بؤس الشعراء بعيون الرسامين-*الزبير مهداد
بؤس الشعراء بعيون الرسامين
خاص- ثقافات
كارل شبتزفيك شاعر ورسام ألماني عصامي، ينتمي إلى التيار الرومنسي، ولد في بافاريا عام1808 .درس الصيدلة وعمل صيدليا عام 1832، وكان يحب الرسم ويزاوله في أوقات فراغه، ثم تفرغ له ابتداء من عام 1833، معتمدا على جهوده الذاتية في تعميق تكوينه الفني، اشتهر بلوحاته الصغيرة والمتوسطة الحجم، كانت لوحاته مستوحاة من حياة الناس العاديين من الطبقة المتوسطة أو البورجوازية الصغرى، وكذلك من المناظر الطبيعية.
عمل شبتزفيك في إحدى الصحف رساما للكاريكاتير خلال الفترة من 1843 إلى 1853. واصل الرسم إلى سنين متأخرة من عمره، حتى وافته المنية عام 1885. مخلفا أعمالا كثيرة موزعة على متاحف ألمانية وأوروبية، ومن لوحاته الشهيرة لوحة الشاعر الفقير (1839) Der arme Poet التي تصور شاعرا يعاني الفقر والوحدة، يعيش تعيسا في غرفة خالية من المتاع مظلمة.
اللوحة كسرت الصورة النمطية الشائعة لدى الناس حول الشاعر، هذا الإنسان المبدع، الرقيق المشاعر، المرهف الإحساس، الواسع الخيال، يتخيله الناس يعيش حياة مخملية باذخة مثل شعره، يرفل في النعيم والظروف المريحة للبورجوازية الصغرى. لا يمكنهم أن يتخيلوا مقدار العوز والفقر الذي يعانيه أكثرهم. فجاءت اللوحة تميط اللثام عن واقع مرير لهذه الفئة من المبدعين، الذين يطربوننا ويسعدون حياتنا بقصائدهم الرائعة وأناشيدهم التي ترددها الأجيال في حبور، في حين أنهم يعانون البؤس، هذه اللوحة يعدها الألمان ثاني أشهر لوحة بعد “الجوكندا”.
وعلى نفس المنوال، أنجز الرسام الكاريكاتوري الفرنسي هونوري دومييH. Daumier لوحة “الشاعر في غرفة السطح” Poète dans la mansarde، سنة 1842، شخص فيها حياة شاعر بئيس في غرفته يعيش ظروفا قاسية، هذه اللوحة التي يطغى عليها السواد، يتوسطها جسم شاحب نحيل كالشبح، بأنف حاد وشعر مهمل ولحية كثة، الشاعر بلباس النوم، جالس على سرير أقيم في زاوية الغرفة، جدرانها السوداء ثبت عليه رفا به بعض المتاع، وقبعة معلقة، بجوار السرير شمعة مضيئة ضوءها باهت لا يكاد يتعداها، وكرسي وضع عليه ملابس قليلة رثة. يتوجه بعينيه صوب السقف بعينين ملتهبتين، تنمان عن شعور باطني بقلق عظيم، وغضب وأنواع العصاب، ويمسك بيده اليمنى ريشة، لعله يخط بها بعض ما تجود به قريحته من أبيات شعرية.
اللوحة الكاريكاتورية لا تسخر من ظروف الشاعر، لكنها توجه رسالة واضحة المغزى لكل من يغض البصر عن ظروف هذه الشريحة البئيسة من المثقفين.
أصداء هذه اللوحة نجدها بارزة بشكل واضح في قصيدة الشاعر الفرنسي بودلير الذي كان معاصرا للرسام وصديقا له، وعنوانها “الغرفة المزدوجة” وتعد إحدى أهم قصائد النثر في الأدب الفرنسي قاطبة، تكلم الشاعر عن حياة متخيلة في النعيم، يتوقف فيها الزمن على لحظات السعادة التي يعيشها الشاعر فيها، وأخرى واقعية يفتح عليها عينيه، إنها حقيقة طيفية فبين حلم بالجنة والكابوس لا يوجد حيز لأي شيء (يا للهول! إني أتذكر! إني أتذكر! أجل! هذا الكوخ القذر، وهذه الإقامة للسأم، وبالتأكيد، هو سأمي. هاهو ذا الأثاث السخيف المغبر، والمهشم؛ فالمدخنة بدون لهيب، وبدون جمر، منزوعة، وملطخة بالبصاق: النوافذ التي حط عليها المطر أخاديد على غبارها. والمخطوطات الممحوة، أو غير المتممة، والرزنامة التي سجل عليها قلم الرصاص، التواريخ الحزينة. آهٍ! لقد تذكرت! فقد ظهر الزمن مجدداً؛ الزمن يسود الآن ملكاً؛ وعاد مع العجوز البشع تماماً، موكبُه الشيطاني من الذكريات، ومن الحسرات، ومن التشنجات، من المخاوف وأنواع القلق، والكوابيس، من الغضب وأنواع العُصاب. أؤكد لكم أن الثواني الآن تتحرك بقوة، وبأبهة، وكل واحدة منها تعلن، وهي تنساب من البندول: “أنا الحياة العنيدة التي لاتحتمل!”) (ترجمة محمد الاحسايني)
الحطيئة، وابن دقيق العيد، ومعروف الرصافي والشاعر القروي، وبودلير وأحمد فؤاد نجم وآخرون غيرهم، عاشوا فقراء بؤساء، لكنهم أبدعوا أكثر وأفضل من أي أحد آخر. فعلى الرغم من بؤسهم وفقرهم فقد بصموا تاريخ الإبداع الإنساني بأسلوبهم المميز، وبمعانقتهم أحلام الناس، ومشاطرتهم آلامهم والكتابة عنها، كان إبداعهم الرفيع مرآة صافية عكست بصدق وأمانة معاناتهم، فخلفوا للأجيال اللاحقة تراثا رائعا غنيا وخالدا.
ففي اليوم العالمي للشعر، في الوقت الذي نتحلق فيه حول هذا الفن النبيل، ينبغي أن نستحضر معاناة كثير من الشعراء الذين يعيشون البؤس ويكابدون قسوة الحياة وشظف العيش كل يوم، بلا أجرة قارة ولا مكافآت مجزية ولا معاش ولا تأمين صحي، دون أن يلتفت إليهم أحد. تمنعهم عزة النفس أن يمدوا أيديهم لأحد أو يصدحوا بأصواتهم بالشكوى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق