الأحد، 18 سبتمبر 2016

حوار المخرج السينمائي العراقي المغترب سمير زيدان- حاوره: مروان ياسين الدليمي



حوار
المخرج السينمائي العراقي المغترب سمير زيدان




   
حاوره: مروان ياسين الدليمي

التأؤيل يُضفي سِمات جمالية على الفلم
      كان عمره ثمانية عشر عاما ً عندما غادر العراق عام 1979حاملا ً حقيبة أحلامه على ظهره متجها الى اوربا ساعيا ً وراء تحقيقها ، كان هدفه الوحيد أن يصل الى مكان ما في اوربا، حتى يتمكن من خلالها دراسة الفن السينمائي بشكل اكاديمي والتعرف عن قرب على تفاصيل الانتاج بصورته الاحترافية ، وليكون ذلك فيما بعد منطلقا ً له لتحقيق ماكان يصبو اليه من احلام سينمائية ، بعيداً عن نمط الانتاج الضعيف الذي كان سائدا ً في بلده العراق أو في المنطقة العربية أنذاك، فكان معهد وودج السينمائي في بولونيا محطته الاولى والاساسية لتلقّي العلوم السينمائية وهو نفس المعهد الذي كان قد تخرجت منه اسماء كبيرة ومهمة في السينما العالمية المعاصرة منها : رومان بولانسكي وادريه فايدا وكيشلوفسكي . وبعد أن انهى دراسته اتجه الى النرويج ليكمل مشواره السينمائي هناك ، وليصبح أحد الاساتذة المختصين في تدريس فن الاخراج السينمائي بمدرسة الشمال للفن التشكيلي والسينمائي، إضافة الى عمله كمخرج ومنتج . . والمخرج سمير زيدان من مواليد مدينة الموصل عام 1958 وسبق أن عمل في منتصف سبعينات القرن الماضي في مسارح الموصل قبل مغادرته لها مخرجاً وممثلا في العديد من العروض المسرحية . . وآخر انشطته كان عضواً في لجنة تحكيم الافلام الروائية القصيرة والتسجيلية في مهرجان مالمو للافلام العربية الذي اقيم هذا العام 2012 في السويد .
التقينا به وتحاورنا معه حول رحلته الطويلة في مشوار الفن السينمائي وأرائه وملاحظاته حول العديد من القضايا التي تتعلق بالانتاج والفن السينمائي العالمي والعربي والعراقي .
*بداية نودُّ أن نتعرف على طبيعة الاعمال السينمائية التي حملت اسم سميرزيدان،والمشوارالطويل الذي قطعه من أجل أن يحتفي بحلمه السينمائي الذي طار خلفه من بلاد مابين النهرين حتى امسك به في النرويج؟
- ما زلت اتذكر أول عرض مسرحي رأيته على خشبة النشاط المدرسي في مدينتي الموصل ، كانت رحلة مدرسية لمشاهدة مسرحية (كنز الحمراء) وكان الفنان الراحل علي احسان الجراح يؤدي الدورالرئيسي فيها ، وبعد هذه المشاهدة باتت كل حكاية أسمعها مترتبطة بعناصر التمثيل في ذهني. بعدها تعلمت اصول التمثيل ومبادئه مع زملائي نذير العزاوي وكريم جرجيس ورعد حسين من المخرج الراحل علي المهتدي في محاولة مسرحية كانت تحمل عنوان كفر قاسم لكنها لم تنجح، بعدها تعلمت الكثير عن عالم الاخراج المسرحي من استاذي الكبير المخرج المبدع راكان العلاف ،ومن ثم من المخرج الكبير والمُشاغب شفاء العمري ، كذلك من زملائي الممثلين في السبعينيات، انذاك كانت مدينة الموصل زاخرة بانتاجات مسرحية تقليدية ومسرحيات تجاور التقليد منطلقة بحرية لخلق أجواء تشاغب الذهن لتجعل المتفرج يغوص بعمق في أجواء فنية تسعى لأن تلامس الطبيعة البشرية، أجدها الان بعد هذه الاعوام الطويلة التي مرت عليها أنها كانت مسرحيات تجعل المتفرج يتفاعل مع عناصر التلقي المدروس والتجريبي ، والكثير من تلك العروض كانت بلا شك صادقة في اهدافها التي تهدف الى إغناء الروح ، وبنفس الوقت فيها الكثير من المناطق الجمالية التي تشتغل على مفردة التأويل ، وأجد فيها الان وأنا استعيدها عمقاً واتقاناً لدى عدد من مخرجي مدينتي الموصل . بصدق اقول أن خشبة المسرح انذاك كانت تتوالد فيها أجواء لم يكن لها أن تظهر لولا جرأة اولئك المخرجين القادرين على تجاوز المسرح التقليدي كالعلاف والعمري ، فخوض تجربة تمثيل معهما كانت لي ولباقي العاملين في المسرح في تلك الفترة (علي احسان الجراح ،مروان ياسين،عبد الرزاق ابراهيم،محمد العمر،غانم العبيدي،موفق الطائي، صبحي صبري، نجم الدين عبد الله سليم، طلال الحسيني، حسين احمد، محمد المهدي، عصام عبد الرحمن، صلاح الدين الريكاني، ماجد البرزنجي، فارس جويجاتي. نزار محمد وآخرين ) كانت تعني فرصة للروح أن تسمو وللذوق أن يجرب نكهة أجواء ٍولحظات تتجسد في مشاهد تمنحنا فرصة لتأمل وكشف ما لا يمكن قوله إلا بالمسرح ، ليس فقط سياسيا ،بل على المستوى النفسي والسوسيولوجي والفلسفي ، في تلك التجارب تعلمنا كيف يكون تشريح الصمت المخلوق على الخشبة ، وما زلت حتى الان أغرف من تجربتي المسرحية في عملي السينمائي عندما اخرج فلماً وكذلك عندما أدرس الاخراج السينمائي لطلبتي .
*أين الذاكرة الشخصية لسمير زيدان في احلامه السينمائية ؟
- ذاكرتي هي شخوص مدينتي بأزقتها وتقاليدها بقراها ونهرها العظيم دجلة الخالد كذلك بتجاربي الشخصية وبكل الشخوص التي مرت بي وعرفتها . ذاكرتي مازالت تنبض بكل هذا مازلت اعيش كل هذه التفاصيل ، في الحقيقة أنا لدي مشاريع كبيرة لها صلة وثيقة بهذه الذاكرة الثرية ، لكن التمويل دائما يقف عائقا ً امام تحقيقها .
*انت الان تُدرّس الفن السينمائي في النرويج بعد أن قطعت شوطاً طويلا من الدراسة الاكاديمية لهذا الفن اضافة الى العمل .. هل تجد أن من السهولة لفنان شرقي أن يُدرِّس هذا الفن للاوربيين ، ومالذي يمكن أن يضيفه لهم ؟
الصورة في الغرب لها تاريخ عريق ،وهناك جمالية خاصة متأصلة في ثقافة التواصل مع الجمهور العريض عبر الصورة، هذا يبدو ظاهرا ً في منحوتات الكنائس قبل أن تدخلها ، أمّا الكتابة فقد كان امرها مقتصرا ً على الطبقات العليا من المجتمع الاوروبي، بينما في ثقافتنا نحن العرب لم تكن الصورة هي لغة التواصل مع الجماهير العريضة إنما كانت الكتابة أوبالاحرى الحكاية ، كما في الجامع أو في المقهى لدى الحكواتي . هذا اضافة الى أن ملوك أوروبا كانوا يقتنون الصور والتماثيل بينما الخلفاء الامويون والعباسيون كانوا يدفعون الكثير للشعراء. . طبعا عندما تقوم بتدريس الاخراج السينمائي في الغرب هذا يعني أنك قد تمكنت من إحتواء جماليات الصورة الاوربية وهرمونية ميزانسينها، ومن لغة التواصل بين البشر، بعيدا عن اختلافاتهم الثقافية فما يجمعنا نحن البشر هو أكثر بكثير مما يفرّقنا ، وبأعتباري سليل ثقافات شرقية ومُعايش ٍلثقافات غربية هذا بالتالي سيجعلني أتميز بهذا الغنى عن الآخرين..الفيلم او المسرح او الفن التشكيلي يستخدِمُ لغة ًمشتركة بين البشر، لذا لا يوجد فرق كبير بين استاذ اوروبي واستاذ عراقي في هذه الناحية ، لكننا نختلف بخلفياتنا الثقافية، وهنا في هذه النقطة أنا لا أعني الثقافة المستمدة من القراءات إنما أعني ثقافة العوالم المُعاشة ،فأنا تربيت بثقافة مختلفة، وهي ثقافة عراقية بحتة ، ولكن حتى في مدينتنا الموصل هناك عوالم ثقافية مختلفة ومتنوعة، هناك العائلة المنغلقة على نفسها التي لا يدخلها صديق، وهناك العوائل المنفتحة حيث الصديق يدخل ويخرج دون حرج، إضافة الى أن كلمة ثقافة تطلق تقريبا على كل شيء يمارسه الانسان، كثقافة المطبخ على سبيل المثال ويشمل هذا نوع الاكل، واصول ومراسيم تناوله الخ. . أما الثقافة بمفهومها الشائع أي المستمدة من الكتب وهنا أعني ثقافة الفنان بشكل عام سواء كان تشكيليا او مسرحيا او سينمائيا، فلا أجد أن هناك فرقا ً بين أوربي وعراقي سوى المشاهدات ، وبما ان الفيلم إستطاع تجاوز المكان فغالبا ما تكون المشاهدات ايضا متقاربة ،أنت تعلم تماما أن الجيل الذي انتمي اليه من الفنانين المسرحيين والذي كان قد ابتدأ العمل بالمسرح في منتصف سبعينات القرن الماضي كان يقرأ ذات الكتب التي يقرأها المثقف المسرحي الاوربي ، إذن نحن نمارس لغة مشتركة سواء كان الاستاذ فرنسيا أم أمريكيا أو صوماليا وسنستخدم المراجع العلمية نفسها من نصوص مسرحية ومن تقنية تمثيل ستانسلافسكية الخ.. لذا يمكنني القول لو أن اساتذتي راكان العلاف وشفاء العمري توفرت لهما الفرصة لأن يكونا في أية مدينة اوربية لما ترددت ادارة تلك المدينة في أن تخصص لكل منهما مسرحا ً خاصا ً ليعمل به ويكون تحت ادارته وتصرفه ،وسيكون حولهما الكثير من الطلاب ليتعلموا منهما .
* باعتبارك مخرجاً سينمائيا ،ولك احلام وطموحات ،هل تواجه صعوبات ما في المغترب الاسكندفاي رغم الفترة الطويلة التي مضت عليك وانت تقيم هنا ؟ 
طبعا هناك صعوبات في كل مكان، لكني الآن امارس التدريس، وهو يمنحني نفس النشوة التي أحس بها اثناء عملية الخلق الفني، فكل حصصي أشعر وكأني ممثل على خشبة المسرح،وأجاهد كثيرا كي لاتكون محاضراتي مملة، وبما انها محاضرات عملية أكثر مما هي نظرية لذا هي أقل رتابة لي و لطلابي كذلك . كما اني اتابع طلابي دائما ً ومشغول بهم ،ليس فقط فيما يتعلق بتعليمهم النواحي التقنية، لأن الاخراج ينشد تحقيق نظام منسق ودقيق للوحدات الفلمية، فأبدأ معهم من نقطة الصفر ، كي تتأطر معرفتهم الذاتية بدراسة اكاديمية. بعد ذلك أتولى تدريس كيفية تحقيق عملية ربط هذه الوحدات ببعضها بشكل عضوي ومنطقي ومتفاعل ، ثم اتولى تدريسهم ترتيب الزمن، بقصد أن يكون الموضوع المطروح في الفيلم مشوقا ، وبما ان الفيلم هو عبارة عن عالم بحد ذاته، و المخرج هو المسؤول عن بناءه ، وأي عالم يحتاج فلسفة له ، لذا لابد ان يكون المخرج فيلسوف عمله ، من هنا يبدو عمل استاذ الاخراج السينمائي يتطلب متابعة مستمرة لكل طالب على حدة، لذلك اخذ التدريس تقريبا كل وقتي ،
*عادة مانلاحظ ان العديد من الافلام التي تنال جوائز كبرى في المهرجانات العالمية غالباً ماتسبب الضجر للمتلقي ، ومن الصعوبة ان يتحقق التواصل الحيوي والفعال معها لدى عموم المتلقين. ويمكن نذكر هنا بعض النماذج ، مثلا سينماالمخرج الهندي ساتيا جيت راي أوالياباني كيراساوا أوالسويدي برغمان أو الايراني عباس كيروستامي واخرين رغم القيم الفنية والجمالية العالية التي تحملها افلام هذه الاسماء الكبيرة ، اين المشكلة في هذا الموضوع ؟
 المهرجانات الفنية دائما تبحث عن الافلام التي تطرح الشكل والموضوع بجرأة، ومن خلال تجربتي الأخيرة كعضو لجنة تحكيم للافلام القصيرة والتسجيلية في مهرجان مالمو للافلام العربية في هذه السنة فقد منحنا الجوائز للافلام التي كانت جريئة بطرحها ومتمكنة من لغة سينمائية عالية. فلا يمكن لمن يجلس في لجان التحكيم منح جائزة لفيلم تقليدي لم يتقصد مخرجه وهو في مخاض الابداع أن يقوم ولو بمحاولة واحدة لكي يقدم شيئا جديدا او لقطة واحدة تحمل نوعا ً من الأصالة. فمن البساطة جدا ان تسير في شارع مبلط ،او في جبل ومسالكه واضحة وترى أن من سبقوك إليه كثر. هذه المهرجانات تبحث عن مخرجين أصلاء غير مقلدين ، مرة تجدهم يتسلقون صخرة ومرة أخرى يفتتوها من أجل أن يستمروا في طريقهم ويشكلوا مسالكهم الخاصة، ومن ثم لتسمى جمالية عوالم افلامهم باسمائهم هم أي بأسلوب كياروستامي أو اسلوب بيرغمان، وهم عادة يخلقون افلام تحتاج من المتفرج ان يقدم جهدا ذهنيا ليتواصل مع الفيلم المعروض أمامه، بينما الغالبية من الجمهور يريد وجبات سريعة ،أي افلام خفيفة للتسلية، ولهذه الافلام ايضا ًمهرجاناتها. لكن المشكلة هنا تكمن في الاعلام ، فالنقاد والصحفييون الذين يكتبون عن الافلام الجادة فهم الذين يتسببون في احداث الخيبة لدى المتلقي الباحث عن المتعة والتسلية،عندما يذهب الى دار العرض السينمائي ويتفاجأ بعدم وجود كل ما تم ذكره من قبل النقاد ،وذلك لانهم يقحمون مقالاتهم تلك على صفحات الاعلام الذي هدفه التسلية فقط وليس اثراء الحياة الثقافية ولو قرأ المتفرجون الانتقائيون المقالة في مجلة سينمائية جادة لوافقوا كاتبها بأن هذه الافلام من أروع ما شاهدوه بل ان المقال أعمق مما أولوه... الخ.
*ماهي مواصفات الفلم الجيد الذي يجعل سمير زيدان يتوقف أمامه أكثر من مرة ، هل له شكل محدد ؟ هل له اشتراطات معينة في البناء الفني ؟
إنه الفيلم الذي يطرح الحياة الداخلية الغنية للبشر بلغة جمالية واضحة وعالية . .ايضا هو الفيلم الذي تشعر بأن تتابع مشاهده تتشكل وفق حركة متناسقة مابين الكاميرا والممثلين ومتماسكة بشكل عضوي ، والغرض منها أظهار المشاعر العميقة للشخصيات ومعايشاتها في نفس الوقت من قبل المتلقي ،هذا الميزانسين يُسهِّل لنا قول ما لا يمكن تحديده قولا ، وما لا يمكن رؤيته ،في جو مخلوق بين الشخصيات والمتلقي، والذي يترك ايضاً مجالا ً للتأمل.
*عندما تنوي القيام بعمل سينمائي الى ماذا تهدف من وراء ذلك ،هل تريد تحقيق رد فعل ما لدى المتلقي ؟ وهذا السؤال بذات الوقت يدفعني لكي أسألك عن وظيفة السينما كما يراها زيدان نفسه ؟
السينما بالنسبة هي للمتعة والراحة ولكنها بنفس الوقت اداة للتنوير والتعمق بدواخلنا كبشر، هي تمنحنا الفرصة لان نعايش حالات البطل فنصول ونجول في ساحات القتال والوصال ، ونحيا ونموت كابطال أغنياء وفقراء، وتهفهف ارواحنا مع رقصات ظلال اوراق الشجر ، نرقص ونغني، انها الحلم الذي يمنحنا المعايشة التي لا تمنحها إياها حياتنا اليومية، فهي مختزلة ببلاغة صورية مما يخلق لنا فهما وضحا ً ومعايشة أمينة لما يحدث وذلك لتوافر المنظور الزمني ، ففي حياتنا اليومية ينقصنا الوعي بمعايشاتنا الحقيقية ، فالسينما تضيف حيوات كثيرة لنا ، انها المشاكسة التي تثيرنا حسيا جماليا وذهنيا، فهي تضحكنا وتبكينا وتجعلنا نفكر في احتمالات تواجدنا في حالات البطل، هي التي تستطيع ان تطهرنا من أدران النفس كما كان يقصد اورسطو (بالكاتارسيس) حالة التطهير.

*اجمل الاشعار هي التي يكتنفها الغموض وتبقى عصيّة على الفهم بسهولة ،وهكذا الحال مع المقطوعات الموسيقية العظيمة التي عادة ماتكون غامضة ولايمكن تأطيرها في معان مُحددة ، هلى يمكن ان تنطبق هذه المعايير الجمالية على الفلم السينمائي ؟
ليس الابهام بحد ذاته هو الهدف ، لكن دواخل النفس أصعب من أن تطرح بشكل ظاهر وواضح، ذلك لأنها تتسطح وتصبح غير مقبولة واقعياً أو فكرياً، فترك فسحة للتأمل والتأويل هو بحد ذاته عنصر من عناصر الدراما لان ذلك له علاقة مباشرة بعملية التقبّل ، ولكن هذا أيضا يشترط وجود جمهور لا يطلب الوجبات السريعة ، بل يحاول أن يتمعّن الحالة ويشارك بفهمها.
*هنالك العديد من المهرجانات السينمائية العربية التي تكاثرت وازدادات خلال الاعوام الاخيرة . لكننا على ارض الواقع لانجد الافلام المشاركة فيها في دور العرض الجماهيرية . ألايدفع هذا الوضع الغريب المنتجين الى عدم الاندفاع باتجاه الاستثمار في صناعة الفلم الرصين ، ثم ماهي الصيغة التنظيمية التي تدعو اليها انت من خلال ماتملكه من خبرة لتحقيق مستوى جيد من التسويق لهذه الافلام ؟
السينما صناعة أي بمعني أموال ، ثم انتاج وتوزيع، ومن بعد ذلك إمّا تحقيق الربح أو تجرع مرارة الخسارة ، فهل يمكننا أن نجد سوقا ً للفيلم العربي وسط هذا الانتاج العالمي المتقدم خصوصا ً الاميركي الذي يعرف كيف يفكر اقتصادياً وهو يسوق انتاجه ؟ والسؤال الاهم هنا هو : ما هو عدد الصالات الموجودة في البلدان العربية؟ . هل تعلم أن النرويج بتعداد سكانها القليل والذي يقل عن خمسة ملايين نسمة يوجد فيها عدد من الصالات يصل الى 492 دار عرض حسب احصائية عام 2004 ، والجدير بالذكر هنا ــ وأرجو الانتباه الى ذلك ـــ إلى أن أغلبية هذه الصالات هي ملك للبلديات في مختلف محافظات النرويج ، اي أن 301 صالة عرض سينمائي هي ملك للدولة.. وعليه اقول نحن في العراق طالما مازلنا في بداية القفزة التاريخية بعد حروب وحصار وقهر ٍ بحاجة الى الانفتاح التكنولوجي لبناء بلدنا ، لذا اقترح على مجالس محافظاتنا بناء مسارح ودور عرض سينمائية ، وإن لم تستطع إدارات المحافظات فعل ذلك فعلى الاقل ينبغي أن تفرض على كل من سيحاول بناء مولات (اسواق مغلقة السقف بمساحات شاسعة) أن يضيف صالتا عرض مسرحية وسينمائية . نحن الان في العراق أحوج مانكون الى بناء الشخصية العراقية بالثقافة والترفيه، وليس فقط فتح الابواب أمام الشركات المستمثرة في حقول النفط ،علينا أن لا نترك الأمور للغَيب اذا اردنا التقدم ، بل يتوجب علينا التخطيط لكل ماله صلة بحياتنا وحياة الاجيال القادمة وليس البقاء في حالة من النواح والبكاء على مامضى والاكتفاء بالدعاء لدخول الجنة في العالم الآخر.. المسألة تحتاج الى عمل وتفكير بالمستقبل القادم نحن كعراقيين نستحق كباقي الشعوب جنتين وليس جنة واحدة ، ألاولى في هذا العالم والثانية في العالم الآخر ،ايضا ً لتكن لدينا صالات كبيرة للمتفرجين الراغبين برؤية الافلام المُسلية ،و صالات صغيرة أخرى للمتفرجين اللذين يجدون بأن الفيلم ماهو إلاّرحلة اكتشاف مضنية وعملا ً فنيا راقيا يختزل العالم برموز واحداث ويتحمل التأويل ويحث على التفكير والتأمل بحياتنا كمتفرجين وككائنات واعية.
وهكذا ركنت مشاريع طموحة وكبيرة على الرفوف .

*السينما في البلدان العربية حتى هذه اللحظة لم تستطع أن تدخل من الباب الكبير للمهرجانات السينمائية العالمية الكبرى رغم أن مصر مثلا لها تاريخ طويل في الانتاج ولها أسماء مهمة في الاخراج السينمائي . . برأيك مالاسباب ؟
السينما المصرية يغلب عليها الطابع التقليدي والتجاري وهذا أصل السينما فالسينما صناعة أولاً ، ومحترفو هذه الصناعة كثيرون في مصر، لكن بنفس الوقت هناك أيضا من تركوا بصماتهم الواضحة في السينما العالمية ، ورغم هذا فأنا أجد أن هناك عدد من المخرجين الشباب في مصر يحاولون إيجاد طريق لهم ، لكن مشكلة التمويل تقف عائقا أمامهم.
*هل تجد أن السينما في العالم العربي قادرة على أن تكون مؤثرة وفاعلة في تحريك الوعي الانساني مع وجود جُملة من المُحرَّمات التي تمنعها من تناول الكثير من الموضوعات ؟
الفن يعني ايضاً مشاكسة الواقع، برنادشو يقول :"ان التفكير المنطقي لا يولد شيء جديد أما المجانين فهم من يجلبوا الجديد" ولهذا نرى أن العلماء والأنبياء والفنانين غالبا ما يتهموا من قبل العامّة في البداية بالجنون ، لأنهم يستخدمون طرقا ً تخرج عن الخطوط العامة التي اعتاد الناس عليها ، والفنان يجد نفسه ملزماً بإثارة ما هو محضور، وفي كثير من الاحيان كثرة المحرمات تفيد وتزيد من قيمة العمل السينمائي ، وهذا مايحدث الآن فعلا مع السينما الايرانية.
*السينما في العالم العربي لم تستطع ان تضيف شيئاً جديدا ومهماً للبناء الشريط السينمائي فنيا ً رغم اننا لانستطيع نكران أو تجاوز ما تسعى إليه معظم الافلام الروائية القصيرة المنتجة في العالم العربي الى شخصنة الاسلوب والى طرح معالجات فنية بعيداً عن السياق التقليدي ، كيف تنظر الى هذه الظاهرة ، والى ماذا تعللها ؟
الفيلم القصير هو مجال لشخصنة الاسلوب، فالفيلم القصير لا يشترط به تواجد عناصر التشويق كما يتطلبه الفيلم الروائي الطويل ، لذا يمكنه أن يكون تجريبيا أكثر من الفلم الطويل ومشاكسا للجمالية المعتادة والنمطية الواقعية ، كما أن من يتحمّل تمويل هذه الافلام يعلم مسبقا بخسارة أمواله ذلك لانه لا توجد سوق لهذه الافلام سوى المهرجانات، والمهرجانات الفنية تعشق كل من يبحث عن أصالة حقيقية.
*الموضوعات السياسية اخذت الكثير من الوقت والجهد في النتاج السينمائي العراقي ،هل تجد في ذلك واحدا ً من أسباب نكوصها ؟
نكوص السينما العراقية يعود الى تهميش الفيلم ، وعدم إرساء مدرسة سينمائية جيدة، لماذا المسرح العراقي إستطاع أن يثبت وجوده على الصعيد العربي .. السبب واضح : لوجود أساتذة عمالقة في مدارس المسرح، بينما بقيت دراسة السينما تعتمد على كفاءات بسيطة، وبما أن مدرسة السينما تتطلب تقنيات وأموال لم توفرها أي من الحكومات العراقية السابقة لذا بقيت السينما العراقية تتأرجح بين يدي من شارك بدورات تدريبية هزيلة في الخارج وطموح شخص عراقي آخر يحاول تأبط الغيوم ، وهذا واضح في الانتاجات الممولة من النظام السابق. وفي الوقت الحاضر لا يوجد دعم لهكذا مدرسة رغم وجود خبرات عراقية كبيرة خارج الوطن . ايضا ً فقدان الأمن ، وخراب صالات السينما، وعدم وجود دعم كاف ٍمن الدولة سيكرس هذا النكوص ،نحن في العراق بحاجة ماسة لمدرسة فيلم عملية ، فالفيلم فن شامل للفنون الاخرى، مما يجعله أصعب الفنون لأنه يحتويها كلها بشكله النهائي، كصورة وصوت، وليس فقط معاهد او كليات للسينما لا يتوفر فيها سوى قاعات للمحاضرات من دون أن تتوفر فيها أجهزة سينمائية متكاملة للتصوير والانارة والتقطيع والمكساج الصوتي الخ.
*تقنية البعد الثلاثي مالذي يمكن ان تضيفه الى عمل المخرج السينمائي ،هل يكفي أنها خلقت احساساً طبيعياً في الصورة السينمائية اكثر مما هي في الصورة التقليدية ؟
شخصيا لا ارى لفيلم البعد الثلاثي مستقبل فمنذ اكتشافه قبل 90 سنة بقي كظاهرة تثير الفضول ليس إلا.

*هل مازلت تشعر بأنك عراقي ؟
هذا امر محتوم انا عراقي وشاشات الفضائيات العراقية تحاصرني ولا يمكن أن يمر يوم دون أن اذكر الوطن وأعرف أخباره.
*لابد انك تراقب من هذا المكان البعيد وطنك الاول العراق ، كيف تراه الان ؟ والى اين يسير؟
مع الاسف الجهل انتشرفي بلادنا بشكل لم نكن نتصوره وهناك ساسة يحثون على نشر الجهل ليغرق الناس بفيضان ليل يمتد سنوات وسنوات بدل الامساك بشموع تغربل الظلام بالنور لتعود الطمأنينة وترقص أرواحنا مع وهج الشموع في عيون بعضنا البعض. أنا أتأمل أن يأتي ذاك اليوم الذي أحمل فيه معكم احدى تلك الشموع.


ماهية اللغة؟ خلاصة النقاشات الدائرة حول أصل اللغات ومستقبلها- ترجمة: عدنان عباس علي


لغات

ماهية اللغة؟
خلاصة النقاشات الدائرة حول أصل اللغات ومستقبلها



ترجمة: عدنان عباس علي

     مع أن من حقائق الأمور أن جميع البشر، تقريبا، يستخدمون اللغة باستمرار وأن الباحثين المتخصصين في مسائل اللغة قد نجحوا في إعطاء الجواب الشافي على الكثير من الأسئلة المتعلقة بها، لا يزال الكثير من الظواهر اللغوية يتسم بالغموض ويثير جدلاً عريضاً. فعلاوة على ما تثيره اللغة من مسائل علمية بحتة، هناك أيضاً المواقف العقائدية أو وجهات النظر الشخصية. فهل من حسنات الأمور أن يتحدث بنو البشر بهذا الكم الكبير من اللغات المختلفة؟ وألا يتعين علينا أن نفزع من انقراض هذه اللغة أو تلك؟ في هذه المقالة يلخص يورغين ترابانت النقاشات الدائرة حالياً حول موضوع اللغة معرفة كاملة باللغة ولكن؟
لم نكن في يوم من الأيام نمتلك هذا الكم من المعرفة عن اللغة كما هي حالنا اليوم؛ فمع أن مئات اللغات لم تُحدد خصائصها بنحو دقيق لحد الآن، إلا أن واقع الحال يشهد على أن البحث العلمي قد نجح في سبر غور أكثرية اللغات التي يتحدث بها بنو البشر. فقد تمت مقارنة جذور بعضها بالبعض الآخر وذلك للتعرف، من ناحية، على السلالات التي تنتمي إليها اللغات المختلفة، ومن ناحية أخرى، على خصائصها البنيوية المشتركة؛ كما سلط البحث العلمي الضوء على ما يسمى بلغات الثقافات الحية وراح يتتبع كل طور من أطوار نشوئها وكل صيغة من الصيغ التي تبدو بها في اليوم الراهن. على صعيد آخر، قطعنا شوطاً كبيراً في التعرف على الأسلوب الذي يتعلم به الأطفال لغاتهم الأم. كما أخذ البحث العلمي يطبق طرق بحث متطورة وماهرة للتعرف على ما يجري في المخ عند الكلام. لا بل تحقق ما هو أكثر من هذا وذاك، فمن خلال الاكتشافات الأثرية ذات الأهمية في شرح المسائل الخاصة بالأنتروبولوجيا، ومن خلال المعارف الجديدة المتعلقة بالتطور البيولوجي وبعمل الجهاز العصبي، صار الباحثون قادرين على وصف طريقة نشأة اللغة. وحين نشير إلى هذه النجاحات، لا يغيب عن بالنا طبعاً أن البحث العلمي لا يزال لم يقل القول الفصل والأخير في مختلف المناحي التي تحدثنا عنها، أي أن البحث العلمي لا يزال مطالب ببذل جهد أكبر لتمحيص هذه المناحي. وتبقى هذه الحقيقة قائمة حتى إن أخذنا بالاعتبار أن المعارف بشأن اللغة قد تضاعف كمها أضعافاً مضاعفة منذ صار البحث في اللغة تخصصاً علمياً قائماً بحد ذاته.
وبرغم كل هذه النجاحات، لا مندوحة لنا من الاعتراف بحقيقة مفادها: أن السؤال البسيط عن معنى اللغة، يبدو الجواب عليه أكثر صعوبة وتعقيداً، كلما كنا أكثر علماً باللغة. ولا تكمن جذور هذه الظاهرة، فقط، في أن المعارف المتعاظمة تزيد من أبعاد المشكلة وتعقيداتها، بل تكمن، أيضاً، في أن المعارف الأكثر دقة تسبب رجة قوية للمعارف الجيدة التي ركن إليها البحث العلمي في الأزمنة السابقة. فما اطمأن إليه المرء في سابق الزمن وصار من مسلمات الأمر، يغدو فجأة أمراً مثيراً للجدل والنقاش: أعني مسائل من قبيل ما إذا كانت اللغة وسيلة للتواصل ولتبادل المعلومات، ما إذا كانت اللغة ظاهرة صوتية، ما إذا كانت اللغة ظاهرة ثقافية أو أنها ظاهرة طبيعية بنحو ما، أي ما إذا كانت "جهازاً" بنحو أو آخر أو "غريزة" جبل عليها الإنسان إلى حد ما. وما هي العلاقة بين التفكير والتكلم؟ وهل من حسنات أم من سيئات الأمور أن تتوافر البشرية على هذا الكم الكبير من اللغات المختلفة؟ على صعيد آخر، تدفعنا النقاشات الدائرة في الساحة الحالية إلى ضرورة البحث في علاقة اللغة بالأدب، أي في علاقتها "بفن" المقالة المكتوبة أو الحديث التحريري، المتعارف عليه في الثقافة اللغوية المتطورة بنحو متسارع. وهكذا، فإن الجواب المقتضب، التالي، على السؤال عن معنى اللغة، ليس سوى محاولة أخذت على عاتقها أن لا تجيب على هذا السؤال أو ذاك بأسلوب جازم، أكيد، وأن تترك الباب مفتوحاً لأكثر من جواب واحد. أما المسائل الجزئية المتعلقة بهذا الجانب أو ذاك من اللغة، فإننا سنتحدث عنها بإسهاب في هذا الكتاب، وذلك في الفصول التي خصصناها لها.

اللغتان الداخلية والخارجية
وربما تصور البعض منا أن القول بأن اللغة هي في الأساس خاصية يتميز بها بنو البشر هو من مسلمات الأمور. وهؤلاء يعتقدون بأن البشر يستطيعون أن ينطقوا بأصوات معينة حين يريدون إبلاغ الآخرين فكرة أو إحساساً أو "مضموناً" معيناً – وأن هؤلاء من ناحيتهم يسمعون هذه الأصوات بآذانهم و"يفهمون" المراد تبليغه (وأنهم بدورهم يحفزون للنطق بأصوات مشابهة كرد فعل على الأصوات التي تناهت إلى أسماعهم). بيد أن واقع الحال يشهد على أن هذا القول يثير الكثير من الجدل والشكوك في اليوم الراهن. وليس ثمة شك في أن لا أحد منا يشكك في انتهاج بني البشر هذا التصرف حينما ينطقون بأصوات معينة للتواصل وتبادل المعلومات. إن كل ما في الأمر هو أن البعض منا يشير إلى أن التواصل وتبادل المعلومات هو، في أفضل الحالات، وظيفة ثانوية من الوظائف التي تؤديها اللغة – وأن هذا التواصل وتبادل المعلومات ليس خاصية تميز بني البشر وحدهم، فكل حيوان، لا بل أن الحياة برمتها، في تواصل مستمر وتبادل دائم للمعلومات. كما يشير هؤلاء إلى هذا أن ظهور اللغة بمظهر الأصوات المنطوقة يشكل خاصية عرضية في أفضل الحالات، فاللغة يمكن أن تتجسد من خلال وسائط أخرى، من خلال الإشارة باليد على سبيل المثال. من هنا يؤكد البعض على ضرورة التمييز بين "اللغة الخارجية" أو Speechوبين "اللغة الداخلية" أو language. فالظاهرتان تجسدان، بحسب رأيهم، أمرين، انفصل الواحد منهما عن الآخر، في سياق ذلك التطور أيضاً، الذي مر به الإنسان عبر الزمن. فبالنسبة للغة (كنظام نحوي معجمي)، أي بالنسبة لما أطلقنا عليه language، يكمن الأمر الحاسم إذاً في مناحي أكثر عمقاً؛ يكمن خلف تلك العمليات المرصودة كأمر ذهني، كنظام معرفي: "فاللغة" هي ما يكتسبه الإنسان بحكم الوراثة من قابلية على تركيب الموضوعات الذهنية في المخ بنحو لا قابلية لأي كائن حي آخر على مضارعته فيها. ومعنى هذا، هو أن الأسس العامة لهذه القابلية التركيبية، لهذه القاعدة النحوية الشاملة التي جُبل عليها كافة بني البشر، تنبع من أمر غريزي، من أمر فطري؛ وأن هذه النواة فقط – وبالترابط مع قاموس من الزاد الذهني – هي، وبكل معنى الكلمة، ما نقصده حين نسأل عن معنى "اللغة". ويكمن البرهان الأساسي لانفصال هذه اللغة الداخلية المجبول عليها الإنسان غريزياً (عن اللغة الخارجية) في حقيقة أن الطفل يكتسب اللغة ليس من خلال مدخلات لغوية رخوة، سيئة النظام، مصدرها التواصل مع المحيط الكائن من حوله، بل من خلال مبادئ نحوية مجبول عليها غريزياً.
وليس ثمة شك، أن بالإمكان، فعلاً، الاعتقاد بأن هذه النواة المعرفية هي الجانب الإنساني في اللغة، أي أنها ذلك الأمر الذي يميزنا عن باقي فصائل الثدييات (فتأسيساً على تطور المخلوقات عبر الزمن، فإن الشروط البيولوجية التي انطلق منها الباحثون حتى الآن، أعني وقوف الإنسان على قدميه وانتصاب قامته ونمو حجم مخه وتخصصه، أي المخ، بوظائف معينة وهبوط حنجرته إلى مستوى أدنى وما شابه ذلك من تحولات مر بها الإنسان عبر التاريخ، تكتسب أهمية ثانوية بالنسبة لنشأة اللغة). ومع أن وجهة النظر أعلاه ملاحظة ذكية فعلاً ومنطقية، إلا أنها أبعد ما تكون عن العلم الموثق الذي لا يطوله الشك. فالجهود، التي بذلها العلماء، من أجل عزل هذه النواة المعرفية، التي يقلل المرء من شأنها فيعتبرها مجرد "جهاز اللغة"، نعم من أجل عزل هذه النواة المعرفية عن الذكاء المعتاد أو الذهاب إلى ما هو أبعد من هذا، أعني محاولة تشخيص "جينة مختصة" بهذا الجهاز، باءت بالفشل على طول الخط أو تبث أنها ليست سوى تضليل متعمد. ولكن، وحتى وإن افترضنا أن بالإمكان تحقيق هذه المرامي، فإن الكثير من الدراسات – في حقل اكتساب اللغة – تشير إلى أن اللغة، بوصفها تقنية معرفية، ترتبط بتبادل المعلومات وبالصوت والسماع، أي أن أنه لا يمكن الفصل بين language(أي اللغة كنظام نحوي، معجمي) و Speech(الخطاب): ففي وقت مبكر، أي حينما لا يزال الأطفال أجنة في أرحام أمهاتهم، فإنهم يسمعون اللغة التي تتحدث بها أمهاتهم، أي أنهم يكادون أن "يستغرقوا" في رنين ونغم هذه اللغة وفي إيقاعها وجرسها. بهذا المعنى، فإن بني البشر يعيشون، منذ أول ساعات وجودهم، في الكلام الذي يسمعونه يتعالى من المحيط الذي يعيشون في كنفه، هذا الكلام الذي يردون عليه، بدورهم، بالجواب المنطوق. وكما هو ثابت من خلال لغة الصم، يمكن للمرء أن يسأل ويرد رمزياً أيضاً؛ من ناحية أخرى، فإن وجود إشارات يستطيع المرء ملاحظاتها بنحو مادي، أمر حتمي لاكتساب اللغة، أو - وحذراً من أن تكون عبارة "اكتساب" مصطلحاً زائفاً - دعنا نقول: أن وجود هذه الإشارات أمر حتمي "للتمرن" على اللغة. ففقط من خلال التفاعل مع بني البشر، الذين يشرفون على تربية الأطفال، يكتسب هؤلاء الأطفال – وفق خطة زمنية محددة بيولوجياً – اللغة أو لغات العالم الذي يعيشون في كنفه. بهذا المعنى، فإن تأكيد فلهلم فون هومبولدت على أن "عمل العقل" هو اللغة، يعني أن هذا "العمل" يتم دائماً وأبداً من خلال التواصل مع الإنسان الآخر. من هنا، فإنه أمر منطقي أن يركز المرء منظوره، عند الحديث عن اللغة، على الاستخدام اليومي للغة، فهذا الاستخدام يجمع بين اللغة "الخارجية" وبين ما يفهمه المرء عادة من "اللغة": أعني أنه يعكس اللغة "الخارجية" و (مَلَكَة) التفكير (ووظيفة) تبادل المعلومات. بهذا النحو لا تجسد اللغة خاصية واحدة، بل خصائص مختلفة.


تبادل المعلومات والتواصل مع الآخر
"التواصل مع الآخرين وتبادل المعلومات معهم" هو إذاً، وبنحو شديد العمومية، مصطلح عام للعمليات المختلفة التي ينفذها بنو البشر من خلال اللغة. فنحن لا نكشف للآخرين حقائق موضوعية فقط، (حين نقول لهم: الشمس مشرقة)، بل نحن نناشدهم القيام بأمر معين ونعاهدهم على أن نفي بما تعهدنا به ونبادرهم بالتحية ونُعّمِد الأطفال ونعلمهم أصول الدين ونروي القصص ونسلي أنفسنا بالأحاديث والألعاب ونكتب الشعر. على صعيد آخر، ومع أن الحيوانات تتواصل فيما بينها وتتبادل المعلومات أيضاً، إلا أن هذه الحقيقة لا يجوز أن تحجب عن ناظرينا أن الاختلافات بين السلوك الذي يسلكه بنو البشر عند تبادل المعلومات بين بعضهم والسلوك الذي تسلكه الحيوانات لم يفلح المرء في تقديرها بالنحو المطلوب وسبر غورها بالقدر المناسب لحد الآن؛ فمن مسلمات الأمور أن الحيوانات يناشد بعضها البعض الآخر بفعل عمل معين، أن بعضها يحذر البعض الآخر، أن بعضها يكسف للبعض الآخر معلومات معينة. ولكن، هل تتعاهد الحيوانات على الوفاء بشيء معين؟ هل تُعَّمِد الحيوانات أطفالها وتسميهم بأسماء معينة؟ وهل تروي الحيوانات القصص وتصنع التحف الفنية من خلال إشاراتها وإيماءاتها؟ ومع اعترافنا بأواصر الأخوة المتينة القائمة بين الإنسان، من ناحية، وباقي المخلوقات من ناحية ثانية، يظل بين الجنسين فارق عظيم تكمن حقيقته في أن السلوك الذي يسلكه بنو البشر عند تبادل المعلومات هو سلوك مقصود، متعمد؛ هو سلوك يأتي تجسيداً لفعل بالمعنى الضيق لهذا المصطلح (وهنا لا يجوز أن يغرب عن بالنا طبعاً أن وجود الفعل المقصود قد جرى التشكيك فيه في سياق الجدل الدائر حول حرية الإرادة؛ وتبقى هذه الحقيقة قائمة حتى وإن اعترفنا بأن هذا الجدل قد فقد، ثانية، شيئاً من عنفوانه في الآونة الأخيرة). من هنا، فإننا أحرار أيضاً فيما إذا كنا نريد تبادل المعلومات أو لا نريد؛ فأفعالنا الرامية إلى تبادل المعلومات يمكن أن تكون نفاقاً متعمداً؛ أضف إلى هذا أن الواجب يحتم علينا أن نكون مسئولين عن الفعل الذي نسلكه عند تبادل المعلومات: فنحن ملزمون بالوفاء بما تعهدنا بفعله، وشهادة الزور قد تترتب عليها عقوبات عظيمة، وتوجيه الشتائم يقود المرء إلى المثول أمام القضاء. بهذا المعنى، فإن تركيز النظر على القاعدة النحوية الشاملة، القاعدة التي جبل عليها كافة بني البشر، يتجاهل، كما هو بين، الجانب الإنساني في اللغة.
ومن يرى أن اللغة ليست سوى تقنية تفصح، من خلال الأصوات، عما يريد الإنسان الإدلاء به من معلومات معرفية، ما عليه إلا أن يضيف إلى هذا أن بني البشر ينهجون هنا أساليب غاية في الاختلاف. فظهور اللغة بصيغ صوتية متباينة (لا يزال) يشكل إحدى أدق الظواهر الملموسة وواحدة من أكثر الحقائق المثيرة للبلبلة والحيرة. وليس المقصود بهذه الحقيقة الاختلافات الطبيعية بين الأصوات، أي حقيقة أن لكل شخص نبرته الخاصة به، أن رنين نفس الكلمات يختلف عند الرجال عنه عند النساء، يختلف عند الشبيبة عنه عند الطاعنين في السن. المقصود هو، في الواقع، الاختلافات القائمة بين الكلمات ذاتها، تباينها الثقافي. فبنو البشر ينطقون بأصوات مختلفة الترتيب ليس بحكم ما بينهم من اختلافات طبيعية، بل لأنهم ينتمون إلى جماعات مختلفة ولأنهم تعلموا التحدث بلغة هذه الجماعة أو تلك من خلال ترعرعهم في كنف جماعة معينة. انطلاقاً من وجهة النظر هذه، تبدو اللغة، في المنظور العام، المجموع الكلي للغات المختلفة التي عرفها التاريخ.
علاوة على ذلك، فإن التنوع المرصد لا يرجعه الكثير من بني البشر إلى الأصوات فقط، بل هم يؤكدون أيضاً على أن البشر الذين يتكلمون بلغات مختلفة يفكرون بنحو مختلف. وفي أغلب الحالات، فإن من الصعوبة بمكان الحصول على جواب أكثر دقة بشأن المجال الذي يظهر فيه هذا "التفكير" المختلف. فالجواب الذي يحصل عليه السائل سيكون على شاكلة ذلك الرد الذي يقول بأن الفرنسيين يعبرون من خلال كلمة esprit(خفة الروح، ظرافة)، عن معنى هو فرنسي محض حقيقة. وقد يشير المرء هنا إلى شعوب الأسكيمو؛ فهذه الشعوب تعبر عن الظاهرة التي لدينا اسم واحد لها لا غير: "جليد"، بأسماء لا حصر لها. ومع الاعتراف بأنه لا مندوحة للمرء من أن يمعن النظر في هذه الأمثلة بنحو مستفيض وأن يأخذ كل مثال بمفرده عند تتبع تداعياته، إلا أنها، أعني هذه الأمثلة، تبين بجلاء الأمر المقصود: فوجود خلفيات خصوصية تحدد طرائق "التفكير" في كل لغة، يؤكد، في الواقع، على وجهة النظر القائلة بأن اللغات تشكل العالم (من خلال دلالات وتطور الألفاظ) بنحو متباين ذهنياً.

علم اللغة وطرق التفكير والتعبير
إن اكتشاف اختلاف طرائق "التفكير"، من لغة إلى أخرى، إنما هو واحد من أعظم الاكتشافات التي توصل إليها الباحثون في العصر الحديث. ففرنسيس بيكون، الفيلسوف الإنجليزي الذي يُعد عن حق واضع أسس العلم الحديث، يؤكد تأكيداً جازماً على أن الكلمات تتضمن "تفكيراً" معيناً (تتضمن تفكيراً سيئاً، تفكيراً هو شعبي وغير علمي). من ناحية أخرى، كان هردر Herderقد أشار إلى أن الأفكار "ملتصقة" التصاقاً وثيقاً بالكلمات. وبعد زمن قصير من ذلك، أشار جون لوك إلى أن الكلمات الدارجة في اللغات المختلفة ترتبط بـ"الأفكار" ارتباطاً وثيقاً حتى وإن بدت هذه الكلمات تعبر عن ذات الأمر كما هو بين عند المقارنة بين الكلمات الإنجليزية foot(قدم) وhour(الساعة الزمنية) ومرادفاتها اللاتينية pes(القدم كأداة لقياس الطول) وhora(ساعة العبادة في الكنيسة الكاثوليكية). وكان لوك، من ناحيته، قد أشار إلى أن هذا الوضع لا يناسب، أصلاً، متطلبات البحث العلمي ومتطلبات حركة التنوير. إلا أن أهم الشارحين لأفكاره، أعني لايبنتز Leibniz، كان قد رأى في التباين القائم بين مدلولات وتطور الألفاظ في اللغات المختلفة "تنوعاً عظيماً ينتاب العمليات التي ينهض بها العقل الإنساني"؛ ولهذا السبب أيضاً، ناشد لا يبنتز المتخصصين أن يتولوا تقديم وصف لكافة لغات العالم. ولا غرو في أن هذه المناشدة كانت بمثابة شهادة الميلاد بالنسبة لنشأة علم اللغة الحديث.
بيد أن علم اللغة لم ينقب عن التنوع العظيم الذي ينتاب العمليات التي ينهض بها العقل الإنساني في متن اللغة فقط، بل وفي القواعد النحوية، أيضاً، أي في المادة المميزة لكل واحدة من لغات العالم: فالعمليات الفكرية التي ينتهجها بنو البشر تختلف باختلاف اللغات التي يتحدثون بها. فالناطق بالفرنسية، أعني الشخص الذي لا مندوحة له من استخدام أزمان الفعل المختلفة عند روايته لقصة معينة، لا "يفكر" بنفس الطريقة التي يفكر بها الناطق باللغة الألمانية، الذي يستخدم عند روايته لقصة معينة زمناً واحداً، الفعل الماضي فقط. أضف إلى هذا، أن من يروي بالفرنسية قصة معينة، يميز بين ما هو المقدمة التمهيدية في القصة وما هو الموضوع الأساسي فيها: فالفرنسي يستخدم عند الحديث عن المقدمة التمهيدية الماضي المستمر ، هذا في حين أنه يستخدم الماضي البسيط عند روايته للحدث الأساسي.
وربما لن يستطع أحد أن يضاهي فلهلم فون همبولدت من حيث قوة إشادته بالاختلافات الفكرية القائمة بين اللغات، فهو رأى في هذه الاختلافات ثروة عظيمة تتميز بها الطاقة العقلية البشرية. فقد كتب قائلاً:
"إن تعدد اللغات لا يعني أننا إزاء تسمية للشيء الواحد بعدد اللغات المعنية؛ إننا هنا إزاء وجهات نظر مختلفة بشأن ذات الشيء.... بهذا المعنى، فإن تعدد اللغات يشكل، بنحو مباشر، نمواً مضطرداً في ثروة العالم وفي تنوع ما نلاحظه في هذا العالم؛ فمن خلال هذا التنوع، تزداد اتساعاً، دائرة الوجود الإنساني أيضاً؛ وهكذا، تظهر لنا أنواع جديدة من طرائق التفكير في سجايا محددة وواقعية."

أسطورة التحدث بلغة واحدة!
إلا أن أنصار الفكرة القائلة بأن آلية التركيب المعرفي سجية غريزية يتصف بها كل بني البشر يعترضون على هذا الاكتشاف الذي صار من مسلمات الأمور بقدر تعلقه باللغة. فالاختلافات القائمة بين اللغات من حيث دلالات وتطور الألفاظ ما عادت بالنسبة لهؤلاء اختلافات في طرائق "التفكير". من هنا، لا مندوحة للمرء من أن يسأل هؤلاء: ماذا نقول إذاً، حين يميز الفرنسيون بين المقدمة التمهيدية في القصة وبين متنها؟ أو حين يفرق الإنجليز بين لحم الخنزير المقلي في المقلاة فيسمونه porkوالخنزير الحي، فيسمونه pig، خلافاً للألمان الذين لا يجرون أي تمييز من هذا النوع؟ إن اعتراض دعاة النظرية الشمولية محق في تحذيره من مغبة الإعلاء من شأن هذه الاختلافات بأكثر مما ينبغي وإساءة استخدامها لاستخلاص مزاعم أيديولوجية منها (بشأن "عقلية" بعض المتحدثين بلغات معينة على سبيل المثال). فهذا المسلك ضار ويثير الفزع والريب فعلاً.
إن المرء في أوربا، والعالم الغربي عامة، كان ولا يزال يعتقد بما ذهب إليه الثوار الفرنسيون: اختلاف اللغات عقوبة نزلت ببني البشر كما تروي ذلك الأسطورة المذكورة في العهد القديم. فلمعاقبة الإنسان على تكبره، نزل الرب وبلبل لسان بني البشر؛ فحتى ذلك الحين كان بنو البشر، بحسب هذه الأسطورة، شعباً واحداً ولساناً واحداً، أي أنهم، جميعاً، كانوا يتكلمون في الجنة بلسان واحد. بهذا المعنى، فإن اختلاف اللغات كان يُراد منه الحيلولة دون توافر كافة بني البشر على لسان واحد للتواصل وتبادل المعلومات. وهكذا، وعلى خلفية هذا المنظور، صار إلغاء هذه العقوبة، المذكورة في العهد القديم، أعني العودة ثانية إلى التحدث بلغة واحدة – في داخل الدولة الواحدة على أدنى تقدير – يعني السعي إلى العودة إلى نعيم الجنة.
وعلى خلفية هذه الأسطورة بعيدة الأغوار في ثقافتنا، هذه الأسطورة التي تعكس حنين بني البشر إلى التحدث بلغة واحدة، لغة يفهما الجميع، يواجه أولئك، الذين يتمنون وجود لغات كثيرة، مصاعب جمة. وكما سبق أن بينا، فإن لايبنتز كان واحداً من أولئك الذي يتمنون وجود لغات كثيرة. ففي سياق رده على شكوى مفكري حركة التنوير - والأصوليين المسيحيين – من تعدد اللغات، يدعو لايبنتز إلى ضرورة تقبل تنوع اللغات عن طيب خاطر، فهذا التنوع شاهد على ثراء العقل الإنساني. بهذا المعنى، فإن بلبلة اللسان في بابل كان قد جسد فرصة طيبة وحسنة عظيمة!
ولكن، ما هي خلاصة كل ما قلناه؟ أتنطوي تعددية اللغات على ثراء أم على بلوى؟ على حسنة أم على عقاب؟ إن واقع الحال يشهد على أن تعددية اللغات تنطوي على كل هذه الأمور المتناقضة. فتعدد اللغات ينطوي على إثراء للفكر، إنه ثروة لثقافة بني البشر، وهو في الوقت نفسه، عقبة في طريق التواصل وتداول للمعلومات. إنه كلا النقيضين في آن واحد.
وأبان لنا لايبنتز أيضاً الطريقة الصائبة لاجتثاث جذور هذا التناقض. فبرغم غبطته الكبيرة ببلبلة اللسان في بابل، كان لا يبنتز من محبي الجنة: فمن أجل الوفاء بمتطلبات البحث العلمي والتبادل بين الدول على سبيل المثال، رأى لايبنتز أن توافر بني البشر على لغة عالمية أمر مستحسن بكل تأكيد. وأبدى لايبنتز اهتماماً كبيراً بالجنة من حيث أنها كانت ظاهرة من ظواهر الماضي السحيق. وفيما انحدر كافة بني البشر من سلالة الإنسان العاقل (Homo-sapien)الذي نشأ في أفريقيا، كما يؤكد على ذلك الانثروبولوجيون المتخصصون في التاريخ القديم، يعتقد لايبنتز أيضاً- وبالاتفاق مع العلماء المتخصصين بتاريخ اللغات - أن البشرية كانت تتحدث بلغة واحدة لا غير في الماضي السحيق، أي أن كافة لغات العالم مشتقة من لغة واحدة: من لغة اشتركت فيها مختلف الشعوب والأقوام. ومعنى هذا هو أن لايبنتز واثق كل الوثوق من أن كافة بني البشر يتماثلون تماثلاً تاماً فيما يتعلق اللغة وطرائق التفكير. وتبقى هذه الحقيقة قائمة، بحسب وجهة نظره، حتى وإن أخذنا بالاعتبار التنوع الذي طرأ على كلتيهما عبر التاريخ. وتصور الأسطورة اللغوية الثالثة الواردة في الأناجيل، أعني أسطورة يوم العنصرة (Pfingsten)، بنحو جميل قصة ائتلاف النقائض: ففي يوم العنصرة لا تتلاشى التعددية اللغوية البابلية، ولا ترجع البشرية إلى الفردوس المنشود، بل تتغلب على العائق الذي يعيقها عن التواصل وتبادل المعلومات، وذلك لأن المرء صار يتكلم بلغات أخرى غير لغته الأم (فقد ورد في الكتاب المقدس/أعمال الرسل: "... فامتلأوا كلهم من الروح القدس، وأخذوا يتكلمون بلغات غير لغاتهم، على قدر ما منحهم الروح القدس أن ينطقوا ". وهكذا، فلكي تتوافر البشرية على طرائق تفكير موحدة، فإنها ليست بحاجة إلى "لغة موحدة" أبداً. فالروح (القدس) الواحد، الروح (القدس) العالمي، يتجسد في كافة الأصوات المنطوقة وفي أرواح كافة الشعوب. إن يوم العنصرة يبين لنا أن الظاهرتين متلازمتان ويتبع بعضهما بعضاً: أعني أن وحدة اللغات التي تتحدث بها البشرية واختلافها أمران مترابطان ترابطاً وثيقاً.
بيد أن الزمن الحاضر يحابي ظهور لغة واحدة تلبية، من ناحية، لمتطلبات المنظور العلمي، ومن ناحية ثانية استجابة لمتطلبات المنظور السياسي؛ وربما، من ناحية أخرى، لأن المشاريع البابلية الطابع - بناء على تعددية اللغات وعلى خلفية ما حل ببابل من بلبلة لسان بني البشر – قد بلغت النهاية في كلا المنظورين: فبعدما انتهت العلوم اللغوية من وصف الاختلافات اللغوية، راحت تتساءل عما إذا كان ثمة أمر مشترك بين هذه اللغات عظيمة العدد. على صعيد آخر، صار التجزؤ إلى أمم وشعوب مختلفة من حيث اللغة، مشروعاً سياسياً يتسم بإشكاليات لا يستهان بها، مشروعاً يمكن الخلاص منه عبر المنظورات العولمية، المتخطية كافة الانتماءات الدولية. بهذا المعنى، فإن النظرية الشمولية السائدة في الدراسات اللغوية، هذه النظرية التي تقلل من شأن التباينات وتؤكد على الوحدة، تلبي بنحو عظيم جداً، متطلبات العولمة اللغوية والثقافية. أضف إلى هذا، أن هذه النظرية الشمولية تحابي حالياً الاهتمام العظيم الذي يحظى به السؤال عن أصل اللغة، تحابي السؤال الذي هو، هيكلياً، سؤال عن الجنة دائماً وأبداً . (أي التحدث بلغة واحدة في العالم برمته).
إن اختلاف اللغات، إن بلبلة لسان بني البشر – سواء كانت هذه البلبلة نعمة أم عقاباً – لم يجر التغلب عليه حتى الآن طبعاً: فالتقديرات تشير إلى أن ثمة 6000 لغة. وعند إمعان النظر في هذا الرقم الكبير لا مندوحة للمرء من أن يأخذ بالاعتبار أن من الصعوبة بمكان تحديد أين تنتهي حدود هذه اللغة وأين تبدأ حدود اللغة الأخرى، وما إذا كنا حقاً إزاء لغة قائمة بذاتها أم إزاء لهجة أو لهجات دارجة في هذه اللغة. ومع ضخامة الرقم المذكور، فإن من مسلمات الأمور هو أن الكثير من هذه اللغات ستنقرض في المستقبل المنظور. فالنظام المتحكم بالعالم الراهن يحتم ذوبان الجماعات الصغيرة في الجماعات السياسية الأكبر حجماً. وتسري هذه الحقيقة، أيضاً، على اللغات التي تتحدث بها الجماعات الصغيرة. وكان البعض قد رأي أن انقراض اللغات على شبه كبير بتراجع تنوع الكائنات الطبيعية في البيئة التي يعيش بنو البشر في كنفها. وليس ثمة شك في أن انقراض اللغات يقلص ثراء العقل الإنساني، هذا الثراء الذي حظي باهتمام لايبنتز واهتمام فلهلم فون هومبولدت من بعدُ. فمع انقراض كل واحدة من لغات العالم، تنهار منارة من منارات الفكر الإنساني؛ تخسر الإنسانية أسلوباً من أساليب التفكر بالعالم الذي يحيط بنا. فكما أن مياه النهر تجتاح، عند تشييد سد جديد، القرية القديمة والمعبد العظيم والمدينة الرومانية المهمة، كذلك تدك لغات الجماعات الكبيرة لغات الجماعات الصغيرة وتسحقها. ولكن، هل يحق للمرء فعلاً أن ينصح المزارع البريتاني بعدم التحول صوب اللغة الفرنسية وبضرورة أن يبقى أطفاله يعيشون في ظلال الصورة التقليدية التي تتطلبها الحياة في كنف المجتمع البريتاني؟ وعلى ما يبدو، فإن البريتانيين يعتقدون بأن المكسب الذي يحققونه من جراء تخليهم عن لغتهم أكبر بكثير من الخسارة الذي سيتكبدونها من جراء تحولهم صوب اللغة الفرنسية. فتحولهم إلى اللغة الفرنسية يعني أنهم صاروا يتحدثون بلغة ثقافية عظيمة المكانة، صاروا يتمتعون بفرصة الارتقاء اجتماعياً، صاروا ينتمون إلى أمة أكبر. وخلافاً لهذا كله، فإنهم سيخسرون، طبعاً، شيئاً من "هويتهم الوطنية"، سيخسرون تاريخهم وقصصهم وأناشيدهم وطرائق "التفكير" التي تحددها لهم لغتهم (وهذا هو بالضبط، أعني الخطاب العتيق (oldspeak)، أي التفكير العتيق (oldsthink)، هو الأمر الذي كان ينبغي محوه نهائياً بحسب تصورات ثوار عام 1789 ومساعيهم الرامية إلى توحيد الجميع في بوتقة واحدة). بيد أن اللغات (الكبيرة) لن تبق بمعزل عن هذه الديناميكية بكل تأكيد؛ فهي أيضاً سيغمرها المد العالمي العظيم الذي تتمتع به بعض اللغات. حقاً لا تزال هذه اللغات (الكبيرة) تقاوم هذا المد كما لو كانت جزراً تقف شامخة في مواجهة أمواج البحر المتلاطمة. ولكن، هل بمستطاعنا، فعلاً، رفض المشاركة في عملية الاتصالات وتبادل المعلومات عالمية الأبعاد؟ لن يكون بوسعنا هذا بكل تأكيد. ومع هذا، لا مراء في أن انضواءنا تحت راية الانفتاح السائد في العالم الفسيح، أن انتقالنا إلى الجنة، سيعني أننا سنخسر – مثلنا في ذلك مثل المزارع البريتاني – هويتنا، سنخسر خصوصيتنا وأننا سنخسر، بالتالي، الفرصة، أيضاً، لأن نفكر ونحيا "بنحو مختلف".
وهذا هو معنى الحياة في الجنة، فهاهنا ليس المرء بحاجة لأن يفكر أو يحيا بنحو مختلف عن الآخرين؛ فالخيارات الأخرى لا ضرورة لها هنا. بهذا المعنى، لن يكون هناك وجود للمتناقضات. ولكن، وبما أن الأمور لا تزال لم تصل بعد إلى هذه الحال بالكامل، سنواصل افتراض استمرار وجود الأمور المتناقضة التي أشرنا إليها أعلاه.
يورغين ترابانت:
أستاذ علوم اللغات الرومانية في جامعة برلين الحرة. والمقالة مأخوذة من كتابه : " ماهي اللغة؟" ميونخ عام 2008، دار نشر C. H. Beck



شذرات أميل سيوران- ترجمة واعداد عدنان المبارك


شذرات
أميل سيوران



ترجمة واعداد عدنان المبار


- الحالات المرضية تسّهل علينا الاتصال بالواقع الميتافيزيقي الذي لا يفهمه الانسان السليم أبدا. أكيدة هي تدرجات الأمراض من ناحية القدرة على الظهور. وليست جميعها تمكّن من قيام تجربة طويلة و شديدة لملازمة الموت في الحياة ، كما لا تظهر الأمراض في أشكال تتشابه فيما بينها.
- الاعتراف الحقيقي يمكن كتابته بالدموع حسب.
- الانسان الناجح هو على المستوى الروحي بلا فرص. فالأعماق هي امتياز للذين يعانون فقط.
- حين يؤكد أحدهم بأن مشاعر الاستياء غريبة عليه ، تأتيني رغبة في أن أصفعه وأظهر له بأنه مخطيء.
- الفرق بين منظّر الدين والمؤمن كبيرة كما بين الطيبيب النفساني و المجنون.
- ليس كل شيء ضائعا طالما أننا غير راضين عن النفس.
- أشعر بحاجة كبيرة الى قطع الصلات من الكثيرين ، مع جميع الأصدقاء أولا، بعدها أصرف النظر ، فالزمن سيتفرغ لهذا الأمر.
- لغاية الآن قدمت برهانا واحدا على الشجاعة : لم أنتحر.
- حين تنتفي رغبة الانسان في أن يحيا بنشاط ، يحتمي بالموسيقى أي بالعناية الألهية لدى مرضى فقدان الارادة أو ضعفها.
- يعتقد الانسان بأنه يقترب من هذا الهدف أو آخر ناسيا أنه في الواقع يقترب من الهدف الصحيح الى التفسخ الذي هو غاية الأخرين جميعا.
- الانسان مغامر ولذلك لابد من أن يكون مصيره سيئا.
- ماذا تفعل ؟ - أنتظر النفس
- أن تكف عن الوجود لايعني هذا ولايمكن أن يعني أيّ شيء. أذن لم الانشغال بما يعقب اللاواقع ، بمظهركاذب يأتي بعد آخر كاذب ؟ في الجوهر يكون الموت لاشيئا ، وفي أحسن ألأحوال هو مزّيف للسرّ مثل الحياة تماما. أنه مجرد دعاية ضد ميتافيزيقية للمقابر...
- ماذايريد هذا العابر ، لم يحيا ؟ وهذا الطفل مع أمه ، وهذا العجوز ؟
أثناء نزهتي الملعونة لا أحد قد عثر على الشفقة في عيني . وفي الأخير رحت الى المسلخ حيث كان معلقا على االكلاّب شيء يذكر بنصف ذبيحة ثور . حينها كدت أجهش بالبكاء.
- عند أقل قدر من الحظ السيء ، وخاصة عند أقل قدر من الهموم ، ينبغي بلاتردد التوجه الى أقرب مقبرة ، فهي المجهّز الفوري بالسكينة التي من العبث البحث عنها في مكان آخر. أنه علاج ناجع بشكل استثنائي.
- لو انسقت لأول رد فعل لقضيت اليوم في كتابة رسائل مهينة ووداعية.
- لنكن عقلاء : ليس بمقدر أيّ أحد أن يشفى تماما من جميع الأوهام ، ولأنعدام الخيبة العمومية لا ينبغي الآستنتاج يخصوص وجود تعرّف عمومي أيضا.
- أن تكون المسمّى بقاتل الرب هو الشتيمة الأكثر مديحا التي يمكن منحها للفرد أو الشعب.
- السرّ لا يعجبني ولأن كل شيء يبدولي غير قابل للتفسير، ماذا أقول ! ، أنا لاأحيا على الأمورغير الموضحة وأشعر بالشبع هنا.
- قدر كل واحد تحقيق الكذب وكيف تجسيده والوصول الى حالة يكون فيها محض وهم مستهلك ( بفتح اللام ).
- كل شيء زائل - Sarvam anityan ( بوذا ). صياغة ينبغي تكرارها في كل ساعة من النهار حين تقوم بمجازفة تستحق الاعجاب : أن تفنى.
- لا أزال أتنفس وآكل الطعام لكني فقدت كل ما أضفته الى الوظائف البيولوجية . هذه الحالة لاتعني سوى الاقتراب من الموت.
- حين تعيش أكبر نجاح أو هزيمة تذكر كيف حصل اخصابك. ليس هناك من وسيلة أحسن من هذا التذكر سواء في حالة أقصى الفرح أو الهمّ.
- اللامنتهى يدخل الاضطراب عليك ، يهزّك ، يقطع جذور أناك ، لكنه يأمرك بأن لا تبالي لكل ما هو ايماءة غير جوهرية ، وصدفي ولايعني شيئا.
- لا أحد بمكنته أن يملك تجربة اللامنتهى ومن دون دوار الرأس ، من دون اثارة عميقة يكون من المحال نسيانها.
- لا أقبل بتمرد نسبي على الظلم ، لكني أقبل بالتمرد الأبدي وحده
. فالأبدي هو البؤس بين البشر.
- ليس هناك من حيوان يهزأ من آخر شبيه به مثل قطرتي ماء. الانسان وحده قادر على مثل هذا الاحتقار الذاتي.
- السخرية الذاتية لاتتحقق عبر الابتسامات بل التحسرات وحتى لو كانت مكتومة ، فهذه السخرية هي تعبير عن اليأس.
- الساخر يحنق ويصيبه الاحباط ويسمّم ، حين يعجز ، بسبب كبريائه البالغ الكبر ، عن اظهار اعجابه بالبساطة والغيرة . لذلك تبدو لي السخرية المرّة والمفجعة والاحتضارية حقيقية أكثر من الأخرى الصافية التي تنبع من شكوكية سهلة مولعة بالحالة العابرة والضبابية وازدواج المعنى وتتغذى على الوضوح والمودّة.
- كيف بمقدوري الكلام عن الجمال والقيام بتمحيصات أستيتيكية طالما أني حزين وبصورة مميتة... وفقدت أحد مكونات الوجود - الجمال. وبهذه الصورة تفقد ، أيها الانسان ، كل شيء تدريجيا...
- أن تكون مريضا يعني أنك تحيا في الذرى سواء أردت أو لم ترد.
- اليأس هو قمة فعل الفردية ، والارتداد المؤلم الذي تسببه الوحدة ، الى الداخل حيث في الذرى عزلة الانسان في العالم.
- أليس هو أمر لايطاق حين تطرد الأسراب البشرية جميع الأنواع الأخرى ؟
- ربما لم أفعل شيئا في الحياة بسبب أن الفكرة عن الموت قد حررتني وشلّتني في الوقت نفسه. من غير الممكن عمل أيّ شيء وممارسة المهنة حين يحصل التفكير بالموت. أيمكن فقط العيش وكما عشت أنا ؟ على هامش كل شيء تماما كالطفيلي . لقدرافقني ، دائما ، الشعور باللانفع، وانعدام الهدف. قد يقول أحدهم انها حالة مرضية ، لكنها مرضية فيما يخص النتائج و ليس من وجهة النظر الفلسفية . فلسفيا يكون حالة طبيعية عقم كل شيء.
- لم أعرف أبدا تصوّر المستقبل ، لم أملك فكرة عما علي عمله فيه. ينبغي تصور مهنة ما معقولة لكني شعرت بأني عاجزعن العمل المنهجي.
- لكان لي من الأفضل العيش برفقة الحيوانات و بسطاء الناس الذين هم الرعاة.
- وحتى الحيوان قد يكون أكثر عمقا من الفيلسوف ، أي قد يملك تحسسا أعمق بالحياة.
- انا أفتقد قابلية أن أكون حكيما لكن رغبتي كبيرة في الحكمة.
- أنا شخص سلبي لايعرف التدخل كما أني لا أعرف المسؤولية ، ولدي خوف من أيّ شكل للمسؤولية .فالتفكير بها وحده يجعلني مريضا.
- لماذا لم نبق حاملي قمل مرحين برفقة الحيوانات.
- هي حقيقة بأني أشعر بشفقة حارة بل مريضة لجميع الكائنات وبضمنها الانسان ، وأجد أن الوقت قد حان كي يختفي ونبكيه.
- خرجت من البيت كي أذهب الى أحدى الكنائس . رحت الى جنب نوتر- ديم Notre-Dame لكني لم أرغب الدخول اليها. أواصل السير وكلي خدر. وفجأة انتبهت الى فلم بورنوغرافي . أدخل الى دار السينما التي ملؤها عمال أجانب. كان الفلم يدعو الى الرثاء بل مقززا لكن في مثل هذا اليأس وجدت أني بحاجة الى ذلك. هذاعبث. خاطبت النفس : حضارة تنتج مثل هذه الأفلام هي على حافة السقوط.
- نرتجف عند التفكير وحده برذائل الحيوان بينما الأخرى البشرية هي أسوء بكثير.
- لم أعمل في أيّ مهنة ، وأضعت الكثير من الوقت. الا أن الخسارة كانت في الواقع كسبا. الانسان الذي يواصل البقاء على الهامش والذي يتصرف خلافا لتصرف الآخرين ، يبقى محتفظا بفهم شيء من العالم.
- كل ألم يمكن نسيانه لكن ليس الاذلال.
- لماذا حمل القناع طالما ليس هناك وجه ؟
- الكتابة لا تعني التفكير ، انها تقليد mimicry أو تقليد الأفكار في أحسن الأحوال.
- عرفت السعادة بفضل أحدهم ، ومنه ستعرف الشقاء أيضا.
- مبارك من قبل الآلهة من لا يكون متعلقا بأيّ أحد.
- لا تضع الوقت بانتقاد الآخرين والهجوم على أعمالهم ، استغل الوقت في عملك ، كرّس له كل الساعات. أما البقية فهي محض لغو أو فبركة. حافظ على ما هو حقيقي فيك بل وحتى أن يكون ( أبديا ).
- هناك ليال ملؤها العذاب الى درجة أنه ينبغي عليك أن تغيّر لقبك في الصباح ، فهو ليس اللقب نفسه.
- الخشية من تكون أحمق هي الصيغة العمومية للبحث عن الحقيقة.
- الشخص الأكثر مهانة في التأريخ هو يوسف ، أب المسيح. المسيحيون أبقوه جانبا وجعلوه مسخرة للرجال. ولو أن يوسف هذا قال الحقيقة مرة لبقي أبنه يهوديا لايعرفه أحد. وهكذا فلانتصار المسيحية جذوره في أنعدام الكبرياء لدى رجل معيّن. و الحبل بلا دنس The Immaculate Conception جاء من ورع devotion العالم وجبن الرجل.
- يملك الموت معنى للناس الذين عشقوا الحياة. فأن تموت وليس هناك من شيء تفارقه ؟
- ينقسم البشرالى مرتبتين : باحثين عن معنى الحياة ولم يعثروا عليه ، و آخرين عثروا عليه من دون بحث.
- الوجود الذي لايملك جنونا عظيما لاقيمة له.
- الدموع تحرق كالنار لكن في الوحدة حسب.
- لو كنت قدانقدت الى دوافعي لكنت اليوم نزيل دار المجانين أومشنوقا.
- أن تسّمى بقاتل الرب هو الشتيمة – المديح الأكبر الذي من الممكن منحها للفرد أو الشعب.
- قدر كل واحد تحقيق الكذب الذي يجسّده ، والوصول الى ذلك الوضع الذي يكون هو فيه مجرد وهم مستهلك.
- لأن الموت ملازم للحياة تكون هذه كلها على وجه التقريب ، احتضارا.


رواية ''نجوم سيدي مومن'' للكاتب المغربي ماحي بنبين:رواية ''نجوم سيدي مومن'' - الفقر والبؤس أرض خصبة للإرهاب- ترجمة: رائد الباش




رواية

  رواية ''نجوم سيدي مومن'' للكاتب المغربي ماحي بنبين:رواية ''نجوم سيدي مومن'' - الفقر والبؤس أرض خصبة للإرهاب

ترجمة: رائد الباش

كلاوديا كراماتشك



استلهم الكاتب المغربي ماحي بنبين روايته "نجوم سيدي مومن" من قصة الانتحاريين الذين قاموا بتفجيرات الدار البيضاء. ورسالته في هذه الرواية هي إذا لم يتم تغيير الفروق المتزايدة بين الأغنياء والفقراء فسيكون لدينا دائمًا مرشَّحون من سيدي مومن للقيام بأعمال إرهابية. كلاوديا كراماتشك تستعرض هذه الرواية.

تغيَّر المناخ السياسي فجأة في المغرب عندما ابتليت مدينة الدار البيضاء المغربية في السادس عشر من شهر أيَّار/مايو 2003 بسلسلة من التفجيرات المنسَّقة. وحتى ذلك كانت المغرب بمنأى عن الإرهاب، ولكنها وجدت نفسها فجأة مستهدفة من تنظيم القاعدة الذي اشتُبه بضلوعه خلف هذه التفجيرات لأنَّها لم تستهدف سوى أهدافًا يهودية وغربية. وحينها سارع الملك محمد السادس في الإعلان عن محاربة الإرهاب وكذلك عن مهام مهمة مثل نشر الديمقراطية وتحديث بلاده. وفي الواقع كانت هذه الهجمات ذات دوافع إسلاموية وكان مرتكبو التفجيرات الذين يبلغ عددهم ستة عشر شابًا وقد قتل منهم اثني عشر شابًا في هذه الهجمات أعضاءً في المنظمة السرِّية "السلفية الجهادية" المحظورة في المغرب والتي ما تزال الحكومة المغربية تتَّهمها حتى يومنا هذا بأنَّ لها اتصالات مع تنظيم القاعدة الإرهابي.
ولكن أيضًا ربما تكون هناك دلالات كثيرة على أنَّ جميع الشباب الستة عشر الذين نفَّذوا هجمات الدار البيضاء هم من منطقة سيدي مومن مثلما نقرأ ذلك في الخاتمة التي كتبتها ريغولا رينشلر تعقيبًا على الترجمة الألمانية لرواية ماحي بنبين "نجوم سيدي مومن". وكان هذا الروائي والفنَّان التشكيلي المولود في عام 1959 في مراكش مصدومًا مثل الكثيرين من المغاربة بسبب استعداد هؤلاء الشباب للموت. وقبل هذه الأحداث بعام واحد فقط، أي في عام 2002 عاد ماحي بنبين إلى وطنه. ومنذ عام 1980 عاش كثيرًا أو قليلاً بصورة مستمرة في باريس. وهذا الروائي الذي يفضِّل تسليط الضوء في رواياته على الأشخاص المهمَّشين اجتماعيًا بدأ البحث في منطقة سيدي مومن التي كان يعود إليها مرارًا وتكرارًا.
الحياة في مكبَّات القمامة
وفي العام 2010 صدرت روايته "Les Étoiles des Sidi Moumen" (
الفقر وفقدان الأمل عوامل تدفع إلى الإرهاب - يتتَّبع ماحي بنبين في روايته "نجوم سيدي مومن" أسباب انتشار التطرِّف في الإسلام لدى جيل الشباب. نجوم سيدي مومن) بطبعنها الأصلية باللغة الفرنسية - وكانت محاولة شخصية من ماحي بنبين لفهم الأسباب الأساسية لمثل هذا الإرهاب وذلك من خلال محاولته إظهار الظروف التي ينشأ في ظلها هؤلاء الشباب ومنحهم صوتًا. وفي منطقة سيدي مومن التي تعتبر مجرَّد مكبًا كبيرًا للنفايات يعيش أيضًا بطل روايته ياشين الذي يقضي الليل مع أسرته المكوَّنة من ستة أفراد في غرفة ضيِّقة جدًا تملأوها رائحة العرق والنفثالين والشخير. وفي المقابل يلعب هذا الصبي الذي يبلغ عمره اثنى عشر عامًا طيلة النهار فوق جبال النفايات مع أصدقائه في فريق كرة القدم "نجوم سيدي مومن" - يقضون لحظات سعيدة في وسط الموت والتعفّن، لحظات لا يخفيها ماحي بنبين.
ولكن الله مثلما يقول ياشين لقد أدار وجهه منذ فترة طويلة عن منطقة سيدي مومن. وهناك على وجه التحديد يعود مثلما يعترف في موضع من الرواية "قابض الأرواح إلى الحياة اليومية". ولم يكن ذلك مخيفًا، حيث كان الناس يأتون ويذهبون ويعيشون ويموتون من دون أن يتغيَّر أي شيء في أحوالهم التعيسة، مثلما يقول ياشين: "جعلناه ملكنا وكان ضيفًا علينا يستريح في بيتنا - كان الموت حليفنا، يخدمنا ونحن نخدمه".
ولكن يوجد - مثلما يظهر لنا ماحي بنبين بالاعتماد على شخصياته الموصوفة وصفًا واقعيًا ومع ذلك لا يختصرهم باعتباهم حملة أفكار - مرافقون آخرون يرافقونهم في حياتهم اليومية: مثل الذل الذي يعني في العادة عنفًا ويأسًا وعبثًا أسريًا وأبويًا. وعلى سبيل المثال يتعرَّض علي صديق ياشين للضرب بشكل منتظم من قبل والده، وأمَّا الصبي الجميل نبيل الذي يعتبر ابن المومس المقيمة في هذه المنطقة فهو موضع ازدراء ورغبة في الوقت نفسه، وذات يوم يغتصبه ياشين وأصدقاؤه بوحشية عندما تعاطوا المخدرِّات.
وإذا تتَّبعنا رواية ماحي بنبين الذي يريد بطبيعة الحال التوصّل إلى نتيجة عامة متجاوزًا هذه القضية المحدَّدة، فسنلاحظ أنَّ الإسلامويين يستغلون على وجه التحديد هذه الأجواء القمعية في عالم خالٍ من المستقبل الواعد. وفي يوم من الأيَّام يتعرَّف حميد شقيق ياشين الأكبر على رجل مستعد لتقديم المساعدة وقوي التأثير اسمه أبو زبير ويطلق عليه لقب "الأمير".
أساليب الجهاديين المضلِّلة

"كان الموت حليفنا" - قتل في سلسلة التفجيرات الانتحارية في مدينة الدار البيضاء المغربية في شهر أيَّار/مايو 2003 ما لا يقل عن واحد وأربعون شخصًا. وهكذا سارع الأمير أولاً في إيجاد عمل لياشين وأصدقائه وثم أرشدهم إلى "السراط المستقيم" وعلَّمهم الكونغ فو وبعد فترة قصيرة لم يعد لديهم أي مجال من أجل أي شيء آخر ما بين وقت الصلاة والعمل. وعندما سمح أخيرًا لياشين وأصدقائه بالسفر إلى "معسكر تدريب" كانوا يتعلَّمون فيه كيفية استخدام الأسلحة وتعهَّدوا أمام صور من فلسطين مقسمين بأداء واجبهم كمسلمين جهاديين، كانت هذه مجرَّد نتيجة منطقية للتلقين الذي خضعوا له بعناية.
وبناءً على ذلك يظهر ماحي بنبين لقرَّائه أساليب الجهاديين المضلِّلة التي يتم من خلالها تجنيد الجهاديين المستقبليين. ويظهر كذلك أنَّ الفقر يمكن أن يشكِّل أرضًا خصبة للإرهاب - من دون أن يبرِّر الإرهاب بذلك. ولكنه يجعلنا قبل كلِّ شيء نغوص بعمق إلى تفكير ياشين وذلك من خلال محطات تلقينه التي تتم بشكل تدريجي. وهذا يمكِّننا من الشعور بشكل العالم بالنسبة للجياع الذين يتوجَّهون ببطء ولكن بثبات نحو الجهاد؛ فحيثما نرى الكراهية والحقد يشعر ياشين لأوَّل مرة بلحظة مفعمة بشعور الكبرياء والكرامة.
"نهاية حياة الكلاب"
وفي اللحظة التي نشاهد فيها أمام أعيننا موت ياشين المحقَّق، يشعر هو من جانبه بأنَّه قد صار لحياته معنى بعيدًا عن حياة الشوارع ويقول: "نحن فتحنا قلوبنا لله وقد ملأنا هو بروحه. هذه نهاية الشقاء ونهاية البلطجة والشجارات والمعارك الغبية، نهاية حياة الكلاب التي نعيشها في قمامة الكفار". وياشين يصف نهاية طريقه القاتلة حيث يموت في سنِّ الثامنة عشر، وبالمناسبة يتذكَّر وفاته كقتيل. وهذه الحيلة تمكِّن ماحي بنبين من النظر إلى الإرهاب من الخارج وكذلك أيضًا من الداخل إلى الخارج بالإضافة إلى تفسيره. وذلك لأنَّ ماحي بنبين - الذي لا يبالغ في الوصف ولا ينتقل أحيانًا إلى الميلودراما إلاَّ في نهاية روايته هذه التي ترجمتها ريغولا رينشلر عن قناعة - لا يريد التبرير ولا الإدانة.
وليس لهذا السبب وحده يصوِّر أيضًا الجانب السعيد في الحياة داخل منطقة سيدي مومن. حيث يوجد هناك أطفال - مثلما تخبرنا روايته - يتوقون إلى حياة طبيعية؛ أطفال يصبحون مجرمين بيد أنَّهم في نهاية المطاف يعتبرون ضحايا لسوء الأحوال الاجتماعية. وطالما لن تتغيَّر هذه الأحوال ولن يتجاهل المجتمع هذه الفجوة المتزايدة بين الأغنياء والفقراء، فسيكون هناك دائمًا مثلما يحذِّر ماحي بنبين وبصيغة خفية مرشَّحون جديد من منطقة سيدي مومن حتى يحصد أرواحهم ملك الموت.

 

الأحد، 11 سبتمبر 2016

أختام *-عادل كامل
















أختام *





 الختم الثالث




عادل كامل
 [15] ماذا خلف الذي لا وجود له..!
    في الختم القديم، وفي ما أصبح نصا ً معاصرا ًـ مع تزايد مناهج القراءة وتنوعها حد التقاطع ـ لم يتم إعلاء شأن اللا قصدية/ والعشوائية/ والنص في ذاته ـ درجة التأليه إلا للأسباب ذاتها الخاصة بالقصد، وأنظمته. إن انتشار المبررات الخفية للفوضى لا تذهب بعيدا ً عن قانون الاشتباك. فالمنتصرون الجدد ـ كما انتصر الصياد في النظام البري ـ لديهم ما يكفي للإيقاع بطرائدهم. فالحرية ليس أن تخرج إلى الشارع وتطلق النار عشوائيا ً، أو تكشف عن المكبوتات الداخلية، الحرية، ببساطة، كيف يستعيد النظام عمله، لا أن يعرقل. والمفارقة، هنا، لا تثير التباسات. فالمركز ـ بالدرجة الأولى ـ يلعب دوره، إن كان الهامش ـ أو أكثر منه ـ قد مهد لضرورة حضوره أو لأن المركز أدى دوره في فرض القواعد.
     على ان الختم لن ينغلق عند القصد: قصد الصانع، قصد الفن، بوحدة العناصر، وقصد المتلقي في التأويل. فمع انه أنتج في لحظة زمنية تضافرت فيها دوافع الانجاز، لن يصبح فائضا ً إلا بانتفاء العوامل التي كونته. على أن المندثرات تختفي كي ترفد حضورا ً منبثقا ً عبر تراكماته ـ وتحولاته، في أختام لها أنظمتها في: القصد ـ البناء الفني. أما الاضطراب ـ خذ مثال تصادم مجرتين ـ خارج حدود الأرض ـ ومجموعتنا ـ ونوعنا ـ فانا لا أراها إلا بعد ان تكون قد تركت ختما ً لا وجود له الا في تشكيل هذا الذي أكونه ـ وهو قيد الغياب. إنها سلسلة مترابطة تحكي ما لا يمكن فك ترابطه، إلا بحدود ما نمتلك من أدوات للعمل.
    ولنأخذ مثالا ً آخر قيد المشاهدة: احتراق متحف وتحول محتوياته إلى رماد،  فمن ذا سيعيد قراءة تلك المحتويات؟ انه مثال شبيه باستنطاق قائد معركة هلك هو وجيشه لسبب ما من الأسباب. هل كانت أهدافه تكمن في محق الآخر، لدوافع محددة، تمت بقصد، علما ً ان نزعة القائد كانت (إنسانية) على سبيل المثال ...؟ ان رماد المتحف، كرماد القائد، كلاهما يقودان لا لمعرفة أسباب الحريق ـ ولا ما يكمن في الرماد، ولا في الأصل، ولا في المشتغل بالعثور على الأسباب المباشرة، او الاقرب الى منهجه، بل للضرورة ذاتها التي منحت فعل المحو الدور الموازي لفعل الانبثاق.
     لنأخذ كوكبا ً كالأرض استحال إلى صخرة بحجم طابوقة بناء، كم من النتائج بإمكانها ان تجرب لفك شفرات القفل؟  لكن ماذا عن أثير نجم اضطرب وفقد ما كان عليه، هل ستولد العلاقة السببية ـ ذاتها ـ بين المفتاح والقفل ـ في نزعتنا للاستحواذ، والتملك ـ والفقدان؟
    أرى ان مجتمعات الصناع المهرة، ومجتمعات النخبة، ومن يؤدي دور كاتم السر ـ من الصياد إلى الزعيم ـ لن تسمح ان تتعرى أو تكون مكشوفة للآخر ـ إلا بحدود دفع القفل بعيدا ً عن عمل المفاتيح. إنها عملية لن تتوقف عند مقدماتها، كي تكون نهاياتها قابلة للفض ـ والتفكيك، بل لأنها كائنة في الصيرورة. وعشوائية المناهج، سترافق النظام ذاته في استحالة تحديد المقاصد، وسلاستها. فالتعقيد شبيه، مرة بعد أخرى ـ بمعرفة مكونات ما في الذرات من أجزاء لا مرئية كانت في لحظة سابقة ذات معان محددة!
    فهل باستطاعة 999% التعرف على ابعد من المعنى في ديمومة هذا التتابع، كقطيع وجد نفسه يمشي خلف قطيع، وكعناصر تشكلت لتكّون عنصرا ً آخر، وفي ظرف مغاير، كي تنتج شيئا ً مغايرا ً تماما ً! فأين هي تلك (الحرية) التي يتم المناورة فيها، وهل لها صدق حروفها بما تدل عليه الألفاظ...؟
    ستتعدد المفاتيح، لفتح القفل، لكن ماذا وراء الباب، هذا اذا كانت ثمة باب في الأصل!
[16] بحكم السابق على الغياب/ والحضور
    هل أصبحت مقيدا ً بالختم، كعلاقة المفتاح بالقفل، أم أصبح الختم أسيري، ولا مناص احدنا سيكمل وجوده مع/ في الآخر، حضوره وغيابه معا ً...؟ لقد سحرني بذهول الاتصال بين الشاخص وما يتضمنه، فلا الأخير صنع الراحل، ولا للراحل إرادة في هذه الديمومة. فلزمن طويل كان الماضي هو حركة مسار دار فيها مفتاح الزمن، تارة للدخول، وتارة للمغادرة.  وها أنا اشعر ان (اللغة) لا تؤدي إلا ما تعارفنا عليه: القطيعة. فهي تسمح لي برؤية فجوات بيني وبين المنجز. فجوات لا يمكن فصلها عن المنهج: الأسلوب بمكوناته. فالذرة لا تقع ابعد من ماضيها؛ هذا الذي لا يمكن تحديد ماهيته إلا وهو ممتدا ً ـ نحو ـ ماضيه المستحيل، لكن المؤكد تماما ً.
     بعض الموتى يموتون غرقا ً، والبعض يستحيل إلى رماد، وثمة من يتحول إلى أثير، عبر تحرر الذرة من ضوابطها، الأمر الذي يهدم مفهوم الحدود ـ ومفهوم الأشكال، ولا يجعل من التوهم إلا نسبية اضطرارية، فهل أكون قد عبرت عن نهاية عصر، بعد (حقبة من الصراع نسجت فيها اشتباكاتها تاريخها بالعلامات: آثار دالة على موقعها في المعادلة، وهي، أبدا ً، لا تخفي إلا ما سينبثق وكأنه يمتلك مسارا ً محددا ً. كالبركان ينفجر ويتفكك، من ثم، لن ينفجر هو ذاته، إنما ستكون ثمة براكين تمحو سابقاتها. حركة لا تعلن إلا عن محركاتها النائية. كوجودي لا يختبأ الموت فيه، إلا بحدود ما في الزمن من قوى لا زمنية. قوى لا مرئية ـ في الأخير ـ تعلن عن استحالة بلوغ خاتمة/ ذروة) أتساءل: هل تكون الحقبة ـ لا أنا حسب ـ قد غابت، بعد ان اعلنت عن حضور لا يمتلك الا كل ما انا ناء ٍ عنه..؟
     لأن التفسير، التأويل، لن يذهب ابعد من شاخص لا يخفي شيئا ً، وما دوّن فوق الصخر، وما دفن في التراب، لا يعني إلا ما ذكرته، سواء بسواء..!
     هل قلت شيئا ً يدل على لاشيء، أم اللاشيء غدا يقول شيئا ً؟ لنأخذ أي مثال: رأس في العراء/ نسوة يرقصن/ موتى/ امرأة وباب..الخ أشكال دالة على كيانات، وكيانات نسجت في أشكال: ليس لها طول أو عمق أو زمن أو عرض أو مشفرات فحسب، بل ما تتمتع فيه من قوة متجانسة (مبنية) بما يستحيل تحديد ما أعلنت عنه، أو ما أخفته. فأنا لا امتلك القبر إلا كعمل (الأنثى) لا تنجب إلا موتى، لكن التتابع، للحظة سكنها هذا كله، تبدو مضادة لعملها. فمن الرماد ـ كما من الماء وكما من القبر ـ تنبثق النار، إنما ليست هي العلاقة ذاتها، فالذي تغير، ليس القانون، بل الأشكال الدالة عليه.
     يا لها من نهاية درب سرت فيه مع 999% من الذين ولدت معهم، لأن اثري/ هذه الأختام، لن تعزل عن حفرتنا، وثمة من هو في مواجهة المصير ذاته، إنما قد تقلب المعادلة، وتتغير النسبة: 999% يعّولون على أمل ما، هو ذاته الذي تمسك به ذلك الذي صنع الأشياء الشبيهة بالختم: نقوش فوق عظام، ورسومات فوق الجدران، وليس هناك ضحية واحدة اشتغلت ان تمسك بما لا وجود له، إلا في حدود انبثاق نهاية للذي غدا بحكم السابق لا على الغياب، بل على الحضور!
[17] عبور: ناء ٍ عن الآثام!
     هل سمحت للخبرة، في القراءات وفي الممارسة، لأكثر من نصف قرن، ان تترك (الكيان) ـ كياني، لمناورة كل ما تعلمته، وان ترسخ في ّ، كي لا ادخل أقنعة الفن، وفجواته المشغولة بقوانين السلع، والدعاية، والانتشار..؟ وان شيئا ً ما، كالذي يسكن الزمن، سكنني، كي أحافظ على براءة سابقة على الاضطراب، والتراكم، والمكر، والمراجعة؟
    بدائية متجّذرة ذات أصول ضاربة بأنثوية الأرض، تمنح الإشكال، والعلامات، ذلك السابق عليهما، وجودا ً شبيها ً بالحقيقة، أو بما لن يقارن بالعقم، أو بالاخصاء؟
     ذلك لأن دورة حضارة الاستهلاك ـ حضارة العولمة ـ ستبلغ نهايتها ـ ككل دفن حتمي لصانعي عبادات المال ـ وتسمح لحياة تعمل فيها البراءة، كعمل طائر يغرد وهو بتمام النشوة! ضرب من عمل العبادة، وضرب من العبادة لا تعمل فيه  على التصادم، حد المحو: وحدة تجعل التاريخ سلسا ً، ناء ٍ عن الاشتباك، ومكر الصيادين، وفنون صناعة لذائذ العنف..!
    قد يجد المشتغل، بغير الصيد، غير الآثم، الخالي من الضغينة، شيئا ً ما كمرور ومضات لا مرئية، عبر الغابة التي مررنا ـ بشرود ـ نحو حافاتها المستحيلة، ويكمل مسيرته في الدورة..!
[18] تتابع: اللا مادة وأطيافها
     كم أود لو بلغت القناعة ذاتها بان هذا الذي أراه، لا يخفي موتي، ولا يخفي اندثاره، بل ولا يخفي قدرته على مقاومة الانبثاق. بمعنى هل من سبيل لدحض قانون: المادة لا تفنى، وعمليا ً: اللا مادة الدائمة، كالعدم، وككل ما هو خارج حدود الحواس ـ والوعي. أم ان الأسباب التي شكلت حدود وعيي هي وحدها تمتلك لا حدودها ـ عبري ـ وعبر عملي ـ كي تمتد، بصفتها احد عناصر لا محدودية البرمجة؟
   يأخذني الشرود إلى التوقف عن العمل، وأنا أغادر متطلبات الحياة ـ وبضمتها التفكير في مصائرنا كبقايا بشر ـ والتوقف حتى عن مراجعة ظل الحرف الملتصق بالحرف الملتصق به، فلا معنى ان أتساءل ما اذا تجمدت الأرض، أو استحالت إلى كتلة بحجم دمية أطفال ـ أو أنا هو الذي سيتحول إلى رمل، وذرات في كائنات أخرى، أو ان أتحول إلى أثير، فالمعادلة واحدة: لا وحدة لقياس زمن بين لا زمنين، وقياس حاضر بين مجهولين... وان لعبة الفن، كأي لعبة، لن تدوم إلا بمرورها في الطرق ذاتها التي مرت فيها الألعاب الأخرى! وليس هذا الذي يحدث من حوار: مع لا احد، أو مع النفس/ أو مع من عبثا ً سيحاول العثور على فك شبكة الاشتباكات، ألتي  شكلتها عوامل تتابعها، وإلا هل كان باستطاعتي ان افعل إلا هذا .. ذاته .. الذي أراه يتكون، ويأخذني معه، وأنا أتطلع للعثور على خطاه غائبة في هذا التتابع.

[19] القيد: المسافة والعلامات
     أنا لا اعمل عند أحد، ولا لأحد، ولا آمل ان احصل على حماية، بل ـ ربما ـ لا أريد ان أبدو هدفا ً كي امحق! تجاربي تسمح لي ان لا أعمم مثل هذا (التصوّر)، وأنا ابلغ لحظة أنني لا اعمل من اجل نفسي، ولا من اجل إنسان آخر!
     طالما كنت أقول لزميل ـ لا اذكر اسمه لأنه كان قد عمل فترة من حياته في شراء الكتب العراقية وبيعها كي تحرق، مع انه لم يكن بحاجة للقيام بمثل هذا العمل، كما لم يكن في ضائقة مادية تدفعه لشراء مجموعة من كتبي لم أكن بحاجة لبيعها ـ ما الذي يجعلني اعمل، وأنا أرى مصائر أعمالي غير متوازنة بين غيابها وحضورها، وبين حضورها وغيابها أيضا ً. ولأنه شديد التمسك بما يكتم، لم يجبني، مثلما كنت أود ان أجد من أحاوره وأنا داخل المنفى أتلهى بأسئلة وانشغالات تبدو خالية من الطرافة! لم يجبني إلا لأن خطأ ما في السؤال: فكيف كنت أرى غيابي ـ وغياب هذا الذي يدل على هذا الغياب، وأنا لست بحاجة للبرهنة على ما اذا كان لهذا برمته ضرورة!
   وبمعنى ما مجاور: ما الذي كان يغريني بصياغة نظام هذا الحضور وهو كالعدم سواء بسواء! ألا تبدو بزوغ الأشياء، عبر تحولاتها، وأبنيتها المشفرة، بحتميات تبلغ ـ وتتستر ـ  وتمحو ما يدل عليها، قيدا أقيد فيه كل ما حلمت ان أتحرر منه؟ لست اكرر ـ وضمنا ً ـ ما قاله أبو العلاء المعري حول ضيقه من الجسد، بل أؤكد، ان شيئا ً ما لا مركزيا ً يمضي وفق هذه اللامركزية. ومعنى هذا ـ كما حاولت العثور من الآخرين على مقاربة/ أو كما حاولت ذلك في القراءات/ والمحاورات/ والنبش ـ لماذا بدا لي ما يصنعه الإنسان، كما لفتت أسطورة (سيزيف) لقوة المعاقبة في تتابعها. فانا أعيد ـ لا استنسخ ـ بل أصبح شاهدا ً على استحالة اختيار شيئا ً آخر، عدا هذا المقيد بقانونه. حقا ً ان النسبية، كرؤية، تسمح لي ان اختار: ان لا أصبح نذلا ً، أو اعمل بأجور تحت فزع الندرة، أو قاتلا ً باسم الحرية، أو بأي اسم آخر! ولكني لم اعد أجد سوى (الاندثار) معادلا ً للتسوية. إنها كلمات جلجامش عند أسوار أوروك، في خطابه إلى الموتى. كان ـ كهاملت ـ قد أدرك ان (سيزيف) وجد ان العبث لا يعمل إلا على ديمومة النظام ذاته: السلطة بدءا ً بأعلى هرمها نزولا ً إلى ما تحت السطح، وان كل من يعمل على مسها، أو زحزحة جزء من أجزائها، لن يمنح حتى فرصة الإقامة في السجن. فكيف ابرر، وأنا اجري محاكمة لذاتي، ديمومة كل ما قيد الاندثار، والزوال، وفي الوقت نفسه، يسهم بالبناء القائم على جدلية: صياد وجد مصيره يتأسس على فن الصيد!
     فهل النسبية كمين؟ ها أنا أرى أشعة الشمس (وسأعود إليها في الفقرة 14)  أكثر من حجاب عند مرور ومضات إشعاعات غاما، مثلا ً، أو عند مقارنتها بما ترسله الكوزرات ـ من 8 ـ 12  أسرع من أشعة الشمس ـ يا لها من تسلية! بمعنى: يا له من عيد لا أجد أحدا ً يشاركني، أو أشاركه فيه. فانا لم اعد امتلك (الصدق) الذي أغواني بأنه ضد الغواية/ وضد الأقنعة/ فانا كلما أزحت قناعا ً، ظهر آخر، حتى أصل إلى الذروة التي وصلها فلاسفة بابل ـ بجذورها السومرية ـ: ليس للإنسان ان يذهب ابعد من حدوده، الآلهة وحدها وجدت لتكتم سر وجودها، أما البشر، فمن الوحل إلى الوحل!
     لكن هذه الذروة، ستتصدع، بنسمة هواء باردة في تموز ـ وقد تجاوزت درجة الحرارة الخمسين درجة مئوي ـ أو بدخان تبغ مر، أو بملامسة بذور عطر فتاة طالما أغوتني بسفرات نهرية، وقد استحال مصيرها برمته للرضا بالمعاقبة في هذه الاستعادة ...!
    ذلك لأن النصوص السومرية ـ المدوّنة عبر ترجمات بابلية، أو التي أخذت سياق التناص فيها ـ لم تهمل لغز غياب العدالة أو حضورها. فالإنسان جزء لا يتجزأ من مصير لا يمتلك ان يفلت منه أو يتجنبه، مع ذلك، تسلل هذا الإحساس  ـ وهذا اليقين ـ إلى القوة الملغزة الكامنة في إدامة كل ما هو ماض ٍ إلى مصيره: الزمن المفتوح ... لكنه ليس زمن الضحية، ولا هو زمني، إلا بحدود أداء ارتداء ملابس سوداء والمشي في ظلمات ليل بلا حافات!
     لكنه ـ هو ـ السياق ذاته الذي يقود الضحية للرضا بالحكم، موته من قبل الآخر، ذلك لأنه سيرى الآخر ـ: الجلاد ـ في الزمن، وفي المرض، وفي الهرم، وفي القهر، وفي الموت! فلماذا  ـ هكذا لم يعد يفكر الذي أمضى حياته في التفكير ـ بأبعد من لذّة الإصغاء إلى بلبل يلفت رهافته انه ليس فائضا ً، أو زائدا ً، لكن هذه الأجزاء من الزمن ـ في الإصغاء أو في الرؤية أو في شرود الذهن ـ  محكومة بما في الزوال من دينامية!
     فهل الرضا بالحجز داخل جدران لا نافذة لها، إلا بحدود نافذة زنزانة، واستبعاد أية مقاومة للذهاب إلى ارض لا حريات عشوائية فيها، ولا شفافيات تدفع 999% من السكان لذبح كل من لا يشاركهم احتفالات دفن أحفادهم، أتساءل: وهل لسيزيف، في اختيار عدا حمل الصخرة، من القاع إلى القمة، ناء عن رؤية مصيره يتدحرج، حتى لو أدار المفتاح في الباب الذي خلفه لا أبواب ولا مسافات!
    لأن سيزيف، لم يختر ان يجعل من العبث نظاما ً لسلطة تراتبية، من الآلهة إلى الإمبراطور إلى العبيد، ولكنه ـ في لاوعيه ـ أدرك ان أي اختيار، حتى لو أصبح كاتما ً لأسرار الإمبراطور ـ بله الإمبراطور نفسه ـ ان الإله، عبر خطاب السيزيفيين ـ يهدم منطقه، بإعلانه ان التراتبية، قدرا ً، وليس نظاماً! ذلك لأن الآلهة لا تتكلم، وأخيرا ً، لا وجود لها إلا عبر استحالة ان نخاطب ضحايا بواجبات: النذور، والأضاحي، لأن الأخيرة، تذهب للمسك بالمفتاح، مفتاح الباب الذي دارت فيه أساطير استبدال الوهم باليقين، واليقين بكل ما يدحض من يحاول هدم التراتبية، ولا مركزيته في النهاية التي لا احد له حتى قدرة تخيّل حافاتها!
    فهل يليق باله سيزيف، ومن قبل، عندما بلغ عدد الآلهة أكثر من خمسة آلاف اله، في سومر، وصولا ً إلى آشور، ومردوخ، ومن قبل بديموزي ـ الذي ذهب ضحية فعل هو جزء من آليات لنسق الديمومة ذاتها ـ مع استذكار ما لا يحصى من البناءات المماثلة: إله للقمح، وآخر للمطر، وثالث للهواء ...و.. للماء، وللنار، وللنبات، ولكل مرض، ولكل طيف، ولكل مجسم له بعد، وله ظل، وله وهم! أتساءل: هل لهذا التصوّر غير ما يتوارى فيه ـ ابعد من المعاقبة ـ وابعد من الثواب، يسمح باسط أشكال المخلوقات، نصف الميتة ونصف الحية، أو اللا حية واللا ميتة، إلى ظهور الزواحف، والثدييات، وصولا ً إلى تكون القشرة التي هي في أعلى الجمجمة، بما يجعلها تجرجرنا بما لا يحصى من الغوايات ـ مع أنها، وقد بلغت هذه الذروة، لا تستطيع أن تذهب ابعد من ختم توحد بصانعه، أو بنيزك حول 99% من المخلوقات إلى لا مرئيات! أو بحرب شاملة لن تشهد احتفالات توزع فيها المكرمات، أو علامات المجد، والنصر!
   لكن، لا العلم، ولا التفكير الأسطوري، وجد أكثر من علم لا يقود إلا إلى ما لا يعرفه، وأساطير تقول ما لا تعرفه، تداخلا ً بينهما، حد الاشتباك تارة، وحد القبول بما هو ابعد من الخرافة، وابعد من تدريبات العلماء، تارة أخرى. لأنهما ـ في رحلة الانتقال من العلم إلى الأسطورة، ومن الأساطير إلى العلم ـ لا مسافة للمنجز ـ الشاهد/ الوثيقة/ الصرخة/ وكل ما ينجزه الوعي، وآليات قواه النائية، إلا وقد غدا طي المجهول،سواء كان نسبيا ً، أو خال ٍ من الحدود، سواء بسواء!


تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

خزافون عراقيون* ابتكارات فنية تعيد قراءة ثوابتها- عادل كامل




خزافون عراقيون*
ابتكارات فنية تعيد قراءة ثوابتها




عادل كامل
[1] الافتراضي مستحدثا ً ـ دينامية التواصل
     باستثناء تجارب خزفية متطرفة، أكثر انسياقا ً للعشوائية أو تلبية للمظاهر المتأزمة،  الآنية، فان إعادة قراءة فلسفات الحداثة ـ وما بعدها ـ في الإبداع العالمي ـ الأوربي تحديدا ً ـ  لا تلخص مدى حفرها في الطبقات المندثرة للحضارات القديمة حسب، بل تأكيدها على ضرب من الشك بكل ما ينتمي إلى المستقبل.
   ومع أن (نغمة) التشاؤم، والأسى، والإحساس المرير الذي تركه (سيزيف)، ومظاهر العبث، والعنف، واتساع الفجوات بين النخب الثقافية والمتلقي العام ... الخ، كان لها حضورها الدائم في الثقافات، إلا أن ردود الفعل، لم تكن تعمل إلا على قهر عوامل: القهر. وكأن قانون: كل ما عليها زائل، وما يأتي من المجهول يذهب ابعد منه، لا يمثل الحياة، بل إغواء ً لصياغة برامج تدعم الديمومة، بدل القنوط، واستساغة الاحتماء بالغاز القدر، ميتافيزيقاه، وما يتضمنه من انساق تعمل خارج إمكانيات (الدماغ) والعقل.
    وإذا كنت أتحدث عن فن (الخزف)، وليس عن (الجسد) أو (الوعي) أو (الثقافة)، فان أقدم النماذج كانت قد تأسست وفق مبدأ استحالة فصل الوظائف العملية عن العوامل التي تضافرت على تشكيلها، كعلامة، فان الخزف ـ مع المجسمات والرسومات ـ كان يتضمن مجالا ً سحريا ً/ رمزيا ً سمح للنخب أن تمنح (النوع البشري اختلافا ً عن الأنواع الأخرى، وعن نوعه أيضا ً، مسافة في التأويل، والتحكم، والغايات. فامتياز الأصابع لم يكن متخصصا ً بالبحث عن القوت، والدفاع عن النفس، بل عن بلورة قدرات أعلى في صياغة الأهداف، والمثل.
    وإذا كانت (الغريزة) لاواعية في أداء عملها، فإنها سرعان ما ستعمل باستقلالية تسمح لها أن تطور مهارات ينفرد بها عدد من البشر تذهب ابعد من جمع القوت، والحماية، أو حتى العدوان، نحو مبررات معقولة لبناء دلالات، لا علاقة لها بالنافع، لكن من الصعب القول إنها: جمالية خالصة.
               

     ثمة ـ في هذا النظام المعقد للتخصص في آليات الحفاظ على ديمومة كل ما كان يراه يزول، يغيب، انشغالا ً أنتجه العقل، ببناء العالم الافتراضي، لعدد من الرموز، والتصورات، تؤكد أن التشبث بالديمومة يتجاوز اللا وعي، نحو ديمومة تستدعي التنقيب في طاقاتها الكامنة، تجعل منها، بالدرجة الأولى، معادلا ً للموت ـ والاندثار.
    انه مثال لقاعدة عامة، ولكن الأدوار الحضارية التي نشأت في بلاد وادي الرافدين، تمثل نموذجا ً  يستدعي قراءة أن رواد (الفن) الأوائل، كانوا على معرفة فلسفية ـ وتقنية ـ سمحت لهم بقراءة متقدمة لأكثر العناصر صلة بهذا القانون: العناصر الأساسية: الهواء/التراب/ الماء/ والنار، ولكنهم، بعد تحليل ـ وربما تفكيك ـ  هذه العناصر، والعثور على علاقات تجعل من عملها موحدا ً، لابد أن برز: العدم ـ الكامن في الزمن ـ قهرا ً يتطلب قهره اختراع تمويهات حقيقية، بالأحرى: حقائق اصلب من أن تتعرض للتقويض.

   

     والسؤال الذي لم تجب عنه الفنون، ولم يجب عنه الفنان، بوصفه غدا أكثر رهافة، هل كان العالم الافتراضي قائما ً في القانون، وفي الخامات، أم كان قد تم استحداثه، مع نشوء القشرة العليا للدماغ، بوظيفتها المبكرة في: إعادة إجراء حساب لعمل الوعي، إزاء القهر ـ والتدمير؟ أي التفكير في ماهية التفكير، وهل ثمة وسائل لا تجعل منه لغزا ً عصيا ً على الإدراك..، أم أن الوعي، بما هو عليه، لم يستحدث أدواته من العدم، ولكن العلل، والأسباب المولدة للأسباب، كامنة في انساق البرنامج، وان مهمة (الصانع/الفنان) الأمهر تكمن في تلمس الطريق للاكتشاف، وليس الوقوف عاجزا ً، أو تائها ً في متاهة ما انفكت  تطور وسائل الصراع ـ والمتناقضات ـ ما بين الحدود...؟


       

     إن ما تم اكتشافه من جرار، دمى، أواني، ونماذج خزفية مختلفة الوظائف، في حضارات العراق، لا تشكل إلا نسبة لكنوز أخرى مازالت بانتظار التنقيب، والاكتشاف. إلا أنها نسبة تفصح عن مدى بلورة حداثة ترجعنا إلى مهارته في منح الجمال أثرا ً عمليا ً في بنية (النموذج) الخزفي، بوصفه يمتلك قانون الديمومة...، ضمن قراءة لا تعزل  حاضرها عن ذاكرتها، ولا عن استبصارها بما سيشكل استكمالا ً للسلسلة. فالأصل لا يكمن في (الفن) ـ مثل اللغة لا تفسر بقواعدها بل بصانعها أيضا ً ـ بل في الذي لم يتخل عن استحداث مناعة مقاومة لحقب الخمول، والوهن.
   ومع إن ما بعد الحداثة ـ وقد اندمجت طرقها بعالم تحكمه مراكز الشركات العابرة للقارات ـ غير معنية كثيرا ً بالإجابات التاريخية، أو المنطقية، إلا إنها  ـ وقد أصبحت مظهرا ً عالميا ً شمل أكثر المناطق بدائية إلى جانب أكثرها تقدما ً ـ معنية بما كان يصنعه الخزاف الأول: هل غاب اللا مرئي عن أكثر الأشكال صلة بالنفع، وهل غابت (الميتافيزيقا) عن مكونات العالم الافتراضي، رموزه، ومخفياته..؟

   فثمة قدر لا محدود ـ بنسب تحددها  الرهافات والمهارات والتحديات ـ من المجهول الذي يجد سكنه في أكثر الأشكال تقليدية ـ وأعرافا ً، إلى أكثرها احتواء ً للمشفرات.
    ربما ليست هي (الميتافيزيقا) أو (العدم) أو (المجهول) ـ ما دمنا نعمل بأدوات قديمة لمعالجة مستحدثات آخذة بالعبور نحو مصيرها، واعني بها اللغة ـ ولكن هل باستطاعة (الجمالي) أو كل ما تنتجه الرهافة، والمنبهات الحسية، والحدوس، وما ينتجه الدماغ من عوالم افتراضية، أن تشكل (ميتافيزيقا) تتوخى أن تصبح علما ً، لمنح الفن أن يكون حرية بموازاة ضدها: الضرورة...، أم أن الفن كان ضرورة أنتجتها الحرية التي تتطلبها الحضارة خارج المفاهيم القائمة على العسر، والعنف، وهي تحتفل، أحيانا ً، باندثارها؟
     إن هذا التشبث (العنيد)، بحد ذاته، يمتلك قدرات لا واعية، للسلسلة أو للدورة، وليس لحلقة أو حقبة أو فجوة فيها...، حيث الفن يذهب ابعد من وصفه بالسلعة، وابعد من مشروعه الوظيفي، وأعمق من انشغالاته الشكلانية أيضا ً...، حيث إن لم يستحدث تعديلات تواكب حضارة اقل عشوائية، عنفا ً، وانشغالا ً أحاديا ً بالربح،  فان لغز الزوال سيبقى انشغالا ً، لا يهن، بل يجد منفذا ً له،  شبيها ً بما تفضي إليه الثقوب السوداء، لا تتوارى داخل بنيتها إلى الأبد، كما قال ستيفن هوكينج، بل تنبعث في حياة لها ديناميتها، حتى بوجود حياة مغايرة لحياتنا، في مكان أخر من الكون.
             

[2] النار  والخزف
   لو أهملنا أثر (النار) في تركيب (الوعي)، قبل 400 ألف عام، في الأقل، أي دخول النار كعامل أساسي في بنية (الدماغ)، فهل كان للأدوات أن تأخذ دورها ببناء مجتمعات تتراكم فيها الخبرات لظهور أولى علاماتها المستحدثة، في نشوء الحضارات...؟ أم علينا إعادة القراءة، والتساؤل: هل هي واحدة من المصادفات التي منحت (وعينا) الشروع بإقامة علاقة حميمية مع النار، بعد علاقته مع: الترب/ الماء/ والهواء...؟
    لو لم تكن الطاقة اليوم جزءا ً من مأزق كبير، لأهملنا دور التحدي برمته، في قراءة لغز (النار)...، وموقعها في التقدم، ليس تاريخيا ً أو رمزيا ً، بل حضاريا ً، مادمنا لا نستدل إلا بالأثر الفني، النافع والجمالي معا ً...؟
    منذ سنوات ليست قصيرة، استبدل الخزاف العراقي الطاقة (الكهربائية)، بعد غيابها شبه التام، بمصادر بديلة، أي بعد عجز الحكومات المتعاقبة عن توفيرها ـ في بلد يمتلك خزينا ً هائلا ً منها ـ واستعان ببناء أفران شبيهة بالتي صنعها أسلافه في سومر وأكد وبابل...، ومن قبل: في سامراء والعصور الأقدم.
      ولأن (النار)، في قصة الخليقة، لم تفكك وتُدرس لترتقي للرد على لغز العصيان، حيث المقارنة جرت بين المصنوع من النار والآخر المنحدر من التراب، الأمر الذي احدث شرخا ً في الإجابة، إن كانت تمردا ً أو عصيانا ً، مما يجعل احد مفاتيح فك الشفرة يكمن في الاختلاف ما بين الأعلى ـ والأسفل...، ما بين الشفاف، والمعتم، وما بين الروحي والواقعي، أم لأمر أكثر تعقيدا ً، مما فسرته النصوص المدوّنة، بتأويلاتها المعروفة...، إن كانت أسطورية، أو رمزية، أم إنها جاءت بحدود ما تمتلك، أي بحدود اللغة كأداة لا تمتلك أكثر من آليات الرد...؟
    في الحالات كلها، ومنذ 1990، واجهت الخزاف العراقي أزمة اضطرته للعودة إلى أسلافه، مستعينا ً بمصادر بديلة للحصول على النار.
    ولأن فن (الخزف) ـ عبر الحضارات كافة ـ ليس فنا ً نفعيا ً إلا بوصفه حاملا ً لمشفراته الجمالية، فانه سيشكل وثيقة للحياة، بمرئياتها ومخفياتها معا ً. مؤكدا ً انه لغة عابرة لحدوده، بوصفه شبيها ً بالطاقة الكامنة في المادة.
     إنما الخزف الفني وثيقة نسجتها التقنيات، إلى جانب الثقافة، كي يغدو مضادا ً للنفع ـ والاستهلاك، أي كي يؤدي دور (الختم)، بإضافات مستمدة من الرهافة، ومن التجارب العملية المضنية. فجمالياته ستحافظ على رصيدها المخبأ الخاص بالجهد ـ والتجريب.
    وكي لا تبدو (الحداثة) مستعارة، أو تم السطو عليها، أو إنها ولدت خارج بيئتها العراقية، فان تحديات الخزاف العراقي، باستحداث البدائل، تحفر في الجذور ـ وفي المراجع النائية التي مازالت تجد مأواها في ذاكرة الخزاف.
   فإذا كانت النار قد شكلت تحديا ً، فان (الوعي)، هو الآخر، سيدوّن حضوره: ليس لأن عمل النار أساسيا ً في حرفيات الخزاف، بل في عمل (وعيه) ذاته.
   لكن جماليات (الخزف)، هنا، وعلى خلاف ما ذهب إليه "هربرت ريد" باستبعاده من الدلالات الرمزية، والروحية، سيحافظ على إعادة سرد قصة الخليقة، بأشكال لا متناهية للصراع. فهنا تظهر أهمية القراءة ومغامرتها الخلاقة: الأشكال/ الألوان/ الملامس/ السطوح/ الرموز ...الخ، إلى جانب قراءة: الجسد. قراءة يسهم المتلقي بالذهاب ابعد مما دوّن فوق المجسمات وسطوحها، نحو العمق، في جوهر الخامات، حيث (الخزف) يحافظ على لغز نشأته ـ كالأسباب التي أدت إلى خلق الإنسان نفسه ـ في بلاد الماء/الطين، بدلالة انه لم يتوقف عند المعالجات الأحادية، بل راح يتمثل جوهرها، للمآزق، والتحديات.
   وبالعودة إلى عام 1976، حيث تم التباهي بالعصر (الذهبي) للخزف الحديث في العراق، في لندن، باريس، وعواصم أخرى، فان هذا المنجز، اليوم، مع مراعاة عوامل الإحباط ـ حلقة ذهبية في تاريخ غدا متداولا ً، عبر متاحف العالم، للخزف العراقي، عبر أكثر أزمنته استجابة لردم الفجوات، وللحفاظ على (لغة) صاغتها  الدوافع ذاتها التي صاغت من النار، علاماته المعرفية، المشفرة، والجمالية.

           

[3]  الجسد: مخبآت ومشفرات

   في أكثر العلوم تماسا ً بالحياة اليومية، كالفيزياء والكيمياء، يجد المتلقي العام صعوبات لفهم النصوص النظرية، ومدى تطابقها مع (الحقائق المرئية)، مما يجعلها بعيدة عن التداول، لصعوبتها، في الغالب، أو لجاذبيتها المحدودة أيضا ً.
   وفي مجال فن الخزف، تتكرر هذه الصعوبة، عندما يغفل المتلقي انه إزاء الفن الذي واكب اكتشاف (الإنسان) لجسده، ومنحه أولوية تعنى بجدلية العلاقة بين الجسد، والطبيعة، وبين الجسد والمجتمع، وبين الجسد وتحوله إلى قيمة جمالية/ رمزية، تستدعي تحويرات موازية لمجمعته المعرفي، إبان العصور السحيقة، أو في أكثرها حداثة، وعولمة.
    فالجسد ليس كتلة ساكنة، تتحرك تلقائيا ً، أو لأسباب موضوعية تستدعي التحليل فحسب، بل انه شبيه باللغة  ذاتها التي وجدت للاستعمال، بما تمثله من وسيلة لغاية، هي الأخرى، تستدعي اختراع أدوات قابلة للنمو ـ والتطور ـ والتهذيب، تناسب عمق التأمل، وضروراته.  وحتى لو كان اكتشاف الإنسان لجسده، بوصفه ملقى، وليس حصيلة خطة طويلة الأمد، نشأت منذ نكون بذور الخلق، فانه ـ بوصفه ملقى ـ يبقى مثار أسئلة سرعان ما تجد الإجابات الأكثر استدعاء ً لنشوء أسئلة أخرى، مضافة.  لقد انشغل الإنسان القديم، بأدواته، ليس بوصفها وسيلة حياة حسب، بل لأنها كانت تتضمن ما هو ابعد من ذلك. فمنذ راح ينسج الأشكال النافعة لحفظ غذاءه، ومنذ صنع أقدم دماه، لأكثر الكائنات عناية بصنع الحياة وديناميتها، اعني بها الأم الكبرى، ولدى الشعوب كافة، فقد اكتسبت دلالات رمزية، بوصفها (مصنعا ً) مولدا ً لأسس الحياة وديناميتها. فالجسد الذي لفت انتباه الأسلاف، في حضارات أعالي الفرات، من ثم في الحضارات التي نشأت بعد الطوفان الأعظم، قبل أكثر من سبعة آلاف عام، منحت (الجسد) مكانة اكتنزت فيها الأسرار، ومشفراتها. وبنظرة عامة لفنون (الحداثة) وما بعدها، فان عملية الحفر في الطبقات السحيقة سيظهر مدى الدور الذي مازال يؤديه الجسد، كعلامة غير مرئية، لتأمل مبدأ: التجدد ـ والابتكار.
    على أن الجسد في الفنون ـ الفخار والنحت والرسم ـ لم يولد جسدا ً تاما ً، بل أصبح جسدا ً طالما كانت هناك رؤية جمعية أسهمت بمنحه مكانته في البناء المجتمعي، وضمنا ً، لم يكن الانشغال الجمالي/الفني، بمهامه التنقيبية، يجري بمعزل عن التحولات، من البسيط إلى المركب، ومن المركب إلى اختزاله، وإعادة تركيبه بحسب الإضافات والمحو.
    ففي تجارب هذا المعرض [خزافون عراقيون] لأكثر من ستين خزافا ً، تتم الاستعانة بالجسد موضوعا ً يتكون بحسب مهارات الخزاف، ورؤيته الفلسفية. فهو لم يعد إلا  موضوعا ً ديناميا ً تضمن نقدا ً لاذعا ً لما عاناه (الجسد) من انتهاكات، طوال السنوات التي أعقبت الحرب (2003) والانتهاكات السابقة، منذ العام (1958).
    فثمة مستويات لهذه الرؤية صاغ الخزاف منها هوية عامة ـ لا شعورية ـ جمعت اهتماماته، كي يعيد صياغتها، بأسلوبه، ومدى استجابته لقانون الحياة بوصفها سلاسل من التحديات المتواصلة تسمح له بصياغة حضوره في مواجهة  الهدم ـ والدفن.
    ثمة أجساد خزفية، بالأحرى: ثمة رهافة خزفية في رؤية الجسد، لأنها علاقة جدلية بينهما ولا أسبقية لأحدهما على الأخرى؛ الجسد في الطبيعة، أو الجسد وقد استحال فنا ً خزفيا ً، لأنها شبيهة بالعلاقة بين الدماغ والوعي، كلاهما يعتنيان به، كما في تجارب: أمير حنون/ عبد الأمير طاهر/ علي السعدي/ قاسم محمد/ على قاسم حمزة/ أطياف علي ...الخ، وثمة تحويرات أجرها الخزاف، لكن بتفكيك الجسد، واختزاله، بوصفه علامة دينامية اتخذت من المعالجة الخزفية الجمالية أولوية له. كخزفيات: احمد جعفر/ نبيل مع الله/ سامر احمد/ ابتسام ناجي/ سيف نفل/ عدنان الصافي/ زينب ألركابي/ حيدر صباح/ زينب البياتي/ احمد عبد الرزاق/ رائد احمد/ حيدر مجهول ...الخ، فيما هناك تجارب حافظت على المنحى الاختزالي للجسد، حد التجريد، بالتشذيب، او بالتحوير، لم تلغ الإرث الغاطس للموروث الخزفي العراقي القديم، وللحضارات كافة، كما في تجارب: شنيار عبد الله/ رجاء عباس/ سلام احمد/ خالد جبار/ سعد الجابري/ قاسم نايف/ حسن عبد الأمير/ تراث أمين/ يحيى رشيد/ وجدان الماجد/ حيدر رؤوف/ أكرم ناجي ...الخ
    إن هذه التنويعات، في رؤية الجسد، بوصفه أقدم علاقة مشفرة مولدة لرموز الحياة ـ شبيهة بالمصنع تضافرت فيه عناصر الإنتاج ضمن خطة عامة قائمة على علاقات سببية نائية وغير منظورة ـ منحت فن الخزف لغة تعبيرية ـ جمالية، تباينت بين الذاتي، والجمعي، في رصد الحياة اليومية التي عاشها الخزاف، ووثقها بتقنيات تداخلت فيها التنصيصات، الاستعارات، الدمج والتحوير حد  المنحى التجريدي، لتشكيل أسفار تضمنت زوايا بصرية، وأخرى رقمية، وثالثة اكتفت بالأشكال المألوفة، بغية تحقيق التوازن، بين الروافد والأسس التي اعتمدها الخزاف بمنح البعد الجمالي دافعا ً خاصا ً بعمل الجسد ـ التاريخي، بدل محاكاته أو إهماله.  فالمشترك حث ذاكرة الخزاف لصياغات سمحت لأصابعه أن تمنح المخيال مدى مناسبا ً مجاورا ً للبصريات الواقعية التي عاشها الخزاف، بعنفها، وبصدماتها، والارتقاء بها ـ كما فعل الأسلاف والرواد في مواجهة التحديات ـ  نحو معالجات تعيد للحياة المجتمعية، ذائقة تمنح الخزف (حداثته) في  الخطاب (المعرفي) للمجتمع، بعيدا ً عن العزلة التي يعاني منها الفنان عامة، والخزاف على نحو خاص. فبهذا المنجز، في هذا السياق،  يتوخى فضاء المدينة، ليس لأنه  نشأ فيها، بل لأنه يسعى لمنح الفن موقعه المتقدم، بإرساء حياة لم تخلق فائضة، أو للدفن.

                 

  [4]   الحرف ليس سطحا ً
    حتى النصوص الخزفية التي تبدو قائمة على إخفاء مضامينها، أو محركاتها الفكرية، بل وحتى التي تتخلى عنها أو تنبذها، لا تستطيع، مقارنة بالفنون الأخرى، أن تتبنى الحياد، أو المعالجة الأحادية للأشكال، وعناصرها. فكما تمت، تحويرات الجسد/ البدن، بوصفه علامة مركبة، توليدية، وصياغته بأبعاد ذات صلة بالمعمار والمدينة، بالأنساق المجتمعية، والنفسية، بالتأويل وبالدوافع الرمزية...الخ، فان منحى ظهور الحرف ـ في الخزف ـ التحم بالجسد ذاته، وفي الوقت نفسه، غدا علامة مركبة لمسار فني طويل.
   إن لا شعور الخزاف يفصح عن مبدأ أن خياله الأبعد لا يستنسخ موروثاته، بل ينتقي منها ما سيشكل حاضرا ً لتطبيقاته الفنية.
    فإذا كان الجسد ذاته أقدم مفهوم لجدلية عمل الوعي على صعيد التطبيقات النافعة، فانه غدا أداة مولدة لإضافات تمنحه مدى ابعد في الدلالات، وما تتضمنه من إيحاءات، فنية/ جمالية، فان (الحرف) ـ بوصفه جزءا ً من بنية صورية ـ شكلية ـ رمزية، سيقترن حضوره في المنجزات ذات الصلة بالوسط الاجتماعي ـ والمعرفي. فإذا كانت الكتابة قد نشأت مصاحبة لبرنامجها التطوري، فإنها ستحافظ على ديناميتها، حتى بتجدد أشكالها.
   ولعل النصوص المبكرة للأواني، الجرار، والدمى الفخارية، فضلا ً عن المجسمات والأعمال اليدوية المصاحبة لحياته اليومية، لم تستغن عن استلهام منظومة الكتابة ـ  بوصفها حاملة للمعاني ولجمالياتها المستحدثة ـ بل أكدتها، عبر مختلف العصور، ومنها الأزمنة التي غابت عنها مصادر الإشعاع ـ التوليد، والابتكار.
    فالنص الخزفي القديم، سيغدو مجالا ً لتنفيذ الأفكار، عبر المعالجات الفنية، لأنه سيمنح النفع قناعا ً لا يمكن عزله عن هذا السياق، ولكن الجمالي، أو الجمالي في ذاته، لا يحقق رسالته، عبر القطيعة، بل عبر التحويرات والاختزالات التي تسمح لمفهوم الإنتاج أن يذهب ابعد من السياق الميكانيكي، نحو الرموز، والإيحاءات، المولدة للمعاني الأكثر تقدما ً، بل والأكثر صلة بالحداثة.
   في هذا المجال، ظهر استخدام الحرف باستعادة الخزين، واستثمار مكانة المعرفة في التداول، فضلا ً عن الاختزال الذي سيمنح الخزف هويته، ليس بفعل العلامات، والمعالجات، بل بسبب الانصهار ـ والبنية الجدلية لوحدة عناصر النص الخزفي.
   ففي نصوص: ماهر السامرائي/ هاشم رسمي/ خالد جبار/  سعد العاني/ قاسم حمزة/ ساجدة ألمشايخي/ رعد الدليمي ...الخ، مستويات متنوعة تمنح (الخزف) مكانته كأثر يستحدث حضوره، وليس بوصفه إشارة لعلامات مندرسة.
   فإذا كان بيكاسو وبراك قد ادخلا الحرف (ألطباعي) ضمن سياق التوجه التركيبي ـ التلصيقي/ الكولاج، للدلالة على معالجات مستمدة من الظواهر الصناعية الأوربية، لتوثيقها، فنيا ً، فان تقاليد فن الخزف العراقي، والعربي عامة، وجدت في الكتابة ـ وحروفها ـ مسلمة بيئية وثقافية وشعبية وروحية لبنية الفن، وما يتضمنه من غايات عابرة للاستخدامات، نحو النص المستقل،  بما يتضمنه من دلالات معرفية ـ وجمالية.
   ولقد انشغل الفنان الرائد جميل حمودي، ومديحه عمر، وشاكر حسن آل سعيد، كل برؤيته، بمعالجات على مستوى الرسم، أو البعد الواحد، بحسب المهرجان الذي أسسه آل سعيد، وقصد منه إبعاده الافتراضية، في مواجهة عصر السلع، والأشياء، لمنح الرؤية مداها المضاد للنفع المباشر، بل والمضاد لأحادية الرؤية. ففي هذا المعرض نلمح لوجود مهارات مرهفة للعثور على جسور من (التاريخ) نحو (الحاضر)، ومن المحدود نحو العام، بتركيب  يتوخى المعادل بين الاتجاهات، الأساليب، والمعالجات الفنية أخيرا ً.
   فظهور الحرف لا يمثل بعدا ً واحدا ً، بل أبعادا ً، لأن الروحي، في الأساس،  ليس مضادا ً للواقعي، بل إسهاما ً باستحداث إضافات قد لا تبدو منظورة، ولكنها، بفعل التطبيقات، والتحديات، تؤكد إنها لم تستكمل أزمنتها السابقة، بل تستحدث أزمنة تسكن مخيالها الخلاق.


[5] تداخل الفنون: أبعاد
      كان مفهوم المجسم، منذ البدء، عملا ً تركيبيا ً، ليس لأنه حصيلة روافد، تجّمع أزمنة، بمعنى كتلة، وتضافر خبرات فحسب، بل التمهيد لنمو جدلي يسمح للتطور أن يشكل محركا ً لعلاقات العناصر، وجسيماتها ما تحت الذرية، في تحقيق الهرم ـ من اجل البناء. على أن الشكل الخزفي، في هذا المعرض، سيجعل من مقولة رولان بارت: ما الذئب إلا مهضومات خراف، تنصيصا ً مشروعا ً ـ بل وشرعيا ً ـ لتواري الصانع/الفنان، في نصوصه الخزفية. فالتاريخ بلا أسماء لا يلغي هوية (الأنا) فحسب، بل يحولها إلى أثير أو إلى أطياف.
   فإذا كان المشروع الإنتاجي للخزاف، عمليا ً، يغاير ظاهرة موت الإنتاج الصناعي، والإبداع التصنيعي في البلاد، سلبية أدت إلى ازدهار الاستيراد، فان الخزاف العراقي غير معني بهذه المعضلة. فهو لا ينتج (سلعه لسوق مجهول حسب) بل قد لا يعرف مصير (فنه)، لولا انه أعاد الحفر في تقاليد راسخة لم يدعها تغيب.
    انه ـ كما قال قاسم سبتي: " يبدو لي أن تل حسونة وتل حرمل وباقي التلال لازالت تضخ لنا وفي كل يوم أعدادا ً من فرسانها المبدعين وهم يحملون بين جوانحهم خزفا ً ينبض كما الأفئدة بحب وطن نبيل اسمه العراق" يحقق اعقد معادلة للغز: التجدد.
    لكن ليس لسر الماضي إلا المحفز لمنح (المندثر) مداه، فكما أثبتت مقولة اينشتاين الشهيرة (E =mc2) أن المادة والطاقة مترابطتان صوابها، فان الماضي لا يتوارى تحت التلال، بل يمتد، عبر الوعي الجمعي، نحو أصابع راحت تعيد مخفياتها، في أزمنة مازالت تزداد تعقيدا ً، وصعوبات.
    فالتاريخ بلا أسماء، سمح للخزاف، بالبرهنة على أن السلسلة لم تنقطع، منذ عصورها الأولى. فثمة دوافع للإنتاج، من اجل أكثر المفاهيم بعدا ً عن (النفع) و (الربح)، ألا وهو هذا المشفر لمقاومة الرداءة، الكامن في: قهر عوامل القهر.
   فالجمالي، مبدئيا ً، يدحض التخصص في مجال أخير. ليس لأن (الفنان) غدا خزينا ً لنصوص لا تحصى، بل لتيارات وفلسفات وإبداعات تجاوزت المألوف، والتقليدي أيضا ً.
   فالرؤية (الجمعية) ستمنح كل (اسم) أثره في إنتاج النص الفني ـ المركب ـ من فنون ومعارف وخبر سابقة، وصياغتها بأقل الإمكانيات ـ الخامات مع ندرة الطاقة ـ كي تشكل علامة مغايرة لعقد مضى من تراكمات  الغبار ـ والدخان.
    فالخزاف تمثل المجسم بوصفه مضمونا ً لأكثر من ثلاثة أبعاد، فهو الجسد، وهو اللغة، وهو الأثر، ثم وجد مأواه في النص الفني، بعدا ً لمهرجان مضاد للاحتفالات التمويهية، عبر الألوان، والملامس، والتحكم بالمصادفات.
   فالنحت غدا الأساس العميق للبناء المعماري ـ الافتراضي ـ للمعرض برمته. وإغفال تماثيل الأسس، سيقلل من فهم جدلية النحت بالفخار، وبالخزف الفني الحديث. فتماثيل الأسس ليست تصوّرا ً مثاليا ً (ميتافيزيقيا ً)  للعلاقة بين الأعلى (عالم الآلهة) والأرض (عالم البشر) حسب، بل منح اللا شعور مداه ليعمل بالصيغة البنائية لدى صانعي الزقورات، ومخترعي الكتابة، وواضعي الشرائع، عبر تركيب شمل الزمن، الأبعاد، فضلا ً عن باقي العناصر. فالنموذج الخزفي لا يتكرر ـ من فنان إلى آخر ـ بل يتنوع بمنح التكرار هوية تتضمن الأسلوب، بتداخل مختلف الروافد.
   فالخزاف غدا رساما ً، بعد أن منح النص الخزفي علامة  تستدعي من المتلقي الاحتفاء بالمرئيات، ليس فوق السطح الخزفي، أو في الطبيعة، بل في إعادة العلاقة بينهما، لقراءة مادة البصريات، وهي تمنح الشكل النحتي دلالة الخزف الحديث. فليس ثمة خزف من غير قراءة المخفي ـ وصياغته بهوية كونتها، في الغالب، دوافعها غير القابلة للدحض، أو التقويض.


[6] مقدمات لمقدمات
    قد تكون لرمزية (الطين) أثرها في عدم الانسياق بعيدا ً في محاكاة الحداثة (التصنيعية/ السلعية)، واستخدامها على صعيد المعالجات/ الأشكال، والأبعاد الجمالية، اقصد أن الاستحداث مكث يحافظ على جدلية المخيال بذاكرته، ليس استنساخا ً، وليس قطيعة مع تقنيات الحداثة أيضا ً. ولكن مادامت هذه الرمزية مشتركة على صعيد وعيها الجمعي، فضلا ً عن حضورها المادي/التاريخي، فان التقدم لم يحصل إلا عبر التداخل، التجاوز، والانصهار...ن بعيدا ً عن هيمنة حضارة على أخرى، هيمنة استبدال يوازي عمل المحو.
   وإذا لم تكن هناك تأثيرات تذكر للخزاف البريطاني (أيان أولد)، عندما طاب منه أن يؤسس فرعا ً للخزف في معهد الفنون الجميلة، قبل عام 1955، كما ذكر الخزاف جواد الزبيدي، في كتابه [الخزف الفني المعاصر في العراق] فان تأثيرات (فالنتينوس كارالامبوس)، أستاذ الخزف القبرصي، العراقي الجنسية،  عمل بحضارة البحر المتوسط، ولا يمكن إهمالها، لا على صعيدها الشخصي، ولا على صعيد مفهوم: التنصيص ـ في سياقه الجدلي/ الحضاري.
   فقبل خمسينيات القرن الماضي، لم يكن للفن المكانة التي نالها بعد عودة المبعوثين للدراسة في أوربا، بعقد من الزمن، حيث كان لمفهوم جدلية (الخيال) إزاء (الذاكرة) دافعا ً للجدلية وحدة (الاختلافات)، وليس العكس: الأحادية. فالهوية ستحافظ على صيرورتها بابتكار خصائصها المستحدثة، عبر ما يمثل روح العصر، مع عناصر البيئة، ومنها الموروثات، والأعراف، والتحولات الاجتماعية، والثقافية.
    فكانت جهود الأستاذ الخزاف فالنتينوس مدخلا ً للشروع بتدشين ما يماثل(الطفرة القائمة على أسس جدلية القديم بالحداثات) في عالم الخزف الفني في العراق. كان فالنتينوس معلما ً، حرفيا ً، ورث صناعة الخزف عن عائلته، ثم صقلها بالدراسة في لندن، وأخيرا ً راح يعيد قراءة ما يمثله الخزف في حضارات ما بين الرافدين. انه عمليا ً قوض الأحادية، والانغلاق، بانفتاح اشترط جوهر الخزف، وأعرافه، في عصر ما بعد الحداثة، وتحولات العالم إلى قرية صغيرة.
   كان عمله مركبا ً، لكن ليس تلصيقيا ً. فالهوية خلاصة تضافر عمل صيرورة العناصر، وأسسها الدينامية، فلا يمكن استحداث (الهوية) من العدم، أو استنساخها عن الماضي، أو محاكاتها بأنظمة الحداثة الأوربية، ولا يمكن تأسيسها بقرار، أو تلبية لسوق. فقد اجتمعت في تجربينه روافد الحضارة اليونانية، الأوربية الحديثة، والعراقية...، مما أسهم بظهور مجموعة الخزافين العراقيين يعملون على حل معضلة (الهوية) بما تعنيه من: أصالة ـ وحداثة.
   ولفترات طويلة كنت أراقب عمله، وأصغي إلى آراءه، وأفكاره، وأثرها البناء في صقل مواهب تلامذته، حيث برز الأستاذ سعد شاكر، نموذجا ً سرعان ما رسخ مفهوم التجانس القائم على الاختلافات.
    فإذا كان (السوق)، أو حاجة المجتمع للخزف الفني، واحدا ً من أكثر الأسباب للتطور، فان (الفن) سيدخل في صراعات حادة، بين ما يريد الفنان أن ينجزه، وبين ما يطلب منه، فضلا ً عن مكانة النص الخزفي، على صعيد التاريخ، والزمن، في المنجز الطليعي.
     في هذا المعرض [خزافون عراقيون]، تردم فترة زمنية شبيهة بالسبات، في استعادة الأسس التي منحت الخزف العراقي، في العام 1976، تدشينا ً بلغ الذروة.
   ولعل حرية عمل الخزاف لا تكمن في العودة إلى الأصول، ولا تكمن في استعارة النماذج العالمية، مثلما لا تكمن في الحرفيات المتقدمة، التي أسهمت فيها التكنولوجيا، وروح (العصر)، واضطراباته، حسب، بل في العثور على المعادل الذي يسمح للخزاف أن يشكل علامة تنتمي إليه، وليست مستعارة، أو مستحدثة من العدم.
   وللأسف لا توجد مؤسسة باستطاعتها أن تجعل من هذا المعرض، نواة متحف للخزف العراقي الحديث...، والمعاصر، كي يكون (متحفا ً/ ذاكرة) و (محترفا ً) يلخص تزامن آلاف السنين في نصوص خزفية لم يغب عنها: الموروث الشعبي، السحري، البدائي، مثلما لم يغب مدى التصاقها بغبار الحياة، ودخانها، واستثمارها لخبرات فنون كالمعمار، النحت، الرسم، فنون الطباعة، الزخرفة، والخط بمختلف أنواعه ـ القديمة والعربية والأجنبية ـ والتصميم، ومعالجة النص الخزفي ليس تحديا ً ـ كما ذكر هاوزر كأحد معاني الفن ـ حسب، بل إنشاء ً، يعمل فيه اللا وعي بحرص متوازن مع الوعي، واللا قصد مع القصد، وكل ما سيشكل علامة تنتمي، في نسقها، إلى: المنتج، حيث: الهوية، ليست مستعارة، مثلما لا يأتي الأسلوب بعد الموت، كما قال بيكاسو، بل يلخص دحضا ً للاستعارة ـ بمعنى الاستيراد ـ، على حساب البدء بإنشاء مكونات الخزف بهويته الجمالية، وفي مقدمتها: الطين، أصل بذرة الخلق البكر، كما قالت الميثولوجيات العراقية القديمة، وكما أكدت علوم الحياة ذلك، لبلورة خلاصة (هوية) توازن بين مثلها (غايتها) وقوانينها الوضعية، التاريخية، بل واليومية. لأننا إزاء تجربة خزفية تولد بفعل التحديات، فهي تجربة لم تقترن بالصمت، أو باللامبالاة، أو بالهجرة إلى بلاد أخرى، بل بالحفر في ذاكرة راحت تعمل عمل المخيال، وبأسس توخت الابتكار، والتجديد.


[7]  وأخيرا ً
    إن السؤال عن المهارات الاستثنائية القادرة على ابتكار الأشكال الأكثر طليعية، هي جزء من بنية حضارية (اجتماعية/اقتصادية/ ثقافية ...الخ) عامة. فهل بالإمكان تصوّر وجود (ما يكل أنجلو) و (روفائيل) و (دافنشي) خارج عصر النهضة، أم أن وجود (سيزان) و (مونيه) و (بيسارو) خارج باريس، وهل بالإمكان وجود فنانين أمثال بيكاسو أو هنري مور أو خوان ميرو خارج بيئاتهم الأوربية ...؟
    فإذا لم يكن لدى صانعي الخزف، قبل عصر الطوفان، إلا واقعيتهم السحرية، القائمة على أدواتهم في الفهم، والتأويل، فان عالمنا، المحكوم باليات التطور العلمي / التقني، سلب من (الفن) سحره، ولغزه، فبعد أن تحول الفن إلى (سلعة) صار الإنسان (الميت) ـ بعد موت الإله عند نيتشه ـ يعمل بشرعية تكمل مقدماتها. لأن السؤال: هل ثمة انجازات خزفية باستطاعتها أن تتجاوز التيارات (الطليعية) في عالمنا المعاصر، وقد تجاوز الموجة الثالثة، ما بعد الصناعية، نحو تفكيك أكثر الأجزاء صلابة: من الذرة إلى الإمبراطوريات الكبرى..؟
   أنا هنا لا اثبت مبررات للطمأنة، أو للتمويه، ولكن في بلد غطس في أكثر أزمنته عتمة، وصار يستورد قوته اليومي، حد استيراد (الماء) من دول تعاني من الجفاف، ويستورد الطاقة التي من المفروض أن يصدرها، وقد شهد هجرات مليونية مشتتة في إرجاء العالم باحثة عمن يحميها من الانتهاكات، بل ومن الموت...الخ،  يتمسك عدد غير قليل من خزافيه بلغز: الخليقة، بعمل صريح ضد ظواهر الارتداد، والرداءة...
   لا مجال للمقارنة بين أدوات الخزاف المعاصر، وما يمتلك من خامات، والبيئات المساعدة على بلورة ابتكاراته...، وبلد  بالكاد تظهر فيه تجارب تبرهن عن أهمية الفن، ومكانته في التقدم.
     مع هذا كله فان المآزق اليومية لم تعد محض عقبات، بل أصبحت تعمل للذهاب وراء الأزمات.   فهذا الكم (الفني) ـ بوصفه منتجا ً بحدود الأعراف والتقاليد التي رسخها الرواد ـ تمسك باللغز ذاته بمنح فن الخزف مشفرات جعلها مرئية، بصرية، عبر الحفاظ على توازنات بين الذاكرة وديمومتها المتجددة.  فالحلم بانتظار معجزات (خزفية) يماثل استبدال الهواء بهواء آخر! بل استبدال الإنسان نفسه، بإنسان نجهل ماهيته، ومواصفاته، كي لا  نسرف في مغامرات الاحتفال بمصير مجهول.
   فإذا كان الخزف، في نشأته، قد رافق نشأة تحول الأصوات إلى علامات، والإمساك بالزمن في تحوله إلى حيز للاستقرار، فان اللغة ذاتها لم تعد أداة تمتلك الإجابة عن الأسئلة التي واجهها هؤلاء الرواد. ليس لأن اللغة أصبحت أداة من الماضي، وجزء من الذاكرة، انتهى استخدامها، بل لأنها ـ إن تجددت ـ وابتكرت صيغا ً أخرى، فالأمر متصل بالصانع/المخترع: الإنسان الآخر. وإلا  هل يحق لنا الحديث عن خزف، وهو رهن وسائله التقليدية، وهل يحق لنا أن نرى بغداد، على سبيل المثال، فردوسا ً كما تخيلها الأسلاف، في سومر: جنة لا يهرم فيها الإنسان، ولا يموت، جنة يتنزه فيها الحمل مع الذئب، وجنة تلد فيه المرأة من غير أوجاع الوضع...؟
    لقد أنتج (الخيال) البشري أكثر العلامات واقعية ورسخها عبر أثاره، ومنها فن الخزف والمجسمات، واليوم، بتقدم تقنيات الواقع، لم يعد للخيال إلا أن يحفر في ماضيه، ومندرساته. ليس لأن المستقبل، بحسب خبرة طالب الفيزياء، لا يعدو أن يكون أكثر من حلقة مؤجلة مع مقدماته، بل لأن الحاضر ذاته غدا معضلة إزاء عالم لا ينبني إلا على قانون: الهدم/ والتقويض. فإذا كانت (العقول)، عبر أزمنتها التي وضعت عالمنا في ذروته، قد حولت التأمل إلى برنامج في التغيير، فان عالمنا اليوم، لم يعد يسمح لهذه العقول، بأكثر من استكمال تتابع خطاها، نحو نهايات، لم تعد للفنون، ولا للكلمات، أكثر من أصداء، وأحيانا ً، آثار تتضمن كل ما علينا أن نعيد قراءته، وليس تركه يذهب مع الريح.


* "خزافون عراقيون ـ معرض مشترك" جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين ـ 2016
4/9/2016
Az4445363@gmail.com


الأحد، 4 سبتمبر 2016

إلى الأعزاء الفنانين العراقيين في كل مكان-د. إحسان فتحي





 إلى الأعزاء الفنانين العراقيين في كل مكان



تحياتي

   تناولت الأخبار مؤخرا صورة لوزير الخارجية السيد إبراهيم الجعفري وهو يتأمل بإعجاب لوحة كبيرة للفنان الراحل فائق حسن، ويبدو من الصورة إنها معروضة في إحدى غرف دوائر الدولة أو احد الأشخاص وليس متحف الفن الحديث في الكرخ ( أتمنى أن أكون مخطئا).  وأود أن أوكد أن هذه اللوحة هي من ممتلكات المتحف وانه من المعيب حقا أن تكون معلقة في أي مكان آخر. إنها مسروقة  في 2003 ويجب أن ترجع فورا إلى المتحف، وأنا استغرب حقا من سكوت المسؤولين في المتحف أو وزارة الثقافة على جهلهم بالأعمال المسروقة إلى هذه الدرجة العجيبة

د. إحسان فتحي