الأربعاء، 17 أغسطس 2011
قصة قصيرة.دجنب-عادل كامل
قصة قصيرة
دجنب
عادل كامل
أصبح دجنب حديث الناس والصحافة .. فهو الكائن الجديد الذي أخترعه البروفسور س .. وأثار انتباه سكان الأرض . كان ذلك في عام 3140 .. وقصة اختراعه ليست معقدة لكنها تحمل طابع المصادفة فضلاً عن الجهد الشاق الذي بذله البروفسور على مدى نصف قرن من التجارب . لقد عانى س من الإحباط وكاد الفشل ان يقوده الى الانتحار لولا أيمانه بأن النتائج ستكون الى جانبه . وفي ليلة الاختراع كاد الرجل ان يفقد عقله .. وبالفعل أدخل المصح لشهر كامل ثم أفاق بعد ذلك بسلامة عقل على الرغم من أنه راح يؤكد بأن الطاقة البشرية لا حدود لها وبالإمكان إنقاذ العالم من التلوث ومن المجاعات ومن التدني الروحي . فهو نشر مائة كتاب في مختلف العلوم .. وهو صاحب أكثر من نظرية في هذا المجال . أنه الذي لفت الأنظار الى إمكانية تجدد الخلايا وعودة الإنسان ، مهما أمتد به العمر ، الى الفتوة ، مع الحفاظ على الخبرة . وهو القائل بأن الإنسان يستطيع ان يعيش في المستقبل مادام قد أمتلك أسرار الماضي . وهو القائل بأن كل خلية يمكن ان تتحول الى كائن يماثل أصلها . وأخيراً فأنه نجح بشطر خلايا أرنب وخلايا دجاجة ليصنع من وحدتهما المخلوق الذي أطلق عليه صديق له بدافع السخرية دجنب .
وكان أول ظهور لهذا المخلوق الذي ورث صفات اللامبالاة إزاء الموت في التلفزيون . وشاهد سكان الأرض – آنذاك – هذا الكائن المسالم الذي كان يبتسم ويتكلم ويرقص . فقد كان دجنب سريع البديهة .. حتى أنه قال بلغة بسيطة أنه كان يعلم بميلاده .. وأنه سينقذ سكان الأرض من المجاعة . كما قال البروفسور س ان دجنب فاتحة اختراعات أخرى . وأنه استطاع اكتشاف سر اندماج وتجدد الخلايا بعمليات كيماوية وروحية .
بعد ذلك أنشغل البروفسور س بشرح نظريته التي عرفها العالم كله . فدجنب يمتلك صفات لم تتوفر في أي حيوان منذ الطوفان . أنه سريع التكاثر .. فهو يلد ويبيض .. ثم أنه ليس بالذكر ولا بالأنثى .. ولا بالكبير ولا بالصغير .. كما أنه يستطيع ان يعيش في البيئات المختلفة .. فقد عاش في الصحراء مثلما عاش في المياه المتجمدة .. عاش في الهواء كالطيور وعاش في باطن الأرض .
وبعد أشهر ، وفي ليلة باردة ، شعر البروفسور س ان دجنب قد تخلى عنه . وكان ذلك الشعور قد دفعه الى العزلة ، فذهب الى قرية مجهولة وأخذ يعالج عذابه بالإدمان على كحول اخترعه من الهواء . كان هذا المشروب بحد ذاته معجزة . لكن البروفسور ، بدافع أحاسيسه الغريبة ، لم يفصح عنه . وهكذا أمضى عدة أشهر بعيداً عن الأضواء وعن الناس . كان يمضي جل وقته في تأمل حركة الريح .. والأشعة الآتية من الفضاءات البعيدة .. وكان يمضي الزمن الآخر بالتحدث الى مخلوقات تعيش في المستقبل . وكانت تسلية رائعة وجميلة تلك التي قضى فيها على مشاعره المحبطة .. فقد أدرك ان دجنب هو الذي أخترع نفسه ولم يكن له أي دور في الأمر .. وان العلم يتقدم بعيداً عن العلماء .
