السبت، 7 أبريل 2012
البروفسور الذي نطق- عادل كامل
قصة قصيرة
البروفسور الذي نطق
عادل كامل
لم تمض مدة طويلة على رحيل البروفسور ل.ل..لكن مدينتنا شيدت له أكبر تمثال في قلبها . كان هذا التمثال مثار الإعجاب والدهشة ..فقد كان الأجداد يتحدثون عن رحلاته في آخر الليل، وكيف كان يتكلم، وانه شارك في معارك النجوم .للحق لم يثرني هذا التمثال الغريب ..ولكن أسطورة البروفسور ل.ل التي تجاوزت المعقول جعلتني أفكر في الآراء العجيبة التي وضعها . حدث لي هذا في عام القضاء على التلوث، وهو من أشهر الأعوام التي لا يعرف أحد قيمتها مثلما يعرفها الآباء، قبل الموت الجماعي وبعد تحرير الطاقات من نير المخاوف الغامضة، وللحق لاعلاقة لهذا كله بما أود أن أدلي به أنني شخصيا من أكثر الناس لامبالاة، إلا ان أفكار هذا الرجل، التي سحرتني على مدى نصف قرن من حياتي، جعلتني اتوقف طويلا امام النصب النحتي الشامخ، حتى انني في ليلة شديدة التوهج حسبت ان التمثال سيغادر مدينتنا ويجعلنا ننسى العالم القديم، عالم التلوث الذي اودى بحياة السكان . فجاة وجدت التمثال يطاردني، يحاصرني، يفزعني .. ومن شدة خوفي وخجلي كنت لااريد البوح بما حدث لي، ان سكان العالم الجديد، هم حسب الكتب التي لديّ أشد قسوة من المراحل السابقة فكتمت هذا السر .ولكن هل أستطيع أن اصمت في اعماق أعماق نفسي؟ في البدء أفلحت..إلا ان عالم التأثيرات الغامضة أودى بي في تلك الليلة أي الليلة التي اكتب فيها هذه الوصية الى التلوث العجيب.
فقد حدثت البروفسور شخصيا، وابديت امتعاضي له لتدخله في شؤوني الشخصية على الاقل.. أستغرب كثيرا وكشف عن طيبة غير معقولة .
انني شخصيا لم أحدثه عن مخترعاته العجيبة، كصناعة الذهب من الهواء، أو اختراع الأنظمة قبل حاجتها..أو عن إنتقال الانسان من أي كوكب الى ابعد كوكب بوساطة الضوء.. أو الاصغاء الى شخص في الماضي البعيد أو في المستقبل الذي لن ياتي..أو الاكتفاء بالصمت كغذاء يلغي الحاجات الفسلجية ..أو حرية ان يجمد الانسان نفسه عدة قرون ليستيقظ في الزمن الذي يشاء ..او عن رفاهية العقل بعيدا عن اغراءات الجنس والشهوة التي كانت من أعظم مصادر التلوث..
إنني لم احدثه عن هذا لان الرجل فعل مافعل ورحل ..ولم أحدثه عن أي شيء بسبب حياتي التي امتدت عدة قرون..فأنا، في الواقع، شبح من كائناته، كما اني قد لا اكون إلا فكرة من عمله الغزير.. إلا اني رحت أحدق فيه، في تلك الليلة، وهو يجلس في غرفتي، أمامي تماما، وجها لوجه، وهو يبكي ..لكي أسأله:
-"أيها البروفسور ماذا تريد مني..؟"
فقال:
-"ماذا تريدون أنتم مني ؟"
شعرت بالعذاب القديم؛ عذاب المخلوقات التي تتنفس التلوث وتموت في الحروب وتعاني من المجاعات، وتهددها الشيخوخة، لقد أحسست بمعنى اللا معاني وكان الرجل يعرف مالا أعرفه من أفكار لا أعرف كيف هبطت في عتمة روحي .
فجأة قال:
-"ها أنت تذكرني بأعظم حقب الإنسان !"
صرخت :
-"الانسان .. أي انسان تتحدث عنه ياصديقي؟"
لم يتكلم، كان يحدق فيّ بعينين خجولين إلا أني تابعت الصراخ :
-"من هو هذا الانسان الذي تتكلم عنه؟ الانسان الذي لايموت ولايخاف ولايحب ولا .. أم أنت تتكلم عن نجاحك بتحويل جميع الحيوانات فوق هذا الكوكب والكواكب الاخرى الى بشر يمتلكون التحكم باسرارهم ؟ أم أنت تتحدث عن الانسان الذي استغنى عن أحلامه .. وو .."
قاطعني .. وكان صوته يشبه أصوات الموتى القدماء :
ـ "ابدا .. إلا أني أحدثك بعد أن تم تحويلي الى تمثال.. إنني شخصيا لا أعرف كيف حدث ذلك .. بل لا أعرف ماذا تريدون مني " .
وتركته يتكلم .. البروفسور لايعرف كيف حدث ذلك .. غريب .. وتركته يتكلم .. وأنا اصغي بشرود ذهن :
-"كنت أريد أن أخلص نفسي من الالم .. وكنت لا أريد إلا أن أهرب من الانسان.. لقد أغلقت أبوابي ونوافذي ومت وحيدا .. وحيدا تماما .. ولا أتذكر ان أحدا بكى عليّ، أو ان التراب ساعدني على الاحلام لقد هجرت نفسي وتحولت الى مخلوق مفقود، الى حجارة داخل حجارة ".
ولا أعرف لماذا سألته، أو بالاحرى قاطعته :
-"ولكن لماذا شيدنا لك هذا التمثال؟"
قال :
-"هو ذا السؤال.."
ولهذا ..رفع صوته مقاطعا ..
-" لهذا جئت اليك .. جئت اليك لتهدم هذا التمثال "
فرفعت صوتي ايضا :
-" هل بمقدوري أن أفعل ذلك ..؟"
-"أجل ".
في تلك الليلة ذهبت الى قلب المدينة ووقفت أمام التمثال، كان المارة يلتقطون الصور التذكارية . كانوا كما شعرت، بلا أهداف، ليس لديهم أي ماض ٍ .. إنهم يتحركون .. يتحركون .. بل كانوا، جميعا حسب خبرتي على مدى قرون يتحركون من أجل ان يتحركوا، لم أصغ لبكاء طفل .. وليس ثمة عذاب فتعلمت جيدا وعميقا هذا السر الذي حولهم الى مخلوقات ليست بحاجة الى الجحيم . سر أن لا تتذكر .. وسر أن تغيب .. وسر ان تموت كأنك تولد توا ً.
في هذه اللحظات تأملت التمثال .. وهدمته .. وعدت الى بيتي .
أستقبلني البرفسور، وقدم لي يده، وقادني الى غرفتي، وقدم لي القهوة .. وراح يحدثني عن حياته .. طفولته الشقية .. وعزلته .. وموته ..
فقلت له بهدوء :
- "الآن .. عليك أن تغادر .. اليس كذلك؟" . قبل أن أنهي جملتي كان البرفسور ل.ل . قد اختفى ..
ولكن في تلك اللحظات، فتحت الباب، وكان أمامي حشد كبير من الناس .. حشد لا أعرف لماذا جاء .. وكيف .. ثم بدأ الحشد بانجاز مهمتهم .. فقد نقلوني بعربة .. عربة كبيرة .. كبيرة جدا.. وكنت اسمع الاصوات .. وأرى المدينة .. ثم بعدذلك، كنت أحمل . أفكك، وأفكك، ثم يعاد تكويني .. ولم أشعر قط بشيء ما إلا عندما أصبحت التمثال، التمثال الذي كنت أراه منذ ولدت .
الأربعاء، 4 أبريل 2012
الاثنين، 2 أبريل 2012
السبت، 31 مارس 2012
الجمعة، 30 مارس 2012
الخميس، 29 مارس 2012
الثلاثاء، 27 مارس 2012
القمة النعمة أم القمة النقمة ؟؟- كاظم فنجان الحمامي
القمة النعمة أم القمة النقمة ؟؟
كاظم فنجان الحمامي
مثل بقية الزوابع والأعاصير حصلت القمة البغدادية على اسمها قبل وقوعها, فاكتسبت اسمها من الأسواق العراقية, التي قفزت فيها أسعار الطماطة إلى أعلى معدلاتها بمقياس أسواق البصرة, فبلغت (2500) دينار للكيلو الواحد, فأطلقوا عليها (قمة الطماطة) منن باب التندر. .
نأمل أن تكون هذه القمة فاتحة خير على العراق وأهله, ونأمل أن تحمل لنا الأخبار السارة, لكنها كتمت أنفاس بغداد منذ الآن, وشلّت حركتها قبل انعقادها, وسط إجراءات أمنية مشددة, فتكاثرت الحواجز, وتعطلت المصالح العامة, وأغلقت الطرق والمنافذ الرئيسة بين الكرخ والرصافة, فحققت القمة أولى نتائجها الايجابية عندما أطلقت ماراثونات المشي بين أحياء بغداد وضواحيها,
فولدت اكبر تظاهرة شعبية لترشيق الأجسام المترهلة, وتخفيف الأوزان الزائدة, وتحولت بعض الشوارع العامة إلى ملاعب مفتوحة لممارسة لعبة كرة القدم لطلاب المدارس المتعطلة بمناسبة انعقاد القمة. .
غرقت بغداد في فوضى مرورية, وانقسم الناس بين صابر ينتظر الفرج, وبين متشائم لا يرى خيرا في الجامعة, في حين راح السياسيون المعارضون يواصلون التحريض ضد القمة, ويتوعدون بعرقلة أعمالها بكل الطرق الصبيانية المتاحة, وغير المتاحة. .
من المؤمل أن يزورنا الملوك والرؤساء العرب الذين قاطعونا وخاصمونا, ومارسوا ضدنا أبشع أنواع التنكيل, وسيأتي معهم الطاقم الجديد من الرؤساء الذين انتجتهم معامل الربيع العربي, وستجمعهم القمة مع الطاقم القديم, وتمنحتهم فرصة التعارف مع بعضهم البعض, وفرصة تبادل اللقطات التذكارية, واكتساب المهارات القيادية في ممارسة الحكم الميكافيلي بصيغته الرقمية المبتكرة. .
كان الرئيس القمري (اكليل ظنين) أول الواصلين إلى بغداد, فهل (ستتكلل) أعمالها بالنجاح ؟؟, أم تخوننا (الظنون) بالجامعة ؟؟. .
يقول نبيل العربي الرئيس الحالي للجامعة: ((إن مجرد عقد القمة العربية في بغداد (انجاز) من انجازات الجامعة في ربيع عام 2012)). .
ونحن نقول لا يمكن ان نعدها من الانجازات, ولا من المنجزات ما لم تسفر نتائجها عن تحرر العراق من مقصلة البند السابع على أقل تقدير. . .
الاثنين، 26 مارس 2012
الصورة عادل كامل-قصة قصيرة
قصة قصيرة
الصورة
عادل كامل
لم تتصور الخالة . في يوم من الأيام أن تستقبل إبن شقيقتها في وضع مزر كالوضع الذي تراه فيه الآن، فسألته على الفور . وبصوت قوي برغم إنها تجاوزت الستين من العمر.
-"ما الذي حصل لك يا ولدي ؟!"
ذلك لأنها أشرفت على تربيته . منذ الصغر، يوم فقد والديه، فكان بمثابة ولدها الوحيد، وقد أحبته وأشرفت على زواجه.
لم يجب، كان خائر القوى، على الرغم من ان الساعة لم تتجاوز الثامنة مساء .
فقالت مرة ثانية موجهة السؤال إليه :
-"هل حدث لك مكروه ؟"
رفع رأسه بهدوء وقال بصوت متعب :
-"إنها طردتني "
لم تصدق، فهما يعيشان معا منذ عشرين سنة لكنها خمنت انه يعاني من حالة سكر .. فقالت بطريقة غير مباشرة :
-"سآتي لك بالطبيب "
فقال بلا مبالاة:
- "الطبيب هو الذي أوصلني إلى هنا.. كنت قد ذهبت إليه.. وتحدثنا في الأمر .. ثم قلت له .. لا فائدة، فقال لي : أسترح " .
وسكت، كان يتخيل الساعات التي يمضيها وهو يراقب الأشجار.. خاصة بعد أن أحال نفسه إلى التقاعد .. والساعات التي يمضيها وحيدا في غرفته، تلك العزلة .. وتلك الأصوات التي كان يسمعها في الليل ..وعويل الريح .
رفع رأسه ونظر اليها، وهو يبتسم بمرارة، قالت :
ـ "طردت ؟ لم افهم قصدك "
ورفعت صوتها :
-"انك مريض ياولدي .. كيف فعلت ذلك ؟"
المرضى هم الذين يطردون .. وهكذا هم كبار السن .. وتلعثم .. دخن. كانت خالته متجمدة وهي تراقبه. كان شاحبا، ولم يكن يظهر عليه أنه في الأربعين من عمره. هكذا تخيلته . مازال في سن العشرين، متوقد الذاكرة، قوي البنيان، عدا عن انه مازال يعاني من الخجل .
قال بعد صمت
-"لا تقلقي .. لست بحاجة إلا إلى غرفة وسرير" .. لم يكن يفكر في شيء محدد. كلمات صديقه الطبيب تدوي في رأسه . كلمات مبهمة .. غامضة .
قالت له خالته
- "سأحضر لك العشاء .. لابد انك جوعان "..
-"اجل .. ولكن ليس الآن . أنا بحاجة إلى الماء .. بحاجة الى الماء .. أشعر بجفاف في جسدي كله".
دخن مرة ثانية .. وسكب قليلا من الخمر في جوفه . لقد اعتادت خالته ذلك منه منذ كان طالبا في الجامعة . يوم كان يعيش معها في البيت نفسه إلا أنها شعرت بالرثاء لشيء ما، لا له . ثم قالت على حين غرة .
-"ولن تعود اليها؟"
-"لقد طردتني .. الا يكفي أن تفعل هذا ؟!"
-ولم تأت بأي شيء من مقتنياتك الشخصية .. ملابسك وتلك التحف التي "جمعتها خلال حياتك ؟"
-"ماذا افعل بها !"
-"تركتها لها ..لهذه الـ …"
قاطعها، وهو يستعيد بعض قواه :
-"لا فائدة من هذا الكلام .. ولا فائدة من هذه الأشياء ."
وضحك متابعا، غير مكترث لما حدث :
-"لم آت بأي شيء لسبب بسيط.. آه.. لكي تبقى تتذكر كل ما في ذلك البيت .. إنها تعيش وحيدة بين الجدران أيضا ً " وأغلق فمه متذكرا إنها لم تترك سرا من أسراره لم تبح به لسكان الحي كله. انه فجأة أكتشف ذلك، قبل ايام قليلة .
ثم قال بألم دفين :
-"سأعود الى غرفتي القديمة .. هذا كل ما في الأمر …"
سألته :
- "وماذا ستفعل بحياتك .. ياولدي .. هل ستبدأ من جديد؟"
ابتسم بسخرية، وهو يتكلم بصوت قاطع :
-"جئت لأموت هنا "
كان الزمن يمضي بثقل . نهضت الخالة وأعدت له الطعام .. أما هو فكان أكثر وعيا.. وأكثر لا مبالاة . كان يتكلم . بهدوء، عن البرد .. وانه تجول في المدينة وشاهد الأطفال:
-"أجل .. كنت أشعر بالسعادة وكأني أرى أطفالي .. آه .. لا أجمل من هذه الكائنات".
ورفع صوته:
- " لقد تخيلت نفسي طفلا في العاشرة .. وهناك، رجل مطرود، وحيد، معزول، يهدده الزوال يتأملني لكني شعرت بالقوة فجأة : هؤلاء الأطفال سيكبرون.. سيكملون دراستهم ويتزوجون .. ويشيخون.. ثم تمر الرياح الصماء عليهم . لم احزن كثيرا.. بل جلست أمام النهر . نفس المكان الذي كنت اقرأ فيه .. وهو المكان الذي أحببت فيه " .
سكب آخر ما تبقى من الخمر لديه في جوفه دفعة واحدة .. وتركها تتكلم:
-"لا تحزن .. انك في ريعان الشباب .. سأعثر لك على أجمل امرأة .. إن ما تبقى من المال، لدي، يكفينا ويزيد .. لا تحزن .."
أبتسم :
-"أني هربت من الاحتضار هناك .."
-"آه .. والآن لنرتب الغرفة .."
قال في نفسه .. نفس الغرفة .. نفس النوافذ والستائر ونفس السرير والاشياء كلها مازالت في أماكنها.. صورة أمي .. أمي .. وصورة والدي أيضا. معلقتان فوق الجدار المقابل لرأسي وأنا أحدق فيهما وأستمع إليهما.. الأشياء كلها لم تتغير .
وهكذا قال لها بصوت مرتجف :
-"وملابسي مازالت معلقة .."
وفتح أحد الصناديق الخشبية .. وراح يداعب دماه القديمة .. ملابسه يوم كان في العاشرة .. كتبه المدرسية .. ثم أغلق الصندوق.. وترك جسده يسقط فوق السرير .
وكان يستمع إلى صوتها الاليف :
-"غدا، سنجدد أثاث الغرفة .. وسأجعلك تبدأ حياتك من جديد .. أما عن مصير اطفالك الثلاثة، وإبنتك الوحيدة، فانهم غدا أو بعد غد، أو بعد سنوات سيأتون الى هنا.. الى هذا البيت ".
وبثقل رفع رأسه وتمتم :
-"لديّ أمنية واحدة ياخالتي، امنية واحدة فقط .. ان نذهب غدا الى المصور. والتقط صورة لكي تضعيها هنا، الى جانبيهما، فوق .. الجـ ..دار .. ".
ثم أعاد رأسه الى الوسادة، بهدوء ومن غير احلام، رقد الى الابد .
لكن خالته برغم اساها، وفي اليوم التالي عثرت له على صورة، ونفذت وصيته، مدركة ان الباب الذي أوصد سيفتح في يوم من الايام .
1989
الجمعة، 23 مارس 2012
مع جلالة الملك في قلب الهور-كاظم فنجان الحمامي
مع جلالة الملك في قلب الهور
غريب على الخليج
ربما يعاتبني أحبابي في العراق على تركيزي في الكتابة عن البصرة, ويعلم الله إن العراق كله من شماله إلى جنوبه هو الرمز الشامخ لمعاني الوئام والألفة والتسامح, جمع الناس كلهم في إطار واحد, وخندق واحد, وقلب واحد, وكان كريما معهم عندما وفر لهم الخيرات من الأرض الخصبة, والماء الزلال, والمناخ المعتدل, فالعراق كله هو الأقرب إلى قلبي وروحي ووجداني, بيد إن البصرة الصابرة الصامدة هي المدينة التي شغلت تفكيري, وهي العنوان الرئيس للصمود والكبرياء العراقي, وكان أبناؤها هم الحصن المنيع, الذي تحمل الثقل الأكبر من الويلات والمصائب. .
فالبصرة ملعبي ومدرستي, وبيتي وحديقتي. عشت فيها طفولتي وبراءتي, وأمضيت فيها ربيع شبابي, وأجمل سنوات عمري, فحرمتني منها الأقدار, ورمتني خارج أسوارها, وغادرتها مكرها, أحن إليها صباح مساء, حتى بعد أن اشتعل رأسي شيبا, وحتى بعد أن انحنى ظهري, وذبل عودي. .
حينما أراجع صفحات الصبا والشباب, وتعيدني الذاكرة إلى أيام البصرة المطيرة, وكيف كنا نخوض المياه بجزماتنا السود غير عابئين بالأوحال, غير مكترثين برذاذ السيارات العابرة. نمر بسوق الهنود فتجذبنا الروائح الزكية إلى أشهى أنواع التوابل وأكثرها جاذبية,
نحوم حول عربة (الشلغم) قرب ساعة (سورين) كما النحل الباحث عن الرحيق في بخار القدرور الغنية بشراب الدبس, فنتناول منها ما نشاء بعشرة فلوس أو أقل, ونلهو برش الملح فوق أطباق الشلغم المحلى, فتختلط عندنا المذاقات في الأجواء الشتوية الملبدة بغيوم البصرة الممطرة, ثم نتجمع أمام دكان زرزور أبو الكرزات, ونجري مسرعين كلما مررنا على واجهات مطعم (بومباي), نهرب من إغراءات روائح السمبوسة والباكورة والتمن البرياني, رواح ومأكولات شهية لا تُقاوم, خصوصا بعد ان صرفنا آخر فلس عندنا. .
كبرنا وصرنا شبابا لا تتجاوز أعمارنا السابعة عشر, جمعتنا مقاعد الدراسة والجيرة وهوايات أخرى, بيد ان هواية الصيد صهرتنا في فلسفتها التي كانت تتطلب منا التسلح بالصبر والذكاء وحدة البصر, وعلمتنا الخشونة والنوم في العراء وسط الهور, وبين غابات القصب, وفوق أكوام الأحراش والبردي, وعلمتنا الاعتماد على أنفسنا في مواجهة تحديات البيئة الريفية الزاخرة بالمسطحات المائية المترامية الأطراف. .
اذكر إننا في العطلة الربيعية لعام 1954 كنا في رحلة إلى هور الحمّار, واتفقنا على المغادرة فجرا بسيارتي الجيب من طراز (لاندروفر), فهيئنا ليلا, ووضعنا طعامنا ومعداتنا وبنادقنا استعداد للرحلة, ثم انطلقنا بعد منتصف الليل الى بيوت أصدقائنا, وكانوا جميعا في الانتظار على أهبة الاستعداد, يدفعهم الحماس نحو خوض المغامرة المرتقبة بروح رياضية عالية, كان السكون يخيم على البصرة, والطرق خالية من العجلات والمارة, فوصلنا (أبي صخير) قبل حلول الفجر, وتوجهنا إلى (علوي) عن طريق السادة البطاط, الذين كانت تربطنا بهم أواصر ألفة ومحبة. .
كان في طريقنا مخيم من مخيمات الاستراحة الملكية, قالوا لنا انها عبارة عن موقع ملكي يقضي فيه الملك الراحل فيصل الثاني وخاله عبد الإله بعض الوقت في الصيد, وكان وكيلهم صياد محترف, وعلى قدر كبير من الخبرة, ويتمتع بمرونة وبساطة في التعامل مع الصيادين, واسمه (روبي انكورلي). وصلنا إلى هناك وكان الظلام يلملم ما تبقى من خيوطه إذانا ببزوغ الفجر. .
اقتربنا من المكان, فشاهدنا أنوارا ساطعة توحي لنا بالتوقف والترجل, وكان الطقس شيد البرودة, فإذا نحن في نقطة عسكرية مؤلفة من عناصر الحرس الملكي, فجاء كبيرهم وطلب منا الترجل بأدب جم, وبعبارات لطيفة, ثم خرج علينا رجل اسمر, طويل القامة, يرتدي معطفا شتويا, ويضع على رأسه يشماغاً أحمراً, قال لنا والابتسامة لا تفارق وجهه: ((صبحكم الله بالخير يا وجوه الخير, أنا عبد الله المضايفي مرافق جلالة الملك, اطلب منكم الابتعاد عن محرمات المحمية قدر المستطاع)).
فقلنا له بصوت واحد: ((إننا في طريقنا إلى مكان آخر يبعد أكثر من خمسين كيلومترا عن محرمات المحمية)), فودعنا بابتسامته التي استقبلنا بها, وتمنى لنا التوفيق والسلامة. .
لم تكن هناك مدرعات ولا مصفحات, ولا مصدات خراسانية, ولا حواجز إسمنتية, ولا وجوه مبرقعة, ولا نظرات حاقدة, ولا نبرات زاجرة. .
قضينا أربعة أيام في جوف الهور بين الأدغال والبردي, مستمتعين بالصيد الوفير, وجمال المناظر الخلابة في ذلك الفردوس الطبيعي, كان الهور جنة من جنات عدن. وكان الصيادون من أبناء الهور يواصلون النقر على الصفيح الفارغ (التنك), ويطلقون الصيحات العالية لتوجيه الأسماك نحو شباكهم, لم تكن لديهم سموم ولا مواد قاتلة, ولم تصلهم وقتذاك تقنيات الصيد الجائر بالصعقات الكهربائية. .
عقدنا العزم على العودة إلى بيوتنا, فجمعنا محصول الصيد كله, تمهيدا لتقسيمه على وفق القاعدة العادلة, التي تقول: ((الواحد للكل, والكل للواحد)). .
قفلنا عائدين بعد الظهر, ووصلنا المخيم الملكي عند العصر, فطلب منا الجنود التوقف, فتوقفنا على الفور, وخرج علينا عبد الله المضايفي, فسلم علينا, وطلبنا منا مواصلة السير نحو البصرة, لكننا سمعنا صوتا يأمره بتأخيرنا برهة, التفتنا إلى مصدر الصوت فشاهدنا جلالة الملك الشاب الأنيق بوجهه المنير المشرق, يرتدي ملابس الصيد, وعلى وجهه ابتسامة طفولية معبرة, فطلب منا الترجل من السيارة, وكنا في غاية الحرج بسبب ملابسنا الملطخة بالطين والوحل, وأحذيتنا المبتلة بالماء, فتقدم نحونا وصافحنا من اليمين إلى اليسار, الواحد بعد الآخر, وسألنا عن صيدنا, وهل كان صيدا وفيرا يستحق التعب, فأخبرناه بأنه كان وفيرا, فطلب أن يلقي نظرة عليه, فشاهد أكوام البط والإوز, وتأملها طويلا بعين الصياد الماهر, ثم سألنا عن أسلحتنا, فاحضر كل منا بندقيته, أخرجت بندقيتي من محفظتها الجلدية من دون تأخير, وقمت بتركيبها بخفة ومهارة, وكانت من صنع ألماني من معامل (كروب), تأملها جلالة الملك بإعجاب, ووضعها على كتفه, وأبدى ارتياحه لخفة وزنها. فشعرت بطبيعتي البدوية تطلق لساني بعبارات الود, فقلت له: ((مولانا إقبلها مني هدية)), فابتسم برقة متناهية, وقال: ((هاي البندقية صديقك. . شلون تتخلى عن صديقك)), حينها أطرقت برأسي خجلا, فهممنا بركوب سيارتنا, ونحن نرفع أيدينا بتحية الوداع, لكنه أصر على أن نشرب الشاي في ضيافته, ولم تفلح محاولاتنا الجادة بالاعتذار, ألح علينا فدخان بعده إلى وسط الاستراحة الملكية, وفوجئنا بأثاثها البسيط, وديكورها المتواضع, وما هي إلا لحظات حتى جاءت أقداح الشاي ومعها بعض قطع الكيك والبسكت, وكان يسألنا عن أساليبنا في الصيد, واستفسر منا عن نوع الخرطوش المستعمل, فقلنا له إننا نستعمل الخرطوش الانجليزي, ماركة (إيلي), وكنا نشتريه من محل (صموئيل عنتر), فنهض من مكانه ودخل غرفة مجاورة, خرج بعد برهة ومعه خادمه حاملا صندوقا من الخرطوش من نوع أمريكي, يسمى (رمنكتون), وهو من الأنواع التي لا تتوفر في الأسواق, وقال لنا هذه أفضل الأنواع أهديها لكم متمنيا لكم النجاح والتوفيق, فتبادلنا نظرات السرور, وشكرناه بلطف على هذه المكرمة اللطيفة, ثم ودعنا وسار معنا إلى الباب الخارجي, وربت على كتفي بلطف مذكرا إياي بعدم التخلي عن بندقيتي, فقال: ((ها. . مو تتخلى عن بندقيتك)). .
انطلقنا غير مصدقين إننا كنا في ديوان الملك, وشربنا معه الشاي, وأهدانا خرطوشا أمريكيا لم نسمع به من قبل, كان شابا متواضعا, بسيطا, مبتسما, لم يكن فظا غليظا متعجرفا متكبرا, ولم يكن جبارا ظالما, ولم يكن ميالا لمظاهر الترف والبذخ, ولا ميالا للتباهي بالمظاهر المسلحة, وكان موكبه الملكي أقل بكثير من موكب مأمور مركز الشرطة في إحدى القرى الريفية المتروكة الآن خلف جدران التهميش والإهمال. .
اما بالنسبة للهور فكان زاخرا بالعطايا والخيرات, غنيا بالموارد والثروات, كان نابضا بالحياة في كل الفصول والمواسم, لكنه يرقد الآن بين مخالب عفاريت التجفيف والتجريف. . .
وهاي وين ؟؟؟, وذيـﭻ وين ؟؟؟. . . .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)