أختام عراقية معاصرة
عادل كامل
القسم الثاني
[1] من الظلمات إلى النور
بين أن اترك أصابعي ترسم أشكالا ً لا واعية، أو غير مقصودة، وبين أن اصف العملية لأجل التدوين، إجراء شبيه بأول من رسم المثلث، أو الدائرة، وبين من كان يجد تبريرا ً ـ وتأويلا ً لهما. ثمة مسافة مزدوجة بين التنظير والتطبيق، وهي المسافة التي تتقلص ـ حد التلاشي ـ في التنفيذ، وتتسع في حالة الكتابة، حد التجريد، واللا حافات ـ أو اللا موضوع في نهاية المطاف.
هل كانت أصابعي تؤدي ما كان يدور في راسي ـ أو في كياني ـ من الأصابع إلى المخ، أم أن هناك انحيازا ً للحواس، أو للعقل في سيادة أسلوب أو موضوع محدد في التجربة؟
عندما وجدت نفسي ابتعد عن لون الخامة، وملمسها الطبيعي، وجدت بصري ينبهر بالألوان، فكنت امتلئ بنشوة شبيهة بنشوة طفل اكتشف أن الأرض لن تخذله بما تمنحه من عناية سأجدها ليست رمزية فحسب، بل وجمالية!
وإذا كنت حريصا ً بعدم الخلط بين النادر والتقليدي، وبين الفردي والجمعي، فان للألوان دورا ً مغايرا ً للتخطيط أو للتكوين، وحتى للمعاني. ففي سنوات الجدب العاطفي كانت الألوان لا تشكل جسرا ً ولا علاقة ولا لغة مع الآخرين، وكأنني كنت اعترف ضمنا ً بالعمى اللوني، مما جعلني أكرس سنوات لكتابة (الأوثان) بعد (عند جذر الوردة)، وبعد (ألفية الولد الخجول)، وهي تجارب لا تخفي ذلك اليباب بموت الإنسان، وليس بموت الفن أو موت الفلسفة حسب. ولم يكن هذا اكتشافا ً نظريا ً أو نقديا ً، بل جاء بفعل التجربة ذاتها.
فعندما يشتغل البصر، تكف الأصابع عن تباهيها بدورها. إنها تغدو زوائد كأرجل خنفساء كافكا بعد أن انقلبت ووجدت نفسها في مأزق: لا تعرف ماذا تعمل. على أن أصابعي كانت ترقص ـ إنها تؤدي الدور الذي أومأ إليه بوذا ، وجدنا للرقص. بمعنى أنني ـ هنا ـ رحت استبعد أي اهتمام بالمخالب، وبالدفاعات، والمضمرات العدوانية. فالسلام مع العالم غدا دربا ً متحدا ً مع غاياته. فأنا لا أريد أن أصل إلى نهاية الطريق ـ لا لأنه في الأصل لانهاية له، وإنما لأن الحركة ذاتها تمتلك لغز غايتها في السلام الروحي ـ بل أنا حررت ذاتي من الغاية عدا أنها سكنت الدرب. هذا المشترك بين الخامة والمقدمة سمح للألوان أن تعيد للأختام ـ النصوص المضادة للأثر ولكن السالكة دربه ـ بحجة إنسان لم يعد يجد في عالمه إلا تأملات كائن محكوم بسجن لا أبواب له ولا منافذ. فيا لها من لذّة ملغزة دمجت البصري، المرئي، بما هو ابعد منه، ابعد من رؤية ذرات ذات أطوال تتجاور باختلافها وتنوعها نحو مفهوم للروحي عبر اللذّة.
هل ثمة علاقة ـ صلة ـ ما تسمح للقلب أن يضطرب، أم ذكرى ما تتجدد ـ وتجدد ـ، لبرهة من الزمن، عمل الومضات؟ لا امتلك إجابة دقيقة، وأمينة، مع نفسي، بقدر انشغالي بحركات طفل ـ هو حفيدي ـ راح يذكرني بان العالم مازال حاضرا ً وزاخرا ً بالعطور والصخب.
وجدت بصري يعيد ـ بعد أن كانت الأختام علامات حرصت أن لا أنهكها بالمشفرات ـ معالجة الخامات بألوان طالما غذت سنوات طفولتي: الوان بعدد الذرات، وليس بعدد الأشكال! فالعالم ـ إن كان خارجيا ً أو داخليا ً ـ لم يعد مجموعة قوانين صارمة ومحكمة حد أنها دمجت النهايات بمقدماتها.
على أنني لم أتوقف عن متابعة كتابة فصول رواية استذكر فيها سنوات ما قبل عام 1980، عام الحرب. لكني توقفت لشهرين في الأقل عن الكتابة بسبب زميل كلفني بعمل وجدت نفسي أنجزه بلذة مرة ، وفي الأيام ذاتها (نيسان 2011) كان علي ّ أن أقدم نموذجا ً تخطيطيا ً لنصب كي احصل على مبلغ يساوي راتبي التقاعدي لخمسة أعوام، لكني ـ بدل ذلك ـ وبعد أن تحررت من تكليف زميلي لأيام خلت ستطول ـ انشغلت ـ ليلا ً بمتابعة الدوريات الأوروبية: الاسبانية/ الانكليزية تحديدا ً ـ ثم نهارا ً: أن لا أميز أكانت الألوان هي التي أعادت لي بصري، أم بصري هو الذي سمح لي أن أجد في الألوان عملا ً شبيها ً برسامي الكهوف وهم يؤدون أعمالا ً لم تبلغ نهايتها، في موت الحواس، أو في محوها، أو في جعلها تعمل بلون واحد.
كم استغرقت كي اعرف أن المسؤولية التضامنية بين البشر ـ في عالمنا برمته ـ وحدها تخفي عملا ً ما في حياة لن تبلغ نهايتها، لكني عمليا ً كنت دمجت النهايات بالأمل، والمشهد الكلي بأدق ما تراه الأصابع، لبصر لم يكل عن نسج تجمعت فيه العناصر ذاتها التي ـ أحيانا ً ـ تبدو خارج الرؤيا، والرؤية ـ وخارج مدى حركة الأصابع ـ ونبضات القلب.
كانت للألوان، داخل جدران غرفة مكتظة بالكتب، والصحف، والصور، رائحة طفل ـ هو حفيدي علي زيد ـ تغويني بالحفر في مدافن قلب لم يعمل دائما ً بالمثل السومري: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! ذلك لأنني لم اقلب ـ ولم اعدل ـ المثل بل رحت أوازنه بمضاداته. فالموت ذاته لم يعد إلا لغزا ً تتكون عبره الصيرورات ـ لكنني لم أقع في الغواية، ولم أهلهل لها، ففي الحكاية ذاتها التباساتها، ماضيها ومستقبلها: آثامها/ جدلها/ مفاتيحها/ انغلاقاتها مما جعلها تمتلك قدرة الامتداد، واستكمال دورتها. فانا مادمت لم اقدر على اختيار الموت، لم اختر الحياة كي ارتقي بها إلى النذالة، والعدوانية، والخساسة، بل رحت أعالجها كحقيقة علي ّ أن اترك كياني برمته أن يجاورها، نحو السكن فيها، ومعها، بصياغة ألوان تعيد للأعمى ـ الذي هو أنا ـ دربا ً سمح لي أن أوازن بين اللا وجود ـ والمرئيات، عبر ألوان تتحدث عن شهادة أعمى يمشي من الظلمات إلى النور، ومن العتمة إلى الفناء.
[2] ضد السلعة
الحقيقة الأقل إثارة للجدل ـ ولكنها الأكثر التباسا ً ـ أن الزمن يكمل دورته: إنه لن يرتد. وبمعنى ما كنت أتخيل ـ وأنا في المناطق النائية التي وجدت سكني فيها ـ مشهد اللا زمن: اللا مشهد، فازداد سكينة طالما أحسست أنني جزء من مديات تتخللها ومضات، وتصادماتـ وإشعاعات،فاستنجد بما فعله أسلافي: صناعة دفاعات! فثمة (عدو) ما يهدد اقتلاع كياني، جعلني اكتشف ـ ببساطة ـ أن المفتاح الذي امسك بدورته في القفل هو جزء من كياني ذاته! فلا أجد لذّة توازي عدم إهمالها تشاطرني الشرود: انه ليس الاكتشاف، وليس البحث، إنما هو هذا الذي لا امسك فيه وقد راح يتكوم فيّ، يتناثر مجتمعا ً في أقاصي هذا الشرود. وبمعنى ما فالمشكلة ليست فنية خالصة، أو لها علاقة بلغزها المشفر، والجمالي فحسب، بل بالمراقبة والاستئناف أيضا ً.
ما معنى أن انشغل بعمل أنا ـ هو ـ أول العارفين انه ليس سلاحا ً للدفاع لا عن الجسد، ولا عن النفس. فانا هنا ابلغ ذروة المصالحة. بمعنى ما أنني اكتشف ـ كأسلافي في تدشين الأعمال الشبيهة بالفن ـ أنني احتمي بما اصنعه: مجسمات بدت لي أنها تشبهني، لا كمرآة، بل كأجزاء متناثرة تعمل بنبضات القلب، وبلغز ومضات الوعي، وكأن الإدراك غدا شريكا ً مع الأصابع ومع باقي الحواس في هذه الرؤية ـ والرؤيا. فاكتشف فجوة ثانية تفصلني عن نفسي: ما هذا الوعي الذي غدا سكننا ً ـ وليس له منفذا ً، وليس له خاتمة؟
انه ـ من غير مقدمات ـ أصبح آلية لا سريالية، بل منطقية لكائن مخلوع، وليس مرميا ً أو منفيا ً في الوجود. فانا لا انتمي إلى ارض أو إلى نبات أو إلى قبيلة، بل أصبحت جزءا ً من الكل، بعد أن تحول العمل إلى شاهد علي ّ: فانا لم اربح شيئا ً ، مثلما لم ْ أعد أفكر في الخسارات. فما أنجزه يتجمع من حولي، منه إلي ّ، ومني إليه، ليمنحني رغبة مضادة لترك العمل، أو الانشغال بالصفر، أو بالفراغات. فلم يعد الختم مرآة، ولكنه سمح لي بانشغالات بصرية تخص ما هو قيد الانجاز، وليس بما أنجز، أو كان منجزا ً سلفا ً. أنني أكاد امتلك نظام خلية الخلق البكر: انتظام الومضات، من العوامل المكونة لها، وصولا ً إلى العمل الذاتي الآلي كاستحداث لذات تعلمت المكر، لكن من غير انشغال بالخديعة؛ بالربح أو بالخسارة، أو بما سيقال.
هل صاغ الصانع الأول مثلثاته، خرزه، إشاراته، دماه، خطوطه ومستطيلاته لأنه وجد حريته تنذره بالهزيمة، وبالموت، فجعل منها ـ كما فعل النحل/النمل/ والطير ـ معماره المقنن برهافات وتقانات بالغة الانضباط ـ كي أعيد، في سياق هذا اللاوعي ـ نهايات تحولت إلى غواية، وكلمات، لا امتلك إلا أن اشرع في صياغة مقدماتها، كأنها الضرورة سكنت ألتوق، وكأنه ألتوق وقد قيد بالضرورات....؟!
[3] الكتمان ـ مرئيا ً
سأعترف أنني لا امتلك حق القول أنني نفذت أختامي بموازاة ما كنت أريده، أو انه النتيجة المثلى، والأخيرة، ولكني لا اشعر أنني غادرت ولعي بإعادة صياغة أفكاري. إن أصابعي تعمل فانقاد إليها! أشيّد وأضيف مع الحذف كي ابلغ بالنص نهايته: إشارات تكاد تلغي ما تتضمنه العلامة من تجريد/ رموز/ وإيحاءات. ففي الإشارات يكمن اللا متوقع الذي كنت أراقبه، وانتظره، وليس في العلامات، بل ولا حتى في الأسلوب. فانا ازداد انشغالا ً بمغادرة أشكالي، وكل ما سيشكل خصائص الختم.
هنا اكتشف أني احفر في مدافني الأولى: في مقبرة شبعاد، قبل أكثر من نصف قرن، بجوار مقابر أور، على مسافة غير بعيدة عن الناصرية ـ مركز ذي قار ـ حيث استعيد حرارة الرمال، في الخارج، وأصداء أصوات ما جرى إبان نزول الأميرة شبعاد إلى العالم السفلي. أتذكر ـ بعد نصف قرن ـ أنني تحدثت إلى البروفسور هاوزه ـ مدير متحف برلين عام 2005 ـ عن لغز القبر السومري، وعن المعتقدات البكر للايكولوجيا الكونية. ماذا تقصد...؟ سألني. فقلت أن هناك فجوة للعبور، بين الموت والحياة، وبين الحياة والموت، تخيلها السومري كي تتحول إلى جسر، أو صلة يستحيل استبعادها. فثمة كون وجد نفسه فيه متوحدا ً عبر تحولات المظاهر، وهي التي ستظهر تأثيراتها في الهند ـ بعد ألف سنة ـ بعيدا ً عن المثنوية وصراع الضدين. فالوحدة التي تخيلها السومري تركت الزمن لا ينتهي عند خاتمة، بل يمتد، عبر دورات. فرأس الأفعى عندما يبلغ ذيلها، يمتد، عبر دورة اكبر، تتقاطع مع مفهوم الرجوع إلى التراب ـ أو إلى العدم.
موت له مذاق الأبدية! لكني لم استبعد أبدا ً حدود التجربة بحدود التصوّر؛ حدود الدفاع عن كياني، بما اعرفه، وخبرته، وعشته، مع أني لم الغ أن هناك خلايا تعمل بالنظام الأكثر تعقيدا ً، الخاص بالكون، وليس بحدود وجودي. انه إغراء آخر للعمل، كواجب، وليس ترفا ً أو بذخا ً.
على أن الكلمات أما تذهب ابعد من النص الفني، أو انها ستتحول إلى يد تدور في مفتاح الباب: الباب الذي ادخله، طالما من المستحيل العثور على سكن فيه، عدا الكون الذي لا علاقة له لا بالموت ولا بالحياة! وهنا ساترك إحساسي بالزمن، وبما سيقال حول تجربتي، فأنا بالختم اترك كياني مكبلا ً بحرية الضرورة، وبضرورات هذه الحرية.
فالفن لن يفصل الأثر عن صانعه، ولا صانعه عنه. فأدرك أن السومري صاغ مفهوما ً سترجع إليه البشرية في لحظة إدراكها انها لن تبلغ خاتمتها. فهي تتضمن دورات، شفرت عبر ما لا يحصى من الحروب والكتب في الجسد/ الوعي/ وفي الكيان بوجوده في الوجود: دينامية تتحول الحياة فيها إلى رقصة (بوذا) و (فناء ً) كما في مسلك الصوفي وطرقه.
لكن النشاط الفردي ـ الخاص ـ لن يعمم، الأمر الذي يجعل كل ختم، مستقلا ً عن سواه. فكما كل وردة، في البستان، لها تفردها، فان ما لا يحصى من الورود (والأزهار البرية) ستعمل على حماية هذا الختم: الهوية، والأسباب الكامنة في الأسباب، فلا ضرورة لسؤال مثل: لماذا اعمل ... ولا ضرورة لسؤال: ماذا لو تخليت عن العمل؟ لكني ـ هنا ـ اخترع لعبة، أو تسلية، بل وعيا ً له موقعه للتحرر من الأعباء، والضرورات اللا ضرورية، يسمح لكياني أن يتشكل مع الموجودات النائية، والمجاورة على حد سواء.
انه شرط يحرر الشرط بتحوله من قيد إلى توق. فتكف اللغة عن مجال عملها، في الاستغاثة، أو في المؤانسة، أو في الشهادة، أو الترميز، كي تغدو جزءا ً من الختم. فهو وحده يقول ما يكتمه، وهو وحده يفضح كتمانه.
[4]البحث عن الذي غادرني
ليس أكثر من تأمل ما ستؤول إليه النصوص: زوالها. وبمعنى ما فانا امسك بما أراه يندثر. ففي عالم كفت فيه قوانينه ـ عدا عنفه وأقنعته وغوايته ـ عن العمل، يغدو الفن ممرا ً للبحث عن الدوافع التي سمحت لأصابع أسلافي أن تنسج هذا الذي حفزني للعثور على توازن مستحيل في الفن:انه قيد لممارسة وهم الخلاص منه. لم يكن أسلافي في المغارات أو في أعالي الجبال يحلمون بأكثر من المرور في الدرب ذاته الذي لا طائل من المشي فيه! إلا أنني ـ وأنا أبصر حبيبات الزمن تذوب في الفراغات والمسافات اللانهائية ـ لا أرى شيئا ً باستطاعته أن يمنع بصري من الاستيقاظ: التاريخ بصفته لم يبدأ! وكأن لغز جلجامش مازال يمتلك غوايته: التفوق! والبحث عن سكينة غير التي يحدثها الفناء، أو الموت. فأتخلى عن المعاني ..فانا أدوّن بحثا ً عن هذا الذي لا أتوقعه: لون ما .. أو تصدعات، أو مخربشات تمتلك كل ما لا يمكن تحديده في الكل اللا متناهي وقد غدا مرئيا ً، أو تحت البصر. فانا لست منفصلا ً عن نفسي! ولا عن ختمي. لأننا ـ كلانا ـ لا نمتلك سوى استحالة نفي هذا الحضور ـ هذا الذي يتفتت، ويتجمع، كي يعلن عن صلابة نظام الامتداد؛ امتداد الفراغات وتجمعها، حد استحالة مغادرة حدود اللامحدود ـ والسكن فيه. لا مكان ولا زمن ـ للمؤجلات! فانا تام الموت، وتام الغياب، وحضوري وحده صار الختم بما يستحيل مغادرته. إنها لذّات أصابع أمسكت بالمفتاح وهو يدور في الهواء.
فبماذا امسك...وليس بين يدي ّ إلا ما أراه يغادرني، عدا إحساسي الخفي بان اللا متناهي يمتلك حضوره، لا كغواية، أو مناورة، بل واجبا ً.
هكذا ـ كما يحدث لمن تأجل موته ـ يختفي التذمر أو الاستسلام للتعب، فيغدو ـ هذا الغائب ـ حاضرا ً بما فقده. فاستعيد رغبة صياغة علامات أحاول فيها وضع مصيري برمته، لا للمباهاة أو لفت النظر، بل للتواري، والسكن بعيدا ً عن الرقابة. لكنني لم امتلك قدرة أن أصبح أعمى، إلا عندما ازداد ثقة بان مصيري يسبقني، فامشي خلفه، بلا استئذان، أو رغبة بالغفران. انه الذنب التام الموازي لولادة لا اختيار لي فيها بعزلها عن حتمية أن أراها تأخذ ـ غيابها وحضورها ـ كي أحافظ على شرود ـ وعزلة ـ كلاهما يجعلاني امشي في جنازتي ـ أو في موتي.
[5] المحنة: الفجوة ليست بعدا ً
عندما لا يقذف الفنان عمله (الفني) إلى السوق، بصفته سلعة، أو عندما لا يجد مبررا ً لعرضه خارج حدود المشغل، أو عندما لم يعد نتيجة أسباب خاصة، فانه، في لحظة استحالة العثور على ما يماثل مشاعر الانجذاب في الحب، أو في التصوّرات الاستثنائية، التي اتحدت وسائلها بغايتها، فان ثمة ظلمات لها فعل الغبار البركاني تجعل مصيره معلقا ً، فيرى انه ـ في العمق ـ قد هدم ما علق فيه من تاريخ، لكن ليس لصياغة علامات مميزة، وإنما كي لا يبدو ، في هذه المتاهة الحالكة ـ إلا وقد اجل خاتمته، مثلما أدرك انه كاد ينفصل عن ماضيه.
أليست هذه أزمة لاذعة، كالتي يكتوي فيها جندي في حرب لا معنى لوجوده فيها دخلها كي لا يغادرها، لا بالربح ولا بالخسارة، أو كحال من وجد انه غير قادر على الاندماج، حتى في الاستسلام لموته!
إنها ليست حالة سيكولوجية، أو اجتماعية (بسبب استحالة العثور على خلاص يوازي وعيه لوجوده) وإنما شبيه بموقف من وجد أن أفضل الاختيارات باطلة، فيكون ـ هنا ـ كمن حفر في الأرض قبرا ً لينبت فيه أسباب استحالة انه وجد فائضا ً، أو محض مصادفة، تاركا ً الأمل والخسارة والتصورات بعيدا ً عن الخاتمة.
هو ذا الطريق المائل المضاد للدرب العام، الذي لن يسمح بالارتداد أو الشكوى. فالصوفي يأمل ـ حد الصدق ـ بما سيجده في الفناء ـ أو بما لا يجده أيضا ً ـ وشبيه بمن تخلى عن أناه لقضية ما بلغت ذروتها في الوجد، والانجذاب حد المحو، إنما هنا تحدث المصالحة بين الكيان ـ كياني برمته ـ وما أراه أصبح شبيها بالملكية: الأشياء ذاتها لا تخفي إلا ما تعلنه، وهذا الذي تعلنه ليس هو الذي كنت أريد أن يكون مجموع الأشياء. إنها ـ اذا ً ـ المحنة وقد غادرت لغزها. فأنا أصبحت علامة مضادة؛ علامة بين علامات، كغريق لا يمتلك إلا أن يحيا حياة ما بعد الغرق: حال صوفي أخذه الوجد حد غياب غيابه. وهي ذاتها اللحظات التي طالما قاومت فيها موتي (المادي) كي أصحو ـ كآخر ـ كف أن يموت.
إن أصابعي تجرجر رفيف رغباتي فأراها تتداخل في وجه، أو في جسد مختزل، أو عبر اللا متوقع وقد أمد في ّ قدرة الموازنة بين المستحيلات والمنجز، وبين الأشكال وما تسترت عليه. فالإحساس الجمعي غدا لا صلة له بعلاقتي مع الآخرين، كما حرر (ذاتي) من قيودها، وغذاني بالتقدم، مرة بعد أخرى، وأنا أكاد امسك بالذي لم يسمح لي أن أعيش خارج انجذابه: أهو الفن، أم هو ما بجواره، أم هو حماية ما، أم الشيء الشبيه بـ (بالشيء)، الذي لن يقارن إلا بالمسافة بين الظل ونوره، أو ـ بمعنى أدق ـ هذا الذي اراه تكوّن عبر غيابي ..والا فانني اكون قد وجدت غواية ما للاندماج .. أي: للعزلة، كالميت وقد عثر على من يرقد بجواره!
[6] المحدود ممتدا ً
طالما أدركت ـ بعد تذوق مرارات العمل في الصحافة ـ أنني امشي آليا ضد إرادتي. فقد كانت الأخيرة لا تعمل على استنزاف الجهد ـ والتأمل ـ والشخصية فحسب، بل على دفع الفن باتجاه التداول. ان طبيعة الموجودات، منذ امتلكت الحد الأدنى للتحكم بمصيرها، وجدت أنها في الاشتباك. فالبشر ينقسمون إلى من هم في المقدمة، والى من هم في القاع: النظرية التي تعيد صياغة التقسيم القديم ـ الصياد/ الضحية، بما يناسب من يتحكم بالمصائر، وأنا أحسست، منذ الثالثة من عمري، بذلك الانقسام، ورحت أتتبع مساراته، ومشاهده، ونتائجه. ولست بصدد تفكيك خفايا المجال النفسي لدوافعي ـ هنا ـ بل لمعرفة دوافع من هم في المحيط/ الهامش لا يعملون من اجل استبدال أدوارهم بمن في المقدمة، وإنما لخلق توازنات لا تخلو من عدل، أو في الأقل: ليست جائرة. لكن العالم ـ بعد العصر الصناعي وما بعده ـ استثمر الأقنعة/ الأيديولوجيات، لجعل الاشتباك متواصلا ً. فالبشر لم يخلقوا للرقص، ولا لأداء أدوارهم في الاحتفال الجمالية، ولا للأعياد. فليس لدي ّ ما استند إليه عدا الأعداد الهائلة من الضحايا: في تدمير البيئة، والعناصر البكر، واستهلاكها حد الإيذاء ـ التلوث الشامل ـ، ومعاملة الحيوان بقسوة وجدت مبرراتها بأشكال مختلفة، فضلا ً عما خلفته الحروب من خراب وأخلاقيات قائمة على تعزيز التقسيم القديم. لكن العناصر وباقي الكائنات الحية لم تكف عن تشبثها بوجود اقل قسوة، وشراسة، ودناءة، إلا أنها لم تثمر إلا عن ذهاب القوى نحو غياب تام للشفافية. فالحياة ـ بزيادة السكان، وتراكم الموارد، وأدوات الفتك ـ مكثت تقسم البشر بين من يعمل مع المتحكم فيها، وبين من أصبحوا تابعين، وممحوين.
انه مشهد حفر في أسئلة أجوبتها ـ عند البحث ـ كانت مصدرا ً للمعاقبة، والإيذاء. فالسؤال، لماذا الفن، لم يفض إلى فضاء مغاير، أو ناء ٍ، عن تغذية التقسيم. لأن الفنون الجميلة ـ وضمنا ً الفنون الأخرى/ والفنون الهامشية ـ لم تجد جسورا ً مع من هم بحاجة إلى أساسيات الحياة: الخبز والماء والإضاءة والقليل من الهواء غير الملوث.
على أنني عقدت ثقة ليست عمياء تماما ً مع إرادتي في الانحياز إلى الفن. فثمة ظلمات لم أكن لأدرك كم هي بلا حافات لولا هذا القليل من الإنارة ـ وهذا القليل من الومضات. لكن القلب، هو الآخر، لا يعمل إلا كعمل مجرة بين المجرات! فهو لا ينبض بسبب أوامر يصدرها العقل، مع ان اللاوعي يسمح للوعي بمجاورة الضوء، والتدشينات السحرية. بمعنى اقل إحباطا ً للمغامرة فان القلب ـ بصفته مجرة وليس نجما ً أو كوكبا ً ـ يوازن بين برمجته نحو موته بغواية العثور على خلاص غير مزيف تماما ً. فانا لا اعمل وكأن كل جزء من الثانية ـ حد عمل قوى اللا مرئيات ـ برمج آليا ً في (الماكينة التي تخيلها ديكارت) وفي الوقت نفسه، فان تفنيد المصادفة/ المصادفات، لن يفند ظاهرة الاضطراب ـ ومبدأ: اللا متوقع ـ واللامعقول في الأخير. فالأشياء بوجودها ليست بحاجة إلى برهان ـ لأنها وجدت تلقائيا ً، أو خرجت من العدم ـ مادامت أفكر بأدوات، هي، غالبا ً، من أسهمت بصياغة هذه التصورات. فانا كمحدود أدركت ـ وهو مثال يقارن بحدود وعي الآخرين ـ ان اللامحدود الذي شغلني/ وشغلنا، لا يمتلك إلا ان يكون بحدود ما أنتجه المحدود، مع ان اللامحدود سيبقى ـ كالعدم أو كالأثير عند قدماء الحكماء ـ قائما ً ولا يمكن تفنيده. إلا أنني سأزداد شكا ً في تصوراتي، ولن استعين بها إلا نتيجة حتمية لاشتباكي مع المستحيلات؛ مع الزمن، ومع ديمومة التقسيم بين من اخترع التصورات وآخر لا يمتلك إلا ان يتدرب عليها، ويفندها، حيث العدالة ـ منذ أيوب السومري ـ لم يفلح إلا قلة ـ حد الندرة ـ من تخيل حتمية وجودها، كوجود العدم تماما ً. لقد كان عقلي احد أسباب انحيازي لرهافة طالما وجدتها في ما لا يحصى من المشاهد، ان كانت بالغة الدقة، أو باتساع المديات ما بين اللاحافات. ولكن قد تكون الرهافة ـ هنا ـ المصدر الأول، وليس الآخر الذي حدد عملها ـ هو السبب المباشر لها! لكني سأدرك ـ بالوعي وبالرهافة ـ ان احدهما لا يمكن فصله عن الآخر. فمن سوى العدم يستحيل ان يكون للوجود هذا التتابع، المحكم، حد ان اللا متوقع ـ والمصادفات ضمنا ً ـ مظهرا ً من مظاهره ـ وبرهانا ً على وجوده. لكن أي لغز سيحدد ماهية أو آلية عمل تلك القوة الداخلية ـ التي تبدو غير قابلة للدحض ـ في مواجهة استعادة العدم لموجوداته!
[7] اللاحافات ـ أو المشفر
أيا ً كانت النتائج: كل ما لم ْ ير عبر الحواس، أو عبر الحدس، أو عبر العقل، إن كان العدم الممتد ـ غير المدرك ـ أو الذي سينتج حلقة ما في التحولات، فان إرادة حياة الفرد لا يمكن عزلها عن مكوناتها ـ وتتابع أزماتها ـ كي ترتقي إلى الأفعال الخالصة. فالنسبية تعني أني مقيد بما امتلك، وليس بما أتخيل، أو افترض. لأن التصورات ليست مستقلة في ذاتها أو تعمل بمعزل عن مكوناتها.
أتذكر ـ هنا ـ أنني سألت زميلة لي في العمل حول سبب عدم نشرها مخطوطات كان والدها قد أنجزها ولم ينشرها، فقالت بصيغة سؤال: وماذا تنفعه إن لم تخلصه من الآثام؟ فسألتها: وما ـ بتصورك ـ فيها من آثام؟ فقالت: إن نصوصه الشعرية تتحدث عن مفاتن الحياة وغوايتها! هذا الحوار سمح لي أن استبعد نظام الذهاب إلى اللا عمل والوصول درجة الاتحاد بالكل، إنما ـ بعد أيام ـ سألتها: وما نفع كل ما تنجزه المخلوقات الزائلة للذي لا يزول؟ لم تبلغ في ردها ما كنت آمل أن تجمّد في ّ جذوة الشرود. لقد تحدثت عن الفضائل وما ينفع الناس. جيد. قلت لها: ربما في قصائده السر ذاته الذي لا يوجد إلا في الكلمات، أو عبر مشفراتها. السر الذي يتوارى في الأنظمة المشفرة للهندسات الجينية، بل الذي قد يكون سكن تصوراتنا ووعينا وحدوسنا التي تمتلك صدمات اللا متوقع، واللامعقول، لكن التي لها لغز هذا الذي يأتي من المجهول ليذهب ابعد منه! فقالت: أنا لا افهم هذا الكلام!
مع زميلتي المشفرة بدفاعاتها، استعدت حوارات لي مع الأستاذ مدني صالح ـ أستاذي وصديقي حتى رحيله ـ فلم يصدمني صالح بنبوغه وعبثه ووعيه الشعري كما صدمني وهو يتحدث عن عدم اكتراثي للغرائب، بل ولا للصدمات!
قلت لها: وهل يكترث المطلق ـ اللامحدود ـ لنا، ولشطحاتنا، ولظلالنا المائلة، ولعثراتنا...وماذا لو اكترث، وجرت معاقبتنا ـ بعد موتنا أو في حياتنا ـ إن لم تكن غاية لها ذروتها بما تمتلكه من حكمة! وأضفت: لكني أرى أن انشغال بعضنا بما يبدو فائضا ً، أو له معناه المغاير لانشغالات البشر بحياتهم اليومية، كالبحث أو الذهاب إلى المناطق النائية، لم يولد قسرا ً أو يولد من الفراغ. هل دار بخلدك أن يوما ما سيأتي يتمكن فيه الناس من استعادة ما حدث في أي زمن ـ وفي أي مكان، للتعرف على قانون: لا عبث ولا مصادفات في الديمومة، لا التي تعرفنا عليها ولا التي مكثت مقيدة بقيودها، إنما التي تجعل المعارف ـ كافة ـ مع قليل من الفضائل، لا يمكن عزلها عن نسبية أحكامنا، وأفكارنا. فاللامحدود يتسلل عبر نظامه كي يكتشف المحدود لهفته في المغادرة، لكن للامساك بما اعتقد فيه، أو تصوّره، بل للذي سيبقى ابعد من تحديد موقعه الذي استحال إلى قيود عند البعض، والى سكن في اللاحافات عند البعض الآخر!
[8] منعم فرات ـ السرداب خال ٍ من السلالم!
لم يكن النحات منعم فرات كاتبا ً، ولكن الكلمات القليلة التي تركها تكفي لمعرفة انه لم يكن مشغولا ً ببيع مجسماته، ـ وإن كان مضطرا ً لبيعها في بداية حياته ـ التي وضعته، ذات مرة، أمام القضاء، فقد كان يرى (الدنيا) سردابا ً خال ٍ من السلالم، وعراك البشر، عنده، غير مبرر، وهذا ما دفعه ليصغي إلى ذرات الخامات في تصادماتها، وفي عويلها العميق، وما تتركه من غموض ملغز، لا يليق بنا كبشر، ولا بأصول الاشتباك. انه سمح لي أن أتذكر أعظم شعراء العراق مرارة في المشهد ذاته، الملا عبود الكرخي، لأنهما كلاهما منحا الفلسفة الانتقادية سكنها في الفن. لم يكن منعم فرات بهلوانا ً، أو أيديولوجيا ، كي يخدعنا، ويوهمنا، ويغوينا، كانت مهمته قد سمحت له أن يستعيد تقاليد أقدم الانشغالات اللا متوقعة: الأشياء الشبيهة بالفن. لكن ليست الهامشية، أو المهمشة، بل المتجذرة في الشخصية الرافدينية، وايكولوجيتها العميقة. فالبدائي يذكرنا ـ في مجال مجاور ـ بالتماثل التكويني الحاصل في تكوينات أجنة الكائنات الحية، واختلافها، بعد ذلك. وكان هذا الاختلاف، في فنه البدائي ـ أو السابق على المعرفة التلفيقية ـ يخص إنسانيته، فلم يبحث عن الثراء أو الشهرة، فقد انشغل بأسئلة ترجع إلى المنطق: لماذا تنتهك حرمات المخلوقات الضعيفة، ولا تجد من يقف معها. الأسد لن يتحول إلى وليمة! ولكنه، لن يفلت من العقاب، عندما نعيد قراءة الدورة كاملة. كان هذا الانشغال يمتلك هويته ـ مع فجر التحديث في الحياة البغدادية ـ وبصماته، وشفافيته. فارجعنا منعم فرات إلى حكماء العصور السحيقة، من سومر إلى بابل، وصولا ً إلى مفهوم المعتزلة حول العقل، والمتصوفة بتخليهم عن غوايات التراب. فكان فنه إجابات لا تتضمن أسئلة، بل تزدحم بها، حد انه لم ير الحياة، إلا كما رآها الشاعر الملا عبود الكرخي ـ كما في رائعته المطحنة ـ فالدنيا ـ الحياة ـ لا تساوي شيئا ً كي تنتهي بالحساب! حساب يجري مع من: مع العناصر، أم مع المكونات، أم مع النتائج ... ومنعم فرات، كالكرخي، لم يهمل المسار المعقد للاشتباك، والتصادمات. فالضحية ـ كما في سفر أيوب السومري ـ يستعيد قراءة مفهوم العدالة برمتها. هذا الوعي العميق الكامن في فن منعم فرات، لم يكن بدائيا ً، أو شخصيا ً، كآخرين سيحولون فنهم إلى سلعة، والسلعة إلى ما تتطلبه من مهارة حرفية، وإنما بمهارة الفنان، كي تعالج قضايا توازي مرارة المحنة: المحدود إزاء مساحة الاشتباك وما تفضي إليه. فلم يحول فنه من اجل الكسب، ولم يسمح لحياته أن تكون عابرة. فلم يوظفها لأحد، أو يقع في غواية الدفاع عن وهم من الأوهام. لقد وجد مصيره شبيها ً بمن سبقوه، التمسك بالدفاع عن الهزيمة ـ وعن المهزومين ـ: فالاشتباك لن يقود إلى نصر، ولن يقود إلى خاتمة، عدا ديمومة مقدماته ونتائجه: الأكثر رهافة في مواجهة جبروت الظلم ـ والظالم. وحتى لو كان قد اختار الفلسفة ـ كأسلافه المعتزلة ـ لكان لقي حتفه في سرداب، أو لكان اختار الفناء/ والتطهر/ والعفة / كالمتصوفة، ومات ضحية الأنظمة ذاتها في إنتاجها لبنية الاشتباك. تلك كانت ريادة منعم فرات التي صاغها ولفت انتباه نقاد أوربا ـ وربما الاستثناء الجدير بالذكر هنا، هو استأذنا الدكتور أكرم فاضل في عنايته بالفنان ومهد للباقين في الحديث عن حياته وفنه ـ كي لا يذهب المجهول.
لكن مهاجرا ً لم يحتمل مقاومة الرداءة في وطنه، لن يرصد الجهد الممهد للوعي النقدي ـ على صعيد الكتابةـ أو في الانجاز الفني، خلال القرن الماضي، في التشكيل العراقي، كي يهمل الجهود كافة، ولا يستثني الا من راه عبر ثقب في بصره! فلم يذكر ان الوعي النقدي عند منعم فرات، ومحمود صبري، وجواد سليم، لم يكن عابرا ً، كما لم تكن المقدمات النقدية عند جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن، وعباس الصراف، بنزقة في هذا المجال. وسيقال لي: لماذا تشغل نفسك، وتشغلنا، بما هو بمصاف اللا فعل!
أعود إلى منعم فرات، كإجابة تلخص المسار ذاته لنسق من قال كلمته ومضى، كما قالت العرب، لكن هذا ليس اعترافا ً بالهزيمة، بل للفت النظر إلى البلاغة الزائفة لعصر الإعلانات، وإهمال سيسمح للدورة أن تبلغ نهايتها: الاستهلاك. لأن مفهوم صياغة الأختام البكر، لن يغادر لغز تكّون الرهافة ـ من الأصابع والحواس إلى الدماغ، ومن الأخير إلى الوعي والى النص الذي غدا نموذجا ً للأكثر احتمالا ً في تدشين الدروب الوعرة. فعندما تشتد العتمة ـ لا بغياب مصدر الإنارة فحسب ـ بل لانحسارها لدى الباحث وتحولها إلى حلقة بين لا محدودين ـ أو مجهولين. وإذا كان من الصعب إجراء مقارنة بين ما ينتجه المحدود، وصلته بما هو ممتد، فان الأخير، ليس فائضا ً في حضوره عبر علامات قاومت زوالها، لا كي تغوينا بالخالد، والسرمدي، بل كي لا تمجد الوهم كثيرا ً!
[9] اللاحافات ـ الصفر عددا ً
وأنا انظر إلى تلال القمامة، التي كانت ترمى إليها جثث المغدور بهم وتترك نهبا ً للكلاب التي لا اعرف أأنا كنت انظر إليها مذعورا ً أم هي التي كانت تؤجل مشروعها نحو جسدي، فكرت بالمخلفات: نفايات المدن في خرابها/ وما يخلفه الزمن/ ولا مبالاة الناس. فإذا كان الأوروبي يتداول سلعه، ليستهلكها، فهو أكثر فهما لمصيره بين خاتمته ومقدماتها. بضائع جميعها لم تصنع في بلدي، فالناس تحولوا إلى مستهلكين، الأمر الذي عزز عزلتهم، وهمومهم، إلا في الرصد والمراقبة. فالعمل أصبح ـ كما كان عمل المزارع أو الحائك قبل نصف قرن ـ لوثة! فكرت في النفايات المنتشرة، في الساحات، مع بقايا أشجار مهملة، وعند نهايات الأزقة، وفي الممرات الجانبية، ولماذا أصبحت لا تثير القرف! هل لأن من أسهم في دفن أحفاده يجد سلوى في عرض نشاطه، بعد أن صنعه، كي يدافع عنه في هذا العرض الغامض للأعماق، والخواء! فانا لن أنسى أن أستاذا ً يعمل في وزارة ثقافية وتربوية، طالما انجذبنا إلى حواراته حول ما يحدث، رايته، في يوم عاصف، يفّرغ سلة المهملات فوق تل الزبل الذي يقع في نهاية الشارع! ما علاقة هذا بعملي وأنا مشغول بالعثور على غواية للتنفس، وليس للخلاص! فالموت هو الذي بلغ ذروته، أما الحياة، فلم تعد إلا دحضا ًلكل ما تعلمته منها. الأمر الذي سمح لي أن احفر مساحة ارقد فيها، في الختم، ختمي، أو في العبارة، عبارتي. على أن دوافع الحياة ليست ذاتية، من غير محفزات حتى لو كانت بحجم مرور طير، أو تأمل شجرة معزولة بين مدافننا. فالمائة عام الأخيرة، التي أراها أمامي، ليس باستطاعتها إلا أن تسهم بموتي جزءا ًجزءا ً، وها هي تحول الأشكال إلى نفيها، ولا تترك للدوافع إلا أن تكون لا متوقعة، ولا معقولة. فهل كان إنسان المغارات ـ الذي وجد نفسه يحفر فوق الصخرة، أو يرسم فوق الجدران، يعمل بدوافع القهر، وهو ـ مثلي ـ أدرك أن الجدران لن تحمي شيئا ً، أم كان، لسبب ما، يعمل بقوة الديمومة، واليات غوايتها؟
أليس من العبث أن اسأل نفسي سؤالا ً حول اللغز الذي سكنه، وجعله متوازنا ً، وهو عرضة للافتراس، بدل أن أحاور الجزء الآخر في راسي؟ يصعب علي ّ ـ الآن ـ الإجابة عن سؤال: ما الصدق/ ما الواجب/ وما الصواب ...؟ فالاشتباك ـ الشبيه بحرب الجميع ضد الجميع ـ لا يستند إلا إلى نظام الصياد ـ الضحية، هذا الذي ـ خلال قرن ـ اتجه نحو خاتمته: بلدان غادرت التاريخ،وبعضها تُرك يحتضر فوق تلال القمامة، وعند الخرائب، وأخرى تنهش بعضها البعض الآخر؟ فأي أمل، أو حرية، أو خلاص، أو منطق، بإمكانه أن يستبدل الوهم، والرداءة، والتعفن، بهواء غير اسود!
لقد تحدث (ادلر) عن الدفاعات التي يستند إليها المنتحر، الدفاعات السلبية، لكنها، في الأخير، لا تقل رداءة عن عمل الشعوب التي تفترس أخرى، وتحولها إلى مخلوقات بلا غاية، ضائعة، وحشية، ولكنها ـ كالكلاب التي كنت أراقب شراستها ـ لا تعرف الرحمة.
وأنا أراقب الريح تهز سعف نخلة الجيران، اجهل ما اذا كانت هي التي تمشي في جنازتي، أم أنا هو من يمشي في جنازتها! الريح، بمعنى ما، الوسط المرئي للعبور، لا تمتلك إلا عفنا ً تحمله معها، داخل أرضنا، دون إضافات تذكر. فالعفن الذي حصل، بعد أن انفصلت الأرض عن نجمها، وتجمعت العناصر، وصار لها مجالها الحيوي، أنتج لغزه. فذرات هذا الجسد، جسدي، مع كل ما أنتجته، ونطقت به، وكتمته، سيكّون جزءا ً من الريح وهي تؤدي دورها ـ الذي لا مقدمات له، ولا خاتمة ـ في المرور، والعبور، والإعادة. فثمة آخر مغفل سيعمل لا على غواية الآخرين، أو إيذاء البيئة، بل في الذهاب بعيدا ً في مدياته من اجل التوازن. حقا ً أن من لا وجود له ـ أمامي ـ أراه يحفر ـ كما اشتغل في فك مشفرات مخلفات السابقين ـ واراه، مثلي، يجهل سر استحالة استبعاد القبول إلا بالغواية نفسها: المرور إلى هناك، وابعد، في انتظار الذي يمر بأسرع من زماننا ـ في أبدية اللاحافات!
[10] عودة: جذور التأمل
هل باستطاعتي أن اجري مقارنة بين عدد من المهن ـ بالمفهوم العام ـ كمهنة صانع الأسلحة، أو الأحذية، أو صانع الأواني الخزفية ...الخ بمهنة القاتل أو اللص أو المشتغل بإدارة أعمال لا شرعية ومنها إدارة المواقع الداعرة، أو التنكيلية، أو الخاصة بالشذوذ والغرائب، بمهنة شخص وجد انه مشغول بفك شفرات مقاومته للاندماج، حد المحو، والتلاشي، وتمسكه بفردية لا علاقة لها بالمهن، أو بأي مشروع للتعالي فوق البشر، أو عبادات سحرية سرية، بل، في الغاب، وجد انه غارق في مسار الترقب، وتتبع حلقاته...؟ إن انشغالا ً قديما ً ـ ومتجددا ً ـ يدفع بعدد من الأشخاص للإعلان ـ وللكتمان أيضا ً ـ عن هذا الضرب من الاضطراب، والتكيف، ان كان مرضيا ً، أو مجاورا ً له، نحو موقع صناعة (أشياء) ليست مهمتها لفت النظر، أو سلعا ً للتداول، أو حتى محاولة للاندماج المشروع، والواقعي. لكن هؤلاء المحصنين، والمحميين ذاتيا ً، لا يمتلكون الذهاب ابعد من وظيفة (ما) بين التقسيم الاجتماعي للأفراد: تقسيم العمل، كي لا يجد صانع (الفن) نفسه إلا ـ كالكاتب ـ وفي مجتمعات المنظمات المنغلقة ـ معزولا ً ووحيدا ً. مع ذلك فعدوى الرهافة، في الأصل، تمتلك ديمومتها، وعملها بين الأعمال الأخرى. فالتفرد ـ في الختم/ التوقيع ـ ليس علامة جذابة، ضمن بضائع السوق الحرة ـ أو عبر حرية السوق ـ بل للصانع نفسه. فهو ـ كما في عدد من حالات الشرود/ والتوحد ـ يغدو قوة لمغادرة الانعزال، والضمور. فهذا الذي سيحدث (ويحدث)، في واقع الأمر، شبيه بمن وجد نفسه موجودا ً، كي تتكرر الأسئلة ذاتها المحفورة في النصوص، إن كانت كتابية أو فنية، فالدورة لم تكتمل، وإلا لوجد الفنان مصيره مع الحرفيين، وغدا منسجما ً في أداء عمله، بدلا ً من انتظار الذي ذهب، أو الذي لن يأتي أبدا ً، وإنما الذي له حضور الغائب!
هنا، وهنا تحديدا ً، لم يعد للنبش في المخفيات، الاهتمام ذاته في التوغل خارج حدود الخامات، الأمر الذي يدحض ـ ولكن يكرر ـ انشغالات الساحر القديم: ليس المهم الحصول على الدهشة، بل كيف تبقى تحافظ على لغزها: هذا الانجرار، بطيب خاطر، إلى المتاهة بصفتها لذّة، ومضادة لها، في الوقت نفسه!
[11] ماض ٍـ يتقدم ـ وآخر يثب
فإذا كانت الدهشة قد تجمدت، وكفت أن تكون واقعا ً، وإذا كان الانشغال بعدم الربح شبيه باللامبالاة تجاه المحو ـ أو الخسران ـ فان أمرا ً ما مشتركا ً بين ذاتية الفنان ومحيطه يتحدان لا ضد الرغبة، بل بجعلها أكثر قربا ً من صياد أدرك انه لا مناص الضحية. على أن هذا الذي لا ابحث عنه ـ في أختامي ـ كالجراح لا مناص أبصر موت مريضه، كلانا منشغلان بحاضر سابق على الانجاز! ثمة أزمنة أجدها تستيقظ عنوة: فانا جزء كلما اتسعت مسافتي عن باقي الأجزاء أجد أنها تعمل في ّ: ما لا يحصى من التصورات حول ما بعد الموت، كالتي تراود مخيال الفيزيائي في احتمالات اتساع ـ أو تقلص ـ أو بقاء الكون على ما هو عليه. إن المشترك بينهما يخص استكمال بقاء الماضي ماضيا ً. فهو يزحف، ولن يتراجع، بل يكمل بعضه بالبعض الآخر في المسافة ذاتها.
محنة أخرى تثب، ستوازن بين المرارة وبين لذّات النشوة. فكما يجد العاشق أقاصي المسرة في استحالة لقاء من طلبه، فانا أتلمس في الدوافع شيئا ً ما آخر غير الذي أراه مرئيا ً، ليس ما توارى ـ أو ما هو قيد الاندثار ـ بل هذا الذي امسك في ّ وقيدني في العمل.
الفن شغل، بمعنى: عملا ً مضادا ً للعمل. لكن طبيعة هذا العمل ـ كالحرية ـ لا تعّرف بمفهوم أو بخاتمة. فهو اذا ً وجود ينفي وجوده. وهنا أكون قمت بما يؤديه الدياكتيك (الكلي) باستبعاد أي سبب عن الأسباب الأخرى. فإذا كانت نهاية ما أره يغادر، فان ما هو قيد الغياب سيتشبث بأبدية الثابت، أو ما غدا خالدا ً بحدود معنى الكلمة ـ وحروفها ـ وتصّوراتها.
فالعالم مكث ـ من بضعة كائنات إلى مليارات سبعة من السكان اليوم ـ راسخا ً باستحداث قدمه ـ ومقدماته المكتفية بذاتها. وهنا أجد رهافتي شذبت درجة أنها غابت في ّ. فالأجزاء غير القابلة للإحصاء ـ جزئيات/ ذرات/ كيانات/ مجموعات، وصولا ً إلى لا حافات الاتساع، أو نحو الصفر ـ قد قيدت ودونت في ّ. فانا، مرة أخرى، أجد نفسي بجوار شبيهي: ميتان يتبادلان الموت، لكنهما يعبران من الماضي ـ إليه ـ بعيدا ً عن الموت. فالدوافع تكاد ـ في انفصالها عني ـ لا تمتلك إلا حدود المفتاح وقد دار في القفل. انه المحدود ـ أو النسبي ـ وقد اتسع خارج إمكانية تلمس أي حافة من حافاته. فهل قصد أسلافي ـ في التحول من الشفهية إلى الحفر والى الكتابة ـ هذا الذي أنا أؤديه استكمالا ً لماض ٍ، بحسب قدراتي في التصور، ومن غير خاتمه له؟ لأنه لا يمتد، ولا ينبثق، ولا يرتد، ولا يتماثل، ولا يكتمل. بمعنى ما انه سيحافظ على ما في العمل من قيود، وأنظمة، وضمنا ً، من ارتواء يستدعي مستحيلاته. فالذي يقع هناك، غير منفصل عن التمهيدات التي استحدثته، لكنه سيبقى يمتلك ما يريد أن يؤديه، إنما بما أريد أن أنجزه، وليس بمعزل عني.
[12] ديمومة الغائب ـ الموت حاضرا ً
الأختام مجّفرة ـ مشفّرة ـ بمعنى أنها لا تخفي بصمات حاملها ومخفياته، بل ولا صانعها، لأنها، في ما تخفيه، امتلكت لغز موتها بتمام حضوره. فما دوّن فيها يمكن عزله: القصد والتداول والهوية، فيما اكتشف، بعد عزل الزمن عن حركته، أنها صنعت لتخفي ما لم ـ ولن ـ تعلن عنه. ففي الختم ديمومة علي ّ ان لا أقع في وهمها، ديمومة بدأت اعزلها عن أسبابها النائية. فجأة بدا الختم لي ـ مثل إنانا ـ علامة توارت فيها ما لا يحصى من العلامات. على ان الختم ليس علامة ـ للتداول ـ والتجاور ـ والمنفعة، فالختم قبر.
أعدت قراءة بعض الأشكال، فلم اخف ولم اصدم أنها شبيهة بما أراه في (ما أنا عليه/ جسدي، أو هذا النفس، أو الروح التي لا اعرف كيف آوتني معها فيه) هذا الجسد. فليس مصادفة أنني اشتغلت بالمدافن: مدفن شبعاد/ ومدفن والدي/ ومدفن الجنيد. فقبل عقدين، وفي ليلة شتاء باردة، قبيل الفجر، طلبني شيخي فذهبت إليه (كان معي عدد من الفنانين اذكر منهم هيثم حسن، سلام عمر) فلم أر إلا جسد الأرض: ختمها. لكنني كنت تعلمت ألا أقع في غواية الوهم. فالقبر ـ كالختم ـ ليس شكلا ً أو هيئة، بل ممرا ً من الأرض إلى لغزها. فاكتشف أنني لم اغدر جسدي بعد، إنما استطيع الاعتراف أنني تحررت منه. كذلك القبر لا علاقة له بمن فيه، إلا في حدود الأشكال. فهو مدرج سفر ـ وطيران ـ ولم يصنع للإقامة.
يا للفرحة التي بلغت ذروتها: كم يشبه جسدي القبر، وكم يشبه قبري جسدي! كي أعيد استذكار اللحظات التي عشتها وأنا انزل إلى سراديب قصر شبعاد، في رمال أور، وقد تحولت إلى خرائب. تلك الأختام المبعثرة، مع الحصى، كانت تعلن عن هذا الذي أراه يغادر، كما حصل في الماضي ـ وكما يحصل أمامي ـ أراه تام الغياب.
كم أشبه نفسي! فها أنا استطيع ـ بما يتضمنه الختم ـ أن أوحد بين المتضادات التي غطست فيها، حتى تحولت إلى رحم، أم باستطاعتي مغادرتها، كما تتكون النصوص الشبيهة بالفن؟
ها أنا أتكّون في مساحة اللاحافات. فانا لا اسكن من سكنني، ولكنني لا امتلك قدرة الانفصال عنه. فاستعيد قدرتي على صياغة لماذا كان اسم [إنانا] شبيها بختمها، ولماذا تركت أصابعي تنتج ما نسجته آلهة الحرب/ الحب في ذاكرة أسلافي، وفي ما يدفن في أختامي.
فانا غير معني ـ يا له من اكتشاف ـ بما زال، وبما أراه يتبعثر، أو أراه يأخذ حبيبات الأثير/ والزمن، بما يتجمع. فالختم ليس ما نقش أو ما حفر، بل بما هو قيد الحفر. انه السابق على التجربة ـ وهو الملحق بها. ولأنني مشغول بعدم التمويه أو التضليل أو المناورة، فان التجربة تأخذ أسبابها التي كونتها، ومادامت الأسباب بلا حافات، ولا نهاية لها في وجودها، فإنها لن تعد بحاجة إلى برهان أو نفي. وهنا اكف تماما ًعن الأسباب التي استدعت أسلافي لصياغة رموزهم النائية. لا لأنها محض تصوّرات، بل لأنها مناورة القبر لمن لم يسكنه بعد. أما ما بدا لي خارج ضرورة البرهان فهو شبيه بالمثلث أو المستطيل أو المربع، وككل الأشكال أينما تضعها فإنها لن تذهب ابعد من وجودها كما ظهرت عليه، لأنها، في واقعها، لا تمتلك إلا ما سيشكل مغادرة لحضورها: حضوري وأنا مسبوق بوجود سابق على هذه الأشكال!
الخميس، 15 سبتمبر 2011
الثلاثاء، 13 سبتمبر 2011
لقطات فوتوغرافية اثرت في العالم
في 22يوليو 1975 سمع مصور جريدة بوسطن هيرالد بواسطة جهاز الالتقاط الخاص عن حريق وقع في شارع ملبورو في بوسطن فذهب لمكان الحريق ليلتقط هذه الصورة للسيدة ديانا بريتن وفتاة صغيرة وهما تسقطان من المبنى الذي كانتا تعيشان فيه قبل الحريق. ديانا توفت في لحظة اصطدامها بالأرض لكن الطفلة عاشت لحسن الحظ لان رجل اطفاء حاول حمايتها وديانا من قوة الارتطام فنجح معها وفشل مع الاخرى.
حاز ستانلي جي فورمن على جائزة ال Pulitzer على تغطيته للحريق بالصور لكن الاهم من الجائزة أن عمله مهد لفرض قوانين صارمه بما يتعلق بحوادث الحريق وشروط السلامه في بوسطن والولايات الأمريكية الاخرى.
صورة حزينة لفتاة ال 13 اوميرا سنشيز التي ظلت حبيسة المياه والاسمنت لمدة 3 أيام اثر بركان نيفادو دلرويز في كولومبيا في 14 نوفمبر 1985 والذي راح ضحيته مايعادل ال 2500 انسان.توفت اوميرا بعد فترة قصيرة من انقاذها لتسبب الصورة الكثير من المشاكل للمصور الذي اتهم بعدم الانسانية واستغلال ماساة الفتاة للتصوير بدلا من محاولة انقاذها باسرع وقت. كذلك تسببت الصورة لمشاكل للمصور مع الحكومة الكولومبية التي ادركت بكون الصور تلك دلالة على فشلها وعدم كفائتها في التدخل لانقاذ الشعب في الكوارث.
التقط هذه الصورة المصور مالكوم براون في 11 يونيو 1963 عندما قام الراهب الفيتنامي ثيك كونق دس باشعال نفسه حتى الموت في احد أشهر واكثر شوارع سايقون ازدحاما .جاء الحادث كاعتراض ومحاولة لفت النظر لمشكلة رهبان البوذية الذين عانوا تحت نظام ديم الكاثوليكي الذي تحكم في جنوب فيتنام حينها.كان الرهبان يطالبون بحقوق تتساوى مع الرهبان المسيحين لكن النظام مارس عليهم القمع ومنعهم و من رفع اعلامهم الخاصة ومن ممارسة طقوسهم ومعتقداتهم.
الغريب ان الراهب لم يتحرك من مكانه اثناء احتراقه ولم يصدر عنه اي صوت!
حظى المصور ماكس اقيليرى عام 1999على فرصة العمر عندما سمح له بتصوير واحدة من اهم عمليات تصحيح تشوه السباينا بايفيديا .تمت هذه العملية الرائدة على الجنين صامويل سويتسر الذي لم يكن يتجاوز وقتها ال 21اسبوع وهو لا يزال في رحم امه.
يقول اقيليرا"خلال العملية التصحيحية اخرج صامويل ذراعه من الفتحة الجراحية في رحم امه. رفع الجراح ذراع صامويل لنفاجأ به يمسك اصبع الجراح الذي هز اصبعه في محاولة لاختبار قوة الجنين الذي تشبث باصبع الجراح ولم يتركها.في تلك اللحظة كان لها تأثير عميق علي كمصور يحكي القصص خلال عدسة كامرته ".عندما ولد صامويل لاحقا اعتبر اول جنين يولد مرتين.
بعد القبض على تشي جيفارا واعدامه قام قاتليه بدعوة مجموعة من المصورين لالتقاط هذه الصورة ليثبتوا للجميع موت "تشي العظيم"فيخفت تاثيره على متبعيه. لكن الصورة اضافت بعدا أعمق لاسطورة تشي لم يحسب لها قاتليه أي حساب لأن معجبيه قاموا بمقارنة ملامح تشي المتسامحه مع المسيح.
كان ويلهلم كونراد رونتجن اول من تلقى جائزة نوبل للفيزياء فى عام 1901 وهي جائزة يستحقها بسبب اكتشافه الذي يعد ثورة في عالم الطب وكان رونتجن قد اجرى سلسلة من التجارب لاحظ معها انبثاق وهج فلوري من الباريوم بلاتينوكيانيدي . جمع رونتجن ملاحظاته تلك وساعدته زوجته التي قدمت كفها لتجاربه وقام بتصوير اول اشعة سينية سهلت للعالم النظر لجسم الانسان من الداخل بدون التدخل الجراحي.
اودلف هتلر امام برج ايفل في باريس عام 1940 وعلى يساره معاونه المهندس البرت سبير
أول صورة عامة لغيمة ناقازاكي بعد القاء القنبلة عليها في 9 اغسطس 1945 والتي تسببت بمقتل 150000 نسمة وتسببت بدمار اعظم بسبب الحرارة العالية والاشعاع والريح التي نشرتها. كانت القنبلة الذرية الاولى القيت على هيروشيما في 6 اغسطس قتلن مايقارب ال 80000 انسان لكن اليابان لم تستسلم مما دفع امريكا لالقاء قنبلتها الثانية. وكان طيار ال B-29 شارلز سويني متجها بالقنبلة نحو Kokura Arsenal عندما منعه الضباب من الرؤية فتوجه لنقازاكي بدلا عنها.
كارثة منطاد هيدنبيرق لم تكن الحادثة الجوية الاسوأ لكنها كانت الوحيدة التي صورت وقتها ويقال ان هذه الصورة التي التقطت في 6مايو 1937 انهت صناعة السفر بالمنطاد. قتل في هذه الكارثة 35 من اصل 97 من ركاب المنطاد زيبلن الذي كان يعتبر حتى تلك اللحظة اكثر وسائل السفر الجوي امانا والتي كانت متاحه ايامها.
الاثنين، 12 سبتمبر 2011
قصة قصيرة,خطاب العرش الأخير:عادل كامل
قصة قصيرة
خطاب العرش الأخير
عادل كامل
لم تكن العواصف قد هدأت ، ولا أصوات قرع الطبول في الشوارع ، عندما استدعت الملكة كبار حكماء القصر .. كانت في الواقع تقوم بآخر محاولة لتفسير فوضى رموز أحلامها الرديئة . وهذا ما دار بخلدها ، وهي ترتدي أفخر ما لديها من ملابس القصر ، وتسير ، بهدوء غريب ، باتجاه صالة الحكماء . تلك الصالة التي دخلتها قبل نصف قرن ، لمعالجة أحزان القلب الغامضة .
حدقت في وجوه الحكماء .. كانوا ثلاثة .. وكان كل منهم يحسب ألف حساب لهذا المساء الأخير في حياة ملكة الملوك ، التي حكمت البلاد ، مائة سنة وعشر سنوات إضافية .
قالت بصوت واهن ، إنما لا يخلو من إنذارات :
- لم تعد لدينا مشاكل تذكر .. إنما تقدم العمر بي ومضى كأنه لم يكن .. وتلك مشكلة لم تعالج . في الواقع كنت أحلم ان أبقى فلاحة ، أزرع الأرض ، في مكان خالٍ من الصخب ، بدل هذا الشعور المؤلم بالعجز والوهن .
ووجهت السؤال إلى البروفسور الأول :
- فماذا فعلت ، أنت ، أيها الأحمق ، لحل مشكلات الألم السعيد ؟
لاشيء .. لاشيء .. عدا الألم ألا بعد الذي يجعل النهايات متساوية في الأخير . هل أخبرت الكاهنة ، وأجهزة التذكر الضوئية ، بالعجز الأزلي لعقولنا بسبب التصورات الكسولة ؟ لم تفعل شيئاً يذكر ، باستثناء تحسن النوع البديل ، ولكنك أهملت بتكاسل القضايا الكبرى .
سكتت ، صاحبة الجلالة ، بإشارة من الجهاز الذي كانت تراقبه ، ويصدر لها الإشارات . وكان البروفسور قد تلقى الكلمات بخيال مرح ، ورحابة .. فقد كانت (( أم البلاد )) و (( القمر الأبدي )) و (( منقذة الإنقاذ )) تجد سلواها بهذه الكلمات مع خاصتها . أجل . قال لنفسه ، بحيل لا يكتشفها جهاز كشف الضمائر ، أنها أعظم داعرة لا تقل سوداوية من الموت في مستنقع ، ومن الزواج بحمقاء واحدة لا تجيد ألا تحويل الذهب الى تراب . أجل ، أنها المقدسة ذاتها التي يمر عليها الزمن مرتجفاً . وأسكت عمل العقل عنده ، ليتفحص محياها ، في مساء السخط والعواصف والحرب الغامضة التي لا تريد ان تضع أوزارها ، ليصدم وهي توجه الكلام أليه :
- لقد آن أوان أن أتخلى عن هذا العرش ، تصوّر ، أيها الطبيب الفذ ، تصوّر .. لقد آن أوان أن أموت .
ثم ضحكت . ووجهت خطابها للحكيم الثاني :
- تصوّر .. أني لن أبقى ألا .. ذكرى .. كلمات في سجلات هذه المملكة الفاسدة . تصوّر ، سأطوى كما تطوى الصفحات .. ها .. ها .. تصوّر .. أيها الأخ الذي كشفت له أم البلاد خفاياها ، تصوّر ، أني ، أني أنا ، أني التي حكمت بالعدل العادل ، مائة سنة وعشر سنوات ، سأدفن ، مثل بقرة مجنونة ، مثل أية أرملة شمطاء ، مثل أية شاعرة لم يسعفها الجسد باستئذان دخول شياطين الجمال المر . قل لي ..
ورفعت صوتها :
- ألا ترى ان الشعر أكذوبة . ؟
قال وهو يعالج دوار الرأس الذي يفقده الوعي :
- يا جلالة الملكة ، لم أشتغل ألا بمعالجة أمراض الجسد .. ولم أشتغل بمعالجة أمراض الكلام
تابعت ساخرة :
- المشكلة التي كادت على إمبراطورية عظمى ، مثل إمبراطوريتنا ، ان تغيب ، أمسكت بها أنا .. تلك هي مشكلة الكلام والكتابة ، بعد ذلك .
وقالت وهي تغادر كرسي العرش ، وتقف أمامه :
- أني أموت أيها السيد .. أيها العبد . وهذا هو آخر يوم لي في الدنيا . أي أني سأسلم المملكة لولدي العجوز المخرف الذي ينقب في ذاكرة الهواء . أصغ : ألا تعتقد أني مصابة بداء الحب .. وليس بأي ذهان أو بأي مرض من أمراض بلور الفضاءات .
أجاب بتردد :
- الإمبراطورية بخير .. وحبك لمليارات الذرات الحية هو سر خلودك .
- ولن أغادر.. ؟ وصرخت :
- ولن أذهب أرقد وحيدة تحت التراب في هذا البرد ؟ ولن أذهب جثة هامدة والحرب مشتعلة .. ها .. أيها الولد العاق أني لم أعد محاربة .. ولا أحد سيصدر أوامره الى الفرسان .. ولا أحد سيصنع للناس الأبرياء الأعياد . تصوّر ، أن الموتى سيدفنون فوقي .. بل وستدفن الماشية .. والكلاب .. ثم ، بعد ذلك ، تولد الأشياء الأخرى .
عادت الى كرسيها . وقالت تخاطب نفسها :
- كان عليّ ان أكون شاعرة ..
لكن الجهاز أشار لها بكلمات دارت بخلدها [ (( كنتِ أعظم شاعرة بالكلمات وبالصمت . من ذا الذي حكم ألف عام ومائة عام مضافة ؟ من ذا وضع أسمه في كل مكان . )) – (( من ذا كان قد حول الهواء الى مسرات ؟ ومن ذا الذي لا تصفق له الأبدية الى أبد الآبدين .. )) ]
- أجل .. هذا الجهاز غدا يكذب عليّ .. مثلما تكذبون عليّ ، في عقولكم .. أتعرفون ماذا قال لي ..
صرخ الجهاز :
- إنذار .. إنذار .. إنذار .
وساد الصمت .
قالت وهي تستعيد ذاكرتها :
- أه .. أيها البروفسور .. كنت أتحدث عن اللغة .. وعن الحب .. وهي مقارنة مقرفة لديكم أيها العلماء .. ولكني أشعر أننا كنا غير جادين في إدارة شؤون الوعي .. مثلما كنا في معالجات قضايا التسامي . لقد كنت أعتقد أني خالدة .. بينما اكتشف الآن أني مريضة بالحب ! امرأة تسلمت دفة القيادة وهي في الأربعين ، وحكمت ألف ومائة عام .. تشعر أنها ، كانت لا تعرف لماذا لم تصبح فلاحة أو شاعرة .. بدل ان تشغلها مشاغل حكم الحكم ..
وصرخت :
- كأن العواصف وحدها تعرف ذلك .
وساد الصمت برهة ، ثم قالت متابعة :
- ولا أحد سيقود الجند الى النصر . ها .. لا تسخر أيها الحكيم الثالث ، حكيم قلبي ، لا تسخر وأنت تقول لنفسك : ان المملكة هي التي تترنح . فأنا أسمعك ، أسمعك الآن تقول ، أني أترنح . كلا : أني للحق أعيش الدور الذي لم أعشه من قبل .
ثم سألته :
- نولد ونموت .. ونموت ونولد .. قل لي ماذا فعلتم لحل هذه المشكلة . ؟ ألم أقل ، قبل قرن ، لا نريد ان نموت ..
لم يجب . فقالت ، على غير عادتها ، بهدوء :
- أنا التي تموت الآن .. أيها الجنرال .. لكنك لم تفعل شيئاً . كنت لا تبحث ألا عن ثروتك .. وأخيراً علمت أنك تنصلت عن الواجب .. ألم أقل لك أننا لم نكن نفكر ألا بالشعب المتمتع بذكاء كبار الآلهة .. أنا لم أتطرق الى المستحيلات – وسأتكلم عنها اليوم ، قبل ان أدفن تحت أقدام الكلاب السائبة – أي أنك ، دفعت بالسكان الى الاستسلام بعيداً عن الشك الذي عذبني ..
نهض وركع أمامها :
- أبداً .
وأسترسل :
- لقد كنت أؤدي واجبي بأمانة . لكني كنت أفكر ان لا تموت الذكرى ، وان لا تمحو الأسماء الاسم ..
- ها .. وان لا تُمسح أقدامنا من فوق الرمال .. أيها الولد ، هذه هي الأكذوبة .. ولكي لا تشعر بالفزع ، قبل ان يحل أوانه ، أقول لك : لا أسماء هناك .
وضغطت على زر بالقرب منها ، ثم عدلت من جلستها ، وقالت للحكماء الثلاثة :
- أني سأرحل .. في هذا اليوم .. وهذه ليست مشكلة مملكة كبرى .. أو مشكلة إطلاقاً . ان الوعي يبحث عن بؤس آخر .
وقالت بمرح ، وهي تنهض من كرسيها :
- أنا أسأل نفسي ، يومياً ، منذ قرن ، لماذا لم ابق فلاحة وصرت ملكة .. ولماذا لم أمت ، مع مليارات الموتى ، بدل إثارة هذا السؤال : ما جدوى اختراع الأسئلة إذاً كنت أقدر ان أنحدر مع الغروب الى الصمت ؟ والآن أيها السفلة آن أوان قتلكم . أنت .. الأول : هل لديك كلمات أخيرة :
- أبداً : الذاكرة صماء . فأنا تعلمت ان لا أتعلم . ففي الحرب الكبرى علمت الجند الواجب الأول : الحرب هي الحرب وهي الكرامة . وعلمت نفسي ان لا أشك بهذا الواجب ، ما قبله أو ما بعده ، وقلت : الذاكرة محض استثناء لعمر مكبل بالخرائب . أجل يا جلالة المقدسة ذات الصولجان الشامخ ، لا يوجد ألا ما لدينا من كثافة كل الباطل في هذا الحضور ، هنا ، لديك ، وتحت ملكات الوعي ألا بعد للإنقاذ . أجل ، أننا تعلمنا ان نحتمي بظل شجرة لهذا القصر من أجل وهم حماية الوهم الأكبر . أني يا سيدة النجوم والقلائد والثروات القادمة تعلمت ان يكون سلسلة من الأستئذانات .
عاطت :
- أيها المؤرخ .. أنا لم أمت بعد .
- لم اقل ذلك . في الواقع لا يوجد موت بالمرة ..
- أيها الجرذ .. تعال .. أني أود أن أنتف لحيتك الطويلة .. بل أود ان أراك تتلاشى مع الهواء . لكني لن أفعل ذلك الآن . بل أسأل نفسي : لماذا كذبتم عليّ كثيراً . آخ : أنا أعرف ذلك كله . فقد كانت مخلوقاتي توازي وهم اللغة والكلام . مع ذلك لا أغفر لك .. فماذا تود ان تقول ؟
- بالدقة .. لا بد ان يلقى خطاب العرش .. أما بصدد القضايا التي تخص حياتي .. فأنا .. يا جلالة الملكة ، سأغادر ، حالاً .. ولا قدر ، ألا له قدره ..
قالت :
- أذهب .
لكنها ، قبل ان يغادر ، كانت أمرت ان يمنح آخر أعظم أوسمة البلاد حتى أنه – كما ظهر في شاشات التلفاز – يسير منحنياً .
قالت للثاني :
- وماذا عن النصر إذاً ؟
- لقد حسم منذ زمن بعيد ..
صرخت :
- أيها الخائن .. من ذا الذي حسم الكلمات ؟ لقد كانت الحياة لعبة ، لكنها لم تكن جميلة لتسكت ضوضاء السكان . أنا عشقت الهواء والمزارع .. وبسطاء الناس .. ثم جاءت هذه الأجهزة .. وأعترف لك أني خربت أكبر وأعظم شبكة صنعت حتى الآن .. أجل .. خربتها بنفسي .. وأمرت تدمير كل تلك الضمائر التي تراقب الضمائر .. بل وخربت العقل الكلي لهذا الخراب .. فماذا تقول ؟
- سيدتي .. سأغادر .. سأذهب الى الفرن .. وأستسلم لموتى .. فأنا هو العبد المخلص لإسراره .
ثم قالت للثالث : والآن .. ماذا ترى . ؟
- يا جلالة الملكة .. أننا نستطيع ان نعيدك الى الحياة : نركب لك العظام ، والذاكرة ، واستلام التوجيهات الجديدة ..
سألته بحذر :
- ماذا قلت ؟
- قلت أننا نستطيع ان نعيد لك الحياة ، سنة بعد سنة .. وعقد بعد عقد .. وقرن بعد قرن ..
وضحك متابعاً :
- ولا يقترب منكِ الموت ..
ضحكت ، قائلة :
- أنا لا أريد ألا ان يقترب مني هذا الشبح . لأني لا أريده أن يزعجني هناك ، في العالم الأخر .
- لا أبداً .
لكنها تابعت آمرة :
- هو ذا قدرك ..
- أعرفه .. فأنا كنت أومن به منذ البدء . لكنها نادته :
- وقلبي .. قلبي .. ؟
ورفعت صوتها بغضب :
- قلبي الذي سيكف عن إصدار الأوامر .. قلبي الذي عشق هذا الوجود ، ماذا عنه؟
- أنه يدور .. يدق .. يعمل مثل نجمة .
- مثل …
وكانت وحيدة : دائماً ، يأتي الموت خاتمة للاحتفالات .. يأتي ليعدل وهمه ، بوهم أبعد . وتناولت شراب الأرض المسكر ، وذاقت الكروم والثمار كلها ، واستعادت مجد الأتي من الزمن ، وكان عليها ، وهي تراقب الزمن ، المتحرك في ثباته ، ان تلقي خطاب العرش ، الخطاب الأخير للأمة . لكنها قالت لنفسها ، وهي تقف أمام المرآة المزركشة بالأزمنة والآثار الروحية :
- أنهم غادروني بلا أسف .. والآن لا أحد لديّ ، في عزلتي .. مع هذه اللحظة التي حاولت ان أتجانس معها ، وأتوحد ، وأقول : وداعاً أيها التطابق ! وداعاً أيها العالم .. أيها الوهم .
ثم أفاقت . وطلبت وزيرها الخاص بها ، وأمرته بإحضار الحكماء الثلاثة :
- لكنهم ذهبوا إلى الهواء . ماتوا يا جلالة العظيمة .. يا أمنا في الزمن كله .
- ماتوا .. من أمر بقتلهم .. ؟
- أنت .. يا جلالة الملكة .. أنت قلت لهم ان يغادروا الدنيا ..
وقالت لنفسها : لم يعد لديّ أي كلام . وهو ذا الذي كنت أعرفه منذ البدء .. فلكم قلت لنفسي : عندما لا يكون هناك أي كلام .. فما معنى ان نتكلم ؟ آه . أني لست حزينة وأنا أغادر هذا القصر القيد ..
طرقت الباب . قالت : أدخل . وكانت تعرف ان أبنها الوحيد هو الطارق . قالت له : كنت أعرف ذلك .
وجلس بهدوء ، ولم يتكلم . قالت :
- أيها العجوز .. هل تستطيع ان تحكم هذا الشعب ..
رفع رأسه قليلاً وقال بلا مبالاة :
- نعم .. فأنا علمتني الحكمة ان تأليف أكبر وأعظم كتاب أيسر لي من تربية طفل ..
- ماذا تقول .. يا ولي العهد ؟
- أقول : ان إدارة دفة الحكم أيسر لي من قيادة سفينة صغيرة في بحر !
صرخت :
- يا آلهتي أني أموت لأسباب وهمية .
ووجهت كلامها أليه :
- وماذا تريد إذاً ؟
- أريد ان أعود الى كوخي القديم ..
وكادت تفقد الوعي . لكنها أمرت ان تعاد الحياة الى الحكماء الثلاثة . وجاءوا حالاً . قالوا بصوت موّحد :
- نعم .. هل من واجب لم ينفذ بعد .. ؟
- نعم .. أننا سنذهب الى الموت معاً . فالدولة انتهت ..
قال الأول : أنه الجنون .. فالدولة ستبدأ .
وقال الثاني : بل الحياة ستبدأ مرة ثانية .. وثالثة .. بعدنا .
وقال الثالث : ولا أحد يتذكر أحد .
نهض ولي العهد وقال لكبير القصر : أقبض على الجميع .
قالت الملكة : لكني لم ألق خطابي الأخير .
قال بصوت هادئ : تم أعداده ، يا جلالة الملكة ..
قالت : وهل هناك ملكة تتكلم باسمي .
قال : نعم .. هناك الشعب كله ..
ثم راحت تضحك بجنون : يا ولدي كان عليّ ان أعترف لك قبل ان تتكوّن : أنا كنت قد دفنتك قبل ان تولد .
صرخ ولي العهد :
- كذب .
ثم طلب من كبير أمراء القصر بحجز الأربعة ، في قفص واحد . قالت الأم :
- أنت معنا .. ألا تعرف .. أنت تعمق موتك ..
- أعرف .. مثلما كنت أعرف تاريخك كله .
[ (( ليس لديّ تاريخ محدد . فأنا ولدت ملكة وقلت : سأموت ملكة . جاء هذا الولد الوحيد يحدث الاضطراب .. وقلت : حسناً .. ثم عالجت مشكلاته . تركته يتحرر من فزعه . لكنه كان يخطط لعالم آخر . وتلك بديهة . أنا نفسي لم أصنع مجد الألف عام ومائة عام ألا بالسياق نفسه . وقلت للسكان : الخطر يوّحد الكل ، ضد الخطر ، وليس ضد الكل . قلت التاريخ لن يبدأ ألا عندما ينتهي التاريخ . لكن هذا العجوز آمر بحرقي في سجون الملفات السرية .. فلا أحد سيطلع على تاريخي ، ولا يتعرف ، على مجد النوايا التي حكمت بها ، لإنقاذ رعيتي من الهلاك . ثم ها أنا هالكة وحدي بعد فشل إطالة عمر الوهم . لا تاج هناك ولا وزراء ولا عبيد . هناك الصمت الوحيد الذي كف عن التصفيق وأعلن ، بهدوء الحكماء ، ان الخلود ليس بحاجة إلى كلمات )) ]
الأحد، 11 سبتمبر 2011
هادي جلو مرعي
هادي جلو مرعي
سبحان الحي الذي لايموت,سبحان من بيده ملكوت كل شئ...
عظم الله لكم الأجر..البقاء لله..لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم..إنا لله وإنا إليه راجعون..
كلمات قيلت وتقال كلما مات إنسان أو قتل,ولاتكون كافية أبدا لتسلية صاحب المصاب (إبن ,أو زوجة ,أو أم ثكلى, أو بنت يتمت وهي صغيرة)..
كان اللقاء الأخير لي بالصديق هادي المهدي في عزاء زوج شقيقتي ,وكان الوقت رمضان ..في تلك الليلة رفعت يدي له بالتحية مودعا,كان يجلس والصديق نصير غدير الى كافتريا في حي الكرادة,وبعدها بقي التواصل عبر الفيس بوك,حتى الخميس الذي قتل فيه..
لم أعد اعبأ بالذين يزايدون, ولا بالذين يتهمون هذه الجهة أو تلك,فمنهم من يرمي التهمة بساحة الحكومة ,وغيرهم بساحة المعارضة,ومنهم من يرى الجريمة محاولة لخلط الأوراق في بلد لم تعد فيه من أوراق سوى تلك التي تلعب بها رياح المزايدات الرخيصة والمملة.
ليس مهما فالرجل قد تلقى الرصاصة في الرأس الممتلئ بدوامات القهر ,وعواصف الأفكار التي ( تودي وتجيب) وبلاحلول..هذا الرأس لم يجد الحل,لكنه وجد الرصاصة التي أراحته من (همها وغمها),,كارهون كثر سيهزأون بالكلمات التي أنسجها عنه, وربما سيضحكون..لكني أعرف عمن أكتب,أعرفه جيدا..وأنا لاأكتب عن شخص كرهه البعض, وأحبه غيرهم,بل عن قصة عراقية يومية ,وعن حراك اللحظة بين الإنسان ومعاناته,وخاصة أننا في العراق لا نمتلك الأهلية لنعد سوانا سيئين ويستحقون القتل فكلنا اسوأ من بعضنا,والشرفاء هم الذين يستحقهم القتل لأن صوتهم كان مدويا الى الدرجة التي تدفع بالقاتل ليكون قاتلا ( في دائرة الشيطان) ,وجزءا من مسيرة الطغاة والقتلة عبر التاريخ الإنساني الحافل بالسواد.
من قتل هادي؟أنا أعرفه جيدا ,أو أعرفهم جيدا,فهم بشر مثلنا لكن الفرق بيننا وبينهم إنهم يجيدون إستخدام المسدس, ويعرفون كيف تتحرك الرصاصة ,وبأي إتجاه ,وبأي رأس لابد ترتطم, وتخترق, وتغيب , وتدفع به الى آخر الأنات التي بعدها السكون الأبدي, ليرتاح القاتل ومن دفعه لبعض الوقت بإنتظار صوت آخر, ورأس آخر,,,
القتلة لايفهمون أن الرؤوس لاتنتهي...هم لايستطيعون التخلص من خالق الرؤوس مهما حاولوا, وهو سيدفع بالمزيد منها الى ساحة الحرب مثلما سيدفعون هم بالمزيد من المسدسات والرصاص .
هادي واحد من ملايين العراقيين الذين قتلوا لآلاف الأسباب ,وبملايين من الطرق..
للأسف ,القاتل مجهول الهوية كالعادة ,والقتيل يدفن كالعادة,والعزاء يقام على روحه كالعادة..!
hadeejalu@yahoo.com
السبت، 10 سبتمبر 2011
رحلة مع تحولات مفصلية2 (من عميل خائن إلى رمز وطني)-عزيز الحاج
رحلة مع تحولات مفصلية2 (من عميل خائن إلى رمز وطني)
عزيز الحاج
من عميل خائن إلى رمز وطني
إنها قصة السياسي العراقي عبد المحسن السعدون، والتي تصلح درسا ونموذجا لتبدل الأحكام على الرجالات العامة في موجة عاطفية عارمة للجماهير. هذا النمط من تغيير التقييم والأحكام يختلف عن تغير أحكام مؤرخين وباحثين لشخصيات وأحداث تاريخية، رصدوا وبحثوا ليجدوا أن ما كان يعتبر حدثا إيجابيا كان بالنسبة لظروفه سلبيا وبالعكس، كما رأينا مثلا من "حرب الجهاد" مع العثمانيين، أو ليكتشفوا أن تهمة منسوبة لشخصية شهيرة وظلت رائجة قرونا كانت بلا أساس، ومثل ذلك ما نسب لماري أنطوانيت عندما طالبت الجماهير بالخبز وما قيل على لسانها "أعطوهم الكيك- الحلوى-"؛ فقد تبين منذ أقل من ست سنوات للمؤرخين الفرنسيين أن ما نسب للملكة كان رواية اختلقها بعض الثوار للتحريض والتأجيج، وأن ماري أنطوانيت كانت امرأة عصرية وزاهدة أصلا في حياة البلاط، وقد أجبرتها العائلة الملكية النمساوية على الزواج من الملك الفرنسي لاعتبارات سياسية. ولعل من المستحسن أيضا هنا ذكر رواية ضرب شرطية تونسية للضحية بلعزيزي، إذ، بعد اعتقالها وبهدلتها شهورا، أطلق سراحها بعد أن بين القضاء عدم صحة الرواية.
السعدون كان سياسيا لامعا وشغل منصب رئاسة الوزراء ثلاث مرات في العشرينيات. وقد كان واقعا بين ضغوط معارضة وطنية متشنجة تريد غير الممكن، أي تحقيق المطالب الاستقلالية دفعة واحدة، وبين حسابات وضغوط بعض رجالات الإدارة البريطانية في العراق. وكما يقول عبد الرزاق الحسني، فقد كان السعدون يعتقد أن التدرج في العلاقات العراقية – العراقية أمر لابد منه، وأنه ليس من المصلحة التقحم في الأمور، والاستعجال في الطلب. وقد دفعته ضغوط المعارضة في حكومته الثانية للاصطدام مع المعتمد السامي البريطاني [أواخر 1928] واستقال، وهو ما دفع بالإنجليز لبعض التراجع، فعاد لرئاسة حكومة جديدة؛ ولكن اشتدت الضغوط الوطنية عليه لممارسة التشدد، ووجد نفسه محاصرا، ولحد أن آخر جلسة نيابية حضرها كانت نارية ومتأججة المشاعر. وهكذا رأى السعدون نفسه يواجه حملات المعارضة من المعارضة، وحتى من نواب محسوبين عليه، فلم يجد مخرجا غير الانتحار، وترك وصية مثيرة وتاريخية لولده، يقول فيه:ا" اعف عني لما ارتكبته من جناية لأني سئمت هذه الحياة التي لم أجد فيها لذة وذوقا وشرفا. الأمة تنتظر خدمة. الإنجليز لا يوافقون. ليس لي ظهير. العراقيون طلاب الاستقلال ضعفاء، عاجزون، وبعيدون كثيرا عن الاستقلال. وهم عاجزون عن تقدير نصائح أرباب الناموس من أمثالي. يظنون أني خائن للوطن، وعبد للإنجليز. ما أعظم هذه المصيبة! أنا الفدائي، الأشد إخلاصا لوطني، قد كابدت أنواع التحقير والمذلات في سبيل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادي مرفهين."
ما أن أذيع الخبر، حتى انفجرت عفويةً العاطفةُ الشعبية مرة واحدة بسبب مصيره المفجع، فراحت الجماهير تندبه وتبكيه في شوارع امتلأت بهم، وانقلبت حفلات الأفراح وولائم السمر إلى مآتم ومباكي، كما يقول الحسني. وهكذا تحول لرمز وطني، بل ولشهيد. يقول المفكر الفرنسي غوستاف لوبون [ قرن 19 ] عما يصفه ب" الجمهور النفسي":
" الظاهرة التي تدهشنا أكثر في الجمهور النفسي هي التالية: أيا تكن اهتماماتهم ومزاجهم أو ذكاؤهم، فإن مجرد تحولهم إلى جمهور يزودهم بنوع من الروح الجماعية، وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي كان سيحس بها ويفكر ويتحرك كل فرد منهم لو كان معزولا. وبعض الأفكار والعواطف لا تنبثق أو لا تتحول إلى فعل إلا لدى الأفراد المنضوين في صفوف الجماهير"[ تلخيص وعرض د. حنان هلسة لكتاب "سيكولوجية الجماهير" في موقع الحوار المتمدن تحت عنوان سيكولوجية الجماهير].
في هذه الحالة العراقية الملموسة لقد أصابت الجماهير، قبل أي تحليل سياسي متعمق وشامل الجوانب لشخصية وسياسات السعدون، وإنما كان هو الانفجار العاطفي الجماعي، المتأثر بحدث مأساوي، والانفجارات العاطفية للحشد الجماهيري قد تصيب لصالح قضايا عادلة وقد تخطئ وتنحرف نحو العنف والثأر والدمار، وتنجرف وراء نزوات وغرائز شديدة الهيجان، وهو ما شوهد في الثورة الفرنسية، وفي الأيام الأولى لثورة 14 تموز، وفي بعض الانفجارات الحالية في الشارع العربي. وأحكام العواطف الشعبية تختلف كما قلنا عن الأحكام المدروسة، والموضوعية، والموثقة للباحثين والمؤرخين. وما فهمته من قراءاتي هو أن الحكم السياسي على السعدون يبيح القول بأنه كان شخصية وطنية لامعة عمل ما في وسعه في ظرف معقد وصعب، ولكن المتشددين وطنية، والعاملين تحت شعار " إما كل شيء وإما لا شيء"، يتحملون جزءا كبيرا من مسئولية انتحاره المأساوي.
إن العهد الملكي في العراق كان بين قطبين ناريين: فريق متشدد من الطبقة الحاكمة من أمثال نوري السعيد بالدرجة الأولى، ومعه رشيد عالي وياسين الهاشمي وعلى جودت الأيوبي وناجي شوكت وطه الهاشمي وغيرهم، وبين ساسة وطنيين متشددين باسم الاستقلال التام، والذين كان همهم الأول خدمة العراق وشعبه وعانوا الكثير من أجل ذلك، أمثال جعفر أبو التمن وكامل الجادرجي والشيوعيين وبقية اليساريين والديمقراطيين، ومن انضم إليهم من بعض رجال الحكم مثل حكمت سليمان.
وقد ورث جيل الأربعينات وما يعدها من الوطنيين إرث التشنج السياسي، الذي فجر نفسه بكل قوة تخريبية بعد 14 تموز 1958.
ذات يوم من عام 1950 نصح الزعيم الديمقراطي الراحل كامل الجادرجي أعضاء حزبه بمعالجة الأوضاع السياسية بعقلية صلبة ومرنة في آن واحد. قال " يجب أن نكون صلبين في القضايا الأساسية التي لا يجوز التنازل عنها مطلقا، كما يجب أن نكون مرنين فيما عدا ذلك." [من كتاب أوراق كامل الجادرجي، ص 497، من إعداد نصير الجادرجي].
كان الجادرجي يقصد تفسير رفضه لطلب من طالبوه بالتوقيع على النداء العالمي لأنصار السلام العالمي، حيث اعتبر تلك الحركة شيوعية وبدفع سوفيتي، وأن توقيعه، كرئيس لحزب ديمقراطي ليبرالي، سوف يضع حزبه في قفص الاتهام بالشيوعية. وأعتقد أن الجادرجي كان محقا هنا، فحركة أنصار السلام، كحركة عدم الانحياز، ولدتا في ظروف الحرب الباردة، وبدفع سوفيتي للتحريض ضد الغرب وأميركا خاصة. والدليل أن كل نداءات الحركتين كانت توجه اتهامات التسلح والعدوان للغرب وحده متجاهلة التمدد السوفيتي حتى في أفريقا، وحمى التسلح النووي السوفيتي. وقد ثبت عند التوقيع على اتفاقيات سالت الأولى مدى تفوق الترسانة النووية السوفيتية على الترسانة الأميركية.
ولكن الجادرجي شارك في حكومة أول انقلاب عسكري في العراق والمنطقة العربية، وهيأ للانقلاب، وشارك في بيانه المعلن. ومع ذلك، فإنه اتخذ موقفا متصلبا وجافا من عبد الكريم قاسم. وهنا التناقض. وبالعكس، فإن حزبه شارك في حكومة نوري السعيد عام 1946، التي كانت تهيئ لانتخابات بينما زج الحزب الشيوعي بقواه للتظاهر ضد حكومة نوري السعيد. وأعتقد أن مرونة الجادرجي كانت مفيدة للكشف عن سوء نوايا السعيد وعدم جديته، ولكن مظاهرة الشيوعيين، [اعتقلت شخصيا فيها] والتنديد بمشاركة حزب الجادرجي كانا في غير محلهما.
إن العهد الملكي لم يكن جحيما وإن لم يخل من محطات سلبية ودموية مدانة، كطغيان الإقطاع، وكسلسلة الإعدامات في الأربعينات [لقادة عسكريين قوميين، ولقادة قوميين أكراد، ولزعماء شيوعيين]، واحتكار نوري السعيد للساحة السياسية إلا قليلا، وتزييف الانتخابات، وبعض ممارسات التعصب الطائفي، وكمحنة اليهود العراقيين: استباحةً، وتهجيرا، ليخسر العراق طائفة من أبنائه المحبين له، ومن قدموا له خدمات كبرى.
العهد الملكي تميز، في الوقت نفسه، بنهضة تعليمية مهمة، وحركة ثقافية وفنية بارزة، وقام بعدد من الإصلاحات الاقتصادية والعمرانية المتميزة. وكانت هناك أحزاب رغم ضربها قانونيا من وقت لآخر، وصحافة حرة مؤثرة برغم التضييق عليها من حين لحين. وحتى البرلمانات ذات الانتخابات المزيفة كانت تشهد أصواتاً معارضة قوية تثير مشاكل شعبية ووطنية مهمة أحيانا، وتدين الاعتداءات على السجناء السياسيين، وكانت محاضرها تنشر في الصحافة.
أما جيل وطنيي الأربعينات والخمسينيات، وأنا منهم، فقد ظل يدين حكومات ذلك العهد مهما فعلت، ومارس المعارضة من أجل المعارضة. مثلا لم نرد الاعتراف بأهمية مجلس الإعمار وما حققه من مشاريع لصالح البلاد، بل اعتبرناه في خدمة الإقطاع والاستعمار؛ ومثلا عارضنا اتفاقية المناصفة النفطية ورفعنا بدل ذلك شعار التأميم الذي لم تكن ظروفه ناضجة، بل كان الإقدام عليه يعني في ذلك الوقت خسران العراق لعائداتنا النفطية، وحصار الاحتكارات النفطية لنفطنا واقتصادنا. واليوم يجب التساؤل عن معارضة معاهدة 1930: هل كانت صحيحة أم أن تلك المعاهدة كانت خطوة للأمام بالنسبة للانتداب وسمحت بدخول العراق لعصبة الأمم؟ وهو ما أراه. وكذلك معاهدة بورتسموث لعام 1948، والتي عارضتها القوى المعارضة كلها، وهيجت الشارع في وثبة شعبية دامية [خاصة في معركة الجسر] وما قدم الشعب من تضحيات غالية بالدم الزكي. إن من الواجب تمجيد شعبنا وتضحياته وشهدائه، ولكن ربما تجب إعادة النظر في الموقف من تلك المعاهدة، وما إذا لم يكن الأكثر واقعية المطالبة بتعديل بعض بنودها بالاتجاه الإيجابي يدلا من المطالبة دفعة واحدة بإلغاء المعاهدات مع بريطانيا وجلاء القوات. وهكذا كان موقف المعارضة، بكل تياراتها واتجاهاتها، من حزب الاستقلال القومي، فالديمقراطي الليبرالي، فاليسار من شيوعيين وغيرهم.
هذه أسئلة مطلوب طرحها وتبادل الرأي حولها. وثمة من الكتاب العراقيين من يشاركونني الرأي هنا ولكن آخرين من اليساريين يكتبون وكأن القوى الوطنية لم تخطئ أبدا، وكأن العهد الملكي كان شرا كله.
ربما سيقول البعض إن هذا التساؤل هو " تخريف" أواخر العمر، وجحود بالأمجاد الثورية؛ ولكن هذا ما أراه.
إن دماء المواطنين والمناضلين أغلى من أن نضحي بها في سياسات غير واقعية وغير مرنة وفق الظروف. وقد دفع الشيوعيون العراقيون خاصة، مع جماهيرهم، ثمنا باهظا في حالات غير قليلة، ومنها في معارك متهورة داخل السجون مع السجانة وقوات الشرطة. وغيفارا، الذي لا تزال جماهير غفيرة في العالم تمجد روح التضحية ونكران الذات لديه، ألم يجازف بدخول معركة فاشلة مقدما مع نظام دولة أخرى وببضعة مقاتلين؟! وفق أية موازين قوى يا ترى كان يأمل النصر؟!
**
ملحق: فيصل الأول:
للعهد الملكي رموز لا تزال مشعة بحسها الوطني ورفض الطائفية والتمييز العرقي، والتطلع للتقدم بالعراق ليلحق بموكب الحضارة الحديثة، ومن اجل حياة أفضل للمواطن.
في مقدمة هذه الرموز الملك فيصل الأول نفسه، الذي، رغم أنه لم يكن عراقيا، كان وفيا للعراق وحريصا على تماسك الشعب ورفاهه.
مهمة فيصل الأول لم تكن سهلة وهو غير العراقي ومستدعى لحكم العراق من دولة غربية "كافرة"، مع أن لفيفا من ساسة العراق -من شيعة وسنة- كانوا قد نادوا بتنصيبه. كان فيصل الأول يواجه الضغوط البريطانية، وضغوط المعارضة الوطنية التي كانت تطالب بمطالب غير واقعية في تلك المرحلة، وكذلك بتشدد رجال الدين الشيعة. كما واجه تمردات مسلحة، كردية وقبلية، واحتدام المنافسات والصراعات داخل صفوف الحكم.
لكن اكبر الصعوبات أمام فيصل الأول كانت في أنه ورث مجتمعا شديد التخلف، يحرم فيه رجال الدين تعليم الفتيات، وقراءة الصحف، وحتى ركوب القطار باعتبار كل ذلك بدعا من الكفار. وورث شعبا غير متماسك، منقسما على نفسه بفعل العصبيات التي أشغلتها سياسات العثمانيين. لقد تولى أمر شعب كان – على حد تعبيره- "هلاميا"- مقارنة بالشعوب المتماسكة. وهذا ما كتبه قبيل وفاته في مذكرته الشهيرة التي وزعها على لفيف محدود من ساسة العراق المقربين. فقد رأي أن على الساسة أن يكونوا "حكماء مدبرين، وفي عين الوقت أقوياء، مادة ومعنى، غر مجلوبين لحسيات أو أغراض شخصية، أو طائفية، أو متطرفة، يداومون على سياسة العدل والموازنة والقوة معا، وعلى جانب كبير من الاحترام لتقاليد الأهالي؛ لا ينقادون إلى تأثيرات رجعية، أو إلى أفكار متطرفة تستوجب الرد."
هكذا أراد من رجالات الحكم ولكن جهوده لم تفلح دائما بسبب طموحات وخصومات رجالات الحكم.
إن أفكار فيصل الأول وسياسته تصلح مرشدا لحكام العراق، كما هي أيضا فضائل وخصال عبد الكريم قاسم. فثمة مشترك كبير بينهما وتلك هي المفارقة، أي المشترك بين ملك وبين رئيس جمهورية قامت على أنقاض الملكية. وكان فيصل الأول مثالا للتواضع والحرص على الثروة الوطنية، وكان يقبل بالخضوع لحزم وزير ماليته ساسون حسقيل في ضبط نفقات البلاط نفسه. وكان ساسون حسقيل معروفا بالتشدد في الحسابات، ومن ذلك جاء التعبير الشعبي العراقي عهد ذاك " لا تحسقلها".
كان فيصل الأول يقول:
" إنه لمن المحزن والمضحك المبكي معا أن نقوم بتشييد أبنية ضخمة بمصاريف باهظة، وطرق معبدة بملايين الروبيات، ولا ننسى الاختلاسات والتصرف بأموال هذه الأمة المسكينة، التي لم تشاهد معملا يصنع لها شيئا من حاجاتها. وإني أحب أن أرى معملا لنسيج القطن بدلا من دار حكومة، وأود أن أرى معملا للزجاج بدلا من قصر ملكي." فما أروع! ويا له من درس بليغ لحكام اليوم وكبار موظفي الدولة وقد صرنا في مقدمة دول الفساد!
وفي خطاب له في السليمانية عام 1931 قال الملك فيصل الأول:
" لا يخفى عليكم أن الدين لله، والوطن لنا جميعا. فهذه الجبال، وهذه الوديان الجميلة، هي ملك لباقي سكان ألوية [محافظات] البلاد العراقية الأخرى. كما أرى أن كل شبر في تلك الألوية لسكان اللواء حق فيه. أقول أكثر من ذلك: كل قطرة من دم سكان هذا اللواء هي من دم العراقيين جميعا، وكلهم إخوان في الوطن، لا يؤخرهم عن خدمته شيء. وأما الدين والمذهب، فهو لله، ويلزم أن يبقى بين الرب وعبده في حدود الجوامع والكنائس." ألم يكن عبد الكريم قاسم يقول الشيء نفسه في وضع آخر؟؟
وأخيرا لا بد من ملاحظة هامة، وهي أن العراق لم يرث خرابا من العثمانيين. وكما مر، فقد تمت في أواخر العهد العثماني بعض الإصلاحات الإدارية الهامة التي ورثها الاحتلال والانتداب البريطانيان وطوروها، مع وضع ركائز جديدة وهامة لبناء دولة عراقية حديثة- طبعا من منطلق مصالحهم أولا. ولذا فإن فيصل الأول لم يبنِ لوحده الدولة العراقية، بل ساعده البريطانيون، وساهم في بنائها الساسة العراقيون المجربون.
********
الخميس، 8 سبتمبر 2011
قصة قصيرة-جلالة الملك:عادل كامل
قصة قصيرة
جلالة الملك
عادل كامل
لم يدر بخلد أحد ، أبان تفاقم الجفاف ، ان يدعو جلالة الملك حاشيته وأمراء الغيوم والرمال والنجوم للبت في مشكلات المملكة .. فهو لم يخرج من غرفته على مدى فصل كامل ، كما لم يغادر قصره الملكي المشيد من الذهب وعظام حوريات الكواكب البعيدة منذ عام .
كانت قاعة القصر بلا شكل محدد ، لأنها مزينة بتحف وكنوز ومحنطات تعود إلى ما قبل ظهور الإنسان فوق الكوكب ، تلك التي توهم أكبر الأخلاقيين والفلاسفة بأن العالم مازال يمتلك فرص النجاة .. بإمكانات تأجيل وقوع الكارثة.. وهذا ما كان يدور من همس بين الحضور . كان الخدم يرتدون زيهم الشفاف المصنوع من غبار الفراغ الفضائي ، ويؤدون أعمالهم بدقة اعتمدت آخر تجليات نظام المعلومات وحسابات تراكم الخبرة والضعف البشري ، وفي الواقع منذ ان يكون المرء في القصر ، لا يمتلك قدرة تذكر الأسباب التي دعته إلى هذا الاجتماع ، أو لماذا هو موجود هنا أصلاً ، فالأجهزة المتحكمة بالمخيلة والضمائر توجه نمط الحوار والأفكار .. ومثل هذه الحقيقة يشهد عليها أمير الصوت والكلام الذي ندد بنظام العالم الجائر ، هذا العالم الذي جعل للكلام معنى مقلوباً .
لم تكن الأصوات عالية .. إلا ان الحبور أمتزج بانعكاسات أضواء القاعة المتغيرة الشكل .. فقد كانت الجدران تستدير ، والسقف يغير ثرياته ، مثلما النوافذ تعرض للمدعوين شتى الأفلام النادرة عن حقائق ما بعد الوعي وما قبل شيوع مبدأ الوفاء الأبدي ، كان الجميع بانتظار جلالة الملك ، على الأقل لتقديم البركات ورؤيته بعد انتشار شائعات غامضة عن زيادة وزنه نصف ذرة .
وزع أمراء الطعام الولائم التي تسبق خطاب العرش ، وهو تقليد معمول به منذ استولى الملك على البلاد وغير أسمها وسكانها وشكلها ليناسب أسمه وشخصيته وشكله . ومنذ ذلك الزمن لم يدر بخلد سكان البلاد ان عالماً آخر يمكن ان يوجد غير عالمهم .. بل صار الجميع على يقين بأن العالم هو القصر ولا أحد له حق السيادة على موارد النبل الروحية للبشرية من الشمال إلى الجنوب ومن السماء الى الأرض ألا جلالة الملك ، مثل هذه القناعة لم تعد تناقش أو تشغل بال أحد .. فالأجهزة الجماهيرية قد أدت عملها وصنعت مملكة فولاذية لن تهزم لأنه لا أعداء لها عدا ذلك العدو الأحمر الذي ترنح وتمرغ بالوحل ومات . والعدو الأحمر في الواقع محض تخيلات صنعتها أجهزة الصوت والكلام السري من أجل إعطاء جلالة الملك هيمنة تليق بمن يحكم مليار مليار ذرة من الغبار الابدي .. لكن الناس ، بعد ربع قرن من حكمة ، غير مكترثين لشيء . أنهم سعداء لدرجة أنهم لا يفكرون بالسعادة ذاتها ، وحتى واقع الجفاف الأخير الذي مازال يهدد نصف سكان البلاد بالتحجر والموت بلا آثام معلنة قيل أنه غير أكيد أو إشاعة لكي يظهر جلالة الملك لحظات يراه فيه الناس ولم يزد ذرة من وزنه القديم .
وعلى كل ظهرت أميرة الأميرات ورقصت في ركنها الماسي تسحر الجميع ساعات وساعات . ولم تتعب ولم يتعب من معها .. كنّ من نور غريب لا هو بالسماوي ولا هو بالأرضي ، بل قيل أنهن من اختراعات جلالة الملك .. فقد كان جلالته من أشهر علماء العصور قاطبة بتحويل الهواء الى جواهر .. وتحويل السمك إلى بشر .. واختراع الذهب من الدخان .. وهو وحده الذي استطاع ان يتزوج نصف نساء المملكة وربع نساء الكوكب البعيدة وان تكون ذريته ، وان لم يرها ، بعدد رمال البلاد . فقد كان كل وليد منذ توليه العرش يعد أبناً له . أما الفتيات ، فكن يدخلن في خدمة وزراء السعادة والمسرات والخدمات المضادة للفناء البشري . وهو أيضاً الذي رسخ عقيدة ان سلالته ، بل هو شخصياً ، لن يتفسخ أو يموت . ولهذا لا توجد كلمة بديلة أو مماثلة للكلمات القديمة في ذاكرة سكان البلاد .
ولم يضجر أحد من شيء . ان أعواماً بكاملها يمكن ان تمضي دون شعور بالزمن .. ذلك ببساطة ان الزمن هو الأخر لا وجود له . قبل ربع قرن قال جلالته في خطاب إلغاء الفقراء وإلغاء الجهل وإلغاء المرض ان الزمن صنعه الأعداء . وتكفي كلمة من هذا النوع لتصير قانون الجميع المطلق . لأن الجميع مسحوا من ذاكرتهم أي عصيان يصنعه الخيال . كما ان الجميع ، في احتفال حاشد لا أول ولا أخر له ، تتنازلوا عن مهام الرأس وتم حينئذ التبرع بالأدمغة لصناعة أحد جدران القصر ، مثلما تبرعوا بأسنانهم لبناء أعظم صرح يمثل بقايا بربريات سكان الغاب . وفي الواقع لم يعد لديهم ما يتبرعون به .. وقد جعل ذلك ، حسب كتاب المملكة الكبير ، بطيب خاطر .. أما أسماء الناس ، فأنها حسب أراء العلماء ، ليست مهمة ان وجدت أو لم توجد .. لأنها في حقيقة الأمر تنتمي الى عصر ما قبل تتويج جلالة الملك .. من ثم فليس هناك مشاعر خاصة ، على الرغم من ان هناك نصف مليار طن من الورق كرست لكتابة سيرة وحياة جلالة الملك وخوارقه ، وقد شارك أبناء الصحراء والجبال والبحار الخفية فيها .. حتى ان من لم يسهم في هذه الموسوعة الفريدة التي تحمل عنوان [ آخر السلالات الحية : آخر الملوك ] يذل بوصمة عار أنه على قيد الحياة .
وفي غفلة من الزمن ، بعد انتهاء حفلات الرقص البلورية ، وخوارق السحرة المستلهمة من إبداعات صاحب الجلالة ، ظهر حفيد الملك ، وهو شاب شاحب طويل القامة ، وجلس حيث مكانه الخاص . ولم يتكلم . وقد لاحظ ان عليه ان يبذل جهداً جباراً لفهم أسرار الأب بخلق حاشية كهذه تؤدي دورها من غير حاجة إلى أوامر .. بل والى أي شيء آخر .. فالجميع رسموا في الأعماق صورة أبن الأرض الذي نوره لا يغيب .. ولم يزعجه هذا الخاطر ، لأن الابن قد ضمن البقاء حياً في عصر جلالة الملك الذي قال أنه الأخير لا في سلالته وإنما هو آخر من أمتلك أسرار اختراع الزمن وإبداع الأجساد البلورية وأنه الأخير حتى مع نفسه !
كان الحفيد الذي أنجبته عشرة نساء ، وهو الابن الوحيد منذ البدء الذي تنقل بين رحم ورحم حتى خرج الى الحياة وهو يصدر أمره الأول بحرق أرحام الأمهات .. لا يحرق في مكان محدد .. أنه يخترع المشهد الذي يشبع رغباته ، وهو الأمر الذي لا يتعارض مع إرشادات صاحب الجلالة ، وفي الواقع لم يكن يرغب بالعصيان أو التمرد .. أنه مثقل بالأوسمة وليس من رغبة ألا وتحققت قبل ان تمر بخاطره .
نظر مرة ثانية في المجهول ، وابتسم بلا مبالاة ، ابتسامة زرعت الفزع في أعماق الجميع .. فبعد لحظة وجيزة تجمد الدم في رؤوس الأمراء .. لأنهم كانوا على علم بالأوامر الصادرة من الملك نفسه . لكنه واجه الأمر بوليمة أمير وسرعان ما عاد المرح إلى الوجوه .
ولم يكن لأحد الرغبة بالحوار عن ساعة حضور جلالة الملك أو الحديث عن الجفاف أو الحذر من حرب ضد نجوم مجهولة .. فقد كانت إبداعات ما بعد الذرة تفكر نيابة عن الجميع ، الأمر الذي لم يعد فيه أي معنى للمراقبة ، فقد كانت بعض العلامات تصدر كضرورة لمثل هذه المشاهد .
وسرعان ما دارت بعض الرؤوس القديمة في الفضاء . لم يكن للمشهد من تأثير أو لغظ .. فقد كان الجميع يتفحصون لوحة بيضاء قيل أنها كانت وثيقة الصلح مع كوكب النور المشع ، ذلك الذي غدا كتلة ثقيلة سوداء الآن ، وتلك اللوحة لا أحد يعرف كيف رسمت أو بأية مادة نفذت .. فهي مشعة في العتمة ومعتمة في النور .. تظهر فيما الأشكال ثم تختفي ، كما تصير مرآة أو تتحول الى شاشة لنقل أخبار الكون السحيق .. وهي الأخبار الوحيدة التي يتداولها الناس لأنها تخص مصائرهم القادمة .. وعلى كل فأن أحداً لم يعنيه مثل هذا المصير أو ينشغل به برهة .. فبعد ان شيد أعظم نصب من حدقات الأطفال صار الأبصار ترفاً لا يتمتع بع ألا صاحب الجلالة .. وحتى حفيده الوحيد الذي أنجبته عشرة أرحام قال ان الملك وحده هو المبصر .. ثم اختفت اللوحة البيضاء ليدخل أمير المعارضة الصالة .. كان يتمتع بكراهية الجميع ، وهي الغريزة الوحيدة التي سمح جلالته لها بالبقاء كذكرى لسني الحياة البلهاء التي عاشها البدو مع جمالهم ومدرعاتهم التي زرعت في الصحراء ، ذكرى ضرورية لمقارنتها بالوضع القائم . تلك الكراهية حركت مشاعر أيام الأعدامات الجماعية التي كان الشعب يحتفل فيها مثلما يحتفل بعيد نزول الآلهة الى وديان الجبال .. فلم تكن ثمة مسرة عند العامة تفوق مشهد بتر الأعضاء وقطع الأعناق وسلخ الجلود .. وعلى الرغم من ان تلك الأعدامات كانت تمر بهدوء ألا أنها كانت تترك أثراً فريداً لدى المعارضة .. ذلك لأنها تؤكد قانون الانقسام بين البشر .. ألا ان جلالة الملك ، حسب كلمات أمير الكراهية قد أزال الفوارق وجعل الناس سواسية أمام قدرهم الأخير .. فالناس يولدون لأمر واحد هو معرفة ان الملك صنع من الصحراء جنة لا مثيل لها في كوكب آخر .. والناس يموتون لنقل أخبار جلالته الى العالم البعيد الذي لا يرجع منه ألا من بعثهم جلالته لسماع أخبار الحروب والمنازعات الدائمة بين الموتى .. فليس للعقلاء في عصره مشاكل أو خلافات ، لقد أزال من وجه الصحراء كل شقاء .. وحتى عام استنجاده بآلاف الأجساد الحديدية الغريبة محى ذكراه من رؤوس الأحفاد ولم يسمح لأحد بتذكر أي شيء من ذلك الاحتلال .. والناس في حقيقة الأمر لا تصدعهم مشاكل التذكر أو ضرورة النسيان .. فهم سعداء في حياتهم اليومية يولدون ويموتون بأمر الملك ، وليست الكراهية التي قال عنها أميرها بأنها من الماضي ألا صفحة منسية في كتاب المملكة الكبير .. إنما كان أمير الكراهية يتمتع بخصال تفوق أمير النار والتراب والموت .. فهو الوحيد الذي يحرس ويشم رائحة العمل في الظلام ضد نظام جلالة الملك ، وعلى الرغم من أنه نفي وجود جفاف يزحف من بيت الى بيت ومن إنسان الى آخر ألا أنه لفت الأنظار لوجود رائحة كريهة في الصالة لا تليق بها وأنها قد تكدر صفو مشاعر الملك الدفينة .. فالجميع يعرفون ان غضبه لبرهة من الزمن قد تودي برؤوس نصف الذكور ومئات الأمراء هؤلاء الذين سيتنازل عنهم بإشارة عابرة . وفي الواقع ان ذلك الغضب هو سمة جلالته ، لكي يعترف الشعب بأن مخلفات العصور القديمة لم تقبر نهائياً أو الى الأبد ، فالكراهية مثلاً هي مثل الدم يسري في الجسد . كذلك فهم الحشد ان من يبحث عن سعادة مختلفة سيذهب طواعية الى ساحة الأعدامات ويطلق على نفسه النار .. وهذا ما حصل قبل أيام عند اشتداد أزمة الجفاف حيث نفّذ أمير الحياة الموت بنفسه وهو يقول أنه لم يعد يحتمل البغضاء فيه التي أفسدت عليه نعيم الملك وخلود القوانين المبجلة ، كذلك قال أمير الكراهية بأن الحب ليس غريزة بل هو نظام المعلومات بالغ الدقة الذي يحرك الوسائل والغايات معاً لتحقيق أهداف وشعارات وعناوين ألف عام قادم في خطة تحقيق الوفرة لسكان الصحراء والجبال والبحار .. فليس هناك ضرورة للخيال المضطرب أو زراعة الآمال الوهمية . وأشاد بنظام الجوع عند عامة الناس مشيراً بيقين ان أمير الوفرة سيسد أفواه البشر بالقناعات والمناقشات والثقافة المتزنة والأيمان الورع بأن البشر لا يكسبون لدنياهم ماهو ألا الخير المطلوب لأخرتهم ، وان الطعام ليس ضرورة كالولع بالجمال وخوارق الكون ومشهد الفلك تحوّم بين الفضاءات اللا نهائية .. فهو يتكلم بيقين زوال الغرائز واندثار شوائب مخلوقات الجسد .. وهكذا صار الكل على معرفة ان نظام اللا جوع هو الذي سنه جلالة الملك .. وحتى أنه عندما أستنجد بالأعداء لحماية عرشه الذهبي المشيّد من كنوز الوهم وحقائق الأرض فأنه قصد ان يقول للعالم ان الغرائز كريهة .. الأمر الذي لم يفسد على الناس مسرتهم أو أعمالهم اليومية . بل قيل ان المملكة بأمر جلالته استعادت لغرائزها البهية .. وعلى الرغم من ان لا أحد كانت تعنيه الكلمات أو تأويلها فأن سرية وجلاء الكلام كان يؤخذ مأخذ التبجيل .. جميع الكلمات مقدسة حتى التي لا علاقة لها بالمعتقدات .. فكل كلمة ينطق بها جلالته هي حجارة في جدار خلود المملكة .. وهكذا كان الحوار يدور همساً وعلانية بعد ان انزوى أمير الكراهية وراح يتناول شريحة من فخذ فعلي لأمير الوهم .. كان يتلذذ برائحة اللا معنى ، وقيل أنه أستمر يتناول طعامه حتى مات .
كانت القاعة تتسع بالحشود الجديدة .. أمراء النار يأتون مع أحفادهم .. وأمراء بلا أمارة يتندرون عن شائعات الجفاف والموت المعلن في ساحات العاصمة والمدن الكبرى .. ويتندرون بأصوات مختلفة حول أمور حسبوها خالدة .. وللحق فأن أحداً ما من الحشد الكبير لم ينظر الى ساعته أو يتحدث عن الزمن .. فجلالة الملك سيأتي وسيلقي خطابه في وقت من الأوقات .. بل ثمة إشاعة سرت بين الجميع ان جلالته قد لا يأتي وإنما هو ينطق بالكلمات المتداولة ما بينهم .. فليس للحضور الجسدي ضرورة . كذلك قال أحد الأمراء لنفسه ان جلالته يكمن في سريات الروح . لكن هذا الأمير غادر القاعة مع حمايته وحاشيته نحو ساحة الأعدامات وقتل نفسه معترفاً ان الجفاف قد أصابه بلوثة .. وأنه لا يستطيع البقاء على قيد الحياة بعد ان لوثه اللا ولاء للعرش . وكانت تلك الكلمة بمثابة قانون لأن المملكة لم تسمح بوجود مثل هذه الازدواجية . فالأجهزة الجديدة صارت تعشق عملها كأنها كائنات حية ، فهي تصدر الأوامر التي ترضي مشاعر جلالة الملك ، حتى قيل أنها كانت هي التي تصور له أوامر ممارسات العادات اليومية مثل مضاجعة ألف امرأة ليلة اكتمال البدر وتناول طعام الفجر والتلذذ بخمور لا أحد يعرف كيف صنعت . لكن هذه الإشاعة دفنتها الأجهزة الإلكترونية بالغة الدقة وحسمت الأمر بأن الملك هو الذي منحها قدرة الخيال الخصب لقيادة البلاد وتلافي العثرات ان حصلت . ثم ان هذه الأجهزة ذاتها تمتلك قانون النسيان ، لأنها لا تعبر ألا عن إرادة جلالة الملك ، قبل توليه العرش ، وبعد زواله إن شاء هو ذلك ، كما أكدت آخر معلومات هذه الأجهزة ، ان الملك وحده هو الملك .
على أن حضوره لم يكن مباغتاً في فجر ذلك اليوم البارد ، بل كان صاعقة حسب من شاهده ، وهو يدخل القاعة ، من غير تاج أو أوسمة . وقد جلس في مكانه المرصع بأثمن معادن الفضاء وبجواهر لم يرها أحد من قبل ، من غير كلام .. كان يحدق في الجميع بذهول تام .. ثم نهض لينهض الجميع ، وجلس ، دخن سيكاره الماسي ، ورسم ابتسامة أعادت للجميع بعض الاطمئنان . لكنه لم يفلح بإخفاء قلقه الذي استولى عليه درجة أنه تجاهل التقاليد التي أرساها . فراح يداعب أميرة الرقص ويتحدث أليها عن جفاف الهواء في القاعة وعن أحلامه الغريبة وعن شعوره بالوهن . ولم يكن بمقدور أحد ، حتى هؤلاء المكلفين بمثل تلك القضايا ، من التدخل في وضع حد لأعراض الحمى الروحية التي دبت الى جسده ، لأنه وحده كان القادر على فعل ذلك .. وهو حر تماماً ، مثلما أعلنت الأجهزة وثبت معلومة مفادها ان الملك يعاني من الصداع النفسي .
فكر برهة ان يعلن زواجه الجديد .. لولا أنه لم يختر أو لم يعثر على زوجة صالحة أبدية .. ففي الواقع يعد جلالته الوحيد الأعزب طوال حياته على الرغم من أنه الأب الشرعي للأبناء والأحفاد الذين لا يحملون أي أسم عدا أسم المملكة .. وهؤلاء يعاملون كأمراء في العادة .. وهم الذين يعملون على حراسته الشخصية .. بالرغم من ان أمير إبادة الأعداء أعلن عن سلامة الأمة من الفوضى ومن الأعداء .. فالحب المطلق هو الذي ساد وهو الذي يتحكم بالعلاقات .. ليس هناك فقراء أو سجون أو غبن أو شرطة أو محاكم أو خرائب .. بل ليس هناك دولة أصلاً عدا المملكة التي يحكمها جلالته .. وكان الملك يعرف ذلك ، بل قالوا أنه ذاته كان قد خرج وتفقد ويلات الجفاف وتألم كثيراً لأنها حصلت خارج إرادته العليا .. وأنه لا يحلم ألا ان يرى الغيوم مشبعة بالمطر تعيد للأرض حياتها التي يتذكرها يوم كان فقيراً بلا أب ولا أم وقرر ان يحكم البلاد وان يعيد لها أسوارها التي تحميها من الأعداء . ألا ان الأمور كلها جرت على نحو مختلف .. فقد استطاع بالفعل ان يقضي على الأعداء بالأعداء .. وان يتحالف مع الظلام ضد الظلام ذاته .. ولم يكن يفكر ألا بالقضاء على الغرائز التي ، عملياً ، حسم أمرها عند العامة ولم يفلح بحسمها في جسده الملكي .
نهض وسار نحو الباب الكبرى التي طالما فتحها وتأمل شعبه المحتشد الذي كان يتجمع بانتظاره .. وقبل ان يفتح الباب ببرهة دار بخلده ان فكرة الزواج محض ملهاة فقرر بالفعل إصدار أمر بإلغاء الزواج وإنشاء وزارة تتولى الإنجاب وتعديل نظام الأسرة .. كما أصدر أمره بإلغاء الجيش والقوات المسلحة ..
كانت أوامره تنفذ من غير ان يصّرح بها أو يعلنها ، فقد كان يعاني من تعب في لسانه وثقل في فكيه .. ألا ان الأجهزة كانت تسبقه في تحقيق رغباته المتسامية .. أنها وحدها أدركت لكم هو كان يشعر بالأسى للضعف البشري الذي يدمر الذاكرة والذي لا مناص منه .
فتح الباب وحدق في الفضاء البعيد . لم يكن ثمة أحد هناك .. عدا الرمال والرياح تمر مشبعة بذكريات الماضي .. لا أحد أقترب منه .. ولا حتى حفيده الوحيد الذي أدرك ان لا جدوى من التدخل .. فالجفاف قد قضى على الأعداء مثلما آباد سكان البلاد .
في القاعة ، وفي مكانه الفسيح ، أخذ يداعب كلابه التي أسرها في آخر معاركه .. وهي معارك لا أحد يعرف متى حدثت وضد من .. لكن كتاب المملكة الكبير يشرح ذلك بإسهاب . وفي صفحاته الأخيرة دوّن بوضوح ان جلالته قد أقصى الأمراء كافة من مناصبهم ودفعهم بهدوء إلى ساحة النوم وعين كلابه بديلاً عنهم في أرفع المناصب وأكثرها حساسية .. فبعد عام الجفاف لم يعد هناك في الوجود ألا الملك وحيداً يصدر أوامره لنفسه ولا أحد سواه . وعندما كان يشعر بغرائز الضجر يخاطب أجهزته ويتسلى معها ، حتى قيل أنها ، بسبب طيشه ، أمرها بإنهاء حياته . لكنها في بادئ الأمر لم تنفذ ذلك الأمر ولم تستجب له ، فقد أعادته إلى قريته حيث ولد فيها .. وهناك ، كان جلالة الملك بلا كلاب ولا أمراء . فقد كان الجفاف يزحف اليه ، وييبس له أجزاء جسده ، وُيسكت فيه آخر الكلمات .
1991
AdeL_kameL_47@yahoo.com
الثلاثاء، 6 سبتمبر 2011
الجمع بالواو والنون بين الآرامية والعربية والعامية العراقية-فهيم عيسى السليم
الجمع بالواو والنون بين الآرامية والعربية والعامية العراقية
فهيم عيسى السليم
من المعروف أن المندائية وهي لهجة من السريانية التي هي فرع من الآرامية تستخدم الواو والنون في جمع المذكر عاقلاً وغير عاقل وغيره من غير المؤنث وتخلو المندائية من جمع التكسير .المندائية تستخدم ذلك للأفعال أيضاً كما في الأمثلة التالية :
( كد الوات زويكون قريبتون سون ميا ودكيا نفشيكون )
الترجمة العربية
( واٍذ تقربوا أزواجكم طهروا أنفسكم بالماء وزكوها )
(ياهبتون بيمينكم لا تمرون لسمالكون كد ياهبتون لسمالكون لبيمينكم لا تمرون)
الترجمة العربية
(اٍن وهبتم بيمينكم فلا تخبروا شمالكم واٍن وهبتم بشمالكم فلا تخبروا يمينكم)
ناجية مراني-مفاهيم صابئية مندائية ص 16 وص17 وسنعتمد هذا المصدر إضافة للسان العرب مراراً في سياق المقال
اٍن نفس هذا النوع من الجمع باٍستخدام الواو والنون موجود بطبيعة الحال في العربية وهو المعروف بجمع المذكر السالم والمستعمل فقط للمفرد المذكر العاقل وما يعد من لواحق جمع المذكر السالم
والقاعدة في العربية هي:
تعريف جمع المذكر السالم : هو ما دل على أكثر من اثنين بزيادة واو ـ مضموم ما قبلها ـ ونون ، على مفردة ، في حالة الرفع ، أو ياء ـ مكسور ما قبلها ـ ونون في حالتي النصب ، والجر ، وسلم بناء مفرده عند الجمع . نحو : سافر المحمدون . وفاز المجتهدون .
شروط جمعه : يشترط فيما يجمع جمعا مذكرا سالما الشروط الآتية :
1 ـ أن يكون علما لمذكر عاقل ، خاليا من التأنيث والتركيب .
فلا يصح جمع مثل " رجل ، وغلام " ونظائرها لأنهما ليسا بأعلام ، وإنما هما اسما جنس . فلا نقول : رجلون ، وغلامون. فإذا كان علما غير مذكر لم يجمع جمع مذكر سالما .فلا نقول في " هند " هندون ، ولا في " زينب " زينبون . وكذلك إذا كان علما لمذكر غير عاقل . فلا يقال في " لاحق " ــ اسم فرس ــ لاحقون .
2 ـ أ ـ أن يكون صفة لمذكر عاقل خالية من التاء ، وصالحة لدخول التاء عليها . نحو : ماهر : ماهرون ، عاقل : عاقلون ، جالس جالسون . والصفات السابقة ، وأشباهها صالحة لدخول التاء عليها . فنقول : ماهرة ، وعاقلة .
ب ـ أو وصف على وزن أفعل التفضيل . نحو : أعظم ، وأكبر ،. نقول : أعظمون ، وأكبرون ،
وكذلك إذا كانت الصفة مما يستوي فيها المذكر والمؤنث . مثل : صبور ، وغيور ، وغريق ، وجريح ، وذلك لعدم قبولها تاء التأنيث . فلا نقول : صبورون ، وغيورون ، وقتيلون .
ما يلحق بجمع المذكر السالم : يلحق بجمع المذكر السالم في إعرابه ما ورد عن العرب مجموعا بالواو والنون ، ولكنه لم يستوف الشروط السابق ذكرها ، وذلك مثل :
1 ـ ألفاظ العقود من عشرين إلى تسعين 2 ـ أهلون ، لأن مفرده أهل 3 ـ أولو 4 ـ عالمون ، جمع عالم 5 ـ علِّيون 6 ـ أرضون ، اسم جنس جامد مؤنث 7 ـ سنون ، وعضون ، وعزون ، وتبون ، ومئون ، وظبون ، وكرون ، ونظائرها 8 ـ بنون : جمع ابن ، اسم جنس جامد ، ويكسَّر مفرده عند الجمع . 9 ـ يلحق بجمع المذكر السالم أيضا ما سمي من الأسماء المجموعة بالواو والنون ، أو الياء والنون . مثل : عابدين ، وزيدين ، وعلبين . نقول : جاء عابدون ، وصافحت زيدين .
النص منقول من الموقع التالي
www.drmosad.com/index19.htm
ومن خلال مطالعاتي لاحظت أن تخريج النحاة العرب فيما يخص ما يلحق بجمع المذكر السالم غير سليم و عند التحليل الدقيق وجدت سبباً آخر في جمعه بالواو والنون لا علاقة له من قريب أو بعيد بجمع المذكر السالم في اللغة العربية فهي جموع أخذت الواو والنون على القواعد الآرامية للجمع وليس على القواعد العربية وأن أغلبها أو أصولها موجودة في واحدة من اللغات أو اللهجات العراقية القديمة السومرية الأكدية الآرامية السريانية والمندائية ولهذا تبدو شاذة عند إدراجها ضمن جمع المذكر السالم و حاولت جمعها فكان أشهرها
سعدون زيدون خلدون حمدون طيفون زهرون ميسون بيضون عبدون سرجون فرعون حصرون خيّون زيتون شمعون كمّون ملكون نبتون صابون أرضون طولون عجلون سيحون نطرون زينون شمشون أدمون سحنون زرقون هارون قارون حيون مارون
ويجب أن أسارع هنا للقول أن النون هنا ليست من أصل الفعل مثل غبن مغبون وسكن مسكون وحنّ حنّون وغير ذلك مما هو على شاكلتها ولا علاقة له البتة بموضوع بحثنا هذا.
الجمع بالواو والنون في العامية العراقية
وجدت عند البحث الدقيق أن العامية العراقية بما رافقها من كلمات وتعابير آرامية قد إحتفظت ببعض الكلمات المهمة على نفس السياق
بيت بيتون بيتونة
درب دربون دربونة
صم صمون صمونة :الصم والصمون العلاقة واضحة بين الصَم(من صم يصم صماً أي سد) وإنتقلت الى صم الكف أي لمها وسدها وجمعها الآرامي العراقي صمون ومفرده صمونة
زغيّر زغيرون زغيرونة محرفة عن صغير وواردة في المندائية زطر
رز رازون رازونة (أنظر لسان العرب الجزء الخامس باب رزّ)
شويّة شويون شويونة
جمل جملان جملون(إشتقت من الجمل المحدب الظهر)
قند قندون
ومن خلال تلمس ما حصل في العامية العراقية من جمع الكلمات أعلاه على قواعد الأرامية وليس على قواعد العربية نستطيع وبسهولة الوصول الى التالي فيما سبق من الأمثال وسنبدأ بما ورد في القرآن الكريم وحيرة المفسرين واللغوين العرب وتساؤلهم المشروع عن سر هذا الجمع الغريب
أرض أرضون والسليم القول اراضي كونه مؤنث وقد وردت في السومرية والأكدية وفي المندائية أردا وقد تعجب مؤلف لسان العرب عن كيفية جمع أرض على أرضون وهي لمؤنث غير عاقل
زيت زيتون زيتونة والسليم القول زيوت وزيتونات
وردت في اللغات القديمة ومنها المندائية بصيغة زيتا وجمعها زيتون
كما وردت كلمة عالمون في القرآن الكريم
عالم عالمان عالمون
وعدوها من لواحق جمع المذكر السالم وقد وردت في المندائية ألما بمعنى عالم دنيا خلق
فرْع فرعان فرعون
وهو جمع آرامي سليم والكلمة واردة في المندائية (فرا :فرع برعم ،أثمر ومنها فيرا بمعنى فرع او برعم أو ثمر /أنظر معجم المفردات المندائية لناجية المراني ص 253 ضمن المصدر آنف الذكر) وعلى غراره كل ماعده النحاة العرب ظلماً وعدواناً من لواحق جمع المذكر السالم
فكلمة سعْد مثلاً هي مصدر وإستخدامها كإسم علم لا يجيز جمعها جمعاً مذكراً سالماً والواضح أن جمعها آرامي وليس عربي بدليل أن بعضها ليست إسماً علماً مذكراً بل وأن بعضها أسماء مفردة مؤنثة أو جموع تكسير وإليكم التفاصيل
سعّد سعدان سعدون وتشبهها زيد زيدان زيدون وكذلك حمد حمدان حمدون وحمد واردة في المندائية همد
أما الباقيات وهن الأكثرية فتؤكد ما ذهبت إليه
خُلد خلدان خلدون فخلد ليست إسم علم ولم تستخدم كذلك
طيف طيفان طيفون
زهر زهران زهرون (وزهرون إسم إختص بابناء الطائفة المندائية في حين أن زهران ينتشر في مصر)
ميس ميسان ميسون
من الغريب أن كل الكتب والمفسرين والمؤرخين والنحاة لم يلتفتوا الى هذه العلاقة الرائعة وجرى الخلط غير المقصود بحيث أن أحداً لم يردْ ميسان أبداً الى أصلها الطبيعي وهو مثنى ميس وكذلك لم يلتفت أحد الى كون ميسون هو جمع ميس وأتحدى النحاة العرب أن يردوا ميسون الى لواحق جمع المذكر السالم!
بيض بيضان بيضون بيضة
من الواضح أن بيض لا يمكن أن تجمع جمعاً عربياً على بيضون وهي تشبه تماماً زيت وبيت
عبد عبدان عبدون
اوردت الباحثة ناجية المراني في معجم المفردات المندائية (ص 204) نصاً يتعلق بأصل هذه الكلمة:النص
أبد:عبد،عمل،خدم
والكلمة واردة في اللغات السامية الأخرى كالكدية والفينيقية والآرامية القديمة والعبرية،وقد تطور معنى العبادة فأصبح القيام على خدمة الله.والمعاجم العربية تفرق بين العبد الذي يقوم على عبادة الله،وبين العبد الذي يخدم مولاه(إنتهى النص)
سرْج سرجان سرجون
مرة أخرى لم يقل أحد أن سرجون من سرْج رغم وضوح ذلك وسرج كلمة مندائية أنظر معجم المفردات المندائية لناجية المراني ص251
حصر حصران حصرون واردة في المندائية هسر
خيّ خيون :واردة في المندائية أها
شمع شمعون شمعة: واضح أن شمعون لا يمكن أن تكون من لواحق جمع المذكر السالم كون شمع على غرار زيت وبيض مجموعة هنا جمعاً آرامياً كونها موجودة في الآرامية وتجمع بالواو والنون ودخلت للعربية وإستخدمت فيها ولا زالت.
كم كمون: العلاقة بين الكمون والكم تشبه تماماً الصم والصمون عدى عن كون العلاقة واضحة بين الصم(من صم يصم صماً أي سد) وإنتقلت الى صم الكف أي لمها وسدها وجمعها الآرامي العراقي صمون في حين أن كم جمعت في الفصحى على أكمام وهو برعم كل شجرة مثمرة ولكن لم أعثر على السبب الذي جعل نبات الكمون بالذات يستولي على التسمية من بين جميع النباتات الأخرى.
ملك ملكان ملكون : أميل الى أن ملكون هو جمع مُلك وما يقابله في العربية هو أملاك ليس جمع مَلك الذي يجمع على ملوك وهي أكدية من ملكو
نبت نبتون: الربط هنا أن نبتون هو إله الماء لدى الرومان ولابد أن له علاقة بالنبات بشكل أو بآخر
صاب صابون : أنظر مادة صاب في لسان العرب
طول طولان طولون
عجل عجلان عجلون
سيح سيحان سيحون
نطر نطرون: تقول ناجية المراني نطر بمعنى نظر وراقب وحرس وتأتي بمعنى إنتظر ومنها مطراثي وهو مكان الإنتظار والكلمة واردة في الأكدية نطارو(مفاهيم صابئية مندائية ص244)
زين زينان زينون
شمش شمشون: في المندائية شامش في السومرية سمس
أدم أدمون : آدم أبو البشر أدمو دمو :أدمة ومنها أدموتا أو دموتا وتعني آدمية الإنسان او حقيقته الإنسانية او وازعه وضميره(نفس المصدر)
سحن سحنون
زرق زرقون وحرفت الى زركون
هار هاران هارون: هورا في المندائية هور بياض ومنها هوران أو هورنان أي حران أو حوران أي الأرض البيضاء النقية (نفس المصدر)
قار قارون : القار والقير واردة في المندائية قيرا
حي حيان حيون : واردة في المندائية هي أي حي
مارا مارون : في المندائية مارا مولى سيد مالك(أنظر مفاهيم صابئية مندائية ص235)
عربية:مرء
أكدية :مارو رجل
عربية جنوبية:مولى،رب
جمعت على مارون ومنها ماروني ومارونية
يتضح مما تقدم أن إلحاق هذه الجموع بجمع المذكر السالم بإعتباره ورد في كلام العرب مجموعاً بالواو والنون جاء إضطراراً وتخريجاً غير موفق وكان الأجدى والأوفق هو ردها الى أصولها السريانية المندائية الآرامية الأكدية والإعتراف أن لغات المنطقة قد تداخلت وتشابكت واخذت من بعضها البعض لتقارب أصولها وجذورها وتطابقها في حالات كثيرة.
أوكلاند نيوزيلاند
4أيلول 2011
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)