الاثنين، 1 أغسطس 2011

معوقات الديمقراطية في العالم العربي-عبدالخالق حسين

معوقات الديمقراطية في العالم العربي
عبدالخالق حسين
إن ما يشهده عالمنا العربي من انتفاضات وثورات شعبية، اجتاحت كل من تونس ومصر والأردن واليمن والبحرين وليبيا، وأخيراً سوريا... يشبه إلى حد كبير ما جرى في ثمانينات القرن الماضي في دول أوربا الشرقية (الاشتراكية سابقاً). والغرض من هذه الثورات والانتفاضات واحد في الحالتين، وهو التخلص من الأنظمة المستبدة المتحجرة وإقامة أنظمة ديمقراطية تحترم التعددية وحق الاختلاف والتداول السلمي للسلطة وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتفكير، وحرية الفرد، وتشكيل منظمات المجتمع المدني..الخ. وقد نجحت شعوب أوربا الشرقية في نضالها، والآن تتمتع بأنظمة ديمقراطية لا تختلف كثيراً عن تلك التي في أوربا الغربية التي سبقتها في هذا المضمار لمئات السنين. لذلك، نعتقد أنه قد حان الوقت للشعوب العربية أن تلعب ذات الدور، ولا بد من أنها ستنتصر، فالتطور سنة الحياة.
ولكن الديمقراطية ليست بلا ثمن، ولم تتحقق بسرعة وبسهولة وسلاسة في أي بلد في العالم، بل ولدت عبر مخاض عسير وعمليات جراحية قيصرية. فالديمقراطية لا تولد متكاملة ولن تكتمل، بل هي صيرورة تراكمية تبدأ بحقوق بسيطة، بـ 10% ثم 20% وهكذا تنمو مع الزمن وعبر نضال الشعوب ووفق نمو وعيها بحقوقها وتطورها الحضاري. وتاريخ أوربا يؤكد صحة ما نقول.
كذلك، يجب التوكيد على أن الديمقراطية تنشأ في كل بلد بطريقة مختلفة، فظروف دول أوربا الشرقية تختلف عن ظروف البلاد العربية. ففي الأخيرة توجد معوقات كثيرة للديمقراطية لم تكن موجودة في غيرها من البلدان، مثل المنظومة الفكرية، والموروث الاجتماعي culture ، والصراعات بين مكونات شعوبها، الدينية والطائفية والأثنية. كذلك هناك الحركات الإسلامية والسلفية والأصولية الدينية الممانعة للعلمانية ودولة المواطنة التي هي شرط أساس لقيام النظام الديمقراطي الحقيقي. على أية حال ورغم هذه الاختلافات، هناك مقاربة وتشابه أيضاً، فالشعوب الأوربية التي سبقتنا في الديمقراطية، هي الأخرى مرت بصعوبات ومعاناة في مرحلة محاكم التفتيش وعصر النهضة والتنوير، فالانتقال إلى الديمقراطية لم يكن سهلاً ولا سلساً.
لقد ذكرنا في بحث سابق بعنوان (إشكالية الليبرالية في البلاد العربية)، أن الإنسان لا يبحث عن الديمقراطية والليبرالية وحرية التعبير...الخ إلا بعد إشباع حاجاته الأساسية (basic needs) مثل: الغذاء والشراب، للحفاظ على الحياة، وإشباع غريزة الجنس لاستمرارية النوع (species)، وتوفير المأوى للحماية من قسوة الطبيعة، وكذلك الأمان من المخاطر التي تهدد الحياة، كالعدوان، والحيوانات الضارية المفترسة، والأمراض. وعندما تتحقق له ما تقدم، تظهر له حاجات أخرى لتحسين وضعه، مثل التعليم والثقافة والتنمية البشرية، وتأتي بعدها وسائل الرفاهية لإشباع الحاجات الروحية مثل الفنون الجميلة والكماليات المادية. وأخيراً تأتي الديمقراطية والليبرالية وحرية الفرد لإشباع حاجات الإنسان في تأكيد ذاته وإطلاق طاقاته في الإبداع والإنتاج، واستقلال شخصيته وشعوره بأهميته في المجتمع.(1)
لذلك، نرى أن مطالبة الإنسان بالديمقراطية والليبرالية تأتي بعد تحقيق احتياجاته الأساسية. ويبدو أن الشعوب العربية قد اقتربت من هذه المرحلة، لا لأنها حققت الحدود الدنيا من إشباع الاحتياجات الأساسية فحسب، بل ولتنامي الوعي السياسي والاجتماعي لدى الجيل الجديد وذلك بفضل الثورة المعلوماتية والتقنية المتطورة في المواصلات والاتصالات، حيث الاحتكاك المتزايد بين الشعوب بسبب الهجرات الجماعية والسياحة المليونية والانترنت والفضائيات وغيرها من وسائل الاتصال التي حوَّلت العالم إلى قرية كونية صغيرة، ربطت بين مصالح الشعوب الاقتصادية والثقافية في منظومة العولمة وجعلتها متشابكة لا فكاك بينها، وساعدت في تعجيل تطور الوعي لدى الشباب، خاصة وإن 70% من نفوس المنطقة العربية هم دون 31 سنة من العمر، معظمهم من المتعلمين يعانون من مشاكل مشابهة مثل البطالة والأنظمة المستبدة المتحجرة، وتطلعهم إلى حياة أفضل.
فما هي هذه المعوقات؟
المعوقات التي تواجه عملية الانتقال للديمقراطية في العالم العربي كثيرة، نذكر منها ما يلي:
أولاً، منظومة القيم التقليدية الموروثة:
إن الثقافة العربية- الإسلامية السائدة لها جذور عميقة في المجتمعات العربية، وهي ضد الديمقراطية والليبرالية وحرية الفرد وحقوق المرأة. وهذه الظاهرة لم تأت من فراغ، بل هي وليدة الظروف الموضوعية والثقافة الموروثة (culture)، التي تمتد جذورها إلى البداوة في صحراء الجزيرة العربية. فالبداوة، كما وصفها المؤرخ البريطاني المعروف، أرنولد توينبي، بأنها "حضارة متجمدة " أي في سكون وركود، عصية على التطور والتغيير.
ومن أهم سمات الثقافة البدوية، هي العلاقات الأبوية (patriarchism) المتمثلة بسلطة الأب المطلقة في التحكم بأفراد أسرته، وحتى في قتلهم إذا شاء، مروراً بسلطة شيخ القبيلة في قبيلته، وصولاً إلى رئيس الدولة في سلطته المستبدة في حكم الشعب. فالدولة العربية هي صورة مكبرة من القبيلة. وكما تنتقل هذه السلطة وراثياً من شيخ القبيلة إلى أبنائه، كذلك الأمر في انتقال سلطة رئيس الدولة، بغض النظر عن كونه رئيساً أو ملكاً، فالدولة العربية هي امتداد للمشيخة القبلية، فهي سلطة مطلقة، وحتى الأنظمة الملكية في البلاد العربية مازالت ملكية مطلقة في معظمها.
والجدير بالذكر، أنه تم تكريس الاستبداد في البلاد العربية - الإسلامية عن طريق رجال الدين الذين سايروا الحكام المستبدين طلباً للسلامة والرزق، والذي أطلق عليهم عالم الاجتماعي العراقي الراحل الدكتور علي الوردي بـ(وعاظ السلاطين). فهؤلاء اختلقوا الكثير من أقوال أسندوها إلى النبي محمد في طاعة الحاكم حتى ولو كان مستبداً جائراً، فاستغلوا الآية القرآنية: "أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" وفسروها بأن المقصود بأولي الأمر هو الحاكم حتى ولو كان مستبداً. لذلك انتحلوا أحاديث كثيرة، منها إدعاؤهم أن الرسول الكريم قال: "اسمع وأطع – يقصد الحاكم- وإن جلد ظهرك وأخذ مالك". والتاريخ حافل بالأحداث التي استجاب فيها رجال الدين للخلفاء والسلاطين في إصدار فتاوى لتبرير قرارات الحكام منذ الدولة الأموية وحتى نهاية الدولة العثمانية، حتى ولو كانت مخالفة للدين. وهؤلاء الشيوخ مازالوا يتمتعون بالسلطة الروحية في توجيه المجتمع العربي- الإسلامي كما يشاؤون، ووفق ما يريد منهم الحكام المستبدون. فمعظم فتاوى هؤلاء الوعاظ تتناقض مع الديمقراطية، خصوصاً في مواقفهم من المرأة والفنون الجميلة وحرية التعبير والتفكير وحرية الفرد وحق الاختلاف.
ولكن رغم هذه المعوقات، فإن الشعوب العربية ليست بمعزل عما يجري في العالم، فهي في حالة تماس مع العالم المتحضر المتجدد دوماً، وفي عملية الأخذ والعطاء، تؤثر وتتأثر بالحضارة الإنسانية التي ساهم العرب في بنائها بقسط وافر في مرحلة من مراحل التاريخ. فالثقافة العربية الراهنة هي مزيج من البداوة والحضارة الحديثة ولو بنسب مختلفة، ولكن الانتفاضات الشعبية الأخيرة أثبتت أن الشعوب العربية قد بلغت مرحلة تغليب كفة الحضارة على البداوة دون أن تتخلص من البداوة كلياً.
ثانياً، الإسلام السياسي
لعل هذا العامل يعد من أخطر المعوقات أمام الديمقراطية في العالم العربي. إن صعود مد الإسلام السياسي والتشدد الديني المتمثل في حزب الإخوان المسلمين وفروعه في البلاد العربية تحت مختلف الأسماء مثل: حماس في غزة والجزائر، والنهضة في تونس، والتحرير في دول أخرى... الخ، يشكل عائقاً كبيراً أمام الديمقراطية. والجدير بالذكر أن عقيدة الإخوان المسلمين مشتقة من العقيدة الوهابية المتشددة التي تؤمن بإلغاء الآخر وممارسة العنف باسم الجهاد في سبيل الله ضد من يخالفهم ويعارضهم في تحقيق غاياتهم النهائية وهي إقامة دولة الخلافة الإسلامية وتطبيق مبدأ (الحاكمية لله) على المدى البعيد. وانتعشت الأحزاب الإسلامية بانتعاش الثروات النفطية في الدول الخليجية، التي صرفت عشرات المليارات من الدولارات في دعم الإسلام السياسي، ونشر تعاليم العقيدة الوهابية المتشددة في البلاد العربية والعالم، مستفيدة من التطور السريع الذي حصل في تكنولوجية الاتصال والمواصلات في نشر التطرف الديني بين الشباب المسلم وعلى نطاق واسع، مستغلة ظروفهم المعيشية الصعبة، التي فشلت الأنظمة المستبدة في حلها، فرفعوا شعارهم "الإسلام هو الحل". إضافة إلى هجرة العمالة العربية المليونية من البلاد العربية الفقيرة إلى الدول الخليجية النفطية الغنية التي تعتنق الوهابية المتشددة، فعند عودتهم إلى بلدانهم نقلوا معهم التطرف الديني والحجاب والنقاب.
والمفارقة هنا، أن الأنظمة العربية المستبدة شكلت تحالفا غير معلن مع المؤسسات الدينية في اضطهاد أحزاب المعارضة العلمانية وشرائح المثقفين الديمقراطيين الليبراليين، ووضعت أمامها العراقيل لمنعها من نشر الأفكار التنويرية، بينما فسحت المجال أمام الإسلام السياسي لاستخدام المساجد والمدارس الدينية ووسائل الإعلام، بل وحتى الشوارع والساحات، لنشر تعاليمهم ومبادئهم السياسية والتطرف الديني، وتضييق الخناق على التنويريين واضطهادهم وتشريدهم، بل وحتى قتلهم.
وخطورة الإخوان المسلمين، خاصة في مصر، تكمن في كونه تنظيم عريق عمره 80 سنة وهو من أكثر الأحزاب السياسية خبرة ومالاً وتنظيماً ومعرفة بالمجتمع ومشاكله، ويعرف كيف يعزف على الوتر الديني الحساس لاستثمار مشاعر الناس الدينية لأغراضه السياسية، ويتكيف مع الأوضاع حسب الحاجة. فجماعة الإخوان يتحدثون بلسانين، وحسب ذهنية الجمهور الذي يخاطبونه. ففي بداية ثورة الشعب المصري في 25 يناير 2011، اتخذوا موقف المحايد ولم يشاركوا فيها إلا بعد تأكدهم من نجاحها، وعندها ساهموا فيها وبتحفظ شديد، فلم يرفعوا شعاراتهم المألوفة مثل (الإسلام هو الحل، والرسول قائدنا، والقرآن دستورنا)، بل ركبوا موجة المطالبة بتغيير النظام، وتحدثوا كثيراً عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحداثة وتأييدهم لها. ومن ثم دعوا الداعية الإسلامي، الشيخ يوسف القرضاوي، من قطر ليقيم فيهم الصلاة في ميدان التحرير في القاهرة، كمحاولة منهم لاختطاف الثورة من الشباب المصري، أصحابها الشرعيين الذين دفعوا أكثر من 800 شهيد وآلاف الجرحى.
ولما تم تعديل الدستور المصري والذي ما زال يحظر تأسيس الأحزاب على أسس دينية في المادة الخامسة التي تنص على أنه "لا تجوز مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية على أية مرجعية دينية أو أساس ديني"، أعلنت جماعة الإخوان المسلمين عن تأسيسها لحزب سياسي باسم «الحرية والعدالة»، وادعوا أن "الحزب سيكون مستقلا تماما عن الجماعة في كل شيء"(2). وهذا يكشف لنا مدى قدرة جماعة الإخوان على التكيف والمناورة والمراوغة وفق الظروف بمجرد التلاعب بالألفاظ ليتلاءم مع الدستور، ولو شكلياً. لكن في الواقع أن هذا الحزب "المدني" ولد من رحم جماعة الإخوان المسلمين، ويمتثل لأوامرها، الجماعة التي لم تغير أهدافها ولا حتى شعارها الذي يتضمن السيفين المتقاطعين، وتحتهما كلمة "وأعدوا"، في إشارة للآية القرآنية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم"، أي الدعوة للعنف لإرهاب خصومهم السياسيين. فالجماعة لم تأخذ في الحسبان الظروف التاريخية قبل أكثر من 1400 سنة التي نزلت فيها هذه الآية، بل يريدون تطبيقها في ظروفنا الحالية في القرن الحادي والعشرين، وخارج سياقها التاريخي.
ولكن، في الوقت الذي يتحدث فيه الإخوان عن الديمقراطية و تأسيسهم "حزب مدني" باسم: (حزب الحرية والعدالة)، خرج علينا السيد وجدي غنيم، أحد قيادي الجماعة، ليقول لنا حقيقة موقفهم من الديمقراطية، دون لف أو دوران، في لقاء تلفزيوني أكد فيه تكفير الديمقراطية وأن الحكم لله وليس للشعب.(3)
ما نود تأكيده هنا، هو أن الإسلام السياسي في مصر، أو أي بلد عربي آخر، يشكل خطورة بالغة على الديمقراطية. إلا إنه في نفس الوقت لا ندعو إلى حظر الأحزاب ذات التوجهات الدينية، لأنها ستتخذ من هذا الحظر ذريعة لاستخدام العنف كما حصل في الجزائر عام 1992 بعد أن ألغت الحكومة الجزائرية نتائج الانتخابات البرلمانية التي أظهرت في شوطها الأول فوز المرشحين الإسلاميين، لا لأن الشعب الجزائري كان ميالاً إلى الإسلاميين، ولكن كتصويت احتجاج ضد تفشي الفساد الإداري وفشل الحكومة العلمانية العسكرية لحل المشاكل الاقتصادية المتفاقمة.
كذلك، نعتقد أن غالبية الناخبين العرب، ونتيجة للكوارث التي حصلت في بلدانهم بسبب العنف من قبل منظمة القاعدة الإرهابية، غيرت مواقفها من الأحزاب الإسلامية، إذ اكتشفوا مخاطر التصويت لمرشحي الإسلام السياسي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ففي الانتخابات البرلمانية الأخيرة في الأردن والكويت والجزائر، انحسرت نسبة الإسلاميين كثيراً إلى حد أنهم لم يشكلوا أي ثقل برلماني. كذلك الحال في الانتخابات التشريعية الباكستانية الأخيرة، حيث لم يحصل المرشحون الإسلاميون على أكثر من 11% من مجموع الأصوات. أما في مصر، فأغلب استطلاعات الرأي تشير إلى احتمال حصول لإسلاميين في الانتخابات القادمة على ما بين 20% إلى 25% من الأصوات.
ثالثاً، الصراعات والفتن الدينية والطائفية:
لا شك أن هذه الصراعات تهدد الديمقراطية في البلاد العربية، فهي عبارة عن ألغام موقوتة، ففي مصر مثلاً هناك فتن دينية بين الإسلاميين السلفيين وبين الأقباط المسيحيين، وكانت آخرها، (لحد كتابة هذه السطور)، الصدامات الدامية في حي «إمبابة» الشهير، الأمر الذي جعل وزير العدل المصري المستشار عبد العزيز الجندي، يقول «الأمة المصرية في خطر». وقد سبقتها صراعات دامية كثيرة خلال الثلاثين سنة الماضية بين أتباع الديانتين في مصر. كما وتصاعدت بعد ثورة 25 يناير نشاطات السلفيين الذين فرضوا سيطرتهم على بعض المساجد بالقوة، إضافة إلى تدميرهم لمراقد بعض الأولياء الصالحين.
كذلك موقف الحكومات العربية المزدوج من الانتفاضات في بعض البلاد العربية، وعلى سبيل المثال، ففي الوقت الذي دعمت فيه الجامعة العربية انتفاضة الشعب الليبي ضد نظام القذافي، وأيدت حلف الناتو لفرض الحظر الجوي على ليبيا، وهو موقف سليم، وقفت الجهات العربية ذاتها ضد انتفاضة الشعبي البحريني ووصفتها بالطائفية، وأيدت إرسال قوات من الدول الخليجية لقمعها. والجدير بالذكر أن مشايخ الوهابية أصدرت فتاوى لدعم حكم البعث الصدامي في العراق قبل 2003، واعتبرت الإطاحة به عدواناً على السنة العرب، وهو ليس كذلك، ولكنها في أيامنا هذه أصدرت هذه المشايخ ذاتها فتاوى ضد حكم البعث السوري واعتبرته كافراً لأن رئيسه من الطائفة العلوية، علماً بأن النظامين البعثيين، العراقي والسوري، شقيقان يتبنيان ذات الأيديولوجية.(4).
رابعاً، غياب منظمات المجتمع المدني:
تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً مهماً في دعم الديمقراطية وذلك، بقيامها بدور الوسيط بين السلطة والشعب، وهي إلى جانب الصحافة وأحزاب المعارضة تقوم بمراقبة السلطة وتحاسبها على أخطائها. ولكن المشكلة هنا، أن الأنظمة المستبدة إما أن تقوم بإلغاء منظمات المجتمع المدني، أو تهيمن عليها هيمنة كاملة وتجعلها تابعة لأحزابها الحاكمة، وبذلك فهي تفقد أهميتها في هذه المرحلة، لأنها تصبح مجرد شبكات تجسس على الشعب، وتابعة لأجهزة السلطة الأمنية القمعية. لذلك، يجب العمل على تأسيس منظمات المجتمع المدني (NGO) خارج هيمنة السلطة، وفتح دورات تثقيفية مكثفة لرفع وعي الشعب وقادة هذه المنظمات بواجباتها وطريقة إدارتها ودورها في النظام الديمقراطي.
خامساً، تفشي الأمية والجهل
من المؤسف أن الأمية الأبجدية متفشية بنسبة عالية في البلاد العربية، إذ تبلغ نحو 40% بين الذكور، و60% بين الإناث، ناهيك عن النقص المريع في المعرفة، أي الأمية الثقافية. (راجع تقرير الأمم المتحدة لعاميْ 2002 و 2003 عن «التنمية البشرية في العالم العربي»). وهذه المشكلة تشكل عقبة أمام الديمقراطية، فالديمقراطية لا تعني الانتخابات فحسب، بل وحرية التعبير والتفكير والتنظيم والتظاهر وحق الاختلاف، ووعي المواطن بحقوقه على الدولة، وواجباته إزاءها، واحترامه للقوانين. لذلك، يمكن أن يستغل أعداء الديمقراطية تفشي الأمية والجهل بين شريحة واسعة من الناس، لبث الإشاعات بينهم، وتضليلهم ضد مصالحهم وتوجيههم ضد الديمقراطية والشعب، كما حصل في فتنة أمبابة الأخيرة في مصر، على سبيل المثال.
سادساً، اضطهاد المرأة:
المرأة تشكل 50% من المجتمع، ولكنها مضطهدة في البلاد العربية وحقوقها مهدورة، فهي توضع في مرتبة دون مرتبة الرجل بكثير نتيجة للمنظومة الفكرية والعادات والتقاليد الموروثة البالية، والتي يحاول البعض إسباغ القداسة عليها بدعمها بالدين والشريعة الإسلامية والاقتداء بالسلف الصالح...الخ. وبذلك، فهناك شل لطاقات 50% من الشعب ومنعها من المشاركة في عملية البناء، وهذا عامل معوق للديمقراطية وتقدم المجتمع سياسياً وحضارياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً. فالمستوى الحضاري لأي مجتمع يقاس، إلى جانب معايير أخرى، بمكانة المرأة ونشاطها في مختلف المجالات.
سابعاً، أزمة أحزاب المعارضة
إن معظم أحزاب المعارضة تشكل الوجه الآخر للسلطات المستبدة في البلدان العربية، فهذه الأحزاب تطالب بالديمقراطية طالما هي في المعارضة، ولكن ما أن تستسلم الحكم حتى وتتنكر للديمقراطية وتواصل الاستبداد. كذلك، معظم هذه الأحزاب عبارة عن مِلكية "للقائد المؤسس" ولعائلته. وهذه الخاصية لم تسلم منها حتى الأحزاب الشيوعية في البلاد العربية، وعلى سبيل المثال لا الحصر عندما توفى زعيم الحزب الشيوعي السوري، خالد بكداش، انتقلت الزعامة إلى زوجته السيدة وصال فرحة، بمثل ما انتقلت زعامة حزب البعث السوري الحاكم بعد وفاة زعيمه حافظ الأسد، إلى نجله بشار الأسد.
وهذا التوريث في زعامة الحزب، أو الدولة، هو امتداد لتوارث زعامة العشيرة والقبيلة في أنظمة العلاقات الأبوية التي أشرنا إليها آنفاً. لذلك، فإن الشعوب العربية أمام محنة كما توضحها مقولة عن أزمة الديمقراطية في البلاد العربية مفادها: (أن الحكام المستبدين لا يمكن أن يدربوا شعوبهم على الديمقراطية، والشعوب المحكومة بالاستبداد لا يمكنها أن تنجب قادة ديمقراطيين، وهكذا نجد هذه الشعوب أمام حلقة مفرغة ومحنة حقيقية).
ثامناً، الصراعات بين قوى الثورة وتشرذمها
معظم الذين قاموا بالانتفاضات والثورات الشعبية الأخيرة في البلاد العربية هم من الشباب، أو ما أطلق عليهم بجيل الانترنت والفيسبوك والتويتر. وهؤلاء يشكلون نسبة كبيرة من الشعب، يريدون نظاماً ديمقراطياً يضمن لهم حياة حرة وكريمة، ومعظمهم غير مؤدلجين، ولكن مشكلتهم الكبرى أنهم غير منظمين في أحزاب أيضاً، أي أنهم لا ينتمون إلى أي حزب سياسي ويفتقرون إلى زعامة كارزماتية تقودهم وتوحدهم وتبلور أفكارهم في تنظيم سياسي ليحقق لهم أهدافهم المشتركة في بناء النظام الديمقراطي ودولة المؤسسات. لذلك، أرى أن تشرذم الطاقات الشبابية ليس في صالح الثورة الديمقراطية الوليدة، وأن الحل يكمن في تطوع مفكرين ديمقراطيين، وليبراليين، لبذل جهود كبيرة في توحيد هؤلاء الشباب وتنظيمهم في حزب أو أحزاب لسد الطريق على الأحزاب الإسلاموية التي تتمتع بوحدة التنظيم والخبرة والقدرة على المناورة واختطاف الثورة من أصحابها الشرعيين.
مشكلة أخرى في هذا السياق، أن قوى الثورة غير متجانسة، وتضم مكونات مختلفة ومتصارعة سياسياً وأيديولوجياً وقبلياً، لذلك هناك خطر نشوب الصراعات الدموية بين هذه القوى عندما يتم القضاء على العدو المشترك. وعلى سبيل المثال، مقتل اللواء عبد الفتاح يونس، قائد قوات المعارضة الليبية، والذي انشق عن نظام القذافي وانضم للثورة، وفي طريقه إلى بنغازي للرد على أسئلة حول عدم تحقيق المعارضة لأي تقدم في الميدان، تم اغتياله واثنين من مساعديه من قبل حمايته وفي ظروف غامضة. ويعتقد بعض المراقبين أن السبب هو المنافسة بين قادة الثورة، مما يشي إلى انقسامات قبلية وغير قبلية داخل المعارضة، إذ هناك تقارير تفيد أن جماعات الثورة الليبية غير متجانسة، والشيء الذي أبقاهم متحدين لحد الآن هو عداءهم وبغضهم للدكتاتور الليبي معمر القذافي وأعوانه، فما أن يسقط حتى وستنفجر الصراعات الدموية بين قوى الثورة نفسها، كما حصل في الصومال. ونفس الكلام ينطبق على الانتفاضات في اليمن وسوريا.
تاسعاً، الانفجار السكاني
وهذا العامل لا يقل خطورة عن الإسلام السياسي في تعويق الانتقال إلى الديمقراطية. الملاحظ أن عدد السكان في البلدان العربية يتضاعف كل ربع قرن، ففي أوائل القرن العشرين كان تعداد نفوس البلاد العربية في حدود 28 مليون نسمة، قفز هذا الرقم إلى ما يقارب 350 مليون نسمة اليوم، أي ازداد نحو 12 ضعفاً عما كان عليه أوائل القرن العشرين، وهو أعلى معدل إنجاب في العالم حسب دراسات عالمية موثقة. يقابل ذلك التردي في خصوبة التربة وازدياد الملوحة وشحة المياه واتساع التصحر والأزمة الخانقة في السكن.
إن معظم البلاد العربية غير قادرة على إنتاج ما تحتاجه شعوبها من غذاء، وتعاني من الأزمات الاقتصادية. وهناك علاقة وثيقة بين الاكتفاء الاقتصادي والاستقرار السياسي والتنمية البشرية والسلم الاجتماعي ونجاح النظام الديمقراطي. والإخلال بأي من هذه العوامل يخل بالعوامل الأخرى. هذه الشروط، لا يمكن تحقيقها إلا بإيجاد حل جذري لمشكلة الانفجار السكاني الذي يمثل بحد ذاته الدمار الشامل.
كذلك، من المؤكد أن الانفجار السكاني مع تردي الوضع الاقتصادي، يعمل على تفجير الألغام الخامدة في المجتمعات وذلك بإشعال الصراعات الدموية بين مكونات الشعب الواحد، الدينية والمذهبية والاثنية.
والحل الذي نقترحه هو تبني برنامج صارم لتنظيم الأسرة، وشن حملة تثقيفية واسعة لإقناع الناس بجدوى تحديد النسل، إذ من الصعوبة على أية حكومة، ديمقراطية أو مستبدة، توفير ملايين الوظائف سنوياً لملايين الخريجين وغيرهم من العاطلين عن العمل، ولذلك سيصاب الشباب بخيبة أمل في تحقيق الطموحات التي علقوها على ثورتهم.(5)
عاشراً، أتباع النظام المستبد
العقبة الأخرى التي تواجه الديمقراطية هي أن النظام المستبد الجائر اعتمد في حكمه لفترة طويلة على سياسة "فرق تسد" وخلق شريحة واسعة من المنتفعين، أحاط نفسه بهم، وأغدق عليهم بالمناصب والمسؤوليات والمال والجاه والامتيازات الأخرى، وربط مصيرهم به، إذ يعرف هؤلاء أنهم صاروا مكروهين ومنبوذين من قبل الشعب، واستمرارية امتيازاتهم وسلامتهم تتطلب الدفاع المستميت عن النظام المستبد، ولي نعمتهم، وإذا ما سقط فسيتعرضون للإبادة!. وقد لاحظنا ذلك في العراق خلال حكم البعث الصدامي، ودفاع فلوله عنه، ومن ثم إعلان حرب الإرهاب على عراق ما بعد صدام بذريعة "المقاومة الوطنية الشريفة" ضد الاحتلال و"حكومة المحاصصة الطائفية والفساد".
وما يؤكد قولنا أعلاه هو ما نلاحظه بعد كل مظاهرة شعبية احتجاجية ضد الأنظمة المستبدة في سوريا واليمن وليبيا، حيث تخرج عشرات الألوف في تظاهرات مؤيدة لتلك الأنظمة. فالرئيس اليمني، علي عبدالله صالح مازال راقداً في مستشفي سعودي، ولكن مع ذلك استطاع أتباعه التمسك بالسلطة بالقبضة الحديدية، أما ليبيا فإنها انقسمت إلى دولتين، واحدة في الغرب عاصمتها طرابلس بيد القذافي وعائلته وأتباعه، وأخرى في الشرق وعاصمتها بنغازي بيد الثوار. وهذا الانقسام يهدد بحرب أهلية، لذلك من المحتمل أن يتكرر السيناريو الصومالي في اليمن، وليبيا، وسوريا والبحرين.
الخلاصة والاستنتاج
تعاني الشعوب العربية من افتقارها للتقاليد الديمقراطية، ومن عدم وجود مؤسسات المجتمع المدني، وتفشي الفساد الإداري، والوساطات والمحسوبية في دوائر الدولة، إضافة إلى الإسلام السياسي والانفجار السكاني، والأزمة الاقتصادية والبطالة، والانقسامات الدينية، والمذهبية، والقبلية، والاختلافات السياسية والأيديولوجية. وهذه العوامل وغيرها كثير، تشكل عراقيل في طريق الانتقال من حكم الاستبداد إلى النظام الديمقراطي. وهذه الصعوبات تزداد مع درجة قسوة حكم الاستبداد المنهار ومدته. فالانتقال إلى الديمقراطية ليس سهلاً ولا سلساً، ولكن في نهاية المطاف لا بد وأن تنتصر الديمقراطية، إذ هكذا بدأت العملية في الشعوب الغربية التي سبقتنا في هذا المضمار، حيث بدأت بمصاعب جمة، ولكنها مع الزمن تغلبت عليها، إلى أن أصبحت الديمقراطية تقليداً وجزءً لا يتجزأ من ثقافاتها، والشعوب العربية ليست استثناءاً.
إن ما يجري في العالم العربي الآن هو ليس تحقيق الديمقراطية، بل بداية عملية شاقة وطويلة للانتقال إلى الديمقراطية. فالمهم أن رحلة الألف ميل قد بدأت بثورات الشباب المطالبين بالتغيير، وإقامة أنظمة ديمقراطية، ولا بد لها أن تنتصر.

ليست هناك تعليقات: