في معرض طبيعة عراقية
لا خيار لنا سوى الجمال!
ـ فائق حسن حاضرا ً
ـ جذور تنسج حداثتها
ـ المرئيات وملغزاتها النائية
عادل كامل*
[1] إشارة
إذا كانت ثورة الاتصالات الحديثة، التي عملت على محو الحدود ما بين القارات، والدول، وجعلت من عالمنا قرية صغيرة، أو سوقا ً حرة، غير منشغلة إلا بمتابعة الأحداث، المولدة لأخرى، عبر تدفق لا محدود لها، فان ما لا يمكن قهره، أو إغفاله، لا يقع في (الحركة) وفي متغيراتها، أو في مواكبتها لمرور ما لا يحصى من الأطياف، والأشباح، في عالمنا المعاصر، بل في المكونات القائمة على قوانين صياغة مبادئ الحركة، والأحداث، وأسسها العميقة، ألا وهي: الطبيعة ـ الآلهة الأم، أو الأم الكبرى، بوصفها ـ جميعا ًـ تمثل مقومات التنمية، النمو، والتشبث بما بعد الحاضر.
صحيح أن الطبيعة، بحد ذاتها، تعد حدثا ً، ذات قدرات ملغزة على التجدد، ودحض الثابت، إلا إنها، مقارنة بالزمن الكامن في التحولات، وفي المتغيرات، تمتلك قوانينها الأكثر إثارة للدهشة، التأمل، والقراءة.
فالمفارقة تأخذ نسق المقارنة، مثلما الأخيرة لا تفرط كثيرا ً بالأعراف، ومنها: الذائقة الجمالية، ومفاهيم الجلال، والجميل.
فإذا كان القرن العشرين، مقارنة بالعشرة آلاف عام الماضية، أكثر صخبا ً، وأكثر استحداثا ً للعنف، والتطرف، إلا انه يبقى غير قادر على زحزحة تلك الأصول البكر لعوامل نشوء الحياة ـ وتطورها العنيد.
فحتى التيارات الراديكالية، تطرفا ً أو تجذرا ً، لم تستطع أن تلغي الأسس والعناصر التي انبثقت منها التجارب الفنية، مادامت قائمة على ذات القواعد التي استند إليها الرسام الأول، رسام المغارات: الألوان، الخطوط، المساحات، الملامس ..الخ لتمثل حقيقة أن (الأحداث/ الوقائع) لا تجري خارج مسرحها ـ وهو الحياة بكل ما تحمله من الغاز، مشفرات، وطرق لا محدودة لا تسمح للتقدم أن ينتهي بكارثة، كالتي حصلت لانقراض الديناصورات، على سبيل المثال. لأن المكان ـ بحد ذاته ـ ليس زمنا ً متجمدا ً، كما قال أرسطو، بل وعدا ً بحياة اقل صخبا ً، واقل عشوائية.
ولأن المتلقي العام، في الوطن العربي، محكوم بثقافة الدقائق الست التي يمضيها في القراءة على مدى أيام السنة، أي قراءة نصف صفحة ـ فان إعادة قراءة البديهات، الأكثر عمقا ً وذات التاريخ السحيق، تغدو دافعا ً لحب الحكمة: الفلسفة، أو الحياة بوصفها لغزا ً. لكن الفجوة ـ هنا ـ ستتسع، ولن تردم. فالمتلقي المنشغل، والمشغول، بالصدمات اليومية، وباللا متوقع، من دمار، تشتت، إذلال، يجد أن الحديث عن (الطبيعة) وجمالياتها، ترفا ً، بذخا ً، أو وهما ً أو قطيعة مع الواقع. إلا أن الحياة، رغم خسائرها، تمتلك قدرات تحد من الإسراف في تيار من تياراتها، ولا تسمح للأحادية، إلا أن تروض، ضمن مبدأ: قهر عوامل القهر.
بهذا الدافع يأتي معرض [تضاريس ملونة ـ طبيعة عراقية] بمشاركة 75 فنانا ً، وبأكثر من 90 لوحة فنية، الذي أقامته جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين أيلول/2016 ـ تأكيدا ً لـ ـ وبحسب كلمة للفنان قاسم سبتي رئيس الجمعية ـ "انه لا خيار لنا سوى الإصرار على الجمال"، كاختيار في زمن غدا فيه الاختيار، إشكالية، أو استحالة.
ومع إن (الجمال) شبيه بأي مصطلح أو مفهوم، يتميز بالتنوع، والاختلاف، بل وبالتناقض، إلا أن القصد منه، وسط وطن "ينام الموت في حناياه الخبيئة" يغدو هو التشبث بكل ما يعيد للإرادة ديناميتها، عفويتها، صدقها، براءتها، وقبل هذا كله: حياتها.
[2] الطبيعة: جذور الأم الكبرى
مع أن رواد الفن (الحديث) في التشكيل العالمي ـ قبل أن تتخذ الحداثة مفهومها المتداول في أوربا ـ خرجوا من الطبيعة: تيرنر/ مانيه/ مونيه/ جوجان/ فان كوخ/ سوراه ...الخ، كل وفق رؤيته، بمعنى: أسلوبه في رؤيا الحداثة، والابتكار.
على أن جذور (الطبيعة) تذهب عميقا ً في نشأة الرسم، وفي بلورة أبعاده التقنية، والجمالية. والأمر لا يتعلق بالجانب البصري، وما يمثله الضوء من دور في الحياة حسب، بل لأن الطبيعة ذاتها هي اللغز الذي نشأت فيه بذور الخلق، والذي يرجع إلى الآلهة الأم ـ أو الأم الكبرى ـ لدى مختلف الشعوب.
فالطبيعة بواقعيتها تضمنت قدرتها على: التوليد ـ فهي التي مهدت لنشوء العنصر المولد ـ الأم الكبرى ـ والذي مكث يرعاها، حتى بعد أن آلت سلطتها إلى الظل، بانتصار الذكر. ولعل واقعة الحرب المروعة التي انتهت بانتصار (مردوخ) ضد (تيامة) ـ الآلهة الأم التي تمثل المياه غير العذبة أو المالحة ـ إشارة لحداثة اقترنت بالعنصر الأخير. انه تاريخ قديم لصراع برمجت آلياته عبر أحداثه، وما دونته عبر الأسفار.
ففي معرض [طبيعة عراقية ـ تضاريس ملونة] قبل أن نلفت النظر إلى واقعيته اللاشعورية باستعادة أمان مفقود ـ نجد التجربة العالمية رافدا ً صريحا ً في اختيار المكان مسرحا ً لدينامية التحولات، ومظاهرها. فمن الصعب إغفال تأثيرات: كوربيه، أو المدرسة الروسية الواقعية، أو إغفال التعبيرية وتنويعاتها، فهناك كونستابل، تيرنر، مثلما هناك مانيه ومونيه وباقي الاتجاهات التي لم تدمرها الحداثة.
وعند قراءة تاريخ الرسم الحديث في العراق، فان الرعيل الأول، بحسب الفنان والكاتب نزار سليم، الذي نشأ في استانبول، وعاد إلى بغداد، بعد الحرب العالمية الأولى، أولى الطبيعة أهمية كبرى، متخذين من خبرتهم الأوربية، غالبا ً، برنامجا ً للاحتفاء ببيئتهم المحلية. فرسومات عبد القادر الرسام ورفاقه، اقترنت بمحاكاة الطبيعة في أدق تفاصيلها: ضفاف دجلة وبساتينها، شخصيات ذلك العهد، وكل ما يخص معالم بغداد...، مما مهد ، وبعد عودة الذين أرسلوا للدراسة في أوربا ـ لظهور اتجاهات فنية حملت تأثيرات المدارس الفنية، بتنوعها بين القديم والحديث، ومحاولة العثور على معادل بين الأصول والاستحداث، الذي تبلور عبر معادلة (التراث ـ المعاصرة).
وليس عبثا ً أن تشكلت ثلاث جماعات فنية أساسية في خمسينيات القرن الماضي: الجماعة البدائية التي ترأسها أستاذ الرسم فائق حسن، وحملت عنوان (الرواد)، وجماعة بغداد للفن الحديث، بزعامة جواد سليم، من ثم الجماعة التي أولت الطبيعة مشروعا ً لبلورة الهوية ـ وخصائصها الايكولوجية ـ برعاية الأستاذ حافظ ألدروبي.
لم تغب الطبيعة، لا عن تجارب أكرم شكري، أو عطا صبري، أو رسول علوان، أو الشيخلي، ولا عن معارض الجماعات الثلاث، إلا أن الانطباعيين ـ رغم تباين تجاربهم قربا ً وبعدا ً عن الانطباعية، عملوا على بناء ذاكرة بصرية تستمد أصولها من المكان ـ والضوء.
وسنجد تأثيرات الانطباعية، العفوي، والذي غدا تقليدا ً، صريحا ً في معظم التجارب الفنية، فيذكر الفنان حافظ ألدروبي ملاحظة لرسام بولوني كان يعيش في بغداد ـ مع منفي الحرب ـ انتقد فيها التأثيرات الأوربية في الرسم العراقي، وقال للدروبي، بالنص: انظروا بعيونكم! كما قال لي الأستاذ حافظ ألدروبي.
إن مغزى هذه الإشارة غير قابل للتأويل. فهي تقصد (الهوية) وكل ما يتعلق برؤية الفنان ـ وليس النظر بعيون مستعارة أو مستأجرة ـ مثلما نلفت الانتباه إلى العلاقة الجدلية بين الفنان وبيئته، بكل ما تحمله من علامات، رموز، ومؤثرات تمنح الطبيعة خصائصها الأسلوبية، بالاستناد إلى الشخصية، ومكوناتها المعرفية، والثقافية الفنية.
ففي هذا المعرض، رغم العنف وما تركه من تفكيك للجماعات والمؤسسات والأفراد، يعلن اللاشعور، بجلاء، عن الموقف الوحيد المستند إلى: الأرض ـ بما تمثله من مصادر للعمل، التنمية، والتطور.
لا أقول إنني ـ للمرة الأولى خلال العقد الأخير ـ أحسست إني استعيد كل ما كدت افقده من اطمئنان، بل أني أحسست أني احتمي بكل ما يحمله تاريخ الأم ـ الطبيعة ـ من مشاعر كادت تخرب، وتغدو مجهولة عنا.
ولو اتسعت قاعات جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، لعدد اكبر، فإنها ستضم تجارب أخرى ليس لفنانين هجروا الواقعية ـ والطبيعة، بل لتضم تجارب لا تحصى من الفنانين العرب الذين يعيشون مآزق الحروب، والنكبات.
فهذا المعرض (طبيعة عراقية) تضمن الإفصاح عن دعوة، مباشرة، وغير مباشرة، لاختيار عمق (الهوية) اللا شعورية ليس للمكان، وتاريخه، فحسب، بل لإعادة بناء الهوية القائمة على أصول البناء ـ والتنمية، لأنها أولت الجمال ـ كما ذكر الفنان قاسم سبتي رئيس جمعية الفنانين التشكيليين ـ نسقا ً يتجاوز (المحلية) نحو أصول فنية مشتركة لدى الجميع. وهي إشارة أكدتها الدراسات الأسلوبية، على صعيد الأدب، الفلسفات، والفنون، بما لا يسمح للفوضى أن تؤدي إلى اختراع أساليب متماثلة، أو ذات علاقة مباشرة بالسوق. فقراءة البصريات، بحدود الطبيعة، لا تتضمن دعوة للانفصال عن التجارب الأكثر تقدما ً، بل لقراءتها قراءة تتضافر فيها عوامل المعرفة بحدود توفر عامل الصدق.
لكن هذا لا يمثل إشارة أو دعوة لتجنب تيارات الحداثة ـ وما بعدها ـ بل دعوة لقراءة: الأصول الأعمق، مع المتلقي، وخياله الأبعد، بالدرجة الأولى، كي تأتي (البنية) الفنية لأي نص من النصوص الفنية، بالعمق المتحقق فيها، مع المتلقي. وهي إشارة تمنح القراءة معرفة لدراسة البصريات، وما تشكله من امتدادات نحو (الصدق)، الذي لا معنى له، من غير خبرة، موهبة، وأصول فلسفية جمالية.
[3] الجمال: وحدة التنوع
مع ان العنوان (تضاريس ملونة)، ليس بحاجة إلى التفسير، أو التأويل، إلا أن المعرض أعلن عن نزعة (جمعية) منح فيها الخصائص الفردية حريتها في اختيار (الموضوع) وحرية اكبر في اختيار الأسلوب.
فعلى خلاف المعارض الجماعية، أو معارض الجماعات الفنية المشتركة، لا توجد مشتركات محددة إلا بحدود لفت النظر للتجربة الفنية ذاتها، وربما لم تغب عبارة سقراط الشهيرة: لا جديد تحت الشمس، التي برهنت، بالنفي، بان الجديد ليس المستحدث، أو المبتكر، لصالح التقدم فحسب، بل (اللا جديد) هو ذلك الذي تتأسس عليه الأصول، لتحافظ عليه.
إن تجاوب وتضافر الجهد (النظري) ـ الفلسفي أو الأدبي أو الجمالي أو التقني الخالص ..الخ، مع (الجديد) يسمح بقراءة متجددة لمقولة تبدو إنها شبيهة بقصة عميان أفلاطون، في جمهوريته، فالحوار يدور حول سؤال: هل يمشي العميان من النهار إلى الليل، أم من الليل إلى النهار؟ فهي لا تسمح للأمل ان يذهب ابعد من انغلاقه.
فهل معرض أو مهرجان (تضاريس ملونة) يأتي ليرسخ أم ليدحض عبارة سقراط: لا جديد تحت الشمس؟
ربما ـ منذ نصف قرن أو أكثر ـ لم نر هذا العدد الكبير من الفنانين، لا تجمعهم (الحداثة) أو محاكاتها، ولا تجمعهم اختلافاتهم الفكرية، أو الأسلوبية، بل، على العكس: لا يعربون إلا عن امتنان استثنائي في حقبة كادت تحول اصلب التقاليد إلى رماد ـ والى عشوائيات ـ والى ما هو ابعد من الصخب واستحداث الفوضى.
ثمة نزعة لا شعورية برهنت إنها قلبت اللا جديد، إلى ضرب من (النشوة) الآمنة، والى إعادة قراءة كل ما تمت قراءته، على مر العصور، وفي شتى مدن العالم.
فعندما لم يحصل ان توحد هذا الاختلاف، من غير مكر ومكائد، إزاء تجارب فنية تتجاور فيها إبداعات (المكان)، فان الحياة ذاتها تبقى تمتلك تحقيق برنامجها إزاء غياب الفن أصلا ً...، فالمعرض برهن انه ليس للمباهاة، أو الدعاية، بل ان (الجديد) فيه سلك المسار الذي رسخ الواقعية، في بلدان العالم، رغم اختلاف فلسفاتها، وأيديولوجيتها، حيث (الجمال) لا ينتمي إلى المغامرة، أو للتحديق في المجهول، وإنما في إرساء القواعد ذاتها للتجمعات الحضارية، المتمدنة، منذ عصر الكهوف، إلى عصر ما بعد الموجة الثالثة، حيث الشغف بالمرئيات أكد انه مسار بالغ الثراء في دراسة وتأمل الظواهر، بوصفها تتضمن ما يوحدها، كمشترك حر، ومن غير قيود.
فالواقعية ـ بمعناها المتجدد ـ لا يُستحدث من العدم، عالمها الافتراضي، من اجل الدهشة، والتفرد، بل تؤكد ان الجديد يجعل من (السلام) شرطا ً يذهب ابعد من التأويل، ليس بفعل الإجماع حسب، بل لأن نزعة التحرر جعلت من الجمال مرتكزا ً لهوية لم تعلن عن خصائصها، إلا بردم المسافة مع تجارب الرواد.
فثمة غنائية سمحت للأصوات النائية ان تتشكل بالموجات اللونية ـ غير المرئية ـ تحت الحمراء أو الرمزية، داخل كل عمل، مهما بدا اقل مهارة في التنفيذ.. مع ان المشترك لا يقلل أبدا ً من النوايا، فان السيمفونية اللونية لهذا العدد الكبير من الرسامين، يفند، المشهد المروع الحاصل في الواقع، في بلدنا، أو في البلدان التي شملها الخراب. ولهذا فان حكمة الفنان قاسم سبتي "يبدو ان لا خيار لنا سوى الإصرار على الجمال، ويا له من خيار!" تعيد قراءة: لا جديد تحت الشمس، بمنح الجمال رسالته برؤية ما يحدث تحت الشمس، وابعد، برؤية الشمس وهي تعيد نسج الطبيعة جماليا ً، بهذا التوحد، المجاور للرؤى الروحية، وقد استبعدت انغلاق السبل، أو المرارات.
ولقد أعربت ـ من غير حذر أو تردد ـ لفنان سألني عن تقييمي للمهرجان اللوني، فقلت: للمرة الأولى، منذ عقود، شعرت أني أتجول في غابة خالية من المفترسات! بل وقلت له: هذا المعرض يستبعد وجود الأعداء!
ربما لا معنى لهذا الحكم...ن لو لم نعد قراءة الدخان، والرماد الذي عمل ـ ومازال ـ يعمل على استبدال الشمس بالظلمات، والأرض بالفراغ، والإنسان بالصفر.
فالجديد ـ هنا ـ هو ان ثمة نزعة جمالية مازال الفنان ـ العراقي وفي الوطن العربي أيضا ً ـ يمتلكها بسكنها في الإرادة التي شيدت الصروح الحضارية، ورموزها الجمالية.
ومع ان الإعلام ـ عامة ـ يتجنب الإعلان عن هذا الشغف بالجمال، في أصوله البكر، والمتجددة أبدا ً، إلا ان النزعة الواقعية للفنانين وحدها تمتلك (جديدها) في دحض مظاهر التطرف، والعنف، لإرساء مسارات تمنح الجديد قدراته المخبأة في اكتشاف نزعة البناء، وليس العكس.
وأنا لا أتحدث عن افتراضات، أو عالم لا وجود له...، فالأعمال الفنية التي صورت الاهوار (أيمن زويد/ جاسم الفضل/ صاحب جاسم/ عماد قدوري/ على مظلوم/ قاسم سبتي/ قاسم محسن/ محمد مسير/ مهند ناطق ..الخ) تجاور النصوص الفنية التي استلهمت الوديان والجبال (وضاح مهدي/ نبيل علي/ حسام عبد المحسن/ مراد إبراهيم/ عباس الزهاوي/ صباح محي الدين/ سلام جبار/ زيد الزيدي ...الخ) والأخرى التي استلهمت بساتين النخيل (اسعد أزاد/ احمد حيدر/ اياد بلادي/ أنوار الماشطة/ حيد صبار/ رائد عبد الأمير/ زياد طارق/ زهراء هادي/ عامر حسن/ عاصم عبد الأمير/ صلاح هادي/ عبد الأمير طعمة/ عدنان عباس/ علي الطائي/ علي هاشم/ فلاح الأنصاري/ مؤيد محسن ...الخ) إلى جانب المشاهد التي تصوّر الهضاب، السهول، وحافات المدن (محمد شوقي/ قيس احمد/ محمد الكناني/ فاضل عباس/ كاظم علي/ زاهد ألساعدي/ سعد الطائي/ رائد حسن/ بسام زكي/ حذام علي/ ثمينة الخزرجى/ حسن عطوان ...الخ) أقول إن هذا الاحتفاء بالمكان ـ الوطن ـ يعلن عن رؤيا ترسخ مدى إيمانهم بان ما تم استحداثه من (ألوان)، يمتلك قدرات لا محدودة لاستبعاد الدخان الذي كاد يصبح شبيها ً بظلمات كهف أفلاطون. حتى لو ان زائرا ً من كوكب آخر شاهد المهرجان لظن انه عثر على الفردوس المفقود! ولكن ليس فردوس الشاعر ملتن، بل جنة عدن التي تخيلها أبناء سومر، عند فجر السلالات!
وهذه ليست مبالغة، ليس بوجود النصوص الفنية، أو هذا العدد الكبير منها حسب، بل بقراءة النزعة الجمالية الكامنة بمنح الواقعية ما حاولت الاتجاهات الحديثة ان تحققه: الفردوس! فألانا لم تطغ بنزعتها الاستحواذية، أو إغفالها للنزعة (البدائية) التي شيّد بها الأستاذ فائق حسن تدشينات الرسم الحديث في العراق، بل عملت على إرساء حتمية ان التنوع وحده يجعل من الجمال حياة لم تخلق فائضة، أو قابلة للتدمير ـ والمحو.
[4] فائق حسن حاضرا ً
مازالت الجولات التي كان يقوم بها الفنان فائق حسن، في نهاية أربعينات القرن الماضي وخمسينياته، برفقة عدد من أعضاء الجماعة البدائية التي أسسها، ومنهم عيسى حنا، الشيخلي، نوري مصطفى بهجت، خالد القصاب ..الخ، إلى بساتين بغداد، سجلا ً فنيا ً لنشوء الرسم (الواقعي) في العراق. مؤكدا ً أن هذا (المشروع) كان بمثابة الجسر بين تجارب فناني أول القرن، وتمهيدا ً نحو نهايته.
إن فائق حسن الذي تلقى تعليمه في البوزار، بامتياز، عاد ليختار التلقائية ـ البدائية ـ بالتحرر من الأساليب التي درسها، لكن، ليستثمرها بقراءة بررت مفهومه للرسم الحديث. فأستاذ الرسم، بلا آخر يضاهيه، براعة في التلوين، لم يهمل دوره التربوي معلما ً للرسم في معهد الفنون الجميلة، وفي أكاديمية الفنون أيضا ً، ومدى تأثيره ببلورة خصائص اللوحة الفنية، في بلد غدا مستقبلا ً للتيارات الفنية الأجنبية، وأساليبها، كي يعترف الأستاذ فائق حسن نفسه، عندما نفذ سلسلة من التجارب التجريدية، في ستينيات القرن العشرين، بأنها (تلويص)!، مع إنها ـ واقعيا ً ـ شذرات لونية أكدت رهافته، وقدراته على بناء واقعية لونية لا يمكن فصلها عن الطبيعة، حتى لو كانت مشهدا ً من الرمال ـ والغبار.
إن عددا ً من طلابه المشاركين في هذا المهرجان ـ قاسم سبتي/ عاصم عبد الأمير/ حسام عبد المحسن ..الخ ـ يتذكرون أن بدائية فائق حسن، مغايرة لفطرية منعم فرات، في النحت، لكنها تمضي بعيدا ً في الحفاظ على أسرارها، ونسيجها، مرة ثانية، بجماليات لا تكاد تراها العين، عدا التي تتمتع بعفوية ورهافة، لم تدمرها الحرفة، بل شذبتها، وسمحت لها أن تدوّن ما يماثل المقامات، لكن برموز مستمدة من: الطبيعة، وبتجريد يحافظ على موسيقاه، ودلالاته المحورة.
على أن هذا المهرجان اللوني، بحضور واقعية فائق حسن، يدحض محاكاته، أو استنساخه، لأن هذا الحضور (الرمزي) المتحقق عمليا ً، يسمح بتأمل تاريخ ترسخ بردم القطيعة مع الطبيعة، بتنويعاتها، واختلافاتها، بتحقيق كل ما مهد له جيل الرواد، من علاقات غير مستعارة، وغير زائفة، بدواعي الحداثة، أو الانشغال بمظاهر المدارس الطليعية، مع الواقع.
انه ليس شرطا ً مدرسيا ً، يتلقاه الطالب، بل هو جزء من تربية (جمالية) تمهد للوعي بفهم أعمق للـ (الايكولوجيا) التي لا يمكن عزلها عن مجالها الثقافي/ الشعبي/ والحضاري في الأخير.
وبقراءة عامة للرسم في الوطن العربي، فان عقود الثلاثينات وصولا ً إلى الخمسينيات، في مصر أو في المغرب العربي، في بلاد الشام أو في العراق، تكون قد عملت استعادة (البصر)، بمعنى، الحفر في الشخصية، كي يأتي الإبداع وقد استوفى أدواته، لا في محاكاة الأساليب السائدة في حداثات العالم، بل تدشينا ً لمسار يبدأ بعادة دراسة الجدلية القائمة بين السماء والأرض. فإذا كانت حداثات أوربا، قد خرجت من (المصنع) ـ معه أو ضده ـ وبتقنيات متقدمة تمتلك تاريخها الطويل في الرسم، فان الفن الشرقي، وفي الوطن العربي تحديدا ً، لديه الكثير الذي يكمل المشهد (العالمي)، بالحفاظ على هويته اللا شعورية، العميقة، الرمزية، والواقعية، بدل أن يبقى مكتويا ً بالفصام، وعقدة تقدم أوربا، بوصفها رائدة للحداثة، والابتكار.
هذا الحضور لرسام كبير، كفائق حسن، لا يخص بنية الرسم، والمهارات ذات الخبرة، والرهافة، ولا يتجلى ببلورة جماليات الطبيعة، وقسوتها، حد تحولها إلى سيمفونيات صاخبة، تعبيرية، ورسومات سوريالية فحسب، بل في مدى تجذر مساحة الانشغال بكتابة واقعية حافظت على اتساع ضفافها، وليس على انغلاقها. فالتنوع الأسلوبي، هنا، منح (الهوية) بعدا ً مضافا ً لواقعية الرسم الحديث، بالتوحد نحو الداخل، ومعه، وليس الانفصال عنه، أو إغفاله، أو السفر بعيدا ً عنه. فالخيال يأخذ الدور ذاته لمنجزات حضارة بلاد وادي الرافدين، رائدة بإرساء برامجها في الديمومة، والابتكار.
[5] إشارة أخيرة
بعد تتبع النشاطات المشتركة، والمعارض الشخصية، لأكثر من نصف قرن، اثبت ملاحظة مفادها أن هناك، في الرسم كما في الشعر، في المسرح كما في الثقافة العامة، النخب التي لديها ما يؤهلها لمناقشة المجالات التخصصية، إلا إنها، بحكم واقعها أصبحت أكثر عزلة عما يتطلب فتح مجالات اكبر لاستثمار الفنون في الحياة الافتراضية ـ والواقعية معا ً. وكي لا نخترع وهما بإمكان المتلقي ـ في أي عالم غير مصاب بظلمات الأزمنة الغابرة، وبملوثات المجتمعات ما قبل الحديثة ـ أن نجري مقارنة بين انجازات (النخب) والجمهور العام. إننا سنصدم بوجود فجوة بينهما، اعتقد إنها أفضت بهجرة مؤلمة لأكثر المواهب الفنية قدرة على منح الجمال مجاله التربوي ـ الأخلاقي، والحضاري في الأخير.
على أن البديل أو التعويض سيسهم في حتمية تجدد الإرادة المتحضرة في البناء الإبداعي بعيدا ً عن الإسراف في التدمير...، ليلخص: هل بإمكان الفن ـ وجمالياته ـ العمل على ردم الفجوات، واستئناف الحوار الأعمق بين بناة المجتمعات، وبين من يعمل على هدمها، أو إعادتها إلى الماضي؟
ربما المتلقي ما قبل عصر (كافكا) يدرك لماذا ظهرت تيارات عملت على هدم الفن، المجتمع، والأعراف، للبحث عن عقار آخر لعلل بات من الصعب تلافي ازدهارها، كي يصبح عالمنا ـ ومنه المتقدم بتقنيات الحداثة وما بعدها ـ إنما أيضا ً أصبحت محدودة التأثير، ضمن نخبها، وليس على صعيد الوعي العام.
فمع تدشينات الفن الحديث، في الوطن العربي، بعد الحرب العالمية الأولى ـ ومن غير التقليل من الاستثناءات الأسبق ـ انبثقت ملامح سرعان ما عملت لتشكيل علامات حضارية لم يكن لحضورها ما يذكر. بل ظهرت تجارب فنية سرعان ما دخلت في المهرجانات الدولية، رافدا ً لليباب ـ بل للعقم ـ الذي واجهة حضارة العصر، في عزلتها، انخلاعها، اغترابها، وما واجهته من استلاب يخص حياتها اليومية، كالهواء للتنفس، أو الحصول على الماء الصالح للاستخدام البشري، وليس التعرض لصدمات مروعة، مبنية على استحداث اختلافات لا سبيل لمعالجتها إلا بالمزيد من الدخان، والمزيد من انتهاك حقوق الطفل، المرأة، البيئة، والحياة عامة.
اعترف بان هذه الإشارة لا علاقة لها بأجيال حلمت بإبداعات مغايرة للوضع الذي حول الكثير من المدن إلى متاهات، والى أزقة للموت، حتى كاد الفن أن يكون من الماضي، ولا اثر له، بين المجتمعات، وهي توغل ببناء دولة (الدخان) و (الخراب)، وما بعد الموت.
ولا مجال للحديث عن أسباب انسحاب (النخب) الثقافية/ الفنية، أما بدورها المحدود، أو بهجرتها بحثا ً عن عالم آخر، أو القنوط والقبول بالهزيمة. فكما ثمة ما لا يحصى من العوامل قامت عليها حداثات العالم، فان ما لا يحصى من العوامل ـ اليوم ـ تعمل على بناء عالم من غير فن.
وكي تستعاد المخبآت الروحية للإنسان ـ ولا اعرف كيف! ـ اضطر للحديث عن أقدم العلامات الفنية، مع اكتشاف النار، والكهف، والأدوات البدائية. تلك الفنون المبكرة بوصفها نشأت للعبور من عصر (الغاب) نحو (المدينة)، بينما نصدم اليوم ليس بموت (الفن) أو موت (الإنسان)، بل بما تحدث عنه اينشتاين نفسه: عصر الحرب بالحجارة وأغصان الأشجار! بعد فشل الجميع بالحفاظ على ما شكل عبقرية الإنسان، عبر آلاف السنين.
ومع إن الخسائر المادية باهظة، ومع إن الخسائر بالأرواح بلا حدود، إلا أن لدى الفنانين ـ أو ما تبقى منهم ـ ما يتمسكون به: العودة إلى الماء، إلى السماء، إلى التراب، بإيجاز: بعث اللا وعي ـ واللا شعور أيضا ً ـ ومنحه لغز الآلهة الأم ـ إنانا وكل الأسماء التي مثلت دور الأم الكبرى ـ التي كونتها الأزمنة، لصياغة علامات تحتمي بها، كأنها تمارس لغز الطيور وهي تبني أعشاشها بحجم قلوبها، يعمل الفنان ببناء علاماته بحجم أحلامه، وهو يراها تتلاشى أحيانا ً، وفي الغالب، تبقى تحمل نقيض الموت.
* عضو رابطة نقاد الفن [الايكا]
22/9/2016
Az4445363@gmail.com