الأحد، 19 مايو 2013

الفنانة ليلى العطار -بقلم الاستاذ سيف الدين الالوسي



الفنانة ليلى العطار
بقلم الاستاذ سيف الدين الالوسي

حي المنصور من الأحياء النموذجية في مدينة بغداد , ليس فقط بجماليته , ولكن بتجانس سكانه جميعا والذين أصبحوا كمجتمع بغدادي عراقي نموذجي متطور مصغر .((حفظهم الله جميعا لمن بقى في العراق أو هج في أرض الله الواسعة )).....

منطقة الأميرات هي جزء من هذا الحي الجميل,تم تخطيطها من شركة المنصور وبيع الأراضي المقسمة الى مختلف العراقيين وبسعر دينار واحد للمتر في الخمسينيات .

هنالك ما يقارب الخمسين دارا,بنيت بالتوازي مع نهر الخر,بنيت معظم هذه الدور في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي , من ضمن تلك الدور دار لزوج الفنانة ليلى العطار المرحوم الشهيد عبد الخالق جريدان

قصفت هذه الدار مع الدار المجاور له في ضربة سنة 1990 وبعد قصف مديرية المخابرات عدة مرات , كونه ملاصق لأبنيتها

تركت عائلة الفنانة هذه الدار بعد تهدمه والمباشرة بأعادة بنائه , وأنتقلت الى دار شقيقتها ( الفنانة سعاد العطارو زوجها الأستاذ جميل أبو طبيخ الذين يسكنون في أنكلترا) والواقع في نفس الشارع وعلى بعد حوالي عشرة بيوت من دار الفنانة

هذا البيت ملاصق أيضا للمخابرات وقريب جدا من الدار الصيني , موقع لسكن رئيس المخابرات في بعض الأحيان (( سكنه فاضل البراك ,وسعاد الصباح وسبعاوي أبراهيم ومانع عبد رشيد والمرحوم رافع دحام )) للتأريخ

كان الجميع يحترمون الأهالي كل الأحترام هم وحماياتهم التي كانت معظمها تتصرف بمنتهى الأدب والأخلاق .

البيت الصيني هو دار كبيرة على النمط الصيني مع دار أخرى كبيرة كانت تابعة لعائلة حسو التجارية الشهيرة , أستملكت من قبل المخابرات في نهاية السبعينيات عند توسعتها , وفي المراحل الأخيرة من الأنتهاء من بنائها ....(لم يسكنها بيت حسو) .

هذه المنطقة تمتد من ساحة سباق الخيل الى نهر الخر , وهي منطقة كانت نموذج للجيرة والتجانس السكني والبيئي للسكان , حتى أصبحوا جميعا كعائلة واحدة عراقية كبيرة , وبعد أكثر من ثلاثين سنة من الجيرة ,,, كانت تضم عدد كبير من الأطباء والمهندسين والتجار والسفراء والسيياسيين السابقين كالمرحوم الطيب الذكر الرئيس عبد الرحمن عارف , والمرحوم رجب عبد المجيد , الدكتور عزة مصطفى أطال الله في عمره والأدباء كالمرحوم جبرا أبراهيم جبرا وغيرهم من الطبقة الوسطى المثقفة , بالأضافة الى عدد كبير من السفارات والقنصليات ودور السفراء والدبلوماسيين ،منطقة كانت نموذج للرقي والأمان والنظافة والأخوة .
كانت حماية هذه المنطقة تابعة الى المخابرات , والحق يقال ويجب أن يقال بأن الرجال المسؤولين عن حمايتها طيلة عقود كانوا في منتهى الأدب والأخلاق والامانة

تضررت بيوت هذه المنطقة بشدة خلال حرب التسعين لكونها واقعة بين المخابرات والأتصالات وقرب عدد من الدوائر المهمة , لكن الخسائر في البشر كانت شبه معدومة لترك أصحاب الدور دورهم بسبب تبليغهم من الجهات المختصة بضرورة الأخلاء( تكررت هذه الحالة عدة مرات أثناء وقوع أي عدوان مفاجئ )) وهذه حالة تشكر عليها تلك الجهات والحق يقال...( لم تحدث أي سرقة لأي دار طيلة حرب التسعين وبقية الضربات المفاجئة بسبب الأمانة العالية للمحافظين على أمن الدور ورغم معظم هذه الدور قد فقد شبابيكها وأبوابها بسبب العصف والقصف المستمر) .

في يوم 25 حزيران من سنة 1993 تم أذاعة بيان من الدفاع المدني بأنه سوف تتم تجربة صافرات الأنذار في ذلك الأسبوع , كل شئ طبيعي كوننا تعودنا على هكذا أمور وحتى الأطفال ( تعلموا أطلاق صافرات الأنذار بأفواههم لتخويف العجايز)!

في معظم الأيام من الأسبوع أرجع الى البيت في التاسعة أو أقل بقليل , حيث أتفرج نشرة التاسعة ومن ثم أصعد الى مكتبتي أذا كانت البرامج مملة وبرنامج (سو سو سو لا لاري مشتغل !!!) ,,لانه سيعاد مرة ثانية في نشرة الحادية عشرة ,أذا لم يستمر في بعض الأحيان من التاسعة الى الثانية عشرة ليلا دون أنقطاع .

كنت أصعد الى مكتبتي المتواضعة وأشغل البكرة مال أما أم كلثوم أو أغاني عراقية قديمة وحتى غربية قديمة , لأرسم في بعض الأحيان أو أقرأ ما أشتريه من كتب قديمة يوم الجمعة من شارع المتنبي ,,, رفيقي في هذه الرحلة اليومية تقريبا كأس من الأسكنجبيل وباكيت سومر الماني أزرق !!! ولحين الواحدة ليلا موعد الأخبار في لندن أو غيرها من الأذاعات .

كانت الحالة العامة متشنجة ودوائر المخابرات القريبة في حالات أخلاء مستمر (مثل أم البزازين ويومية جاك الواوي وجاك الذيب كولة أحد الأصدقاء من منتسبي هذا الجهاز ممن كان معي في الكلية وتطوع على المخابرات) .

في ليلة 27 حزيران, رجعت متأخرا بعض الشئ الى البيت, تعشيت مباشرة وصعدت الى المكتبة دون الأسكنجبيل لسماع الأخبار وقراءة صحف بابل والجمهورية والعراق !!!! كانت الجمهورية تمهد لكتاب المرحوم جبرا أبراهيم جبرا ( شارع الأميرات وقرب أصداره ) في القسم الثقافي منها .

البيت ساكنا والجميع نيام وأنا أستمع الى البي بي سي والتحليلات مع سكارة سومر ,,
كل شئ طبيعي ولم يذكر أحدا العراق في الأخبار,الساعة الواحدة والربع ليلا وما إلا صوت كصوت طائرة وأنفجار كبير جدا وعنيف هز البيت والشبابيك وفتح الأبواب , مع وميض قوي جدا ثم صوت صافرات الأنذار , ركضت مباشرة الى غرفة الأولاد أنا وأمهم حيث حملناهم بأغطية المنام دون شعور راكضين الى الطابق السفلي ,, عند منتصف الدرج وميض يعمي البصر ( الانارة موجودة داخل البيت ) , مع صوت أنفجار أخر أقوى من الأول ! عرفت من الصوت للمحرك النفاث أن المنطقة تقصف بالصواريخ !!! توالت الصواريخ والأنفجارات الهائلة وبمعدل صاروخين كل دقيقتين , ممزوجة مع أصوات تكسر الزجاج والأبواب وسقوط أنقاض وأجزاء حديدية على المنزل ( الأولاد كان أكبرهم في السادس أبتدائي والوسط في الثاني أبتدائي وأصغرهم أبنتي في التمهيدي وأمهم في زاوية صغيرة قرب باب المطبخ ) خوفا من سقوط الدار ! لا تسمع غير صراخ الجيران وأصوات طيران الطيور المفزوعة والمقاومات التي بدأت بالرمي بعد سقوط أربعة أو ستة صواريخ ..

أستمر هذا المشهد المفزع غير الأنساني والمفاجئ لنا لمدة خمسة وعشرين دقيقة تقريبا , ونحن نحبس الأنفاس ونتشاهد ( الحمد لله لم أشرب أسكنجبيل في تلك الليلة ) , وأصوات الاشياء المتطايرة تتزامن مع كل أنفجار .

أنتظرت أنا سكون المقاومات والصواريخ , لأخرج وأرى المنطقة عبارة عن ساحة معركة حقيقية بكل شئ ,,, دخان وروائح البارود وطيور ميتة من العصف , سيارات مدمرة ,أنقاض وكتل طينية كبيرة غطت البيت وبيوت الجيران والسيارات المهشمة , الجيران وخصوصا كبار السن والنساء والأطفال في حالة ذهول وهيستريا , حيث سمعت أبن الفنانة وهو يركض ووجهه مغطى بالدماء:

ألحگوا بيتنه وگع , أمي وأبوية جوه البيت!!

الناس في الشارع والشوارع القريبة والمنطقة تتراكض يمينا ويسارا كأنه يوم المحشر !!!! وأنا وغيري من الجيران ركضنا الى بيت المرحومة وبعد الأطمئنان على بقية عوائل بيتي ( الوالدين وعوائل أخوتي الملاصقين الى بيتي ) والجيران الملاصقين المنهارين كون معظمهم كبارفي السن ونساء ,, ركضنا الى بيت المرحومة لنرى الجزء الأمامي من البيت قد أنهار كليا ولم يبقى إلا الجزء الخلفي الملاصق للمخابرات , وصوت أنين تحت الأنقاض التي لم نستطع رفعها كون الكتلة الكونكريتية قد سقطت بالكامل

سقط صاروخ أخر على بيت تابع لعائلة ال دراغ الكريمة ,وكان مستأجرا الى عائلة عربية ولكنه وقع في الحديقة الأمامية وعمل حفرة قطرها خمسة عشر مترا وبعمق ثلاثة أمتار , حيث تناثرت كتل الطين من الحفرة لتسقط على كل الدور القريبة (أحدها ويقدر وزنها بمئة كيلو من الطين الحر وقع على سيارتي وخسف البنيد) , وأصبحت تلك الحفرة بركة كبيرة للمياه الجوفية وقد أنفجر أنبوب الماء أيضا لتغرق تلك الجهة من الشارع بالمياه .

هدأت النفوس قليلا من الصدمة , وبدأت سيارات الدفاع المدني بالقدوم وقد حاولنا مساعدتها قدر الأمكان ولكن الأمكانيات ضعيفة والتدريب بدائي ( كان محرك صاروخ نفاث في بيتي , سألت أبو الدفاع المدني أن يخرجه , أجابني من يبرد ذبه بره بباب الحوش !!!!!) , حيث كان رجال الدفاع المدني يتكلمون مع المرحومة وزوجها بواسطة صوندة المياه التي مدوها تحت الأنقاض !!ولم يستطيعوا فعل عمل مؤثر حتى شروق الشمس ونحن نحاول , حيث سلمت الأرواح الى بارئها فجر وصباح ذلك اليوم الساعة السادسة .

كان هنالك صاروخ ثالث أخطأ هدفه وسقط في منطقة الحارثية , شارع جامع الكبنجي , وقد أستشهدت فيه عائلة كاملة من خمسة أشخاص ( الزوج والزوجة وأطفالهم الثلاثة ) من بيت القيسي !! لم تأتي على ذكرهم وسائل الأعلام !!!؟؟؟؟؟

بقينا لمدة أيام لا ندري ماذا نفعل بعد تلك المفاجأة , حيث باشرنا بتصليح الدور وقد أصبحت المنطقة مكانا للفرجة من المواطنين للأطلاع على الدمار !!!!

للحقيقة أيضا وللتأريخ تم تشكيل لجنة لتعويض الدور, وعوضت بمبالغ لا ترتقي الى الأضرار ولكن كان هنالك أهتمام أخلاقي وسؤال من قبل تلك اللجنة .

للتأريخ أيضا أقول أن الفنانة ليلى العطار لم تكن مقصودة بالقصف , كون هنالك دارين قريبة قصفت أيضا وذلك أما خطا في الأحداثيات والجيروسكوب,أو الصواريخ التي أخطأت الأهداف قد أصيبت بالمقاومات القريبة وسقطت قبل أهدافها بعشرات الأمتار .

المرحومة ليلى العطار لم تكن من رسمت صورة بوش على أرض فندق الرشيد , وصاحب الفكرة ورسام اللوحة فنان من ديالى كان قد ظهرعدة مرات ببرامج تلفزيونية وشرح الموضوع

لم تكن المرحومة سوى مديرة عامة لدائرة الفنون وهي وظيفة أدارية ,,, ولكن كونها مشهورة ومعروفة فقد أستغل أسمها أعلاميا من الأعلام للنظام السابق للدلالة على الأجرام الأميركي , ومن الأعلام الأميركي لتبرير الخطأ في دقة الصواريخ !!! والضحية البشر !

تلك المعلومة فقط للتأريخ ولأبين مدى أستهتار الطرف الأميركي بالبشر , ومدى معنى رسم صورة لشخص مهما يكون من مجرم لتدوسها الأحذية , في وقت نحن نحتاج الى دعم دولي !!!تفكير متخلف لا يرقى الى مستوى المسؤولية في قراءة التفكير الدولي .!!!

بعد كل هذا عرفنا أن كلينتون أمر بقصف المخابرات لأتهامها بتدبير محاولة أغتيال لبوش الأب في الكويت ( سبب سخيف أخر يبين مدى الأستهتار بالبشر وعقلية الكاو بوي ) .

وهكذا أنضم عدد من الشهداء الى قافلة شهداء العراق الخالدين والمستمرين بالشهادة الى اليوم , بسبب أستهتار الساسة والدول والقيادات الفاسدة التي نعاني منها اليوم كما الأمس ...

الفاتحة على أرواح شهداء العراق كافة الى اليوم ,وحفظ الله تعالى لنا العراق وأهله المظلومين دائما .

الأربعاء، 8 مايو 2013

قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل





قصص قصيرة جدا ً



عادل كامل
[1] صخور

    ضرب حجا ً بحجر، كي يستنجد بأحد ما، وقد أصبح وحيدا ً في الصحراء، بعد ان نجح في اجتياز الحدود، ونقاط المراقبة، ليسأل نفسه، ما اذا كان يمتلك قدرة للإصغاء، وتمييز ما تمثله الأصوات، في فضاء يحاصره من الجهات كافة، وهل باستطاعته ان يعرف ما اذا كان وحيدا ً حقا ً، مثل الصخور التي رآها متجاورة، متراكمة، ومتفرقة، أم انه مازال يأمل بالعثور على شريك له في العراء..
   وأعاد الإصغاء إلى الصوت، لحجرين، لهما صوت حاد، ناعم، كاد يرى ذبذباته تتلاشى أمامه: أتراها تأن، أم تشكو، أم تستغيث، أم لا معنى لتصوّراتي...؟ ودار بخلده انه لم يعد يميز ما اذا كان هو يفكر في الأصوات أم ان الأصوات بعثت فيه الأفكار...؟
   وكف عن التفكير، مرسلا ً نظرة امتدت مع الأفق: صخور سوداء، رمادية، وأخرى زرقاء وخضراء داكنة، منتشرة، ومتراكمة، ومتفرقة، ومتجاورة...، كأنها بقايا بركان قديم، أو أسوار مدينة غادرها زمنها، هامسا ً مع نفسه، من غير صوت: إنها ليست وحيدة...، فأنا هو الوحيد. ورفع صوته، قليلا ً، وخاطب نفسه: كلا، إنها ليست وحيدة، ولا أنا وحيد. ذلك لأنه، عندما خيم ظلام الليل، وقد ترك جسده بين الصخور، أحس بألفة طالما  افتقدها، فتذكر انه، في قريته، حلم ان يجد صخرة ما لا تتركه يذهب ابعد من حدودها: حدودي، وأنا لم اعد وحيدا ً أبدا.

[2]  رماد
   وراح العالم يفكك حفنة الرماد إلى أجزاء بالغة الصغر، حتى شعر انه فقد كيانه واخذ يحّوم بين فراغات وفجوات أجزاء الذرات. فدوّن ملاحظة في دفتره انه لا يراها إلا أكثر ترابطا ً، وتماسكا ً، وانه لا يجدها تقع خارج حدود وعيه لها: فثمة جسور لا مرئية بيننا لا تدعها تبتعد عني إلا وأنا معها نمتد داخل حدوها الشاسعة.
  ودوّن: إلا ان هناك ومضات واضاءات وتصادمات وتداخلات لا تكف تبث أصواتا ً خفيضة لها ألوان لا تحصى كأنها ..
   وتوقف عن الكتابة وهو يستنشق رائحة عطر نباتات رأى ذراتها تشغل المساحة ذاتها لذرات حفنة الرماد التي انشغل بتفكيكها في ذلك الصباح. فتتبع امتداداتها واتساعها وانصهارها حتى لم يعد يميز الألوان عن الأصوات ولا عن ملامسها وهي ترفرف بمحاذاة حافات جسده.
   فعاد إلى حفنة الرماد، فراها قد غابت، لكنها تركت بقعة رمادية شاهدتها تمتد مندمجة بظلال أصابعه وهي تغادر حدود الورقة، كف عن النظر، وقد أدرك انه غدا مراقبا ً، فترك بصره بتوحد بالأصوات، وبصره يتوارى ممتزجا ً بصمت الأصوات وهي تلامس حافات رغباته النائية.
[3] مرآة
  لمح بهدوء انه مازال يرى ما لا يحصى من الذرات أمامه خارج إطار المرآة وداخلها أيضا ً وهو لا يعرف ما اذا كان يحاور نفسه أم ان أحدا ً ما كان يحاوره، عندما، بالهدوء ذاته، فتح فمه وقال انه لا يرى سوى طائرا ً وقع في الفخ، وهو يراه يموت انتحارا ً بدل الاستسلام لشبكة الصياد. ابتعد عن المرآة كي يجد جسده أكثر التصاقا ً بها، تارة، ويراها تقترب منه وتسكنه تارة أخرى فيفقد المسافة بينهما: لكنك لم تكن طائرا ً، ولم تعش في البرية، ولم تقع في الفخ.  تاركا المرآة تفقد حدودها فيما كان جسده يتناثر ذرات ناعمة رآها تغادر الإطار، لتتكون، وتتلاشى، داخل إطار المرآة، مرة ثانية. إنما لمح ومضة لا صوت لها تسحبه فيرحل معها كي يرى الفراغات اتسعت وهو لا يمتلك إلا ان يبقى ضمن حدود المرآة: آ ...ه، ها أنا أدراك أيها الطائر انك تذهب ابعد مني وأنا أدرك تماما ً استحالة مغادرة هذه المرآة. إنما وجد أصابعه تتخلى عنه وهي تمتد مع الومضات حيث شاهد صمته يرسم لونا ً شبيها ً بطائر يحدق في عينيه، وقد وجد انه لا يمتلك إلا ان يتتبع اقترابه منه حتى لم يعد يكترث ما اذا كان ما رآه محض حلم سكنه، أم انه كان وحده يخفي رغباته بعيدا ً عن المرآة..؟
[3] متاهة
    وجدت نفسي لا امتلك إلا ان أؤدي ما طلب مني، مع أنني كنت امتلك قدرة وضع حدود أو مسافات بين تخوم أحلامي وشرودي، من ناحية، وبين الوهم وأعراض اختلاط عمل حواسي، من ناحية ثانية. طلبوا مني ان اصعد إلى الأسفل، وانزل إلى الأعلى، فعلت ذلك بإرادة من يجهل أأنا اخرج من الظلمات ان ارجع إليها، فمشيت خلف طابور، ثم رأيت طابورا ً يمشي خلف خطاي، لم أتعجب أو اندهش، فلم يكن لدي ّ الزمن كي اعرف ما اذا كانوا يراقبونني أم أنا هو من كان يراقبهم، قالوا المربع دائرة، والهرم  فراغ قاعدته في القمة، ومنحوني الرماد كي استخرج منه النار، والماء كي انسج منه أبوابا ً، ولم تكن لدي ّ قدرة الاعتراض على استبدال أصابعي بأجنحة، وراسي بصندوق، فلم أميز الظل عن النور، ولا الغائب عن الحاضر، بعد ان زخرفوا جسدي بأشكال كنت أتعقب حركاتها، ثم أخيرا ً لم أجد شيئا ً اعترض عليه، فأمروني ان امشي فوق حبل، لا وجود له، فبلغت نهايته، ليطلبوا مني ان ارجع، فرجعت، فأدركت ان القصة لا بداية لها، مثلما أنني أصبحت اجهل ما اذا كانت ثمة خاتمة لها. فوضعت نقطة لكنني لم استطع ان أغادر الكلام.
[4] مسافة
    عندما لم تعد تصلني رسائلها المكتوبة بخط يدها، وكادت ذكراها تأخذ طريها إلى الغياب، لم اعد منشغلا ً بإقامة علاقة تفضي إلى المصير نفسه. إلا أنني ...، وجدنها، مصادفة، عبر شاشة الحاسوب، تحدق فيّ. فاستعدت ـ من غير شعور ـ تعرجات كلماتها المتلاصقة، وخطها الناعم، والفراغات المشغولة بإضافات وتعديلات واعتراضات برسومات طالما استمدتها من عصور موغلة في القدم...، إنما عندما وجدتها تبادلني الابتسامة الأولى التي جرجرتني إليها، لم تكن لدي ّ قدرة وضع مسافة بين ومضات فتاة بلغت خاتمة العمر عنها وهي تهرول في الغابة. فلم  تكن لدي قدرة محو المشهد، إنما، تركته يستكمل فاتحته، ويأخذني معه، مرة أخرى، إلى الغياب.
[5] رصاصة
 مازلت أتخيّل الرصاصة الكامنة في السلاح المصوب باتجاه جبيني، وأنا أصغي إلى صوت الرجل الملثم:
ـ هل هو أنت عادل كامل..؟
قلت له وأنا أتحسس الرصاصة تخترق جمجمتي وتستقر في موضعها المحدد لها، في مركز الذاكرة:
ـ وكيف عرفت، وأنا نفسي اجهل من أكون ..؟
ـ هويتك لدي ّ، أم لديك ما تريد ان تبوح به ..؟
     تساءلت، مع نفسي، كم ثانية علي ّ ان أتحملها كي لا أراه، وكي لا يراني، وربما كأن شيئا ً ما لم يحدث.  أفقت، بعد ان لمحت مرور الرصاصة باتجاه آخر. فكم ثانية استغرقتها الرصاصة للعبور من سلاحه كي تستقر في رأس رجل لم يرفع بصره عني، وأنا أيضا ً مازلت أحدق فيه.
[6] حضور!
    لم يكن بحاجة ليرى ان أمامه أكثر من لغم، وبجواره، من اليسار، كتلة بشرية لا يعرف إن كانت لشاب يافع، أو لفتاة في ريعان الصبا، وعلى اليمين منه، شاحنة أو عربة أو دراجة مفخخة يجهل لحظة انفجارها، ولم يكن بحاجة ليرى ان كائنا ً ما مجهولا ً يحمل كاتما ً يتتبع خطاه، من الخلف ...، فهل باستطاعته ان يتقدم، أم عليه ان يتراجع، أم يتجه إلى اليسار، أم إلى اليمين، لأن السماء ذاتها، رآها رمادية، وملونة بالدخان والغبار، والأرض، تحت قدميه، زرعت بالعبوات. آنذاك أدرك انه لا يمتلك حلا ً كي يؤكد انه اجتاز الجهات كلها حيث لم تعد ثمة مشكلة، مادام ـ هو ـ يمتلك حضورا ً ما لغيابه، عدا انه كان واحدا ً من الحشد. فقرأ قصيدة الملا عبود الكرخي(المجرشة)، مع نفسه، وترك جسده يذهب إلى المجهول.
[7] اضطراب
    أأنا هو الذي أغيب عن العالم، أم ان العالم هو الذي يغيب عني..؟ كذلك دار بخلده، بشرود، وهو  يراقب ان فجوة ما آخذة بالاتساع، تارة، وتتقلص حد الصفر، تارة ثانية.
    كان لا يعرف كيف أصبح محاصرا ً بجدران تسوّرها جدران أخرى، إنما لم يستبعد فكرة ان الجدران كانت سابقة على وجوده، وستبقى قائمة بعد غيابه.  وعاد يسأل نفسه من غير إرادة: أهو يبتعد عني أم أنا ابتعد عنه..؟ كي يجد الفجوة تتسع حتى فقدت حدودها، ثم يراها تتقلص حتى تغدو بلا حافات. وعندما حاول استعادة الأسباب التي منحته الاستجابة للحياة، وجدها غائبة، بلا ملامح، ولا علامات لها، كي يدرك انه لا يمتلك الأسباب المغايرة لها، كي يستجيب لرحلة الغياب. آنذاك لم يجد ما يستعين به كي يبرهن انه يمتلك إرادة نفي الإثبات، وليس لديه قدرة إثبات النفي، إنما لم يكن يمتلك قدرة الاختيار، مثلما لم تكن الأوامر، بشأنه، أكثر من ذرات لم ينشغل ما اذا كانت تقترب منه لتلامسه أم أنها تمتد وتبتعد كي يرى انه لم يعد منشغلا ً بها، مثلما لم يعد منشغلا ً ما  اذا كان العالم فائضا ً عنه، أم هو الذي أصبح فائضا ً عن الموجودات.
[8] الدكتاتور
   قال مساعد الجنرال يخاطب آمره:
ـ ليس مهمتنا إسقاط الدكتاتور، سيدي!
ـ ما المهم اذا ً..؟
ـ المهم ان نتعرف على الأسباب التي صنعت الدكتاتور.
ـ وماذا أيضا ً..؟
ـ كي لا نستبدل الدكتاتور بآخر!
    آنذاك أمر الجنرال حرسه الخاص بزج مساعده في السجن، لكن المساعد، قبل ان يتوارى إلى الأبد، قال:
ـ لم اقصد انك ستكون الدكتاتور الجديد، بل قصدت انك لن تقدر ان تحافظ على الدكتاتورية إلى الأبد!
[9] متاهة
    لا استطيع ان احدد ملامحه، ولا هيأته، ولا أي اثر له عدا انه طلب مني ان امشي خلفه. لم اعترض. لأنني كنت لا امتلك قدرة اتخاذ أي قرار آخر. فتح نفقا ً فدخلت. لا أتذكر كم مضى علي ّ من الزمن، إنما، وأنا أعيد حساب الأيام والأسابيع والأشهر والسنين، لم اعد لمرور الزمن، فلا أنا في حلم، ولا أنا في كابوس، ولا أنا امتلك قدرة تمييز ما اذا كنت حيا ً أو ميتا ً، أو تحديدا ً ما اذا كنت داخل مدينتي أو خارجها، إنما مكثت أتتبع ظله، تارة، وأنا استدل باستنشاق ما يتركه من رائحة تارة أخرى، عبر الممرات، وأنا اجتاز الأنفاق، من سراديب إلى مغارات، كي أجد أنني لم اعد امتلك إلا ان أتجاهل ما كان يدور في راسي، ولكن الذي لم أبح به كان وحده قد سمح لي بالحفاظ على عدم إثارة غضبه، أو دفعه إلى اتخاذ أي قرار قد يكون حاسما ً.  ثم اعترف لي أخيرا ً بأنه لا يمتلك شيئا ً ما يقوله، فلم يعتذر، لا لأنني لم أطالبه بالاعتذار، بل لأنه لم يخطر ببالي ذلك، سمح لي ان أجد نفسي وحيدا ً، عند بوابة، كي ابتعد عنه. فانا تحررت منه بشروطه إنما يخيّل إلي ّ أنني لم استجب لها تماما ً، فمشيت، ووجدت نفسي استنشق الهواء، وارى أشجارا ً، ومنازل، وأنا أصغي لأصوات طيور، وللمرة الأولى وجدت أنني امشي فوق الرمال، وأصابعي تقودني إلى مساحة بلا أفق.
   فجأة وجدت من يمسك بي، لم استطع ان أرى ملامحه، ولا هيأته، ولا أي اثر باستطاعتي ان أميزه، وقال لي:
ـ تصالحت معه..؟
ـ مع من؟
ـ مع الموت!
   لم أجد الكلمات المناسبة للحديث عن حياة أصبحت بلا هيأة، ولا اثر دال عليها، لكنني فتحت فمي:
ـ لا! لم أتصالح معه، ولا هو، سيدي، تصالح معي!
   آنذاك تركني ابتعد عبر درب لم يشغلني ما اذا كانت له نهاية، أو حافات، مثلما لم أكن معنيا ً ما اذا كان يتتبع خطاي. كان الوقت آنذاك بلا لون، ولا صوت، وليس ثمة ما يدل عليه، وأنا أيضا ً لم أكن مهتما ً ما اذا كنت امشي فوق طريق ممحو، أو أنني سأستعيد ما حدث لي في ذات يوم، لأنني كنت، مرة ثانية، لا امتلك قدرة تحديد ما حدث لي، وأنا أجد من يتتبع خطاي، حيث لم اعد معنيا ً بما جرى لي في ذلك اليوم.
[10] اختيار
   ـ لماذا تخليت حتى عن رغبتك في تنفس الهواء..؟
     لم يجد كلمة للرد، أو التوضيح، فمكث يحدق في عينيه، من غير شرود، أو فزع، أو لامبالاة. كان يرى كيف ينسحب الهواء، ويغيب، كالزمن، لم يعد يرفرف، كي يحدق في الفراغ، وقد غدا بلا لون، ولا كثافة، ولا امتداد.
ـ انه الاختيار الوحيد الذي جاء بعد استحالة ان تكون لدي ّ اختيارات أو ...
   ووجد انه، بهدوء، يغيب، في اللحظات التي رآها تتوارى، من غير اثر، أو طلب مساعدة، أو استغاثة، كي لا يبوح بالسر الذي تخلى عن كتمانه طوال حياته، تام الحضور، ولا ينتظر تأويلا ً أو دحضا ً بعد الآن.
[11] مساواة
ـ أراك تبتسم، مرحا ً، يا صديقي العنيد، بعد ان اعتقدت انك لن تعود إلى أيام مرحك الأولى؟
     تمتم بفم رخو تاركا ً كلماته تخرج مبعثرة:
ـ صديقنا المطرب ...، الذي غادرنا، قال أنني ابن زانية، وقال أنني عملت جاسوسا ً، وأنني استنجدت بالموت..!
ـ عجيب، وماذا قلت له؟
ـ سألته، من أخبرك، فقال: أمي!
   ابتسم الآخر، ثم أغلق فمه برهة، كي ينفجر  ضاحكا ً:
ـ وكأنه تجاهل انه ولد لأم عقيم!
ـ وكيف عرفت، يا صديقي..؟
ـ أمي أخبرتني، قبل ان ترحل إلى العالم الآخر، وقالت لي، أنهما، أمه وأمي، لم تتركا مخصيا ً لم تنجبان منه وضيعا ً، يشهر بالناس، ووضيعا ً ، مثلي، راح يدافع عن وضاعته! لا لأننا ولدنا في القاع، بل لأن القاع أنجبنا فسمح له ان يهرب ليشهر بنا، ونحن تشبثنا بالقاع كي ندافع عن وضاعتنا!
ـ مساواة!
  وغرق في الصمت، لبرهة، ليجد انه راح يحدث نفسه، بصوت خفيض:
ـ أكيد ان أمي أدركت لا جدوى الاعتراف، فولدها، لم يعد لديه ما يخسره، كي يحزن عليه، حيث المطلوب، في الأصل، إدامة هذا الذي غدا بلا خاتمة، وقد اتسعت مساحته، وأصبحت بلا حافات!
ـ حقا ً لا ديمومة إلا للذي لا يدوم!
[12] اعتراف
    ـ انهض.
    أنا لا اعرف منذ متى لم أصغ إلى مثل هذا الأمر. نهضت. قالوا: تقدم. تقدمت. فانا لم امش خطوة اثر خطوة منذ زمان بعيد، ثم وضعوني أمام جمهور غفير من الناس. قالوا لي: تحدث. حقا ً أنا لا أتذكر منذ متى لم يعد لدي ّ فم أغلقه، فكيف سأتكلم.  رفعت أصابعي بحثا ًعن شفتي ّ، وعندما عثرت على فمي، لم أر أمامي إلا وجوها ً دائرية، ومثلثة، ومستطيلة، ومربعة، وأخرى غير منتظمة، لا علامات تميزها، فسمعت من يخاطبني ـ وأنا في شرود ـ: تكلم.
    لا أتذكر ماذا قلت، لأنني لا أتذكر منذ متى لم أتكلم، ومنذ متى صمت، ولكن الزمن امتد حتى لم يعد لدي ّ زمن آخر اصمت فيه، أو أتكلم.
    فجأة عجت القاعة بالتصفيق. فقالوا لي:
ـ انهض!
   نهضت، ثم سمعت من يقول:
ـ الآن عد إلى مأواك.
     لم ارفع راسي كي أرى ما كان يحدث لجاري، الذي لم أره يفتح فمه منذ زمن بعيد، فأصغيت إلى صوت كان يذهب ابعد مني، فكنت، منذ تلك اللحظة، أتتبع محوه، كي لا يراني احد، وللحق كي لا أرى أحدا ً أيضا ً. وأنا اردد من غير كلمات في نفسي: يا ليتني كنت ذرة رمل في أي جحيم عدا هذا الذي مازال يستنطقني وأنا اجهل هل غادرته، أم أنا مازلت أتشبث به؟
[13] ديمومة
   ـ تعال قل لي، كيف نجد حلا ً لهذه المعضلة.. متابعا ً:
ـ  فانا لا اعتقد ان إمبراطور كوكبنا، ينتظر منا الطاعة، حد محونا، بل هم أتباعه يقولون ذلك، فانا لا اعتقد أننا، في ما نبذله طوال حياتنا من كد وشقاء في هذه الدنيا، له المعنى ذاته الذي، في نهاية المطاف، ينتهي بالفراغ، والموت! فالأول يخلو من المنطق، مثل الآخر الذي هو ضده تماما ً. 
   ابتسم زميله الذي طالما شاطره العزلة، والابتعاد عن الصحب، وسأله:
ـ هل كنت تريد ان تقول ان المعضلة التي لا سبيل إلى حلها، ليست معضلة؟
ـ تماما ً...،ولكن اخبرني ما هي ...؟
ـ لو أخبرتك، فعلي ّ ان أجد حلا ً لمعضلتك، كي أجد الخاتمة، التي بلغت النهاية ذاتها التي بلغها الجميع!
ـ تقصد إننا لا نمتلك إلا استكمال هذا الذي، كلما تقدمنا فيه، غدا لا ينتظر إلا الزيادة، كما لا يقبل إلا المزيد منها. وأضاف:
ـ فضع صمتك حيث للكلام المعنى الذي يمنح التأويل عبوره من المجهول إلى ما هو ابعد منه. فأنت مثل ذرة بين عدد لا نهائي من الذرات، جميعها تسكن ذرة إنما خارج أدوات الحساب!
ـ حقا ً، الآن، صرت أدرك لماذا إمبراطور كوكبنا لن يدعنا نتنفس إلا كي ندرك لو أننا تخلينا عنه، فإننا سنضطر إلى السير في الدرب ذاته الذي يقود إليه أيضا ً. فاختر، يا زميلي، ان لا تختار، كالنار التي عليك ان تطفئها بالنار، وكالمسافة التي عليك ان تسلكها كي تجد من يسلكها بعدك كي لا تكون ثمة نهاية لهذا الحوار!
[14] وصية
   قبل ان يذهب إلى النوم قرأ وصية جده:
ـ " لم اقرأ ذلك في كتاب، أو نقلا ً عن احد، أو كنت اطلعت عليه صحيفة، بل شاهدته، وجاورته، وغطست فيه، ألا وهو ختاما ً هذا الذي لم يعد يرد بخاطري، وأنا أرى تتمات تلك المقدمات الشبيهة باللعنات، كأنها القدر، إزاء اختيار طالما حلمت ان أراه، لكن لا الظلمات لها نهاية، ولا النور باستطاعته سبر أغوار قدراتي على تحمل ما  لا يحتمل، الأمر الذي صنع مني واحدا ً شبيها ً بهؤلاء الذين تراهم، عبر الأزمنة، إن خالفتهم دفنوك، وإن تجنبتهم لم تجد شيئا ً ما تعمله, وها أنت تراني يا حفيدي كيف مارست البرمجة ذاتها التي سمحت لي بالوصول إلى هذه الخاتمة: الذهاب إلى النوم...! بعد عقود، لم اسمع فيها كلمة واحدة إلا ورأيت الريح تمحوها، ولم أر فعلا ً يدوم أكثر من زمن زواله. ولو قمت بقراءة كلماتي قراءة لقراءتك ستكتشف أنني لم أكن إلا واحدا ً من ذلك النمل، الرمل، إن غادر مساره هلك، إن سلكه فلا غبار عليه، كي تدرك إنها لعبة إن لم تجد لعبها فكأنك لم تدخلها، وأخيرا ً، لا اختيار تقدر ان تختاره إلا الذي لا تستطيع أبدا ً ان تختار سواه!."
ترك تكملة قراءة ما في الوصية، وقال مع نفسه:
ـ ليس لديّ سوى ان اذهب وحيدا ً إلى النوم، فان لم افعل فانا لن اقدر على تحديه مهما مكثت مستيقظا ً. ولكن يا جدي هل استمتعت بالظلمات وأنت تتوهج في سبر أغوارها؟
[15] ضريح
    لم يبق لديه من الأثاث، أو الأدوات، أو ما له قيمة لسد نفقات النقل، وشراء مساحة من الأرض، يتوجب دفع ثمنها، للحفار، ولصاحب المقبرة. لقد حسبها بعشرة أضعاف راتبه التقاعدي، مما جعله يبحث عن مبالغ تسد نفقات النقل، والحفر، وشراء شاخص يحمل اسمه، لكنه كتم ومضة ساخرة تخيل فيها انه، في ذات يوم، حلم ان يكون ضريحه كهرم خوفو، أو كتاج محل، أو كتمثال الحرية! لولا انه لمح حلا ً ما دعاه للاسترخاء: النار. إنما سرعان ما صدم بهواجس الميتافيزيقا، فأعاد حساباته، مرة أخرى.
    لا قيمة للأدوات الخشبية، أو المعدنية، أو غيرهما، وهذا ما يجعله ينتظر ستة أشهر أخرى، ولكن قد لا يؤجل الموت حضوره، وقد شم، منذ أيام، الرائحة ذات الأصوات الرنانة، عبر أحلام كانت تمحو أثارها بنفسها وتتداخل دامجة اضطرابها بالبصريات والمجسمات المتعددة الأبعاد. لكن انتظار جمع الرواتب أحبط لديه فكرة الانتظار،مما اضطر ليسأل نفسه: ربما هناك من يشتري ...، وسكت. ثم سأل نفسه بشرود: ربما يعاقبني الله! فقال بعد برهة:  كي أساعد إنسانا ً آخر بحاجة إلى قلب أو شريان أو غدة ...! إنما كتم الجواب لأنه قال انه لو كان يمتلك أعضاء لم تبلغ نهايتها لكان عاش حتى يستطيع جمع مبلغ الدفن.
   فكر ان يذهب ويبحث عن مكان بجوار ضفاف النهر، هناك، ما أن يرى انه لا يقدر على التنفس، حتى يدع الماء يجرفه.لا..لا..لا...، ورفع صوته: كم مرة كدت افعلها لولا البرد. إنما لم يفعلها لا في الصيف، ولا عندما كان منشغلا ً بمراقبة فصل في الربيع. 
    وطرد فكرة ان يحفر، داخل غرفته، حفرة بحجم سريره، ويرقد فيها، لأنها تتقاطع مع القوانين، والأعراف! فماذا يفعل ..؟ شرد ذهنه: لمن..؟ ولم يجب. مد يده متلمسا ً حافات رأسه، ووجهه، وتركها تلامس عنقه...، ثم أضاف، وهو يشم أصوات معادن يتناثر صداها:
ـ انهض!
     لكنه استعاد، في لحظة، قبل ان يستعد للنهوض، انه باع الغرفة التي يسكنها، والتي تعود ملكيتها له، ووقع العقد، شرط ان لا يتلف صديقه، الكتب التي كان اقتناها قبل عقود، وما دوّنه، والخاتم الذي طلب منه ان لا يسرق، بل ان يدفن معه...، لأن ذلك كان بمثابة وفاء لوصية قديمة، حيث أصبح المبلغ لا يكفي كأجور للنقل، والحفر، والشاخص حسب، بل كأجور عن إعلان لنشر خبر وفاته، لكن ـ وقد نهض بلا مبالاة ـ تذكر ان صديقه قد يسرق المبلغ، بعد جمعه، فماذا يفعل آنذاك، وهو الذي لم يقدر ان يطالب حتى بعدم سرقة أحلامه في الحياة، فألغى الصفقة، لا بدافع الشك الذي زعزع آخر أمل له في الوجود، إنما كان قد وعد جاره، بعد الموت ـ وبوثيقة تنص على تنازله عن ممتلكاته ـ  ان تكون بمثابة امتنان لصداقة ما لا غبار عليها.
   إنما، عند الفجر، كان يرى طيفا ًيغادر جسده، يرفرف، ويغادر جدران الغرفة، ليرى انه غدا يمتد، ويتسع، خارج حدود وعيه، وبعيدا ً عن الهواجس التي كادت ان تعيده إلى الحياة!

     

السبت، 4 مايو 2013

ثلاث قصص قصيرة-د. بلقيس الدوسكي



ثلاث قصص قصيرة


د. بلقيس الدوسكي

سعادة

    هي طبيبة ماهرة في مجال تخصصها لكنها لا تكتفي بمطالعة المجلات الطبية وما يستجد في علم الطب، بل كانت تعد الدراسات والمقترحات والمواضيع العلمية، ومن اهتماماتها الأساسية اقتناء الكتب والإصدارات الثقافية والعلمية والأدبية والفنية وغيرها.
    تقضي أوقات فراغها اما بالمطالعة وأما بالعزف على آلة الكمان التي أجادت العزف عليها بمعظم الأنغام، فهي تعتقد ان للموسيقا تأثيرها المباشر على شفاء المرضى، وهي مسألة قديمة.
    وكان زوجها المهندس يأنس لعزفها ولمهارتها في طب العيون معا ً. وفي إحدى الليالي سألها:
ـ ماذا ترين في عيني؟
ـ أرى أشياء كثيرة.

ـ مثلا ً؟
ـ أرى الأفق الأزرق المليء بصور المحبة والحنان.
ـ وماذا بعد؟
ـ أرى صورة تجمع الحبيبين.
ـ من هما ..؟
ـ أنت وأنا.
ـ إنها أحلى الصور قاطبة.
ـ فهل ترى الصورة نفسها في عيني؟
ـ  وهل للموسيقا علاقة بالورد..؟
ـ نعم، وقد ثبت بعد الدراسات العلمية ذلك، فالورد يستجيب للموسيقا وله لغته القريبة من لغة الموسيقا وهي لغة هامسة غير مسموعة!
      كان زوجها يفتح معها موضوعا ً في كل مرة بعد ان تغلق عيادتها وتأتي إلى البيت مع انه لا يقل عنها ثقافة، ولكن ...، كل واحد منهما يستفيد من ثقافة الآخر في شتى المواضيع والاهتمامات. وفي ذات مرة سألته:
ـ لقد اقترحت علي ّ أكثر من سؤال، وأنا أحب ان أسألك.
ـ اسألي يا حبيبتي.
ـ بما انك يا عزيزي مهندس ناجح، فما أجمل التصاميم التي تفضلها؟
ـ التصاميم المتطورة، والمعاصرة، شريطة ان تحافظ على تاريخنا وحضارتنا، فضلا ً عن الجمالية التي تواكب إيقاع العصر.
ـ وما هي الجمالية التي تعتمدها؟
ـ استوحيها من الجمال الكامن في عينيك، ومن اهتمامك بعيني، وعيون الآخرين! 
ـ خاطرة حلوة، أكثر مما هي إجابة!
    وتناولت كمانها وعزفت له مقطوعة موسيقية عنوانها (حديث العيون) فاهتز لها طربا ً وداهمه النعاس، لكنها استطاعت ان توقضه بمعزوفة صاخبة بعض الشيء، فقال لها:
ـ الموسيقا العذبة، أما ان يغفو الإنسان على أنغامها وأما ان توقضه، فتوقض معه مشاعره الجميلة.
ـ حبيبي، أنا على موعد غدا ً لمعالجة عيون شابة جميلة، فدعنا ندخل إلى غرفتنا ونأخذ قسطا ً من النوم بدعوة من نداء قلبينا!
ـ وهل هذه الشابة أكثر جمالا ً منك..؟
ـ الجمال يا حبيبي، ليس جمال الوجه، وإنما هو جمال الروح، والقلب، وعذوبة الكلام، وصدق المشاعر.
ـ الذي أتمناه ان تكتبي القصيدة التي نظمها قلبي على شاشة عيوني عندما أنام، فهي أجمل ما تقرأين في الأحلام.
ـ متى تعلمت الشعر يا حبيبي؟
ـ من خصلات شعرك، ومن رموش عينيك، ومن الدفء الذي أحسه وأنا بجانبك.
ـ إذا ً، فانا أتمنى لك ان تكتب قصيدتنا.
ـ إنها قصيدتنا التي ندوّنها من غير كلمات، إنما نراها تنبثق بأجمل الألحان وأكثرها دفئا أيضا ً.


حكاية لك ِ ولي أيضا ً!



  استأنفت رحلتها مع هدوء أعصابها بعد ان كانت في ذروة غضبها وتذمرها مما عانته من أذى، ثم سلكت طريقا ً آخر غير الطريق الذي تعثرت فيه خطاها وأعطت لكل خطوة نقاطا ً من الضوء الأخضر وهي مصرة على اجتياز أي حاجز يعترض طريقها الجديد.
    وضعت الأمس وعذابها وراء ظهرها وأضرمت نار غضبها على  ذكرياته وصوره، ولم يبق منه أي اثر في سجل حياتها، لكنها حملت معها التجارب والعبر وحسبت لكل خطوة ألف حساب.
     نست الأشياء كلها عدا صديقاتها الحميمات اللواتي وقفن معها في أيام الشدائد، واشتاقت لزيارتهن بعد فراق طويل:
ـ أهلا ً يا صديقتي الحبيبة.
ـ لقد أوحشني غيابي عنك ِ، وهزني الشوق إليك ِ.
ـ ولكن لِم َ كل هذا الغياب الطويل الذي أقلقني؟
ـ لقد أرغمتني الأيام على هذا الغياب المر.
ـ وما هي أخبارك يا عزيزتي..؟
ـ بالنسبة لأخبار الأمس فقد طواها النسيان، وأما أخباري الجديدة فمازالت في الغيب، لأنني فتحت صفحة جديدة مازالت بيضاء.
ـ أسأل الله ان تمتلئ بأسعد وأحلى السطور والبشائر.
ـ شكرا ً يا عزيزتي.
ـ وماذا عن ..
ـ لا تكملي...، اعرف عمن تسالين، فالذي تسأليني عنه يا صديقتي قد حرق كل عهوده في لحظة واحدة غير متوقعة!
ـ ماذا فعل..؟
ـ فعل ما لم يكن بالحسبان أبدا ً، الأمر الذي جعلني أعيد النظر في حساباتي كلها، وأغيّر أسلوبي في التفكير وأتجاوز حدود ثقتي القديمة.
ـ لكنني يا عزيزتي أريد ان اعرف ماذا فعل هذا الرجل..؟
ـ الحديث عن خيانة هذا الرجل يستغرق وقتا ً طويلا ً.
ـ إذا ً، هي خيانة؟
ـ نعم، لكنها خيانة يندى لها الجبين ويرفضها أي إنسان يمتلك قليلا ً من النبل.
ـ لقد بدأت أتحمس كثيرا ً لمعرفة هذه الخيانة.
ـ ستعرفين التفاصيل كاملة عندما ينتهي الجزء الثاني منها!
ـ لكن دعيني اسمع الجديد في حياتك ِ.
ـ أنا يا عزيزتي، وبصراحة، لا اعرف لماذا يرفض أبي كل من يتقدم لخطوبتي، ولا استطيع ان اسأله عن السبب الذي لم يعلن عنه لحد الآن وتجهله حتى أمي، أمي التي اختلت به مرات عديدة لتعرف سر رفضه لكنه ظل مصرا ً على عدم الإفصاح عنه، وها أنا كما ترين قد أوشكت ان أتجاوز مرحلة الشباب، وتلك هي مشكلتي، إن لم اقل مصيبتي!
ـ أنا وأنت يا عزيزتي نعيش المعاناة نفسها، ولكن، ان بعض الشر أهون...، وأن مصيبتي كأنها من نسج الخيال أو الأساطير. وبعد أيام سأزورك مرة ثانية واروي لك الحكاية كلها.
ـ أهلا ً بك ِ ومع السلامة.
     وظلت هدى تتابع الأحداث وما سينجم عنها لكن حدسها كان يشعرها بان النهاية سيكون الخاسر فيها هو نفسه الرجل الذي داس على ضميره وخانها، وبعد ان انتهت فصول مسرحيته كلها، ذهبت إلى صديقتها وأخبرتها:
ـ الآن يا عزيزتي، سأقول لك ِ ماذا فعل هذا الرجل.
ـ نعم.
ـ اتفقنا أنا وإياه على موعد محدد للذهاب إلى المحكمة الشرعية لكتابة العقد، وفي اليوم المحدد ذهبت إلى المحكمة لكنني صدمت بالمفاجأة، فقد رايته هو وامرأة  أخرى جاء بها ليعقد معها عقد الزواج، فلم أتمالك أعصابي، فثرت عليه وأمطرته بوابل من اللعنات، وحين سمعت تلك المرأة ما قلته له، وعرفت بأنه خائن ومخادع، تركته وهربت وخرجت على أثرها، وبقي هو وحجه مشدوها ويدور في أروقة الشوارع بعد ان أفلس منها، ومني!
ـ يا له من رجل لعين.
ـ لهذا غيرت مساري في الحياة.
ت لك ِ الحق كله، يا صديقتي.
ـ إنها، إذا ً حكاية لك، ولي أيضا ً!


الحقيقة وظلها

      لا يريد ان يتعرف على أي إنسان من أبناء المنطقة ولا يريد حتى ان يسلم على أي واحد منهم عندما يذهب صباحا ً أو عند عودته مساء ً من العمل. وأحيانا ً لا يخرج من البيت طيلة النهار، أو خلال ساعات الليل.
    ولكن في المقهى القريب من بيته، دار الحوار التالي، فسأل احد رواد المقهى صاحبه:
ـ ماذا حدث للأخ عبد المنعم، لقد كان يسلم علينا ويجلس معنا في المقهى، وكنا نستفيد من حكاياته الجميلة، والنادرة، ولكنه فجأة انقطع عنا؟
ـ ربما يعاني من حالة معينة.
ـ لنفترض ذلك، لكن لماذا حين يمر من أمامنا يدير وجهه جانبا ً ولا يسلم علينا؟
ـ ربما سمع شيئا ً ما من رواد المقهى ..
ـ ولكن رواد المقهى يحترمونه ويحبونه.
ـ إذا ً، لابد ان هناك من سبب آخر!
ـ لقد أصبح وكأنه لا يعرفنا أبدا ً، أتراه أصبح متكبرا ً، بشكل مفاجئ، والله اكبر من المتكبرين جميعا ً.
ـ لا نستطيع ان نتهمه بالتكبر، قبل ان نعرف السبب.
ـ السبب واضح ولا يحتاج إلى نقاش.
ـ سأبعث زوجتي إلى بيت السيد عبد المنعم لتستفسر من زوجته عن أسباب انقطاعه عن الحضور إلى المقهى.
    وأرسل زوجته لتقابل زوجة السيد عبد المنعم:
ـ أهلا ً وسهلا ً، زارتنا البركة.
ـ شكرا ً يا عزيزتي.
ـ اطلبي يا جارتي العزيزة.
ـ  بصراحة أرسلني زوجي لاستفسر منك عن سبب انقطاع زوجك الطيب عن الذهاب إلى المقهى، والكل متشوقون إليه.
ـ زوجي يا عزيزتي، رجل حساس ولا يستسيغ النفاق، والطعن، والتشهير بالآخرين، وربما سمع شيئا ًمن هذا ..
ـ الم ْ يخبرك بماذا سمع؟
ـ لا أبدا ًفهو لا يبوح لي بالأمور الخاصة به.
ـ قولي له ما قلته لك، لطفا ً.
     عادت زوجة محمود وأخبرت زوجها بما سمعته من زوجة السيد عبد المنعم:
ـ إذا ً، سأقابله بنفسي مساء هذا اليوم، ولابد ان افهم منه الأسباب التي جعلته يقاطعنا، ويمتنع من الحضور إلى المقهى.
   في المساء ذهب محمود لمقابلة السيد عبد المنعم. فرحب به، فقال محمود:
ـ يا أستاذ عبد المنعم، زرتك في هذا المساء، نيابة عن رواد المقهى.
ـ أهلا ً بك، وبهم.
ـ شكرا ً. إنهم جميعا ً يريدون ان يعرفوا سبب انقطاعك عن المقهى خلال هذه الفترة.
ـ سأعود إليها عندما أتأكد بأنها أصبحت نظيفة!
ـ ولكن صاحب المقهى يحب النظافة، وهو يقوم بتنظيفها ليل نهار.
ـ أنا لا اقصد أرضية المقهى، يا أخي، ومحتوياتها ..
ـ إذا ً ماذا قصدت يا أستاذ؟
ـ  أقصد تنظيف الألسنة من شوائب الوشاية والإساءة والوشايات والنميمة التي تحدث فيها، وهذا ما كنت اسمعه فاكتم غيضي.
ـ معك الحق في هذا الجانب، ولكن لماذا تمر ولا تسلم علينا..؟
ـ لأنكم لم تحاولوا قطع دابر هذه الإساءات، بل تصغون إليها ولم تردوا عليها. وربما انتم وأنا، لوثت سمعتنا هذه الألسن في غيابنا. فحسبتكم من المشجعين لها، ولهذا قررت مقاطعة الجميع.
ـ ومعك الحق في هذا الجانب أيضا ً، ولكن يا صديقنا أستاذ عبد المنعم ليست الألسن كلها مصابة بهذا الوباء.
ـ كما تقول، لكن للوباء عدوى!
ـ سنقضي على الوباء، ونمنع أنواع الوشايات والإساءات في المقهى.
ـ لا شيء أفضل من الأحاديث النبيلة، والمفيدة، والجميلة التي تشد القلوب إلى بعضها، وآخر ما أقوله، لعن الله من يلعن الآخرين! لكنه تدارك وقال معتذرا ً:
ـ العفو والاعتذار والغفران أساس المعاملة، وليس مواجهة الإساءة بمثلها!