يومها ، وقد تجاوز المائة من العمر ، رغب بالموت . فشرب من نبيذ الهواء .. وظن أنه سيموت . لكن نبيذه أنقذه من تلك الحالة . فعاد يكتب قصائد عن احتكاك الذرات وخفايا ذاكرتها . قصائد كان يحرقها في الفجر .. ثم يعود إلى كتابة رواية تتحدث عن الهواء الذي هو أصل الأشياء . ويحرق كل ما يكتب .. ذلك لأن ما كان يكتبه كان يدوّن في ذاكرة دجنب .. هذا الكائن الذي أنقذ البشرية كلها من الموت جوعاً والذي أهمل أو تناسى مخترعه .
وفي ليلة يأس فيها البروفسور س من التطابق مع ذاته ، ومع العالم ، وجد نفسه قد تحول الى مخلوق لا صفة له . لحظتها شاهد من خلال التلفاز ، دجنب ، دجنب ذاته ، يتحدث الى سكان الأرض .. ويترجى البشرية ، البحث عن البروفسور س وإنقاذه من عزلته . فكاد لا يصدق .. لكنه تابع الإصغاء ، بذكاء متطور ، وهو يشرب خمر الهواء ، آخر كلمات دجنب .
ثم فجأة كان الأخير يجلس أمامه .. وجهاً لوجه .
- أنني لم أنس قط ، على مدى قرون ، أنك كنت معي ..
كذلك قال دجنب :
- أنني أعرفك جيداً يا أستاذي .. ألا أنني أشعر بالضجر القاتل ..
ثم قال حالاً ، وهو يحدق في عيني البروفسور :
- أنني لا أعرف لماذا صنعتني .. أنا شديد الذكاء .. وكثير العذاب .. وحزين ..
وصرخ :
- وأريد ان أموت !
لم يتوقع البروفسور الاستماع إلى هذه الكلمات ، كان دجنب يختلف عن المخلوق الذي صنعه .. بل ويختلف في الأشياء الأساسية .. فها هو يتحدث بخبرة البروفسور عن القلق الأزلي .. وعن اللذة المستحيلة .. وعن الموت الذي يفوق الأحلام . عن مخلوقات الغد التي ولدت في الماضي . وعن الماضي الذي رآه في الأزمنة كلها ، كان يرتجف ، مثل طفل .. وأدرك أنه لم يخترع ألا نفسه على هذه الصورة .
فقال دجنب :
- أذن ، فأنت تشبهني .. أيها البروفسور ؟
فنطق البروفسور بألم مكتوم :
- لا أحد يعرف .. المشكلة أني أريد التخلص منك ..
- مني أم من نفسك ؟
- معاً . أنها ليست لعبة .. لقد حاولت إنقاذ العالم ..
فضحك دجنب وقال :
- لقد كنت تسخر مني ومن العالم أذن ؟
- أبداً .. كنت أريد ان أخلص العالم من السخرية .. هذه هي فكرتي ..
وتابع بصوت هادئ :
- أنني كنت أريد إنقاذ نفسي من نفسي . فالشر هو الشر منذ البدء . يا دجنب .. وأقسم لك أني كدت أنسى أسمك وأسمي ، لكن العالم الذي يتحدث عنك وعني يجعلني ، وأنا تجاوزت المائة من العمر ، أثرثر .أجل ، صدقني ، كنت لا أريد ان اخترعك على هذا النحو .. الرائع .. بل كنت أريد ان أنسى نفسي ..
- وهذا ما فعلت ..
- أن يتحدث عني العالم ..
- العالم يتحدث عن أحفاد أحفادي .. عن الدجانب .. وهناك من وضع نظرية الدجنبية .. وأعتقد أنك ، يا سيدي ، لم تهرب ألا لهذا السبب .. أنت صنعتني وأنت تريد القضاء عليّ .. هذه هي المشكلة .. وأنا كنت أريد أن أسألك ، أين الصانع ، لماذا قذفت بي الى الأفواه .. ؟
- كانت جائعة ..
- هكذا .. أذن .. كنت لا تريد ألا غلق الأفواه الجائعة ..
- كنت أريد ان أصرخ ..
- لكنك جعلتني أذبح وأذبح من اجل الأفواه البشرية ..
- هو ذا صراخي !
وأمتد الحوار لأيام متواصلة .. وفي إحدى فترات الاستراحة أذاع التلفزيون الإعلان التالي :
- لقد اختفى دجنب .. وهذا يعني ان الدجانب الجديدة ستلاقي حتفها .. فعلى الجميع بذل جهد للعثور عليه – وهناك جائزة خيالية لمن يعثر عليه أو يدلنا على مكانه ..
