Sunday, 23 September 2012, 21:18
رحيل حارس الوادي العريق
أبو الصوف بهنام بن ناصر بن النعمان الآشوري في ذمة الخلود
جريدة المستقبل العراق
كاظم فنجان الحمامي
شاءت
الأقدار أن يرحل علماء العراق وأدباؤه ومبدعوه مضطرين إلى محطات الغربة
والاغتراب, واشتركت التقلبات السياسية, والظروف الأمنية القلقة, والتنافرات
الطائفية والحزبية, والعوامل القسرية الأخرى في وأدهم بخناجر التسقيط
والتشريد والتشويه والتحريض, فكان التهجير خارج أرض الوطن الأم من حصة
الذين ظلوا منهم على قيد الحياة, بقصد تفريغ العراق من نجومه المتلألئة في
فضاءات العلوم والفنون والآداب, وهكذا رحل عنا في العام الماضي
عالم الآثار المبدع المتألق (دوني جورج), الذي طاردته غربان الشر لتغتاله
في الغربة بعد أن عقد العزم على استعادة الأختام البابلية المسروقة من
المتحف الوطني العراقي, ثم التحق به أستاذه وأستاذنا كلنا في العلوم
الآشورية والسومرية والأكادية والبابلية والكلدانية, رحل أبو الصوف بهنام
بن ناصر بن نعمان الموصلي الآشوري, رحل المؤرخ وعالم الآثار الكبير, رحل
الحارس الأمين على مقتنيات الوادي العريق, كان لكتابه الفريد (ظلال الوادي
العريق) الفضل الكبير في تنوير عقول الناس بعراقة وادي الرافدين, فاخترناه
عنواناً لهذه المقالة التي نرثي فيها
مصيرنا المجهول, وننعى فيها رحيله إلى مثواه الأخير في ديار الغربة. .
ولد في الموصل عام 1931
في الدار التي تحمل الرقم (10\207) لعائلة مسيحية احترفت البناء والتعمير.
أرضعته امرأة مسلمة (أم إبراهيم) في زمن التواد والتلاحم, قبل أن تنبت
بذور الطائفية فوق روابي العراق بأكثر من نصف قرن, ونشأ في نينوى العتيقة,
وعلى وجه التحديد في الطرف الجنوبي (قلعة الموصل) محلة باب النبي على بعد
بضعة أمتار من جامع (النبي جرجيس). تضم القلعة باقة من البيوت التراثية
المتعانقة مع التاريخ والتراث
والحضارة, حيث تحيط بها الكنائس والمساجد القديمة, فانصبت اهتماماته منذ
طفولته المبكرة في البحث عن خبايا هذه البيئة الغارقة في القدم. .
اقتادته
مغامراته الصغيرة ذات يوم إلى (تل قوينجق), وتل (النبي يونس), فعبر الجسر
الحديدي (جسر غازي) مع رفاقه الصغار إلى الضفة الشرقية من النهر, وتسلق تل
قوينجق مسحورا بعظمة الآثار, التي سجلت انتصارات أجداده الآشوريين, فعشق
المكان والتصق به, وتكررت زياراته للمواقع الأثرية الأخرى في الرحلات
المدرسية الربيعية, فكان مهووسا بتماثيل الملوك والآلهة مندهشا من عظمة
الثيران المجنحة بأرجلها الخماسية. .
كان
يسأل أمه دائما عن هذه التماثيل, ويسألها عن سر الثيران المجنحة, فكانت
تقول له: إن الله غضب على أهل نينوى قبل عشرات القرون, فمسخهم ثيراننا مجنحة, ومسخ بعضهم أصناماً من حجر حتى يكونوا عبرة لغيرهم, فلم يقتنع بما كانت تقوله له من أساطير لا تخلو من الخرافة الشعبية. .
تعلم
في مدارس الموصل الابتدائية, وكان يعشق التاريخ الإسلامي, ومن المتفوقين
على أقرانه المسلمين في مادة التاريخ الإسلامي, وكان من الماهرين في
السباحة الحرة, ومن المتميزين في ممارسة الألعاب الرياضية, وبخاصة رياضة
بناء الأجسام, ولطالما عبر نهر دجلة معتمدا على بنيته القوية في العوم
والسباحة حتى في المواسم الباردة. .
أنهى
الابتدائية في الموصل, وواصل دراسته المتوسطة في ربوع الحدباء, وفي يوم من
الأيام, وقع بيده كتاب الأديب المصري محمد فريد أبو حديد عن أساطير
اليونان والرومان, فقرأ مقطفات من الأوديسا والإلياذة وملحمة طروادة, وتأثر
بها وأحبها, وهام في أجوائها المشبعة بالحكايات الطريفة والمواقف الغريبة,
فانتمى منذ صباه إلى العصور القديمة, وارتبط بالماضي البعيد ارتباطا
عميقا. .
سافر
بعد إكماله المرحلة الإعدادية إلى بغداد عام 1951, فحمل معه أوراقه وتوجه
إلى باب المعظم, حيث تقع كلية الآداب والعلوم, فقرأ إعلانا عن افتتاح قسم
التاريخ والآثار, والتقى الطلاب المستجدين (طارق مظلوم), و(كاظم الجنابي),
فقاده (طارق) إلى اللجنة المشكلة لقبول الطلاب في القسم الجديد, وكانت
مؤلفة من الدكتور طه باقر, والدكتور أحمد صالح العلي, والأستاذ سلمان
القيسي, فاعترض الدكتور طه باقر على قبوله بسبب درجاته العالية التي تؤهله
للأقسام العلمية العليا, بيد أن التلميذ الجديد أصر على دخول القسم
التاريخي, فقبله الدكتور طه, ورحب به كثيراً بعد أن عرف برغبته التاريخية
الصادقة. .
كان
المؤرخ والفنان (طارق مظلوم) رحمه الله, من أقرب زملائه في الكلية, وكان
الطلاب يطلقون عليهما (جلجامش) وزميله (أنكيدو), كانت ملامح بهنام
ومواصفاته البدنية والجمالية قريبة الشبه بجلجامش, بينما كانت ملامح زميله
طارق أقرب ما تكون لأنكيدو. .
تخرج
الراحل بهنام أبو الصوف في كلية الآداب, جامعة بغداد عام 1955, وحصل منها
على البكالوريوس في الآثار والحضارة, وتوسعت آفاقه المعرفية بأتونابشتم,
ونبوخذنصر, وسنحاريب, وآشور بانيبال, ونارام سن, ولكش, والوركاء,
وخورسيباط, والثور السماوي, والوحش خمبابا, وبوابة (أدد), و(نركال),
و(شمش), وأدرك فلسفة أن تكون الرموز والتماثيل القديمة بجسم ثور, وأجنحة
نسر, ورأس إنسان, فالثور رمز القوة والبطش, والأجنحة ترمز للخفة والحركة,
ورأس الإنسان
يرمز للحكمة والعقل. .
أكمل
دراسته العليا في جامعة كمبرج بانجلترا, فحصل في خريف 1966 على درجة
الدكتوراه في الآثار ونواة الحضارة وعلم الإنسان, وكانت رسالة الدكتوراه عن
الفخاريات السومرية. .
عمل
بعد التخرج لسنوات عديدة في التنقيب الميداني عن الآثار في عدد من مواقع
العراق الأثرية وسط البلاد وشمالها, وكان مشرفا علمياً على تنقيبات إنقاذية
واسعة في حوض سد حمرين (منطقة ديالى), ومواقع أخرى على ضفاف نهر دجلة. .
كشف
الدكتور بهنام عن حضارة جديدة من مطلع العصر الحجري الجديد في وسط العراق,
وكان لاكتشافه الكبير الأثر الواضح على تصحيح معلوماتنا الموغلة في القدم.
.
سجل
الدكتور بهنام (تل الصوان) باسمه, باعتباره أول من باشر بالتنقيب الميداني
تحت أقدام التل اللغز, فاكتشف في المرحلة الأولى للتنقيب نحو (350) قبراً
للأطفال المدفونين هناك, وهو أول من رفض تعريف السومريين على إنهم موجات
بدائية غامضة, وأول من تصدى للشائعات التي أطلقتها هوليوود على إن عام 2012
هو نهاية العالم, بفيلمها العبثي (2012), فقال: إن كل الطوفانات والزحوف
الجليدية والزلازل لن تعيق الأرض عن حركتها المنتظمة, وليس هناك ما يدعو
للخوف من أكذوبة الانقلاب الهائل لمحور الأرض, فللكون رب يحميه. .
حاضر
لسنوات عديدة في مادة جذور الحضارة والآثار والتاريخ في عدد من الجامعات
العراقية, وفي معهد التاريخ العربي للدراسات العليا, اشرف خلالها على عدد
من الرسائل الجامعية لنيل شهادة الماجستير والدكتوراه, وشارك في العديد من
المؤتمرات الآثارية والندوات والحلقات الدراسية داخل العراق وخارجه,
واستدعته المنظمات العالمية والجامعات الدولية لإلقاء سلسلة من المحاضرات
عن الميزوبوتاميا وعن نتائج تنقيباته, ونشر مئات البحوث
والدراسات والتقارير العلمية تناولت أعماله الميدانية, ودراساته
الاستقصائية, وله ثلاثة كتب مطبوعة, هي: (فخاريات عصر الوركاء) باللغة
الانجليزية, و(ظلال الوادي العريق) باللغة العربية, و(العراق: وحدة الأرض
والحضارة والإنسان) باللغة العربية. .
شغل
المؤرخ الكبير بهنام أبو الصوف عددا من المواقع العلمية والإدارية في هيئة
الآثار والتراث, منها: باحث علمي, ومدير التحريات وحماية المواقع الأثرية,
ومدير عام الآثار, ومدير المتحف في المنطقة الشمالية. .
أحيل
إلى التقاعد في أواخر الثمانينات, لكنه واصل مسيرته العلمية والتنقيبية
داخل العراق وخارجه, ثم غادر العراق عام 2003 , ورحل مع عائلته ليستقر في
الأردن, لكنه لم ينقطع عن دراساته وأبحاثه الخاصة, فسخر وقته كله لتدوين
أفكاره التاريخية, والتواصل مع المراكز والمنظمات العلمية العالمية. .
انتقل
هذا الرجل العملاق إلى جوار ربه يوم الأربعاء 19/9/2012 , وشيعته في
الأردن يوم أمس السبت 22/9/2012 كوكبة من رجال العلم والسياسة في موكب
جنائزي مهيب, بعد أن رفعت الصلاة على روحه الطاهرة في كنيسة العذراء
الناصرة في الصوفية, ونقل جثمانه إلى المقبرة المسيحية. .
لقد فقد العراق برحيل الدكتور بهنام أبو الصوف باحثاً وعالماً ومؤرخاً فذا, وفقد الوادي العريق أكبر حراسه وأوسعهم علماً. .
آمن
أبو الصوف إيماناً عميقاً بالإرث الحضاري العراقي, وانتبه إلى ما فيه من
كنوز غنية بالعلوم والفنون والمعارف, وما فيه من نفحات تاريخية معبرة عن
سمات الشخصية العراقية المتحضرة في بعديها الوطني والإنساني, فلم يتخلف عن
واجبه العلمي والأدبي والأخلاقي, حتى وافته المنية ليقف بقامته الفارعة في
صف الذين ساروا قبله على النهج الحضاري لبلاد الرافدين, ابتداءً من العالم
الكبير أحمد سوسة رحمه الله إلى أخر أحفاد بانيبال, ولا نظن إن
العراق سينسى ذكراهم العطرة, وستبقى مواقعهم العلمية المشرفة متلألئة
دائما وأبدا فوق ناصية المجد والتفوق. .
رحم
الله الدكتور بهنام أبو الصوف, وجعله مشعلاً وضاءً للمدافعين عن حقوق
العراق التاريخية والحضارية, ونسأل الله أن يتغمد الفقيد بواسع رحمته, وأن
يلهم أهله وأولاده وعشيرته الصبر والسلوان. . . .
وإنا لله وإنا إليه راجعون
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق