الجمعة، 31 مارس 2017
السبت، 25 مارس 2017
الثلاثاء، 21 مارس 2017
بؤس الشعراء بعيون الرسامين-*الزبير مهداد
بؤس الشعراء بعيون الرسامين
خاص- ثقافات
*الزبير مهداد
كارل شبتزفيك شاعر ورسام ألماني عصامي، ينتمي إلى التيار الرومنسي، ولد في بافاريا عام1808 .درس الصيدلة وعمل صيدليا عام 1832، وكان يحب الرسم ويزاوله في أوقات فراغه، ثم تفرغ له ابتداء من عام 1833، معتمدا على جهوده الذاتية في تعميق تكوينه الفني، اشتهر بلوحاته الصغيرة والمتوسطة الحجم، كانت لوحاته مستوحاة من حياة الناس العاديين من الطبقة المتوسطة أو البورجوازية الصغرى، وكذلك من المناظر الطبيعية.
عمل شبتزفيك في إحدى الصحف رساما للكاريكاتير خلال الفترة من 1843 إلى 1853. واصل الرسم إلى سنين متأخرة من عمره، حتى وافته المنية عام 1885. مخلفا أعمالا كثيرة موزعة على متاحف ألمانية وأوروبية، ومن لوحاته الشهيرة لوحة الشاعر الفقير (1839) Der arme Poet التي تصور شاعرا يعاني الفقر والوحدة، يعيش تعيسا في غرفة خالية من المتاع مظلمة.
اللوحة كسرت الصورة النمطية الشائعة لدى الناس حول الشاعر، هذا الإنسان المبدع، الرقيق المشاعر، المرهف الإحساس، الواسع الخيال، يتخيله الناس يعيش حياة مخملية باذخة مثل شعره، يرفل في النعيم والظروف المريحة للبورجوازية الصغرى. لا يمكنهم أن يتخيلوا مقدار العوز والفقر الذي يعانيه أكثرهم. فجاءت اللوحة تميط اللثام عن واقع مرير لهذه الفئة من المبدعين، الذين يطربوننا ويسعدون حياتنا بقصائدهم الرائعة وأناشيدهم التي ترددها الأجيال في حبور، في حين أنهم يعانون البؤس، هذه اللوحة يعدها الألمان ثاني أشهر لوحة بعد “الجوكندا”.
وعلى نفس المنوال، أنجز الرسام الكاريكاتوري الفرنسي هونوري دومييH. Daumier لوحة “الشاعر في غرفة السطح” Poète dans la mansarde، سنة 1842، شخص فيها حياة شاعر بئيس في غرفته يعيش ظروفا قاسية، هذه اللوحة التي يطغى عليها السواد، يتوسطها جسم شاحب نحيل كالشبح، بأنف حاد وشعر مهمل ولحية كثة، الشاعر بلباس النوم، جالس على سرير أقيم في زاوية الغرفة، جدرانها السوداء ثبت عليه رفا به بعض المتاع، وقبعة معلقة، بجوار السرير شمعة مضيئة ضوءها باهت لا يكاد يتعداها، وكرسي وضع عليه ملابس قليلة رثة. يتوجه بعينيه صوب السقف بعينين ملتهبتين، تنمان عن شعور باطني بقلق عظيم، وغضب وأنواع العصاب، ويمسك بيده اليمنى ريشة، لعله يخط بها بعض ما تجود به قريحته من أبيات شعرية.
اللوحة الكاريكاتورية لا تسخر من ظروف الشاعر، لكنها توجه رسالة واضحة المغزى لكل من يغض البصر عن ظروف هذه الشريحة البئيسة من المثقفين.
أصداء هذه اللوحة نجدها بارزة بشكل واضح في قصيدة الشاعر الفرنسي بودلير الذي كان معاصرا للرسام وصديقا له، وعنوانها “الغرفة المزدوجة” وتعد إحدى أهم قصائد النثر في الأدب الفرنسي قاطبة، تكلم الشاعر عن حياة متخيلة في النعيم، يتوقف فيها الزمن على لحظات السعادة التي يعيشها الشاعر فيها، وأخرى واقعية يفتح عليها عينيه، إنها حقيقة طيفية فبين حلم بالجنة والكابوس لا يوجد حيز لأي شيء (يا للهول! إني أتذكر! إني أتذكر! أجل! هذا الكوخ القذر، وهذه الإقامة للسأم، وبالتأكيد، هو سأمي. هاهو ذا الأثاث السخيف المغبر، والمهشم؛ فالمدخنة بدون لهيب، وبدون جمر، منزوعة، وملطخة بالبصاق: النوافذ التي حط عليها المطر أخاديد على غبارها. والمخطوطات الممحوة، أو غير المتممة، والرزنامة التي سجل عليها قلم الرصاص، التواريخ الحزينة. آهٍ! لقد تذكرت! فقد ظهر الزمن مجدداً؛ الزمن يسود الآن ملكاً؛ وعاد مع العجوز البشع تماماً، موكبُه الشيطاني من الذكريات، ومن الحسرات، ومن التشنجات، من المخاوف وأنواع القلق، والكوابيس، من الغضب وأنواع العُصاب. أؤكد لكم أن الثواني الآن تتحرك بقوة، وبأبهة، وكل واحدة منها تعلن، وهي تنساب من البندول: “أنا الحياة العنيدة التي لاتحتمل!”) (ترجمة محمد الاحسايني)
الحطيئة، وابن دقيق العيد، ومعروف الرصافي والشاعر القروي، وبودلير وأحمد فؤاد نجم وآخرون غيرهم، عاشوا فقراء بؤساء، لكنهم أبدعوا أكثر وأفضل من أي أحد آخر. فعلى الرغم من بؤسهم وفقرهم فقد بصموا تاريخ الإبداع الإنساني بأسلوبهم المميز، وبمعانقتهم أحلام الناس، ومشاطرتهم آلامهم والكتابة عنها، كان إبداعهم الرفيع مرآة صافية عكست بصدق وأمانة معاناتهم، فخلفوا للأجيال اللاحقة تراثا رائعا غنيا وخالدا.
ففي اليوم العالمي للشعر، في الوقت الذي نتحلق فيه حول هذا الفن النبيل، ينبغي أن نستحضر معاناة كثير من الشعراء الذين يعيشون البؤس ويكابدون قسوة الحياة وشظف العيش كل يوم، بلا أجرة قارة ولا مكافآت مجزية ولا معاش ولا تأمين صحي، دون أن يلتفت إليهم أحد. تمنعهم عزة النفس أن يمدوا أيديهم لأحد أو يصدحوا بأصواتهم بالشكوى.
الأحد، 19 مارس 2017
ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي-يوسف الصرايرة *
ما بعد الحداثة في الفن التشكيلي
يوسف الصرايرة *
( ثقافات )
استخدم الكثير من الباحثين مصطلح ما بعد الحديث للدلالة على المتغيرات التي سادت الحضارة الغربية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، والانتقال من الصناعة إلى التكنولوجيا الحديثة، التي ظهرت في المجتمعات الغربية ، حيث سادت فيها التكنولوجيا والمعرفة البحثية، والتحول من البحث النظري إلى التطبيق العلمي التكنولوجي، أو ما سمي فيما بعد بحتمية التكنولوجيا ، التي ساعدت في تحويل العالم إلى قرية متقاربة الأطراف ترتبط بمحركات علمية جديدة ، يسهل فيها التواصل والمعرفة تبعاً للمتغيرات السياسية والاقتصادية.
ثمة من يعيد تعريف ما بعد الحداثة إلى المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي 1954م، وهناك من يربطها بالشاعر والناقد الأميركي تشارلز اولسون في خمسينيات القرن الماضي، فضلاً عمن يحيلها إلى ناقد الثقافة ليزلي فيدلر، ويحدد زمانها بعام 1956م.
ويقول «مالكولم برادبري» إن مصطلح ما بعد الحداثة يقصد به النتاجات الفنية التي جاءت بعد الحرب، وهي خليط من الفن التقليدي ومن فن ” اللافن ” وتعني ما بعد الحداثة في الفن العودة إلى الأصول ضمن قوالب جديدة، لها تيارات فكرية أسست له، على الرغم من أن مصادر هذا تيارات جاءت من القرن الفائت وتنتمي إلى حاجات العصر الحديث ومتطلباته، وإذا بحثنا في هذا الفن لم نجد متاحف أو مراكز لتسويق الفن تحتوي عبارات “ما بعد الحداثة” باستثناء المهندسين المعماريين الذين استخدموا هذا المصطلح للدلالة عن أسلوب إنشائي معين لهم.
وحول هذا المصطلح أيضاً يقول الباحث روبرت اتكينس إن الأعمال الفنية في تلك الفترة تتسم بإعادة قراءة الموروث الفني في بداية القرن الفائت، إذ تم استخدام المصطلح مع بداية السبعينيات من القرن الماضي، وخصوصاً مع التحولات التي ظهرت منذ نهاية الستينيات في حركة الفن التشكيلي الغربية؛ فقد تم التخلص من جماليات الموروث المرتبط تماماً بفكرة الشكل، وإحلال واقع جديد للعمل الفني يستمد جمالياته وقيمه الفنية من المجتمع الذي أصبح يتميز بالتغير السريع، وعليه ؛ لم يعد بمقدور العمل الفني أن يلبي الطموح الحضاري الجديد للمجتمع المعيش، فأصبح هناك اتجاهات فنية حديثة قادرة على إيجاد صيغ جمالية جديدة تهدف إلى خلق حلقات للتواصل المجتمعي بكل متغيراته وتطوره، حيث برزت أشكال فنية جديدة وأصبح الفن جمعياً تفاعلياً بدلاً من الإستاطيقىة المسيطرة على جماليات العمل الفني وتفرده.
وأصبح هناك متغيرات في فن ما بعد الحداثة، سواء على مستوى المعايير الجمالية أو الموروث الأكاديمي الذي اعتمد على التفكيك كمكوّن أساسي من مكونات ما بعد الحداثة.
إن الثورة المعرفية في مجال المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات قد ساعدت في نقل الفكر من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، حيث الانتقال من فكرة الإشباع المادي إلى فكرة الإشباع المعنوي، الأمر الذى دفع ببعض الباحثين إلى الزعم بأن مشروع الحداثة قد وصل إلى نهايته، وما علينا إلا الانتقال إلى مرحلة جديدة وفكر جديد وهي مرحلة ما بعد الحداثة.
ولعل الفكرة الأساسية تكمن في أن تيار ما بعد الحداثة انساق إلى أساليب العالم الغربي في الرؤى والمعرفة والمتغيرات التي طرأت عليها في الآونة الأخيرة، نتيجة للتقدم الهائل في وسائل تكنولوجيا المعلومات والتواصل الجماهيري ، مما ترتب عليه حدوث تغيرات في اقتصاديات العالم الغربي التي تعتمد بشكل كامل على الصناعة وانخراط هذه المجتمعات في الحياة الاقتصادية، مما أدى إلى ظهور ثقافة استهلاكية جديدة.
وأصبح فنان ما بعد الحداثة يمر بحالة ابتكار لغة جديدة للتواصل بين الفنان والحدث المجتمعي، وتم تجاوز الفكرة السائدة في السابق المرتبطة بتعريف (الفنان) وهو المنتج فقط، وهي الفكرة القديمة المرتبطة بالعمل الفني والفنان، فأصبح العمل الفني فاعلاً ومنشطاً ثقافياً، بعد أن كان يستجيب إلى حاجات المتلقي البصرية والوجدانية فحسب ، بل تخطاه إلى الفعل والإنتاج .
ولعل هذا الفن من شأنه أن يضفي شيئاُ من الحيوية والغرائبية، وإن كان بالمعنى الاستفزازي، إذ عملت على بروز أجناس فنية جديدة تعتمد الإثارة لفكرة معينة ، لتجلب نخباً سياسية جديدة تحقق رغبة جامحة في تجذير هذا الفن في المجتمع ، وخصوصاً أنه اعتمد على انخراط البيئة المجتمعية في المشهد الفني، بل تعدى ذلك في مجالات الفن التشكيلي التقليدية من رسم وحفر ونحت وتصوير فوتوغرافي وعمارة إلى إنتاج سمعي بصري وحركي ، من خلال الفنون الحديثة مثل: الدادا وفن التجهيز وفن البيئة “فن الأرض”، وفن الحدث، والفن المفاهيمي، وفنون الميديا، والفن الغرافيتي والفن التفاعلي ، وغير ذلك من الفنون الحديثة.
ولعل الميزة الأبرز لفناني ما بعد الحداثة، على المستوى التشكيلي، تكمن في تفجيرهم الحدود ما بين الأجناس الفنية ، واستخدامهم وسائل تعبيرية وتقنيات حديثة ومتنوعة، وكان لهم الدور الأكبر في تجريد الفن من قيمته المادية ، وتحريره من سطوة دور العرض والمتاحف، على الرغم من أن العديد من هذه الصالات والمتاحف في العالم لم تستطع الإفلات من قبضة النزعة الاستهلاكية في التسويق لها.
وفي المقابل برز تيار مضاد لما بعد الحداثة من خلال التعبير عن سخطهم وحركات الاحتجاج التي قاموا بها في أوروبا، وخصوصاً في مدينة لندن على عمل انستليشن عرض في متحف التيت مودرن، والذي كلف أكثر من مئة وعشرين ألف جنيه استرليني، هذا العمل الذي عرض مدة شهرين وبعدها تم الإلقاء به الحاويات.
وقد رافق هذا التيار الجديد نخبة من المهتمين به في الغرب، وقد جاءت أفكارهم منسجمة معه على نقيض ما يحدث في بلدان الشرق، إذ اعتبروا أن هذا التيار يشكل حالة من حياتهم، وأصبحت مجردة بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، وهي أن الإنسان الغربي أصبح يعيش التجريد بكل تفاصيله ، فكان الفن التجريدي يعبر ويتناغم مع حياتهم المعيشة.
ويعتقد بعض المهتمين بهذا الفن وجود تراجع الفنون التشكيلية في العالم الغربي خلال الفترة الأخيرة من تاريخنا المعاصر، ونجدة ماثلاً أمامنا من خلال ما نشاهده في غالبية المعارض التي ركزت على الفنون البصرية وعلى الصورة التكنولوجية، مما انعكس ذلك على البلدان العربية التي تمثلت في معارض اندرجت تحت عنوان الفن المعاصر ، تم الاقتصار فيها على الصورة والوسائط الحديثة وعلى التنصيبات الفراغية التي استمدت مرجعياتها من التيارات الفنية المعاصرة.
ومن علامات التحول في طريقة ممارسة الفنون التشكيلية في بلادنا تأثر المنهج الأكاديمي في جامعاتنا ومعاهدنا بوسائل التكنولوجيا الحديثة، التي تتسم بالتنوع والغنى. فقد اهتم الدارسون بالأشكال الغريبة وبالتنصيبات الفراغية والصور الفوتوغرافية وفن الفيديو والفن الرقمي وغيرها من أشكال الفنون المعاصرة، التي أدت إلى بروز تحول لافت في طريقة ممارسة الفنون التشكيلية في بلادنا.
ويشكل الخطاب الثقافي لفن ما بعد الحداثة خطاً مفصلياً، باعتباره فناً تفكيكياً تجاوز ما سبقه من فنون من حيث القوالب التقليدية والأكاديمية، من أجل أن يواكب هذا الفن رؤيا نقدية وتحليلية ، فقد كان أسير نظريات العلوم الإنسانية الأخرى، من حيث الرموز والبنية والتفكيك، وينبغي على الناقد أن يمتلك كل مقومات وأدوات البيئة الفنية والعلمية ليتسنى له أن يواكب ما يحدث من متغيرات في هذا العصر.
كما تغيرت الفكرة السائدة المرتبطة بالعمل الفني، فأضحى العمل الفني فعلاً ناقداً ومنشطاً ثقافياً بذات الوقت، بعد أن كان يمثل الانطباع البصري فحسب ؛ إذ أصبح يستجيب إلى حاجات الإنسان الوجدانية.
ومن أهم المتغيرات التي برزت في هذه المرحلة، التغير الذي طرأ على المعايير الجمالية الكلاسيكية في الفن التشكيلي؛ إذ لم تعد منسجمة مع معايير ثابتة ومحددة، وأصبحت تستقي مبادئها من الفن ذاته.
ولا بد من إشارة أخيرة إلى أننا نعيش في عالم كقرية صغيرة بفعل ثورة المعلومات التي تنقل إلينا العديد من الإنتاج الفني العالمي ، الذي لا يمكن في أي حال من الأحوال إغفال وجوده في حياة المبدعين. فلقد أصبح الفن لغة عالمية تشترك الشعوب في مفرداته ورموزه ، ولا يمكن عزل الإنسان عن مثل هذه المفاهيم، لذلك بات الفن متأرجحاً بين الرؤية المحلية ومرئيات وسائل الاتصال المتعددة، بالرغم من أننا عندما نرغب في البحث في أصول الفن التشكيلي فإننا لا بد لنا من العودة إلى الجذور التاريخية في الفن ، وهذا ما يجعل في ذات الوقت من الصعوبة إنكار أثر الفنون التقليدية على هذا الفن.
ويرى بعض النقاد أن ما بعد الحداثة إذا دخلت بعض المؤسسات الأكاديمية، فإنها قد تحدث تحدياً كبيراً لها، وقد تزامن ذلك مع دخول أفكار أخرى اختلفت معها في الشكل والمضمون ، من شأنها أن تعمل على إقصاء الدور التاريخي العربي والإسلامي، وهذا يضعنا أمام تحدٍ كبير: ما موقع ما بعد الحداثة في فكرنا العربي الراهن في المستقبل؟
* فنان تشكيلي وباحث من الأردن
الخميس، 9 مارس 2017
العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة زيغمونت باومان (5)-* ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
العالم كما يراه فيلسوف الحداثة السائلة زيغمونت باومان (5)
* ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي
زيغمونت باومان Zygmunt Bauman ( الذي توفّى قبل بضعة أسابيع ) هو من غير شكّ واحد من أكثر علماء الإجتماع تأثيراً على مستوى القارة الأوربية وعلى مستوى العالم كذلك ، وتشتمل قائمة كتبه – التي تُقرَأ في كل القارات – نحواً من ستين كتاباً واظب على نشرها بمثابرة واضحة منذ أن تقاعد عام 1990 من عمله أستاذاً لعلم الإجتماع في جامعة ليدز البريطانية – ذلك الموقع الذي شغله على نحو مستمر لما يقارب الثلاثة عقود .
الحوار التالي هو القسم الخامس من حوار مع زيغمونت باومان منشور أصلاً بالألمانية في مجلة Das Magazin وكذلك بالإنكليزية في مطبوعة 032c ( العدد 29 المنشور في مطلع 2016 ) ، ويُلاحظ في هذا الحوار توزّعه على معظم المحاور التي عمل عليها باومان في كتاباته الكثيرة ؛ الأمر الذي يجعل من هذا الحوار ذا أهمية إستثنائية في معرفة الخطوط العامة لفكر باومان لمن لم يقرأ أعماله الأصلية .
المترجمة
المحور الثامن : القاتل الماكث في داخلنا
* في كتابك المعنون ( الحداثة والهولوكوست ) تدافع عن الأطروحة المثيرة التي تفيد بأن فكرة إبادة الكائنات البشرية على مقياس صناعي واسع هي واحدة من أفكار عصر الحداثة وليست ناجمة – بالتخصيص – عن النزعة القومية الألمانية المتشددة . إذن ، هل ثمة إمكانية لأن نشهد ( أوشفيتز ) جديدة في أيامنا هذه ؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب ، تحت أي ظروف يمكن أن يحصل هذا الأمر ؟
– العصر الحديث ليس حقبة إبادات بشرية شاملة ؛ لكنه ببساطة ساهم في تخليق طرق حديثة يمكن بها ممارسة القتل المنهجي لأعداد كبيرة من البشر ، وقد ساهمت إبتكاراتٌ مثل تقنية المصانع والبيروقراطية الصناعية في تحقيق هذا الأمر ، ولكن لاينبغي أن ننسى أيضاً أنّ العالم تغيّر كثيراً وقلب كثيراً من الممارسات ( الوحشية ) السابقة وماعاد الناس يقبلون بالفكرة اللاهوتية التي لطالما سادت في أوربا القروسطية والتي مفادها أن الله الخالق حرّم على مخلوقاته التدخّل في أمور لاتعنيهم حتى لو كانت تلك الأمور ممّا لايحبون . أظنّ لو أن الإبادات الجماعية حصلت في اوربا القروسطية لما لقيت أي شجب أو إدانة ولاعتاد عليها الناس كأمر مسلّم به وفقاً للإعتبارات اللاهوتية .
* إذن نحن نمتلك القدرة على إعادة تشكيل العالم بالطريقة التي نرغب ؟
– العصر الحديث كان أيضاً عصر تدمير شامل للأسباب السابقة ذاتها ؛ إذ تطلّب السعي المحموم للتحسينات التقنية الرامية لبلوغ الكمال إبادة اعداد لاتحصى من البشر الذين حُسِبوا غير قادرين على التناغم مع مخطّط الصورة المثالية للأهداف المبتغاة . كان التدمير هو جوهر الحداثة الجديدة ، وجاء الإفناء لكلّ معيقات عدم الإكتمال المزعومة ليكون الحالة المميزة المصاحبة لتحقيق الكمال الحداثيّ ، ويمكن النظر إلى مشاريع النازيين والشيوعيين في هذا الإطار ؛ فقد سعى كلاهما إلى الإجتثاث الشامل والأبدي لكل ماهو عشوائي غير خاضع لضبط أو نظام بغية تكييف كل عناصر الحالة الإنسانية وفقاً لمراميهم .
* ولكنّ الناس في الحقب السابقة أيضاً ، كما في عصر الغزوات الصليبية ، إرتكبوا القتل باسم الله ؟
– طموح العصر الحديث كان دوماً جعل العالم خاضعاً لإدارتنا ، وبتنا اليوم تحت أمرة الخوذة العسكرية عوضاً عن أمرة الطبيعة أو الله كما كان الحال في العصور الخوالي . الله خلق العالم – تبعاً للتصورات اللاهوتية – لكنه اليوم غائب أو ميّت ؛ لذا ينبغي أن نمسك نحن بزمام العالم وأنفسنا ونجعل كل شيء جديداً لاعهد له بما سبق . تدمير اليهود الأوربيين كان محض جزء من مشروع أوسع : إعادة تشكيل التراتبية السلالية لشعوب العالم على نحو يجعل الألمان في مركز تلك التراتبية – مشروع شرير هائل الأبعاد متغطرس بقدر ماهو قادر على بعث الدوار في الروح . ثمة عنصر حاسم في هذا المشروع يجعله – لحسن الحظّ – غير قادر على أن يتحوّل حقيقة ماثلة على الأرض – ذلك هو عنصر السلطة المطلقة ؛ إذ أنّ مثل هذا المشروع الجهنّمي لم يكن ليرى النور سوى في بلدان مثل ألمانيا النازية أو روسيا الشيوعية ، أما في بلدان أقل شمولية في أنظمة حكمها ( مثل إيطاليا في عهد موسوليني أو إسبانيا في عهد فرانكو ) فلم يكن تحقيق ذلك المشروع ممكناً لأن عنصر السلطة المطلقة كان مُفتقداً ، وليساعدنا الربّ بأن يُبقي الحال على هذا النحو !!
* لكنّ المشروع القومي الإشتراكيّ ( إشارة إلى الحزب الألماني الذي تزعّمه هتلر ، المترجمة ) يُفهَم في العادة على نحو مخالف تماماً لكلّ تمظهرات الحداثة : يُفهِمُ على أنه عودة للبربرية ، وتمرّدٌ على الحداثة وعلى كل القواعد السائدة في المجتمعات الحديثة وليس ثمرة لتلك الحداثة ؟
– هذا سوء فهم خطير : نبع المشروع القومي الألماني من حقيقة أن كلّ أفعاله ليست سوى الشكل الأعلى والأكثر تمثيلاً لثمرات المبادئ الحداثية بغضّ النظر عن المديات المتطرّفة شديدة القسوة التي بلغها ذلك المشروع ، وقد كان المشروع حاضراً على الدوام لطرح أية شكوك أو سوء ظنّ به جانباً ولم يكن يعيرها أي إهتمام يذكر . فعل الإشتراكيون القوميون الألمان والشيوعيون في أوقات إشتداد طغيانهم ماأراد الآخرون فعله بالضبط ، ولكنّ الفرق هو أن هؤلاء الآخرين لم يمتلكوا العزيمة والقسوة الكافيتين ، ولم نزل نحن نفعل في يومنا هذا مافعله هؤلاء ؛ لكنّ أفعالنا تتمّ بأسلوب أقل إفتضاحاً وأقلّ إثارة لبغضاء ونفور الآخرين .
* ماالذي تقصده من وراء هذا ؟
– اقصد التباعد المتفاقم بين الكائنات الإنسانية وبين أتمتة automation التفاعلات الأنسانية – تلك الخصيصة التي بتنا ننزلق في وهدتها أكثر فأكثر بحيث صارت نمطاً قياسياً للمعيش ، وهنا ينبغي ملاحظة أن النتيجة الصارخة لهذا التطور التقني الكاسح هو فصل الأفعال الإنسانية عن النوازع الأخلاقية واعتبار تلك النوازع وسوساتٍ غير مجدية ولاطائل من ورائها .
المحور التاسع : السّعادة
* في كتابك الموسوم ( فنّ الحياة ) تتحدّث عن السعادة – ذلك الموضوع الذي لطالما تناوله الفلاسفة القدماء . يُلاحظُ في العصور الحديثة أن السعادة باتت أمراً يلهث الجميع في مطاردته ؟
– بدأ الأمر كله مع إعلان الإستقلال الأمريكي عام 1776 الذي أعلن صراحةً ( الحياة ، الحرية ، السعي وراء السعادة ) كحقوق معطاة من الله لايمكن إنكارها أو التفريط بها . من الطبيعي القول أن الكائنات البشرية سعت دوماً لأن تكون سعيدة لا أن تكون تعيسة ، وأن السعي وراء السعادة خصيصة وسمت تلك الكائنات عبر التطور الخلّاق ، ولو كان الأمر بعكس هذا الحال لكنّا لانزال قابعين في الكهوف بدل الجلوس على مقاعد وثيرة في أجواء مريحة ؛ غير أن الفكرة الجديدة في موضوع السعادة والتي جاء بها عصر الحداثة هي أن أيّ فردٍ وكلّ فردٍ منّا له الحقّ الكامل في السعي نحو السعادة بطريقته الخاصة التي يراها ملائمة له وحده فحسب ، وكان التصريح الواضح بالحق الإنساني العام في بلوغ السعادة الفردية مؤشراً لبداية العصر الحديث .
* ولكن لايبدو أمر إجتناء السعادة في يومنا هذا بأقلّ مشقة من عصر الإمبراطورية الرومانية التي سادت فيها فلسفة كلّ من سينيكا ، لوكريشيوس ، ماركوس أوريليوس ، إيبيكتيتوس . ماالذي تعنيه لك السعادة على المستوى الشخصي ؟
– عندما كان غوته بمثل عمري سئِل مرة عمّا إذا كانت حياته سعيدة ، فأجاب : ” نعم ، كانت لديّ حياة سعيدة إلى أبعد الحدود ؛ ولكن ليس بمقدوري أن أقول كان لديّ محض أسبوع واحد متصل من السعادة ” . هذا جواب أراه غاية في الحكمة ، وأنا أشعر بالضبط بمثل شعور غوته . ثمة أيضاً قصيدة من قصائد غوته العديدة يقول فيها أن ليس هناك مايبعث على الكآبة وانقباض الروح مثل سلسلة متواصلة من الأيام المشمسة !! . السعادة ليست بديلاً لأشكال الكفاح ومواجهة صعاب الحياة ؛ فالبديل الوحيد لذلك الكفاح هو الضجر المميت : مالم تكن في الحياة مشاكل ينبغي حلّها وتحدّياتٌ ينبغي مواجهتها ( وقد تفوق قدراتنا بعض الأحيان ) فإن الحياة ستكون مملّة بالتأكيد ، والضجر هو أحد أكثر العلل الإنسانية المعيقة إنتشاراً . لكن من جانب آخر ( وأنا هنا أحدّق في عينَي سيغموند فرويد ) فإنّ السعادة ليست حالة ممتدة بل هي برهة أو لحظة فحسب : نشعر بالسعادة حينما نتجاوز المحن والحظّ السيء . يحصل أحياناً أن نخلع أحذيتنا الضيقة التي تضغط على أصابع أقدامنا فنشعر براحة وسعادة غير مسبوقة !! ، أما السعادة الممتدّة فهي أمر مريع شبيه بكابوس .
* ( كلّنا فنانون في الحياة ) : هذا ماتقوله في كتابك السابق الذكر . ماهو فنّ العيش وفقاً لرؤيتك ؟
– محاولة تجاوز المستحيل ، فهم ذواتنا باعتبارها نتاجاً لطريقة تشكيلنا الفريدة والمميزة عن غيرها ، السلوك بمثل مايفعل الرسّام أو النحّات ومواجهة المهمات التي نادراً مايمكن إنجازها ، وضع غاياتٍ لنا تتجاوز الإمكانيات المتاحة أمامنا في اللحظة الراهنة ، وضع معايير لنوعية كلّ الأشياء التي نفعلها – أو نستطيع فعلها – بحيث تكون تلك المعايير أبعد مدى من إمكانياتنا الراهنة . ثمة أمر آخر : بات اللايقين هو الموئل الطبيعي لوجودنا الإنساني ، ويمكن في أدنى الأحوال أن تكون القوة الدافعة للسعادة كامنة في محاولة السعي لجعل ذلك الوجود محفوفاُ باليقين البشري الباعث على الراحة .
* لم تكتفِ بأن تكتب في ميدان التنظير بشأن الإنتقالة البشرية من الحداثة ” الصلبة ” نحو الحداثة ” السائلة ” ؛ بل إختبرت أنت بذاتك تلك الإنتقالة عن قرب . ماالذي كنت تبتغيه عندما كنتَ شاباً يافعاً ؟
– عندما كنتُ شاباً تأثّرتُ – مثل الكثيرين ممّن عاصروني من الشباب – بفكرة سارتر عن مشروع الحياة project de la vie : إعمل على تخليق مشروعك الخاص في الحياة وواظب على العمل تجاه هذا الهدف المثالي من خلال أقصر المسالك وأكثرها مباشرة نحو هدفك . إتّخذ قرارك بشأن الشخص الذي تريد أن تكونه وحينئذ ستكون أمامك صيغة لصورة الشخص الذي تريد أن تكون عليه ، وأن لكلّ نمط حياة ثمة عدد من القواعد التي ينبغي إتباعها وكذلك عدد من المواصفات التي ينبغي أن نحوزها . بحسب رؤية سارتر فإن الحياة ( منذ البدء وحتى النهاية ) تتقدّم خطوة إثر خطوة في مسار محدّد بالكامل حتى قبل أن نضع الخطوة الأولى في بداية رحلتنا .
____
*المدى
الاثنين، 27 فبراير 2017
الأحد، 26 فبراير 2017
ماذا بعد أيها الموت ؟- روناك عزيز
نص
ماذا بعد أيها الموت ؟
روناك عزيز
ما أطولها أغصان النرجس التي تنبت فوق أهدابي ..
حبيبي كيف هو الموت ؟
أسال الجثة الراقدة بجنبي ..
جثة شاعر مغمور ربما كتب آلاف قصائد العشق،
أغزر من كالمطر ..
أتسلق جدران قبري ..بين الوجود والعدم
حاجز بلون البحر وبلون عينيك، يا قدري
أخطو نحو النهايات ..
لاشيء هنا سوى بقايا خلفتها الحروب ..
فقدان الذاكرة الذي أصبت به، يتساقط مني
مع كل خطوة ،وأتذكر أسماء الأشياء ..
آه أمنا حواء كم مرة تموتين ..
تحت أنقاض هذا الكوكب المالح ،الغارق في ظلمات
البشر ،أجد ألأفواه تصرخ
وتصرخ ..المذابح التي كانت على مر العصور تقف
في طوابير الانتظار
والأبواب تشبه المستحيلات
ماذا بعد أيها الغراب ؟
لا مكان لدفن الجثث والسماء تمطر النار ماذا
بعد ...
في الزوايا القصوى لـ: جحيم البشر
تجلس القرفصاء، الحروب اللعينة، وتنتحبْ..
الديناصورات التي هنا تأن وجعاً
الديناصورات البشرية التي لم تنقرض يوماً ..
لا ليل ولانهار ..الأبدية؛ تلك الرسالة
الغامضة ..الرسالة التي تشبه كل الوجود ..المكتوبة بلون الزهر
لا جاذبية هنا، والبعد الرابع يقف عند باب
الله
وعتبته ..
متى تساقطت كل هذه النجوم فوق رأسي
وأغني، أغني وأنا أحلقٌ
وعلى كتفي أحمل غابات الانتظار
هل تكتم سري أيها الموت ؟
في قلبك أخبئ رسائلي العاشقة
لحبيب لم أره قط
مدفون هناك، ربما تحت أغصان النرجس،
هناك حيث يحتضر قلبي.
الثلاثاء، 21 فبراير 2017
أختام *- عادل كامل
أختام *
الختم الخامس
عادل كامل
[6] هوية الفعل ـ الأثر
يبلغ الوعي ذروته: انه ـ في كل خطوة ـ يخترع توازنه. فانا لم اعد معزولا ً عن أدواتي: القلم/ الورقة/ الضوء/ وتتبع ما أراه يتوارى ...، بل أصبحت امتدادا ً له طالما كلانا تحولات محكومة بما لم يعد للمعرفة فيه إلا الاختباء فيه. معرفة الفن وهو يخفي معناه، نائيا ً، عن كل خاتمة. فهو شريك الجسد في هذا الامتداد، وليس في القطيعة. وبمعنى ما يعلن الفن عن شراكته لي في تلافي المنفى ـ والنفي. فانا لا أتطهر فحسب، بل اكف عن المقاومة. فأجد أنني لم أتحول إلى آخر، بل أتوحد مع ذاتي كي تكتمل النهايات بمقدماتها.
هل بلغ الوعي ذروته، حقا ً، كي أرى حياتي ـ بفجواتها وبمفارقاتها وإرباكاتها ـ كعناصر انصهرت مكوناتها فيه واستحالت عنصرا ً مغايرا ً، أم ظهر لي، برغم هذه المراقبة، أني أتمسك بآليات لا واعية للتمسك بالأثر ـ دالا ً على صانعه، رغم إدراكي التام للصفر وما يخفيه من امتدادات لا تغادر لغزه!
لا يحتمل الفن، ولا العملية الفنية، هذا التأويل. فالمحكوم بالموت، قبل رحيله، وحده يكون (عبر) ماضيه، كما لا معنى للقبر، بصفته ذرات تراب، المحو وحده سيبقى يحدد هوية الفعل ـ الأثر!
[7] حافات المحو
وبمعنى ما يصعب تتبع المحركات اللا مرئية، وتحولها إلى فعل، والى مشروعات للقفز في مساحات المجهول. والأصعب من ذلك، ان تجد نفسك مشاركة في عمليات الهدم، كي تغيب، بعيدا ً عن الرصد، والتوثيق، ومدى صلتها بالإبداع، ومشاكله!
في هذا الشرود، مازلت المح هذا الكيان الغامض، القائم على أكثر من تصادم. لأن سؤال ماذا نريد لم يقترن بأدواته الحديثة، وبالوضوح المطلوب. فالعشوائية ستؤدي دورها حتى النهاية، وهي التي كادت ان تنفي شرعية (التجريب) وتجعله محض ادعاءات قائمة على الخطأ والصواب.
ماذا نريد ...وما الذي يستحق ان لا نريده، ونستبعده أصلا ً والذي سيشكل علامة لا يمكن عزلها عن كل ما سيشكل مصائر المشتغلين في الفن، وطرقه، وعلاماته..؟
لن أتحدث عن الذين كانوا يشاركوننا هذا الهاجس المعرفي، في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، لأن من مكث معنا، هو الآخر، كان لا يمتلك إلا الدرب المتغير وقد خيمت عليه غيوم كالحة بفعل تحولات العالم من ناحية، وما يجري في القارات المحتضرة، وقد زوروا الأسماء، بمنحها تسميات مراوغة: كالعالم الثالث، النامي، من ناحية ثانية!
ان كل ما يتصل بالتنمية البشرية، والتحضر، والتراكم المعرفي، تم استبعاده، واستئصاله، وترك الجميع يتخبطون في سراديب خالية من السلالم، كما ذكر منعم فرات، أو كعمل مجرشة الملا عبود الكرخي، سمة لقرن في طريقه إلى الأفول.
ولنستبعد نظريات المؤامرة، ونقول: هذه هي أخطاؤنا! حسنا ً،لكن الذي حصل شبيه بقصص ادمون صبري، ليست مضيعة للوقت، له ولنا حسب، بل لا جدوى من إعادة قراءتها!
فالتنمية ستتراجع حد الصفر، بمعنى: أنها ستغلق سرداب منعم فرات، وتترك من فيه يتخبط في الحفر! هو ذا كهف أفلاطون، يدور المفتاح في قفله، فلا إضاءة ولا ظلال! فما يروى وحده قد بلغ ذروته: لن يتزحزح لا إلى الأمام، ولا إلى الخلف!
أنا لست بصدد إعادة الحفر في موجهة الانخلاع: لماذا حدثت، وكيف استكملت برنامجها: حياتنا وهي لا تتباهى الا بخرابها! انه خرابي في نهاية المطاف. فبعد 1958، مرورا ً بالمتغيرات المشحونة بموجات القسوة، والذعر، خلال المتغيرات السياسية، وحتى يومنا هذا في عام (2011)، ولكن هل ثمة دراسات توقفت عندها، بمنظور يتوخى تفكيك المشهد كاملا ً، وليس ثقب مغلق! فالسيناريو الممسرح بين الفصائل، لم يجد من يرجعه إلى حده الأدنى من المحركات. ولا أنا سأفعل ذلك أيضا ً. لأن المشترك العام فقد مركزه. فليس هناك مقدسات، ولا وجود للحد الأدنى من الثوابت. فالجواهري، على سبيل المثال، أثنى على شخصيات لا تقل إساءة إلى الإنسان، وحقوقه، وتنميته، ومعرفته، لا مبرر لها ..الخ وهو ما ينطبق على شخصيات أخرى، مع ذلك كان غياب ألجواهري، ومئات العلامات الثقافية، في مختلف حقول المعرفة، والإبداع، ضربة توازي التنكيل بأصحاب المشاريع التنموية ، والحريات. فلقد تحولت الأراضي الزراعية إلى أدغال، وتدهورت مشاريع الري، فيما أصبحت المصانع في ذمة التاريخ، من معامل صناعة الورق إلى الزجاج، ومن النسيج إلى الجلود والمعلبات ..الخ إلى جانب دفن المصانع الأهلية، وتركها تحتضر وتلفظ أنفاسها في الأخير.
كانت الهجرة شبيهة بحدث (كارثي)، وكأنه ليس من صنع البشر، بل من عمل كائنات تعمل في كوكب آخر، لأن وضع قائمة بها، خلال نصف القرن الماضي، سيرسم لنا نهايات المشهد. فماذا لو كان الوعي، أو شيئا ً شبيها ً به، قد تصدى لموضوع الانخلاع، والفرار الجمعي، وناقشه بأدوات غير التي أدت إلى ذروته، ماذا كان سيحدث....؟ أم علي ّ ان لا ابعد شبح الأثر الكارثي الذي جعل مصائر البشر قيد التدمير، والزوال..؟
هذه الظلال، والضلال، ستعمل في أقاصي الرأس: في خلايا الدماغ، وفي ومضات الوعي، بعيدا ص عن الثنائية، وبعيدا ً عن مثنويات الفلسفات القديمة، فانا عشت ـ كعدد من زملائي ـ المشهد حد تذوق خفاياه اللاذعة، المهلكة، ثانية بثانية. فالإنسان لم يولد في الخوف، ولن يعيش فيه، كي يدفن في حفرته فحسب، بل الخوف (وربما علي ّ ان أقول: اللا تنمية/ اللا عمل/ اللا احترام، ومعاملة بعضنا للبعض الآخر وكأننا في أتون: حرب الجميع ضد الجميع) سبق حضورنا أصلا ً، لأن المشهد برمته لم يعد بحاجة إلى ديمومة. لكن الاحتضار ـ وهذه إشكالية لم نر من يشخصها لنا بما هي عليه ـ غدا البرنامج الذي علينا ان نحافظ عليه: الشعوب التي عليها ان لا ترى النور، هي ذاتها، عليها ان تبقى عليلة، تدور في المحور ذاته، ولا تنتج إلا ما شخصه الملا عبود الكرخي: مشاجرات مومسات الميدان! في ذلك الزمن (الكلجية) التي تم استبدال معناها من موقع لجماجم ثوار بغداد إلى موقع للدعارة!
لا احد أضاء لنا الدرب تمام الإضاءة، حتى لو كانت خاتمته سابقة مقدماته، إلا في حدود تنمية الإقصاء، ومن مختلف الفصائل، شعارات للتشهير، والمطاردة، والإذلال. فالمعركة، برمجت كي لا يخرج منها احد إلا مثقلا ً بالذنوب! ألا يبدو القرن الماضي (بين 1921 ـ 2011) مشهدا ً لا ينتمي إلى مسرح العبث، واللامعقول فحسب، بل إلى ما لا يسمى، والدخول فيه، كالدخول في حفرة كومت فيها مئات الجثث مجهولة الهوية في صيف بغداد الذي لا يرحم! ـ: عطر التاريخ، يا بودلير، ويا أيها المعري، ويا طرفة، ويا أيها الحكيم السومري الذي لخص المأزق ذاته قبل ستة آلاف عام، العطر المشبع بالنتانة، وشفافيات المحو، والتنكيل، باسم الحداثة، وما بعدها، حيث لم يجمعنا القبر، بل كان على كل منا ان يجد وسيلة للتواري، وتجنب الأصوات، ولفت النظر! فالفصائل ستوكل إليها مهمة تجاوز مشروع ذبح الجميع للجميع، نحو: ترك المستقبل يمحو ماضيه!
الأحد، 19 فبراير 2017
الوصفة السحرية للفوز بجائزة عربية-*نبيل سليمان
الوصفة السحرية للفوز بجائزة عربية
*نبيل سليمان
في حمّى الجوائز وصخبها في الفضاء الثقافي العربي، باتت الأصابع ترطن – على الكيبورد أو بالأقلام – بثقافة الجوائز، أي بموسم وأموال ومؤسسات ومواصفات، ودور نشر بعينها، وحكّام مكرسون، وكواليس تشكك بالذمم، واختلاط يستوي فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، دون أن ينفي كل ذلك ما يتحقق من تقدير لبعض من يستحقون، وبعض ما يستحق.
ولعل علينا من البداية أن نميز بين الجوائز التي تتوجه إلى مجمل ما أنجز روائي أو ناقد أو شاعر أو مترجم أو مفكر، مثل جائزة العويس أو جائزة الملك فيصل أو جائزة القاهرة للإبداع الروائي، وبين الجوائز التي تتوجه إلى رواية أو فيلم أو بحث، بالمفرد، مثل جائزة كاتارا أو الجائزة العالمية للرواية العربية (والشهيرة بالبوكر العربية) أو جائزة الشيخ زايد في أغلب فروعها.
ومهما يكن، فالسؤال هو السؤال: ما السبيل إلى الفوز؟ لماذا فاز فلان – كشخص أو نص؟ ومن موسم إلى موسم، ومن جائزة إلى أخرى، تتفتق ثقافة الجوائز عما يرضي لجان التحكيم و/أو أصحاب الجائزة. ولكن قبل الذهاب أبعد، ربما كان تحديد القول بمسمّى بعينه، يجعله أكبر جدوى، وينأى به عن مألوف لغط الجوائز. لذلك أسوق السؤال عما يعنيه نظام جائزة البوكر العربية بالنص على أن مجلس الأمناء يعين لجنة التحكيم من خمسة أشخاص: نقاد وروائيون وأكاديميون من العالم العربي وخارجه، والمجلس يختار من يفوز، نصاً أو شخصاً، من بين من ترشحهم لجنة التحكيم. فقد بدا أن إسناد المهمة إلى أكاديمي في الاقتصاد مثلاً، هو ورطة له وللجائزة. كما بدا أن (تطعيم) اللجنة بمستشرق أو مستعربة ينادي عقدة الخواجة. وبما أن القدوة هي البوكر الأم الإنجليزية، فأهلاً بالناشرين العرب إلى مجلس الأمناء وإلى اختيار المحكمين. ولكن ما دام حال النشر العربي على ما هو عليه، فلا مناص من شبهة الاحتكار، وبالتالي أن تغلب في التداول دور لبنانية، لذلك يحسن أن تحضر أيضاً دار مصرية، مثلاً، ولا بأس بحضور غيرها بين دورة وأخرى.
2
ذات مساء من شتاء 2008، جمعتني أمسية في حلب مع يوسف زيدان، وكان ثالثنا المطران يوحنا إبراهيم، مطران السريان الأرثوذكس في حلب، والذي اختطف مع المطران بولس اليازجي في ريف حلب منذ أربع سنوات، ولا يزال مصيرهما مجهولاً. وقد أدارت الأمسية الروائية شهلا العجيلي. ولسببٍ ما، ليس أقل من مسٍّ أصابني، تنبأت أمام الملأ لرواية زيدان “عزازيل” بفوزٍ عظيم.
وبعد قليل من الأمسية ظهرت القائمة القصيرة للدورة الثانية 2009 من جائزة البوكر العربية. وفيها رواية “عزازيل” مع روايات لفواز حداد ومحمد البساطي وإبراهيم نصرالله وإنعام كجه جي والحبيب السالمي، وكنت قد قرأتها جميعاً. ووجدتني أعيد قراءة “عزازيل” فتضاعف رهاني عليها – رغم ملاحظتي على درجة تسريد الفكرة أحياناً – ربما لما تخاطب به حمولتها الفلسفية والمذهبية والدينية حاضرنا، وربما لمعرفتي العميقة برئيسة لجنة التحكيم يمنى العيد. ومهما يكن فقد كسبت الرهان، وحين وقّع يوسف زيدان لابنتي نسختها من الرواية في معرض الكتاب في أبو ظبي، إثر إعلان فوزه، حدثها أمام الملأ عن نبوءتي، وهذه واحدة.
أما الثانية فتتعلق برواية شكري المبخوت “الطلياني”، إذ جمعتنا ندوة نهارية في “مدنين” التونسية عشية الدورة الثامنة للبوكر العربية. وكانت لي نبوءتي أمام الملأ بفوز “الطلياني”. وقد أكدتُ النبوءة في سهرة في مدينة تونس ضمتني والروائية آمال مختار مع الروائي الذي كانت روايته تتنافس مع روايات لعاطف أبو سيف وجنى فواز الحسن ولينا هويان الحسن وحمور زيادة وأحمد المديني، وكنت قد قرأتها جميعاً، ولم أخشَ على “الطلياني” إلا من منافسة “شوق الدرويش”.
3
بعيداً عمّا في النبوءتين من ادعاء، أو طرافة، أقلقني في الدورات الأخيرة للجائزة أن أجد في القائمة القصيرة نصوصاً بالكاد تصلح للنشر، وأن يكون بين المحكمين من أشكك في أهليتهم للحكم على الرواية، وإن يكن واحدهم أكاديمياً في الاتصالات أو صحافياً مشهوداً له، فكل ذلك أمر، والتحكيم في الرواية الأفضل لهذه الجائزة أو تلك، أمر. ولم ولن يعزيني القول إن البوكر العربية معنية بالمقروئية والترويج أولاً.
في دورة 2013 من جائزة الطيب صالح للرواية والقصة، قيض لي أن أكون من المحكمين مع عبدالله إبراهيم وآخرين. وقد نالت رواية الصديق عز الدين التازي “المغرب” الدرجة الثالثة. ولم تتأخر المفاجأة، إذ أسرعت جائزة العويس إلى التازي على جملة منجزه الروائي. وفي هذه الواقعة، كما أحسب، دلالة صارخة على المفارقة بين أن تأتي أحدث رواية لك في الدرجة الثالثة من جائزة محترمة، بينما تفوز عن مجمل إنجازه بجائزة محترمة أخرى، فهل هو الخُلْف وحده بين المحكمين؟ أم هي إرادة أولي أمر الجائزة؟ أم هو زحام الجوائز العربية في العقد الأخير مما يؤثر في اختيار المحكمين من بين من هم أدنى كفاءة أو أهلية؟
ثمة جائزة تأكدت مصداقيتها خلال زمن طويل، وكانت رائدة في هذا السبيل. وقد كنت واحداً ممن رشحوا لها محكمين في بداياتها قبل عقدين ونيف عقد. وفي علمي أن واحداً من كهنة الجوائز بجدارة، رشّح – لماذا لا أقول عيّن؟ – لهذه الجائزة من تلامذته من هو أو هي أدنى كفاءة، وترشيحه لا يرد. وبهذا الترشيح/ التعيين تكون لصاحبنا اليد الطولى في منح الجائزة الفلانية لفلان أو فلانة، وفي فمي بحصة، وفي فمي ماء، لهذا الأمر، ولما يلي.
وثمة جائزة كبرى جداً، شهدت سهرةً قاهرية مع محكّم فيها، وهو (جوكر) التحكيم في شتى الجوائز. وقد جلجل الرجل، وهو ناقد ذو شأن بحق، بأنه اختار في إحدى دورات تلك الجائزة رواية للفوز، فأعيدت إليه الروايات المرشحة ليعيد الاختيار، فأعاد، فأعيدت له الروايات ثالثة، فبلغ به الغيظ أشده. وهو محق إن صدقت روايته، فضرب كفه في علبة الروايات، وانتزعت الكف جزافاً رواية، وأرسل لأولي الأمر: هذا ما اخترت، ففازت الرواية (الجزافية).
4
فلنعد إلى السؤال المقلق: ما الذي في هذا البحث أو في هذه الرواية مما يؤهل لهذه الجائزة؟ ما الذي في منجز هذا الشاعر أو هذا الناقد مما يؤهل لهذه الجائزة؟
بقدر ما يسعني أمعنت في أغلب ما في القائمة الطويلة لدورة 2017 من البوكر العربية، مما استطعت قراءته، حتى الآن، وتساءلت: هل كان للزلزال العراقي المتفاقم منذ قرابة أربعة عقود، دور في الاختيار، ما دامت رواية سنان أنطون “فهرس” معنية بالغزوة الأميركية 2003، ورواية إسماعيل فهد إسماعيل “السبيليات” معنية بالحرب العراقية الإيرانية؟ هل كان للهجرة والتهجير والمهاجرين وموئل اللجوء دور في الاختيار ما دامت رواية أمير تاج السر “منتجع الساحرات” تلوح للاجئين في شرق السودان بذراع اللاجئة الإريتيرية آبيا تسفاي، وما دامت رواية عدنان ياسين “هوت ماروك” تلوح للاجئين من جنوب الصحراء إلى مراكش؟ ولكن ماذا لو فازت رواية محمد حسن علوان “موت صغير”، أي ماذا لو فازت السيرة الروائية لإمام المتصوفين ابن عربي؟ وماذا لو فازت رواية إلياس خوري “أولاد الغيتو”، أي ماذا لو فازت رواية الحكايات الفلسطينية التي بدت كجزءٍ ثانٍ لرواية “باب الشمس”؟
في دورة 2014 كانت الراية لرواية أحمد سعداوي “فرانكشتاين في بغداد”، وفي الدورة نفسها جاءت رواية إنعام كجه جي “طشاري” في القائمة القصيرة، مثل روايتها “الحفيدة الأمريكية” في دورة 2009، فهل للمرء أن يخلص من ذلك إلى أولوية ما للموضوع العراقي؟
في الدورة السابقة (2016) فازت رواية ربعي المدهون “مصائر كونشرتو الهولوكست والنكبة”. وكانت رواية المدهون “السيدة التي من تل أبيب” قد بلغت القائمة القصيرة في دورة 2010، كما بلغت القائمة القصيرة رواية محمود شقير “مديح لنساء العائلة”. وكانت رواية عاطف أبو سيف “حياة معلقة” قد بلغت القائمة أيضاً في دورة 2015، وقد سبقتها رواية إبراهيم نصرالله “زمن الخيول البيضاء” في دورة 2009، فهل للمرء أن يخلص من ذلك إلى أولوية ما للموضوع الفلسطيني، بالأحرى: الفلسطيني الإسرائيلي في البوكر العربية؟
لكن من هذه الروايات ما هو حفر روائي في التاريخ، مما ما زال بعضهم يصنفه كرواية تاريخية، أو يحدد “موضوع” الرواية بالتاريخ. ومثلها هي رواية لينا هويان الحسن “ألماس ونساء” ورواية حمور زيادة “شوق الدرويش” اللتان بلغتا القائمة القصيرة، وقبلهما كانت الراية لرواية ربيع جابر “دروز بلغراد” في دورة 2012، ولا ننسى روايته التاريخية “أمريكا” من دورة 2010، فهل لنا أن نقدر إذن أولوية ما للتاريخ؟ وماذا إذن عن التطرف والطائفية مما شغل بالمعية رواية “مولانا” لإبراهيم عيسى، ورواية سنان أنطون “يا مريم” في دورة 2013، وقبلهما، في دورة 2012 رواية بشير مفتي “دمية النار”، ورواية خالد خليفة “مديح الكراهية” في الدورة الأولى، والتطرف والطائفية هما إذن الموضوعان/ الموضوع الأثير للجائزة العتيدة.
من فلسطين إلى التاريخ إلى اللجوء إلى التطرف.. تتنوع الموضوعات كعنصر وازن أو رئيسي في الوصفة السحرية، والقارئ هو من يحدد الأولوية، ولكن كما يقدّر الناشر، وكما يريد، فإذا صح ذلك، فماذا بقي للتحكيم إذن؟ هل بقيت له جماليات الرواية كعنصر ثانوي في الوصفة السحرية المنشودة؟
بتشغيل هذه الأسئلة في جائزة الشيخ زايد مثلاً، تبرز الرصانة وقلّة الإثارة والصخب. ولا تبعد عن هذا النهج جائزة نجيب محفوظ التي تقدمها الجامعة الأميركية في مصر، بينما نجد أن كل دورة من دورات جائزة الكومار التونسية هي معركة ثقافية بامتياز، يبلغ الضرب فيها أحياناً ما تحت الزنار. وقد فازت بها “الطلياني” سنة 2015 و”ديوان المواجع” لمحمد الباردي سنة 2014 فتركزت الحملة على الجائزة منظمين وحكاماً وفائزين، بدعوى ذهابها إلى الدكاترة وابتعاد الشباب وغير المدكترين والمدكترات، فهل يكون من الوصفة السحرية للجائزة أن تكون أكاديمياً، وبالتالي، صديقاً للأكاديميين الذين يستأثرون بالتحكيم أو تكون الغلبة فيه لهم على الأقل؟
5
من كلمة رئيسة لجنة التحكيم الروائية العزيزة سحر خليفة في إعلان قائمة البوكر العربية الطويلة لدورة 2017: “الروايات بمجملها تعبر عمّا يدور في العالم العربي من تفاعلات وصراعات وانتكاسات، وأيضاً: آمال وأحلام”. فهل للمرء إذن أن يتساءل عمّا إن لم يكن ما يعصف بسورية من كل هذا الذي يدور في العالم العربي، حتى خلت القائمة الطويلة من أية رواية سورية؟
ثمة من رد السؤال برواية تيسير خلف “مذبحة الفلاسفة”. لكن الكاتب فلسطيني، ومقامه السوري زمناً لا ينزع فلسطينيته ولا يزاوجها بسوريته. ويبقى إذن الجواب المسكوت عنه حتى الآن، وهو أنْ ليس من رواية سورية مرشحة لهذه الدورة، ترقى إلى القائمة الطويلة.
لعل الأمر يحتاج إلى توضيح من الجهة المنظمة، يبين ما إن كانت دور النشر لم ترشح رواية سورية مثلاً. وإذا ما كان الترشيح قد حصل، فهل كانت سوية الرواية أو الروايات المرشحة، متدنية؟ أم إنها لم تنسجم مع مؤشرات التحكيم؟ ومهما يكن ففي حدود علمي أنه قد صدرت روايات سورية هامة بين بداية تموز – يوليو 2015 ونهاية حزيران – يونيو 2016، أي ضمن الفترة التي حددتها الجائزة لصدور الرواية المرشحة. ومن تلك الروايات أعدد: “الذين مسهم السحر” لروزا ياسين حسن، “اختبار الندم” لخليل صويلح، “لعنة الكادميوم” لابتسام التريسي، “البدل” لخليل الرز، “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، “مترو حلب” لمها حسن، “الشاعر وجامع الهوامش” لفواز حداد، وأخيراً وليس آخراً “ليل العالم” لكاتب هذه السطور. وكثير من هذه الروايات صدر عن دور النشر ذات الحظ السعيد في البوكر العربية.
أليس من بين كل هذه الروايات واحدة قد أدركت سر الوصفة السحرية؟
___
*نبيل سليمان
في حمّى الجوائز وصخبها في الفضاء الثقافي العربي، باتت الأصابع ترطن – على الكيبورد أو بالأقلام – بثقافة الجوائز، أي بموسم وأموال ومؤسسات ومواصفات، ودور نشر بعينها، وحكّام مكرسون، وكواليس تشكك بالذمم، واختلاط يستوي فيه الذين يعلمون والذين لا يعلمون، دون أن ينفي كل ذلك ما يتحقق من تقدير لبعض من يستحقون، وبعض ما يستحق.
ولعل علينا من البداية أن نميز بين الجوائز التي تتوجه إلى مجمل ما أنجز روائي أو ناقد أو شاعر أو مترجم أو مفكر، مثل جائزة العويس أو جائزة الملك فيصل أو جائزة القاهرة للإبداع الروائي، وبين الجوائز التي تتوجه إلى رواية أو فيلم أو بحث، بالمفرد، مثل جائزة كاتارا أو الجائزة العالمية للرواية العربية (والشهيرة بالبوكر العربية) أو جائزة الشيخ زايد في أغلب فروعها.
ومهما يكن، فالسؤال هو السؤال: ما السبيل إلى الفوز؟ لماذا فاز فلان – كشخص أو نص؟ ومن موسم إلى موسم، ومن جائزة إلى أخرى، تتفتق ثقافة الجوائز عما يرضي لجان التحكيم و/أو أصحاب الجائزة. ولكن قبل الذهاب أبعد، ربما كان تحديد القول بمسمّى بعينه، يجعله أكبر جدوى، وينأى به عن مألوف لغط الجوائز. لذلك أسوق السؤال عما يعنيه نظام جائزة البوكر العربية بالنص على أن مجلس الأمناء يعين لجنة التحكيم من خمسة أشخاص: نقاد وروائيون وأكاديميون من العالم العربي وخارجه، والمجلس يختار من يفوز، نصاً أو شخصاً، من بين من ترشحهم لجنة التحكيم. فقد بدا أن إسناد المهمة إلى أكاديمي في الاقتصاد مثلاً، هو ورطة له وللجائزة. كما بدا أن (تطعيم) اللجنة بمستشرق أو مستعربة ينادي عقدة الخواجة. وبما أن القدوة هي البوكر الأم الإنجليزية، فأهلاً بالناشرين العرب إلى مجلس الأمناء وإلى اختيار المحكمين. ولكن ما دام حال النشر العربي على ما هو عليه، فلا مناص من شبهة الاحتكار، وبالتالي أن تغلب في التداول دور لبنانية، لذلك يحسن أن تحضر أيضاً دار مصرية، مثلاً، ولا بأس بحضور غيرها بين دورة وأخرى.
2
ذات مساء من شتاء 2008، جمعتني أمسية في حلب مع يوسف زيدان، وكان ثالثنا المطران يوحنا إبراهيم، مطران السريان الأرثوذكس في حلب، والذي اختطف مع المطران بولس اليازجي في ريف حلب منذ أربع سنوات، ولا يزال مصيرهما مجهولاً. وقد أدارت الأمسية الروائية شهلا العجيلي. ولسببٍ ما، ليس أقل من مسٍّ أصابني، تنبأت أمام الملأ لرواية زيدان “عزازيل” بفوزٍ عظيم.
وبعد قليل من الأمسية ظهرت القائمة القصيرة للدورة الثانية 2009 من جائزة البوكر العربية. وفيها رواية “عزازيل” مع روايات لفواز حداد ومحمد البساطي وإبراهيم نصرالله وإنعام كجه جي والحبيب السالمي، وكنت قد قرأتها جميعاً. ووجدتني أعيد قراءة “عزازيل” فتضاعف رهاني عليها – رغم ملاحظتي على درجة تسريد الفكرة أحياناً – ربما لما تخاطب به حمولتها الفلسفية والمذهبية والدينية حاضرنا، وربما لمعرفتي العميقة برئيسة لجنة التحكيم يمنى العيد. ومهما يكن فقد كسبت الرهان، وحين وقّع يوسف زيدان لابنتي نسختها من الرواية في معرض الكتاب في أبو ظبي، إثر إعلان فوزه، حدثها أمام الملأ عن نبوءتي، وهذه واحدة.
أما الثانية فتتعلق برواية شكري المبخوت “الطلياني”، إذ جمعتنا ندوة نهارية في “مدنين” التونسية عشية الدورة الثامنة للبوكر العربية. وكانت لي نبوءتي أمام الملأ بفوز “الطلياني”. وقد أكدتُ النبوءة في سهرة في مدينة تونس ضمتني والروائية آمال مختار مع الروائي الذي كانت روايته تتنافس مع روايات لعاطف أبو سيف وجنى فواز الحسن ولينا هويان الحسن وحمور زيادة وأحمد المديني، وكنت قد قرأتها جميعاً، ولم أخشَ على “الطلياني” إلا من منافسة “شوق الدرويش”.
3
بعيداً عمّا في النبوءتين من ادعاء، أو طرافة، أقلقني في الدورات الأخيرة للجائزة أن أجد في القائمة القصيرة نصوصاً بالكاد تصلح للنشر، وأن يكون بين المحكمين من أشكك في أهليتهم للحكم على الرواية، وإن يكن واحدهم أكاديمياً في الاتصالات أو صحافياً مشهوداً له، فكل ذلك أمر، والتحكيم في الرواية الأفضل لهذه الجائزة أو تلك، أمر. ولم ولن يعزيني القول إن البوكر العربية معنية بالمقروئية والترويج أولاً.
في دورة 2013 من جائزة الطيب صالح للرواية والقصة، قيض لي أن أكون من المحكمين مع عبدالله إبراهيم وآخرين. وقد نالت رواية الصديق عز الدين التازي “المغرب” الدرجة الثالثة. ولم تتأخر المفاجأة، إذ أسرعت جائزة العويس إلى التازي على جملة منجزه الروائي. وفي هذه الواقعة، كما أحسب، دلالة صارخة على المفارقة بين أن تأتي أحدث رواية لك في الدرجة الثالثة من جائزة محترمة، بينما تفوز عن مجمل إنجازه بجائزة محترمة أخرى، فهل هو الخُلْف وحده بين المحكمين؟ أم هي إرادة أولي أمر الجائزة؟ أم هو زحام الجوائز العربية في العقد الأخير مما يؤثر في اختيار المحكمين من بين من هم أدنى كفاءة أو أهلية؟
ثمة جائزة تأكدت مصداقيتها خلال زمن طويل، وكانت رائدة في هذا السبيل. وقد كنت واحداً ممن رشحوا لها محكمين في بداياتها قبل عقدين ونيف عقد. وفي علمي أن واحداً من كهنة الجوائز بجدارة، رشّح – لماذا لا أقول عيّن؟ – لهذه الجائزة من تلامذته من هو أو هي أدنى كفاءة، وترشيحه لا يرد. وبهذا الترشيح/ التعيين تكون لصاحبنا اليد الطولى في منح الجائزة الفلانية لفلان أو فلانة، وفي فمي بحصة، وفي فمي ماء، لهذا الأمر، ولما يلي.
وثمة جائزة كبرى جداً، شهدت سهرةً قاهرية مع محكّم فيها، وهو (جوكر) التحكيم في شتى الجوائز. وقد جلجل الرجل، وهو ناقد ذو شأن بحق، بأنه اختار في إحدى دورات تلك الجائزة رواية للفوز، فأعيدت إليه الروايات المرشحة ليعيد الاختيار، فأعاد، فأعيدت له الروايات ثالثة، فبلغ به الغيظ أشده. وهو محق إن صدقت روايته، فضرب كفه في علبة الروايات، وانتزعت الكف جزافاً رواية، وأرسل لأولي الأمر: هذا ما اخترت، ففازت الرواية (الجزافية).
4
فلنعد إلى السؤال المقلق: ما الذي في هذا البحث أو في هذه الرواية مما يؤهل لهذه الجائزة؟ ما الذي في منجز هذا الشاعر أو هذا الناقد مما يؤهل لهذه الجائزة؟
بقدر ما يسعني أمعنت في أغلب ما في القائمة الطويلة لدورة 2017 من البوكر العربية، مما استطعت قراءته، حتى الآن، وتساءلت: هل كان للزلزال العراقي المتفاقم منذ قرابة أربعة عقود، دور في الاختيار، ما دامت رواية سنان أنطون “فهرس” معنية بالغزوة الأميركية 2003، ورواية إسماعيل فهد إسماعيل “السبيليات” معنية بالحرب العراقية الإيرانية؟ هل كان للهجرة والتهجير والمهاجرين وموئل اللجوء دور في الاختيار ما دامت رواية أمير تاج السر “منتجع الساحرات” تلوح للاجئين في شرق السودان بذراع اللاجئة الإريتيرية آبيا تسفاي، وما دامت رواية عدنان ياسين “هوت ماروك” تلوح للاجئين من جنوب الصحراء إلى مراكش؟ ولكن ماذا لو فازت رواية محمد حسن علوان “موت صغير”، أي ماذا لو فازت السيرة الروائية لإمام المتصوفين ابن عربي؟ وماذا لو فازت رواية إلياس خوري “أولاد الغيتو”، أي ماذا لو فازت رواية الحكايات الفلسطينية التي بدت كجزءٍ ثانٍ لرواية “باب الشمس”؟
في دورة 2014 كانت الراية لرواية أحمد سعداوي “فرانكشتاين في بغداد”، وفي الدورة نفسها جاءت رواية إنعام كجه جي “طشاري” في القائمة القصيرة، مثل روايتها “الحفيدة الأمريكية” في دورة 2009، فهل للمرء أن يخلص من ذلك إلى أولوية ما للموضوع العراقي؟
في الدورة السابقة (2016) فازت رواية ربعي المدهون “مصائر كونشرتو الهولوكست والنكبة”. وكانت رواية المدهون “السيدة التي من تل أبيب” قد بلغت القائمة القصيرة في دورة 2010، كما بلغت القائمة القصيرة رواية محمود شقير “مديح لنساء العائلة”. وكانت رواية عاطف أبو سيف “حياة معلقة” قد بلغت القائمة أيضاً في دورة 2015، وقد سبقتها رواية إبراهيم نصرالله “زمن الخيول البيضاء” في دورة 2009، فهل للمرء أن يخلص من ذلك إلى أولوية ما للموضوع الفلسطيني، بالأحرى: الفلسطيني الإسرائيلي في البوكر العربية؟
لكن من هذه الروايات ما هو حفر روائي في التاريخ، مما ما زال بعضهم يصنفه كرواية تاريخية، أو يحدد “موضوع” الرواية بالتاريخ. ومثلها هي رواية لينا هويان الحسن “ألماس ونساء” ورواية حمور زيادة “شوق الدرويش” اللتان بلغتا القائمة القصيرة، وقبلهما كانت الراية لرواية ربيع جابر “دروز بلغراد” في دورة 2012، ولا ننسى روايته التاريخية “أمريكا” من دورة 2010، فهل لنا أن نقدر إذن أولوية ما للتاريخ؟ وماذا إذن عن التطرف والطائفية مما شغل بالمعية رواية “مولانا” لإبراهيم عيسى، ورواية سنان أنطون “يا مريم” في دورة 2013، وقبلهما، في دورة 2012 رواية بشير مفتي “دمية النار”، ورواية خالد خليفة “مديح الكراهية” في الدورة الأولى، والتطرف والطائفية هما إذن الموضوعان/ الموضوع الأثير للجائزة العتيدة.
من فلسطين إلى التاريخ إلى اللجوء إلى التطرف.. تتنوع الموضوعات كعنصر وازن أو رئيسي في الوصفة السحرية، والقارئ هو من يحدد الأولوية، ولكن كما يقدّر الناشر، وكما يريد، فإذا صح ذلك، فماذا بقي للتحكيم إذن؟ هل بقيت له جماليات الرواية كعنصر ثانوي في الوصفة السحرية المنشودة؟
بتشغيل هذه الأسئلة في جائزة الشيخ زايد مثلاً، تبرز الرصانة وقلّة الإثارة والصخب. ولا تبعد عن هذا النهج جائزة نجيب محفوظ التي تقدمها الجامعة الأميركية في مصر، بينما نجد أن كل دورة من دورات جائزة الكومار التونسية هي معركة ثقافية بامتياز، يبلغ الضرب فيها أحياناً ما تحت الزنار. وقد فازت بها “الطلياني” سنة 2015 و”ديوان المواجع” لمحمد الباردي سنة 2014 فتركزت الحملة على الجائزة منظمين وحكاماً وفائزين، بدعوى ذهابها إلى الدكاترة وابتعاد الشباب وغير المدكترين والمدكترات، فهل يكون من الوصفة السحرية للجائزة أن تكون أكاديمياً، وبالتالي، صديقاً للأكاديميين الذين يستأثرون بالتحكيم أو تكون الغلبة فيه لهم على الأقل؟
5
من كلمة رئيسة لجنة التحكيم الروائية العزيزة سحر خليفة في إعلان قائمة البوكر العربية الطويلة لدورة 2017: “الروايات بمجملها تعبر عمّا يدور في العالم العربي من تفاعلات وصراعات وانتكاسات، وأيضاً: آمال وأحلام”. فهل للمرء إذن أن يتساءل عمّا إن لم يكن ما يعصف بسورية من كل هذا الذي يدور في العالم العربي، حتى خلت القائمة الطويلة من أية رواية سورية؟
ثمة من رد السؤال برواية تيسير خلف “مذبحة الفلاسفة”. لكن الكاتب فلسطيني، ومقامه السوري زمناً لا ينزع فلسطينيته ولا يزاوجها بسوريته. ويبقى إذن الجواب المسكوت عنه حتى الآن، وهو أنْ ليس من رواية سورية مرشحة لهذه الدورة، ترقى إلى القائمة الطويلة.
لعل الأمر يحتاج إلى توضيح من الجهة المنظمة، يبين ما إن كانت دور النشر لم ترشح رواية سورية مثلاً. وإذا ما كان الترشيح قد حصل، فهل كانت سوية الرواية أو الروايات المرشحة، متدنية؟ أم إنها لم تنسجم مع مؤشرات التحكيم؟ ومهما يكن ففي حدود علمي أنه قد صدرت روايات سورية هامة بين بداية تموز – يوليو 2015 ونهاية حزيران – يونيو 2016، أي ضمن الفترة التي حددتها الجائزة لصدور الرواية المرشحة. ومن تلك الروايات أعدد: “الذين مسهم السحر” لروزا ياسين حسن، “اختبار الندم” لخليل صويلح، “لعنة الكادميوم” لابتسام التريسي، “البدل” لخليل الرز، “الموت عمل شاق” لخالد خليفة، “مترو حلب” لمها حسن، “الشاعر وجامع الهوامش” لفواز حداد، وأخيراً وليس آخراً “ليل العالم” لكاتب هذه السطور. وكثير من هذه الروايات صدر عن دور النشر ذات الحظ السعيد في البوكر العربية.
أليس من بين كل هذه الروايات واحدة قد أدركت سر الوصفة السحرية؟
___
الأحد، 5 فبراير 2017
فاطمة ألعبيدي رحلة البحث عن الفردوس المفقود-عادل كامل
تجارب عراقية معاصرة
فاطمة ألعبيدي
رحلة البحث عن الفردوس المفقود
عادل كامل
[1] مؤشرات
مازال يدور في ذهني سؤال لم اجب عليه: أيهما مهد للآخر ـ الضروري أم الجمالي ـ لاكتساب جدلية يستحيل تفكيكها من غير العودة إلى الصفر: كيف تكّونت، أو نشأت رسومات المغارات، إن لم تكن استثناء ً في الانتقال من الضرورة إلى السحر، ومن العشوائية إلى الدلالات الرمزية، ومن التشوش إلى البناء المنظم، ومن الاضطراب إلى البناءات الجمالية ...، وهي الضرورة التي من الصعب عزلها عن فضاء الحرية...، فإذا كانت التجارب المبكرة ـ وهي ليست فنية إلا بوصفها اخفت هذا الهاجس ـ في الفخار أكثر وضوحا ً في الإقناع، فان آثار النحت ـ للآلهة الأم ـ ومشاهد الصيد المنفذة فوق جدران المغارات، ستتحدث عن أقدم مفهوم للمصنع: الرحم. فالطبية ـ بحد ذاتها ـ بوصفها مازالت بدائية وغير مركبة، إلا إنها كانت أقدم نظام للتوليد ـ والتكاثر، وتحدي الغياب. إلا أن عصر الفلسفة سيأتي بعد سنوات طويلة لردم الفجوات، ذلك لأن المصنع، من وجهة نظر (بدائية/ شحيحة التجارب) ستتوقف عند الحياة اليومية، كصعوباتها، وكالبحث عن الحلول الممكنة لتجاوز التحديات، والمعوقات، في الحقبة ذاتها كانت الوظائف تأخذ طريقها إلى التخصص، من المباشر إلى الرمزي، ومن المتاهات إلى الأدلة. فاليد/ العين/ وباقي الحواس، في مجال المنجزات شبه الفنية، ستمتلك مهارات لصياغة أدوات معرفية مبكرة توازي انشغاله بتحصين دفاعاته ضد التهديدات اليومية الدائمة. فهل كان (الرسم) كعلامة أولى، مع المجسمات، وتحول الأصوات إلى إشارات، والصور إلى علامات، حروف، بمثابة تحول مهد للتقدم المزدوج في صناعة: الأدوات ـ ومن ثم ـ صناعة: علاماتها، أم كان لتحول الوظائف، من مباشرة إلى رمزية، ومن خشنة إلى رقيقة، ومن خلوها من المعنى إلى انتظامها ببرمجة مبكرة للمعاني، أثره الذي سيؤدي دوره المستقل عن الأداء المباشر...، كي تكتسب التصوّرات، من المجال الافتراضي المبني على الاحتمالات، دون إغفال التعلم من الأخطاء، لغة معرفية مبكرة ـ بعد اكتشاف النار والخامات والطاقات الكامنة في الطبيعة، وفي الذات ـ ممهدة للخيال أن يشكل جزءا ً من خصائص (المصنع) ولغزه...؟
ها أنا أجد فن (الرسم) بعضا ً من الإجابة، بعد أن توارت الأسئلة عبر نسيجه البنائي، فالحائك يخفي سر الحياكة بالخيوط ليعلن عن ميلاد مستحدث، كما توارت أسئلة (النحت) في مجسمات الآلهة الأم، مثلما ينقلنا السؤال الخاص بتكون اللغة إلى: الإنسان نفسه بوصفه لغزا ً...، بدل التوقف عند (الأثر/ العلامات/ الرموز/ واللا متوقع من الإشارات..الخ)، إنما كي تأتي فتوحات لا نهائية تمد الجسور بين (الذات) وأثرها، بين الضوء وظله، الصوت وصداه، وبين تراكم (العلامات) وأسرار اشتغال تلك المصانع، بوصفها لم تعد (بدائية) ـ ككل ما يحدث بعيدا ً عن الإرادة الواعية ـ لتدخل في حقبة إن الإرادة، ليست مستقلة عن مستحدثاتها، كعمل الطائر ببناء عشه، ليس بوصفه سكنا ً فحسب، بل بما يمثله من تحديات سمحت للأشكال ـ كمستحدثات ـ أن تؤسس نظام محاكاة (الرحم) ـ ولكن بإشراف مباشر لقوى أخذه بالتقدم، وبالتغيير، وليس بالتأمل حسب: الدماغ. لأن عمل الأخير، هنا، (كعمل قوانين الولادة ـ الموت/ الليل ـ النهار/ الحضور ـ الغياب ...الخ) يدشن تضافر العناصر عبر عملها المشترك ـ وليس المزدوج ـ نحو بنية جمالية ترتقي بكل ما يتعرض للاندثار، ليصبح بنية تؤدي دورها في ديمومة الامتداد، حتى لو كانت محكومة بزوالها العنيد.
فالرسم عند كثير من الرسامات، وعند عدد من الرسامين، سيعمل على إعادة صياغة الإجابات، بإخفاء أسئلتها، إن لم يرتق بالأسئلة إلى مجال يجعل من التطبيقات، عالما ً لا ينتظر شروحا ً، أو تأويلات زائدة. فالرسامة فاطمة ألعبيدي، تختزل عمل (المصنع) بما يمتلك من عناصر فنية ـ شعرية ـ وجمالية. فمنجزها الفني يتقاطع مع النافع، ولكنه، في الوقت نفسه، يعيد الحفر في أقدم الأسئلة: إن لم يكن الرسم ضرورة...، كالشعر...، فلماذا استحدثه الإنسان، قبل أن تتكون معتقداته، وأعرافه، ومحرماته، ومعارفه الأخرى، حتى لو كانت غير مدوّنة...، فهل ثمة أسئلة ـ كامنة في البصريات ـ تلخص النسق التعويضي ( سيكولوجيا ً / فسلجيا ً / افتراضيا ً...الخ) لصدمات الغياب....، يتقاطع مع المنجز ـ بتوحد عمل المخيال بعيدا ًعن اليومي المباشر، ولا يدع مجالا ً لاتساع الفجوة بين الصدمات وطرق مجابهتها ـ حيث الأسئلة العصية تماثل سؤال: هل يصنع شعره، أم الشعر هو الذي يصنع الشاعر...؟
فالحلقة ـ هنا ـ لا تماثل انبثاق الليل من النهار، أو النهار من الليل، ولا تماثل خروج الحي من الميت، وخروج الميت من الحي....، قدر دينامية صانعي العلامات، بما يمثله الصانع، من علاقة جدلية للدينامية ذاتها ـ وهي ـ في الأخير، تستبعد ضرورات البرهان، بوصفه الطاقة غير القابلة للنفاد.
فالرسامة فاطمة ألعبيدي، تسمح للبديهة أن تمتلك قانونها، مثلما لا تقّيد القانون بضرورات الوظيفة ـ البديهة ـ فالرسم، عندما يعمل عمل الموسيقا، يؤدي دور الارتقاء، أو الانتقال بالخامات من وجودها المحض، الملقى، نحو عالمها الافتراضي، ألحلمي، الأكثر تساميا ً، والأقل تقيدا ً بعالم الضرورات، الأرض، وقسوتها.
[2] بعيدا ً عن الازدواجية
بعد نصف قرن من العمل في الكتابة ـ بمعظم أقسامها ـ أجد الفجوة مازالت اكبر ـ مما كنت اعتقد ـ بين ما يدور في ذهن (الكاتب) وتطبيقاته، ونصوصه المدوّنة، حتى تبدو الأخيرة تعمل بمعزل عن المجال الذهني ـ التخيلي/ الافتراضي ـ مما يوسع المسافة ويمنحها بعدا ً آخر بين (الكاتب)، والمتلقي، من ناحية، وبين الكاتب ومن سيتولى إعادة تقيم منجزه، بغية استخلاص الدرس، من ناحية ثانية.(1)
فالإشارات النقدية التي وجهها د. مازن المعموري لعدد من العاملين في حقلي التدريس، وفي الكتابة، وهم يتناولون تجربة الرسامة وجدان الماجد، لا تبدو سليمة فحسب، بل تظهر المدى السلبي لهذه العلاقة، كي يغيب (النقد) ـ الذي طالما استبعدته إلا بوصفه مؤشرات بحث لنقاد الغد ـ بالمرة، عنا، باستثناء إشارات متناثرة، على مدى تاريخ الفن الحديث في العراق، لم تفض إلى إحكام معرفية لصياغة لغة نقدية، أو حتى مقاربة للنقد، وما يتطلبه من: معلومات صحيحة، ورؤية نقدية واضحة، فضلا ً عن الخبرات التي يتطلبها الكاتب، كي يحق له أن يتحمل مسؤوليات النقد، ومستلزماته العلمية، والفلسفية..
وإذا كانت إشارات المازن قد بدأت أساسا ً بما تم عرضه من تجارب الرسامة الماجد ـ وهي التجارب المثيرة للشفقة حقا ً بوصفها نفذت لذائقة لا علاقة لها بالفن ـ فان التجارب المميزة لها، كفنانة شابة، كانت تثير الفضول، بل والدهشة، بما فيها من مغامرة وتجريب. وعلى كل فان ازدواجية (الفنان/ الفنانة) ـ هذه ـ تلقي المزيد من الضوء على أسماء كبيرة، بدءا ً بفائق حسن وإسماعيل الشيخلي، وانتهاء ً بالحرفيين المشغولين بمحاكاة لوحات المستشرقين، والخيول، والأزقة البغدادية، واستنساخ الجانب السطحي من الحرف العربي، ضمن التشكيل الحديث...الخ، مع تفاوت التكنيك، والثقافة، والغايات. إنها ازدواجية تماثل ما يعانيه الفنان من تخبط، وهو يرسم بأكثر من أسلوب، حتى اذكر إن الفنان حافظ ألدروبي، قال لي ذات مرة: رسمت بكل الأساليب ولكني لا اعرف ماذا يريدون أن ارسم؟! مما يوضح غياب الرؤية النقدية لدى الفنان، مثلما نجدها، لدى معلمي الفن، وهم يتظاهرون بدور الأستاذية، ويرتدون أقنعة النقاد الكبار.
وأدق مثال تطبيقي يفسر مدى أثرهم في تردي المستوى التعليمي ـ في كليات ومعاهد الفنون الجميلة ـ حد تدميرهم للكثير من المواهب، والإسهام بقمع مغامرة التجريب، بوصف الفن: تحديا ً، كما قال هاوزر، وليس بحثا ً عن مكاسب آنية، وزائلة.
إلا أن الاستثناء يبقى قاعدة لمواصلة الكتابة، كالذي نجده في تجربة الفنانة فاطمة ألعبيدي، باستبعاد الازدواجية، لا في الغايات ولا في الأسلوب حسب، ليس لأنها بعيدة عن الوسط (الفني)، أو لأنها لم تحترف مهنة تلبية متطلبات الذائقة الاستهلاكية، بل لرؤيتها المغايرة لهذا التوجه، ومدى انحيازها لمشروعها الفني/ الجمالي، وعملها المتواصل، الحثيث، بمنح الرسم صلة جدلية بالموسيقا، ومعالجة الرموز كوحدات جمالية متضمنة بنيتها البنائية، ونسيجها الخلاق، ضمن سنوات تكاد فيها عزلة الفنانين تحتم علي البعض منهم، نذر الكثير من حياتهم من اجل فنهم، وليس من اجل أهداف تتقاطع من رسالة الفنان، وما يتضمنه الفن من أبعاد حضارية، وإنسانية.
1 ـ إشارتي إلى المقال الذي كتبه د. مازن المعموري تعقيبا ً على ما جاء في مجلة"آفاق أدبية) العددان الثالث والرابع/ السنة الأولى 2011، حول الملف المنشور حول الفنانة "وجدان الماجد".
[3] جسور
وإن كان هناك من يولي (الذات) دورا ً ـ يبدو منعزلا ً عن مكوناته، مناخه، وأهدافه ـ في تحديد خصوصية هذه الذات، ذات الفنان، وهو اعتقاد يستند إلى وضع الذات على المحك، وفي المواجهة، لكن لو عزلت هذه الذات ـ كعزل أية ذرة عن أخرى ـ يغدو (الموضوع) قد فقد احد أركان وجوده بوصفه عابرا ً لمجموع: أجزاءه، نحو الكل الذي هو ـ بحد ذاته ـ وحدة، بنية، تدخل ضمن سلسلة من العلاقات، تبدأ باللا مرئي ـ ولا تتوقف عن المرئيات، ليس لأن الحركة تمثل جسورا ً لا عدد لها بين الحدود، بل لأنها غير مستقلة بذاتها، مهما بدت، تمتلك كيانها الخاص، والفريد.
وفاطمة ألعبيدي، التي حملت تراثا ً عائليا ً نادرا ً ـ كالذي عاشته نزيهة سليم، وعشتار جميل حمودي ووسماء حسن على سبيل المثال ـ ستغذي تجربتها بالحفر في المنجز التشكيلي العراقي الحديث، والنسوي منه خاصة، بما يحقق تجانسا ً مع رؤيتها للعالم، كي يأتي الفن صيغة منصهرات لبناء نصوصها الفنية. فلا يمكن إغفال إن مديحة عمر عالجت جماليات الحرف العربي عبر جدلية خيالها وصلته المتجذّرة بالمورث، والبيئة، كالذي شغل نزيهة سليم بمفهوم الاختزال، وعالم المرأة، بينما خصصت بهيجة الحكيم مسيرتها لتصوير البستان ـ الفردوس ـ متجانسا ً مع تجارب سعاد العطار، مهين الصراف، بتول الفكيكي، ليلى العطار، وداد الاورفلي، سلمى العلاق وغيرهن، فضلا ً عن تجارب متضادة للتطرف شكلت (انثويتها) وفق مفهوم: الخصب، التوليد، بسمة (شرقية) سمحت لتضافر عناصر البيئة، والموروث عامة، والمحلي الشعبي تحديدا ً، باستقصاء الذاتي ومنحه سمة (الهوية) للتشكيل النسوي الحديث في العراق.
فتجربة فاطمة ألعبيدي، تأتي لتؤكد مدى قراءتها لقرن من التشكيل الحديث، ولكن بعين عملت على منحها خصوصيتها في الاستبصار. إن المتلقي المعني بالقراءة ـ وليس إغفالها أو هدمها ـ سيعثر على مفهوم (النسج) لديها بوصفه عملية حياكة، إنما بأدوات أسهمت الفنون الحديثة بتشذيبها، وصقلها، لتتوحد فيها الطاقات الكامنة للفنانة، عبر أشكالها كلغة تتوخى منح الآخر حرية اكبر بقراءة موضوعاتها المختارة، مما يؤكد إنها لم تغفل منهجها التجريبي المعزز لمفهوم (الهوية) ـ الخصوصية ـ بإضافات شعرية، وفكرية، تجعل من البعد الجمالي موقفا ً إزاء عقود من الصدمات، والتحولات، والخراب. فالفنانة لم تنحز إلى الموضوعات الفنية على حساب شعرية النص الفني، وجمالياته، كما لم تعزل أشكالها عن رؤيتها ذات الجوهر الواقعي، فهي لم تستخدم الأثر إعلانا ً عن (الواقع)، بل استبدلته بلغة ضمنتها محركاتها باستخدام العناصر التشكيلية: اللون/ الخط/ الملمس/ الفضاء: الحركة/ والتباين في القيم الضوئية... الخ، لتلخص المسار الدينامي للأسلوب الذي يحافظ على ديناميته، ولا يتوقف عند نهاية مقررة مسبقا ً. فالفنانة ترسم بذات أدركت مدى اتساع موضوعاتها المعالجة، وبهذا فان تجربتها الفنية حافظت ـ من غير تزمت ـ على المنجز النسوي للفنانات الرائدات، بسماتها الشرقية، عبر منح الصوت أعلى دراجته: اللون. فالصمت يغدو لغة لا تتوخى المعنى إلا بوصفه غدا أسلوبا ً للرؤية ـ وللحياة. انه جسر سمح للفضاء الخارجي أن يشكل نسقا ً لبناء النص الفني، وفي الوقت نفسه، يمارس النص دوره جسرا ً للعبور من العالم الداخلي نحو الفضاء الخارجي. فالواقعية سمحت لها أن تجد في التجريد كل ما لا يمكن شرحه ـ أو تحديد معناه. إنها ـ من زاوية ابعد ـ تجعل من موضوعات (الحياة) المعنى المستتر للآلهة (إنانا): رؤية المشهد من زواياه المتعددة، عبر صراع سمح للقراءة أن لا تتوقف عن خلاصة أخيرة، أو نهائية، بل ستعالجها بمنحها الطاقات الكامنة في ذاتها ـ كفنانة ـ وفي خاماتها، كعناصر مكونة لنصوصها الجمالية.
[4] عناوين: التجريد أم الاختزال؟
لم يترك فنان الكهف عناوين لرسوماته، ليس لأن اللغة لم تكن أداة قد دخلت في الخدمة، بل لأن وضع أي عنوان لها كان بإمكانه أن يعزلها عن معناها الأبعد، إن لم يصنع فجوة قابلة للتشتت، وقد يصعب ردمها. على أن وضع العنوان ـ شبيه بمن يسير نحو هدف محدد، كوضع إشارة دالة على مكان بدل الوقوع في المتاهة، فهل هذا دقيق إزاء موضوعات تتضمن أكثر من إشكالية، كالثنائيات في تصادماتها، في تشكلها، في انصهارها، وفي تحولاتها....؟
تضع فاطمة ألعبيدي، عناوين نصوصها الفنية، ليس كي تدلنا على طريق يفضي إلى المعنى المقصود...، كرسم برتقالة ووضع عنوانها معها! ولكن عندما يرسم الرسام صورة شخصية لشخص محدد فانه يضطر لوضع اسم الشخص المرسوم...، وهنا يحدث الاختلاف بين رسام محترف يؤدي عملا ً محددا ً وبين فنان ربما ـ هو ـ يعمل على استقصاء المعاني الكامنة في ذاته ـ مثلما ستكون كامنة في منجزه الفني.
ولأن تجربة فاطمة ألعبيدي ولدت في حقبة مكتظة بالاتجاهات والأساليب، منذ أربعينيات القرن الماضي حتى يومنا هذا، ولأنها عاشت مرحلة تحولات، تصادمات، واجتهادات، فقد بات بحكم التجريب أن تختار الفنانة منحى لها بين عنوان العمل الفني ومضمونه. فهل قصدت أن تدلنا ـ بالعنوان ـ كإشارة أو كعلامة ـ أم كجسر يقود إلى ما بعد الضفة الثانية...؟
إن الرسامة تختار ـ على سبيل المثال ـ العنوانين التالية لعدد من رسومها: صدام الخير والشر/ شمس وإعصار/ جزيرة العشاق/ جنتي/ الجزيرة الحلم/ أفكار متصارعة/ ظهور الفجر/ طائر السلام/ أحلام التفاؤل/ ألوان التحليق في السماء/ راقصة البالية...الخ، فنجد إن هذه العناوين تشترك بالحديث عن موضوعات اختارتها بعناية، كاستحالة استبدال عنوان بآخر، أو نص بنص سواه...، ولكن القراءة الأكثر عناية بدراسة العلاقات ما بين العناصر التشكيلية واللغوية ـ أي العناوين ـ يفضي للتعرف على مساحة ضاجة بما لا يمكن تقييده بعنوان، ولكن هذا لا يماثل وضع كلمة (تجريد) إزاء ما لا يحصى من الرسومات التجريدية، وإنما هو إجراء مقاربة لموضوع متحرك/ دينامي، يتقاطع مع تحديد المعنى بكلمة أو بعنوان. فالصراع القائم على أزمنة، فلسفات، أفكار، تيارات، أساليب مختلفة، متنوعة، يوسع من العلاقة ويمنحها المعنى الذي حمل عنوان (إنانا)، كرمز: للسلام والحرب، للحب والبغضاء، للرقة والقسوة، وللحياة والموت...الخ فهو لم يغادر القصد الذي كلما غدا مرئيا ً ازداد بعدا ً وتواريا ً، ليس داخل الكلمة وحدها، بل في المضمون ذاته الذي عمل على ابتكار عناوين له، طالما الهدف امتلك أصلا ً جدليا ً، لم ينغلق عند خاتمة أخيرة، أو نهائية.
إنها ـ إذا ً ـ تنظر لمرئياتها برؤية تحفر في المجال الأبعد، ومادامت أدواتها تستند إلى البصريات ـ عناصر الخط/ اللون/ الفراغ/ الأفق/ والملامس.... الخ ـ فإنها ستعمل كي تتوغل ابعد منها، عبر أنساقها المختزلة بضرب سمح للمعاني أن تصبح تجريدات، وفي الوقت نفسه، سمحت للتجريد أن يحمل عنوانا ً خاصا ً، ومحددا ً. ذلك ليس لأن مادتها تتسع للذهاب ابعد من السكون حسب، بل منهجها الذي سمح لها باختيار المقاربة مع الموسيقا ـ الألوان، غاية كامنة في وسائلها، مثلما توحدت الوسائل مع غاياتها. فهل ثمة خلاصة تجعل من نصوصها التجريدية شكلية خالصة، أم إنها تناور ـ ككل غواية كامنة في الدهشة ـ بينهما؟ ليس لدي المتلقي إلا حرية استقصاء اختيارها الدائم لرصد الأضداد، ليس لأجل تصويرها، بل لمنح البصريات ذات الطاقة المشفرة الكامنة في الحرف ـ وفي الكلمة ـ وفي ما تعمل اللغة عليه باستنطاق فعل التوغل في المناطق المجهولة، كي يأخذ المعنى مصداقيته وهو لا يصوّر إلا إشكاليات غدا البعد الجمالي مفتاحا ً لفك المضامين الكامنة خلف أقفالها الموصدة.
[5] الموسيقا بوصفها بعدا ً
كما من الصعب ـ ولكن ليس من المستحيل ـ تعريف النحت بعيدا ً عن أبعاده الثلاثية، فان الرسم، منذ كونته عناصره التقليدية، لم يغادر السطح ـ بالمعنى المبكر لتحديد المصطلحات ـ لكن هذا وحده سيمهد للذهاب ابعد من المرئيات ـ السطوح، والأبعاد ـ بالانتقال من التعبير المحض نحو مكوناته الجمالية، وما يخفيه من مشفرات تعمل وفق الأنظمة التي هي قيد الاكتشاف، أو التي ستبقى نائية ومخبأة في مداها المجهول.
فإذا كان النحت ـ مع الفخار ـ يماثل المكان بوصفه تراكم أزمنة ـ فان الرسم ـ عند رسامي المغارات ـ لم يهمل المجال الزمني/ الحركي/ الصوتي/ كأحد عناصر بناء النص ونسجه ـ الشبيه بالفن ـ والفني بعد ذلك. فالزمن ـ بحد ذاته ـ كما في تجربة ألعبيدي ـ سيمثل هاجسها بتأمل المرئيات ورصد تحولاتها. فالفنانة ـ بعفويتها وانعتاقها من المحاكاة والاستنساخ والتنصيص المباشر ـ تسمح لهذه العلاقة أن تصوّر فضاء ً مسرحيا ً ـ ومضادا ً له في الوقت نفسه ـ للأشكال، في رصد انبثاقها، وأفولها. هكذا يتجدد الاشتباك، من لوحة إلى لوحة أخرى، كتتمة، تكملة، تماثل العامل المساعد ـ في التفاعلات ـ بالحفاظ على دوره الدينامي، ولكن هذا العمل (الوسيط أو المساعد) سيشكل لغز القوة بتناميها من المادي نحو الروحي، فهو ضرب من القوة الداخلية ـ بما تمتلكه الفنانة ـ مع ما في الطاقات الخارجية، كعلاقة جدلية تتضمن رؤيتها ـ وهاجسها ـ لمفهوم: النسج أو البناء. على إنها لا تقوم بعمليات البناء إلا انطلاقا ً من دراستها للطبيعة ـ بخاماتها ومكوناتها ـ تفكيكها وبعثرتها وتركها تتدفق، تتناثر عبر العلاقة ذاتها القائمة بين المساحة وما تشغلها من عناصر: نقاط/ خطوط/ حدود حرة/ حد إن الفنانة ستحرر أشكالها من أنظمتها الهندسية، وتجعلها أكثر قدرة على التسامي، ومغادرة حتمية الانجذاب إلى الأرض ـ كثقل ـ لتحقق بهذا الدافع توقا ً يهدم ـ ويعيد بناء ـ أقدم قواعد التكوين. فالمركز لن يتجمد عند خط الأفق، أو في بؤرة الحدث، إلا ليأخذ مداه، بحركة شبيهة بحركة الزمن لا ُترصد إلا عبر الوحدات المرئية، ضمن وحدات القياس الخاصة بكل لون ـ مثلما هي متحققة في الأصوات ـ والموسيقا بعد ذلك. إنها تترك لا شعورها ـ ولا وعيها ـ يحققان أقدم برنامج سابق على بواكير فن التجريد في فاتحة القرن العشرين، ليرى (كاندنسكي)، الذي تبنى مفهوم الروحي في الفن، بضرورة العودة إلى اقل الأجزاء أهمية، في التجارب الفنية، المكملة للعمل الفني، ولكنها سوف تؤدي دورا ً أساسيا ً، وليس مساعدا ً أو تمويهيا ً، أو وهميا ً، وسيكون من الصعب عزلها عن الأثر الفني، حتى لو كانت قد نشأت بمحض المصادفة. فالمخربشات أو العفويات أو اللا متوقعات ... الخ، المنفذة في الكثير من الرسومات ـ القديمة والحديثة والأكثر حداثة ـ تتضمن انشغالا ً نادرا ً لتقصي كل ما يصعب رصده، أو الإمساك به، فهو سبيه بالزمن الخالص، لأنه شبيه بالضوء وقد تحرر من المجال، كي يصعب التعرف على ماهيته (الزمن)، أو ماديته (الضوء)، إلا عبر التصادم ـ ضمن عملية الرصد ـ والبناء، أي بناء تلك اللحظة الاستثنائية للراصد، وقد غدا ـ هو ـ المركز ـ والعامل المساعد ـ معا ً، في تحقيق هوية: النص الفني.
إن فاطمة ألعبيدي التي بدأت تجاربها برصد الطبيعة ـ البيئة ـ لم تتوقف عند المحاكاة، بالمعنى الواقعي أو التقليدي أو بما شرّع له (مونيه) في تصوير: اللحظة ـ الانطباع، بل استثمرت هذه الخبرات لتصوير كل ما يذهب ابعد من التصوير. فالتجريد ـ بهذا المعنى ـ ليس اختزالا ً ـ بحسب تجربة موندريان ـ من المشخص إلى ذروته، وتجريده من ملامحه، بل العمل على تقصي المجال غير الخاضع للبصر ـ والبصريات ـ بما يمتلكه من ماهية تماثل الزمن ـ في ذاته ـ والضوء في انتقالاته نحو مجالات تمتلك مديات ابعد من أدوات الرصد.
ليدخل ـ في هذا النسج ـ عنصر الصوت، مكملا ً المجال اللغوي الصامت. فنحن إزاء ثلاثة مداخل اشتركت في رصد (الحدث)، فالزمن غدا مسرحا ً، والألوان ـ بتنوعها ـ اتخذت علاماتها، فيما سيمثل الصوت أكثر صلة بحاسة الإصغاء، لكن ليس حاسة السمع، بل للخلايا الكامنة في الدماغ.
ولهذا يبدو (التجريد) قد امتلك أسبقية تاريخية في بنائية النصوص ـ الأنا القديمة التي أكسبتها مديات العبور نحونا فعلها الدينامي ـ مثلما التقطها الرائي المعاصر، مكملا ً المجال الحدسي ـ بمرتكزاته العلمية ـ لتمثل آليات التجريد ـ بما يمتلكه من ذهاب ابعد من الآخر ـ المتلقي ـ وهو يمتلك حرية التأويل، بعد حرية التذوق ـ الدهشة، وإعادة القراءة.
وهنا تحديدا ً تهدم فاطمة ألعبيدي، ولا تتجنب حسب، مفهوم (الفن ألتزييني، ألتزويقي) نحو الفن الخالي من البذخ ـ أو المنفذ للأغراض النفعية، المباشرة، المكملة للتأثيث، والاستعمالات العملية، بتقصيها للمعاني الغائبة، النائية، في ذاتها، وفي العالم الخارجي، وفي النص الفني أخيرا ً، بما تمتلكه من حرية ـ هي الأخرى ـ تشترط الذهاب ابعد من وظيفتها العملية، أو التطبيقية. فهي تنحاز لمضمون توحد بعناصره الاعتبارية، وربما الافتراضية، وإن بدت مرئية، أو مسموعة، وقابلة للرصد، ليجرجرنا للامساك أبدا ً نحو الذي يذهب ابعد من أثره ـ فهو ليس تجريدا ً خالصا ً إلا لعمله على تتبع آثار خطاه الدينامية، فهو ـ في نهاية المطاف ـ تجربة في الرؤيا ـ مثلما هو تجربة قائمة على الرؤية الفنية، بأدواتها، وعناصرها الجمالية.
[6] بصمات: الهوية ومضاداتها
مع إن أي مفهوم للـ (الهوية) لا يتوخى ملاحظة تأثيرات التيارات (العالمية) وعبورها من غير قيود، بل وبسلاسة، نحو أكثر المناطق تحصنا ً، أو جمودا ً، ودراسة المفاهيم الأقل دينامية للهوية، بل والساكنة، وما تعانيه من تصدعات، وصراعات، على صعيد المحركات، من ناحية، ومنظومتها العلاماتية التي تشكل ملامح الأسلوب في تميزه، وقدراته على الفعالية، سيقلل من نتائج أية دراسة تجد في الفن مقاربة للحفاظ على الترابط، أو التقدم إلى الأمام، من ناحية ثانية، وأخيرا ً فان الاستحداث ـ أو أي مفهوم للابتكار ـ إن وجد، فانه إن فقد هويته، فانه سيمنح العشوائية قدرات لا محدودة، في تقويض الفن، وبصماته، ومصيره أيضا ً.
فإذا كانت كثير من التجارب الفنية قد بدأت بالنموذج (الأوربي)، على مدى القرن الماضي، بوصفها ولدت بعد قطيعة مع التاريخ العام، والثقافي، والفني خاصة، دامت قرون طويلة من الزمن، فان بعض التجارب الفنية لم تهمل دراسة الاتجاهات (العالمية) وعبر تحول عالمنا إلى مجموعة من القرى، الأسواق، المهرجانات، الألعاب الرياضية، الالكترونية، والتدميرية ...الخ، لم تهمل البحث المتواصل عن إعادة نسج النصوص الفنية بفهم متقدم للايكولوجية، بمعناها الشامل: البيئي، الوراثي، الاجتماعي، النفسي، الثقافي، الجمالي ...الخ، لتحديد مقاربة لمفهوم (الهوية)، مادام عالمنا يشيد تقدمه وفق آليات الصراع ـ التصادم ـ والمحو.
ولأن تجربة فاطمة ألعبيدي، لم تحصل في كوكب غير كوكب الأرض، وفي بلاد شهدت (تخمة) من النكبات، والماسي، فإنها ستبقى شديدة الصلة بإعادة قراءة العلاقة بين تأثيرات هذا الواقع، في نصوصها الفنية، من ناحية، وبين رؤيتها الفنية وما يكمن في اختيارها للرسم، كأسلوب يحقق لها (الانتماء/ الموقف)، والحفر في بيئتها، وليس مغادراتها، طلبا ً للملاذ، والسلامة، من ناحية ثانية.
ولأن الفن الشرقي، لم يعد كامنا ً في (الذاكرة/ المتحف)، أو في الماضي، بعد أن اكتسب خصائص الهوية ـ البصمات ـ الأسلوب، وليس الفن الشرقي، في الوقت نفسه، هو المحاكاة للسطوح، المرئيات، العلامات، بأساليب لا تتجانس مع التطور الهائل للعلوم، والبيئات، والأفكار، والتقنيات، ولهوية (المواطن) فوق كوكبنا، فان الفن الشرقي، لم يعد عملية استنساخ آلية تلبي حاجات السوق، كي تزدهر بعض التيارات الأحادية، كرسم العلامات التراثية، أو الاثارية، أو تصوير المناطق السياحية، أو الاستحواذ على الأشكال الجاهزة، أو تلبية رغبات (السائح) الأجنبي، وإنما غدا المشروع الفني أكثر تعقيدا ً، وصعوبة، مادام الاستحداث ـ بحد ذاته ـ لا يحدث مصادفة، أو عشوائيا ً...
وليس من الصعب اكتشاف نزعة الفنانة لتأمل عالمها وقد تحول إلى مهرجان تزدحم عناصره تارة، أو تختزل إلى فضاءات ومساحات باعثة على السلام، والسكينة. فالرسامة لا تزخرف، ولا تنقش، ولا تحاكي ملامح الفنون الشرقية، إلا بإعادة تأملها لبيئتها، ورصد التحولات، والمتغيرات، ومنحها لغة بصرية تتمتع بالعفوية، والسلاسة، والتلقائية، والسماح لخيالها أن يأخذ مداه الأبعد...، فهي لا تستعير برنامجا ً محددا ً، لا من حداثات الفن الأوربي، ولا من تراثها الشرقي، إلا بحدود نزعتها ببناء لغة عابرة لـ: (الأنا)، وعابرة للأحادية، نحو (أنا) طليقة، تعمل على إعادة رصد ما يحدث، بنزعة شعرية، قوامها دمج انشغالات الحواس، بعضها بالبعض الآخر، خاصة: السمع والبصر...، فالألوان تشترك ـ حد الاشتباك الذي يقارن بما يحدث عند النساج في نسج عمله ـ ببناء رقعة ذات سطح فضائي، أكثر من كونه بعدا ً مكانيا ً، فالفنانة لم تستخدم التركيب، و التوليف، أو استخدام الخامات اللا فنية، أو التلصيق، وباقي الوسائل المستعارة من التجارب العالمية ...الخ، ليس لأنها لا تود أن تجاور (موضات) أو (نزعات) المحاكاة القائمة على عزل اكبر بين (الفن) و (المتلقي العام) فحسب، بل لتجنبها وتوخيها العودة إلى سلاسة كادت تغيب إزاء الاستعارات، والاستنساخ، حد الاستحواذ، من الفنون الأكثر صلة بعالم قائم على العنف، ومحو الآخر، فالفنانة ألعبيدي تسمح لرؤيتها برصد المجالات المكرسكوبية أحيانا ً، والأخرى المنظور لها عن بعد...، وذلك لأن الحلم غدا مكونا ً من أجزاء تبني بها توقيعها ـ بصمتها ـ شخصيتها، حيث الحلم لن يتشكل رومانسيا ً، بل بتهذيب العاطفة واختزالها كي ترسم بالصوت، لتسمعنا أعلى الأصوات، عبر الخطوط والحركة، وعبر نافورات الألوان، وعبر اختلاف الإيحاء ألملمسي، دامجة (المعاني) بالتكنيك، عبر الأصوات وقد استحالت إلى عناصر بصرية، مثلما تؤدي العناصر الفنية وظيفة تدوّين المشفرات عبر نزعتها الروحية لعالم اقل تصادما ً، وقسوة. فالهوية لم تتكون عن قصد، كالتكرار أو التوكيد، ولم تتكون بمحض المصادفة أيضا ً، بهاجس التجربة والخطأ، وإنما ستصبح اختيارا ً قائما ً على معرفة (حرة) وقد قيدت بأكثر الآمال غواية: الحلم. فالفردوس سيشكل علامة مشفرة لفهم عالمها الداخلي، وقد غدا فضاء ً مركبا ً من وحداته المختلفة، حيث العلاقة بين اللا متناهي في الاتساع، محاذيا ً أو مقابلا ً اللا متناهي في الضيق، كعلاقة جوار لأكثر الأشكال توفرا ً في الطبيعة: العناصر: الماء والهواء، وهما يعيدان غزل صور لعالم يزول ـ ولكن لعالم يتكون أيضا ً. فالهاجس الواقعي ـ حد الوثيقة ـ ينصهر، حد المحو، ضمن هاجسها المشفر برصد التصادم، التفاعل، كمشهد مرئي، وملموس، نحو ذروته: الموسيقا ـ المجال الروحي وهو يلخص رؤيتها ـ ليس جماليا ً حسب ـ بل باستعادة مكانة الفن السحيقة، وموقعه كأداة افتراضية زاخرة بومضات الحياة في تحولاتها. فالجمالي يفقد أحاديته، كي يغدو مخاضا ً لسلاسل من المواجهات، إنما لا توهمنا الفنانة بأنها عثرت على (الأمل)، ولكنها، عمليا ً، لم تتخل عنه.
• عضو رابطة نقاد الفن [الايكا] منذ عام 1982
الفنانة في سطور
ـ ولدت في العراق ـ 1974
ـ عضو جمعية ونقابة الفنانين العراقيين.
ـ نشأت في بيت الفنان الرائد محمود العبيدى، ودرست الفن على يديه.
ـ شاركت في المعارض الجماعية داخل القطر وخارجه.
ـ حازت على العديد من الجوائز الفنية الدولية والعربية.
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)