صرخ دجنب :
- أتسمع .. أنهم يبحثون عني ..
وقال ساخراً بعد لحظة توقف :
- أعتقد أنك ستخبرهم عن مكاني ..
كان البروفسور يعاني من شرود الذهن .. ومن الصداع النفسي .. فقال دجنب :
- أذن عليّ ان أسلمك لهم أيها البروفسور ..
صرخ الأخير :
- كلا .. كلا .. لا أريد ان أعود إليهم ..
- لكنهم سيعثرون علينا ..
كان البروفسور لا يستطيع ان يفكر في شيء
فقال دجنب : دعني أتصرف أيها البروفسور ..
فصرخ الأخير : كلا .. أنتظر ..
ناوله مجموعة من العقاقير .. فرقد دجنب كالميت في سريره . كان يفكر في تفكيك خلاياه ، ونثرها ، والتخلص من فكرة صناعة مخلوق آخر . أنه كان يخشى ، بفعل تلك العقاقير ، ان تنشطر الخلايا وتتحول إلى تكوين مجموعة جديدة من المخلوقات . ألا أنه أدرك أن هناك قوة أعظم منه كانت تشرف وتهيمن على أفكاره وسلوكه . وأدراك أنها ، أي تلك القوة التي ساهم بصناعتها ، قد غدت أداة كونية .
رفع دجنب رأسه وقال بصوت خفيض :
- أيها البروفسور لا تتعب نفسك .. كلانا ضحايا .. أرقد .. وأحلم .. وفي الفجر .. سنخرج معاً إلى المراعي .. إلى الغابات .. أنا أنسى تاريخي .. وأنت تمحو علمك كله .. دعنا نذهب الى الغابة ونتحول الى عشب والى تراب ، والى هواء ..
فقد البروفسور الوعي للحظة .. ثم آفاق :
- ماذا تقول يا دجنب ؟
وكانت لحظة مروّعة عندما حول البروفسور دجنب إلى فتاة في ريعان الشباب .. في العشرين .. ذات شعر أسود .. وقامة رشيقة .. ألا أنه كان يبحث عن طريقة لتدمير دجنب الذي كان يحدق في محياه بحزن واستسلام . هيا أفعل . ولم ينطق دجنب .. فقد كان البروفسور يستمع إلى صوته الداخلي . وتلك النظرية التي اكتشفها في عزلته لم يعلنها لأحد . كان يريد ان ينهي حياته بأي ثمن .
قال دجنب :
- سأعود إليهم .. إلى الفم البشري الجائع ..
- كلا .. أرجوك .. كلا .. دعنا نتأمل الأمر ..
- لا جدوى .. لا جدوى .
بالفعل ، فكر البروفسور ، ألا جدوى من القضاء على دجنب أو القضاء على نفسه . فمعهد العلوم الكوني يعرف ماذا يحدث في رأس أي مخلوق فوق الأرض وغير الأرض . لهذا راح يفكر باختراع جهاز مضاد .
قال دجنب :
- لماذا لا ترجعني إلى أصلي .. حاول .. أنه الخلاص الوحيد لي ولك َ ..
- أنها أعظم فكرة .. ولكني الآن لا أستطيع ان أفعل ذلك .. بل في الواقع لا يمكن تدمير النتائج التي توصلنا أليها .
طويلة ، نحيفة ، كأنها شجرة في ربيع ، ألا أنه ، وبعد نصف قرن ، وجد نفسه يمارس الحب ..
هكذا أمضى فترة غير محددة معها . كان قد فقد العقل تماماً ، وانهارت قواه الجسدية .. ألا أنه كتب قصائد عن خلايا الجمال .. ومات وهو يبكي بصمت .
في فجر ذلك اليوم ، كانت عشرات من الفتيات يتجولن بين الحقول . أنهن يزرعن ويحصدن ، فتيات جميلات ، وينشدن قصائده ، وبعد آلف عام ، من اختفاء دجنب ، ظهر البروفسور وهو من الكائنات التي بلا ظل ولا صوت ، وسمع أناشيده في العالم ، عاد إلى ضريحه ، في مكان ما من العالم ، وكتب فوقه : هنا يرقد دجنب .1
1989
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق