وسام زكو
فضاءات
الامتداد ودينامية الصفر
عادل
كامل
[ 1 ] شذرات
ما الذي يريد ان ينجزه جيل خرج – بشكل من الأشكال – من ثلاثة حروب – أسطورية في عصر ما
بعد الحداثة – ( 1980 – 2003 ) وهو يدرك ان التقدم باتجاه الغد ، لا
يبعده عن شبح التدحرج في المجهول : جيل ترك خلفه الأوائل والرواد وكل من حاول تلبس
أقنعة الحداثات والمغامرات الفنية .. ليتلمس منطق عصر ( رفاهيات ) واستبصارات
ملتبسة ، على صعيد المدلولات ، أو على صعيد التشبث بدالات الامتحان ..؟ ان سمات هذا الجيل ، لم تظهر ، في التشكيل
العراقي إلا عبر وثبات داخل اغراءات استعادة أحلام استلبت ، وكينونات ما زالت تحمل
قرون من الوباءات والطوفانات
والاغترابات والحروب الداخلية
.بمعنى [ 1 ] هل تولد تجارب هذا الجيل ، خارج إمبراطورية التنازع ، والخوف حد
الصمت [ 2 ] وهل للأمل ، في زمان غدت فيه
التقنيات تفكر ، معنى [ 3 ] وهل للجوهر ، في الاستهلاك ، وتحول الفن الى علامات
تصادم وتنافس ، قدرة إبداع مصيره ، وجعلنا نبني ، داخل تاريخ عريق للإبداع
والمقاومة ، الخطاب بما يجعله توليديا ، وليس استرجاعيا ، يمتلك ذاته ، بعيدا عن
الاستعارات ، ممتلئا وليس خاويا ، في الفضاء وليس داخل الأقنعة ؟
[ 2
] تبعثر
لا
تتشكل نصوص وسام زكو وكأنها تتمة لتجارب عراقية سابقة ، بل تصدمنا بتشكيلات بالغة
التبعثر . إنها ليست مفككة أو اعتمدت التلصيق والبناء . ولكنها تبقى تحافظ على وحدتها ومركزها وكأنها
استعارات حرص الفنان ان يجعلها أقرب الى مشاهد النجوم والبراكين والبكتريا .
فالتبعثر يلمّح ضمنا وكأن الاستقرار أو التوازن أو – المسرة رمزيا- ليس
إلا حالة تتداخل مع الديمومة العامة للمشاهد . بيد ان نصه لا يقص ولا يحكي . انه
لا يدفع بالرسم الى الصفر ، ولا يصمت ،
لأنه ينقلنا الى مناطق الخلخلة . ثمة تدفق أوانفجارات لها مغزاها النفسي
المندمج بالخامات والتكنيك . فالفنان يسمح للعناصر ان تتنقل عبر فجوات لا تحصى ..
ومسؤوليات المراقب / المشاهد ، تغدو افتراضية . لأن الأخير لن يجد لذّات أو معان بعيدا عن تنقيبا ته في النص . هذا
الاحتمال ، عند الفنان ، دفع بالنص ليأخذ مسارا آخر في التأمل وفي قلب عادات التذوق التي رافقت الرسم
التقليدي ، وحداثته المستعارة . فالفنان ينقلنا الى المواقع المشتركة ، خارج تاريخ الرسم ،بمعنى
انه يتمسك بالمرئيات والخامات والمشاهد البكر .. فالعناصر هي ذاتها تتكون عبر زمن
النص ، ورؤية الفنان ، ذاتها ، هي التي تعلن عن اشتغاله في تفحص التبعثر المشترك
بينه وبين الخارج . ربما انجذب إليها ، أو ، عاد الى مفهوم التعبير وصاغه بحذف تام
، وربما وجد انه يتجانس معها . فالفنان يغادر ولا يحفر فيه ذكراه . لكن الاسم
يتداخل بطبيعة الفعل .. فالاسم الذي لم يك له وجود ، قبل الفعل ، يصير علامة :
يصير فجوة مشغولة بإحكام وكأن الفراغ – بمعانيه كافة – يجعل التضاد وحدة تدفعنا للقبول بالتبعثر .
فالنص هو ذرات مذابة ، كقطعة سكر ، في فضاء ساخن : إنها – الذرات – لا تخفي اندماجها ، بل تصوره ، وتقتنصه ،
لتعلنه تاما .. فالحركة محاصرة بضرب من السكون ، عبر : تضادات الألوان ، وتضادات
المعالجة الملمسية .. فالرسام المنشغل بعمل الأصابع والشم والبصر
لا يغادر عمل الذهن : فاللوحة تبث نظام تصادماتها كديمومة في الاتصال ..
بيد إنها تقول الذي يدوّن .. تقول إنها تريد ان تدوّن الذي تريد إيصاله ، وكأنها
تعيد الحياة لمغزى ( الشيء في ذاته ) الذي
صار مزدوجا : ان المسافة القصية في بلوغها لامرئيها تعلن عن وجودها مرئيا ، كما
تحافظ على أسرار نظامها في تدفقاته وانفجاراته ، كأنه لا يرسم ، بل كأنه يلتقط
ويتلمس ، بمعنى انه يحافظ على حالة المشهد وفي الوقت ذاته يصير جزءا منه . وقد
تكون عوامل عصرنا المتداولة عبر الفضائيات ومشاهدها المتسارعة قد دفعت بالفنان الى
ضرب من التشفير : فهو يتخلى عن مفاهيم الرسم ، وليس التجريد، عنده ،فخامة أو لذات
جمالية ، بل بوحا يبلغ حد تنظيم التقاطعات والاعتراضات والتبعثرات فنيا. فالفنان
ينظم التصدعات ، داخل زمنها وخارجه ، واضعا علاماته تحت الرقابة ، والمقارنة . فالواقعية لا تحافظ على المعنى أو تدمره ، بل تضعنا في مأزق الاختلاف : التضاد
وقد صار علامة لنا ، مع انه ، يحافظ على خطاب عام ، وجد لمساته في معالجات مشفرة ،
بما يذهب وراء الكلام ، والسرد ، والاعتدال .
[ 3
] أصوات
إنها نصوص صوتية . فعلى العكس من واقعية الكم
التي تحدث عنها الرائد محمود صبري – في أوائل
الأربعينيات – تصير الموجات ،
البصرية ، سمعية . عمليا إنها تذهب بنا لاسترجاع
احتمالات [ 1 ] الموجات [ 2 ] الكلمات [ 3 ] والاحتواء ، أو ديمومة
الاندماج . فالأصوات تغدو مرئية مع إنها
ترجعنا ، في اكثر العلوم حداثة ، الى الصمت . بيد ان الصمت هو الوجه الآخر ، الخفي
، للمشهد الصوتي . والفنان الذي خلع ، وابعد ، ونفى التشخيص ، وجد انه أمام فضاء
اللا أصوات .. فكيف يبرهن ، في المغزى الاختزالي والصوفي على كثافة لحظاته النابضة
، الثرية بكنوزها ، ان لم يجعل الحضور مشفرا ًبعدمه . فالاصوات لا تأتي بحسب نظام الاستقرار ، والعادات ،
وانما بالتصادم والانسجام التشكيلي ، مثل نظام المصادفات ، لا ينفصل عن سياقه
الحتمي .. فهو يعلن دويه ، لحظة الانبثاق ، جاعلا من الصوت نداءً كونيا / بشريا .
فالحواس لا تخترع الأفكار، كما إنها لا توجد نفسها : إنها تكمل ماضيها ، فهي بلا
مستقبل مثلما هي أبدا على حافة الانهيار . فلأصوات تحدث بدافع الخلخلة ، بعيدا عن
الثابت والقواعد التي اكتسبت شرعيتها . الرسام يتمسك بصدى ما قديم وقائم على
التحولات : من الدوي الى الانسجام ، ومن العمق الى السطوح ، ومن الصمت الى الصدى :
أصوات لا تخترعها حاسة السمع ، ولا الذهن ، كما إنها لا تبرهن على تاريخها إلا عبر
هذا الاكتفاء الناقص . فالوجود ضرورة لانه يتمم مصيره ، مثلما الأصوات تغدو إشارات
حرة لفراغ بلا حافات : أصوات لا تبعث على
الإمتاع ، بل تتفتت وتتجمع خارج تاريخ السرد ، والوظائف .. فهل ثمة نزعة مضادة
للجمال ،يؤكدها زكو بصفتها علامة عصر تتكاثف فيه النهايات .. أم هي الاضطرار للقبول
بهذا المرور ؟ معا تبقى الأصوات تحمل لاتاريخها .. فهي لا تمثل تراكما ، ولا صقلا
لخاماتها ، بل توكد وكأنها تحمل زوالها معها . لكنها – مع ذلك – تصير رواية يرويها بصريا ، استنادا الى مديات الأصوات ، وتنافرها الدائم . فنصوصه
لا تستقر ، مثل بنية الوجود التي الرسام نفسه فيها عنصرا فائضا بحكم قوانين وجوده
. الأصوات التي تواصل بثها للغة لا تتوقف عند الحكمة ، والوصايا : لغة ليست
للتمجيد ، ولكنها تتشكل عبر انبثاقاتها ، في تشتتها ، وتبعثرها ، وفي مركزها الذي
هو الرائي / المشاهد / النص.
[ 4 ]
فضاءان
تتحكم آلية العمل ، بالحدس والتجريب ، وبفعل
تداخل أثر مثاليات الفلسفة ، ومختبرات علم النفس والفيزياء الحديثة ، بإجراء
مقارنة بين الفضاء الخارجي ، فضاء الأكوان ، والفضاء الداخلي اللانهائي في تلاشيه
.. إنها مقارنة بين كون قيد الاتساع ، ووجود آخر لا يقل سرية حد ان عدم إدراك ماهيته تجعلنا ندرك إننا
أدركنا مثل هذه الاستحالة. ان وسام زكو ، في مثله الشفافة ، وبما يحمله من لا
عدوانية ، ورهافة شعرية ، عمد الى صياغة أشكاله وكأنها تقع بين المنطقتين ، لكنه
عمليا يدمج البصر بالفراغ ، فثمة حركة دائرية نحو الداخل ، مرة ، ونحو الاتساع مرة
أخرى .. بيد انهما يتداخلان في رسم أبعاد الشكل الملغي . لأن حدود الشكل تبقى
متصلة برؤيته ( يده وبصره ) . ومعنى الشكل الملغي ( المرئي ) ان الفنان يعمد غالبا
لتصور النص الكلي مندمجا وليس منقسما : كون الكون بنية بلا حدود ، وان المكان فيها
لا يظهر إلا بما يختاره الرائي . انه المكان الذي يتحرك بعيدا عن القياس ، بعيدا
عن الزمن ، لكنه يبقى يجسد هاجس الفنان المثير للقلق .. فالجانب النفسي لا يجد
معادلا إلا بالغاز التباين اللوني والملمسي والعضوي والهندسي .. الخ الاكثرصلة
بالبعد الجمالي ، وليس في الفضاء الاجتماعي . فالفنان يتخلى عن المعنى ، منحازا
لضرب من التوغل في رحلات تعكس طبائع الاحتمالات في التعامل مع بنائية النص وهدمه .
فالنص لا يحمل ألغازا أو أسئلة إلا بصفته رائيا ومرئيا ً، دامجا الدال بالمدلول ،
والانا بالكل . فالنص ( الشكل وعناصره العاملة والمؤلفة له ) لفضاء كلي انتزعت منه
الحدود ، وغدت رمزا مشفرا للذي يخضع للحكم أو التأويل والشرح . انه يكتم بجلاء كل
الذي نراه حرية ليس لها إلا نظام الفضاء الكلي ذاته : فالنص يسهم بالبث ، والمستلم
يشتغل على الاستلام ، لكن ، بعد تحديد القصد الفني ( الجمالي والرمزي ) تعبيرا
يمتلك حدود تلك الحرية المستمدة من فجوات مشغولة بلعب منظم أسمه فن الرسم .
فالفنان يلتقط غياب الزمن ، جاعلا منه زمنا خالصا.. فهل بكثافته يصدمنا بالمكان ؟
ان استحالة أدراك حدود السر تغدو مدرجا للتذوق ، واكتساب العملية الجمالية بعدا
فلسفيا ( تكراريا ومتجددا ) مكونا فضاءً لا يقل جاذبية عن مرجعياته ولا يقل بلاغة عن أسباب انبثاقه ، وغيابه عبر هذا الحضور .
[ 5 ] صخور
لا يغيب المكان ، لان الرسام
يضعنا على حافاته : اننا نستعرض مصائر العناصر وتحولاتها : النار والصخور وكأن أولى الخلايا الحية في طريقها الى
الوجود . لكن الرائي يحفر ، وينقش ، مختبئا . فهو لا يدمج آلية عمله بما يبصر . ثمة مسافة تغدو ، في نهاية
التجربة ، مكانا للكثافة . ان حاضره معزول ، منفصل ، وليس بانتظار التمجيد أو الذم
. ثمة براكين بكر وغليانات قد تبدو انها تتحدث عن سيكولوجية الفنان ، وقد لا نبعد
هذا الاحتمال ، لكن موضوعية الامتداد تصبح خلية تصف مغزاها التوليدي . انها لا
تتكلم عن موتنا ، ولا تبشر بعصر ما بعد الخرافات والأساطير ، لأن الرسام يرسم
تصادم الكثافات : صخور النار وصخور
الفلزات الآخذة بالتصلب حيث الزرقة ولذائذ الفيروزي ونداء الاخضرار الأرضي وخيوط
الحنين في تشكله الإيحائي بألوان باثات التشكل ، كلها تجعل المكان غائبا في مثل
هذا الحضور . فالرسام لا يصنع أقنعة ، كما لا يسهم بمنح التعبير دلالات ذاتية ..
فالموضوع يمر ، يقفز ، وكأنه أرواح لا تمتلك
إلا هذا الظهور المفاجئ . فلا ثنائية
أخلاقية تتجانس مع الجمال لصالح التعبير ، بل الوحدة التي يصير الرسام
/المشاهد ، بلورا للمرور . اننا نولد ليعبر موتنا عبرنا . ومثل هذا المعنى ، غير
الاسطوري ، لا ينتظر أسطرة . ان مشاهد
النار والولادات المجهرية تفترض اخنلافا
متجانسا بين الوجود الاخر ، والنص ، والذي يتكون لدينا . انه المعنى ذاته الذي
رسمه أول رسام : معنى الباث لدى المستلم ، لكن الرسام لا يشتغل عند أحد ،
وربما لا يعمل حتى لصالح نفسه . فهو يتمسك
بالمكان الذي لا تبقى صخوره / عناصره ، لا
تتكلم اكثر من محاولة فك لغة العناصر : فك الذي انتشر بلا حدود ، وتجمع في مركز لا
ينتظر إلا مداه في الانتشار .فالرسام لا
يلعب ، لا يلعب داخل لعبة هي من اختراعه ، بدافع الكسب أو اللامبالاة الشفافة ، بل
يندمج .
انه يضعنا في سياق
التدحرج ابدا ًداخل عالم تتكون فيه التتمات بحسب عواملها الابدية . فالرسام لا
يصنع أمثلة ، أو علامات مسافة ، بل يدمج الكل في بؤرة ، وفي كل وثبة ، كالرائي
الذي انصهرت عنده المرجعيات لتصبح بكرا ً ، بلا
ماض . لأن لا ماض للماضي ، مثلما
اذا حددنا ملامح الغد ، فكأننا جعلنا الحتميات خالية من تدفقها ، ان لم نقل
– بلغتنا – من الترقب والتوق . ان وسام زكو يصير مادته ، مكانا مضادا ، بفعل
التضاد ، وبفعل اطيافه المكانية ، لانه
ابعد الزمن ، كوثن ، وجعله خال من القيود.
[ 6
] المتناهي متسعا ً
يصير النص علامة مزدوجة : مبعثرة ، عشوائية حد استحالة فك
شفراتها ، وعلامة هي من صنع الحساسية وجماليات التشتت . ويصير النص ، في سياق جدله
، تضاداته وباثاته ووحدته ، إشارة لمشاهد كونية : رصد مليارات الأجسام عبر اتساعها اللامحدود ، وومضات أكوان
نائية ، لا تبدو لقطات لمجرات زائلة ، بل لصمت اتخذ أشكاله عبر فضاء الامتداد ..
ويصبر النص ، في الوقت نفسه ، جزءا مكبرا لخلية ، لذرة ، حيث الداخل لا يكف ينطق بتكويناته . فالرسام يتوقف
مصورا لامرئيات الأشكال ، وتعرجاتها،
وتداخلاتها ، وديمومتها في بث الذي يبقى لا ينتظر الشرح أو التأويل . انه لا يفسر
، بل يكرر الذي لا يتكرر إلا عبر ملغزات الوجود ، الوجود المتصل بفضاءات وكتمانات
النفس ، حيث الازدواج وحدة : لغة تقول عبر الرسام الذي لا يقول إلا بما يتجاوز
الشرح . وثمة مسافة ملغية بين الاتساع والانسجام حد التلاشي ، مسافة الأنا ، والرسام
، والمشاهد تجعل إعادة الرسم ، مضادة
للتكرار ..فالمصادفات ينظمها خصب التجدد ، وخصب آليات عمل الخيال ، وعمل التحرر من
الاستنساخ : فالرسام ، بدافع المسافة الملغية بين الحافات ، يصور التجانس ،
والصفاء المستحيل . انه يهدم أساطير العلامات ، في الاتساع أو في تصوير المتناهيات
، راسما الوحدة ، والاندماج ، والتبعثر ، كتكرارلا يحدث إلا عبر باثاته المتجددة .
وقد لا يتفرد الرسام في هذا المسار تفرد الرسام التشخيصي أو التعبيري بدافع تمثلات
هذا الخطاب ، إلا ان تحريات المشاهد ، وصياغته لمنجز لم يصر ميتا، يجعل الماضي في
ديمومة تامة . انه المغزى الكامن داخل الأثر / النص ، مغزى اللامعنى –
اللازمن ، في ترتيبه للمعاني والأزمنة . فالنص يحمل لوعة غيابه وحضوره معا : غياب
الذي اختفى داخل المشهد ، وحضور الذي يعيد صياغة ذاكرة جمالية خارج تقاليد الحرفة
، والعادات ، والسرد . فالنص يحمل تاريخ نهايته ، أي تاريخ افتتاح الومضات . ثمة
استلام وبث لا يبحث عن مصطلحات ، بل عن راء ِ : انه تكرار لحكمة الذي لا يموت ( يهلك ) ، كضرورة ، في وجود لا يني
يجعل ملغزاته مساحة للمغادرة والإياب . ان
فنه مضاد لمفهوم اللعب ، في حداثة تجاوزت اسطرتها .. فهو يندمج ، يتطهر ، وربما
يجعل من الدوي صمتا للذكرى .فالرسم لا يتقاطع مع مخفياته ، ومع عدمه الذي جرجرنا
وجعلنا في موقع الاعتراف ، وفي موقع البوح أيضا.
[ 7
] عزلة / تضاد / وصفر
ان
نصوص ما بعد الحداثة، في الرسم العربي المعاصر ، لا تخون عالمية الفن ..
بيد انها تبقى ، ثمرة مأزق ، وعزلة .
فالتحولات الكبرى دفعت بالاستهلاك الى
أقصاه ، بل وجعله مبتذلا قياسا بقواعد الذكرى ، وعادات الرسم ، وهي عادات الحضارات
وتقاليدها . والعزلة ، في مجتمعات صار فيها الرائي غائبا ، مندمجا ، ضمنا عبر سياق
كلي للتحولات ، لا تمثل عقلانية أو عاطفة غوايات : انها ليست عزلة آسف ، بجذورها
الرومانسية ، لكنها لا تقدر ان تخفي قدرها المؤلم . ووسام زكو ، مع جيل نهاية القرن
العشرين ، وبدايات العشر الاول لقرن تتحكم فيه تراكماته واندفاعاته ، لا يسلك ، في
بصرياته ، سلوك المراقب ، والراصد . انه مشغول بالعثور على ترتيبات نظامه الثقافي
، في كل صار متصلا ، حيث العزلة لم تعد علامة ، أو اشارة لخسارات متوقعة .
فالتراكمات ، والاستهلاكات ، لم تدفع بالثراء الى الكفاية، بل الى العوز : ثمة ظمأ
حواسي للارتواء المستحيل . انها ما بعد حداثة ليست بحاجة الى اليقين . فالرسام
يكوّن رسوماته ليغادرها .. لأنه سيبقى مهاجرا/ ومهجورا ً، من مكانه ، وبعيدا عن
زمنه . فليس الحنين هو الذي يصنع النص ، بل الحنين ذاته غدا مفارقة تجتهد بعقلنة
بناء تبعثرات الرؤى والعناصر . فالتراكم يّولد ديمومته : هذا التعاقب للامساك بكل
المفقودات ، والغائبات . فالظمأ كيان يجعل الفجوات والفراغات مقبولة ان لم تكن
حتمية . فالرسام لا يذهب الى اهداف محددة ، بل تغدو السرابات أقوى من هيمنات
الاساطير ، ومحركات الاقنعة . فالرسام يفتت مشاهده ، ويذهب الى الفضاءات ، أو يقبع
في اللامرئيات التي صارت أسلوبا . فالتراكم بمثابة التعبير المجمع خارج الاستعارة
. فالرسام لا يرى ، ولا يستعير . انه يصنع
ويحتفل حيث عاطفته صارت ترتب وحدة الاتصال والديمومة . فهل ثمة ( موت ) بدأ بالاله
ومر بالفن وانتهى بانسان القناعات الواهية أعتى من ولادات تولد بعيدا عن الغوايات .. اليس الفن باسره
ينحرف داخل عزلته ليبقى حاضرا ً ، مشغولا الا يبقى العماء الا
مادة العلم المعاصر ، ومادة الاخلاق بعد ان بترت عنها عادات المكان ،
والغاز الزمن . اليس الفن في اختزالاته
يكثف غيابه هذا الذي يبقينا في التوهج ، داخله ، أو بمحاذاته ؟ لأن النص نفسه صار
ذاتا ً تريد ان تقول الذي لا تقوله ذات الفنان . انه ليس الشيء في ذاته [ الكانتي
] ، وانما الشيء في ذاته وقد صار الفنان لغز نفسه . لأن النص المجمع في هذه الحالة
، غدا ( أنا ) فائضة لكنها اخذت سياقها في
الظهور .. كما ان عملية استرداد اشكال قيد الاندثار ، لا تبرهن الا على عاطفة بلغت
درجة الصفر . لانها لا تنطق ذاتها الا بصفتها كلية . فالفراغ لا يتكون الا مجمعا
باضداده ، لكنه لا يتراكم ، ولا يمتد . فهو لا يمجد سلطة الا هذه التي نراها تمارس
الهدم ، والتفكيك . فالرسام يكتفي بالذي يحفر / يدوّن / يؤشر ، انتظاره . انه يقف
حيث توقفاته حركة . ثمة توق بديل للتسلسل ، حيث التعاقب يكمن في الصفر .. ففي
نصوصه تضادات وانسجامات ما هي الا بؤر مرور : انقطاعات يردمها باوهام الحركة
والتعاقب . فالنقطة مسافة مؤجلة : وهم الفن ، هنا ، وفي خطاب يكتسح ويبتلع
البراءات والكيانات الاليفة ، يخفي داخله استنادا ً لسطوح مقلوبة ، معوجة ، صادمة
، بغية تقليص التعبير وهو لا يكف يأمل الا يجد وهما أقوى بوحا ً من هذا الاعتراف ،
ومن ذهاب يجعل الدورة كاملة ، حتى لو وقعت في لا حافاتها المستحيلة . فالرسم ، مثل
رسم الكلمات ، يخفي الذي يريد ان يجعله هناك ، بعيدا عنا ، بعد ان وهبنا كتماناته
، وملغزاته . انه معنا حيث غيابنا لا يصدع بالانتظارات ، بل يلمُم ، ويلملم ، كل
هذا التبعثر ، وكل هذه المسافات ، في نص صار صفرا ً .