(1) ليس لأنه لم يغادر مدينته منذ ولد فيها، قبل أكثر من نصف قرن، وإنما لأنه، وهو يقلب في صفحات الكلام، لم يعد يجد فارقا بين الدنيا خارج حدود مدينته أو داخلها؛ فقد كان الشيخ، وهذا ما عرف به منذ زمن بعيد ، قد حل ضيفا على هذا الزمن، الامر الذي جعله لا يجادل في الصواب أو الأغلاط، ولا يحزن أو يفرح لشؤون الأيام، حتى قيل انه كان متصوفا أو زاهدا أو تقيا، ولم يكن الشيخ يهمه من هذا الامر هذا شيئا.. بل كان يبتسم ابتسامة متوازنة مع ما ترد عليه من أفكار وأحوال ، وهو ذا يواجه أمر اخلاء المدينة، بسبب شائعات الأعداء وإنذار نشوب الحرب، بابتسامة وكلمات موجزة .. فقال انه سيحافظ على خريطة المدينة.. ويحرسها من الظلام. وقال أن الموت خارج المدينة لايختلف عنه في داخلها.. ثم انه – دار بخلده – لم يعد يأبه بمثل هذه القضايا ، أو ينبش اسئلتها القديمة . (2) وكان وحيدا يصغي لصمت الشوارع وسكون الريح وهو يستذكر تاريخ مدينته وكم تولع بها منذ فتوته ، وبعد ذلك، راح لايميز بين حياته وحياة كل جزء من اجزائها ، حتى انه حسب الحياة خارجها محض عدم، وان القدر اختار المدينة له وانه هو الذي اختار هذا القدر.. وكان يشعر ببعض الالم وهو يستعيد مشاهد الناس وقد اصابهم الفزع والارتباك، ابناءه وأحفاده والاهل جميعا غادروا بعربة كبيرة ، وهو لايعترض على ذلك ، لانه كان لايريد لاحد ان يعترض عليه ، كانت مشاهد القوافل المهاجرة تمر من امامه مثلما في فلم، تمر سريعة، خاطفة ، لتترك مثل هذه الاسترجاعات البصرية . بيد أنه سرعان ما عاد يوازن بين فناء الاشياء في كل مكان وفي المكان الذي يقف فيه وعليه. فهو لايشعر بشقاء الزوالات أو يترجى شيئا ما كبيرا لما سيأتي.. وقد إعتاد ، مع نفسه على الاقل، الا يفضّل كفه أمر على أمر، ولايعني هذا أنها متساوية تماما، إلا في حدود أنها وقعت وأنتهى زمنها. أبتسم للاشيء .. ودفع بجسده النحيل متجولا وحيدا يحدق في الابواب نصف المشرعة والمغلقة وفي الاشجار شاما رائحة حياة كانت تعج بها المدينة قبل يوم وقبل ساعات فقط.. صخب وضجة المدينة الذي كان يترك عنده، في باديء الامر، ارتباكا، ثم، أحساسا بالاطمئنان المستحيل . وقد حسم الشيخ مشاكله عندما كف عن طلب أي شيء ، أو إنتظار أحد او لا احد..حسم امره وكأنه يعيش ماضيه المكون في الاتي من السنين والايام.. ذلك كله جعله يميل لكفة الفرح دون اعلانه او المباهاة بالمسرات.. فالاحتفالات التي طالما اقامها في داخله لم يعلنها ولم تكن مثار غرور او كبرياء، فقد كان مستسلماً لجريان النهر، هذا الذي ، قال في نفسه، توقف الآن. (3) إنها لكارثة أو غمامة بلا لون لو تحولت المدينة الى أعمدة وهياكل خربة، لا لاي سبب الا لان الحياة غدت مستحيلة بعيدا عن لعنة الدمار وقلب الموازين.. وكاد يعثر على بارقة أمل للذي سيقع ، إنما أدرك أن الذي سيقع قد وقع وليس عليه إلا ان يقوم بالدور ذاته الذي قام به في زمنه القديم، أن احدا لم يصدقه لكلامه ! وهو عمليا لم يكن ليفكر باقناع احد او بالدفاع عن تصوراته.. انما وجد نفسه مستسلما للذة لا علاقة لها باحد.. بل ولا علاقة لها به شخصيا.. كما قال، وهو يتوقف أمام النهر يرسل نظراته الى الضفة الاخرى.. مدينة بلا ضجة ولا أصوات ولا عراك ولا عويل.. ليس سوى الأشجار وبعض الكلاب تتجول غير مكترثة لأمر الإخلاء ، كانت الشمس تغادر بأشعتها الحمراء وقد حجبت الغيوم بعضها.. وبدأت المدينة تغرق وتتلون بألوان الليل .. ثم سرعان ما انتشر الظلام في كل مكان باستثناء النجوم ترسل لمعان بريقها الفضي المنعكس فوق أمواج النهر. جلس الشيخ تحت شجرة كبيرة يسترجع تاريخ مدينته ، المهددة بحسب ما قالوا ، بالدمار والزوال .. وهو الذي أمن عميقا ان القدر يخفي ما هو أبعد من أي تفسير أو تدبير.. ولم يغف طوال الليل ، ذلك بسبب إنشغاله بلا شيء، بلا هذا اللاشيء المقدس الذي جعله لايتمسك بشيء من الاشياء ، ويعثر على موازنات خاصة به، دفعته لمثل هذا الاختيار .. ولم يخف فزعه لسماع صوت طائرة ، إنما ، بعد لحظات ، عادت اليه السكينة ، فثمة أفكار طالما راودته وهو لا يرى ، لا في مدينته ولا في المدن الاخرى، لا في الارض ولا في أي مكان آخر، الا حركة ماضية متداخلة تكتم سرها داخلها تخص فناء الاشياء وتحولاتها. لم يفزع للمشهد المبهم هذا.. ذلك لانه غدا كالقانون عنده.. انما اختفى الصوت، مع بدء الفجر، فصلى.. وشرب من ماء النهر.. وحزن قليلاً.. بسبب الوحدة او ، ربما ، لان المدينة مكثت يوما اخر يضاف لزمنها الذي سيزول في يوم من الايام.. يوم آخر.. اذن.. كذلك دار بخاطره .. يضاف لهذا اللاشيء العجيب الذي جعل عجلة الحياة تدور وتدور، دون ان يدرك احد، ان هذه العجلة ، ستدور بمن يمسك بها. إنها تماثل جهنم وهي بانتظار المزيد.. ثم أرسل نظره الى الجهات.. كلها لا أحد.. فالحياة الصاخبة أخلت مكانها لهذا الصمت.. هذا الصمت الذي راح يتوغل في اعماقه ، مفجراً خواطر غامضة لم تمر به من قبل .. فقد نهض، وعزم ان يذهب ويزور المقبرة.. ويذهب الى قبر والده وجده والاسلاف .. هناك، ولا يعرف أية قوة غريبة سحرية كانت تدفعه، ليسير كأنه في واجب ، غير مكترث للمدينة ولا للخطر الذي تتعرض له، حيث كان لايفكر الا بالوصول الى هناك.. رفع رأسه قليلا وكاد يفزع لامتداد المقبرة شرقا باتجاه الصحراء، الامتداد مع الافق اللانهائي لولا انه استدار باتجاه مقبرة العائلة، سار ببطء وهو يستدل هجرة سكان المدينة بموتهم ودفنهم كل في مكانه المخصص له في الارض الرملية الفسيحة. وتخيل المدينة وقد انتزعت من مكانها ولم تعد الا خرائب تمر بها الريح وتنعق فيها البوم.. تقدم بتكاسل شاعراً باقصى درجات العزلة.. وعبثا كان قد أمضى حياته من أجل اللاشيء الذي طالما سحره وقدسه في الاخير…اللاشيء الذي هو كل الاشياء، ذلك الذي أعاد له التوازن بين أهدافه، ووسائله، بين الباطل والباطل وهو يرى المستقبل برمته محض ماض مؤجل في الذهن بينما هو أخذ مكانه في الزمن القديم.. وتوقف عند مقبرة العائلة، ليسترجع انفاسه، ويسبح بحمد الله أن المدينة مازالت قائمة، وانها لم تتعرض للدمار، إنما ماذا يعني ذلك وأنا الآن وحيد مع الموتى مثلما كنت وحيداً مع الأحياء؟ وجلس عند قبر والده ، وحدق ، من وراء القبر، حيث يرقد جده، والأسلاف ، فهنا، قال في نفسي، تجمدت الحياة مثلما ستأخذ مكاننا معهم: لكنه لم يسترسل ، فقد سبق له وحسم الامر وما عاد الموت مصدر فزع أو مثار مشاعر عابرة،إنما كان، دون إرادة منه، يفكر في المدينة ومصيرها ، ومصائر سكانها وهم يتنقلون من مكان الى آخر. تذكر تلك الساعات العصيبة حيث كانت القوافل تغادر المدينة ، والناس في اقصى درجات الفوضى والارتباك بحثا عن وسيلة نقل تنقلهم بعيدا عن خطر الفناء.. وتهديدات الاعداء بنسف المدينة وتخريبها . تذكر انه لم يغادر المدينة ولن يغادرها.. أما الآن، وهو يمسك بتراب الارض المخصص له، كما يعلم ، فقد أنشغل بسؤال أربكه قليلاً: هل أنقل عظامكم ياأيها الاهل.. ياابي وياجدي ويا أسلافي وأغادر.. هاربا من الارض التي خرجت منها، الى البعيد.. ام اترك عظامي تستقر الى جانبكم .. هنا.. لنبدأ في حوار طويل من الصمت الذي لانعرف شيئا ما محددا عنه..؟ وقال : أأغادر بكم ام استقر الى جانبكم ، في عزلتي؟ كان الشيخ يستعيد ذكرى تعود الى زمن موغل قديم حيث كان الناس، عند الكوارث، يهرعون الى مقابرهم ، فيحملون عظام الصالحين ويهربون بها لكي لاتمسها مخالب الكارثة، ثم بعد ذلك، بعد زوال البلية والمحنة، يعودون بها، ويعيدونها حيث مكانها الاول. قال بصوت مشوش ، انما انا سأذهب بكم حيث الاعداء ينتشرون في كل مكان.. فالى اين .. سأذهب ..بكم؟ ورفع حفنة من التراب وهو، بلا شعور منه، بدأ يحفر حفرته المخصصة له في مقبرة العائلة : اذن.. دار بخاطره، سأحفر لي مستقرا واستقر.. فاذا جاء الموت.. فلن تدكدكني اقدام الاعداء.. متخيلا المدينة محض خرائب واعمدة واطلال وريح صرصر تمر بها واصوات مبهمة تتركها الفصول لتندرس في الاخير الاشياء كلها وتتساوى كأنها هي الاخرى مثل مقبرة توحدت فيها الاجساد بالرمل وتلاشت الامال والمسرات ومسحت آثار الاسماء من الاسماء والتاريخ تم محوه. تخيل ذلك المشهد.. والسكان يتوزعون في بقاع الارض يتنقلون من مكان الى آخر بعد أن اضطروا لترك مساكنهم وديارهم وحتى مقابرهم. وفزع للصورة .. وتساءل بألم دفين ما إذا كانوا قد حملوا ماضيهم معهم أم ، هو الاخر تركوه؟ أي ماض.. وأي مستقبل كانوا ينشدون؟ وقال أنهم سيدفنون موزعين في اماكن متباعدة لا جامع يجمعها. لكنه قال أن الارض لم تعد كبيرة.. فمثلما ، في يوم ما ، ستتحول الى قرية كبيرة ، فأن المقبرة هي الاخرى، واحدة وسيرقد فيها الجميع. ولم ترق له الفكرة .. فقد كان يفكر بنقل عظام ذويه، ويحملها ويغادر المدينة.. الى أي مكان ، يخلو من شبح الموت والعزلة ، ورعب الصمت الذي راح يحرك خياله باضطراب. قال انها المرة الاولى التي يكون فيها وحيدا في المدينة، والاولى التي يكون فيها في هذا المكان..متصورا ان سكان المدينة قد هلكوا جميعا.. فما الفارق بين غيابهم في الهجرةاو في الموت. وبدأ يحفر، مسرعا تارة .. وبلا مبالاة تارة اخرى. فأنا اعرف اني ساصبح هزأة لو حملتكم في كيس وهاجرت بكم.. ماذا سأقول لسكان هذا العصر..؟ الناس يفكرون بالحياة وأنا لا أفكر إلا بشيء آخر أكاد اجهله تمام الجهل .. ثم الى أين سأذهب . المجهول.. في كل مكان.. هو المجهول.. ومثل هذا الامر كان قد حسم قبل أن أولد، وبعد أن أكون في عداد الراحلين. وحفر.. كأنه لايريد ان يرى زوال مدينته امام ناظريه، حيث هو الوحيد الذي سيتعرض للهلاك ، بعد أن غادر السكان الى البعيد.. وراح يتحدث، ساخرا، مع نفسه، موجها كلامه الى والده والاجداد: انها لعبة طريفة أذن .. يهربون مع موتهم ، والى الموت.. مثلما هربتم انتم الى ارضكم.. فما هو الفارق في الاخير، ايها الاجداد.. ما الفارق بين من سيموت ومن مات ومن سيولد ليموت ومن يموت دون ولادة؟ ما الفارق بين وهم ووهم آخر.. اليس كل ما تحت الصفر صفر .. وكل مابعد الواحد واحد؟ آه. ذلك لانه لم يبح بافكاره لاحد. وها هي مناسبة لن تتكرر تتيح له الكلام: اليكم.. اليكم ايها الاجداد .. الواحد بعد الآخر.. الواحد الذي ترك للآخر ثقل هذا الموت المخيم علينا اليوم .. وهو ذا المصير. كان كل منكم يذهب الى الموت تاركا ذنوبه للآخر، كوصية ازلية ، كوصية سرعان ما تتحول الى اسطورة بلهاء نحملها معنا في الصمت وفي الكلام. وصية ان ندفن مع انفسنا وصايانا ولا نترك منها الا ما هو ثقيل مزر مكدر بلا فائدة ولا نفع.. ثم سمع اصوات إنفجارات .. فرفع رأسه بتثاقل، وحدق في اماكن مختلفة.آنذاك توقف عن الحفر.. محاولا أن يتخلص من الحفرة التي حفرها بيده.. محاولا أن يتخلص من الحفرة التي حفرها بيده، بلا جدوى.. وعاد يستمع الى الدوي يهز الارض : إنهم يطلقون النار على الموتى . وقال : كان علي أن أحمل عظامكم وأهرب ..أذا ً .. وقال: ولكنها كانت ثقيلة وأنا لا طاقة لي على عمل ذلك. الا انه، وهو مشغول الفكر، أيقن أن أجداده، في مثل هذه ا لاوقات العصيبة ، وفي مثل هذه الكوارث، ما كانوا يغادرون المدينة، وراح ، بين الحياة والموت، يستمع الى أصواتهم ونداءاتهم وهمسهم الآتي من البعيد ممتزجا باصوات الانفجارات وبازيز مرور الطائرات المرتفعة عاليا عاليا في اعالي السماء. كان يعرف انه لايستطيع ان يسقط طائرة واحدة منها، الا انه لا يعرف بالضبط ما الذي كان يفزعهم ، هذا الفزع كله، ليطلقوا النار على لا أحد: علينا نحن الموتى ! وسخر متمتماً بصمته وهو يردد : على المنتصر أن يسير في جنازته، حاملا عظامه معه الى المجهول. 1991
الخميس، 5 يوليو 2012
قصة قصيرة-الشيخ والمدينة-عادل كامل
(1) ليس لأنه لم يغادر مدينته منذ ولد فيها، قبل أكثر من نصف قرن، وإنما لأنه، وهو يقلب في صفحات الكلام، لم يعد يجد فارقا بين الدنيا خارج حدود مدينته أو داخلها؛ فقد كان الشيخ، وهذا ما عرف به منذ زمن بعيد ، قد حل ضيفا على هذا الزمن، الامر الذي جعله لا يجادل في الصواب أو الأغلاط، ولا يحزن أو يفرح لشؤون الأيام، حتى قيل انه كان متصوفا أو زاهدا أو تقيا، ولم يكن الشيخ يهمه من هذا الامر هذا شيئا.. بل كان يبتسم ابتسامة متوازنة مع ما ترد عليه من أفكار وأحوال ، وهو ذا يواجه أمر اخلاء المدينة، بسبب شائعات الأعداء وإنذار نشوب الحرب، بابتسامة وكلمات موجزة .. فقال انه سيحافظ على خريطة المدينة.. ويحرسها من الظلام. وقال أن الموت خارج المدينة لايختلف عنه في داخلها.. ثم انه – دار بخلده – لم يعد يأبه بمثل هذه القضايا ، أو ينبش اسئلتها القديمة . (2) وكان وحيدا يصغي لصمت الشوارع وسكون الريح وهو يستذكر تاريخ مدينته وكم تولع بها منذ فتوته ، وبعد ذلك، راح لايميز بين حياته وحياة كل جزء من اجزائها ، حتى انه حسب الحياة خارجها محض عدم، وان القدر اختار المدينة له وانه هو الذي اختار هذا القدر.. وكان يشعر ببعض الالم وهو يستعيد مشاهد الناس وقد اصابهم الفزع والارتباك، ابناءه وأحفاده والاهل جميعا غادروا بعربة كبيرة ، وهو لايعترض على ذلك ، لانه كان لايريد لاحد ان يعترض عليه ، كانت مشاهد القوافل المهاجرة تمر من امامه مثلما في فلم، تمر سريعة، خاطفة ، لتترك مثل هذه الاسترجاعات البصرية . بيد أنه سرعان ما عاد يوازن بين فناء الاشياء في كل مكان وفي المكان الذي يقف فيه وعليه. فهو لايشعر بشقاء الزوالات أو يترجى شيئا ما كبيرا لما سيأتي.. وقد إعتاد ، مع نفسه على الاقل، الا يفضّل كفه أمر على أمر، ولايعني هذا أنها متساوية تماما، إلا في حدود أنها وقعت وأنتهى زمنها. أبتسم للاشيء .. ودفع بجسده النحيل متجولا وحيدا يحدق في الابواب نصف المشرعة والمغلقة وفي الاشجار شاما رائحة حياة كانت تعج بها المدينة قبل يوم وقبل ساعات فقط.. صخب وضجة المدينة الذي كان يترك عنده، في باديء الامر، ارتباكا، ثم، أحساسا بالاطمئنان المستحيل . وقد حسم الشيخ مشاكله عندما كف عن طلب أي شيء ، أو إنتظار أحد او لا احد..حسم امره وكأنه يعيش ماضيه المكون في الاتي من السنين والايام.. ذلك كله جعله يميل لكفة الفرح دون اعلانه او المباهاة بالمسرات.. فالاحتفالات التي طالما اقامها في داخله لم يعلنها ولم تكن مثار غرور او كبرياء، فقد كان مستسلماً لجريان النهر، هذا الذي ، قال في نفسه، توقف الآن. (3) إنها لكارثة أو غمامة بلا لون لو تحولت المدينة الى أعمدة وهياكل خربة، لا لاي سبب الا لان الحياة غدت مستحيلة بعيدا عن لعنة الدمار وقلب الموازين.. وكاد يعثر على بارقة أمل للذي سيقع ، إنما أدرك أن الذي سيقع قد وقع وليس عليه إلا ان يقوم بالدور ذاته الذي قام به في زمنه القديم، أن احدا لم يصدقه لكلامه ! وهو عمليا لم يكن ليفكر باقناع احد او بالدفاع عن تصوراته.. انما وجد نفسه مستسلما للذة لا علاقة لها باحد.. بل ولا علاقة لها به شخصيا.. كما قال، وهو يتوقف أمام النهر يرسل نظراته الى الضفة الاخرى.. مدينة بلا ضجة ولا أصوات ولا عراك ولا عويل.. ليس سوى الأشجار وبعض الكلاب تتجول غير مكترثة لأمر الإخلاء ، كانت الشمس تغادر بأشعتها الحمراء وقد حجبت الغيوم بعضها.. وبدأت المدينة تغرق وتتلون بألوان الليل .. ثم سرعان ما انتشر الظلام في كل مكان باستثناء النجوم ترسل لمعان بريقها الفضي المنعكس فوق أمواج النهر. جلس الشيخ تحت شجرة كبيرة يسترجع تاريخ مدينته ، المهددة بحسب ما قالوا ، بالدمار والزوال .. وهو الذي أمن عميقا ان القدر يخفي ما هو أبعد من أي تفسير أو تدبير.. ولم يغف طوال الليل ، ذلك بسبب إنشغاله بلا شيء، بلا هذا اللاشيء المقدس الذي جعله لايتمسك بشيء من الاشياء ، ويعثر على موازنات خاصة به، دفعته لمثل هذا الاختيار .. ولم يخف فزعه لسماع صوت طائرة ، إنما ، بعد لحظات ، عادت اليه السكينة ، فثمة أفكار طالما راودته وهو لا يرى ، لا في مدينته ولا في المدن الاخرى، لا في الارض ولا في أي مكان آخر، الا حركة ماضية متداخلة تكتم سرها داخلها تخص فناء الاشياء وتحولاتها. لم يفزع للمشهد المبهم هذا.. ذلك لانه غدا كالقانون عنده.. انما اختفى الصوت، مع بدء الفجر، فصلى.. وشرب من ماء النهر.. وحزن قليلاً.. بسبب الوحدة او ، ربما ، لان المدينة مكثت يوما اخر يضاف لزمنها الذي سيزول في يوم من الايام.. يوم آخر.. اذن.. كذلك دار بخاطره .. يضاف لهذا اللاشيء العجيب الذي جعل عجلة الحياة تدور وتدور، دون ان يدرك احد، ان هذه العجلة ، ستدور بمن يمسك بها. إنها تماثل جهنم وهي بانتظار المزيد.. ثم أرسل نظره الى الجهات.. كلها لا أحد.. فالحياة الصاخبة أخلت مكانها لهذا الصمت.. هذا الصمت الذي راح يتوغل في اعماقه ، مفجراً خواطر غامضة لم تمر به من قبل .. فقد نهض، وعزم ان يذهب ويزور المقبرة.. ويذهب الى قبر والده وجده والاسلاف .. هناك، ولا يعرف أية قوة غريبة سحرية كانت تدفعه، ليسير كأنه في واجب ، غير مكترث للمدينة ولا للخطر الذي تتعرض له، حيث كان لايفكر الا بالوصول الى هناك.. رفع رأسه قليلا وكاد يفزع لامتداد المقبرة شرقا باتجاه الصحراء، الامتداد مع الافق اللانهائي لولا انه استدار باتجاه مقبرة العائلة، سار ببطء وهو يستدل هجرة سكان المدينة بموتهم ودفنهم كل في مكانه المخصص له في الارض الرملية الفسيحة. وتخيل المدينة وقد انتزعت من مكانها ولم تعد الا خرائب تمر بها الريح وتنعق فيها البوم.. تقدم بتكاسل شاعراً باقصى درجات العزلة.. وعبثا كان قد أمضى حياته من أجل اللاشيء الذي طالما سحره وقدسه في الاخير…اللاشيء الذي هو كل الاشياء، ذلك الذي أعاد له التوازن بين أهدافه، ووسائله، بين الباطل والباطل وهو يرى المستقبل برمته محض ماض مؤجل في الذهن بينما هو أخذ مكانه في الزمن القديم.. وتوقف عند مقبرة العائلة، ليسترجع انفاسه، ويسبح بحمد الله أن المدينة مازالت قائمة، وانها لم تتعرض للدمار، إنما ماذا يعني ذلك وأنا الآن وحيد مع الموتى مثلما كنت وحيداً مع الأحياء؟ وجلس عند قبر والده ، وحدق ، من وراء القبر، حيث يرقد جده، والأسلاف ، فهنا، قال في نفسي، تجمدت الحياة مثلما ستأخذ مكاننا معهم: لكنه لم يسترسل ، فقد سبق له وحسم الامر وما عاد الموت مصدر فزع أو مثار مشاعر عابرة،إنما كان، دون إرادة منه، يفكر في المدينة ومصيرها ، ومصائر سكانها وهم يتنقلون من مكان الى آخر. تذكر تلك الساعات العصيبة حيث كانت القوافل تغادر المدينة ، والناس في اقصى درجات الفوضى والارتباك بحثا عن وسيلة نقل تنقلهم بعيدا عن خطر الفناء.. وتهديدات الاعداء بنسف المدينة وتخريبها . تذكر انه لم يغادر المدينة ولن يغادرها.. أما الآن، وهو يمسك بتراب الارض المخصص له، كما يعلم ، فقد أنشغل بسؤال أربكه قليلاً: هل أنقل عظامكم ياأيها الاهل.. ياابي وياجدي ويا أسلافي وأغادر.. هاربا من الارض التي خرجت منها، الى البعيد.. ام اترك عظامي تستقر الى جانبكم .. هنا.. لنبدأ في حوار طويل من الصمت الذي لانعرف شيئا ما محددا عنه..؟ وقال : أأغادر بكم ام استقر الى جانبكم ، في عزلتي؟ كان الشيخ يستعيد ذكرى تعود الى زمن موغل قديم حيث كان الناس، عند الكوارث، يهرعون الى مقابرهم ، فيحملون عظام الصالحين ويهربون بها لكي لاتمسها مخالب الكارثة، ثم بعد ذلك، بعد زوال البلية والمحنة، يعودون بها، ويعيدونها حيث مكانها الاول. قال بصوت مشوش ، انما انا سأذهب بكم حيث الاعداء ينتشرون في كل مكان.. فالى اين .. سأذهب ..بكم؟ ورفع حفنة من التراب وهو، بلا شعور منه، بدأ يحفر حفرته المخصصة له في مقبرة العائلة : اذن.. دار بخاطره، سأحفر لي مستقرا واستقر.. فاذا جاء الموت.. فلن تدكدكني اقدام الاعداء.. متخيلا المدينة محض خرائب واعمدة واطلال وريح صرصر تمر بها واصوات مبهمة تتركها الفصول لتندرس في الاخير الاشياء كلها وتتساوى كأنها هي الاخرى مثل مقبرة توحدت فيها الاجساد بالرمل وتلاشت الامال والمسرات ومسحت آثار الاسماء من الاسماء والتاريخ تم محوه. تخيل ذلك المشهد.. والسكان يتوزعون في بقاع الارض يتنقلون من مكان الى آخر بعد أن اضطروا لترك مساكنهم وديارهم وحتى مقابرهم. وفزع للصورة .. وتساءل بألم دفين ما إذا كانوا قد حملوا ماضيهم معهم أم ، هو الاخر تركوه؟ أي ماض.. وأي مستقبل كانوا ينشدون؟ وقال أنهم سيدفنون موزعين في اماكن متباعدة لا جامع يجمعها. لكنه قال أن الارض لم تعد كبيرة.. فمثلما ، في يوم ما ، ستتحول الى قرية كبيرة ، فأن المقبرة هي الاخرى، واحدة وسيرقد فيها الجميع. ولم ترق له الفكرة .. فقد كان يفكر بنقل عظام ذويه، ويحملها ويغادر المدينة.. الى أي مكان ، يخلو من شبح الموت والعزلة ، ورعب الصمت الذي راح يحرك خياله باضطراب. قال انها المرة الاولى التي يكون فيها وحيدا في المدينة، والاولى التي يكون فيها في هذا المكان..متصورا ان سكان المدينة قد هلكوا جميعا.. فما الفارق بين غيابهم في الهجرةاو في الموت. وبدأ يحفر، مسرعا تارة .. وبلا مبالاة تارة اخرى. فأنا اعرف اني ساصبح هزأة لو حملتكم في كيس وهاجرت بكم.. ماذا سأقول لسكان هذا العصر..؟ الناس يفكرون بالحياة وأنا لا أفكر إلا بشيء آخر أكاد اجهله تمام الجهل .. ثم الى أين سأذهب . المجهول.. في كل مكان.. هو المجهول.. ومثل هذا الامر كان قد حسم قبل أن أولد، وبعد أن أكون في عداد الراحلين. وحفر.. كأنه لايريد ان يرى زوال مدينته امام ناظريه، حيث هو الوحيد الذي سيتعرض للهلاك ، بعد أن غادر السكان الى البعيد.. وراح يتحدث، ساخرا، مع نفسه، موجها كلامه الى والده والاجداد: انها لعبة طريفة أذن .. يهربون مع موتهم ، والى الموت.. مثلما هربتم انتم الى ارضكم.. فما هو الفارق في الاخير، ايها الاجداد.. ما الفارق بين من سيموت ومن مات ومن سيولد ليموت ومن يموت دون ولادة؟ ما الفارق بين وهم ووهم آخر.. اليس كل ما تحت الصفر صفر .. وكل مابعد الواحد واحد؟ آه. ذلك لانه لم يبح بافكاره لاحد. وها هي مناسبة لن تتكرر تتيح له الكلام: اليكم.. اليكم ايها الاجداد .. الواحد بعد الآخر.. الواحد الذي ترك للآخر ثقل هذا الموت المخيم علينا اليوم .. وهو ذا المصير. كان كل منكم يذهب الى الموت تاركا ذنوبه للآخر، كوصية ازلية ، كوصية سرعان ما تتحول الى اسطورة بلهاء نحملها معنا في الصمت وفي الكلام. وصية ان ندفن مع انفسنا وصايانا ولا نترك منها الا ما هو ثقيل مزر مكدر بلا فائدة ولا نفع.. ثم سمع اصوات إنفجارات .. فرفع رأسه بتثاقل، وحدق في اماكن مختلفة.آنذاك توقف عن الحفر.. محاولا أن يتخلص من الحفرة التي حفرها بيده.. محاولا أن يتخلص من الحفرة التي حفرها بيده، بلا جدوى.. وعاد يستمع الى الدوي يهز الارض : إنهم يطلقون النار على الموتى . وقال : كان علي أن أحمل عظامكم وأهرب ..أذا ً .. وقال: ولكنها كانت ثقيلة وأنا لا طاقة لي على عمل ذلك. الا انه، وهو مشغول الفكر، أيقن أن أجداده، في مثل هذه ا لاوقات العصيبة ، وفي مثل هذه الكوارث، ما كانوا يغادرون المدينة، وراح ، بين الحياة والموت، يستمع الى أصواتهم ونداءاتهم وهمسهم الآتي من البعيد ممتزجا باصوات الانفجارات وبازيز مرور الطائرات المرتفعة عاليا عاليا في اعالي السماء. كان يعرف انه لايستطيع ان يسقط طائرة واحدة منها، الا انه لا يعرف بالضبط ما الذي كان يفزعهم ، هذا الفزع كله، ليطلقوا النار على لا أحد: علينا نحن الموتى ! وسخر متمتماً بصمته وهو يردد : على المنتصر أن يسير في جنازته، حاملا عظامه معه الى المجهول. 1991
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
هناك تعليق واحد:
دوماً موفقين ... وبأنتظار الجديد ..
إرسال تعليق