قصة قصيرة
حكاية هذا الرجل
لم يكن معروفا في مدينتنا، منذ نقل إليها كموظف حكومي في احد الدوائر المغمورة . قبل ربع قرن، بل حتى اسمه لم يكن معروفا ولهذا لم يحمل أي اثر محدد. وفي الواقع لم يكن الرجل شخصية غريبة . او لافتة للنظر ، فشكله العام لا يثير الفضول او الاستغراب. كان يذهب إلى عمله في الصباح. ويعود قبيل العصر، ولا يغادر بيته. إلا مرة واحدة في الأسبوع. يذهب فيها إلى المقهى. كما انه صار جزءا من أسرار مدينتنا أو تقليدا ً من تقاليدنا.. ولهذا لم تثر حياته الخاصة انتباه السكان. وفي واقع الأمر فإن حياة الرجل كانت تبدو هادئة ، بل تمتاز بالبساطة وعدم إثارة الشكوك. فعلى الرغم من أنه لم يتزوج، ولم تكن له علاقة بالآخرين، فانه لم يكن يثير الأسئلة . فلا احد سمع انه تحدث في قضية. أو جادل، أو تفوه بكلمة نابية. كان يسير من البيت إلى الدائرة في الذهاب كما في الاياب . بهدوء. وبخطوات محسوبة.. وعلى الرغم من الأحداث التي وقعت منذ ربع قرن. فان الرجل لم يتدخل في شؤون المدينة . ولا في احوال الناس. ومثل هذا السلوك . في الواقع، كان من المقرر ان يلفت الانظار، لكن احدا لم يكن ينتبه له، في السلب او في الإيجاب.. لم نره يدخن ..أو يذهب إلى مكان مشبوه. وكان عندما يتعرض الى سؤال، يجد بسهولة. طريقة يختصر بها الاجابة. فلم نره يدخل في حوار طويل، او معقد ، كما ان الابتسامة لم تفارقه بل حتى تلك الابتسامة كانت في حدود المعقول. باختصار انه لم يكن يترك أثرا عند من شاهده، أو عرفه ، أية ذكرى ولم ينكر، أقرب المقربين اليه، في محاولة لفك أسراره. فقد قيل أنه يؤدي واجباته الوظيفية على نحو ممتاز، وانه لم يتعرض الى عقوبة تذكر.. كما لم يرتفع صوته اعلى من أي صوت آخر كان حليق اللحية على الدوام، لايشكو من الامراض ، فلا أحد سمع او عرف أنه راجع المستشفى أو اشتكى من مرض. وأنا شخصيا ضمن عملي الخاص لم أفكر في حل طلسمات الرجل. لا لاني كنت أفكر في تغيير حياته الشخصية ، بل لاني لم أجد مايثير التأمل… أو الاستغراب.. وربما لايستطيع ، كل من عرفه، أن يتكلم أو يصفه بأكثر مما فعلت. أي ان وجوده وعدمه كانا متساويين فلا توجد في حياته المعلنة استثناءات.. لم نعرف انه تفوه بطرفة .. أو روى حكاية.. أو سأل سؤالا غريبا ، كما كان يعيش حياته في عزلة شبه مطلقة ، حتى اعتدنا عليها، بمرور الأيام ، وغدت مألوفة كأشياء أخرى لا تحصى تعد نسيا منسياً. اني ، وبلا أسباب محددة، كنت أشعر بالحزن له.. ولإسباب لاتحصى ، حاولت أن لاأتدخل في سلوكه..