الخميس، 8 نوفمبر 2012

قصة قصيرة-الحصان والصحفي-عادل كامل

قصة قصيرة الحصان والصحفي
بعد منتصف الليل بساعة، على ما أعتقد، سمعت حركة ذات صوت غريب في حديقة المنزل. صحيح ان حديقة المنزل الصغير الذي اسكنه، لا تتعدى الأمتار، إلا أنني طالما تحدثت عنها بإعجاب، وهذه قضية لا علاقة لها بالصوت الغريب الذي سمعته، وأنا أرقد في سريري، نصف نائم، وشبه مستيقظ. بيد أني لا اعرف لماذا شعرت بفزع أو بخوف تسلل إلى أعماقي، وجعلني انهض، وأمشي حافي القدمين، نحو الشباك المطل على الحديقة، لمعرفة هذا الشيء الذي اصدر صوتا ً غريبا ً. كان الظلام في الداخل يخفي معالمي، بالتأكيد، لهذا تقدمت نحو زجاج الشباك، وألقيت نظرة. للحق لم أكن نظر، أو ربما كنت أخشى النظر إلى الحديقة، إلا أنني حاولت التنصت بحذر بالغ، ومعرفة ما يحدث. مرت دقيقة كاملة وأنا لا استمع للصوت الغامض، الذي اختفى. تساءلت: قد يكون هذا محض كابوس، أو حلم مشوش، كتلك الأحلام المروعة، الشبيهة بالكوابيس، التي تحدث لي، بين فترة وأخرى، وكان يتحتم علي الوصول إلى يقين، والتأكد من سلامة حواسي، و ذاكرتي، أو الجانب النفسي الذي لا يدفعني إلى الهاوية، والى العزلة. لهذا حدقت، بلا شعور مني، في المكان الذي يقف فيه...، ماذا ...، ارتج جسدي، وشعرت بالدوار، فقد كان ثمة حصان ابيض يقف وسط الحديقة؛ حصان متناسق تماما ً، له رقبة طويلة، وقوائم رشيقة. بيد انه لم يكن يتحرك، رغم معالم الحياة الظاهرة عليه. وهذا استنتاج دار بخلدي من غير تفكير. فقد كنت أحس ان شيئا ً ما ينبض فيه، ثم أنني لا امتلك تصورا ً ان هناك حصنا ً يمكن ان يفقد نبضه! وعلى كل فانا أحب الخيول، على الرغم من أنني اشعر بأنها تعاني عذابا ً يفوق عذاباتي. صحيح أني ذهبت مرة واحدة في حياتي إلى سباق الخيول، مع صديق لي، وشاهدت آلاف الناس تتسلى بعدد قليل من الخيول، وصحيح أني شاهدت، في طفولتي كيف يقتلون، يا للهول، ذلك الحصان الأبيض، ولأسباب مازالت غامضة، لديّ، وصحيح أني كتبت عشرات الدراسات عن الخيول، ومن المؤمل قريبا ً ان تصدر في كتاب كبير، لأنني في الحقيقة صحفي يكتب عن أشياء لا تحصى. وربما الشيء الوحيد الذي لم كتب عنه، هو الذي لم يلفت نظري إلى الكتابة. لا جدوى من هذا الاستطراد، لأنني فكرت بان هذا الحصان الأبيض، الذي تجمد، والذي يبدو قد صنع من الثلج، قد يكون هاربا ً من احد متاحف الحيوان، أو من إحدى الحدائق، أو من إحدى المزارع، لا حد يعرف، ولأسباب يخجلني الاعتراف بها، فكرت ان اخبر جاري بالأمر، أو استنجد بالشرطة، فقد يكون وجود هذا الكائن، قد أساء إلى صاحبه، أو فعل شرا ً، وجاء للاحتماء في حديقتي، معرفة منه باني رجل مريض، ومسالم، وغير قادر على عمل أي شيء من الأشياء المثيرة للشبهات، لكنني فكرت باني لو فعلت هذا، فالأمر سيسر الأعداء، بالرغم من عدم وجودهم، إلا في مخيالي. لكنني، في الآونة الأخيرة صرت أدرك ان هذا التفكير مجرد بلاهة، فهناك أعداء لا يمكن التعرف عليهم مهما أجهدنا أنفسنا بالبحث عن شخصياتهم، إلا ان خبرتي الطويلة في الحياة، جعلتني لا اعترف بالأمان، مهما تظاهرت به، ومهما تظاهر به غيري. وهذه معادلة لم تجعلني أقف بين بين، أو على الحياد، بل جعلتني في هذا الوضع، الذي أجهد نفسي للمحفظة عليه، ولأسباب أحرر نفسي فيها من هذا الوضع نفسه. ترى من أين جاء هذا الحصان..؟ ماذا يريد ..؟ ولِم َ تجمد عندما رآني أراقبه..؟ انه، على كل، غير مؤذ، وهذا ما دفعني للاعتقاد بأنه لا يضمر شرا ً لي، لي في الأقل، فهناك أشياء كثيرة تبعث الرعب في القلوب، دون ان تخدش أحلامي أو تفسد كوابيسي، وتجعلني امضي حياتي بعيدا ً عنها. سررت لهذا الخاطر، خاصة أنني كنت اشعر بالإعياء الشديد، بعد ان كنت، خلال هذا اليوم، قد أنجزت تسعة حوارات طويلة، ستنشر تباعا ً على صفحات الجريدة التي اعمل فيها، كما أني، قبل ان أضع راسي فوق الوسادة، كنت قد اخترعت حوارا ً مع مخلوق مجهول، وكان هذا الحوار، على ما اعتقد، مثيرا ً للغاية. تراجعت، خطوة خطوة، بهدوء، عائدا ً إلى غرفتي، حيث رقدت في سريري متدثرا ً بالغطاء الصوفي، الذي ذكرني بالخراف التي سلخت جلودها، وانتزع صوفها منها. لكن ما هو ذنبي..؟ حولت ان أغفو، متجاهلا ً الحصان الأبيض، لولا انه عاد يصدر صوتا ً غامضا ً، وغريبا ً. قلت أخاطب نفسي: من هذا الذي يستطيع ان يعود إلى النوم، وفي بيته حصان، في حديقة البيت..؟ أجبت: قد أكون على وهم، فقد لا يكون هناك أي حصان! لكن ثمة من تكلم في ّ: الم ْ تره، الم ْ يكن ابيض..؟ وسمعت صوته، حتى أني كنت قد وجهت نقدا ً لنحاتينا لعدم عملهم نصبا ً لمثل هذا الكائن الذي هو على هذا القدر من التناسق، والجمال. على كل قلت في نفسي: لا معنى ان يشغل المرء ـ خاصة أنا ـ نفسه بوجود حصان في حديقته الصغيرة؟ ثم من ذا الذي يعلم ماذا يوجد في منزلي، وفي نفسي، اذا كان وجودهم أكثر إيذاء ً من هذا المخلوق الظريف، الأنيق، الذي كنت كتبت عنه، وعن ماضيه السحيق، وما آلت إليه حياته في نهاية المطاف، دراسات متنوعة، وجادة، أحزنني ان بعض القراء وحدهم اطلعوا عليها، فيما كنت، وأنا اكتب، أفكر بالخيول. بيد نني لم افقد الأمل في ان تترجم، كتاباتي، في يوم ما من الأيام، للخيول التي سجنت في المتاحف، أو في ساحات اللعب الكبرى، أو التي وضعت في المتنزهات، أو في بعض منعطفات الطرق. وهذا كلام لم اقصد منه السخرية، أو التظاهر بحب الفكاهة، بل ان هذا، وعلى مدى ربع القرن الماضي، أوقعني في مشاكل، ونوادر استهدفت سذاجتي، إلا أنني صمدت بعناد ممتاز ونادر، وفي سبيل المثال، لا توجد قوة ما في العالم باستطاعتها ان تغير حبي للخيول، حتى للتي رحلت قبل ملايين السنين، أو حتى للخيول التي لم تولد بعد، أو التي لن تولد أبدا ً! وأنا أتقلب، يسارا ً ويمينا ً، تحت الغطاء الصوفي، أحسست بأنفاس ساخنة كادت تلامس وجهي، فكدت اصرخ، لكن الخوف الذي انتابني جمدني، حتى حسبت ان الحصان الأبيض الذي شاهدته في الحديقة، هو الآخر، تجمد من الرعب، لكنني لم أكن أنا السبب في الحالات كلها. رفعت رأسي، قليلا ً قليلا ً، كي أشاهد الحصان يقف أمامي، وقد تجمد، كما رأيته في المرة الأولى، في الحديقة. ترى كيف دخل، والباب موصد، وشبابيك البيت مغلقة، ولا يمكن لحصان ان يدخل منها..؟ تساءلت: أتراه ينتمي إلى عالم الأشباح ..؟ ثم ألا يعلم أنني رجل مريض، ومرهق، حد الإعياء، ثم ماذا تراه يريد مني ..؟ لكن الحصان تكلم، وأنا لا أكاد اصدق، وهو يدعوني لإجراء حوار معه..! ـ "معك، معك أنت ...؟" لا اعرف ماذا حدث، بعد تلك اللحظات، لكنني عندما استيقظت، صباحا ً، اكتشفت أنني كنت قد أجريت حوارا ً معه، وبخط واضح، دون ان اشطب كلمة واحدة، وثمة صورة مرسومة بإتقان له، بيد انه كان لا يكف فيها عن الحركة أبدا ً! مجلة"حراس الوطن" 2/11/1986

ليست هناك تعليقات: