الجمعة، 8 يوليو 2011
خواطر من خلال الواقع لمشروع البرنامج-فلاح أمين الرهيمي
خواطر من خلال الواقع لمشروع البرنامج
بعد أن مس مشروع البرنامج روحي، تركت العنان لقريحتي لتقول ما يفيض به فكري من واقع المعرفة والتجربة من آراء مثقلة بالأماني والمسؤولية الإنسانية التاريخية.
أن المشروع يجسد طموحات وأماني إنسانية عن الوطن المذبوح والشعب المستباح، ازدحمت بها جميع برامج الأحزاب السياسية على الساحة العراقية وأن الشعب لم يلمس من خلال الواقع أي شيء يذكر من فقرات البرنامج، ومن خلال ذلك يتبين لنا أن العبرة والمحصلة النهائية ليس بالوعظ وثرثرة الكلام وإنما بالتطبيق العملي عن طريق تحويل فقرات ومكونات المشروع إلى واقع عملي عن طريق الشعارات المطلبية الجماهيرية، وكما نلاحظ ذلك من خلال تسابق الأحداث مع الزمن على الساحة العراقية والناس نيام على (زيد الوعود تداف في عسل الكلام).
إن النظرية الماركسية تمتاز بالأممية ولكنها في نفس الوقت تمتاز بالخصوصية الوطنية لأنها ولدت من رحم المجتمع ومحيطه الجماهيري وثقافته وتبقى مرتبطة بها وبوعيها ومعرفتها في أية بقعة من العالم، ولذلك فهي تتفاعل وتنصهر مع طبيعة المجتمع السياسية والاجتماعية والاقتصادية وتصبح نبراس عمل ونضال جماهيري لذلك الشعب لأن جميع مكوناتها تتمحور حول الإنسان ومن أجل الإنسان في سعادته ورفاهيته وازدهاره ومستقبله المشرق السعيد، وهذا يعني أن الإنسان ما زال موجود في الحياة فإن النظرية الماركسية موجودة ومتى ما فني الإنسان فإن النظرية الماركسية تفنى وتنتهي معه، وهذا يعتبر من المستحيلات في المفهوم العلمي العام.
إن النظرية الماركسية أصبحت حقيقة واقعية تمتاز بعلميتها وفكرها وفلسفتها تمتلك الخريطة الواضحة والسديدة والنبراس الهادي والإشعاع النير فجذبت واحتضنت الملايين من معتنقيها ومحبيها وعشاقها بعد أن تزودوا بفكرها وثقافتها وعقيدتها ثم صقلتهم أيديولوجيتها فتكون حزبهم الشيوعي الذي جمعهم برنامجه الذي يدعو إلى حرية وكرامة الإنسان وسعادته واطمئنانه ومستقبله المشرق السعيد، ويقوم على أساس التنظيم الذي يعكس ثباته ورسوخه والتزام أعضائه ووحدتهم وإقدامهم ونضالهم في نشر أهدافهم وأفكارهم المتجسدة في برنامج الحزب وهو مد الجسور إلى جماهير الشعب والانصهار معهم في بودقة واحدة لكي يصبحوا قوة فعالة ذات تأثير ودور في القرار السياسي باعتبار الحزب لا يقاس بعدد أعضائه وإنما بسعة جماهيره.
وبما أن الحزب الشيوعي العراقي يسترشد بالفكر الماركسي في نشاطه وعمله ويمتلك برنامجاً واسعاً عن حرية الوطن وسعادة الشعب وأن نشر هذا البرنامج يأتي من خلال تنظيمات الحزب وامتدادها إلى جماهير الشعب أصحاب المصلحة الحقيقية في مشروع البرنامج وتطبيقه والاستفادة منه ويأتي انجذاب وتعاطف جماهير الشعب مع الحزب الشيوعي من خلال ما يتحقق لهم من مكاسب وفوائد ملموسة، ما عدا ما يتحقق لجماهير الشعب من مكاسب يعتبر الكلام وعوداً مجردة من كل معنى، ولا فائدة من طرح أفكار وإضافات على البرنامج إذا لم تنفذ فقراته السابقة على الواقع الملموس لجماهير الشعب. إن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي بشكل عام يعتبر تغييراً نحو الجديد، وأن هذا الجديد يجب أن لا يكون خروجاً من التاريخ وإنما حواره مع الحاضر من خلال امتداد الماضي للحاضر والاستفادة من الماضي ودروسه عبر فحص التجربة وتصويب مسارها مما يؤدي إلى استحداث سياسة جديدة من خلال الاستفادة من تجارب الماضي وصهرها بالحاضر وإصلاحها وتحويلها إلى حالة جديدة من خلال التحليل النقدي وتصويب الخطأ، وليس استنباط تجربة جديدة تتناسق وتنسجم مع الواقع الموضوعي الجديد (تفكك المعسكر الاشتراكي وانهيار نظامه الاشتراكي) وصهر التجربة الجديدة بعد تنقيحها بالفكرة الماركسية على اعتبارها تشكل مطامح الجماهير بالمساواة والعدالة الاجتماعية، فإن ذلك يشكل تشويهات وخروجاً عن الفكر الماركسي الخلاق.
فلاح أمين الرهيمي
الخميس، 7 يوليو 2011
إيمان أكرم البياتي تفوز بالجائزة الاولى في مسابقة القصة لشبكة أنباء العراق
إيمان أكرم البياتي تفوز بالجائزة الاولى في مسابقة القصة لشبكة أنباء العراق
في 2 تموز 2011 وزعت جوائز نتائج مسابقة القصة القصيرة التي كانت قد اعلنت عنها شبكة انباء العراق تحت عنوان( العراقي بين زمنين) بالتعاون مع جمعية الايثار لاغاثة مرضى الثلاسيميا في العراق.
وقد اعلنت النتائج ووزعت الجوائز في حفل كبير اقامته الشبكة في قاعة مركز الثقافي النفطي في بغداد في ذكرى تأسيس الشبكة وقد حضر الاحتفال الكثير من الشخصيات الهامة على راسهم مدير شبكة انباء العراق والسيد وكيل وزير الثقافة والسيد نقيب الصحفين العراقين وعدد كبير من الصحفين والاعلامين العراقيين.
وقد فازت في المركز الاول في مسابقة القصة القصيرة الشابة إيمان أكرم البياتي عن قصتها ( سمفونية الوجع الاخير) وبذلك يصبح هو الفوز الثالث للبياتي خلال هذا العام بعد ان فازت بالمركز الثاني في مسابقة القصة التي اقامتها مجلة المراة بالتعاون مع منظمة السلام للتنمية الديمقراطية ومنظمة كتاب بلا حدود الشرق الاوسط والتي اعلنت نتائجها في شباط 2011 وبعد ان فازت في المركز الثالث في مسابقة القصة التي اقامتها جامعة قطر وأعلنت نتائجها في نيسان 2011.
وكانت البياتي قد أصدرت مجموعتها القصصية الاولى (سمراء بغداد) عن دار فضاءات للنشر والتوزيع مطلع العام 2011 في عمان.
مزيد عن الخبر:
http://www.iraqiwi.com/news.php?action=view&id=8014
الغرانيق تحلق جنوباً.قصة: إدورد ماك كورت (1)-ترجمة: د. ماجد الحيدر
الغرانيق تحلق جنوباً
قصة: إدورد ماك كورت (1)
ترجمة: د. ماجد الحيدر
-”إنها تحلق الليلَ بطوله” قال الرجل العجوز “في البداية تسمع صوتا قادما من بعيد فتحسبه هدير الرعد، ثم يزداد قرباً ودويّا، وسرعان ما يصبح مثل قطار شحنٍ يمر من فوق رأسك، أما إذا كانت الليلة مقمرة فإنها تسد صفحة البدر حتى يستحيل الليل ظلاما دامساً”
-”لكنني أقول لك إني شاهدت واحداً منها” قال “لي الصغير” ثم أردف “إنها الحقيقة يا جدي. هناك عند مستنقع بيكرز، كنت أبحث عن البط- وفجأة…”
-”لم يعد هناك من غرنوق نعّاب في أيامنا” قال العجوز في أسى.(2)
وأعاد “لي” الكلام ببطءٍ شديد وهو يحاول أن يحتفظ بصبره “عند مستنقع بيكرز، صدقني، لقد رأيت بكل وضوح الأطراف السوداء لأجنحته!”
-”وتحس بأنك تريد الرحيل معها” قال الجد “وتشتاق الى الرحيل حتى يكاد قلبك يتصدع، عندما تسمع الهدير من فوق رأسك، مثل قطار شحنٍ طويلٍ عظيم يجتاز بك في الليل..”
وارتفع صوته على غير توقع مثل نقيق أجش:
-”تقول عند مستنقع بيكرز؟ غرنوق نعاب، نعاب حقيقي؟ هل تحلف بالله يا ولد؟ أنا لم أرَ نعابا منذ أربعين عاماً”
-”لم يبق في العالم كله غير ثمانية وعشرين نعابا. وهي تطير جنوباً في الخريف حتى تكساس”
-”وأنا أيضا ذاهبٌ الى الجنوب” قال الجد. “يمكنك أن تقبع تحت الشمس طوال الشتاء أو أن تستلقي وتراقب الأشياء. إن المرء ليحس بتعبٍ هائلٍ من الاستلقاء، بعد ثمانين عاماً”
وتضاءل صوته، ثم سكت وتهاوى في مقعده وأغمض عينيه. فتذكر “لي” ما أخبرته أمه “الجد رجل طاعن في السن وعلينا أن نجنبه الانفعال” وانتابته نوبة من الرعب شلت أوصاله.. ربما كان الجد يحتضر.. ربما قد مات بالفعل..
- “جدي!” صرخ وقد خنقته العبرة “استيقظ يا جدي! استيقظ!”
واهتز الجسد المنكمش في مقعده بارتعاشةٍ متشجنة، ثم انتصب العجوز قائماً دون أن يستند على ذراع الكرسي، وقال بصوتٍ جهوري حاد:
-” أيها الفتى! يجب أن أراه، أقول لك يجب أن أراه!”
حدق “لي” في حيرة، وبدا كالمأخوذ:
-” لكن أمي تقول …”
وفقد صوت العجوز نبرته الآمرة القوية، وتراجع الى تملقٍ واهن:
-” أوه، هيا يا فتى. لن يرانا أحد. أبوك يعمل في حيّ بعيد، و”إيلين” قد خرجت الى حفلٍ للنساء في مكان ما. يمكن أن نتسلل ثم نعود بسهولة ”
-” لكنها ثلاثة أميال، وأمي أخذت السيارة ”
وتغضن وجه العجوز:
-” لدينا الفرس والعربة الصغيرة. أليس كذلك؟”
-” نعم ولكن العربة متروكة منذ سنين وعدّة الفرس….”
ومحا الغضب كل أثر للمداهنة في تجاعيد وجه الجد، فتناول عصاه من جانب الكرسي، وصاح بالغلام:
-” إمضِ معي يا ولد وإلا سلختُ جلدك! ”
فتراجع “لي” نحو الباب وقال يسترضيه:
-” حسناً يا جدي، سأشد “بيسي” الى العربة حالاً ”
***
مرّ الجد بلحظات عصيبة وهو يحاول صعود العربة، لكنه حالما استوى في مقعده خطف الحبال من يد “لي” وسفع كفل الفرس العجوز بأطرافها، فأجفلت “بيسي” وانطلقت في خببٍ مضطرب. وحبس “لي: أنفاسه، لكن “بيسي” أبطأت بعد هنيهةٍ وأخذت تتقدم مُكرَهةً متثاقلة فأحس “لي” ببعض الراحة: فلربما تماسكت العربة ولم تتبعثر الى أشلاء.
ساروا قليلاً على طول الطريق الممهد، ثم انعطفوا نحو مسلكٍ جانبي وعر يتلوى عبر مرجٍ أجرد مكشوف. حدق الجد الى الأمام والتمعت عيناه:
-” كما أخبرتك يا فتى، إنها ترحل الى الجنوب. أظن إنها ترى المسيسبي وهي على ارتفاع ميلٍ في السماء. وأنا أيضا أتوق الى رؤيته، وسأفعل ذلك يوما ما بكل تأكيد.”
وتدلى ذقن العجوز نحو صدره، وانفلت الحبال من أصابعه وكادت أن تسقط من الحاجز الأمامي للعربة لولا أن “لي” أسرع وتلقفها.
-” شكراً يا فتى لأنك أخرجتني من البيت. ربما يحسن بنا أن نعود الآن. أنا متعبٌ، متعبٌ جداً ”
وضاقت حنجرة الغلام:
-” لقد كدنا نصل يا جدي. يمكنك أن ترى المستنقع ”
-” لم يعد في الدنيا من نعّاب” غمغم العجوز متذمراً ” رحلت كلها الى الجنوب”
مال “لي” بالفرس عن الطريق الذي عرته آثار العجلات وأوقف العربة تحت ساتر من أشجار الحور، ثم ساعد العجوز على الترجل ودس يده تحت ذراعه.
-”هيا يا جدي” قال “لي” وهو يستحثه “سوف ننجح في الوصول”
وتقدما على مهلٍ من وراء الساتر الجرفي نحو العشب المرتفع الذي يطوق حافات المستنقع. بهرت الشمس عينيهما لكن هواءً بارداً هب من فوق الماء حاملاً معه الرائحة الزنخة للماء الراكد والطين الذي غطته أملاح المعادن.
وتوقف الجد وهو ينوء تحت معطفه الكبير، وتشكى وهو يكاد يبكي:
-” ماذا تفعل بي يا فتى؟”.. تعرف ما قالته “إيلين”: لا يفترض بي أن أخرج دون رفقتها ”
-” انحنِ يا جدي. انحنِ ! ”
وارتمى العجوز على ركبتيه ويديه، وعلا صوته في صرير جنوني حاد:
-” أين هو يا ولد؟ أين هو؟”
-” تعال. إنني أرى رأسه ”
وتحرك شيء في العشب المرتفع. ومرت ثوانٍ مرتعشة ظل الفتى فيها مستلقيا دون كلام أو حراك. ثم انتفض كأنه عاد الى الحياة وقفز مستويا على قدميه وصاح في صوتٍ هائجٍ:
- ” أنظر يا جدي. أنظر! ”
واستدار ليمسك بجده، لكن الأخير كان قد نهض بالفعل، وأخذ يحدق في الجسد الأبيض العظيم وهو يندفع بإزاء السماء الشاحبة.
- ” يا ربَّ السماء العظيم!”
خرجت الكلمات مثل صرخةٍ قاسيةٍ غريبةٍ امتزجت فيها النشوة بالألم.
- ” نعّابٌ يا فتى.. نعّاب!”
ووقفا سويةً، الشيخ والصبي، وقد لفّهما سحرٌ لا ينتمي الى هذا العالم المنبسط الرتيب الذي يحيط بهما. وارتفع الطائر العظيم في ثبات، وبدت الأطراف السوداء للجناحين مثل خيطٍ مبهم يومض فوق بياض الجسد الناصع. حلق الطائر في دائرةٍ كبيرة ثم صعّد عالياً فوق رأسيهما، ثم تسلق سريعا موغلاً في السماء القصيّة، وطوال دقيقةٍ أو أكثر بدا كأنه يتدلى دون حراك من الفضاء الخارج عن تخوم العالم، وأخيراٍ خبا البياض وذاب في شحوب السماء … واختفى الطائر.
كانت أصابع العجوز تشد بقوة على ذراع الصبي. وتفجرت الصيحة المحشرجة ثانيةً من بين شفتيه.
_ ” يا ربّ السماء العظيم! ” كانت تلكم الصرخة مزيجاً من الجذل والصلاة، خبا بعدها الضوء في عينيه… ثم انطفأ.
- ” لقد رحل الى الجنوب ”
قال الجد. وتدلت أكتافه، وحاول أن يشد معطفه العظيم الى جسده المنكمش.” إنها تجيء في الليل فتسمع لها صوتاً كمثل الرعد، وتظلم السماء.. وهناك المسيسبي من تحت.. ورائحة البحر التي تأتيك قادمة من مائة ميل…”
***
رافقت أم “لي” ابنها حتى الباب وقالت له ” إنه يهذي ” وكانت الدموع تترقرق في عينيها وفي صوتها.. ” إنه مريض جداً… لم يكن عليك أن…”
وتمالكت نفسها على الفور وهمست له “أخبر أباك أن يأتي بالطبيب حالاً.. أخبره أن يرسله حالما يلقاه. ”
وانطلق “لي” يهبط السلالم، هارباً من الحجرة المعتمة التي تتراقص فيها الظلال حيث لا يكسر الصمت الثقيل غير تنفس الجد المضطرب العنيف وما يدمدم من كلمات.
كان الجد مريضاً- مريضاً للغاية، حتى لم يعد قادراً على رفع رأسه من الوسادة، وبدا كأنه لم يعد يبصر شيئاً. لكنه لم يكن يخرّف. لقد كان يعي تماماً ما يقول. كل ما في الأمر إن “لي” هو الوحيد الذي يفهم ما يعنيه. لم يكن الفتى نادماً على ما بدر منه؛ لقد كان سعيداً لأن الجد قد رأى النعّاب، برغم ما حصل.
- ” كان يجب أن يراه ” قال لوالده في إصرار ” كان يجب أن يفعل ”
أومأ الأب برأسه موافقاً من وراء الجريدة التي يتظاهر بقراءتها.
- ” أعرف يا بنيّ ” وأردف وفي صوته نبرة ألمٍ غريبةٍ غير مفهومة ” أتمنى لو كنتُ معكما ”
غطّ “لي” في النوم وهو على الأريكة، وحين استيقظ بعد وقتٍ طويل اكتشف أنه وحيدٌ في غرفة المعيشة. كان المصباح الزيتي يرسل ضوءه الخافت من فوق المنضدة. نهض، وتيقظ من فوره، فبدا له البيت غريباً موحشاً. وسكنت الأصوات التي أقلقته حتى في نومه.
كان كل شيء يوحي بأن أمراً ما قد حدث. نزلت الأم السلالم في خطى هادئات. كان وجهها جامداً رزيناً فأدرك على الفور ما جاءت تقول. داعبت شعره بأصابعها لتُشعره بأن ما فعل لم يعد مهماً.
- ” لقد مات الجد ”
قالت له وغصت بالعبرات فأشاحت وجهها عنه. ولفتهما لحظات من الألم الممض. لم يتحمل سماع بكاء أمه، لكنه حين تكلم أخيراً اندفعت الكلمات من حنجرته واضحة منتصرة :
- ” لقد رحل الى الجنوب! “
(1) كاتب كندي ، من أصل ايرلندي ، ولد عام 1907 ودرس في إنكلترا وكندا. عمل أستاذا للأدب الإنكليزي وكتب العديد من الروايات والقصص والكتب النقدية.
(2) الغرنوق النعاب Whooping Crane طائر كبير الحجم من فصيلة الغرانيق (الكراكي) يعيش في كندا وشمالي أمريكا ويهاجر صيفا الى الجنوب نحو تكساس وخليج المكسيك في رحلة تستغرق 2500 ميلاً. كان موشكاً على الانقراض لكن العلماء نجحوا في زيادة أعداده الى حد ما. أكثر ما يميزه ارتفاعه الكبير وعرض جناحيه البيضاوين واللطخة السوداء في طرفيهما ورقصة التزاوج الجميلة، له صوت مميز ومرتفع جداً.
قصة: إدورد ماك كورت (1)
ترجمة: د. ماجد الحيدر
-”إنها تحلق الليلَ بطوله” قال الرجل العجوز “في البداية تسمع صوتا قادما من بعيد فتحسبه هدير الرعد، ثم يزداد قرباً ودويّا، وسرعان ما يصبح مثل قطار شحنٍ يمر من فوق رأسك، أما إذا كانت الليلة مقمرة فإنها تسد صفحة البدر حتى يستحيل الليل ظلاما دامساً”
-”لكنني أقول لك إني شاهدت واحداً منها” قال “لي الصغير” ثم أردف “إنها الحقيقة يا جدي. هناك عند مستنقع بيكرز، كنت أبحث عن البط- وفجأة…”
-”لم يعد هناك من غرنوق نعّاب في أيامنا” قال العجوز في أسى.(2)
وأعاد “لي” الكلام ببطءٍ شديد وهو يحاول أن يحتفظ بصبره “عند مستنقع بيكرز، صدقني، لقد رأيت بكل وضوح الأطراف السوداء لأجنحته!”
-”وتحس بأنك تريد الرحيل معها” قال الجد “وتشتاق الى الرحيل حتى يكاد قلبك يتصدع، عندما تسمع الهدير من فوق رأسك، مثل قطار شحنٍ طويلٍ عظيم يجتاز بك في الليل..”
وارتفع صوته على غير توقع مثل نقيق أجش:
-”تقول عند مستنقع بيكرز؟ غرنوق نعاب، نعاب حقيقي؟ هل تحلف بالله يا ولد؟ أنا لم أرَ نعابا منذ أربعين عاماً”
-”لم يبق في العالم كله غير ثمانية وعشرين نعابا. وهي تطير جنوباً في الخريف حتى تكساس”
-”وأنا أيضا ذاهبٌ الى الجنوب” قال الجد. “يمكنك أن تقبع تحت الشمس طوال الشتاء أو أن تستلقي وتراقب الأشياء. إن المرء ليحس بتعبٍ هائلٍ من الاستلقاء، بعد ثمانين عاماً”
وتضاءل صوته، ثم سكت وتهاوى في مقعده وأغمض عينيه. فتذكر “لي” ما أخبرته أمه “الجد رجل طاعن في السن وعلينا أن نجنبه الانفعال” وانتابته نوبة من الرعب شلت أوصاله.. ربما كان الجد يحتضر.. ربما قد مات بالفعل..
- “جدي!” صرخ وقد خنقته العبرة “استيقظ يا جدي! استيقظ!”
واهتز الجسد المنكمش في مقعده بارتعاشةٍ متشجنة، ثم انتصب العجوز قائماً دون أن يستند على ذراع الكرسي، وقال بصوتٍ جهوري حاد:
-” أيها الفتى! يجب أن أراه، أقول لك يجب أن أراه!”
حدق “لي” في حيرة، وبدا كالمأخوذ:
-” لكن أمي تقول …”
وفقد صوت العجوز نبرته الآمرة القوية، وتراجع الى تملقٍ واهن:
-” أوه، هيا يا فتى. لن يرانا أحد. أبوك يعمل في حيّ بعيد، و”إيلين” قد خرجت الى حفلٍ للنساء في مكان ما. يمكن أن نتسلل ثم نعود بسهولة ”
-” لكنها ثلاثة أميال، وأمي أخذت السيارة ”
وتغضن وجه العجوز:
-” لدينا الفرس والعربة الصغيرة. أليس كذلك؟”
-” نعم ولكن العربة متروكة منذ سنين وعدّة الفرس….”
ومحا الغضب كل أثر للمداهنة في تجاعيد وجه الجد، فتناول عصاه من جانب الكرسي، وصاح بالغلام:
-” إمضِ معي يا ولد وإلا سلختُ جلدك! ”
فتراجع “لي” نحو الباب وقال يسترضيه:
-” حسناً يا جدي، سأشد “بيسي” الى العربة حالاً ”
***
مرّ الجد بلحظات عصيبة وهو يحاول صعود العربة، لكنه حالما استوى في مقعده خطف الحبال من يد “لي” وسفع كفل الفرس العجوز بأطرافها، فأجفلت “بيسي” وانطلقت في خببٍ مضطرب. وحبس “لي: أنفاسه، لكن “بيسي” أبطأت بعد هنيهةٍ وأخذت تتقدم مُكرَهةً متثاقلة فأحس “لي” ببعض الراحة: فلربما تماسكت العربة ولم تتبعثر الى أشلاء.
ساروا قليلاً على طول الطريق الممهد، ثم انعطفوا نحو مسلكٍ جانبي وعر يتلوى عبر مرجٍ أجرد مكشوف. حدق الجد الى الأمام والتمعت عيناه:
-” كما أخبرتك يا فتى، إنها ترحل الى الجنوب. أظن إنها ترى المسيسبي وهي على ارتفاع ميلٍ في السماء. وأنا أيضا أتوق الى رؤيته، وسأفعل ذلك يوما ما بكل تأكيد.”
وتدلى ذقن العجوز نحو صدره، وانفلت الحبال من أصابعه وكادت أن تسقط من الحاجز الأمامي للعربة لولا أن “لي” أسرع وتلقفها.
-” شكراً يا فتى لأنك أخرجتني من البيت. ربما يحسن بنا أن نعود الآن. أنا متعبٌ، متعبٌ جداً ”
وضاقت حنجرة الغلام:
-” لقد كدنا نصل يا جدي. يمكنك أن ترى المستنقع ”
-” لم يعد في الدنيا من نعّاب” غمغم العجوز متذمراً ” رحلت كلها الى الجنوب”
مال “لي” بالفرس عن الطريق الذي عرته آثار العجلات وأوقف العربة تحت ساتر من أشجار الحور، ثم ساعد العجوز على الترجل ودس يده تحت ذراعه.
-”هيا يا جدي” قال “لي” وهو يستحثه “سوف ننجح في الوصول”
وتقدما على مهلٍ من وراء الساتر الجرفي نحو العشب المرتفع الذي يطوق حافات المستنقع. بهرت الشمس عينيهما لكن هواءً بارداً هب من فوق الماء حاملاً معه الرائحة الزنخة للماء الراكد والطين الذي غطته أملاح المعادن.
وتوقف الجد وهو ينوء تحت معطفه الكبير، وتشكى وهو يكاد يبكي:
-” ماذا تفعل بي يا فتى؟”.. تعرف ما قالته “إيلين”: لا يفترض بي أن أخرج دون رفقتها ”
-” انحنِ يا جدي. انحنِ ! ”
وارتمى العجوز على ركبتيه ويديه، وعلا صوته في صرير جنوني حاد:
-” أين هو يا ولد؟ أين هو؟”
-” تعال. إنني أرى رأسه ”
وتحرك شيء في العشب المرتفع. ومرت ثوانٍ مرتعشة ظل الفتى فيها مستلقيا دون كلام أو حراك. ثم انتفض كأنه عاد الى الحياة وقفز مستويا على قدميه وصاح في صوتٍ هائجٍ:
- ” أنظر يا جدي. أنظر! ”
واستدار ليمسك بجده، لكن الأخير كان قد نهض بالفعل، وأخذ يحدق في الجسد الأبيض العظيم وهو يندفع بإزاء السماء الشاحبة.
- ” يا ربَّ السماء العظيم!”
خرجت الكلمات مثل صرخةٍ قاسيةٍ غريبةٍ امتزجت فيها النشوة بالألم.
- ” نعّابٌ يا فتى.. نعّاب!”
ووقفا سويةً، الشيخ والصبي، وقد لفّهما سحرٌ لا ينتمي الى هذا العالم المنبسط الرتيب الذي يحيط بهما. وارتفع الطائر العظيم في ثبات، وبدت الأطراف السوداء للجناحين مثل خيطٍ مبهم يومض فوق بياض الجسد الناصع. حلق الطائر في دائرةٍ كبيرة ثم صعّد عالياً فوق رأسيهما، ثم تسلق سريعا موغلاً في السماء القصيّة، وطوال دقيقةٍ أو أكثر بدا كأنه يتدلى دون حراك من الفضاء الخارج عن تخوم العالم، وأخيراٍ خبا البياض وذاب في شحوب السماء … واختفى الطائر.
كانت أصابع العجوز تشد بقوة على ذراع الصبي. وتفجرت الصيحة المحشرجة ثانيةً من بين شفتيه.
_ ” يا ربّ السماء العظيم! ” كانت تلكم الصرخة مزيجاً من الجذل والصلاة، خبا بعدها الضوء في عينيه… ثم انطفأ.
- ” لقد رحل الى الجنوب ”
قال الجد. وتدلت أكتافه، وحاول أن يشد معطفه العظيم الى جسده المنكمش.” إنها تجيء في الليل فتسمع لها صوتاً كمثل الرعد، وتظلم السماء.. وهناك المسيسبي من تحت.. ورائحة البحر التي تأتيك قادمة من مائة ميل…”
***
رافقت أم “لي” ابنها حتى الباب وقالت له ” إنه يهذي ” وكانت الدموع تترقرق في عينيها وفي صوتها.. ” إنه مريض جداً… لم يكن عليك أن…”
وتمالكت نفسها على الفور وهمست له “أخبر أباك أن يأتي بالطبيب حالاً.. أخبره أن يرسله حالما يلقاه. ”
وانطلق “لي” يهبط السلالم، هارباً من الحجرة المعتمة التي تتراقص فيها الظلال حيث لا يكسر الصمت الثقيل غير تنفس الجد المضطرب العنيف وما يدمدم من كلمات.
كان الجد مريضاً- مريضاً للغاية، حتى لم يعد قادراً على رفع رأسه من الوسادة، وبدا كأنه لم يعد يبصر شيئاً. لكنه لم يكن يخرّف. لقد كان يعي تماماً ما يقول. كل ما في الأمر إن “لي” هو الوحيد الذي يفهم ما يعنيه. لم يكن الفتى نادماً على ما بدر منه؛ لقد كان سعيداً لأن الجد قد رأى النعّاب، برغم ما حصل.
- ” كان يجب أن يراه ” قال لوالده في إصرار ” كان يجب أن يفعل ”
أومأ الأب برأسه موافقاً من وراء الجريدة التي يتظاهر بقراءتها.
- ” أعرف يا بنيّ ” وأردف وفي صوته نبرة ألمٍ غريبةٍ غير مفهومة ” أتمنى لو كنتُ معكما ”
غطّ “لي” في النوم وهو على الأريكة، وحين استيقظ بعد وقتٍ طويل اكتشف أنه وحيدٌ في غرفة المعيشة. كان المصباح الزيتي يرسل ضوءه الخافت من فوق المنضدة. نهض، وتيقظ من فوره، فبدا له البيت غريباً موحشاً. وسكنت الأصوات التي أقلقته حتى في نومه.
كان كل شيء يوحي بأن أمراً ما قد حدث. نزلت الأم السلالم في خطى هادئات. كان وجهها جامداً رزيناً فأدرك على الفور ما جاءت تقول. داعبت شعره بأصابعها لتُشعره بأن ما فعل لم يعد مهماً.
- ” لقد مات الجد ”
قالت له وغصت بالعبرات فأشاحت وجهها عنه. ولفتهما لحظات من الألم الممض. لم يتحمل سماع بكاء أمه، لكنه حين تكلم أخيراً اندفعت الكلمات من حنجرته واضحة منتصرة :
- ” لقد رحل الى الجنوب! “
(1) كاتب كندي ، من أصل ايرلندي ، ولد عام 1907 ودرس في إنكلترا وكندا. عمل أستاذا للأدب الإنكليزي وكتب العديد من الروايات والقصص والكتب النقدية.
(2) الغرنوق النعاب Whooping Crane طائر كبير الحجم من فصيلة الغرانيق (الكراكي) يعيش في كندا وشمالي أمريكا ويهاجر صيفا الى الجنوب نحو تكساس وخليج المكسيك في رحلة تستغرق 2500 ميلاً. كان موشكاً على الانقراض لكن العلماء نجحوا في زيادة أعداده الى حد ما. أكثر ما يميزه ارتفاعه الكبير وعرض جناحيه البيضاوين واللطخة السوداء في طرفيهما ورقصة التزاوج الجميلة، له صوت مميز ومرتفع جداً.
الإسلام على طريق المسيحية في قبول النظام العلماني! (4)-عماد رسن
الإسلام على طريق المسيحية في قبول النظام العلماني! (4)
لقد ذكرت في مقالي السابق (الإسلام والنظام العلماني) بأن الإسلام المعتدل لايتناقض مع أغلب القيم الليبرالية ومنها النظام العلماني كاسلوب لإدارة شؤون الدولة من خلال تنظيم العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية. فإذا كان الأمر كذلك, هل نستطيع القول بأن الإسلام المعتدل يسير في نفس الطريق الذي سارت به المسيحية بإنفصالها عن الدولة كما حدث في فرنسا عام 1905؟ الجواب نعم, ولكن ربما ليس بنفس الطريقة لأسباب عديدة. وعلى حد قول الفيلسوف جارلز تايلر, بأن لايوجد هناك سبب حقيقي يمنع المسلمين من قبول النظام العلماني, وأن حدث هذا فإنه بسبب سوء الإدارة وليس لشيء آخر. ولكن, ما أوجه الإختلاف بين المسيحية والإسلام في قبول النظام العلماني؟
يقول أولفر روي إن هناك سببان يختلف بهما الإسلام عن المسيحية. الأول هو أن فصل الدين عن السياسة غير معروف في الإسلام, والثاني هو أن الإسلام ليس دين فحسب, بل هو ثقافة أيضا ً. ففي النقطة الأولى, لاتوجد مؤسسة إسلامية كالتي في المسيحية حيث لايوجد كهنوت في الإسلام, وعلى هذا الأساس لايمكن الحديث عن فصل الدين عن السياسة في الإسلام بنفس الطريقة كما في المسيحية, أي ما لله لله وما لقيصر لقيصر. أما ما يخص النقطة الثانية, فالإسلام هو دين وطريقة للعيش مرتبطة بنظام قانوني تشريعي من خلال الشريعة الإسلامية. وعلى هذا الأساس لايمكن الحديث عن فصل كل ماهو ديني عما هو ثقافي, وبالتالي فصل الثقافي عما هو سياسي. أضف إلى ذلك بأنه لايوجد في الإسلام فصل بين ماهو خاص وماهو عام, فالإسلام شامل لجميع نواحي الحياة كما يقول الأستاذ طارق رمضان. إذن, نحن أمام دين ونمط يختلف بشكل كبير عن المسيحية فكيف سيسير في نفس طريقها نحو العلمانية؟
كما وضحت مسبقا ً بأن الإسلام المعتدل يقبل العلمانية كنظام مادام لايخالف الشريعة الإسلامية, حيث هي البديل الأفضل بعد فشل التجارب العديدة لإقامة الدولة الدينية. وفي نفس الوقت, لابد أن نفهم بأن العلمانية مع الديمقراطية لاتلغي الدين, بل تعيد ترتيب دخوله للحياة السياسية من خلال الديمقراطية. وعلينا أن نفهم بأن مفهوم الحكومة في النظام العلماني ليس كما هو في النظم الشمولية أو الدكتاتورية وغيرها, بل يقتصر على إدارة الدولة بشكل فني ومهني كإدارة أي شركة تجارية, من خلال مجموعة من التكنقراط. ففي النظم الليبرالية تكون الحكومة أضعف مايكون مقابل الحريات الفردية التي تعبر عن نفسها من خلال الإعلام الحر وتنظم إرادتها ومصالحها من خلال منظمات المجتمع المدني, والأحزاب السياسية. إن عملية صنع القرار السياسي لاتقوم بها الحكومة لوحدها, فالحكومة تكون الجزء الأقل تأثيرا ً وفاعلية في صنع القرار, فدورها الأكبر هو تنفيذ هذا القرار والذي يكون عملا ً فنيا ً بحتا ً. أما عملية صنع القرار التي يمكن للدين أن يشارك فيها فهي تتم في دائرة الفضاء العام. أن الفضاء العام (public sphere), على رأي هابيرماس, هو المجال المحصور بين الفضاء الخاص (private sphere) والفضاء الحكومي (authorities). ويشتمل الفضاء العام على وسائل الإعلام المستقلة كافة, وعلى البرلمان والمنظمات المستقلة ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب. ففي الفضاء العام لابد لجميع الأطراف التشاور, والتحاور, والتداول من أجل صياغة خطاب عقلاني نقدي توافقي (rational-critical consensus) موحد يؤدي إلى المصلحة العامة للبلد(common good). أما إذا أختلفت الآراء فيمكن للمتنافسين أن يصنعوا فضاء ً فرعيا ً (subaltern counter-public sphere) لصياغة خطاب بديل عن الأول, حسب رأي نانسي فراسر.
إذن, في كل الأحوال يمكن للدين أن يدخل في السياسة من هذا الباب من خلال المشاركة في الحوار لخلق حالة من التواصل التفاعلي مع الآخرين, حيث سيمكن الدين, من خلال الأحزاب, الدخول في هذا الحوار لصياغة خطاب يمكن أن يؤدي لحالة تشريعية في البرلمان. أو يمكن للدين أن يكون فاعلا ً أخلاقيا ً من خلال المساهمة في منظمات المجتمع المدني التي دورها يقتصر على رفع قسم من هموم ومسؤوليات المجتمع عن كاهل الدولة. فيمكن للمنظومة التشريعية الإسلامية أن تندمج مع القوانين الوضعية بعد تحديثها وملائمتها مع الحاجة والواقع من خلال طرحها كأفكار في البرلمان ومن ثم تحويلها لقوانين. ويمكن للمنظومة الأخلاقية أن تمارس عملاً جبارا ً لخدمة الناس ومساعدة الدولة من خلال منظمات المجتمع المدني. حتى يمكن لعلماء الدين أن يفتوا بما يريدون على شرط أن لايخالف ذلك الدستور والتشريعات والقوانين للدولة, كالفتاوى التي تحد من الحريات العامة أو التي تشكل تهديدا ً لثقافة أو عرق أو مذهب آخر. فحرية التعبير مكفولة بالدستور حتى لشيوخ وعلماء الدين الذين يريدون أن يدلوا بدلوهم من خلال الفتاوى, على شرط أن لاتخالف القانون ولاتكون ملزمة للحكومة , بل ملزمة فقط لمن يريد أن يلتزم بها.
السؤال المهم هو هل يمكن أن يحدث ذلك, وكيف, أم تلك صورة مثالية فقط أقرب هي للخيال منها إلى الواقع. يقول هابيرماس وتايلر يمكن ذلك بشروط. الأول هو الإيمان بالديمقراطية, فعندما نؤمن بالديمقراطية لابد من الإعتراف بالآخر وقبوله والتعامل معه على أساس الإيمان بالتعددية. وقبول الديمقراطية يعني القبول بالمساواة بين الجميع بالمشاركة السياسية وأمام القانون, وأهمها المساواة بين الرجل والمرأة. أما الشرط الثاني فهو تجاوز الدوغما الدينية من خلال التخلي عن العنف وعن الفكر الإستاصالي, أي التخلي عن الإعتقاد بأني على صواب ومن يخالفني بالضرورة يكون على خطأ ولابد أن يتبعني شاء أم أبى. أي بإختصار شديد, إختزال الخطاب الديني الميتافيزيقى الغيبي إلى خطاب عقلاني قابل للتفاعل مع الآخر بنفس المشتركات لإنجاح عملية التشاور والتداول والتحاور مع الآخر المختلف. إذن, هذان من أهم الشروط التي يجب توفرها, فمن الناحية العملية دخلت الكثير من الأحزاب الدينية العمل السياسي من خلال هذين الشرطين, وبالخصوص الثاني والذي تؤكد على أن الفكر الإسلامي المعتدل يحمل في جذوره فكر أبن رشد والمعتزلة العقلانيين وما عليه سوى العمل بهما بعد تجديدهما.
خاتمة
بعد كتابة هذه المقالات أود أن أذكر بأن اللحاق بركب الحضارة لايتم إلا من خلال الحوار مع الآخر المختلف من خلال مراجعة شاملة لقيمنا وتراثنا وثقافتنا لتكون أكثر فاعلية وواقعية. أما فكرة التصادم مع الآخر فلاتخدم سوى المنتفعين والإنتهازيين الذين يعيشون على حروب الآخرين. إن الدين الإسلامي يمكن أن يتصالح مع القيم الليبرالية إن لم يكن هو أحد مؤسسيها والداعين إليها من خلال ترسيخ منهج العقل والتجربة في أزمان متعددة ومن قبل فلاسفة وعلماء مختلفين. فالمشكلة بالأصل ليست دينية فحسب بل ثقافية وسياسية تتعلق ببنية المجتمعات العربية التي يعود جذورها إلى ماقبل الإسلام. إذن, إن كان علينا المضي قدما ً فلابد من دخول عصر الحداثة الذي تجاوزه الآخرون إلى مابعدها, وذلك من خلال المصالحة والحوار مع الآخر, ولكن قبل ذلك علينا المصالحة والحوار مع أنفسنا في مراجعة شاملة لكل قيمنا التي نؤمن بها, بما فيها تصوراتنا عن العقيدة والدين والأخلاق.
عماد رسن
لقد ذكرت في مقالي السابق (الإسلام والنظام العلماني) بأن الإسلام المعتدل لايتناقض مع أغلب القيم الليبرالية ومنها النظام العلماني كاسلوب لإدارة شؤون الدولة من خلال تنظيم العلاقة بين الدولة والمؤسسة الدينية. فإذا كان الأمر كذلك, هل نستطيع القول بأن الإسلام المعتدل يسير في نفس الطريق الذي سارت به المسيحية بإنفصالها عن الدولة كما حدث في فرنسا عام 1905؟ الجواب نعم, ولكن ربما ليس بنفس الطريقة لأسباب عديدة. وعلى حد قول الفيلسوف جارلز تايلر, بأن لايوجد هناك سبب حقيقي يمنع المسلمين من قبول النظام العلماني, وأن حدث هذا فإنه بسبب سوء الإدارة وليس لشيء آخر. ولكن, ما أوجه الإختلاف بين المسيحية والإسلام في قبول النظام العلماني؟
يقول أولفر روي إن هناك سببان يختلف بهما الإسلام عن المسيحية. الأول هو أن فصل الدين عن السياسة غير معروف في الإسلام, والثاني هو أن الإسلام ليس دين فحسب, بل هو ثقافة أيضا ً. ففي النقطة الأولى, لاتوجد مؤسسة إسلامية كالتي في المسيحية حيث لايوجد كهنوت في الإسلام, وعلى هذا الأساس لايمكن الحديث عن فصل الدين عن السياسة في الإسلام بنفس الطريقة كما في المسيحية, أي ما لله لله وما لقيصر لقيصر. أما ما يخص النقطة الثانية, فالإسلام هو دين وطريقة للعيش مرتبطة بنظام قانوني تشريعي من خلال الشريعة الإسلامية. وعلى هذا الأساس لايمكن الحديث عن فصل كل ماهو ديني عما هو ثقافي, وبالتالي فصل الثقافي عما هو سياسي. أضف إلى ذلك بأنه لايوجد في الإسلام فصل بين ماهو خاص وماهو عام, فالإسلام شامل لجميع نواحي الحياة كما يقول الأستاذ طارق رمضان. إذن, نحن أمام دين ونمط يختلف بشكل كبير عن المسيحية فكيف سيسير في نفس طريقها نحو العلمانية؟
كما وضحت مسبقا ً بأن الإسلام المعتدل يقبل العلمانية كنظام مادام لايخالف الشريعة الإسلامية, حيث هي البديل الأفضل بعد فشل التجارب العديدة لإقامة الدولة الدينية. وفي نفس الوقت, لابد أن نفهم بأن العلمانية مع الديمقراطية لاتلغي الدين, بل تعيد ترتيب دخوله للحياة السياسية من خلال الديمقراطية. وعلينا أن نفهم بأن مفهوم الحكومة في النظام العلماني ليس كما هو في النظم الشمولية أو الدكتاتورية وغيرها, بل يقتصر على إدارة الدولة بشكل فني ومهني كإدارة أي شركة تجارية, من خلال مجموعة من التكنقراط. ففي النظم الليبرالية تكون الحكومة أضعف مايكون مقابل الحريات الفردية التي تعبر عن نفسها من خلال الإعلام الحر وتنظم إرادتها ومصالحها من خلال منظمات المجتمع المدني, والأحزاب السياسية. إن عملية صنع القرار السياسي لاتقوم بها الحكومة لوحدها, فالحكومة تكون الجزء الأقل تأثيرا ً وفاعلية في صنع القرار, فدورها الأكبر هو تنفيذ هذا القرار والذي يكون عملا ً فنيا ً بحتا ً. أما عملية صنع القرار التي يمكن للدين أن يشارك فيها فهي تتم في دائرة الفضاء العام. أن الفضاء العام (public sphere), على رأي هابيرماس, هو المجال المحصور بين الفضاء الخاص (private sphere) والفضاء الحكومي (authorities). ويشتمل الفضاء العام على وسائل الإعلام المستقلة كافة, وعلى البرلمان والمنظمات المستقلة ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب. ففي الفضاء العام لابد لجميع الأطراف التشاور, والتحاور, والتداول من أجل صياغة خطاب عقلاني نقدي توافقي (rational-critical consensus) موحد يؤدي إلى المصلحة العامة للبلد(common good). أما إذا أختلفت الآراء فيمكن للمتنافسين أن يصنعوا فضاء ً فرعيا ً (subaltern counter-public sphere) لصياغة خطاب بديل عن الأول, حسب رأي نانسي فراسر.
إذن, في كل الأحوال يمكن للدين أن يدخل في السياسة من هذا الباب من خلال المشاركة في الحوار لخلق حالة من التواصل التفاعلي مع الآخرين, حيث سيمكن الدين, من خلال الأحزاب, الدخول في هذا الحوار لصياغة خطاب يمكن أن يؤدي لحالة تشريعية في البرلمان. أو يمكن للدين أن يكون فاعلا ً أخلاقيا ً من خلال المساهمة في منظمات المجتمع المدني التي دورها يقتصر على رفع قسم من هموم ومسؤوليات المجتمع عن كاهل الدولة. فيمكن للمنظومة التشريعية الإسلامية أن تندمج مع القوانين الوضعية بعد تحديثها وملائمتها مع الحاجة والواقع من خلال طرحها كأفكار في البرلمان ومن ثم تحويلها لقوانين. ويمكن للمنظومة الأخلاقية أن تمارس عملاً جبارا ً لخدمة الناس ومساعدة الدولة من خلال منظمات المجتمع المدني. حتى يمكن لعلماء الدين أن يفتوا بما يريدون على شرط أن لايخالف ذلك الدستور والتشريعات والقوانين للدولة, كالفتاوى التي تحد من الحريات العامة أو التي تشكل تهديدا ً لثقافة أو عرق أو مذهب آخر. فحرية التعبير مكفولة بالدستور حتى لشيوخ وعلماء الدين الذين يريدون أن يدلوا بدلوهم من خلال الفتاوى, على شرط أن لاتخالف القانون ولاتكون ملزمة للحكومة , بل ملزمة فقط لمن يريد أن يلتزم بها.
السؤال المهم هو هل يمكن أن يحدث ذلك, وكيف, أم تلك صورة مثالية فقط أقرب هي للخيال منها إلى الواقع. يقول هابيرماس وتايلر يمكن ذلك بشروط. الأول هو الإيمان بالديمقراطية, فعندما نؤمن بالديمقراطية لابد من الإعتراف بالآخر وقبوله والتعامل معه على أساس الإيمان بالتعددية. وقبول الديمقراطية يعني القبول بالمساواة بين الجميع بالمشاركة السياسية وأمام القانون, وأهمها المساواة بين الرجل والمرأة. أما الشرط الثاني فهو تجاوز الدوغما الدينية من خلال التخلي عن العنف وعن الفكر الإستاصالي, أي التخلي عن الإعتقاد بأني على صواب ومن يخالفني بالضرورة يكون على خطأ ولابد أن يتبعني شاء أم أبى. أي بإختصار شديد, إختزال الخطاب الديني الميتافيزيقى الغيبي إلى خطاب عقلاني قابل للتفاعل مع الآخر بنفس المشتركات لإنجاح عملية التشاور والتداول والتحاور مع الآخر المختلف. إذن, هذان من أهم الشروط التي يجب توفرها, فمن الناحية العملية دخلت الكثير من الأحزاب الدينية العمل السياسي من خلال هذين الشرطين, وبالخصوص الثاني والذي تؤكد على أن الفكر الإسلامي المعتدل يحمل في جذوره فكر أبن رشد والمعتزلة العقلانيين وما عليه سوى العمل بهما بعد تجديدهما.
خاتمة
بعد كتابة هذه المقالات أود أن أذكر بأن اللحاق بركب الحضارة لايتم إلا من خلال الحوار مع الآخر المختلف من خلال مراجعة شاملة لقيمنا وتراثنا وثقافتنا لتكون أكثر فاعلية وواقعية. أما فكرة التصادم مع الآخر فلاتخدم سوى المنتفعين والإنتهازيين الذين يعيشون على حروب الآخرين. إن الدين الإسلامي يمكن أن يتصالح مع القيم الليبرالية إن لم يكن هو أحد مؤسسيها والداعين إليها من خلال ترسيخ منهج العقل والتجربة في أزمان متعددة ومن قبل فلاسفة وعلماء مختلفين. فالمشكلة بالأصل ليست دينية فحسب بل ثقافية وسياسية تتعلق ببنية المجتمعات العربية التي يعود جذورها إلى ماقبل الإسلام. إذن, إن كان علينا المضي قدما ً فلابد من دخول عصر الحداثة الذي تجاوزه الآخرون إلى مابعدها, وذلك من خلال المصالحة والحوار مع الآخر, ولكن قبل ذلك علينا المصالحة والحوار مع أنفسنا في مراجعة شاملة لكل قيمنا التي نؤمن بها, بما فيها تصوراتنا عن العقيدة والدين والأخلاق.
عماد رسن
الأربعاء، 6 يوليو 2011
القصيــــــــــدة ... / سليمان دغش
القصيــــــــــدة ... / سليمان دغش
أهيِّئُ نَفسي لَها
حينَ أصحو منَ النومِ في حُلْمِها
وحينَ تصحو منْ حُلُمي في نومِها
أُهيئُ صبحي لها
وأبدأُ طقسَ الوضوءِ المُبكِّرِ
بحمّامِ ماءٍ ساخنٍ
وبعضِ الشامبوهاتِ
ولمسةِ عطرٍ فرنسيٍّ
أوزِّعُها باهتمامٍ شديدٍ
على ملامسِ جسمي
وأبدأُ يومي الجديدَ على هَديها
كما كلَِّ يومٍ
بفنجانِ قهوة
وقطعةِ حَلوى
وبعضِ جريدةْ
أهيِّئُ نفسي لها
وأَحمِلُها إلى مشاغِلِ يومي المُمِلِّ
وآوي كعصفورٍ مُتعبٍ
منْ دُوارِ البحارِ
ومنْ أوارِ النهارِ
إلى ظِلِّها
يُحيِّرُني سؤالٌ فلسفيٌّ بسيطٌ
ما الذي يجعلُ الفراشةَ تَنتحرُ
على شبقِ الضوءِ
في ليلها..؟؟
أهيِّئُ نفسي لها
حينَ أعودُ إليَّ ..إليها
مُحَمَّلاً بانكِساراتِ يومي الطويلِ
وَمثقلاً بأًسئلةٍ لا تبحثُ عنْ جوابٍ
تلازمُني كظِلِّي الذي أدمَنتهُ
مثلما أدمَنَني ها هُنا حَنظلهْ ...
أهيِّئُ نفسي لها
أهيِّئُ الليلَ قداساً يسوعيَّ الدلالةِ
أوقدُ لها شمعةً
وأُعدُّ نبيذاً شهيّاً للعشاءِ الأخيرِ
وأسهرُ الليلةَ شمعةً.. شمعةً
ودَمعةً ..دَمعةً
على وقعِ سيمفونيَّةٍ تشرَبُني
على مَهلها
وتفتح ُالليلَ للريحِ والأسئلةْ
أهيِّئُ نفسي لها
حينَ تدخلُ ليلي
وحينَ أدخلُ في ليلِها
وأختمُ ليلي الطويلَ الطويلَ
بها
ولها
حينَ تحضُرُني بلا مَوعدٍ
وتكتُبُني
شهقةًٍ
شهقةً
في القصيدةْ .. !!
( من ديواني الأخير " سماءٌ للعصافير نهارٌ للفراشة " الصادر حديثاً عن دار البراق في تونس
لا تجعلوا المناصب اوكار ارتزاق؟-كفاح محمود كريم
لا تجعلوا المناصب اوكار ارتزاق؟
كفاح محمود كريم
في موروثنا الاجتماعي والقيمي كانت المناصب مواقع يتمنى البعض ان يصلها اما للتشريف او لتحقيق تحصيل حاصل لكفاءته أو موقعا متقدما للخدمة، وفي كل الأحوال كان المنصب لا يفرق كثيرا في ما يتعلق بالامتيازات المادية الا الشيء القليل، اللهم ان كانت هناك هوامش النثرية الخاصة بالمنصب وتلك ايضا تقع تحت طائلة التصفية الحسابية ووصولاتها الموثقة التي تخضع لنظام حسابي دقيق.
ورغم ان كثير من الأنظمة التي حكمت البلاد كانت تصنف كونها مستبدة ودكتاتورية، الا ان المناصب بقت تحافظ على هيبتها الاجتماعية لا بسبب تخصيصاتها المالية ورواتب شاغليها، بل لموقعها وتأثيرها وفي احيان كثيرة كون شاغلها انسان يستحق تلك المكانة ويعمل بجد من اجل وظيفته وهو قد قضى سنوات طويلة حتى أدرك ذلك المكان، حيث يتمتع بمساحة أوسع في الصلاحيات التي تتيح له العمل من اجل الهدف الأسمى.
وضمن هذا المشهد ايضا كان هناك مسؤولين مهمين في الهرم الوظيفي يتجاوزون في استحقاقاتهم المالية درجات قانون الخدمة المعروف ويوضعون في حقل الدرجات الخاصة وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية ونائبه وثلة آخرين ممنوحين بعض الصلاحيات من قبل الرئيس وتحديدا في السنوات الأخيرة من حكم الدكتاتور صدام حسين، وهم عادة قلة ضئيلة قياسا بمجاميع الموظفين او مقارنة بما موجود الآن، الا ان السياق العام في كل الدولة كان تحت سقف قانون الخدمة وتسلسلات العمل الوظيفي ودرجاته التي تأتي بشكل تصاعدي مع امتيازات معقولة لكل درجة منها، ولا يمكن أن يرى المراقب بونا شاسعا او كبيرا بين درجتين حتى وإن تباعدا في السلم الوظيفي، الا بما يوازي سنوات الخدمة وتدرجاتها والكفاءة وما يلحق جرائها من تشكرات او عقوبات.
ما حصل بعد سقوط النظام وانهيار الدولة وحتى بعد قيام المؤسسات الدستورية التي افرزتها الانتخابات العامة في 2005م، لم يفرق كثيرا عن تلك الثقافة التي سادت البلاد طيلة ما يقرب من نصف قرن، فهي حقيقة في كثير من أوجهها نتاج تلك الحقبة وتربيتها وآثارها، وفيما يتعلق بالرواتب والمخصصات والنثريات والامتيازات فقد جاءت بما لا شبيه له في العالم اجمع، حيث تجاوزت في معدلاتها كل النسب العالمية في اقصاها بما في ذلك الدول الغنية جدا وذات الفائض النقدي الكبير مثل المانيا واليابان، ابتداء من راتب رئيس الجمهورية ونوابه ورئيس الوزراء ووزرائه ورئيس النواب ونوابه وملحقاتهم وتوابعهم ووكلائهم، حتى تحولت كثير من المناصب الى أوكار للارتزاق والاختلاس والسحت الحرام، حيث اصبح المنصب أشبه بكنز يحصل عليه المتسابقون للفوز بالمال والسلطة والنفوذ، يقابل ذلك عملية تقزم القيم الوطنية العليا أمام التهافت المادي والامتيازات المسرطنة التي يتناحر عليها هؤلاء المتسابقون.
وفي الجانب الآخر لم تظهر أي معدلات للنمو او التطور في كثير من المؤسسات والدوائر التي يشغلها هؤلاء المسؤولين، بل على العكس بدأت الأمور تتردى وتتقهقر بشكل مريع وبالذات فيما يتعلق بالخدمات الأساسية للمواطن، وعلاقة ذلك المسؤول به التي تحولت هي الأخرى تحت هذا السلوك في الوارد المالي والسلطوي الى علاقة رثة اقرب ما تكون الى العبودية والاستبداد، يرافقها بيروقراطية مكثفة وروتين يهدف الى إنشاء منطقة عازلة تماما بين المواطن والمسؤول إلا من عناقيد الطفيليين وأصحاب الوساطات والمرتشين.
وإذا كانت حقبة الدكتاتورية قد افرزت قيادات ومناصب فاسدة وغير مؤهلة، فان حقبة ما بعد الدكتاتورية وإرهاصاتها أفرزت مستوطنات طفيلية من الانتهازيين والوصوليين وأشباه الأميين ممن سرطنتهم الأوضاع الشاذة في البلاد، واستطاعوا في ظل إخفاقات العملية السياسية اختراق كثير من مفاصل الدولة في المال والسلطة والتشريع لتحيلها الى أوكار للارتزاق والفساد والإفساد وتشيع اليأس والإحباط لدى مساحات واسعة من الأهالي.
الثلاثاء، 5 يوليو 2011
شيء عن تجربتي التشكيلية مع مختارات من معارض سابقة-د.غالب المسعودي
شيء عن تجربتي التشكيلية
د.غالب المسعودي
أن يتحدث الفنان عن تجربته فيه شيء من الصعوبة لأن التجربة هي التي تتحدث عنه و ما من شك أن الفن من أولى الوسائل التي أفصح بها الانسان عن نفسه ،و يأخذ العمل الفني من المبدع بعد أن يمتليء خياله و وجدانه و تفيض نفسه بمشاعر و أحاسيس لا يملك الا أن يكشفها و يكون أسيرها و بهذا ينتزع من وجوده كنه ما يحس ، و منذ عصر الاسطورة ظل الفن يستلهم بيئته الموضوعية و المعرفية و تتحدث تجربتي عن استلهامي التراث الاسطوري لحضارة وادي الرافدين حيث أن الاسطورة تأريخ يصلح لكل زمان ومكان من حيث انها عالمية الابعاد محلية التكوين وكون الاسطورة شكل فهي قابلة لأن تكون شكلا آخر ،انا أرحل مع السومريين في عمق التأريخ البعيد و لا أنسى اني في القرن الواحد و العشرين منحازا لهاجس الحاضر و المستقبل متنقلا من خلال الغوص في الذات راكبا صهوة الروح امارس أحلامي و أوهامي على المساحة المتاحه لي _فضاء اللوحة _و يشكل التهميش الذي فرضته قوى الظلام عائقا امام الابداع العراقي ناسية أن العراقيين في كل تأريخهم هم كالنخيل شامخين في وجه البائسين لذا لجأت الى استخدام خامات و الوان أصنعها لنفسي معتمدا على ما متاح في السوق المحلية و ملبيا متطلبات الديمومة و المقاومة العالية للظروف المناخية و عوامل الزمن ،لم أستعمل الريشة في أعمالي كي أكون أكثر قربا في عملي ..وكي لاننسى أن التسطيح وصل الى كافة مرافق الحياة الثقافية حتى الى ريشة الفنان ،و المطلع على تأريخ الحضارات الكبيرة يرى انها استثمرت ما متاح في بيئتها لتصنع اسطورتها و ليس أدل من ذلك استخدام الطين لتدوين روائع الاعمال لحضارة وادي الرافدين و التي ظلت منارا ينير الدرب لحضارات العالم كافة و أننا وريثي هذه الحضارة الرائعة العريقة .. اذ أن الجمال يشرق في النفس كشعاع ضوء بين الآكام.
د.غالب المسعودي
طبيب أسنان اختصاصي بجراحة الوجه و الفكين
عضو نقابة الفنانين
عضو جمعية التشكيليين العراقيين
مشارك في جميع المعارض الوطنية منذ عام 1999
أقام ثلاثة معارض شخصية خلال الفترة المنصرمة
أصدر مجموعتين شعريتين
ترجمت مختارات من أعماله الشعرية الى اللغة الانكليزية قام بترجمتها الشاعر حامد الشمري
له كتابات تنظيرية في مجال الفن التشكيلي منشورة في الصحافة العراقية
معرض مشترك في قاعة أفـق - آيار 2003بغداد .
معرض مشترك في جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين - تموز2004سوريا.
معرض الحرية الاول نقابة الفنانين - بابل 2003
معرض في ذكرى شهداء الحركة الوطنية العراقية 2004- نقابة فناني بابل .
معرض الربيع الاول 2004 نقابة الفنانين - بابل .
معرض مهرجان متحف الشارقه الاول2005
د.غالب المسعودي
أن يتحدث الفنان عن تجربته فيه شيء من الصعوبة لأن التجربة هي التي تتحدث عنه و ما من شك أن الفن من أولى الوسائل التي أفصح بها الانسان عن نفسه ،و يأخذ العمل الفني من المبدع بعد أن يمتليء خياله و وجدانه و تفيض نفسه بمشاعر و أحاسيس لا يملك الا أن يكشفها و يكون أسيرها و بهذا ينتزع من وجوده كنه ما يحس ، و منذ عصر الاسطورة ظل الفن يستلهم بيئته الموضوعية و المعرفية و تتحدث تجربتي عن استلهامي التراث الاسطوري لحضارة وادي الرافدين حيث أن الاسطورة تأريخ يصلح لكل زمان ومكان من حيث انها عالمية الابعاد محلية التكوين وكون الاسطورة شكل فهي قابلة لأن تكون شكلا آخر ،انا أرحل مع السومريين في عمق التأريخ البعيد و لا أنسى اني في القرن الواحد و العشرين منحازا لهاجس الحاضر و المستقبل متنقلا من خلال الغوص في الذات راكبا صهوة الروح امارس أحلامي و أوهامي على المساحة المتاحه لي _فضاء اللوحة _و يشكل التهميش الذي فرضته قوى الظلام عائقا امام الابداع العراقي ناسية أن العراقيين في كل تأريخهم هم كالنخيل شامخين في وجه البائسين لذا لجأت الى استخدام خامات و الوان أصنعها لنفسي معتمدا على ما متاح في السوق المحلية و ملبيا متطلبات الديمومة و المقاومة العالية للظروف المناخية و عوامل الزمن ،لم أستعمل الريشة في أعمالي كي أكون أكثر قربا في عملي ..وكي لاننسى أن التسطيح وصل الى كافة مرافق الحياة الثقافية حتى الى ريشة الفنان ،و المطلع على تأريخ الحضارات الكبيرة يرى انها استثمرت ما متاح في بيئتها لتصنع اسطورتها و ليس أدل من ذلك استخدام الطين لتدوين روائع الاعمال لحضارة وادي الرافدين و التي ظلت منارا ينير الدرب لحضارات العالم كافة و أننا وريثي هذه الحضارة الرائعة العريقة .. اذ أن الجمال يشرق في النفس كشعاع ضوء بين الآكام.
د.غالب المسعودي
طبيب أسنان اختصاصي بجراحة الوجه و الفكين
عضو نقابة الفنانين
عضو جمعية التشكيليين العراقيين
مشارك في جميع المعارض الوطنية منذ عام 1999
أقام ثلاثة معارض شخصية خلال الفترة المنصرمة
أصدر مجموعتين شعريتين
ترجمت مختارات من أعماله الشعرية الى اللغة الانكليزية قام بترجمتها الشاعر حامد الشمري
له كتابات تنظيرية في مجال الفن التشكيلي منشورة في الصحافة العراقية
معرض مشترك في قاعة أفـق - آيار 2003بغداد .
معرض مشترك في جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين - تموز2004سوريا.
معرض الحرية الاول نقابة الفنانين - بابل 2003
معرض في ذكرى شهداء الحركة الوطنية العراقية 2004- نقابة فناني بابل .
معرض الربيع الاول 2004 نقابة الفنانين - بابل .
معرض مهرجان متحف الشارقه الاول2005
الأحد، 3 يوليو 2011
التغيير بلا وصاية-د. جابر حبيب جابر
التغيير بلا وصاية
د. جابر حبيب جابر
"
لثماني سنوات كان العراق يتصدر أجندات الأخبار العربية، ويخضع لتغطية مكثفة ومتابعات متواصلة بحيث بات الشأن العراقي، كما كان الشأن الفلسطيني واللبناني قبله، موضوعا يجذب الكثيرين للكتابة فيه والتعليق عليه بل والمضي لتقديم النصائح بشأنه حتى من قبل أشخاص لم تطأ أقدامهم أرضه يوما وربما لم يقرأوا كتابا واحدا عنه. يدخل ذلك في إطار ما يمكن تسميته بلعنة المناطق الرخوة، حيث يؤدي غياب نظام سياسي قوي وقادر على الدخول في منظومة التسويات الإقليمية إلى تحوله إلى مجال للصراع وبالتالي ساحة مفتوحة للنقد وللتنظير وربما للشماتة. من المؤسف أن قليلين حاولوا النظر بتمعن وحيادية للتجربة العراقية ولإشكاليات الوضع العراقي، لربما كان ذلك قد وفر مشقة تكرار الكثير من المشاهد والأحداث التي نشهدها الآن في دول عربية أخرى.
لقد كانت ميزة الوضع العراقي أنه البلد العربي الوحيد الذي جرت فيه عملية إسقاط النظام لأول مرة في التاريخ العربي على مرأى من كاميرات التلفزيون التي نقلت الحدث بشكل مباشر، وربما كانت هنالك مرارة كبيرة في أن التغيير قد جرى على يد قوات احتلال أجنبية، لكن من اللافت اليوم أننا بتنا نرى بعض ممن انتقد ما سماه بالاستعانة بالأجنبي وبالتعاطي مع نتائج الاحتلال يفعل الشيء نفسه، كما نرى مع بعض الإخوة الليبيين اليوم الذين لا يرون غضاضة من الاحتماء بطائرات الناتو للتخلص من الديكتاتورية المقيتة، وفي كل بلد عربي حصلت به احتجاجات سمعنا «المحتجين» يستصرخون «المجتمع الدولي» للتدخل أو لسحب شرعية النظام القائم. والكل يعرف جيدا أن المقصود من عبارة «المجتمع الدولي» هي الولايات المتحدة وأوروبا بشكل خاص. ليس ذلك دفاعا عن التدخل العسكري الذي حصل في العراق والذي يستحق النقد الكثير (لا سيما عندما اختار أن يتحول إلى «احتلال» وعندما لم تظلله شرعية دولية كافية) ولكنه محاولة لرصد كيف تتغير المواقف من الضد إلى الضد عندما يتعلق الأمر «بنا» لا «بغيرنا».
ظلت المروية السائدة في الإعلام العربي عن العراق أن كل شيء يجري على نحو سيئ وأن هنالك حربا مستمرة بين الاحتلال والمقاومة، بين السنة والشيعة، بين العرب والأكراد والتركمان، وصل الأمر لدى البعض أنه استسهل تقديم الديكتاتور السابق بوصفه شهيدا وبطلا اغتيل بمحاكمة «غير عادلة» وهو الذي لم يعط أيا من ضحاياه، بمن في ذلك أصدقاؤه وأقاربه الذين غضب عليهم، فرصة المحاكمة أو الدفاع عن الذات.
لقد كان العراق موضوعا شيقا للبعض في منطقة عرفت بركود مياهها، فكل شيء في الشرق الأوسط كان يوحي بالجمود. القادة هم أنفسهم لم يتغيروا منذ عشرات السنين، السياسات هي نفسها، والأنظمة لا يطال التغيير فيها أحيانا حتى الوزراء الذين يبقى بعضهم دهرا طويلا في منصبه. أما في العراق فقد تغير كل شيء فجأة، وكان على الإعلام أن يخلق روايته عن التغيير، ولأن «التغيير» ليس أمرا محمودا في منطقتنا، كان لا بد وأن يتم تصوير ما يحصل في العراق على أنه سيئ بكل جوانبه وأسوأ من الماضي. كثير من العراقيين يصعقون بالسؤال المجازي الذي يواجههم في بلدان عربية: ألم يكن صدام أفضل لكم. هكذا ببساطة تم وضع العراقيين بين خيارين، إما صدام أو الفوضى، هكذا تم إقناع المشاهدين والمستمعين الذين تحول بعضهم اليوم إلى ثوار ومنتفضين بأن العراقيين لا يستحقون خيارا ثالثا. ترى ماذا سيكون ردهم إن ذهب عراقيا نحوهم وقال لهم ديكتاتوركم الحالي أو السابق أفضل لكم؟؟
لا أحد يمكنه الادعاء بأن ما شهده العراق لم يكن كارثيا، كان كذلك ومنذ زمن طويل، الكارثة الكبرى التي حلت بالعراق بدأت منذ أن أصبحت السلطة بيد القتلة، والكارثة الأكبر منها بدأت حينما صار بعض «المثقفين» ينظرون إلى هؤلاء القتلة بوصفهم زعماء وطنيين. ألا نتذكر كم كتابا عربيا وضع تمجيدا بصدام، وبعض الكتاب هم معارضون للديكتاتوريات في بلدانهم؟!. مسلسل الكوارث استمر منذ ذلك الوقت ولم يكن وليد 2003، وكان بإمكاننا جميعا أن نستفيد من دروس تلك الكوارث ومن الإخفاقات الكبيرة التي واجهها مشروع بناء الدولة في العراق بعد نهاية الديكتاتورية، لكن للأسف، لم نشهد سوى القليل جدا من النقاش العقلاني والكثير جدا من الصراخ واللامعنى.
العراق اليوم ليس الخبر الأول، فالمنطقة كلها تغلي، ومشاهد 2003 طغت عليها اليوم مشاهد المنتفضين في تونس واحتجاجات ساحة التحرير القاهرية والانتفاضة اليمنية والحرب الليبية والحراك الشعبي السوري، بات على الجميع أن يرى على الأرض وأمام منزله ما الذي يعنيه تغيير النظام في منطقتنا وكم هو مكلف ومربك ومعقد تأسيس نظام جديد بعد عصر الدول البوليسية وحكم أجهزة الأمن. كثيرون بدأوا مراجعة قواميسهم السابقة وتفصيلها على قياس التحدي الجديد، ولم يعد سهلا قط إطلاق الأحكام والتعبير عن بعد وعبر الأقمار الاصطناعية عن «الرفض والشجب والتنديد».
كما قلت في مقالة سابقة إننا اليوم في الزمن الرمادي، ليس هنالك معيار جاهز للصواب والخطأ، وخارطة طريق واحدة للتغيير، ورواية واحدة لطبيعته، المعيار الوحيد الذي يستحق أخذه بالاعتبار هو الوقوف إلى جانب الشعوب الثائرة، أيا كان البلد الذي تنطلق منه وبغض النظر عن المآل الذي ستنتهي إليه. فليس أسوأ في منطقتنا من ذلك الجمود الذي أطبق على كل شيء لزمن طويل. لا أحد يتوقع فردوسا بعد التغيير، تلك أهم خلاصات التجربة العراقية، سيكون مخاضا طويلا وعسيرا وربما مؤلما ومكلفا جدا، وقد تحصل ارتدادات وينشأ تذمر ويظهر أناس يعلنون حنينهم للزمن السابق، فهنالك ضغوط تجعل الإنسان يفقد ذاكرته البعيدة ويصبح موقفه وحديثه شرطا انعكاسيا للحظته الراهنة.
ولكن من يدعي التجانس مع نفسه، ويزعم رفضه للانتقائية، لا بد وأن يقبل بحق كل شعب في انتزاع حريته من دون ممارسة أي وصاية، لا سيما من أولئك الذين لا يعرفون عن ما يحصل سوى ما يرونه عبر شاشات التلفزيون، فهذه الأخيرة ليست بحاملة اليقين. ما نحتاج إليه في هذه اللحظة أن نفهم ما يحصل برؤية موضوعية وعقلانية تشخص المشكلات القائمة والتحديات القادمة والاستعداد لزمن حافل بالتغيير ومتحرر من جمود الماضي، وقبل كل شيء أن نترك للشعوب نفسها رواية قصتها ففي الكثير من الأحيان هي أرشد ممن يدعون إرشادها.
حكايات ولدي الشاطر-عادل كامل
حكايات ولدي الشاطر
عادل كامل
إشارة
في العام 2005، وأنا أراجع بعض النصوص التي كتبتها، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إلى ( الأطفال) وجدت هذا النص المنشور في عدد من المجلات، ومنها مجلتي والمزمار الصادرة عن دار ثقافة الأطفال ببغداد، النص الذي كتب في سياق رصد العلاقة بين عالم ( الكبار) والعالم الذي مازال يتشكل بدوافع الحلم ومساحات الخيال المتحركة .. وجدت ، باستثناء الحكاية الأخيرة، التي كتبت بعد تحول ( الولد الشاطر) إلى عالم الكبارــ أي بعد عشرين سنة ــ إن أسئلة البراءة لا تمتلك ديناميتها وصدقها، أو دهشتها فحسب، وإنما جمالياتها في الارتقاء بوظائف الموجودات في وجودنا .. فهل استطعت، بصفتي أشتغل في حقل الفنون الجميلة، والكتابة الأدبية والنقدية، أن أعالج تلك الفجوة بين أسئلة ( البراءة) وما بعدها.. الفجوة التي انجذبت إليها،لا لاستعادتها، أو تأملها فقط ، وإنما لإقامة فيها : فكم ( نحن ــ أنا ) بحاجة إلى البراءة كي تبقى أحلامنا تمتلك طراوتها، ونبضها الذي لا يتعرض للإرباك أو التوقف. !
[1]
غناء
كان ينظر إلى الغيوم البيض، عندما سألني :
ـ سأغني .. بابا .. أتسمح لي بذلك ؟
سألته :
ـ لمنْ تُغني ؟
ـ لتلك الغيمة البيضاء ..
ـ لماذا ؟
أجاب بهدوء :
ـ في كل يوم ٍ، عندما تمر ٌ، تغني لي ..!
[2]
نزهة
ـ " هيا " وقال ولدي :
ـ " نذهب إلى النهر "
فذهبنا معا ً. وجلسنا نتأمل الأمواج، وأشعة الشمس الذهبية.. أنا كنت اصطاد وهو ينظر إلى ماء النهر الجاري .. سألني :
ـ ماذا تفعل ؟
ـ أصطاد .
فقال بحزن :
ـ لا .. لا يا والدي .. دع أصدقائي يتنزهون في النهر !
[3]
صداقة
كان يسقي شجرة صغيرة، خضراء، ويحدق فيها بحنان. سألته :
ـ لماذا تفعل ذلك ؟
ـ أريدها أن تكبر، لتصبح صديقتي !
[4]
برد .. وجليد
لماذا يلوثون البرد ؟ تساءل ولدي، وهو يستمع إلى أخبار اعتداء جديد على أرضنا. لكني قلت له :
ـ إلا ترى ان الجليد يغطي ارض قريتنا ؟
ـ نعم .. ماذا تقصد ؟
ـ ان الجليد يحمي أرضنا من قذائف الأعداء .
لكنه تساءل، مرة ثانية :
ـ لماذا يلوثون الجليد ؟
[5]
حب
كان ينظر إلى السماء الملبدة بالغيوم عندما سألته :
ـ أي شيء تحب : السماء أم الغيوم ؟
أجاب حالا ً :
ـ الغيوم !
ـ لماذا ؟
ـ لأنها تأتي بالمطر !
[6]
ضجر
كنا نتنزهة بمحاذاة النهر، عندما قفز إلى الماء، واختفى تحت الأمواج الزرق.. ثم عاد إلي ّ ومعه سمكة جميلة:
ـ أين كنت ؟
ـ في النهر!
ـ وماذا كنت تنفعل ؟
ـ ضجرت !
ـ وهذه السمكة ؟
ـ ضجرت من النهر !
ـ والآن ؟
في تلك اللحظة رأيته يودع سمكته وهو يحدثها :
ـ عودي إلى وطنك .. فكل منا له وطنه الجميل !
[7 ]
نجوم حزينة
كان ينظر إلى النجوم المتناثرة في سماء الشتاء، عندما سألني :
ـ بابا ..أرى النجوم حزينة ..!
ـ كيف عرفت ذلك ؟
ـ إنها متناثرة مثل جثث قتلى في ميدان الحرب ..!
قلت له :
ـ لكنها تضيء السماء .. والأرض ..؟
قال : من شدة حزنها تفعل ذلك ..!
[8]
مستقبل
بعد ان عدت متعبا ً من العمل، إلى البيت، كنت أحوّم فوق فضاء القرية حالما ً بغفوة بين بشاتين الخيل .. لكن ولدي جعلني أفيق.. حدقت فيه طويلا ً .. ثم سألته :
ـ عندما تكبر.. هل ستصبح طيارا ً ..؟
أجاب :
ـ كلا.
ـ هل تصبح بحارا ً ..؟
ـ كلا ً .
ـ ستكون مقاتلا.. ؟
ـ كلا .. كلا .. كلا .
فسألته وأنا مازلت في الحلم :
ـ ماذا ستصبح إذا ً ؟
ـ شمسا ً تنير السماء والبحر والأرض !
[9]
غناء
ـ يا والدي .. ماذا تفعل عندما تتعب ؟
ـ أرقد .
بعد صمت قصير سألته :
ـ وأنت ماذا تفعل ؟
ـ قبل ان اتعب .. أغني للشهداء !
[10]
سعادة
صحت مندهشا، وأنا انظر سعيدا ً إلى أشعة الشمس.. قائلا لولدي :
ـ الآن .. سأكتب قصيدة جميلة..
ـ لماذا ؟
ـ لأنني لم أرْ، منذ زمان، أشعة الشمس الذهبية تملأ القلب نشوة سعيدة ..
فأجابني بهدوء:
ـ لكني يوميا ً أراها !
[11]
أزهار
سألني وأنا اذهب إلى الحرب :
ـ عندما تذهب إلى الحرب.. لماذا لا تأخذني معك ..؟
قلت له :
ـ ومن يحرس الحديقة ؟
ـ الأزهار تجيد الدفاع عن نفسها !
[12]
حلم
جلست وحيدا ً أحدق في محيا ولدي ..عندما سألته :
ـ إذا كبرت .. هل ستذهب إلى المدينة ؟
أجاب حالا ً:
ـ كلا .
ـ لماذا ؟
ـ لأن قريتنا ستصبح مدينة كبيرة !
[13]
كوكب آخر
فجأة وجدت نفسي في كوكب آخر.. وعلى نحو غامض شاهدت ولدي يلهو بالذرات الترابية الفضية ويتحدث معها :
ـ ماذا تفعل هنا ؟
سألته .. ثم سالت نفسي : ماذا يفعل هذا الولد الشاطر في هذا الكوكب البعيد ؟
قال :
ـ أبتاه .. لماذا جئت ؟
لم اجب. وعندما استيقظت لحظتها رأيت ولدي ينظر إلى الكواكب البعيدة..
ـ أرجوك .. ماذا تفعل في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟
ـ أحلم !
ـ غريب .. ماذا تقول ..؟
ـ أحلم .
ثم عدت إلى النوم، بعد ان اختفى.. ومرة ثانية كنت في كوكب آخر.
[14]
موقد
سألني ولدي، والشتاء شديد البرودة:
ـ لماذا لا تبتسم ؟
فسألته :
ـ لماذا لا تروي لي طرفة..
قال :
ـ بابا أنت رجل حزين ..!
ـ كلا .. من قال ذلك ؟
ـ لأنك إذا فرحت تموت !
آنذاك نهضت ووضعت حطبا ً في الموقد .. ورحت اتامل اللهب المتصاعد من خشب البلوط .. وفي تلك اللحظة ذاتها فكرت ان احمي ولدي من الجنون.
[15]
الحديقة
سألني: لماذا لا نزرع النباتات المفيدة في بيتنا ؟
قلت : هذا جيد .
قال : لماذا لا نزرع الحديقة إذا ً ..؟
قلت : عندما تكون لنا حديقة في بيتنا يا ولدي الشاطر .
فقال حالا ً :
ـ أليس العراق هو هذا البيت ؟
[16]
بلبل
فتح ولدي باب القفص، واخرج البلبل منه.. لكن الطائر الذي حوّم قليلا ً، عاد إلى القفص حالاً.. وهكذا .. كان يعود البلبل إلى قفصه، في كل مرة.. أغلقت باب القفص .. نظر ولدي إلي ّ قائلا ً:
ـ لماذا فعلت ذلك يا ولدي ؟!
آنذاك نهضت وحطمت القفص !
[17]
عيد ميلاد
في عيد ميلاده الأخير، أوقدت الشموع الخمس له.. تساءل :
ـ لماذا تفعلون ذلك لي ؟
ـ لأنك كبرْت عاما ٍ.. أيها الولد الشاطر ..
بكى ..
ـ لماذا تبكي ..؟
أجاب :
ـ بل أنا أسالكم : من قال أني أريد ان أصير مثلكم ؟!
[18]
بلا عنوان !
سألني : أتستطيع ان تمشي فوق الماء؟
قلت : أستطيع ان امشي فوق النار !
قال: لا .. يا بابا ..
قلت : لماذا ؟
قال: عليك ان تعود إلى النوم ..
قلت: ماذا تقصد ؟
قال: من لا يمشي فوق الماء لا يمشي فوق النار !
[19]
فقدان
سالت ولدي وهو يقلبُ الدفتر الذي الصق فيه مجموعة من أوراق الأشجار :
ـ ستحتفظ بها مدة طويلة .. أليس كذلك ؟
صمت وقال فجأة :
ـ لكنها فقدت سعادتها الخضراء !
[20]
لا تفعل ذلك
سأل ولدي الوردة البيضاء التي قطفها من الحقل:
ـ لِمَ أنتِ حزينة ؟
ـ لست حزينة.
ـ لكنك ذابلة ؟
ـ نعم ْ.
ـ ماذا افعل لك ِ حتى تعودي إلى سعادتك ؟
ـ أن ْ لا تقطف شقيقاتي من الحقل !
[21]
أحلام
وسألني ذات مرة: لماذا لا تموت؟
لم اجب .. وكدت أغادر البيت .. إلا أني سألته، بعد أن هدأ غضبي الداخلي:
ـ لماذا ؟
قال : أود أن تروي لي ماذا يحدث هناك ؟
صحت حالا ٍ: يا ولد .. لقد كبرت !
قال حالا ً: لا .. يا بابا .. هذه هي أحلامي..وأنا أود أن اعرف أحلامك ؟
[22]
أزهار الحديقة
سألني وأنا أحدق في أزهار الحديقة:
ـ لماذا تنظر إليها هكذا ؟
قلت: لأن الأزهار تحب الصمت.
قال حالا ً: لا .. بابا.. لأنها تتكلم بصوت هاديء..!
[23]
حلم
رسم ولدي ذئبا وحملا ً وأسدا ً وشاة ونمرا ً وأرنب إلى جانبها دب ابيض وغزال وطيور مختلفة ..
فسألته :
ـ ماذا ترسم ؟
ـ أرسم حلما ً رايته ليلة أمس .
صمت قليلا ً ثم سألني :
ـ لكنني عندما ذهبت إلى حديقة الحيوانات رأيت الجميع داخل الأقفاص .. لماذا ؟
ـ حتى لا يفترس احدها الآخر .
فأجاب مدهوشا ً:
ـ لكنها حيوانات لطيفة..أنظر إليها، إنها تغني أغنية جميلة!
[24]
الصديق
زارني أصدقاء قدماء، ومعارف..مساء احد الأيام . وكانوا يتحدثون عن أشياء كثيرة فيما كنت اعتكف منزويا مع نفسي.. في تلك اللحظات قفز ولدي نحوي هامسا ً:
ـ لقد مر من أمام البيت .. ولم يدخل .
ـ من ؟
قال وهو يحدق في ّ:
ـ الم ْ تره ؟ قلت لك من ؟ قال:
ـ انظر .. انهض .. إلا تراه .. انه ..
نهضت ..ونظرت : كان احد أصدقائي الشهداء..آنذاك غادرت البيت تاركا الأصدقاء والمعارف يشاهدون فلما ً حربيا ً.
[25]
نوافذ
رغم أني كنت مرهقاً، فلم أرقد حتى الصباح. كان ولدي يعيد قراءة دروسه.. ويعيد كتابة واجباته .. وفي الفجر سألني :
ـ مع من كنت تتحدث ؟
ـ معهم.
وساد الصمت بيننا فترة أخرى من الزمن، لكني سألته :
ـ لماذا كنت تفتح النوافذ .. والدنيا برد ؟
ـ كي يدخل أصدقاؤك الشهداء، الذين كنت تتحدث معهم، طوال الليل .
[26]
عناق
بعد أن عدت من الحرب..مؤخرا ً .. استقبلني ولدي مبتهجا ً.. وعانقني .. وبعد الاستراحة سألني، وهو ينظر إلى قرص الشمس الذهبي :
ـ بابا .. هل تضيء أشعة الشمس ارض الأعداء..؟
قلت له :
ـ نعم .
فقال بصوت حزين :
ـ لماذا إذ تتقاتلون..؟!
[27]
استمتاع
قال ذات مرة :
ـ تعال نذهب إلى الشمس ..
ـ إنها بعيدة ..
وقلت له :
ـ هيا ادخل إلى البيت ..الهواء شديد البرودة ..
فقال:
ـ بابا .. دعني استقبل أشعة الشمس ..فإن كنا لا نستطيع الذهاب إليها فلماذا لا نستقبلها في بيتنا ؟!
[28]
خجل
في طريقي، مع ولدي إلى المدرسة، طلبت منه أن يغني .. فقال:
ـ الشارع يخجل مني.. !
[29]
حزن
قال : يقولون انك رجل حزين !
قلت : نعم .
فقال ضاحكاً: لكنك تعلمني الفرح يوميا ً..
قلن : ذاك هو سر حزني !!
[30]
أشجار
في ليلة باردة جداً، كنت أتأمل النار، وذلك اللهب المتصاعد منها عندما دخل ولدي وجلس بالقرب مني. كنت احسب ان ولدي الشاطر سيتأمل ، مثلي، جمرات النار، والصوت المنبعث من احتراق الخشب.. وما يوحي به الشتاء من أسرار لذيذة.. إلا انه سألني فجأة :
ـ بابا .. لماذا نحرق الأشجار المسكينة.. ؟
ـ لأن الدنيا باردة جدا ً .
فقال بصوت عال ٍ:
ـ لا ..بل لأن الأشجار لا تستطيع الهرب !
[31]
بكاء
بعد ان زار حديقة الحيوانات، مع طلبة صفه، وعاد إلى المنزل، سألني:
ـ هل تتكلم الحيوانات ؟
ـ لا ..
فقال :
ـ بل كانت تتكلم .. وكنت أتكلم معها ..
ـ ماذا كانت تقول ..؟
ـ كانت تبكي بصمت عميق !
[32]
أصدقائي
ذات مرة ذهبنا إلى الصيد .. في الصحراء .ز معا ً.. لكنه كان، كلما اكتشفت صيداً، يمنعني من إطلاق النار،أو يشوش الهدف علي ّ.
صحت به :
ـ ماذا تفعل ؟
حدق في ّ، قائلاًن بحزن:
ـ هؤلاء هم أصدقائي.. لماذا تطلق النار عليهم .. يا والدي الطيب ؟
[33]
وصية
ذات مرة مرضت، وشعرت باني سأموت في اليوم القادم.. فقلت له :
ـ يا ولدي اعتن بالحديقة .. والطيور.. وبقطتنا الجميلة.. وبالكلب الرائع .. و.. و..
ـ نعم .. سأفعل ذلك .. لكنني سأعتني بالكتب التي جمعتها لنا..
ثم رفع صوته :
ـ علي ّ ان اعتني بك أولا ً .. يا والدي العزيز !
[34]
أحلام
سألته عن آخر حلم مازال يتذكره .. قال :
ـ إنها كثيرة .
ـ وأخرها ..؟
ـ ذهبت إلى قاع البحر .. فجر احد الأيام الجميلة. كنت أتجول بين الأعشاب والمحار.. فجأة سمعت سمكة ذهبية تقول لي : أيها الولد الشاطر لماذا لا تبقى معي في البحر .. فأنت ولد لطيف ؟
أجبتها : أقترح عليك ان تعيشي معي في الغابة .. حيث الأزهار الملونة تملأ الأرض .. فقالت بحزن : لا أستطيع ان أغادر البحر . قلت : وأنا لا أستطيع ان أعيش تحت الماء! قالت السمكة الذهبية : لكن حاول ان تتذكر صداقتي لك . قلت لها : في الأحلام !
[35]
ذنوب
ذات مرة طلب مني ان نذهب إلى النهر للاستحمام .. فذهبنا .. وأمام الأمواج الفضية سألني :
ـ هل تستطيع ان تمشي فوق الماء ؟
قلت :
ـ لا ..لا أستطيع ان امشي فوق الماء ..!
فقال وهو يحدق في وجهي :
ـ ما أثقل ذنوبك يا بابا ..!!
[36]
رجاء
ذات مرة طلب ولدي مني :
ـ أرجوك ألاّ تكبر.. ألاّ تصبح مثل جدي العجوز ..!
ـ ولكني .. لماذا ؟
ـ كي أبقى، أنا، في هذا العمر !
[37]
قمر
سألني : لماذا لا تحب القمر ؟
قلت : ومن قال أني لا أحبه ؟
قال: لكنه لا يأتي ويجلس معنا في الحديقة !
[38]
ليل
قال لي : الشمس تنام في الليل ..
قلت له : إنها تنام في الليل ؟؟
فقال : لا .. نحن الذين ننام في الليل ..!
[39]
اسماك
وطلب مني ذات مرة :
ـ أريد أن تأتي لي بحوت !
ـ انه كبير جدا ً .
ـ ويسكن البحر .
ـ أجل !
لكنه سألني :
ـ حسنا ً .. لماذا تأتي لنا بالأسماك الصغيرة فقط ؟!
[40]
حوار
ـ لماذا يموت الإنسان ؟
قلت له : لأنه تعِب من الحياة .
قال : لا .. لأنه يريد أن يحلم !
[41]
عذاب
سألني وهو يحدق في الجمر :
ـ هل تتعذب النار عندما تتوهج ؟
ـ لا أعرف .. ولكن لماذا هذا السؤال؟
فكر بعض الوقت ثم قال :
ـ أنا أفكر في الأشجار التي قطعـت..!
[42]
طيور
بعد أن أكملت رسم لوحة جديدة فيها مجموعة من الطيور .. سألني :
ـ لماذا رسمت هذه الطيور داخل هذه اللوحة؟
قلت : لنتأملها..
فقال حالا ً: لا .. بابا ... دعها تعود إلى الغابة !
[43]
غناء
ونحن نتجول بمحاذاة النهر، سألني :
ـ بابا .. ما الذي تسمعه ؟
نظرت في محياه قائلا ً:
ـ اسمع الريح تداعب الأمواج .
فقال :
ـ لا أقصد هذا .. أقصد ماذا تسمع ؟
لم اجب .. فقال :
ـ أنا أسمع الأسماك تغني .. وهي تهرب كلما رأتنا نقترب من النهر !
[44]
صراخ
قال لي : عندما تتكلم يا بابا لا تصرخ ..!
ـ ومتى تكلمت .. ؟
ـ أمس .. وأنت تحلم !
[45]
لماذا؟
سألني : لماذا يذهبون إلى الكواكب البعيدة ..؟
قلت : لدراسة العالم البعيد .
فقال معترضا ً:
ـ لا .. إنهم هاربون من دراسة أرضنا..!
[46]
صوت
ـ بابا لماذا تنظر إلى الصخور كثيرا ً ؟
ـ أصغي لصوتها.
ـ وهل تتكلم الصخور ..؟
ـ نعم .. لكنها لا تؤذي أحدا ً!
[47]
واأسفاه
ذات مرة رفض أن ينام، وذهب إلى الحديقة. فسألته :
ـ ماذا تفعل في هذا الليل ؟
قال بهدوء:
ـ أتعلم من أحلام أشجارنا النائمة..!
سألته:
ـ وهل تحلم الأشجار ؟
قال حالاً:
ـ واأسفاه ..يا والدي .. لقد كبرت مبكراً !
[48]
أسئلة
عندما بلغ ولدي السابعة من عمره، لم يعد يوجه الأسئلة لي .. فسألته:
ـ لماذا لم تعد تسألني ؟
قال:
ـ ألان ..يا بابا.. أفكرّ في الإجابات !
[49]
استمتاع
ذات مرة رآني، على غير عهده بي، مسرورا ً جدا ً، فسألني ك
ـ أراك سعيدا ً جدا ً يا بابا ؟
ـ إنني ..الآن.. تعلمت لغة الغيوم ..!
فقال بأسف :
ـ لكنني يوميا ً استمتع بنشيدها !
[50]
[ بعد عشرين سنة ]
بعد انتصاف الليل، وأنا استعد للنوم، رأيت ولدي يقف أمام النافذة، يتأمل النجوم في السماء .. سألته :
ـ ماذا تفعل .. وماذا اكتشفت ؟
أجاب، وهو مازال يحدق في الفضاء:
ـ أتذكر انك حدثتني، ذات يوم، عن جسيمات الضوء.. وكيف.. كلما اتسعت المسافات، بينها، تبقى الجسيمات تبحث عن ظلام تبدده .. حتى لم اعد أر ظلاما ً في هذه المساحات الشاسعة ..
ـ وآلان ..؟
ـ ها أنا بدأت أرى حبيبات الزمن..أمامي..
تساءلت مندهشاً :
ـ ماذا ؟
أجاب بصوت خفيض:
ـ الزمن، كالضوء، كلاهما يخفي أسراره ولا يعلن عنها. إنهما ،معا ً، إن مرا ولم نمسك بهما، كأننا كنا بلا وجود !
كأنني كنت لا امتلك إجابة، ولا أسئلة.. وأنا أعيد تحليل عبارته.. ولكنه قال لي بهدوء:
ـ مازلت اكرر كلمتك القديمة: ليس السر هو الذي نجهل ما فيه.. وإنما ـ هو ـ الذي يبقى يجذبنا إليه ..!!
آنذاك كنت اكرر في نفسي : لا اعرف من يدوّن كلمات الآخر. لكنه قال، وكأنه سمعني:
ـ كلانا، يا والدي العزيز، نصنع الكلام، لكي يتكامل حضورنا.. فالكلام، مثل الضوء والزمن: حلقات تتجانس فيها الإقامة : انه عمرنا الجميل!
بغداد ـ الغزالية
1980ــ 2005
[1]
أحلام
كنا نتجول في الغابة، المجاورة لقريتنا، وكان ولدي يغني بصوت خفيض، عندما سألته :
ــ لم أسمعك تغني قبل هذا اليوم ؟
فقال مبتسما ً:
ــ تعلمت ذلك من الأشجار وليس من البلابل !
قلت بتعجب :
ــ ماذا تقول ؟
ــ لقد تعلمت الغناء من الإصغاء إلى أحلام الأشجار النائمة!
[2]
حوار
وأنا أحدثه عن كوكب بعيد تم اكتشافه مؤخرا ً، سألني :
ــ هل توجد في هذا الكوكب الجديد ، كما في الأرض، غابات، وبحارا، وبشرا ؟
ــ لا أحد يعرف .
فسألني :
ــ لماذا لا نذهب إليه ونعرف الحقيقة ؟
قلت :
ــ هو الذي سيأتي إلينا..!
فقال :
ــ لا اعتقد أن هذا هو السبب.. بل لأنك قلت لي : ألا تكفينا غابات وبحار الأرض..!
[3]
مشاركة
قبل أن يذهب إلى النوم، رآني ارسم مجموعة من الطيور .. فطلب مني أن لا أطفأ المصباح، فقلت له ــ لماذا؟
قال :
ــ كي تراني الطيور وتشاركني أحلامي ..!
[4]
هل يتكلم الماء؟
ــ هل يتكلم الماء ؟
سألني ولدي وهو يداعب أمواج النهر.. فقلت :
ــ لا .
فقال :
ــ بل يتكلم عندما يجد من يصغي إليه ..!
عادل كامل
إشارة
في العام 2005، وأنا أراجع بعض النصوص التي كتبتها، في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، إلى ( الأطفال) وجدت هذا النص المنشور في عدد من المجلات، ومنها مجلتي والمزمار الصادرة عن دار ثقافة الأطفال ببغداد، النص الذي كتب في سياق رصد العلاقة بين عالم ( الكبار) والعالم الذي مازال يتشكل بدوافع الحلم ومساحات الخيال المتحركة .. وجدت ، باستثناء الحكاية الأخيرة، التي كتبت بعد تحول ( الولد الشاطر) إلى عالم الكبارــ أي بعد عشرين سنة ــ إن أسئلة البراءة لا تمتلك ديناميتها وصدقها، أو دهشتها فحسب، وإنما جمالياتها في الارتقاء بوظائف الموجودات في وجودنا .. فهل استطعت، بصفتي أشتغل في حقل الفنون الجميلة، والكتابة الأدبية والنقدية، أن أعالج تلك الفجوة بين أسئلة ( البراءة) وما بعدها.. الفجوة التي انجذبت إليها،لا لاستعادتها، أو تأملها فقط ، وإنما لإقامة فيها : فكم ( نحن ــ أنا ) بحاجة إلى البراءة كي تبقى أحلامنا تمتلك طراوتها، ونبضها الذي لا يتعرض للإرباك أو التوقف. !
[1]
غناء
كان ينظر إلى الغيوم البيض، عندما سألني :
ـ سأغني .. بابا .. أتسمح لي بذلك ؟
سألته :
ـ لمنْ تُغني ؟
ـ لتلك الغيمة البيضاء ..
ـ لماذا ؟
أجاب بهدوء :
ـ في كل يوم ٍ، عندما تمر ٌ، تغني لي ..!
[2]
نزهة
ـ " هيا " وقال ولدي :
ـ " نذهب إلى النهر "
فذهبنا معا ً. وجلسنا نتأمل الأمواج، وأشعة الشمس الذهبية.. أنا كنت اصطاد وهو ينظر إلى ماء النهر الجاري .. سألني :
ـ ماذا تفعل ؟
ـ أصطاد .
فقال بحزن :
ـ لا .. لا يا والدي .. دع أصدقائي يتنزهون في النهر !
[3]
صداقة
كان يسقي شجرة صغيرة، خضراء، ويحدق فيها بحنان. سألته :
ـ لماذا تفعل ذلك ؟
ـ أريدها أن تكبر، لتصبح صديقتي !
[4]
برد .. وجليد
لماذا يلوثون البرد ؟ تساءل ولدي، وهو يستمع إلى أخبار اعتداء جديد على أرضنا. لكني قلت له :
ـ إلا ترى ان الجليد يغطي ارض قريتنا ؟
ـ نعم .. ماذا تقصد ؟
ـ ان الجليد يحمي أرضنا من قذائف الأعداء .
لكنه تساءل، مرة ثانية :
ـ لماذا يلوثون الجليد ؟
[5]
حب
كان ينظر إلى السماء الملبدة بالغيوم عندما سألته :
ـ أي شيء تحب : السماء أم الغيوم ؟
أجاب حالا ً :
ـ الغيوم !
ـ لماذا ؟
ـ لأنها تأتي بالمطر !
[6]
ضجر
كنا نتنزهة بمحاذاة النهر، عندما قفز إلى الماء، واختفى تحت الأمواج الزرق.. ثم عاد إلي ّ ومعه سمكة جميلة:
ـ أين كنت ؟
ـ في النهر!
ـ وماذا كنت تنفعل ؟
ـ ضجرت !
ـ وهذه السمكة ؟
ـ ضجرت من النهر !
ـ والآن ؟
في تلك اللحظة رأيته يودع سمكته وهو يحدثها :
ـ عودي إلى وطنك .. فكل منا له وطنه الجميل !
[7 ]
نجوم حزينة
كان ينظر إلى النجوم المتناثرة في سماء الشتاء، عندما سألني :
ـ بابا ..أرى النجوم حزينة ..!
ـ كيف عرفت ذلك ؟
ـ إنها متناثرة مثل جثث قتلى في ميدان الحرب ..!
قلت له :
ـ لكنها تضيء السماء .. والأرض ..؟
قال : من شدة حزنها تفعل ذلك ..!
[8]
مستقبل
بعد ان عدت متعبا ً من العمل، إلى البيت، كنت أحوّم فوق فضاء القرية حالما ً بغفوة بين بشاتين الخيل .. لكن ولدي جعلني أفيق.. حدقت فيه طويلا ً .. ثم سألته :
ـ عندما تكبر.. هل ستصبح طيارا ً ..؟
أجاب :
ـ كلا.
ـ هل تصبح بحارا ً ..؟
ـ كلا ً .
ـ ستكون مقاتلا.. ؟
ـ كلا .. كلا .. كلا .
فسألته وأنا مازلت في الحلم :
ـ ماذا ستصبح إذا ً ؟
ـ شمسا ً تنير السماء والبحر والأرض !
[9]
غناء
ـ يا والدي .. ماذا تفعل عندما تتعب ؟
ـ أرقد .
بعد صمت قصير سألته :
ـ وأنت ماذا تفعل ؟
ـ قبل ان اتعب .. أغني للشهداء !
[10]
سعادة
صحت مندهشا، وأنا انظر سعيدا ً إلى أشعة الشمس.. قائلا لولدي :
ـ الآن .. سأكتب قصيدة جميلة..
ـ لماذا ؟
ـ لأنني لم أرْ، منذ زمان، أشعة الشمس الذهبية تملأ القلب نشوة سعيدة ..
فأجابني بهدوء:
ـ لكني يوميا ً أراها !
[11]
أزهار
سألني وأنا اذهب إلى الحرب :
ـ عندما تذهب إلى الحرب.. لماذا لا تأخذني معك ..؟
قلت له :
ـ ومن يحرس الحديقة ؟
ـ الأزهار تجيد الدفاع عن نفسها !
[12]
حلم
جلست وحيدا ً أحدق في محيا ولدي ..عندما سألته :
ـ إذا كبرت .. هل ستذهب إلى المدينة ؟
أجاب حالا ً:
ـ كلا .
ـ لماذا ؟
ـ لأن قريتنا ستصبح مدينة كبيرة !
[13]
كوكب آخر
فجأة وجدت نفسي في كوكب آخر.. وعلى نحو غامض شاهدت ولدي يلهو بالذرات الترابية الفضية ويتحدث معها :
ـ ماذا تفعل هنا ؟
سألته .. ثم سالت نفسي : ماذا يفعل هذا الولد الشاطر في هذا الكوكب البعيد ؟
قال :
ـ أبتاه .. لماذا جئت ؟
لم اجب. وعندما استيقظت لحظتها رأيت ولدي ينظر إلى الكواكب البعيدة..
ـ أرجوك .. ماذا تفعل في هذه الساعة المتأخرة من الليل ؟
ـ أحلم !
ـ غريب .. ماذا تقول ..؟
ـ أحلم .
ثم عدت إلى النوم، بعد ان اختفى.. ومرة ثانية كنت في كوكب آخر.
[14]
موقد
سألني ولدي، والشتاء شديد البرودة:
ـ لماذا لا تبتسم ؟
فسألته :
ـ لماذا لا تروي لي طرفة..
قال :
ـ بابا أنت رجل حزين ..!
ـ كلا .. من قال ذلك ؟
ـ لأنك إذا فرحت تموت !
آنذاك نهضت ووضعت حطبا ً في الموقد .. ورحت اتامل اللهب المتصاعد من خشب البلوط .. وفي تلك اللحظة ذاتها فكرت ان احمي ولدي من الجنون.
[15]
الحديقة
سألني: لماذا لا نزرع النباتات المفيدة في بيتنا ؟
قلت : هذا جيد .
قال : لماذا لا نزرع الحديقة إذا ً ..؟
قلت : عندما تكون لنا حديقة في بيتنا يا ولدي الشاطر .
فقال حالا ً :
ـ أليس العراق هو هذا البيت ؟
[16]
بلبل
فتح ولدي باب القفص، واخرج البلبل منه.. لكن الطائر الذي حوّم قليلا ً، عاد إلى القفص حالاً.. وهكذا .. كان يعود البلبل إلى قفصه، في كل مرة.. أغلقت باب القفص .. نظر ولدي إلي ّ قائلا ً:
ـ لماذا فعلت ذلك يا ولدي ؟!
آنذاك نهضت وحطمت القفص !
[17]
عيد ميلاد
في عيد ميلاده الأخير، أوقدت الشموع الخمس له.. تساءل :
ـ لماذا تفعلون ذلك لي ؟
ـ لأنك كبرْت عاما ٍ.. أيها الولد الشاطر ..
بكى ..
ـ لماذا تبكي ..؟
أجاب :
ـ بل أنا أسالكم : من قال أني أريد ان أصير مثلكم ؟!
[18]
بلا عنوان !
سألني : أتستطيع ان تمشي فوق الماء؟
قلت : أستطيع ان امشي فوق النار !
قال: لا .. يا بابا ..
قلت : لماذا ؟
قال: عليك ان تعود إلى النوم ..
قلت: ماذا تقصد ؟
قال: من لا يمشي فوق الماء لا يمشي فوق النار !
[19]
فقدان
سالت ولدي وهو يقلبُ الدفتر الذي الصق فيه مجموعة من أوراق الأشجار :
ـ ستحتفظ بها مدة طويلة .. أليس كذلك ؟
صمت وقال فجأة :
ـ لكنها فقدت سعادتها الخضراء !
[20]
لا تفعل ذلك
سأل ولدي الوردة البيضاء التي قطفها من الحقل:
ـ لِمَ أنتِ حزينة ؟
ـ لست حزينة.
ـ لكنك ذابلة ؟
ـ نعم ْ.
ـ ماذا افعل لك ِ حتى تعودي إلى سعادتك ؟
ـ أن ْ لا تقطف شقيقاتي من الحقل !
[21]
أحلام
وسألني ذات مرة: لماذا لا تموت؟
لم اجب .. وكدت أغادر البيت .. إلا أني سألته، بعد أن هدأ غضبي الداخلي:
ـ لماذا ؟
قال : أود أن تروي لي ماذا يحدث هناك ؟
صحت حالا ٍ: يا ولد .. لقد كبرت !
قال حالا ً: لا .. يا بابا .. هذه هي أحلامي..وأنا أود أن اعرف أحلامك ؟
[22]
أزهار الحديقة
سألني وأنا أحدق في أزهار الحديقة:
ـ لماذا تنظر إليها هكذا ؟
قلت: لأن الأزهار تحب الصمت.
قال حالا ً: لا .. بابا.. لأنها تتكلم بصوت هاديء..!
[23]
حلم
رسم ولدي ذئبا وحملا ً وأسدا ً وشاة ونمرا ً وأرنب إلى جانبها دب ابيض وغزال وطيور مختلفة ..
فسألته :
ـ ماذا ترسم ؟
ـ أرسم حلما ً رايته ليلة أمس .
صمت قليلا ً ثم سألني :
ـ لكنني عندما ذهبت إلى حديقة الحيوانات رأيت الجميع داخل الأقفاص .. لماذا ؟
ـ حتى لا يفترس احدها الآخر .
فأجاب مدهوشا ً:
ـ لكنها حيوانات لطيفة..أنظر إليها، إنها تغني أغنية جميلة!
[24]
الصديق
زارني أصدقاء قدماء، ومعارف..مساء احد الأيام . وكانوا يتحدثون عن أشياء كثيرة فيما كنت اعتكف منزويا مع نفسي.. في تلك اللحظات قفز ولدي نحوي هامسا ً:
ـ لقد مر من أمام البيت .. ولم يدخل .
ـ من ؟
قال وهو يحدق في ّ:
ـ الم ْ تره ؟ قلت لك من ؟ قال:
ـ انظر .. انهض .. إلا تراه .. انه ..
نهضت ..ونظرت : كان احد أصدقائي الشهداء..آنذاك غادرت البيت تاركا الأصدقاء والمعارف يشاهدون فلما ً حربيا ً.
[25]
نوافذ
رغم أني كنت مرهقاً، فلم أرقد حتى الصباح. كان ولدي يعيد قراءة دروسه.. ويعيد كتابة واجباته .. وفي الفجر سألني :
ـ مع من كنت تتحدث ؟
ـ معهم.
وساد الصمت بيننا فترة أخرى من الزمن، لكني سألته :
ـ لماذا كنت تفتح النوافذ .. والدنيا برد ؟
ـ كي يدخل أصدقاؤك الشهداء، الذين كنت تتحدث معهم، طوال الليل .
[26]
عناق
بعد أن عدت من الحرب..مؤخرا ً .. استقبلني ولدي مبتهجا ً.. وعانقني .. وبعد الاستراحة سألني، وهو ينظر إلى قرص الشمس الذهبي :
ـ بابا .. هل تضيء أشعة الشمس ارض الأعداء..؟
قلت له :
ـ نعم .
فقال بصوت حزين :
ـ لماذا إذ تتقاتلون..؟!
[27]
استمتاع
قال ذات مرة :
ـ تعال نذهب إلى الشمس ..
ـ إنها بعيدة ..
وقلت له :
ـ هيا ادخل إلى البيت ..الهواء شديد البرودة ..
فقال:
ـ بابا .. دعني استقبل أشعة الشمس ..فإن كنا لا نستطيع الذهاب إليها فلماذا لا نستقبلها في بيتنا ؟!
[28]
خجل
في طريقي، مع ولدي إلى المدرسة، طلبت منه أن يغني .. فقال:
ـ الشارع يخجل مني.. !
[29]
حزن
قال : يقولون انك رجل حزين !
قلت : نعم .
فقال ضاحكاً: لكنك تعلمني الفرح يوميا ً..
قلن : ذاك هو سر حزني !!
[30]
أشجار
في ليلة باردة جداً، كنت أتأمل النار، وذلك اللهب المتصاعد منها عندما دخل ولدي وجلس بالقرب مني. كنت احسب ان ولدي الشاطر سيتأمل ، مثلي، جمرات النار، والصوت المنبعث من احتراق الخشب.. وما يوحي به الشتاء من أسرار لذيذة.. إلا انه سألني فجأة :
ـ بابا .. لماذا نحرق الأشجار المسكينة.. ؟
ـ لأن الدنيا باردة جدا ً .
فقال بصوت عال ٍ:
ـ لا ..بل لأن الأشجار لا تستطيع الهرب !
[31]
بكاء
بعد ان زار حديقة الحيوانات، مع طلبة صفه، وعاد إلى المنزل، سألني:
ـ هل تتكلم الحيوانات ؟
ـ لا ..
فقال :
ـ بل كانت تتكلم .. وكنت أتكلم معها ..
ـ ماذا كانت تقول ..؟
ـ كانت تبكي بصمت عميق !
[32]
أصدقائي
ذات مرة ذهبنا إلى الصيد .. في الصحراء .ز معا ً.. لكنه كان، كلما اكتشفت صيداً، يمنعني من إطلاق النار،أو يشوش الهدف علي ّ.
صحت به :
ـ ماذا تفعل ؟
حدق في ّ، قائلاًن بحزن:
ـ هؤلاء هم أصدقائي.. لماذا تطلق النار عليهم .. يا والدي الطيب ؟
[33]
وصية
ذات مرة مرضت، وشعرت باني سأموت في اليوم القادم.. فقلت له :
ـ يا ولدي اعتن بالحديقة .. والطيور.. وبقطتنا الجميلة.. وبالكلب الرائع .. و.. و..
ـ نعم .. سأفعل ذلك .. لكنني سأعتني بالكتب التي جمعتها لنا..
ثم رفع صوته :
ـ علي ّ ان اعتني بك أولا ً .. يا والدي العزيز !
[34]
أحلام
سألته عن آخر حلم مازال يتذكره .. قال :
ـ إنها كثيرة .
ـ وأخرها ..؟
ـ ذهبت إلى قاع البحر .. فجر احد الأيام الجميلة. كنت أتجول بين الأعشاب والمحار.. فجأة سمعت سمكة ذهبية تقول لي : أيها الولد الشاطر لماذا لا تبقى معي في البحر .. فأنت ولد لطيف ؟
أجبتها : أقترح عليك ان تعيشي معي في الغابة .. حيث الأزهار الملونة تملأ الأرض .. فقالت بحزن : لا أستطيع ان أغادر البحر . قلت : وأنا لا أستطيع ان أعيش تحت الماء! قالت السمكة الذهبية : لكن حاول ان تتذكر صداقتي لك . قلت لها : في الأحلام !
[35]
ذنوب
ذات مرة طلب مني ان نذهب إلى النهر للاستحمام .. فذهبنا .. وأمام الأمواج الفضية سألني :
ـ هل تستطيع ان تمشي فوق الماء ؟
قلت :
ـ لا ..لا أستطيع ان امشي فوق الماء ..!
فقال وهو يحدق في وجهي :
ـ ما أثقل ذنوبك يا بابا ..!!
[36]
رجاء
ذات مرة طلب ولدي مني :
ـ أرجوك ألاّ تكبر.. ألاّ تصبح مثل جدي العجوز ..!
ـ ولكني .. لماذا ؟
ـ كي أبقى، أنا، في هذا العمر !
[37]
قمر
سألني : لماذا لا تحب القمر ؟
قلت : ومن قال أني لا أحبه ؟
قال: لكنه لا يأتي ويجلس معنا في الحديقة !
[38]
ليل
قال لي : الشمس تنام في الليل ..
قلت له : إنها تنام في الليل ؟؟
فقال : لا .. نحن الذين ننام في الليل ..!
[39]
اسماك
وطلب مني ذات مرة :
ـ أريد أن تأتي لي بحوت !
ـ انه كبير جدا ً .
ـ ويسكن البحر .
ـ أجل !
لكنه سألني :
ـ حسنا ً .. لماذا تأتي لنا بالأسماك الصغيرة فقط ؟!
[40]
حوار
ـ لماذا يموت الإنسان ؟
قلت له : لأنه تعِب من الحياة .
قال : لا .. لأنه يريد أن يحلم !
[41]
عذاب
سألني وهو يحدق في الجمر :
ـ هل تتعذب النار عندما تتوهج ؟
ـ لا أعرف .. ولكن لماذا هذا السؤال؟
فكر بعض الوقت ثم قال :
ـ أنا أفكر في الأشجار التي قطعـت..!
[42]
طيور
بعد أن أكملت رسم لوحة جديدة فيها مجموعة من الطيور .. سألني :
ـ لماذا رسمت هذه الطيور داخل هذه اللوحة؟
قلت : لنتأملها..
فقال حالا ً: لا .. بابا ... دعها تعود إلى الغابة !
[43]
غناء
ونحن نتجول بمحاذاة النهر، سألني :
ـ بابا .. ما الذي تسمعه ؟
نظرت في محياه قائلا ً:
ـ اسمع الريح تداعب الأمواج .
فقال :
ـ لا أقصد هذا .. أقصد ماذا تسمع ؟
لم اجب .. فقال :
ـ أنا أسمع الأسماك تغني .. وهي تهرب كلما رأتنا نقترب من النهر !
[44]
صراخ
قال لي : عندما تتكلم يا بابا لا تصرخ ..!
ـ ومتى تكلمت .. ؟
ـ أمس .. وأنت تحلم !
[45]
لماذا؟
سألني : لماذا يذهبون إلى الكواكب البعيدة ..؟
قلت : لدراسة العالم البعيد .
فقال معترضا ً:
ـ لا .. إنهم هاربون من دراسة أرضنا..!
[46]
صوت
ـ بابا لماذا تنظر إلى الصخور كثيرا ً ؟
ـ أصغي لصوتها.
ـ وهل تتكلم الصخور ..؟
ـ نعم .. لكنها لا تؤذي أحدا ً!
[47]
واأسفاه
ذات مرة رفض أن ينام، وذهب إلى الحديقة. فسألته :
ـ ماذا تفعل في هذا الليل ؟
قال بهدوء:
ـ أتعلم من أحلام أشجارنا النائمة..!
سألته:
ـ وهل تحلم الأشجار ؟
قال حالاً:
ـ واأسفاه ..يا والدي .. لقد كبرت مبكراً !
[48]
أسئلة
عندما بلغ ولدي السابعة من عمره، لم يعد يوجه الأسئلة لي .. فسألته:
ـ لماذا لم تعد تسألني ؟
قال:
ـ ألان ..يا بابا.. أفكرّ في الإجابات !
[49]
استمتاع
ذات مرة رآني، على غير عهده بي، مسرورا ً جدا ً، فسألني ك
ـ أراك سعيدا ً جدا ً يا بابا ؟
ـ إنني ..الآن.. تعلمت لغة الغيوم ..!
فقال بأسف :
ـ لكنني يوميا ً استمتع بنشيدها !
[50]
[ بعد عشرين سنة ]
بعد انتصاف الليل، وأنا استعد للنوم، رأيت ولدي يقف أمام النافذة، يتأمل النجوم في السماء .. سألته :
ـ ماذا تفعل .. وماذا اكتشفت ؟
أجاب، وهو مازال يحدق في الفضاء:
ـ أتذكر انك حدثتني، ذات يوم، عن جسيمات الضوء.. وكيف.. كلما اتسعت المسافات، بينها، تبقى الجسيمات تبحث عن ظلام تبدده .. حتى لم اعد أر ظلاما ً في هذه المساحات الشاسعة ..
ـ وآلان ..؟
ـ ها أنا بدأت أرى حبيبات الزمن..أمامي..
تساءلت مندهشاً :
ـ ماذا ؟
أجاب بصوت خفيض:
ـ الزمن، كالضوء، كلاهما يخفي أسراره ولا يعلن عنها. إنهما ،معا ً، إن مرا ولم نمسك بهما، كأننا كنا بلا وجود !
كأنني كنت لا امتلك إجابة، ولا أسئلة.. وأنا أعيد تحليل عبارته.. ولكنه قال لي بهدوء:
ـ مازلت اكرر كلمتك القديمة: ليس السر هو الذي نجهل ما فيه.. وإنما ـ هو ـ الذي يبقى يجذبنا إليه ..!!
آنذاك كنت اكرر في نفسي : لا اعرف من يدوّن كلمات الآخر. لكنه قال، وكأنه سمعني:
ـ كلانا، يا والدي العزيز، نصنع الكلام، لكي يتكامل حضورنا.. فالكلام، مثل الضوء والزمن: حلقات تتجانس فيها الإقامة : انه عمرنا الجميل!
بغداد ـ الغزالية
1980ــ 2005
[1]
أحلام
كنا نتجول في الغابة، المجاورة لقريتنا، وكان ولدي يغني بصوت خفيض، عندما سألته :
ــ لم أسمعك تغني قبل هذا اليوم ؟
فقال مبتسما ً:
ــ تعلمت ذلك من الأشجار وليس من البلابل !
قلت بتعجب :
ــ ماذا تقول ؟
ــ لقد تعلمت الغناء من الإصغاء إلى أحلام الأشجار النائمة!
[2]
حوار
وأنا أحدثه عن كوكب بعيد تم اكتشافه مؤخرا ً، سألني :
ــ هل توجد في هذا الكوكب الجديد ، كما في الأرض، غابات، وبحارا، وبشرا ؟
ــ لا أحد يعرف .
فسألني :
ــ لماذا لا نذهب إليه ونعرف الحقيقة ؟
قلت :
ــ هو الذي سيأتي إلينا..!
فقال :
ــ لا اعتقد أن هذا هو السبب.. بل لأنك قلت لي : ألا تكفينا غابات وبحار الأرض..!
[3]
مشاركة
قبل أن يذهب إلى النوم، رآني ارسم مجموعة من الطيور .. فطلب مني أن لا أطفأ المصباح، فقلت له ــ لماذا؟
قال :
ــ كي تراني الطيور وتشاركني أحلامي ..!
[4]
هل يتكلم الماء؟
ــ هل يتكلم الماء ؟
سألني ولدي وهو يداعب أمواج النهر.. فقلت :
ــ لا .
فقال :
ــ بل يتكلم عندما يجد من يصغي إليه ..!
الفنان وويسيتش لوربيكي -بولندا-ترجمة د.غالب المسعودي
وويسيتش لوربيكي - لا يوجد شيء أفضل في العالم من ان تستيقظ في الصباح، وتبحث في الطلاء الذي انتهى لتوه ولكنه ما زال رطبا. أنها مثل الهدية التي طال انتظارها من شخص غامض. وأعتقد أن النتيجة النهائية هي المزيد من التعبير والتأثير العاطفي من النموذج. أحب اكتشاف تقنيات جديدة، خلطها معا واستخدامها لبث الحيوية. مع كل عمل، أنا اسعى إلى دفع نفسي الى اقصى حدب من القدرة،والى عبور الكثير من الحواجز الذاتية،وهذا يقودني
لاكتشافات داخل نفسي من الصعب ان تلتقطها الا وانت في اخر درجات الوجد عندما تتامل العالم من حولك.
لاكتشافات داخل نفسي من الصعب ان تلتقطها الا وانت في اخر درجات الوجد عندما تتامل العالم من حولك.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)