الخميس، 27 ديسمبر 2012

وسام زكو-فضاءات الامتداد ودينامية الصفر




وسام زكو
فضاءات الامتداد ودينامية الصفر


  عادل كامل

[ 1 ]   شذرات

        ما الذي يريد ان ينجزه جيل خرج بشكل من الأشكال من ثلاثة حروب أسطورية في عصر ما بعد الحداثة ( 1980 2003 ) وهو يدرك ان التقدم باتجاه الغد ، لا يبعده عن شبح التدحرج في المجهول : جيل ترك خلفه الأوائل والرواد وكل من حاول تلبس أقنعة الحداثات والمغامرات الفنية .. ليتلمس منطق عصر ( رفاهيات ) واستبصارات ملتبسة ، على صعيد المدلولات ، أو على صعيد التشبث بدالات الامتحان ..؟  ان سمات هذا الجيل ، لم تظهر ، في التشكيل العراقي إلا عبر وثبات داخل اغراءات استعادة أحلام استلبت ، وكينونات ما زالت تحمل قرون من الوباءات والطوفانات  والاغترابات  والحروب الداخلية .بمعنى [ 1 ] هل تولد تجارب هذا الجيل ، خارج إمبراطورية التنازع ، والخوف حد الصمت  [ 2 ] وهل للأمل ، في زمان غدت فيه التقنيات تفكر ، معنى [ 3 ] وهل للجوهر ، في الاستهلاك ، وتحول الفن الى علامات تصادم وتنافس ، قدرة إبداع مصيره ، وجعلنا نبني ، داخل تاريخ عريق للإبداع والمقاومة ، الخطاب بما يجعله توليديا ، وليس استرجاعيا ، يمتلك ذاته ، بعيدا عن الاستعارات ، ممتلئا وليس خاويا ، في الفضاء وليس داخل الأقنعة ؟  
 
[ 2 ] تبعثر

     لا تتشكل نصوص وسام زكو وكأنها تتمة لتجارب عراقية سابقة ، بل تصدمنا بتشكيلات بالغة التبعثر . إنها ليست مفككة أو اعتمدت التلصيق والبناء .  ولكنها تبقى تحافظ على وحدتها ومركزها وكأنها استعارات حرص الفنان ان يجعلها أقرب الى مشاهد النجوم والبراكين والبكتريا . فالتبعثر يلمّح ضمنا وكأن الاستقرار أو التوازن أو المسرة رمزيا- ليس إلا حالة تتداخل مع الديمومة العامة للمشاهد . بيد ان نصه لا يقص ولا يحكي . انه لا يدفع بالرسم الى الصفر ، ولا يصمت ،  لأنه ينقلنا الى مناطق الخلخلة . ثمة تدفق أوانفجارات لها مغزاها النفسي المندمج بالخامات والتكنيك . فالفنان يسمح للعناصر ان تتنقل عبر فجوات لا تحصى .. ومسؤوليات المراقب / المشاهد ، تغدو افتراضية . لأن الأخير لن يجد لذّات  أو معان بعيدا عن تنقيبا ته في النص . هذا الاحتمال ، عند الفنان ، دفع بالنص ليأخذ مسارا آخر في التأمل  وفي قلب عادات التذوق التي رافقت الرسم التقليدي ، وحداثته المستعارة . فالفنان ينقلنا الى  المواقع المشتركة ، خارج تاريخ الرسم ،بمعنى انه يتمسك بالمرئيات والخامات والمشاهد البكر .. فالعناصر هي ذاتها تتكون عبر زمن النص ، ورؤية الفنان ، ذاتها ، هي التي تعلن عن اشتغاله في تفحص التبعثر المشترك بينه وبين الخارج . ربما انجذب إليها ، أو ، عاد الى مفهوم التعبير وصاغه بحذف تام ، وربما وجد انه يتجانس معها . فالفنان يغادر ولا يحفر فيه ذكراه . لكن الاسم يتداخل بطبيعة الفعل .. فالاسم الذي لم يك له وجود ، قبل الفعل ، يصير علامة : يصير فجوة مشغولة بإحكام وكأن الفراغ بمعانيه كافة يجعل التضاد وحدة تدفعنا للقبول بالتبعثر . فالنص هو ذرات مذابة ، كقطعة سكر ، في فضاء ساخن : إنها الذرات لا تخفي اندماجها ، بل تصوره ، وتقتنصه ، لتعلنه تاما .. فالحركة محاصرة بضرب من السكون ، عبر : تضادات الألوان ، وتضادات المعالجة الملمسية .. فالرسام المنشغل بعمل الأصابع  والشم والبصر  لا يغادر عمل الذهن : فاللوحة تبث نظام تصادماتها كديمومة في الاتصال .. بيد إنها تقول الذي يدوّن .. تقول إنها تريد ان تدوّن الذي تريد إيصاله ، وكأنها تعيد الحياة لمغزى ( الشيء في ذاته )  الذي صار مزدوجا : ان المسافة القصية في بلوغها لامرئيها تعلن عن وجودها مرئيا ، كما تحافظ على أسرار نظامها في تدفقاته وانفجاراته ، كأنه لا يرسم ، بل كأنه يلتقط ويتلمس ، بمعنى انه يحافظ على حالة المشهد وفي الوقت ذاته يصير جزءا منه . وقد تكون عوامل عصرنا المتداولة عبر الفضائيات ومشاهدها المتسارعة قد دفعت بالفنان الى ضرب من التشفير : فهو يتخلى عن مفاهيم الرسم ، وليس التجريد، عنده ،فخامة أو لذات جمالية ، بل بوحا يبلغ حد تنظيم التقاطعات والاعتراضات والتبعثرات فنيا. فالفنان ينظم التصدعات ، داخل زمنها وخارجه ، واضعا علاماته تحت الرقابة  ، والمقارنة . فالواقعية لا  تحافظ على المعنى  أو تدمره ، بل تضعنا في مأزق الاختلاف : التضاد وقد صار علامة لنا ، مع انه ، يحافظ على خطاب عام ، وجد لمساته في معالجات مشفرة ، بما يذهب وراء الكلام ، والسرد ، والاعتدال .  


[ 3 ]  أصوات

      إنها نصوص صوتية . فعلى العكس من واقعية الكم التي تحدث عنها الرائد محمود صبري في أوائل الأربعينيات تصير الموجات ، البصرية ، سمعية . عمليا إنها تذهب بنا لاسترجاع  احتمالات [ 1 ] الموجات [ 2 ] الكلمات [ 3 ] والاحتواء ، أو ديمومة الاندماج . فالأصوات تغدو مرئية  مع إنها ترجعنا ، في اكثر العلوم حداثة ، الى الصمت . بيد ان الصمت هو الوجه الآخر ، الخفي ، للمشهد الصوتي . والفنان الذي خلع ، وابعد ، ونفى التشخيص ، وجد انه أمام فضاء اللا أصوات .. فكيف يبرهن ، في المغزى الاختزالي والصوفي على كثافة لحظاته النابضة ، الثرية بكنوزها ، ان لم يجعل الحضور مشفرا ًبعدمه . فالاصوات  لا تأتي بحسب نظام الاستقرار ، والعادات ، وانما بالتصادم والانسجام التشكيلي ، مثل نظام المصادفات ، لا ينفصل عن سياقه الحتمي .. فهو يعلن دويه ، لحظة الانبثاق ، جاعلا من الصوت نداءً كونيا / بشريا . فالحواس لا تخترع الأفكار، كما إنها لا توجد نفسها : إنها تكمل ماضيها ، فهي بلا مستقبل مثلما هي أبدا على حافة الانهيار . فلأصوات تحدث بدافع الخلخلة ، بعيدا عن الثابت والقواعد التي اكتسبت شرعيتها . الرسام يتمسك بصدى ما قديم وقائم على التحولات : من الدوي الى الانسجام ، ومن العمق الى السطوح ، ومن الصمت الى الصدى : أصوات لا تخترعها حاسة السمع ، ولا الذهن ، كما إنها لا تبرهن على تاريخها إلا عبر هذا الاكتفاء الناقص . فالوجود ضرورة لانه يتمم مصيره ، مثلما الأصوات تغدو إشارات حرة لفراغ بلا حافات : أصوات  لا تبعث على الإمتاع ، بل تتفتت وتتجمع خارج تاريخ السرد ، والوظائف .. فهل ثمة نزعة مضادة للجمال ،يؤكدها زكو بصفتها علامة عصر تتكاثف فيه النهايات .. أم هي الاضطرار للقبول بهذا المرور ؟ معا تبقى الأصوات تحمل لاتاريخها .. فهي لا تمثل تراكما ، ولا صقلا لخاماتها ، بل توكد وكأنها تحمل زوالها معها . لكنها مع ذلك تصير رواية يرويها بصريا ، استنادا  الى مديات الأصوات ، وتنافرها الدائم . فنصوصه لا تستقر ، مثل بنية الوجود التي الرسام نفسه فيها عنصرا فائضا بحكم قوانين وجوده . الأصوات التي تواصل بثها للغة لا تتوقف عند الحكمة ، والوصايا : لغة ليست للتمجيد ، ولكنها تتشكل عبر انبثاقاتها ، في تشتتها ، وتبعثرها ، وفي مركزها الذي هو الرائي / المشاهد / النص.

