السبت، 10 نوفمبر 2012

تشكيل- عادل كامل .. اغواءات الجسد- د.عاصم عبد الأمير


تشكيل عادل كامل .. اغواءات الجسد
ثمة ما يقال بشأن الفنان والناقد عادل كامل في الرسم و النحت ، فالخيال الذي يعول عليه الفنان كثيرا ًما يضطره لأن ينقلب على مرجعياته ساحبا ً البسط من مخيلة المتحف حين يضطره نداؤه الداخلي الى تهيئة استجابات عاطفية تعلن عن نفسها بالقوة الممكنة لحظة الاحتكاك بالسطح التصويري ، و بالفعل فأن شيئا ًمن هذا يحدث حين تشتبك أرادته بإرادة الخامة المتيسرة . حتى أن صراع الفنان للتثبت من هويته الإنسانية يبدو كما لو أنه نزف دون انقطاع غير أنه نزف متصل بمظاهر الحسي المضمخ بالروحي بما لا يغيب من هناءة الاتصال بالعلوي لا الانخراط في الحسي . لهذا لم يقو الواقع على تحويل نصوصه الى فريسة سهلة . خذ لوحاته التجريدية على سبيل الفرض ، بل خذ ما تشاء من أعماله المحفورة الملونة ، فيوف تنتهي من فورك الى تعيين استنادها لضرب من الجدل المثالي باتجاه حقيقة يصعب العثور عليها في ميدان الحس ، ألا على أساس احتسابه قاعدة لتأكيد حقيقة أخرى في الغياب .. لهذا فهو مطارد جيد يهمه أن يصنع عالما ًميتافيزيقيا ًولكن على هواه ، مع اقتراح الحلول الجمالية المناسبة له لهذا كثيرا ًما تنكمش عناصر التناص لديه تحت ضغط مخيلة مجادلة تمتص وتحول دون فائض من جهد حتى أن اغواءات وثائق التاريخ التصويري تتحول لديه إلى محركات تفعل فعلها إيجابيا ًفي الخفاء لكأنه من وراء ذلك يلاحق فكرة من نوع ما ذات طابع سرمدي . وعادل كامل ، يستجيب للخامة تحت طائل الإحساس بضرورة استيفاء حقيقته الإنسانية ، غير ان ذلك لا يتم على الأرجح ألا تحت ظلال الهوس الروحي الذي يبدأ حين تضمحل سلطة الشيء عبر صياغات بنائية يتمثل مع مفهومان تقع فيما وراء الرسم . وإذا ما عرفنا ان ( الروحي المطلق ) مثل حقل اشتغال مغر لاسيما في التطبيقات في مجال الحقل المرئي ، فلأن قضية ذات شأن كهذه مثـلت صلب البحث الجمالي المعاصر على تباين مستويات التحقق نظرياً أكان أم تطبيقيا ً . البحث عن المثالي لهذا تميـل أعمال عادل كامل الى البحث عن المثالي من خلال الحسي ومما يبرر هذا النزوع تفضيله للخط المنحني وتردداته عبر الجسد الأنثوي بخطوط كفافية ترتبط بمعمار أشكاله العضوية أو المجردة ، و المشتقة من شواهد آثارية رافدينية ذائعة ، كمسلة نرام سن أو تماثيل الآلهة ألام وما الى ذلك . كأنه يظهر تجانسا ًمع برجسون الذي وجد ان الخط المنحني بمقدوره حمل خصائص الجليل. لهذا تصبح العلاقات التصويرية حاملة لسمات تتعدى حدود فيزيائيتها أو تماثـليتها . أنها تصبح بنية مولدة يرحلها الفنان إلى فضاء ممغنط بالعاطفة ، وهنا بالضبط يقوى بالوقوف على الحقيقة الخالصة من خلال اللعب على السطح ووضع الحلول لأسراره . فالمبدع حين يركبه الحلم لم يعد يتملكه الإحساس بسلطة الأشياء إذ أنها هي الأخرى تسري فيها إرادة خفية تجعلها تزداد عذوبة و تستأهل كفاحا ًمتواصلا . ثم أننا نعرف ان الدرس الجمالي قد وضع تصورات شتى بحدود تداخل حسي بالعلوي المتصف بالجلال و السمو . ولأذكر هنا بالغزالي كمثل لا أكثر فهاذا الفيلسوف الذي تملكته الصوفية كان ان انتهى الى ان الشفافية في العلاقة بين الحسي و السامي تفترض التمتع بكفاية لا يخالطها النقص في سماتها البنائية ، وعليّ منذ البدء ان اذكر ان عادلا يهمه ان يقترح رؤية مثابرة لا تعرف معنى للنتائج القاطعة ، فكل شيء يصبح عنده خاضع للشك و التأويل وإعادة الفحص مما يطبع بحثه وبوجه العموم بطابع الجدل نظريا وتطبيقيا ً. ولهذا يظهر حساسية من وضع نماذجه تحت طائل الإحساس بالإكراه و المعاناة الملفقة . ان مشغولا ته في النحت و الرسم تجهد في صنع ميتافيزيقيا خاصة به ، ميتافيزيقيا تصيخ السمع لارادة ذاتية موصوفة بحزم و وضوح . الجوهري والشكل قراءة من هذا النوع تتيح له ولنا أيضا محاولة الإمساك في الجوهري عن طريق الشكل ، أو على الأقل ان الشكل يصبح عنده جوهر نفسه حتى ان استدلالاته الأسترجاعية من التاريخ ود وارس الآثار واللقى تصبح حجة مقبولة للتحليق بالشكل مما يجعل منه قنطرة بمقدورها الوصول بنا الى مفهوم السامي أو المتعالي ، وتعاونه في تذليل مشقة الوصول الى غاية كهذه نزعة التجريد المجافية لمنطق التماثلية ، مما تتيح له المجال واسعا ًفي نفي سلطة التاريخ بعد أن يستقطر منه حكمة الجذور وسحرها الماورائي . من هذه المنطقة الحساسة لا يحدث أن يضمحل صوته الداخلي الذي تردد أصداؤه بقوة على متاهة السطح التصويري . ترى هل كان عادل كامل ينوي التحليق بمشاهد التاريخ وبما يتيح له ممارسة شعائر ذات مغزى قدسي ؟ أظنه كذلك . فالرسم حين يرقى عن الشيء ، دون إنكاره و إنما يفتح الأبواب لندرك من خلاله العلوي المعلق. وهذا بالضبط ما انتهى أليها الرسم اللا موضوعي الذي أنتهي إلى أن للشكل وجودا مستقلا ً، أنه ببساطة اقتراح لحقيقة علوية يصعب الاستدلال عليها في المظاهر المادية . على هذا الأساس فمشاهد الآثار ألد وارس والاستعارات الممثـلة بالمسلات وما الى ذلك تصبح شفرات جمالية تتخطى بنيتها التاريخية الموصوفة وتزيد من الإحساس بإمكانية اقتراح حياة تلح كبديل مرض عن حياة الوثيقة . وفي هذا إنما يضع الفنان مبررا ًمنطقيا ً يحاول فيه الوقوف على الجوهري عن طريق الرسم وبمزيد من البساطة في ترتيب حيثيات رؤيته . أجساد أنثوية تتناسل مخلفة إيقاعا ًمتواترا يختلط فيها الطابع الدلالي بالشكلي بالتدفق الوجداني . وبين هذا وذاك يكون عادل كامل كمن يبحث عن ملاذ أمن لتسريب مشاعره دون قسر . وعنده ان الخط يمثـل سلطة متعاظمة حتى يجوز لك القول فيه انه يوفر للفنان فرصة لممارسة النحت على غرار ما يفعل في السطح ثنائي الأبعاد ، لهذا فهو وسيلة لتقريب الرسم من النحت أو بالعكس ، أما استعاراته التصويرية ذات النسق المتراكب فهي ترديدات تؤكد سيادة الغرض الجمالي الذي يستنتج جراء الحزم الذي يمارسه العقل والنظام الشكلي . التوفيق والتفريق وبكل الأحوال ، لا نعدم النظرة التوفيقية بين العالمين المثالي والمادي عند الفنان ، مع أنه يبذل جهودا ًحثيثة للتفريق بين المعنيين ، بما يجعل من علاقاته التصويرية الرابطة محض وسائل بصرية تتيح له الإحساس بممارسة ضرب من المعتقد القدسي الذي يحمل فكرة ذات بعد كوني بالطبع من المفيد التذكير فيما فعله أسلافنا بهذا الصدد . فالسوريون مثلا لم يقيموا الوزن للحس ألا على أساس ما يقابل ما يقابله من مثال أبلغ وأبقى منه وهم في هذا النزوع الروحي المبكر قد أيقنوا بالحلول التي يصنعها المثال الغائب الذي نستدل عليه بمزيد من الطهر ونقاء السريرة وخلط المشاعر بمظاهر التقديس. وإذا كان الدرس الجمالي الذي جاء به الرافدينيون الأوائل بهذه البلاغة فان الرسم الحديث كان ان أغرته لعبة الإمساك بالسري عبر الشيء . لكن على وفق سنين مختلفة بالضرورة وان تماثلت في الجوهر مع ما انتهى أليه الأسلاف . وما يهمني هنا كيفية اشتقاق خطاب إبداعي ممغنط بالروحي دون ان يشترط القطيعة بمرجعياته . ولا ذهب هذه المرة الى الفكر الفلسفي فكثيرا ًما يجعلنا على مقربة من الحلول المرضية ولنأخذ الفارابي نموذجا ً، فقد استدل هذا الفيلسوف من ان المعرفة تشترط وجود الحواس وهذه الأخيرة تصبح عنده بمثابة جهاز استقبال وتوصيل للعقل الذي سيكون له القول الفصل بفعل تراكمية المفهومات الجزئية فالكلية ثم تحولها الى بنية معرفية متكاملة وهذه هي التي تعطي التصورات النهائية عن السامي دون عناء وبشكل موثوق فيه كليا ً، دون أن ينسينا ذلك أن الحسي وكتحصيل حاصل يتمغنط هو الأخر بخصائص الجمال المطلق . عادل كامل وهو ما يعنيني بالضبط يستفيد ولو بالغريزة من المنهج ذاته مع أنه يأخذ من الفكر الصوفي ما يعاونه على تحقيق مكاسب وسعادات حقيقية من جراء الاستغراق فيما وراء المادة على النحو الذي يتحول فعل الرسم عنده وحسب ما يرى عادل كامل نفسه الى مشهد تعبدي خالص . ولنذهب عميقا الى تفاصيل بنيانه البصرية ووسائل الربط الشكلية التي تتآزر محققة غرضا ًمثاليا ًمحضا ًفهو يتخذ من جسد المرأة سبيلا لرضاه الداخلي لهذا فخطوطه تتواتر وتجتمع على السطح مكونة سلسلة من الأجساد التي يحطم فيها منطق عاطفي فترفع وتخفي وراءها رساما ًحالما ً.. أجساد تتراكب على السطح ومغطاة بألوان هي أقرب الى التراب منها الأبواب النقية، لهذا تبدو كما لو أنها خارجة من رحم التاريخ غير ان لها وجهة جمالية أخرى،أجساد خارجة عن نطاق الجغرافية ، لكنها بذات الوقت مغطاة بغبار التاريخ .

ليست هناك تعليقات: