الخميس، 16 فبراير 2012
قصة قصيرة-عربـــةالحصان الميت- عادل كامل
قصة قصيرة
عربـــة
الحصان الميت
عادل كامل
(1)
لم يدر بخلدي قط أني سأقع في مثل هذا الموقف ،وهو، على أية حال، لايشكل تهمة فادحة ضد حياتي، أو مستقبلها في الأقل، فأنا أجر عربة منذ نصف قرن، تماما، بالدقة، وبحسب القواعد، وسأجرها،حتى آخر لحظة نبض يمتلكها جسدي الهزيل،ولست بصدد الحديث عن موقف شائك أو غريب، وإنما، وأنا أؤدي عملي اليومي المطلوب،شرد ذهني فجأة، لأسباب قد تكون واهية،مشاهدة حصان يقتل في ركن مظلم أو مشاهدة جثة ثور تحولت الى وليمة، فانا لم أعد أتأثر بمثل هذه المشاهد، أو سواها..فقد اعتدت أن أتقدم الى الأمام ..مثلما تفعل الخيول الأخرى، في الواقع لا أمتلك فكرة ما عن التراجع ..وهكذا أصبحت احمل أوزاري بيسر وطيب خاطر .ثم أنني لم أعد أتشكى أو أتحدث،لأي سبب من الأسباب، عن الجور أو المجاعة أو الأذى، كل ما في الأمر، أنني قررت الا أشعر بالندم، أو الحزن ويبدو لي أن العملية ليست شاقة أو مستحيلة،على الرغم من ان هناك حصانا قتل نفسه جوعا، بدل أن يجر عربة موتاه،أما أنا فلم يثر الموقف فيّ شيئا .لقد مت مرات لا تحصى حتى أعتدت مثل هذه الحياة الطريفة، فأنا في الواقع أمضي ساعات الضجر في تأمل ظلي؛ في تأملها حتى تختفي، ويعم الزريبة الظلام، فارقد، بلا أحلام، حتى فجر اليوم التالي .وأعتقد أن الخيول في عالمنا، باستثناء التي نالت مصادفات رفعتها الى المجد، قد أدركت هذا القانون، ومع ذلك، وأنا أستعيد زمني كله، لحظة اثر لحظة، لا أصف حياتي بالفشل! أو بالإخفاق درجة اللوعة. فقد كان عملي، في جر العربة، لا يدعو للرثاء، فالخيول، في عملها المختلف تتفق في النتيجة بل وحتى خيول الإمبراطوريات وكل خيول السيرك، وحدائق الحيوان، والمسابقات كلها تنسجم مع قدرها، ذلك الوضع الذي لاظلام ولا نور فيه ..وعلى الرغم من العقاب الذي نلته، منذ البدء، في كوني الحصان الذي رفض أن يكون حصانا، إلا أنني، وأنا في نهاية حياتي ، وبعد أن تهدمت أسناني، وصرت لا أميز بين الخرافة والواقع، أو بين الأوهام والحقائق، لا أريد إلا ان أبقى الحصان بكل صفاته،ولكن هذا الحلم غدا مستحيلا، فانا أعيش في مزرعة يعمل فيها عشرات الأمراء .وبدرجات مختلفة.. ولهذا عليّ أن أنفذ الأوامر بمحيا منشرح.. بعيدا عن آثار الحزن أو الكابة، وللحق تدرّبت جيدا في تنفيذ هذا الامر .. حتى صرت أجر العربة، بمرح، وتارة أٌخرى أتظاهر بالمسرة ..الامر الذي جعلني، سنة بعد سنة، لاأشعر بالاثم لاي أمر يحدث، هنا أو هناك، لي ، لي أنا شخصيا أو لابناء جنسي، أو للبشر أنفسهم، فقد مات في قلبي نبضه، ولم اعد الا ماكنة لاتعرف ماذا تعمل عدا سحب العربة التي فكرت إنها هي الماضي وهي المستقبل.. فالحاضر، بالنسبة لي، ليس الا توفر الطعام في حدود البقاء على قيد الحياة، بل ربما لم أعد أميز ما اذا كنت حيا أو غير حي .أو ما إذا كنت، قبل دهر من الزمن، حصانا حقيقيا، أو انني، في يوم من الايام، ساعود الى الوجود، بهذه الصفة أو بغيرها لكي أحس بقيمة لهذا الدوران والغثيان. فالطرقات التي سلكتها جعلتني جزءا منها..بل ربما صرت أنا الطريق نفسه، ولكم أشعر بالاعياء عندما أستمع، مصادفة لثرثرات لا طائل منها، كمحاولات الهرب، أو قتل النفس، أو التملق البغيض، لقد دربت نفسي دفعة واحدة، بعد أن أبصرت حقيقة حياتي في هذه الطرقات ان لا تكون طرفا.. ولايعني هذا اني كنت اطمح ان اكون نسيا منسيا أو مثل دخان لاعلاقة له بالنار أو الفضاء، لكني عندما رأيت في هذا اليوم، عملية قتل أحد أشقائي حرقا بالنار سألت نفس ببلاهة وببرود :ما جدوى عملي ؟ فقلت :اني مادمت أقدر على سحب العربة ..فان اصحابها، لن يتخلصوا مني، بهذا الاسلوب الشنيع، فانا أعرف قانون المزرعة برمته، فلا يمكن لاحد أن يجني شيئا ما لم يمت اعياء بالعمل، وأنا أفعل هذا بالعادة المكتسبة وربما بالفطرة اصلا، فانا أتمتع بترددغريب في إصدار الأحكام، عدا الأمر الخاص بجر العربة، في الليل أو في النهار، في أثناء تمتعي بالصحة أو اثناء مرضي.. لكني أرتجف في أعماقي كلما بدأت بتذكر مصائر المخلوقات الاخرى :تلك التي تعاقب بلا ذنب أو أثم، فقلت انه هو القانون اذاً، القتل بالعمل، وجر العربة، من المهد الى اللحد ..جرها بقوة والا فان مصيري ليس بحاجة الى الجدل، حتى ان زمرة الخيول أحتفلت بالقضاء على كل حصان خامل .مثلما كان يحدث للكائنات الاخرى ..ملهاة !لقد حاولت بعد ان شاهدت الموت يسري في جسد شقيقي معرفة طبيعة عملي..من اين والى اين..ثم أكاد أموت من الضحك..فقد عشت، تقلبات لاتحصى جعلتني لاأقع أسير حالة ما من حالاتي النفسية، ولا أقول كلاما هو الاخير في بابه.ومع ذلك تراني لاانحاز الى تلك الزمرة التي دمرها الشك..فثمة في أعماقي ميل نحو الرضا، والدعة، والاستسلام..الامر الذي جعلني هزأة بالمعنى الكامل..فان تكون وديعا أو طيبا ً يعني أن تكون مرشحا للنبذ والرفض.ولقد عرفت ذلك جيدا عندما لم أعد جذابا للجنس الاخر، وعرفت السبب..وتذرعت بالصبر والحكمة في كون الاقوياء لايمتازون بشيء عن سواهم طالما ترقد الجماجم في حفرة واحدة..وطالما تمحو الريح اسماء الجميع.انا شخصيا لاارفع رأسي غطرسة أو انجذابا الى شيء من الاشياء..اني أصغي لموتي في كل لحظة فرح أو ابتهاج أوعيد.. كان الموت وحده أكثر رحمة وسلوى من أفعال الكائنات التي كونها نشاطها المتعجرف، فالموت يجرجرني مثلما أنا أقوم بجر العربة،كأمر يماثل القدر، لايقبل الاعذار أو الجدل أو الاستئناف..فعلي أن أقوم بسحب العربة، والتقدم بها، من مكان الى آخر بطيب خاطر..من ثم علي الا أتساءل :ماذا أفعل، إن عملي هذا وأنا اتهدم أمام مشهد الموت، يبررعملي، فاي توقف يحدث، يعني حالا،انني لم أكن قد عملت شيئا، وربما لم اكن قد ولدت وعشت وانني الان أتلذذ بلحظات الاحتضار.
(2)
على اني لاأعرف لماذا بدأت أفكر في هذه الافكار.. وهل حقا أنا أفعل ذلك ؟إن المشكلة التي واجهتني طوال نصف قرن لاهي بالحقيقة ولا هي بالوهم ..ثم انني لم أكن متردداً قط بين أي من الاطراف ..وهذا هو ما يجعلني أبدو كالعدم في نظر نفسي ..فهل كان باستطاعتي التخلص من جسدي الحزين، والذي كان يمر بحالات أعلى من الحزن والالم بمراحل عظيمة ..ثم ماذا يعني ذلك بعد ان تكون الارض قد خسرت حصانا رغب في أن يتمرد على جر عربته ..لقد سخرت دائماً من تلك الخيول صاحبة الارادة ..لانها في الواقع كانت تتظاهر بقوة الرأي ..أما اعماقها، فلا تغدو الا مجموعة فراغات وإدعاءات باطلة ..لكن مجتمعنا، منذ أول حصان وجد فيه، شجّع هذا الالتباس بوصفه قناعة، وأقنعة لابد منها ولا لبس فيها .وهكذا تلاشى الامل عندي في إختيار الموت أو العكس ..فكلاهما لامبالاة مجروحة في عمقه، وللحق لم اكن اجد استجابة في حواراتي مع الغير ..كان الجميع ينظرون لي كمتهم طليق ..لكني كنت أشدد القول بان السجن أكبرمن ان يوضع في مكان، وليس بمقدور احد أن يكون خارج أسواره، وجدرانه وكان أكتشافي لعالمي هذا مثار شغب وحسد ..فعالمنا ينبذ الشواذ .انه بحاجة الى من ينفذ وينفذ وينفذ وفي الواقع كان ذكائي قد بلغ أعلى درجات الغباء المقدس ..فقد كنت أجد في جر هذه العربة الخلاص الوحيد من القلق والخلاص الاعظم من عاطفتي الصافية العذبة التي طالما عذبتني أشد العذابات ولوعتني بالوان الشك والايمان الاسود بالفروقات في عالمنا هذا .كنت أجد الخلاص في لذات وهمية ..فاجر عربتي، من مدينة الى اخرى، ولكن في قطر الدائرة الواحدة ذاتها ..فانا لم أعد أميز بين المدن، كما ان الناس لدي كانوا محض نسخة واحدة ..وهكذا كانت السعادة عبارة عن علف يتنقل من الفم الى الارض ..ومن التراب الى الذاكرة ..فكنت أخترع مخترعات لاوجود لها ..كاطلاق سراح الخيول وترك العربات تسير بقوة الارواح العجيبة ..حيث تتحرك بذاتها وليس بقوة من الخارج ..على أني شعرت برعب الحرية ..وقررت بحزم عقلي متكامل الاركان أن الحرية لاوجود لها، وانها محض خرافة ..وان أي حصان يفكر خارج عربته محض أكذوبة .فما هو عملي ان لم أعمل .وهكذا رحت اكتشف فوائد لاتحصى في الجوع والمرض والخوف والقيود والعادات الابدية، باستثناء عادة الهوى والشرود ..فانا في الواقع أنتمي الى فصيلة الخيول التي لم تولد بعد ..غير ان مرارة الدم في سلالتي الجبلية كانت تحرك خيالي الذي كنت أواجه به القدر .هذا الانشداد الى العمل حد الموت .فمن أكون خارج هذا الوعي؟ أعود وأعترف أني لو قتلت نفسي بسبب غياب العاطفة المشرفة للمثل العليا، فأني ساكون مثل أي غائب لم يكن إلا غائبا ..وفي الوقت نفسه، أعلم علم اليقين، أن وجودي محض زيادة .وفي هذا التفكير الواقعي شطط فادح سببّ لي إرباكات كادت تجعلني أغادر هذه الاوهام والاستسلام المطلق للذات لاشائبة عليها. وهذا مافعلته حقا، عملياً،ً وفي سياق الايام وتعاقب الشهور،باستثناء اخفاء سخرية داخلية لم أبح بها ولن أفعل ذلك وأنا أدور بالعربة في اداء واجبي المقدس ..أو الذي غدا مقدسا ..فالعبد لايمكن ان يكون الا عبدا حسب قانون الاحرار ..وقد أعتدت عبوديتي حتى صرت حراً بها، لهذا لم أكن خطرا على أحد، ولهذا كنت أجد لذة في العلف الجاف لا في العلف الرطب ..وأجد متعة في الظلام لافي النور ..واجد سلوى في السياط الناعمة لافي تركي اعمل كما أشاء . فلقد أدركت التركيبة أو ما يسمى بالقانون، إدراكا أبعدني عن الشبهات ..فانا آمنت باستحالة أن يحلق الحصان عاليا، أو أن يرتدي قلادة من الماس، إنما الحصان هو الحصان لانه لايستطيع أن يكون إلاحصانا ..وتلك كانت سعادة مزورة ومزيفة لكني لم أعلن نقيضها .فالجميع يجرون العربات حتى النهاية ..وليس عبثا ان حدث العكس ان يتم تعديل المشهد بعشرات البدائل ..فالتركيبة متقنة كانها السحر ..لان القانون أخفى جوهره داخله..وهكذا كنت أرتاب بالخطباء من الخيول ..مكررا القول في اعماقي :كل حصان بعربته ..وكل الجماجم ستتلاشى تحت التراب .فقد كان الموت يشغلني ويقودني للكف عن النظر الزائغ .كانت عزلتي مثل ميت في قبر. فسعادتي ان أمضي بعربتي بحسب الحاجة ..فقد تعلمت الطاعة مثل تنفسي للهواء .فهل أستطيع أن اتمرد على شراييني أو قلبي، هل باستطاعتي أن أقول للكبد لاتتوقف عن العمل ؟اذاً فأنا حصان منطقي أو جاذبية بين جاذبيتين ..أو عدم بين عدمين .ذلك لأني لا أستطيع القول بالوجود بين المجهولين .. ثم اني من تلك الخيول المرحة بحزن.. حصان أجاد اللامبالاة بدقة تفوق دقة المرائين والواقعين الاجلاف.. إنها مشكلة جرم مرمى في عدمه أو في مساره .. وقد أخترت هذا المنطق بسبب ما كنت أفعله بجسدي .. فلم أكن أسمح لنفسي بالراحة أو مايسمى بالترف، كنت أعذب نفسي لدرجة بلوغ فرح الانوار.. وقد أكون على وهم في هذا كله.. لكني للحق لم أكن أجد مايغريني في سلوك مسالك الخيول بكل ما كانت تعمل أو تصهل. كان الكلام عندي سلسلة من العلف الآخر، البديل .. العلف الذي أحصل عليه مجانا، هبة من الكون، وليس هذا محض دعابة أو مفارقة، في كوني كنت على حق، كلا.. ثم الف كلا، كان الحق كأي شيء موجود ولايمكن البرهنة على وجوده. أو انه غير موجود ولايمكن البرهنة على وجوده. أو انه غير موجود ويمكن، بألف طريقة، اثبات وجوده، إن هذه المشكلة لم تشغلني.. بل أشعر أحيانا أني لم أنشغل بشيء، على الرغم من إنشغالي بالاشياء كلها. لقد كنت أسحب عربتي، على مدى نصف قرن، ولم أكن أفكر ما الذي كانت تحمله من أثقال ومتاع، بل ولم أكن أفكر هل كنت اسحب عربة حقا، أم أن عربة ما، كانت تدفعني دفعا في هذا الطريق الذي أخذت أتعثر فيه، وأشغل ذاتي بقضايا نهاياتها أو أواسطها غير محددة . إن العربة تماثل القدر ، وتماثل الحرية، وهكذا وقعت في الورطة وقوعا.
(3)
الغريب اني أمضيت مراحل طويلة من حياتي لا أفكر في شيء. على أن ذلك كان مثار أسئلة الخيول كلها .. فقد كان صمتي لايدل على أني كنت كذلك، حتى أصابني الشك وأفزعني فصرت أتفحص عملية اللاتفكير بشك كبير .. وأنتهى الامر بي مستسلما ومستجيبا لجر عربتي بعيدا عن القيل والقال، فانامن النوع الذي يفزعه الشغب.. والنزوع الفردي، وحب الذات… فالحصان بعمله، وهكذا فانا ثمرة عربتي .. فما جدوى الاحساس بالخيبة أو النظر الى الطرق في انغلاقها؟ لقد كنت أستمتع بالافق الملون اللانهائي الابعاد، المحكم، والمتجدد، ولم أكن أتساءل لماذا ثمة فصول أو ليل ونهار .. ولماذا ثمة فوارق بيننا .. لقد كانت لذتي خالصة في اللاتفكير الشفاف وفي النشوة التي كنت أحصل عليها لحظة بعد لحظة .. وكان ذلك للاسف مثار حسد الخيول.. حتى كادوا يكيدون لي مكيدة الموت، لو لا اني لا أعرف كيف نجوت من الحسد.. وعدت أتقدم وحيدا منعزلا متدبراً امري بالصبر والسلوان.
على أني، في لحظات عجائبية فالتة من الرقابة، أو انها، بفعل القدر، كانت تجعلني أغلي كنار جهنم في اشتدادها، وتضعني في طرق هوجاء، عاطفية أو شيطانية مرة وعذبة لدرجة التقطع. كهذه اللحظة التي بدأت افكر فيها، تواً..كهذه اللحظة وقد توقفت فيها عن الحركة.. قائلا ليحدث مايحدث فانا أفكر لكي لاأفكر . وكانت عملية مبتكرة وغامضة ..فعلى الرغم من نزعتي السكونية، نزعة البركان الخامل، الا اني ما زلت أشعر بحنين الى الجنون.. بالفضاءات والطيران.. والرقص مع حبيبة في حقل تحت القمر، وسماع خرير الشلالات .. وشم نسيم الفجر.. وتأمل المشاهد الجليلة للمخلوقات المختلفة.. إلا ان هذا محض وهم.. أو انها قضية خارج السياق، كورقة ساقطة من شجرة .. نعم : انا أفكر لكي لا أفكر .. الامر الذي جعلني أرى العربات تتقدم .. نحو الامام.. في الاتجاهات الكثيرة .. تتقدم مسرعة، وتختفي، كغيمة تدفع غيمة نحو المجهول.. كنت أعرف ان الجميع لن يصلوا الى الهدف.. لا الحصان ولا العربة ولا من فيها … ويبدو لي انه من الصعب أن يكتشف الحصان أو صاحبه الطريق الصحيح الذي يقود الى النهاية المحددة، ذلك لان النهاية ليست الا اللانهاية … كنت أفكر بصمت مطلق، خشية أن يكون تفكيري مسموعا… وخشية أن اصير هزأة امام الخيول والبغال والثيران والحمير وكل الدواب الاخرى.. فأنا لاأنسى مشاهد السخرية، في مثل هذا الموقف، حتى يصعب الاستنجاد حتى بالموت، فالعقاب يتم تنفيذه بدقة فائقة، عقاب السخرية العجيب .. حيث لا يفكر الحصان – أو أي مخلوق على هذه الارض، بارتكاب حماقة تؤدي به الى مثل هذا المشهد التاريخي الاحتفالي الفخم.
ولكني كنت غير أبه بالامر… فأنا كما يبدو لي كنت أموت لكي لا أموت، على مدى نصف قرن، واني كنت أستدرج نفسي لطاعات مبهمة، بلا جذر، أو عمق، ومن أجل أن تكون لا مبالاتي جوهرية، نزيهة، في تحديد الموقف. هكذا كنت أفكر من أجل أن لا أفكر .. وهي لذة لم أكن أحصل عليها لولا اني كنت أختزن في أعماقي تراكمات الوهم، وكل المبهمات عديمة الجدوى. أفكر لكي لا أفكر! وهكذا رفعت صوتي قليلا : لتذهب العربة الى جهنم … وليذهب كل من فيها، وعليها، الى الفناء..فانا لم اسأل نفسي، على مدى سنوات العمر، من أسحب ومن هم هؤلاء الذين اجرهم، ولماذا، وما الذي ساحصل عليه بعد ان أصل الى الهدف، أو الى اللاهدف.. ومن ذا الذي يقرر أني سأحصل على شيء، إذا ما قتلت او مت، فهناك عشرات الخيول، غيري، ستؤدي الدور ذاته، إذا ً لماذا أكون أنا الضحية وليس أي حصان آخر؟ .
للحق كدت أموت جزعا وأنا أنتظر رد فعل صاحب العربة، أو من فيها .. وأي عقاب سأناله، لهذا التوقف .. بينما كانت عشرات العربات تتقدم، مسرعة، نحو أهدافها المرسومة لها، أو غير المرسومة .. فوق هذه الطرق الترابية، أو الحجرية أو الاسفلتية .
انما لا أعرف لماذا تذكرت أزمنة الغفلة التي عشتها وحيدا، وكأني أختبرت بها خلاصي يوم كنت، في مطلع شبابي، أذهب الى حانة القرية، الكائنة عند سفح الجبل، وأرتوي هناك حتى لم أعد أعرف الى أي صنف أنتمي..بل كنت لا اريد أن أنتمي الى فاجعتي كلها .. بحثا عن مثال ما، في الوهم، لكي أبصر ملامح قدري فرحت أتدرج في المعارف .. حتى لا أعود أشعر بابعادي . فصرت أخف من الهواء. للحق انشغلت بالاسباب ولم انشغل بالنتائج .. فلماذا أصبحت أنا حصانا أو حمارا ولم أصر شجرة، ولماذا صرت أرى انوار الكون ولم اتوقف عند العتمة .. من ثم لماذا على مدى نصف قرن، رحت أسحب هذه العربة التي لا أعرف ماذا فيها، دون سواها؟ كانت أيام الحانة قد عوضّت خسراني في الحب .. فلم أعثر على بديل آخر.. على ورم أو مرض مقدس. هكذا صرت أتنقل من مكان الى مكان أبعد.. ففي الحانة، كما في جر العربة،وكما في الرقص او الكتابة يفكر الانسان لكي لايفكر ويعمل لكي لايشعر انه قد ادى كل تلك الاعمال المزرية البغيضة. صرت اسكر لكي لا أعرف أني سكران. وكان الصحو يبلغ أقصى درجاته وأنا أعانق المخلوقات كلها بوله العاشق المتيم المأخوذ بالحبيب، ثم اكتشفت بهدوء اني بلا حبيب .. بل ليس بالامكان الاعتراف بحدود الاشياء التي لاوجود لها. هكذا قلت : سر .سر. فرحت أجر أثقالي بصمت لا لذة فيه عدا انها لذة غير مشاكسة، غير ملعونة . فقد صرت نسيا منسيا، وهذا ما قصدت الاعتراف به عن طيب خاطر، فما جدوى أن تجادل حصانا يرى أنه ينحدر من سلالة الامراء أو الملوك.. إنه سيقطع رأسي حالما يكتشف اسئلتي الدفينة، فلم أجادل ولم أدخل في حوار.. صرت لاأفكر ولا أعترض،ولا أعترض حتى على من يعترض.. علمّت روحي أن تفرح لانها لم تخسر شيئا ولن تربح الا هذا الفضاء في تحولاته . ولم أبح لأحد بما يؤدي الى قطع الرأس… وفي الواقع كانت عزلتي هي الرداء الذي كنت أتستر به، وأغطي عيوبي الكريهة وأخفيها داخله.. ولكن طالما لانستطيع البت بقضايا لا علاقة لنا بها، كوجود هذا الكون وما فوقه فان الصاعقة ستصعقنا صعقا، وكنت أعرف ذلك تمام المعرفة… كمعرفتي لمليون صفة من صفات الذل، يقابلها قليل من الهدوء وبعض التراب الذي نرقد تحته، فالعادات هي سيدة اللعبة، والمحرك الذي يجرجرنا الى مالا نهاية، بحساب عقولنا هذه المتناهية بالصغر، كانت أيام الحانات والتسكع في المراعي والنوم الى جانب جثث الخيول النافقة قد ولت، لأختار جنوني الخاص، فأطهر نفسي من الجهل… ويالها من كارثة حيث أكتشفت وقاحتي المروعة فلكم كنت أجهل اني أجهل من الجهل، ثم رحت أغوص، وأغوص، لكي أعود أجر هذه العربة، بلا علل أو أسباب، فقد كان علي أن أفعل منذ البدء.. هكذا صرت انهك أعضاء جسدي كلها، الذاكرة والقلب وكل الاجزاء المتحركة كاريكاتيريا، صرت اقول نعم لنعم ولكل لا نافية للنفي وللاستسلام بنعم الازلية .من أنا لكي اعترض؟ من أنا لكي اعترض على انا؟ أو على قانون الخيول ومافوق الخيول وما تحت الخيول وما بينهما ؟ صرت أقول نعم بلذة نعم العدمية الشفافة الصافية بعيدا عن الاثام المقدسة والمراعي البلهاء، وبعيدا قبل كل شيء، عن الجنس الاخر العذب الحالم المشاكس الذي هجرت ينابيعه وجدرانه، وصارت نعم هي أنا، لكني الآن لا أفكر إلا في أصحاب هذه العربة .. وفي قضايا لا تثير الرعب حد الصمت والموت .
(4)
ولكني شعرت بشلل في أطرافي وتنمل ينتشر في جسدي كله.. فتجمدت، مستعيدا تلك الايام الصافية في مسيرة حياتي الاولى .. يوم كنت أتحدث، كبركان، عن مستقبل الخيول، والنوع الذي شغلني بتحرير أجسادنا وعقولنا من آثار سحب هذه العربات، او اللهو بنا في الملاعب، واستخدامنا في الحروب، والشطحات البهلوانية .. ثم، ذلك الانقلاب الذي نسف مصيري كله، فانتابني الجزع، وصار العالم محض نفايات تتبادل الادوار.. ولكن قوة جسدي، أو أسراره الخفية، جعلني أتصالح، بلا مبالاة، مع رغبات بدت لي ساخرة، أو سوداء، إنما كنت أغرق نفسي وانهكها بالوسائل المتاحة للفكاهة. وكنت أعرف، أن هناك حشدا قد سبقني الى هذا المصير عينه: ان العربة تتقدم! ياللسخرية، وياللضعف.. فأنا كنت أتقدم ايضا.. الى الوراء أو الى اية جهة .. إنما كنا ندرك اننا كنا في نقطة واحدة .. وهكذا كان الكلام وكان الصمت لايعنيان الا التحرك في حدود المكان الواحد. وكانت مسرة بلا صفات، ومباهاة لعينة ان يتزوج الحصان أي كائن بدافع الاحتضار، للايغال بايذاء النفس، كتلك الخيول التي تقتل نفسها لكي لاتقتل. هكذا أنفصلت عن ذاتي، وعن العالم كله، لكي أغطس فيه، وفي ذاتي التي تم تفكيكها الى الابد، هنا، حدث الاستسلام، بعد عصر الغثيان والبلور، بعد الارتواء الاسود الخاطف لهوامش قوانين المنازلات والعادات .ففي تلك الايام، كما في هذا اليوم، لافارق لدي بين حصان في المرعى أو آخر قد تمت تسوية الحساب معه. كانت حكمة الزمن، بدافع الانهيار والبناء الوهمي، أو ما دعوته بالترميمات الاليفة، قد تساوت . أن تموت أو لا تموت فانت بحكم المندرس . وعمقت في وجداني الفارق المثير للرعب بين المراعي والقطيع..بل بين ملك الرعاة والرعاة.. فاصبحت منعزلا بافراح صاعقة . أعيّد، وأعيّد، وأعانق أساطيري كما أشاء..وكما قلت، صار الزمن في رأسي نقطة متكاملة .. لكن العدم كان يلعب لعبته، كما لعبها معي قبل لحظات: هذا الاستذكار للغروب، والانحدار بصمت الى التلاشي.. جعلني امتلك نشوة، كتلك التي شعرت بها وأنا أفقد إرادة محو ذاكرتي، أو اعادة جسدي الى التراب، إنما، في بعض لحظات الوهن، أشعر أني أرتكبت حماقة اختراع خرافة لا وجود لها. خرافة أن هناك خرافات، تماثلني، في قانونها، خرافات متجانسة كعمل الاصابع العابثة بالذكريات الاولى.
ومرت عربة مسرعة، ثم توقف حصانها، وسألني السؤال الاتي:
-" متى بلغت هدفك هذا .. يارفيقي؟ " ..
فهمت، حالا، أني درت دورة كاملة . فقلت مخادعا:
-" منذ زمن بعيد .." ..
مضى . أما أنا فأدرك عميقا أن شيئا ما مضى في الحياة كلها. وانني كنت محض حصان، بوعيه، كان مجرورا بما هو فوق الوصف، أو الاعذار التي كنت أعتقد ان لا علاقة لها بما أنا عليه، لحظة غياب الوعي، بينما كان ذلك الزوال هو سر ديمومتي. في الواقع أحببت سفلة الخيول، والعلماء، واحببت البغايا بالدرجة البلورية الكريهة للعفيفات، وعندما كنت أتحدث عن أخلاقيات القانون، لم اشعر بالعار لو أني قلبت المعادلات، فكل ضحية بما فرض عليها. لهذا لم أعد أحتمل الرزانة ذات الطابع الرفيع، ولا الانحطاط المشوش لتلاشي الاضداد. صرت مقدسا بلا أعذار .. وأحد أعظم السفلة دون ارتكاب سفالة واحدة. كانت السفالة في الواقع هي شكوى من لم يذهب الى المرعى، أو العيد، وانا ما أحببت الا الاعياد، والمراعي التي لا أرى فيها جثتي وقد تناثرت فوق حشد من القبور، الى دفن متكرر باستئذان خفايا غيابي !
لكنها محض عادات لاتقبل التكرار.. لأنني لم اعد احتمل ان افكك الى ما لانهاية . وفي الوقت نفسه ما الذي يدفعني الى التماسك . في الواقع مشكلتي أني أفكر الا أتلاشى، في الوقت الذي لم يعد لدى أي رجاء ابله الا للمصادفة على محوي: هذه اذا ً وصية بلا أطراف، على الرغم من أن تاريخ جنسي يبدأ بهذا الامر .. بالعمل.. بل بالعمل من أجل ذاته، نحو الداخل أو نحو الخارج، انه العمل ا لجليل المتسم بالخلود. قاه. قاه. قاه. ولكني للأسف المذل للشخصية لا اشعر بأي أسف، أو ندم . فما هو فوق البلاهة، شرعا، لايخضع للحكم. الا أن تفكر لكي لاتفكر يجعلني مستفزا. ذلك لان العلف لا علاقة له بحياتي على مدى نصف قرن. والعلف، لهذا السبب، صار ثانويا، الا في لحظة اكتشاف انني كنت على وهم. فلولا توفر العلف، في البدء، لكنت اصبحت ذلك الذي أبغضه بلا معنى الآن، ذلك الحصان القوي، الجار ايامه معه الى مالانهاية، أو ذلك الذي يشيّد حفره وهو على قيد الحياة.
أنا لم أصر ميتا، ولا حيا، ولا بين بين، أنا قلت : خيولي لا حق لها الا أن تكون على الحق . وكانت كلها على حق . لأنني كنت لا أحتمل ان يقتل شقيق عذابي بعد أن يحصل على خسران المجد. ولم يكن المجد الا تهمة، وذريعة، وفقدان ذاكرة، وتضرعات الى ما لانهاية . كنت، مثلهم، أجر عربتي الى ما لانهاية نحوالغايات. ولم أقل كلا.. كنت أشعر بخجل أن يخجل الحصان .. ومع ذلك لم تتبلور حياتي، الا بدافع هذا الخجل، الذي تبلور لدىّ، ناصعا، وأنا أتخلى عن عادات الخجل القديم. أي، يا روحي، من لونك حتى اصبحت بهذا الصفاء . تلك كانت صرختي وأنا أتخلى عن أبناء جنسي.. فقد تعبت ان أجر العربات معهم، وتعبت للغاية الا اكون بلا عربة! وتلك كانت ورطتي حيث لم أجد متعة للموت من اجل أن أموت ، ولا متعة لكي اعيش من اجل أن أعيش !
(5)
وقد قادني العبث حتى غدا لذة أجر بها عربتي وأجرجر ها الى اللامبالاة التامة.. كان القانون أكبر من أدراكي له، وفي الزمن نفسه، قررت الا أبدو عديم الذمة، كان الذل فيّ أحد أسباب الامتنان والخلاص ايضا. فالحصان يدمن عاداته، كعمل الاجزاء اللا ارادية. فانا، في محصلة الوعي، عادة تتفوق على إرادة الابصار … لقد كانت محض انحناءات وكان عليّ الا أبدو مرتعشا بل صلبا، وقويا، وصرت، على مر الايام والاسابيع والسنين، محترفا ! فالحياة غدت لدي حرفة.. فكاهة مقنعة بسلوك الاطراف المعنية، العماء الازلي.. ذلك لان الخيول، منذ أصبحت بهذا الامتياز، كانت تتعامل بمنطق ما ترى وتحسن وتدرك، وفي واقع الامر أستطعت أن أفلت من السخريات المرة، بسبب أحترافي الحياة . ووعيي لها ذلك المسكون بهواجس الالفة. فأنا أفضل من جميع الخيول الميتة، التي حولها التراب الى ذرات داخل الزمن، أنا أكثر اهمية، في حالة وجودي هذا، من التراب المكون من أبدية الكائنات الفانية، وفي الوقت نفسه لم أدع الخيول، أو قانونها، أونظامها، ليسخر مني بالنسيان. ولقد عشت ذلك درجة بلوغ قاع العدم، كانوا يتجاهلون الشرفاء، في الغالب، لجعل حياتهم مقبولة ، فعندما تنسحب ، لأي سبب من الاسباب، فانهم يحاصرون خيالك نفسه، فلا أحد يعرف انك كنت.. أو مازالت، تجر عربتك بنبل فضاء العدم، انهم يلعنوك ويحاصروك كأنك لم تكن الا طيفا.. بالاحرى يتعاملون معك كغائب أزلي، فالكلب الاجرب، كما يقال خير من كل الاسود التي التهمتها البرية، ومع صواب أو خطأ هذا المثل ، فانا أدمنت وجودي على علاته، فلم أعد أفكر بالخيول الحالمة، أو المتمردة أو المشاكسة، أو الحمقاء أو العدمية أو ذات النـزوات، أو المتنورة .. بل كنت لا أريد الا أن أكون الحصان بعربته. فقد كان الخيال لدىّ قد تحول الى عربة وحصان: فعل بلا فاعل وفاعل بلا فعل! ومثل هذا القول الاخرق جعلني أقفز على عدمي كله، وعلى وجودي كنسيج رتبته هوامش العادات أو القوانين . اني وأنا اتكلم أشعر بالضجر لدرجة الرغبة بابادة الخيول كلها وبعثرة مجدها المقبور، ومع ذلك، أرغب بمصالة توفر لي ألعلف القليل والهواء الذي يسمح لي بالاسفار، من مكان الى لا مكان.. من حبيبة في قبر الى اخرى لا وجود لها. فابكي، كحصان ملكي، تعثر في نظام العادات، ولم يختر الا هذا الانحناء في سياق لا علاقة له بالنهار أو الليل، إن مشكلتي أني كنت أدمر عاداتي، في الاسلوب، كما في إغراءات الترف ، لكني في واقع الامر، عشقت لا مبالاتي حتى أصبحت جادا متماسكا، وأكثر منطقاً من عبث المنطق.
وكم كان بودي أن أمضي حياتي بلا ذاكرة، إنما، في واقع الامر، كان التذكر هو حياتي، فأنا أعيش العمر لحظة تضاف لهذا الامتلاء المشغول بعناية، أقول : كنت أريد، لدرجة الذل، التباهي بموتي، إنما أدركت، بحسب التاريخ الذي أعرفه، ان الموتى بلا تاريخ، ولا أريد الاعتراف، اني لم أعد أحتمل هذا كله، لقد كنت ادمج العناصر لتوليد عادة التراخي المبصرة، وأضحك تعبا من التعب، ومن السخرية، فالحق الذي أراه أقل من الحق في الحقيقة .
بهذا المعنى كنت لا أصلح لاداء وظائف كل الانواع التي انتميت اليها، أو التي انتمت اليّ فأنا في كل لحظة، أتعلم قدرة أن أتعلم هذا اللاشيء المقدس: أي هذا الذي جعلني أفضّل العلف على التاريخ ، ذلك لان روحي المرتعشة كانت في الغالب غير خاضعة لاي قيد من القيود. كنت الحصان الذي كتم شيطانه بلا اكتراث . وكنت قد أحببت المرح حتى قاع ماتحت الدفن، عالمنا السفلي، والجنة التي تزور روادها بسبب الفراغ، ياعقلي لاتنحرف لصالح أحد، ولا تنحرف حتى للحق الذي تعجلك الى الكلام.
أقول هذا بدافع الامتلاء، فأنا كنت أحزن وأحزن وأحزن لكي أعثر على الفرح.. وأفرح .. أفرح.. أفرح.. لاصرخ، أين حزني الاليف، ثم اكتشف اني بلا أحزان ولا أفراح، إنه قانون الخيول، الذي لا مناص انه قانوني في ذروته وماذا لديك غير الحق الذي تداوله بين الباطل في الايام، وغير الايام تداولها بين الباطل والباطل.
ثم يبلغ بي الحزن درجة لاتختلف عن درجة الاعياد، وأجر عربتي بلا لذة، وبلا خسران، فأنا لا أريد الاعتراف بشيء محدد، حتى اصبحت ادرك ان الخيول في عالمنا لاتريد أكثر من عاداتها.
وأعترف مصادفة، لا بدافع الاعياء الذي ولد لدىّ هذا التوهج بل بدافع ان القانون أقوى منا جميعا، والا لماذا أندرست أزمنة الخيول كلها .. وليس عليّ، الا أن أخترع وثني الزائل، الى أبد الابدين بمعنى ان ضميري لم يعد يحتمل نصف قرن، أو قرنا أو قرونا، أو ما لانهاية من الزمن في هذا اللازمن، دون الاعتراف بشيء ما غير لائق أو غير مبرر أبداً، وللحق كنت أرغب أن أحرق صفحات كتابي منذ ابصرت نهايته، في لحظة التوقد.. ولكني لم أفعل ذلك . لم أقتل النفس التي كان عليها ان تغادر .. بل جعلت المنطق لهوا يخص مالا يخصني وهكذا خسرت اللعبة، أو كسبتني .. لافرق.. ففي الموقد، عندما تحرق العملة، بكل ارقامها، لاتترك الا الرماد. اذاً .. من كان يجر من؟ انا لم اكن عربة الا في حدود انني كنت عبداً.. فلماذا كنت عبداً وقد كانت رؤيتي باتساع هذا الكون؟
(6)
لا أعرف، أو ربما كنت اعرف بعمق لا نهائي اني كنت أتعفن طوال هذا الزمن: ولهذا، لم أكن اتذمر. للحق لم أكن أشعر بان شيئا ما كان يسبقني، أو ان هناك سباقا في الاصل. كنت اتحرك، أو أدرك اني أتحرك مثل الاميبا.. أتحرك كثيرا دون تجاوز النقطة:النقطة التي بلا فضاء ، النقطةالمفرّغة من محتواها. الامر الذي جعلني لا أشعر بالخسران، وهو ذاته، هذا الاحساس المدهش باللامبالاة، جعلني لا أفكر بالربح. كنت أقول : لا أريد أن أكون مؤذيا لاحد، بدافع يجنب الايذاء المطلق، اذا ً، كان هو الموت أو التعفن الذي رسم أبعاد عمري: حصان نافع بحدود فزعه الخفي.. فقد عشت في محاولة للتخلص من العمر، والصخب، والجور، كنت لا اريد شيئا .. كنت أجر عربتي بهدوء .. بدافع الهزيمة الابدية : وبدافع الموت الذي سبقني الى الوجود. كانت اللذة عندي تكمن في غيابها .. ومع ذلك كنت أريد أن أقول شيئا، لا أعدّل فيه قانون الخيول، بل أعدّل موقفي بين المواقف الاخرى.
ولكن ما الذي جعلني لا استسلم للانهيار التام الذي كان يسحقني سحقا، بعد ان تخليت عن أحلامي..؟ أهو الاعياء أو بسببه لم أكن أمتلك قدرة تصفية الحياة مع نفسي أو مع الآخرين؟ للحق لا أشعر بالحزن بل احس بالتعب والفقر الروحي.. فأنا صرت لا أمتلك هدفا محددا إلا بسحب هذه العربة .. وعدم الاصغاء لاي صوت من الاصوات ..بل كنت أقضي بعض ساعات الليل أغني وحيدا مع الريح، بصوت لايخلو من الشكوى. فالغربة بلغت اقصاها.. ولهذا السبب، كما يبدو لي، لم أطلق الرصاص على نفسي، او لم اقتل من قبلهم ايضا. فأنا لم اراهن على قضية أو ادخل في منافسة من المنافسات .. وبالامكان القول ان قضيتي أنني كنت بلا قضية.. بل كنت لا أجد مسوغا لمثل هذا الامر المروع: قضية! من أكون لكي أربك أشقائي بالمزاعم والادعاءات.للحق كنت قد وضعت موتي في مكانه المناسب، فبدل ارباك خيالي، بالآمال، اغلقت نافذة احلامي وتجاهلت الوعود.. وفي واقع الامر لم تكن ثمة وعود أو رغبات .. كان قلبي قد أكتشف الخديعة .. كلها.. دفعة واحدة.. ولهذا أصبحت لا أريد أن أعرف مايجري من حولي.. فالذي حدث قبل مليار سنة سيحدث بعد مليارسنة… إنهم يقتلون الخيول.. الامر الذي جعل حياتي كلها بلا حياة، فأنا أشعر بلذة التعب الازلي: بالدوران .. والاستسلام لافراح عابرة، لا علاقة لها بأحد .. أي اني لم أعد حيا الا بحدود هذه العربة .. وعندما رفعت شعاري الغامض : أفكر لكي لا أفكر .. فقد كنت أمارس الهواية التي تمارسها الريح مع الاشجار! وكان الشعار قد جعلني أسطورة أو خرافة مع نفسي.. فقد كانت عزلتي لذيذة ولا تثير الشبهات.. أي اني لم أكن ممتحنا في شيء من الاشياء.. وهل هناك امتحان؟ للحق اغريت نفسي بعدم التعجل في اية قضية من القضايا . حتى اني لم اعد اتأمل وجهي في المرآة : ماذا أريد منه. وماذا أريد من مخلوق لا أعرفه أو أعرفه لدرجة اللامبالاة . وجهي الشرقي أو الجبلي الذي غدا تهمة .. وكأنه بلا امتياز. وعلى كل، لا أعتقد اني محض حصان يثرثر، أو اني بصدد كتابة رثاء . كلا .. ففيّ شيء يغلي، ويتأجج: طفولة لا تريد أن تركن . ومع ذلك يسكن هذا الهيكل الموت كله: الجهل والمعرفة .هنا، فيّ، ينام البحر مع جفاف الصحارى.. والديناصورات مع العذارى.. وفيّ براءة لا أريد أطلاق النار عليها. ثم أجلس أبكي كقبر فارغ . هو ذا أنا أفكر لكي لا أفكر : بلا حبيبة ولا عربة ولا جدران . واآسفاه انهم يطلقون الرصاص على قبر فارغ.. هكذا، منذ بدء تاريخ جنسي، لا أحد أعطى هذا النبل بما في هيكله من أعياد. حتى اني صرت، في الاخير، بلا عيد أو أعياد.. ولكن مشكلتي لا تكمن في هذا الامر، ولا في مكان آخر.. انها مشكلة خالصة وناصعة.. هذه هي مشكلتي، انني بلا مشكلة. مثل قبر فارغ يحمل الاسماء كافة . فلماذا الندم؟..
كلا. للحق تذكرت زواجي الاخير، أو الثالث حيث ذقت الندم بحلاوته المرة، وأعترفت، للسيدة الموقرة، ان الجمال ليس الا لعنة، وحياتي ليست ذات معنى . في الواقع كنت أحلم بصلف قليل، من أجل لذات غامضة كبرى . لكني، في وقت متأخر، أكتشفت العكس : اني كحصان لابد أن أكون حصانا، بالدرجة الاولى. فأنا أفضل من حمير قرانا كلها.. بل اعتقد اني اكثر اهمية من حمار ب . ب ذاته؟؟. فهناك، في اعماقي، تكمن عتمة بلا نهاية.. إنها، ببساطة، حصيلة اللوعة ولا أعتقد إنها أزلية ..فالحصان الذي قتل أمام أنظاري، كان ملكيا، مقدسا، بلا ثمن، لكنه قتل بهدوء، وانتهى كل شيء . اني لم أفكر بالمعنى الأبعد لمثل هذا الموت. الكل هكذا سيلاقون حتفهم…؟ بل ولم أفكر حتى بصاحب الحصان الذي قتل مثله، في ذلك الحادث المروع.. لقد كنت أجر عربتي وهذه هي مهمتي.. فأنا، كما قلت، أفكر من أجل الا أفكر.. ومع ذلك قلت : ماهذا.. وما سر ديمومة هذه الاسطورة.. ماسر ان أكون وسر الا أكون؟ لم أضحك أو أتذمر، على مدى نصف قرن، الا في لحظة بلوغ الاعياء درجة المفارقة . فأنا في الوقت الذي خططت لموتي السعيد، صدمت، بالحياة تتألق قوة باعثة على خيالات هائلة. ماذا يفعل الميت عندما يكتشف انه يمتلك شرعية كانت قد سحبت منه، مثلي، في هذا الموقف؟
لم أبك أو افرح.. بل رحت أجر عربتي بالصمت المغري الظالم .. فحياتي لم تعد قصة تروى، بل صرت أحس بحرارة الكلام كله. كان نجاحي خديعة أصيلة لسيرة حصان هزيل، مكتنـز، ثرثار وحزين وصامت.. وكنت لا أجيد ولا أريد أن أبرر هذا السلوك المذل لي، لانه في واقع الامر، وصمة عار لجنس الخيول في عصر آخر، لم يعد فيه العلف ضرورة، كما في ازمنة السباقات الامبراطورية . وكنت أدرك عميقا ذلك الاسى في الاشياء كلها. هكذا، بإندفاع غير صاخب، قررت أكتشاف من أكون..
(7)
قبل ان اقرر شرعية هذا الشك الذي بلغ ذروته، كان اليقين قد سحرني وجعلني أستسلم لهذه العربة، دون ان يرد في خاطري، أي شك حول عملي. لقد تركت نفسي للذة غير قابلة للدحض: هذا الاطمئنان لقناعة عميقة.. ولكن الموت الذي بلغ درجة الفكاهة جعلني أقلب المعادلة.. وقد لا تكون هذه حقيقة اخيرة، فأنا ساعود أجر العربة، بدافع من تلك الدوافع الغريزية البلهاء والمتقنة .. ومع ذلك رفعت رأسي، وقلت : أي اثقال كنت تجر طوال حياتك ياايها الحصان؟ نظرت .. ولم اصدم.. او كأن الصدمة كانت أكبر مني . فانا كنت أجر مجموعة من الموتى، أجل.. مجموعة رائعة من الجثث الجافة.. ولا أستطيع أن أقول هل كانت لها رائحة محددة.. وانما لويت رأسي وقلت : أستدر .. فقد كانت حياتي استدارة كاملة ! أي اني كنت اعيش بالسلام الروحي البعيد، غير القابل للشرح أو التبرير.. كنت أجر عربة موتى .. فقط.. وكان هناك من يجرني أيضاً. كنا سعداء، بعيدا عن مفاهيم السعادة ذاتها.. فلم أكن أشعر بالشقاء أو الذل. كنت اعمل على مدار ساعات النهار، بطيب خاطر، ولم يكن الموت مشكلة، فقد كانت الاشياء تولد وتموت بقانونها .. ولم أكن، في هذا كله، الا جزءاً من هذا القانون ، هذا الهدوء التام لهذه الفكاهة المرة، او الحلوة، او التي بلا طعم. اجل : كانت وجوه الموتى تحدق في، كانت تحدق وكأنها لم تمت بعد، او كانها لم تولد، او كأنها تنتظر الموت.. كانت تضحك، ومرة تبكي، الا انها كانت بلا تاريخ، بلا هوية، بلا أسماء! مثلي تماما.. بلا، رقم أو ذكرى، لكني لم أعد أحتمل هذا الوهم، فقلت في خاطري : لماذا لا أهرب .. وأبحث عن حياة ثانية. لكن الخشوع فيّ جرني الى الاستكانة: أيها العجوز لم يتبق لك الا الموت: تلك الرصاصة الاخيرة، رصاصة الرحمة . ثم أكتشف بجلاء: لاتوجد تلك الرصاصة، ولا تلك الرحمة . وهذا يعني أني ساجر عربتي، بهذا الوعي كله، الى الأبد.
كانت العربات تتقدمني، ولا أحد يسأل: لماذا توقفت ؟ بل ولا أحد له علاقة بي .. بأستثناء خواطر قديمة كانت تمر داخل رأسي.. خواطر، لماذا لم تصبح حصانا ملكيا.. ولماذا اخترت هذه العربة بالذات، في الوقت الذي كنت أمتلك فيه مميزات رفيعة تقودني الى منـزله أخرى .. ولم تكن تلك أزمة . كان مرضي الوحيد أني كنت بلا علة.. أو كان المرض قد بلغ درجة المسرة والفرح بما أنا فيه، لم أكن أرغب بشيء ما، عدا هذا الذي انا عليه : قليل من القناعة ضد القناعات الكبرى، قناعة العلف الذي أدام حياتي على مدى نصف قرن، بلا تذمر، وبشفافية نادرة، لقد اصبحت لا أحتمل أي حديث عن العذاب او الجنون، فأنا للحق الحصان الذي ينبغي أن يجر عربته الى أبد الابدين : حركة قدر . قلت ذلك وانا أحدق في قبري الفارغ، القبر المزدحم بالموتى القدماء. ثم، بهدوء، أقول لنفسي، انها ملهاة عابرة: أنا والعربة والموتى. ملهاة اجر بها ملهاتي. ثم لا توجد قضية بعد هذه القضية، عدا هذا الحق الذي كنت أبحث عنه، ولا أخاف منه، الحق الذي هو النور، أو هو الخلاص من العتمة .
هل كنت أريد الخلاص من الحق ..؟ ياروحي أنا وحدة متكاملة بتناقضاتها؟ ثم أحدق في قبري الفارغ.. قبري الذي شيدّت جدرانه بعناية، وصبر، وهدوء، على مدى نصف قرن. هذا القبر غادرني، حتى غدوت، كأني لم أولد.. وهنا أبدو في غاية البؤس لا في غاية الاكتمال. فأنا أشعر، اني لم أعد بحاجة للموت أو سواه، بل ولا أرغب بالبعث مرة ثانية. اني أجرجر نفسي، وحياتي، وهذا يكفي.. فلماذا أحاول أختراع مصيبة أو مشكلة، كل الحياة التي مضت لم تعد ملكي، ولا أعتقد أن هناك مسؤولية تقع عليّ !! لا أقول هذا للتنصل من قضية، وإنما، في المعنى البعيد، أدرك لا مسؤوليتي عن جر هذه العربة.. ففي كل مكان، وفي كل زمن، سأقوم بجر عربة! مع ذلك أريد الاعتراف بأني لم أكن الا ضحية .. فماذا لو كنت اقوم بجر عربة يسكنها الاحياء، مثلا؟ ولكن فلسفتي مدمرة.. ففي الحالة الثانية، ساعترف بالباطل ايضا. فأنا ساقود الاحياء الى الموت.. مثلما كنت افعل ذلك مع الموتى الاعزاء. وهل لدي مشكلة بعد هذا كله؟ كلا. إن مشكلتي أني بلا مشكلة.. أو إنها، هذه المشكلة، ليست مشكلة أصلا. وهي ليست مشكلة الا لانني تعبت على نحو فادح.. مدمر.. تعبت من التعب نفسه.. تعبت ان ابقى هكذا لا أعاني الا من التعب : أي ان أبقى أجر هذه العربة، الى حتفي الشخصي، بهدوء وسلام وفكاهة ايضا. وليس لديّ أي قرار عدا هذا التأمل، فالعربة ساكنة، وأنا، مثلها، لا أعرف الى أي مكان اذهب، إنها عتمة.. لا عتمة حياتي، فشلي أو فشلي الآخر، وإنما العتمة تآلفت مع موتي أو حياتي.. ومتى مت لكي أتحدث عن هذا الموت؟ لم أمت وهذا يعني أني لم اولد.. الامر الذي جعلني أحدق في ساكن عربتي .. ثم أعود أحدق في الطريق، ونهايته.. لاأفكر الا في لا مبالاة أقل قسوة عليّ من الزمن الذي أنصرم، سريعا، لم يترك فيّ الا آثار لا معناه. وهكذا لم يعد لديّ من أتكلم معه.. وإنما أصغيت الى كلمة غامضة لا أعرف من نطق بها، سمعت من يقول لي: أيها الميت أصغ! فأصغيت في نفسي ولهذا الصوت المجهول.. ثم رحت، بلا مبالاة مطلقة أجر العربة، بالاتجاه الذي تسير فيه العربات، نحو الهدف الغامض، كنت اسير بلذة محطمة، لا افكر ببلوغ غاية..ولا أشعر بخسران للزمن الراحل . كنت كالمنتصر الذي يشيع جنازته، ويتقدمها، فلم تعد لدي آمال أو رغبات محددة.. وكان الصوت يهتف في : ايها الميت تقدم . آنذاك ادركت سر حياتي كلها، وتقدمت.
(8)
يبدو أن العربة لم تكن متوقفة، طوال لحظات توقفي عن العمل . ويبدو، على نحو أدق وأكثر رعبا، انني لم امت. كانت العربة تسير، مثلما قدر لها، وتأملاتي لم تكن زائفة ايضا. ولكن مشكلتي، في الاخير، لاتكمن في كوني حيا أو ميتا، أو كوني الحصان الميت الذي يجر عربة لاتقل الا موتى، وإنما في سؤال آخر: هل أستطيع أن أتخلى عن جلدي وأصير مخلوقا آخر. في الواقع، إن مشكلتي ليست مشكلة ! فأنا كنت، وما زلت، أريد أن أكون بلا مشكلة. بلا ميلاد أو موت. في الوقت نفسه أنا من أكثر المخلوقات سخرية ضمن الاساطير.. من هذا الوهن الذي يدفع بالعقل الى اختراع الحلم . حتى انني اتساءل : أيهما أكثر واقعية وصلابة وقسوة الحلم أم الواقع.. بل أتساءل : من صنع الاخر؟ الحب صنع الحبيب أم الحبيب صنع مملكة الحب .. ولماذا هذا الفقر كله والحياة برمتها محض عربة؟ أريد أن أقول، كمخلوق تحسن نوعه، دون أن يفقد الصلة بين سر الواقع وجذر الخيال المتعالي: ان المخيلة ليست عظيمة ولا جليلة بالقدرالمناسب، لا للواقع ولا لقدرنا كمخلوقات حرة أو غير حرة في جر عرباتها، لقد فكرت على مدى حياتي ، وبعقل متزن ومتوازن وصارم في شأن قتل نفسي كموقف يشرف ذاتي أو جنسي.. ولكنني لم أتوصل الى حل يوازي السؤال الآخر: هل نحن محض مصادفات وتراكم عبث.. أم انها لعبة تلعب على اللاعبين؟ في واقع الامر، ولكوني أشعر بالاعياء المطلق، أفضل العلف القليل .. فبالرغم من ذكائي، كما يقال، فان الرقاد في زريبة تحميك من البرد خير من الحلم في تحرير الخيول في هذا العالم، ومع ذلك أعتقد أن الحلم هو الذي يؤسس الواقع! أجل، سأعترف دائما بمرضي القاتل: فأنا لا أعرف هل صنعني الواقع أم صنعني الخيال.. وفي الحالتين لا أعرف من كان يجرني، بهذه القوة، نحو الهدف المرسوم بدقة، قلبي لم يضع الا في ضياع يقينه فالعلف كان ضرورة مثلما الضرورة بعض العلف، بعض هذا الصمت بين الجار والمجرور ولكن المشكلة متوازنة فكيف أخترع يقين جر الموتى وأنا ما زلت أعتقد أنني لم أولد أو لم أمت على الاقل. قلت : إنها لا مبالاة .. متقنة تخص حياة حصان أطلقت عليه النار- أو أندرس مع باقي المخلوقات . فأنا أحيانا أتخيل ان هناك حصانا يجري فوق الخيول كلها، محلقاً، وهناك آخر يجري فوق الارض، وثالث تحت الاقدام.
إننا جميعا نجري، ونجر أثقالنا، بلذة، أو بلذة السياط، أو بلا لذة، ومعرفة اننا نجد جداً في عملية الجر الكبرى ..إن هذا الهاجس أعاد لي الحياة في شكلها المستعاد: هذا الضرب من الغباء المقدس، الذي يتحول الغباء فيه الى عادات، تماثل، تكرار البرق. إن مشكلتي الدقيقة، مرة أخرى أعترف بها، انني أكاد أكون بلا مشكلة بل وأعترف، انني قررت القيام بانجاز أعمالي بلا غاية أو هدف، ثمة، في هذا السياق، ملهاة وفكاهة وقرف بلا حدود. ومع ذلك فنهاية الطريق كامنة في الخطوة الاولى: في صرخة السقوط، ثم في اللعب، وفي الشيخوخة .. إنها حالة تجعلني في قمة الاعياء، وفي قمة النداء المقابل، فما الذي كان بوسعي عمله.. سوى البقاء على قيد الحياة وانتظار نهايتي .. بالاحرى كنت أدرك بعمق عبث اتخاذ أي موقف مغاير للحياة التي ذهبت، وكأنها مكتوبة في كتاب، بل كنت، أحيانا، لااؤمن الا بهذا القدر الذي لامناص من انه قدّر علينا جميعا.
فلماذا الاعتراض .. وعلى أي الاشياء ؟ هكذا تبدو القصة وقد بلغت نهايتها.. اللامبالاة العجيبة تجاه الاستسلام لهذا القدر.. لكن فجأة، عندما تحدق في فوهة البندقية المصوبة ضدك، ترتجف، ويفقد الهدوء معناه كله.. وبعدها تكتشف، إنها ليست لعبة، لكنها لاتختلف كثيرا عن اللعبة . تموت أو لاتموت.. وهذا يجعلني أدرك اني كنت مفيدا أو نافعا.. والان.. بعد ان لم أعد كذلك.. فأن رصاصة ما ستطلق عليّ .. أو ربما ستبقى وهمية، اتخيلها تطلق عليّ وأنا لاأعاني الا من شرود الذهن، والخيبة.. أو انها ستطلق وأنا أحلم، أو أمشي، أو أتسكع،أو أجر هذه العربة: عربة الموتى.. إنها اذا ً الرصاصة التي ستطلق أو ربما كانت قد استقرت في جسدي أو في عقلي .. قبل أن أولد.. أو في أية لحظة من لحظات الغفلة.. لاني لم أعد أشعر برهبة الخطر.. ولا الفزع من الخسران.. واي كلام سيقال بعدي، هو كالذي سمعته أو أسمعه اليوم: رثاء بارد وكلمات ستأخذها الريح. فلماذا الاضطراب الروحي بعد ان فقد الجسد جذوته وتوقده.. فأنا لن أعود الى الحياة في الحالات كلها.. ثم ماذا لو عدت.. فهل سأعود الى غير هذا القدر المرتب، المتقن، في قانون الاقدار .. هكذا يتوغل الحزن فيّ الى درجة الفكاهة، والصمت، وعشق النكات السافلة، والجدية، واللامبالاة.. وبهذا البعد، لن تنتهي قصتي، فهناك مالا يحصى من المخلوقات سيحل محلي، ويؤدي دوري، بردود أفعال مماثلة، أو مختلفة .. إنما ستبقى هناك عربة الحصان الميت، قصة لايمكن أن تكتمل فصولها الا في حياة حصان لم يولد بعد.. وقد لايولد ابدا..
(9)
مع ذلك يصعب الحديث عن أي شيء بلا لذة ،حتى للموت ذاته لذه غريبة، غامضة ،هوجاء، ومقززة، لذة بلا نفع مباشر أو محسوم، أقول بعد نصف قرن من العمل مع الموتى والموت اكتشف ان هناك لذات سحرية تدفع بنا لاختراع العربات.. ومن يجرها، فثمة في الاخير لذة كبرى فوق هذه التفاصيل، ليست هي اللعنة وإنما قد تكون هي القدر أو أي شيء آخر.. ولكن لماذا عشقت عذابي القاتل لو لم تتوفر فيه لذة خاصة .. ولا اقصد بهذا اني كنت أذّل حصانيتي أو انني كنت مخصيا بشكل من الاشكال بل أكاد أتلمس معنى اللذة بصفتها الاخيرة للوجود، فأنا كنت أتعذب عندما لا أفكر وأتعذب اكثر عندما أفكر .. فقد كنت أعرف معنى السعادة وماذا يعني أن تدفع ثمنها.. كان الموت عندي هو الصديق اليومي الذي لم يفارقني منذ ولدت ولكني كنت أبحث عن الابدية في كل شيء حتى وهم يطلقون النار عليّ كنت أريد الامساك بالخلود. فأنا حاولت الامساك بفناء الاشياء والفناء في سرها. ولهذا صرت شاذا في الاشياء كلها ولكني لم أصر بلا عمل.. كنت أجر العربة لكي أجد نفسي ومن معي أجرهم بلا هدف نحو الا بدافع اللعب الخالص ولكن – ربما – بدافع الخلاص من اللعب الخالص . فأنا اؤمن جوهريا بأن الوجود لذّات متكاملة : هكذا كنت أخترع الاساطير الوهمية أو الاكثر وهما..وأتوغل عميقا ً وراء العادات والاعراف .
فالوهم – هكذا أراه- لايختلف عن الحقيقة إلا بصفته وهما عميقا أو أصيلا.. أي هو الحقيقة كوهم.. وأنا لا أسخر من كلامي أو أدفعكم الى السخرية بل هكذا جرتني العربة .. وهكذا قمت بجرها أيضاً.. حتى اني أعترف في لحظة توفر العلف أو بعيدا عن الحصار الذي كان يفرض علينا بالفرح والامتنان فالحياة تخترع من يعيش فيها مثلما يخترع المخلوق أثامه السعيدة.
إنني أعرف مدى العزلة التي أنا فيها كحصان فقد جميع اللذات عدا لذة أنه فقد لذاته. فإذا كنت قد مت مرات ومرات الى ما لا نهاية فلم يعد الموت الجديد الا لذة خالصة، بل لذة مرتقبة كالحياة البهية الاليفة العذبة السعيدة في لذة هلاكها.. ولا أعرف لماذا تذكرت سائسي وهو يتحدث الى أمراة كان ينام معها فوق علفي.. قال لها انه لم يرتو من الحياة في عناصرها كلها.. لم يشبع من الطعام ولا من الاعالي .. لا من الجسد الذي .. قلت في نفسي.: حمدا بعد الحمد اننا لانعاني من هذه الازمات فأنا كحصان أشبعت رغباتي وأمنياتي وضروراتي وحاجاتي كلها: باستثناء انني لا أعرف لماذا فعلت ذلك ؟ إنها لذة تتفوق على اللذة فقد سمعت السائس يقول لها: قد أكون مت مرات لاتحصى إلا أني معك، لم أفقد حتى لذة الموت! أرتج جسدي الواهن وأنا أتخيل حياتي من غير لذة: لذة أن أشيّع أو أقتل أو أهمل.. لذة الا أكون ممتلئا لحد توازن خير الامور بضدها ثم أبتسم للموتى الذين سبقوني الى الهلاك. والعربات التي جرت خيولها معها وغادرت حتى متحف النسيان. الا يحق لي أن أكون في لحظة الضعف هذه هذا الحصان وهو يتلذذ بفقدان جميع اللذات العابرة أو الاكثر يقينا من الوهم؟.
ثم شعرت بالتعب، قلت بصمت حزين: التعب صار يخشاني.. من أنت؟ قال التعب فقلت له: أسكت .. لا يحق لنا الشكوى .. فلا أنا ولا أنت يحق لنا قول هذاالكلام الفاحش .. علينا جميعا أن نبقى خيولا فرحة.. فرحة حتى وهي تعشق ذلها .. لا للحزن أو التعب… فقلت بصوت لايسمعه أحد : هذه هي الكارثة ! فانا لدي أسراري وأعرف درجاتها.. لكني مادمت أنا السر فدخان الفضيحة بلا حدود … انه هو الشقاء دائما الذي يتراكم ويتراكم والذي ينقلب في لحظة الى ابتهال والى عالم لاتجر فيه الخيول موتاها جرا.. ولاتجر هي في هذه العربات.
هنا أبدو انني لا أريد ان اضع نهاية لحكايتي فأنا لا أريد ان أموت وكأنني فشلت في تحريك أي ساكن في هذا السكون.. وهذا هو الصواب في هذه المعادلة.. ولهذا قيل لي لماذا لم ترم نفسك في البحر؟ فقلت أية لذة ساحصل عليها.. فالجميع سيجرون الجميع.. ومن أرض الموات ستنبعث الزنابق .. انها دورة فذة ومحكمة.. فأنا محض حصان حزين لدرجة تفوقت فيها على غياب الامال.. حصان يتلهى بمفردات ماضية.. فالصخرة تقول لي: ما أسعدك ! فأقول لها: وهل أنا سعيد؟ تقول : أنت تتحرك! فأقول في نفسي، ما أسعدني لو كنت صخرة! فتقول : ما اتعسني لو لم أكن صخرة ! فاضحك كأنني ولدت توأ أو كأني أدفن فوق الف قبر .. طريا شفافا بلا آثام الجر ليتكوّن في رأسي مفهوم أنني كنت على حق بالمستوى ذاته أنني كنت على باطل.. هذا السحر الدائم الذي يماثل غش صناعة البلور والمعادن الشفافة ..للحق كنت أريد الا أولد ولكني ولدت عنوة ولم اختر نهايتي الا بما يماثل ذلك الميلاد. وها أنا قلت كلمتي : ميت أمضى حياته مجرورا ً الى الموت .
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق