشبه نوعية ( الشكر ) وتتفوق عليها ، والنخلة التي رعيتها تعملقت ، وكبر جذعها وأطرافها بشكل ملفت للنظر
و يسمونها الفلاحون ( طاغية ) ، و( للبرحي
) ميزات كثيرة تختلف عن بقية النخيل ، منها أن ( العثق / العثك ) يكبر بأكثر من ضعف عن بقية النخيل ، و( للعثق
) زند – ساق أخضر يوصل الغذاء لحبيبات التمر متصلا بقلب النخلة - أطول بكثير عن
أخواتها النخيل ، وأطرافها أكبر وأضخم من بقية النخيل ، شاءت الظروف أن يميل قلب نخلتي كما مال قلب أو
رأس نخلة والدي ، حزنت كثيرا لذلك وليس بيدي حيلة لأن والدي لم يترك سبيلا إلا
وسلكه ، وأصبح الحصول على فلاح يقوم بتلقيحها وتنظيفها مهمة ليست بالسهلة ، وخاصة
أنا سمنت وكبرت وليس بمقدوري تسلقها وعنايتها
، وأنا أتابع حالتها خطر ببالي شئ بخصوصها ، لاحظت أن النخلة مالت تجاه الشمال
ولاحظت كثرة ( العثوق ) تجاه الشمال أيضا ، بمعنى أن ثقل ( العثوق ) تسحب قلب
النخلة تجاه الوزن الأكبر ، تناسيت وزني وعمري وتسلقتها وصعدت لقلبها وبيدي السكين
الخاص بقص ( العثوق ) واجتثثتها مع قسم كبير من الأطراف ، وأتبعت عملي هذا العام التالي فلاحظت أن رأس النخلة ( قلبها
) بدأ يعتدل شيئا فشيئا وعادت لما كانت
عليه ، هرعت لقبر والدي في النجف الأشرف ووقفت قبالة قبره وقرأت سورة الفاتحة وقت
له لقد وجدت علاج نخلتك العاشقة يا أبي .