وهي حقيقة جعلتني أراه عن بعد. بلا فضول . ولا محاولة للدخول في تفاصيل حياته . كنت شارد الذهن بهؤلاء الغرباء في قراراتهم أو افكارهم الخاصة.. وهي صفة لازمتني منذ الصغر.. ومع ذلك، فقد كنت أكتم، بدقة وعناية ، كل التفاصيل الدقيقة التي تخص أفكاري ومشاعري تجاه الأشياء . ولهذا السبب لم أجد فيه ما يثير التعجب، أو الخيال ، ثم أني بعد ربع قرن من مشاهدتي له، صرت لا أثار أو استفز بسهولة، فأنا مثل لاعب الشطرنج، الذي يسجل نقلته، ثم يقوم بالنقلة بعد تفحص الاحتمالات الأخيرة .. فالجسد لا يحتمل الأخطاء، مثلما النفس غير قادرة على تحمل الصدمات، بإيجاز سردت هذه الملاحظات، بدافع آخر، وفي لمحة بصر. ففي ذات يوم بارد، بعد الغروب، وقع نظري على كتاب في المكتبة المجاورة للمقهى .. لفت نظري بشدة.. أي غلاف الكتاب في الأقل.. فنهضت وتفحصت الكتاب .. كان الرسم الذي غطى الغلاف الأول يعود للسيد "س " .. إنه هو تماما .. وكأن ملامحه لن تتغير.. ولا لون بشرته.. إنه هو تماماً .. وقد كتب في أعلى الصفحة ، بعنوان كبير، بلون أحمر صارخ [ذكرياتي مع أخطر رجل في العالم] لم أكن أصدق ما أرى .. فالسيد "س" لم يكن سوى شجرة في غابة.. فهل يمكن أن يكون ، كما ورد في عنوان الكتاب أخطر رجل في العالم؟ اقتربت منه، ووضعت الكتاب امامه.. حدق فيه لبرهة .. ثم قال بصوت خافت .. ـ " وماذا في الامر؟ " قلت بسرعة : - "انها قصة أخطر رجل في العالم .." - "وماهو الغريب في الامر ..؟" - "إنها قصتك أنت.. ايها السيد العجيب .." أجاب باستغراب : - "قصتي أنا ..؟" وأبتسم بفم مغلق . وكأن شيئا لم يكن ، قلت له: - "نعم .. والغلاف يحمل صورتك .. أنظر .." كانت كلماتي تذهب ادراج الريح .. فلم يثره الكتاب .. ولا الصورة .. ولا العنوان الغريب.. فسألته: - "اذا ً.. أنت تخليت عن الرجل القديم..؟ " لم يجب الا بعد قليل : - "انك، ياسيدي، تتحدث عن أشياء لا أعرفها .." - "ولكن الكتاب يسرد قصتك .." أبتسم مرة ثانية . وبالأسلوب نفسه ، قال: ـ "وماهي علاقتي بهذا كله؟ " ولم يتابع.. وفي الواقع شغلني الكتاب.. فرحت التهم الكلمات إلتهاماً كما يقال .. حتى أنني عندما كنت أريد أن أقول له" أيها الانسان الخارق.. الفذ.." لم اره يجلس امامي .. نهضت .. وسألت عنه.. فقال صاحب المقهى : - " غادر.." - "متى؟" - "منذ ساعة .. تقريبا." عدت الى الجلوس .. وكنت أطالع بسرعة .. غير مصدق اني أتعرف على الشخص ذاته الذي لم يلفت نظرنا طوال ربع قرن.. ولم أنم في تلك الليلة .. وبعد أن فرغت من الكتاب غادرت الدار صباحاً .. ذهبت الى دائرة السيد "س".. وعندما سألت عنه.. قالت موظفة الاستعلامات.. ـ " لقد سافر.. قبل نصف ساعة .." صمت ، أو هكذا كان الانفعال يدفعني : - "الى اين؟" - "لا أحد يعرف!" - "لا أحد يعرف.. كيف؟" فقالت بهدوء : - "هل هو مدين لك ام ..؟" قاطعتها: - "كلا.." ووضعت الكتاب أمامها .. فقالت باستغراب : - "عجيب .. أنه هو نفسه.. السيد.. ولم نكن نعرف ذلك.." قلت بيأس : - "والآن أريد أن أراه .." قالت باستسلام: - "لقد قدم استقالته .. وترك العمل .. ومن دون رجعة .. فهو من الذين لايترددون في التنفيذ ." عندما وصلت الى باب داره، كان الرجل قد غادر مدينتنا ، والى الابد .. أما أنا فكنت أعود إلى هذا الكتاب ، وأتذكر قصة اغرب رجل عاش معنا ، وكان نسياً منسيا! .
لم يكن معروفا في مدينتنا، منذ نقل إليها كموظف حكومي في احد الدوائر المغمورة . قبل ربع قرن، بل حتى اسمه لم يكن معروفا ولهذا لم يحمل أي اثر محدد. وفي الواقع لم يكن الرجل شخصية غريبة . او لافتة للنظر ، فشكله العام لا يثير الفضول او الاستغراب. كان يذهب إلى عمله في الصباح. ويعود قبيل العصر، ولا يغادر بيته. إلا مرة واحدة في الأسبوع. يذهب فيها إلى المقهى. كما انه صار جزءا من أسرار مدينتنا أو تقليدا ً من تقاليدنا.. ولهذا لم تثر حياته الخاصة انتباه السكان. وفي واقع الأمر فإن حياة الرجل كانت تبدو هادئة ، بل تمتاز بالبساطة وعدم إثارة الشكوك. فعلى الرغم من أنه لم يتزوج، ولم تكن له علاقة بالآخرين، فانه لم يكن يثير الأسئلة . فلا احد سمع انه تحدث في قضية. أو جادل، أو تفوه بكلمة نابية. كان يسير من البيت إلى الدائرة في الذهاب كما في الاياب . بهدوء. وبخطوات محسوبة.. وعلى الرغم من الأحداث التي وقعت منذ ربع قرن. فان الرجل لم يتدخل في شؤون المدينة . ولا في احوال الناس. ومثل هذا السلوك . في الواقع، كان من المقرر ان يلفت الانظار، لكن احدا لم يكن ينتبه له، في السلب او في الإيجاب.. لم نره يدخن ..أو يذهب إلى مكان مشبوه. وكان عندما يتعرض الى سؤال، يجد بسهولة. طريقة يختصر بها الاجابة. فلم نره يدخل في حوار طويل، او معقد ، كما ان الابتسامة لم تفارقه بل حتى تلك الابتسامة كانت في حدود المعقول. باختصار انه لم يكن يترك أثرا عند من شاهده، أو عرفه ، أية ذكرى ولم ينكر، أقرب المقربين اليه، في محاولة لفك أسراره. فقد قيل أنه يؤدي واجباته الوظيفية على نحو ممتاز، وانه لم يتعرض الى عقوبة تذكر.. كما لم يرتفع صوته اعلى من أي صوت آخر كان حليق اللحية على الدوام، لايشكو من الامراض ، فلا أحد سمع او عرف أنه راجع المستشفى أو اشتكى من مرض. وأنا شخصيا ضمن عملي الخاص لم أفكر في حل طلسمات الرجل. لا لاني كنت أفكر في تغيير حياته الشخصية ، بل لاني لم أجد مايثير التأمل… أو الاستغراب.. وربما لايستطيع ، كل من عرفه، أن يتكلم أو يصفه بأكثر مما فعلت. أي ان وجوده وعدمه كانا متساويين فلا توجد في حياته المعلنة استثناءات.. لم نعرف انه تفوه بطرفة .. أو روى حكاية.. أو سأل سؤالا غريبا ، كما كان يعيش حياته في عزلة شبه مطلقة ، حتى اعتدنا عليها، بمرور الأيام ، وغدت مألوفة كأشياء أخرى لا تحصى تعد نسيا منسياً. اني ، وبلا أسباب محددة، كنت أشعر بالحزن له.. ولإسباب لاتحصى ، حاولت أن لاأتدخل في سلوكه..وهي حقيقة جعلتني أراه عن بعد. بلا فضول . ولا محاولة للدخول في تفاصيل حياته . كنت شارد الذهن بهؤلاء الغرباء في قراراتهم أو افكارهم الخاصة.. وهي صفة لازمتني منذ الصغر.. ومع ذلك، فقد كنت أكتم، بدقة وعناية ، كل التفاصيل الدقيقة التي تخص أفكاري ومشاعري تجاه الأشياء . ولهذا السبب لم أجد فيه ما يثير التعجب، أو الخيال ، ثم أني بعد ربع قرن من مشاهدتي له، صرت لا أثار أو استفز بسهولة، فأنا مثل لاعب الشطرنج، الذي يسجل نقلته، ثم يقوم بالنقلة بعد تفحص الاحتمالات الأخيرة .. فالجسد لا يحتمل الأخطاء، مثلما النفس غير قادرة على تحمل الصدمات، بإيجاز سردت هذه الملاحظات، بدافع آخر، وفي لمحة بصر. ففي ذات يوم بارد، بعد الغروب، وقع نظري على كتاب في المكتبة المجاورة للمقهى .. لفت نظري بشدة.. أي غلاف الكتاب في الأقل.. فنهضت وتفحصت الكتاب .. كان الرسم الذي غطى الغلاف الأول يعود للسيد "س " .. إنه هو تماما .. وكأن ملامحه لن تتغير.. ولا لون بشرته.. إنه هو تماماً .. وقد كتب في أعلى الصفحة ، بعنوان كبير، بلون أحمر صارخ [ذكرياتي مع أخطر رجل في العالم] لم أكن أصدق ما أرى .. فالسيد "س" لم يكن سوى شجرة في غابة.. فهل يمكن أن يكون ، كما ورد في عنوان الكتاب أخطر رجل في العالم؟ اقتربت منه، ووضعت الكتاب امامه.. حدق فيه لبرهة .. ثم قال بصوت خافت .. ـ " وماذا في الامر؟ " قلت بسرعة : - "انها قصة أخطر رجل في العالم .." - "وماهو الغريب في الامر ..؟" - "إنها قصتك أنت.. ايها السيد العجيب .." أجاب باستغراب : - "قصتي أنا ..؟" وأبتسم بفم مغلق . وكأن شيئا لم يكن ، قلت له: - "نعم .. والغلاف يحمل صورتك .. أنظر .." كانت كلماتي تذهب ادراج الريح .. فلم يثره الكتاب .. ولا الصورة .. ولا العنوان الغريب.. فسألته: - "اذا ً.. أنت تخليت عن الرجل القديم..؟ " لم يجب الا بعد قليل : - "انك، ياسيدي، تتحدث عن أشياء لا أعرفها .." - "ولكن الكتاب يسرد قصتك .." أبتسم مرة ثانية . وبالأسلوب نفسه ، قال: ـ "وماهي علاقتي بهذا كله؟ " ولم يتابع.. وفي الواقع شغلني الكتاب.. فرحت التهم الكلمات إلتهاماً كما يقال .. حتى أنني عندما كنت أريد أن أقول له" أيها الانسان الخارق.. الفذ.." لم اره يجلس امامي .. نهضت .. وسألت عنه.. فقال صاحب المقهى : - " غادر.." - "متى؟" - "منذ ساعة .. تقريبا." عدت الى الجلوس .. وكنت أطالع بسرعة .. غير مصدق اني أتعرف على الشخص ذاته الذي لم يلفت نظرنا طوال ربع قرن.. ولم أنم في تلك الليلة .. وبعد أن فرغت من الكتاب غادرت الدار صباحاً .. ذهبت الى دائرة السيد "س".. وعندما سألت عنه.. قالت موظفة الاستعلامات.. ـ " لقد سافر.. قبل نصف ساعة .." صمت ، أو هكذا كان الانفعال يدفعني : - "الى اين؟" - "لا أحد يعرف!" - "لا أحد يعرف.. كيف؟" فقالت بهدوء : - "هل هو مدين لك ام ..؟" قاطعتها: - "كلا.." ووضعت الكتاب أمامها .. فقالت باستغراب : - "عجيب .. أنه هو نفسه.. السيد.. ولم نكن نعرف ذلك.." قلت بيأس : - "والآن أريد أن أراه .." قالت باستسلام: - "لقد قدم استقالته .. وترك العمل .. ومن دون رجعة .. فهو من الذين لايترددون في التنفيذ ." عندما وصلت الى باب داره، كان الرجل قد غادر مدينتنا ، والى الابد .. أما أنا فكنت أعود إلى هذا الكتاب ، وأتذكر قصة اغرب رجل عاش معنا ، وكان نسياً منسيا! .
هناك تعليقان (2):
شكراً ع الموضوع .... :)
Thanks for it .. I hope the new Topic is always
إرسال تعليق