[ 4 ]   فضاءان

      تتحكم آلية العمل ، بالحدس والتجريب ، وبفعل تداخل أثر مثاليات الفلسفة ، ومختبرات علم النفس والفيزياء الحديثة ، بإجراء مقارنة بين الفضاء الخارجي ، فضاء الأكوان ، والفضاء الداخلي اللانهائي في تلاشيه .. إنها مقارنة بين كون قيد الاتساع ، ووجود آخر لا يقل  سرية حد ان عدم إدراك ماهيته تجعلنا ندرك إننا أدركنا مثل هذه الاستحالة. ان وسام زكو ، في مثله الشفافة ، وبما يحمله من لا عدوانية ، ورهافة شعرية ، عمد الى صياغة أشكاله وكأنها تقع بين المنطقتين ، لكنه عمليا يدمج البصر بالفراغ ، فثمة حركة دائرية نحو الداخل ، مرة ، ونحو الاتساع مرة أخرى .. بيد انهما يتداخلان في رسم أبعاد الشكل الملغي . لأن حدود الشكل تبقى متصلة برؤيته ( يده وبصره ) . ومعنى الشكل الملغي ( المرئي ) ان الفنان يعمد غالبا لتصور النص الكلي مندمجا وليس منقسما : كون الكون بنية بلا حدود ، وان المكان فيها لا يظهر إلا بما يختاره الرائي . انه المكان الذي يتحرك بعيدا عن القياس ، بعيدا عن الزمن ، لكنه يبقى يجسد هاجس الفنان المثير للقلق .. فالجانب النفسي لا يجد معادلا إلا بالغاز التباين اللوني والملمسي والعضوي والهندسي .. الخ الاكثرصلة بالبعد الجمالي ، وليس في الفضاء الاجتماعي . فالفنان يتخلى عن المعنى ، منحازا لضرب من التوغل في رحلات تعكس طبائع الاحتمالات في التعامل مع بنائية النص وهدمه . فالنص لا يحمل ألغازا أو أسئلة إلا بصفته رائيا ومرئيا ً، دامجا الدال بالمدلول ، والانا بالكل . فالنص ( الشكل وعناصره العاملة والمؤلفة له ) لفضاء كلي انتزعت منه الحدود ، وغدت رمزا مشفرا للذي يخضع للحكم أو التأويل والشرح . انه يكتم بجلاء كل الذي نراه حرية ليس لها إلا نظام الفضاء الكلي ذاته : فالنص يسهم بالبث ، والمستلم يشتغل على الاستلام ، لكن ، بعد تحديد القصد الفني ( الجمالي والرمزي ) تعبيرا يمتلك حدود تلك الحرية المستمدة من فجوات مشغولة بلعب منظم أسمه فن الرسم . فالفنان يلتقط غياب الزمن ، جاعلا منه زمنا خالصا.. فهل بكثافته يصدمنا بالمكان ؟ ان استحالة أدراك حدود السر تغدو مدرجا للتذوق ، واكتساب العملية الجمالية بعدا فلسفيا ( تكراريا ومتجددا ) مكونا فضاءً لا يقل جاذبية عن مرجعياته ولا يقل  بلاغة عن أسباب  انبثاقه ، وغيابه عبر هذا الحضور . 

 

[ 5 ] صخور

 

     لا يغيب المكان ، لان الرسام يضعنا على حافاته : اننا نستعرض مصائر العناصر وتحولاتها : النار  والصخور وكأن أولى الخلايا الحية في طريقها الى الوجود . لكن الرائي يحفر ، وينقش ، مختبئا . فهو لا يدمج آلية  عمله بما يبصر . ثمة مسافة تغدو ، في نهاية التجربة ، مكانا للكثافة . ان حاضره معزول ، منفصل ، وليس بانتظار التمجيد أو الذم . ثمة براكين بكر وغليانات قد تبدو انها تتحدث عن سيكولوجية الفنان ، وقد لا نبعد هذا الاحتمال ، لكن موضوعية الامتداد تصبح خلية تصف مغزاها التوليدي . انها لا تتكلم عن موتنا ، ولا تبشر بعصر ما بعد الخرافات والأساطير ، لأن الرسام يرسم تصادم الكثافات  : صخور النار وصخور الفلزات الآخذة بالتصلب حيث الزرقة ولذائذ الفيروزي ونداء الاخضرار الأرضي وخيوط الحنين في تشكله الإيحائي بألوان باثات التشكل ، كلها تجعل المكان غائبا في مثل هذا الحضور . فالرسام لا يصنع أقنعة ، كما لا يسهم بمنح التعبير دلالات ذاتية .. فالموضوع يمر ، يقفز ، وكأنه أرواح لا تمتلك  إلا هذا الظهور المفاجئ . فلا ثنائية  أخلاقية تتجانس مع الجمال لصالح التعبير ، بل الوحدة التي يصير الرسام /المشاهد ، بلورا للمرور . اننا نولد ليعبر موتنا عبرنا . ومثل هذا المعنى ، غير الاسطوري ، لا ينتظر  أسطرة . ان مشاهد النار والولادات المجهرية  تفترض اخنلافا متجانسا بين الوجود الاخر ، والنص ، والذي يتكون لدينا . انه المعنى ذاته الذي رسمه أول رسام : معنى الباث لدى المستلم ، لكن الرسام لا يشتغل عند أحد ، وربما  لا يعمل حتى لصالح نفسه . فهو يتمسك بالمكان الذي  لا تبقى صخوره / عناصره ، لا تتكلم اكثر من محاولة فك لغة العناصر : فك الذي انتشر بلا حدود ، وتجمع في مركز لا ينتظر إلا مداه في الانتشار .فالرسام  لا يلعب ، لا يلعب داخل لعبة هي من اختراعه ، بدافع الكسب أو اللامبالاة الشفافة ، بل يندمج .
     انه يضعنا في سياق التدحرج ابدا ًداخل عالم تتكون فيه التتمات بحسب عواملها الابدية . فالرسام لا يصنع أمثلة ، أو علامات مسافة ، بل يدمج الكل في بؤرة ، وفي كل وثبة ، كالرائي الذي انصهرت عنده المرجعيات لتصبح بكرا ً ، بلا  ماض . لأن لا ماض للماضي ، مثلما  اذا حددنا ملامح الغد ، فكأننا جعلنا الحتميات خالية من تدفقها ، ان لم نقل – بلغتنا – من الترقب والتوق . ان وسام زكو يصير مادته ، مكانا مضادا ، بفعل التضاد ، وبفعل اطيافه المكانية  ، لانه ابعد الزمن ، كوثن ، وجعله خال من القيود. 


[ 6 ] المتناهي متسعا ً

يصير النص علامة مزدوجة : مبعثرة ، عشوائية حد استحالة فك شفراتها ، وعلامة هي من صنع الحساسية وجماليات التشتت . ويصير النص ، في سياق جدله ، تضاداته وباثاته ووحدته ، إشارة لمشاهد كونية : رصد مليارات  الأجسام عبر اتساعها اللامحدود ، وومضات أكوان نائية ، لا تبدو لقطات لمجرات زائلة ، بل لصمت اتخذ أشكاله عبر فضاء الامتداد .. ويصبر النص ، في الوقت نفسه ، جزءا مكبرا لخلية ، لذرة ، حيث الداخل  لا يكف ينطق بتكويناته . فالرسام يتوقف مصورا  لامرئيات الأشكال ، وتعرجاتها، وتداخلاتها ، وديمومتها في بث الذي يبقى لا ينتظر الشرح أو التأويل . انه لا يفسر ، بل يكرر الذي لا يتكرر إلا عبر ملغزات الوجود ، الوجود المتصل بفضاءات وكتمانات النفس ، حيث الازدواج وحدة : لغة تقول عبر الرسام الذي لا يقول إلا بما يتجاوز الشرح . وثمة مسافة ملغية بين الاتساع والانسجام حد التلاشي ، مسافة الأنا ، والرسام ، والمشاهد تجعل  إعادة الرسم ، مضادة للتكرار ..فالمصادفات ينظمها خصب التجدد ، وخصب آليات عمل الخيال ، وعمل التحرر من الاستنساخ : فالرسام ، بدافع المسافة الملغية بين الحافات ، يصور التجانس ، والصفاء المستحيل . انه يهدم أساطير العلامات ، في الاتساع أو في تصوير المتناهيات ، راسما الوحدة ، والاندماج ، والتبعثر ، كتكرارلا يحدث إلا عبر باثاته المتجددة . وقد لا يتفرد الرسام في هذا المسار تفرد الرسام التشخيصي أو التعبيري بدافع تمثلات هذا الخطاب ، إلا ان تحريات المشاهد ، وصياغته لمنجز لم يصر ميتا، يجعل الماضي في ديمومة تامة . انه المغزى الكامن داخل الأثر / النص ، مغزى اللامعنى اللازمن ، في ترتيبه للمعاني والأزمنة . فالنص يحمل لوعة غيابه وحضوره معا : غياب الذي اختفى داخل المشهد ، وحضور الذي يعيد صياغة ذاكرة جمالية خارج تقاليد الحرفة ، والعادات ، والسرد . فالنص يحمل تاريخ نهايته ، أي تاريخ افتتاح الومضات . ثمة استلام وبث لا يبحث عن مصطلحات ، بل عن راء ِ : انه تكرار لحكمة الذي  لا يموت ( يهلك ) ، كضرورة ، في وجود لا يني يجعل ملغزاته  مساحة للمغادرة والإياب . ان فنه مضاد لمفهوم اللعب ، في حداثة تجاوزت اسطرتها .. فهو يندمج ، يتطهر ، وربما يجعل من الدوي صمتا للذكرى .فالرسم لا يتقاطع مع مخفياته ، ومع عدمه الذي جرجرنا وجعلنا في موقع الاعتراف ، وفي موقع البوح أيضا.

[ 7 ] عزلة / تضاد / وصفر

     ان  نصوص ما بعد الحداثة، في الرسم العربي المعاصر ، لا تخون عالمية الفن .. بيد انها تبقى ،  ثمرة مأزق ، وعزلة . فالتحولات الكبرى دفعت بالاستهلاك  الى أقصاه ، بل وجعله مبتذلا قياسا بقواعد الذكرى ، وعادات الرسم ، وهي عادات الحضارات وتقاليدها . والعزلة ، في مجتمعات صار فيها الرائي غائبا ، مندمجا ، ضمنا عبر سياق كلي للتحولات ، لا تمثل عقلانية أو عاطفة غوايات : انها ليست عزلة آسف ، بجذورها الرومانسية ، لكنها لا تقدر ان تخفي قدرها المؤلم . ووسام زكو ، مع جيل نهاية القرن العشرين ، وبدايات العشر الاول لقرن تتحكم فيه تراكماته واندفاعاته ، لا يسلك ، في بصرياته ، سلوك المراقب ، والراصد . انه مشغول بالعثور على ترتيبات نظامه الثقافي ، في كل صار متصلا ، حيث العزلة لم تعد علامة ، أو اشارة لخسارات متوقعة . فالتراكمات ، والاستهلاكات ، لم تدفع بالثراء الى الكفاية، بل الى العوز : ثمة ظمأ حواسي للارتواء المستحيل . انها ما بعد حداثة ليست بحاجة الى اليقين . فالرسام يكوّن رسوماته ليغادرها .. لأنه سيبقى مهاجرا/ ومهجورا ً، من مكانه ، وبعيدا عن زمنه . فليس الحنين هو الذي يصنع النص ، بل الحنين ذاته غدا مفارقة تجتهد بعقلنة بناء تبعثرات الرؤى والعناصر . فالتراكم يّولد ديمومته : هذا التعاقب للامساك بكل المفقودات ، والغائبات . فالظمأ كيان يجعل الفجوات والفراغات مقبولة ان لم تكن حتمية . فالرسام لا يذهب الى اهداف محددة ، بل تغدو السرابات أقوى من هيمنات الاساطير ، ومحركات الاقنعة . فالرسام يفتت مشاهده ، ويذهب الى الفضاءات ، أو يقبع في اللامرئيات التي صارت أسلوبا . فالتراكم بمثابة التعبير المجمع خارج الاستعارة . فالرسام  لا يرى ، ولا يستعير . انه يصنع ويحتفل حيث عاطفته صارت ترتب وحدة الاتصال والديمومة . فهل ثمة ( موت ) بدأ بالاله ومر بالفن وانتهى بانسان القناعات الواهية أعتى من ولادات  تولد بعيدا عن الغوايات .. اليس الفن باسره ينحرف داخل عزلته ليبقى حاضرا ً ، مشغولا الا يبقى العماء  الا  مادة العلم المعاصر ، ومادة الاخلاق بعد ان بترت عنها عادات المكان ، والغاز الزمن . اليس  الفن في اختزالاته يكثف غيابه هذا الذي يبقينا في التوهج ، داخله ، أو بمحاذاته ؟ لأن النص نفسه صار ذاتا ً تريد ان تقول الذي لا تقوله ذات الفنان . انه ليس الشيء في ذاته [ الكانتي ] ، وانما الشيء في ذاته وقد صار الفنان لغز نفسه . لأن النص المجمع في هذه الحالة ، غدا ( أنا ) فائضة  لكنها اخذت سياقها في الظهور .. كما ان عملية استرداد اشكال قيد الاندثار ، لا تبرهن الا على عاطفة بلغت درجة الصفر . لانها لا تنطق ذاتها الا بصفتها كلية . فالفراغ لا يتكون الا مجمعا باضداده ، لكنه لا يتراكم ، ولا يمتد . فهو لا يمجد سلطة الا هذه التي نراها تمارس الهدم ، والتفكيك . فالرسام يكتفي بالذي يحفر / يدوّن / يؤشر ، انتظاره . انه يقف حيث توقفاته حركة . ثمة توق بديل للتسلسل ، حيث التعاقب يكمن في الصفر .. ففي نصوصه تضادات وانسجامات ما هي الا بؤر مرور : انقطاعات يردمها باوهام الحركة والتعاقب . فالنقطة مسافة مؤجلة : وهم الفن ، هنا ، وفي خطاب يكتسح ويبتلع البراءات والكيانات الاليفة ، يخفي داخله استنادا ً لسطوح مقلوبة ، معوجة ، صادمة ، بغية تقليص التعبير  وهو لا يكف يأمل  الا يجد وهما أقوى بوحا ً من هذا الاعتراف ، ومن ذهاب يجعل الدورة كاملة ، حتى لو وقعت في لا حافاتها المستحيلة . فالرسم ، مثل رسم الكلمات ، يخفي الذي يريد ان يجعله هناك ، بعيدا عنا ، بعد ان وهبنا كتماناته ، وملغزاته . انه معنا حيث غيابنا لا يصدع بالانتظارات ، بل يلمُم ، ويلملم ، كل هذا التبعثر ، وكل هذه المسافات ، في نص صار صفرا ً .

بغداديات عدنان المبارك-عادل كامل




بغداديات عدنان المبارك



عادل كامل




[ولد في البصرة ـ 1935 روائي وقاص ومترجم]





     كان ارنست همنغواي، في خمسينيات القرن الماضي، يستخدم آلة الكتابة (الطابعة)، في تدوين الحوار، وليس في مجالات كالتأمل، أو الوصف، أو التحليل، وتبريره لهذا الاستخدام يتجانس مع عمل (الآلة) في رصد تدفق الأصوات، وما هو متحرك، وتحويله إلى حروف ـ وكلمات.
    عدنان المبارك، القاص والروائي والمترجم، استخدم حاسوبه، للرسم، وليس للكتابة حسب. فالجهاز غدا أداة تؤدي وظيفة الأعضاء (الحواس/الدماغ) بالمدى الذي يتحول فيه الواقع إلى لمحات، وومضات تأخذ تسلسلها في السرد، وفي بناء النص، لا لأن المبرر الوحيد للزمن هو ألا تحدث الأشياء في لحظة واحدة ـ بحسب عبارة لألبرت اينشتاين ـ بل كي تنتظم كما انتظمت حكايات ألف ليلة وليلة عبر مهارات النسج، بصفتها حلم ممتد، في نص اقترن ببغداد ـ وبمدن مماثلة في المكانة، والعلامة. ذلك لأن الكاتب ـ المنشغل بالمراقبة والقص والاسترجاع باستخدام اللغة ـ يرجعنا إلى الأصل: الصور وهي تنبني نسجا ً لدينامية زاخرة، ومكتظة بما لا تستطيع الكلمات إلا ان تكون في عمقه، أو في مناطقه النائية. فالكاتب استخدم حاسوبه بمغامرة تحرير المرئيات وتركها تعمل عمل الحلم: الألوان/ المساحات/ الخطوط/ النقاط/ الملامس..الخ ـ وهي تشتغل متحررة من قيود القصد، الذي تحدث يونج عنه ـ أكثر مما قيده فرويد ـ كومضات تأخذ تسلسلها في المشهد (النص)، الحتمي بحريته، والطليق بقيود هذا النظام؛ فعدنان المبارك لا يستعيد مدينة كانت علامة للعقل ـ والمعرفة ـ وعاصمة اكتمل زمنها في عصر المأمون، أو قبل ذلك، وإنما لأنها حملت علامة مدينة المدن، مثلما لخصتها الليالي، عبر تاريخها التليد.
     فالحاسوب لم يتحول إلى أداة محض، ولكن الكاتب استدرجه ليحرره من آليات عمله، أو منحه الحرية التي كادت تفقد مداها، فالحاسوب يعمل كآلة الطباعة (الكرافيك) وقد تحررت من قيودها التقليدية في الطباعة، كي توظف طاقاتها المضافة، بمنح الحلم قدرة التمتع بالحضور، منبثقا ً من غيابه، أو قد غادر صمته، أو انبثق عن سكنه النائي، ومتجها ً إلى المجهول.  فثمة ذهن حاضر بين حدين ـ الحد الأول هو الماضي والثاني هو كل ما سيصبح ماضيا ًـ  ولكن للحفاظ على مفهوم السرد من غير استخدام لغة، لأن الصور (الأشكال) تؤدي دور الراوي، وهو يبصر، ويراقب، متحررا ً من (الوعي/الذهن) للحفاظ على لحظات الطفل وهو يعيش خارج الزمن، أو بمعزل عنه.
  على ان انشغالات عدنان المبارك، في منفاه بعيدا ً عن المدينة التي عشقها، شبيهة بملاحظة طه حسين حول المتنبي عندما لم ير شيئا ً من سحر الطبيعة إلا عندما رآها في منفاه، لم تمنعه من التفكير بالعناصر السابقة على أدوات التفكير: اللغة، والكاتب يستعيد ديناميتها في عصر غدا مصدرا ً للموت، وفي مقدمتها: اللامبالاة حتى بالموتى، وبالموت ذاته بعد إشارة هيغل حول موت (الفن)، في فلسفة الحق. لأن هذا الذي يحتفل به عدنان المبارك ينبني على مقاومة نادرة لبرمجة عصرنا القائم على: الإنتاج/ الاستهلاك/ الاندثار. فالحياة ـ في رسوماته ـ تحتفي بشاعريتها، موسيقاها، عطورها، ملامسها، فظاءاتها، ألوانها، إن كانت تمثل مواكبا ً جنائزية، أو أعيدا ً، أو أعراسا ً. فالنصوص تحرر المعاني من قيودها، ومن (ذهنيتها)، وتسمح للبراءة ان تعمل عمل اللازمن، وقد سكن التكوين، كعلامات متجاورة، لأن (البراءة) ـ هنا ـ لا تستحيل إلى مدفن، كما أصبحت بغداد مدينة محتضرة بموتاها، بل الحلم ذاته وقد صاغ انعتاقه، وتحوله إلى تلقائية نفذها  بما قصده رسام المغارات، حتى أنها، بعد آلاف السنين، تؤكد أنها مازالت تحافظ على ما هو فيها، حتى لحظة اكتشفانا لها، كي تمتد إلى خارج الجدران، كإطار، وخارج القصد، كسحر تشبيهي، لا لتفضح لغزها، أو تنتهي عنده، بل لتحافظ على ديمومة كتمان هذا الذي أنعتق من الزمن ـ ومن المكان، ومن المعنى في نهاية المطاف.
   في بغداديات عدنان المبارك، تندمج الاستعارة بالمعرفة، الخبرة بالمغامرة، والحواس بالنص في جمالياته، كي لا تأخذ بغداد موقعها كمحض مدينة بين المدن، بل علامة لها موقعها، وكامتداد، أو مدى لم يبلغ  ذروته بعد، في لغز نشأتها البكر: بغداد التي لم تختتم حضورها بالغياب، بل التي أصبح انتظارا ً شبيها بمن لا مناص لا خاتمه له.

السبت، 22 ديسمبر 2012

إلى واحد بن واحدة ... ثانيةً-علي السوداني



إلى واحد بن واحدة ... ثانيةً
علي السوداني
كنتُ أعرفهم من قبل ، لكنني ضيّعتهم الآن ، وحزني عليهم عظيم ، مثل حزن ولد مهذّب أضاع عيدية العيد . أولائك الذين لطعوا طعم الحياة ، على دكة انولاد أول الستينيات الماجدة .
الذين إن شاكسوا أو جاهدوا أو تمادوا في اللعب ، حملوا تحت آباطهم المملوحة بفتوة الأيام ، كتاب النبيّ ، أو نسخة مهشّمة من " طريق الشعب " أو رزمة منشورات ، ستلصق على فجر الزقاق ، مزفوفة بعزف منفرد ، من صفّارة الحارس . الذين انداحوا اختيالاً على خدودهم ، فتعثّروا بصفعة . والذين ساحت دماؤهم ــ بلا كريات حمر ــ على تمثال تروتسكي . والذين باعوا سكائرهم المهرّبة ، على سكارى " الركن الهادئ " بشارع الخيّام . والذين باتوا ليلة شتاء ، تحت قفص فائق حسن . والذين استراحوا على علب " النيدو" في ساحة الطيران ، توطئة لليل سواتر وشقوق الوحشة . والذين وضعوا " تشيخوف " و " المتنبي " فوق دكة نعيم الشطري ، وراحوا يتفكرون بـسعر زجاجة عرق بلدي عتيق . والذين اذا ماجاءهم فاسد بنبأ، استرابوا وتفكّروا ، وزرعوا السبّابات على الخدود ، حتى تبيّنوا . والذين اذا جلسوا جمعاً ، مااستغابوا فرداً . والذين إن شحّ عليهم الماء ، قالوا " العطش العطش ياحسين " والذين إذا ما أسكرتهم الراح والليالي ، قالوا ماقالته صحاة القوم . والذين إن اختلفوا وتضادوا ، ماتناطحت رؤوسهم ، ولاكشّرت أنيابهم ، ولا جُزّت نواصيهم . والذين إن عجزوا عن لَيِّ ذراع قوية ، ما باسوها . والذين إن فتكت بهم الايام ، قالوا إنها دول تدول ، يداولها الربّ الرحيم العادل بين مخلوقاته . والذين اذا ماعاشرتهم ، وأقمت لهم بصحن نزلك ، متكأ حلال ، ومائدة طيب ، نمتَ آمناً مطمئناً ، وقد أغلقوا باب الدار عليك والعيال . والذين اذا ما جرحتك مصيبة ، قالوا نحن وأنت عليها ، كتفاً بكتف ، ودمعة بأسخن منها . والذين إن طوقتهم بالشوك ، تقييساً للصبر، سوّروك بالياسمين . والذين إن بعثوك للسوق كي تشتري لهم خبزاً ودهناً ، فغبتَ عنهم يوماً أو بعض يوم ، ناموا على قرقرة بطن ، وصنعوا لك ، سبعين عذراً . والذين اذا ما رأوا حجراً بدربك ، شالوه من دون منّة . والذين إن شبعت بطونهم ، تذكروا سابع جار ، وعاشر جارة . والذين إن تفوهوا بجميل الكلام ، فاح من أجوافهم المسك والعنبر . والذين اذا مافعلوا، فعلوا حتى لم يأت بعدهم الطوفان . والذين اذا ماحرّموا أكل نطيحة ، ماحلّلوها ، والجوع يأكل من أجوافهم . والذين اذا ماسرقوا درهماً اليوم ، عادوا غداً ، فردّوه وقالوا : إنما أكلنا ناراً في بطوننا . والذين اذا دخلوا مدينةً ، دخل المدينةَ خيرٌ عظيم . والذين اذا ماحييتهم بتحية ، ردّوا عليك مثنى ومثلثات ورباعاً . والذين اذا ماعمّ الجدب ، صاموا وأجرهم على قدر المشقة . والذين اذا ماحلّ قحط بقرية ، قالوا : إنّ الصبر مفتاح الفرج . والذين اذا ما أصابت صاحبهم علة ، أصابتهم علّته بالسهر وبالحمّى . والذين إن صمتوا قالوا، وإن قالوا صدقوا . والذين إن سألتهم عمّا لا يفقهون ، قالوا لانعلم ولانعرف ، ولا نهرف . والذين اذا حكموا قريةً ، لم يفسدوها . ألذين اذا صاحت البلاد : آخ يا أولادي ، قالوا لها : يا عونكِ ، أُمّنا الحنون ، نحن الستر والساتر . ألذين اذا ما عرّش واحدهم على بيت مال الناس ، هشّ بنيّته المارة بعصاه ، خوفاً من خيال شبهة ، أو قرصة حكي . ألذين لو جادلتهم وحرقت قلوبهم وغلبتهم ، ورميتهم بالبيّنة وبالبرهان ، رفعوا أكفهم والأفئدة ، وقالوا : إنك والله لمن العالمين . ألذين اذا ما طمست كفّك بماعون واحد منهم ، أمسك عن الأكل ، حتى مطلع انزراع أصابعك في فمك . ألذين إن رميت بأحضانهم ، خزنة من دنانير وذهب وفضة ، نفروا منك وقالوا : من أين لك هذا . ألذين قالوا ، أن بلادنا حلوة وعزيزة ، حتى لو جارت علينا ، وظلوا على هذا راسخين . هؤلاء صحبي الذين كنت أحبهم ، وقد ذهبوا وبادوا . أرى صورهم ومراسيلهم ، مرشوشة على جدر الصحائف ، مرسومة ضحكاتهم فوق الشاشات . هم صحبي الذين كنت أحبهم ، لكنني الآن ، أرى إليهم ، ينامون على صمم وعماء ، ويأكلون فقط ، ويوصوصون ، كأنهم علامة من علامات الفناء .
  alialsoudani2011@gmail.com