السبت، 25 يونيو 2016

هيرونيموس بوش(جيروم)_Hieronymus Bosch(Jerome





 
رسام هولندي من عصر الباروك ولد عام 1460 في بلدة هورتوجينبوش الهولندية التي قضى فيها جل حياته، وأعطته اسمها. وقد توفي فيها في شهر آب من العام 1516 عرف عنه أن جدة ووالدة كانا رسامين, جاء ذكرت في كتب التاريخ على انه عضو في أخوية السيدة مريم وهذا ما يفسر مصدر إلهامه. أشتهر بوش برسم الموضوعات الخيالية الغريبة ,وصفه كارل غوستاف يونغ محقاً بـ"سيد الرهبة ... ومكتشف اللاوعي" وأيضاً أطلق علية سيد بشع ومكتشف العقل الباطن فنّ بوش يعكس العادات الغامضة للعصور الوسطى ، ويعتبرأفخم رسّام لوقته . . كان بوش في حياته عضواً في جمعية "سيدتنا" الدينية التي قدم لها ولكاتيدرائية بلدته العديد من أعماله التي فقدت كلها حين وفاته كان بوش قد أصبح معروفاً على الصعيد الدولي، كرسام غريب الأطوار وذو رؤى دينية تتطرق بشكل خاص إلى العذابات الجهنمية. أقتنت أعماله العائلات النبيلة في هولندا والنمسا وإسبانيا. وقلده الكثيرون في القرن السادس عشر، وعلى رأسهم بيوتر بروغل الكبير الذي تأثر جداً به. فأسلوبه المتميز الفاقع من حيث الحرية وذو الرمزية الجلية، ما زال لا يضاها حتى يومنا. حيث عبر بشكل رائع ومخيف عن تشاؤم كبير عكس مخاوف ذلك الزمان ما تمخض عنه من نهوض اجتماعي وسياسي. والحقيقة أن شهرة (بوش) قد تضاعفت نتيجة الأهتمام به في أواسط القرن العشرين, وقد تضمن أعمالة الرموز والمعاني الكاملة,التي طالما ماكانت تحتاج إلى تفسير دلالاتها , وقد فهمت في بادي الأمر أنها نوع من الغرابة والخروج عن المألوف , وبعد ذلك أدركت على أنها هجو أجتماعي . ومؤخراً تم تغيريها من خلال المفهوم الرمزي الذي إتبعتة المدرسة الفرويدية . وكذلك تم تحليل الرموز التي تضمنتها لوحات (بوش) على أساس مناهج التحليل التاريخي, بأستخدام مصطلحات الخاصة بالمعتقدات السحرية ,والطقوس الدينية الموروثة والتي كانت منتشرة في أيامة . والحقيقة أن التعبيرية الغريبة التي تطورت في فن (بوش)ترتبط بمدأ حرية التعبري الأنساني الذي كان ينمو بشكل واضح ذلك المبدأ الذي بزغ فجأة في فن (بوش)مما نتج عنه الأشكال التعبيرية الجديدة . يعتبر بوش أساساً فناناً يعلم الأخلاق الحسنة من خلال لوحاتة وتعتبر أعمالة مهمة بصورة أستثنائية في حقل الفن بسبب الإحساس بالألغاز الذي يشعر به المشاهد وبفضل أبتكاراتة البصرية . ويمكن بذلك وصف إبداعات بوش على أنها الأعجب والأوسع خيالاً وغرابة . ومن أشهر لوحات هيرونيموس بوش 1)حديقة الملذات الدنيوية 2)الخطايا السبع 3)سفينة الأغنياء 4)إغواء القديس أنطوان )الزواج في قانا 5)موت البخيل 6)الأسطورة الذهبية 7)عبادة المجوس 8)الأبن الضال 9)الساحر 10)الأسطورة الذهبية 11) المسيح حاملا الصليب


هيرونيمس بوش . حديقة اللّذّات المادّيّة ( لوح ثلاثيّ للكتابة ) . ك.1510 . زيّت على اللّوح . برادو دل مسيو، مدريد، أسبانياللفنان الهولندي هيرونيموس بوش يتفق الكثير من نقّاد الفن على اعتبار هذه اللوحة واحدة من أعظم الأعمال في تاريخ الفن ومن أكثرها شهرةً وخلودا. رسم هيرونيموس بوش اللوحة قبل خمسمائة عام، وما تزال إلى اليوم تحتفظ بأصالتها وجاذبيتها التي كانت عليها في العام 1504م. وُيرجّح أن تكون اللوحة قد أنجزت بناءً على طلب أحد النبلاء الهولنديين آنذاك. "حديقة المباهج الأرضية" تتألف من ثلاثة أجزاء وقد استمدّت اسمها من الحديقة المترفة التي تبدو في الجزء الأوسط المملوء بصور نساء عاريات وطيور ضخمة وفواكه عملاقة. واللوحة تصوّر تاريخ العالم ومراحل تطوّر الخطيئة بدءا من آدم وحوّاء اللذين ارتكبا الخطيئة "الجزء الأيسر"، إلى عذاب الخاطئين في الجحيم الذي يبدو إلى يسار اللوحة منطقة مظلمة وكابوسية وباردة. أما في الوسط فتظهر حديقة المباهج الأرضية التي تصوّر عالما منغمسا في الملذّات والخطايا، حيث تتجسّد الشهوة باعتبارها سببا في سقوط الإنسان. في هذه اللوحة الفانتازية يبدو هيرونيموس بوش مهجوسا بالرؤى الكابوسية للجحيم والخطيئة، وهي فكرة كانت سائدة في القرون الوسطى بأوربا. و اللوحة تبرهن على قدرة الفنان المدهشة في بناء طبيعة ذات تفاصيل ضخمة ودقيقة من خلال سلسلة من المبالغات والتشويهات الغريبة. كما تزخر اللوحة بأكثر من ألف رسم لبشر وحيوانات وثمار ونباتات. ومع ذلك، فإنها تعطي انطباعا بحداثتها وجدّة موضوعها. وليس بالغريب أن ينجذب إلى هذه اللوحة سورياليو القرن العشرين لانها تحمل بعض سمات مدرستهم. كان هيرونيموس بوش، واسمه الحقيقي جيروم فان ايكين، رجلا متشائما وأخلاقيا إلى حدّ كبير، ولم يكن يؤمن بإمكانية عقلنة العالم الذي فسد بسبب وجود الإنسان فيه، كما كان يقول. ولزمن طويل ظلّ النقاد حائرين في تفسير رسومات هذا الفنان. وبعضهم كان يعتقد بانتمائه إلى "فرقة ضالة" أو منظمّة سرّية غامضة، على الرّغم من المضامين الدينية للوحاته. لكن آخر دراسة نقدية عن الفنان تكشف عن انه كان فنانا موهوبا يفهم أسرار النفس الإنسانية، كما كان أحد الفنانين الأوائل الذين قدّموا مفاهيم تجريدية في أعمالهم. وأخيرا، هناك حوالي أربعين لوحة منسوبة إلى هيرونيموس بوش، لكن سبعا منها فقط هي التي تحمل توقيعه.. التحليل والنقد الفني: الجزء الأول من اللوحة: أستخدم بوش في الجزء الأيمن من اللوحة الألوان الغامقة فظهرت اللوحة بشكل مظلم . غالباً ما يستخدم بوش الألوان الغامقة لتعبير عن الجحيم أو العذاب فقد أستخدم بوش في هذا الجزء اللون الأسود والبني في كثير من أجزاء هذة اللوحة ليصور الجحيم كما أستخدم بوش اللون الأصفر في تفتيح بعض الأماكن,كما أستخدم اللون الأبيض لرسم بعض الأشكال بصورة واضحة حيث أنه استخدم اللون الأبيض على خلفية غامقة فهو يقصد بذلك أبراز هذا الجزء من اللوحة والتأكيد علية . نلاحظ أن ملامس (بوش) في هذة اللوحة كانت ناعمة فعمد على تسسيح اللون قاصد بذلك الدقة الواضحة في اللوحة, نلاحظ أن الخطوط واضحة دقيقة لوصف العمل كما صور بوش في هذة اللوحة بعض الأشكال الغريبة وغالباً ماكان بوش يرسم الأجسام مقطعة وغير كاملة ليصف بذلك العذاب كما قام برسم أشكال رمزية غير مفهومه ويصعب تحديدها ولكنها بالرغم من ذلك استطاع نقل لنا نظرتة للجحيم وعذابة . حينما ننظر الى هذا الجزء من اللوحة الثلاثة يقع نظرنا إلى رجل الشجرة الذي صورة بوش مبتورة ومقطع فقد قصد أبرازة حيث أنة رسمه بحجم كبير كما أستخدم اللون الأبيض لأبرازة بالأضافة على وضعة في وسطاللوحة تقريباً. كما رسم بوش الأذن التي تتوسطها السكين بحجم كبير أيضاً. كما قصد بوش بتصويرة إلى للمعدة الكبيرة التي شقت ان يعضض معنى الشرهة, والنهم بداخلها . هكذا بدت اللوحة تمتلئ بالرموز التي لاتكشف عن ذاتها مباشرة . حين معاودتنا لنظر إلى لوحة (بوش) هذه الرائعة والتى ماتزال محافظة على جمالها حتى هذا العصر فأننا نشعر بالعمق الذي طالما أبدع (بوش ) فية حيث يظهر لنا أسفل اللوحة قريب ثم يدخلنا إلى داخل اللوحة كلما أتجهنا إلى الأعلى . أستطاع بوش من خلال هذه اللوحة تصوير الجحيم وعذابة فقد يشعرنا بالرهبة والهلع بأستخامة الرموز والاجسام المقطعة . فقد صور يوم الحساب في مهابة وحركة قوية تموج بالتمرد والإضطراب العنيف فقد ظهر في أعلى اللوحة المحكمة الألهية , وقد أنغمس غالبية البشر المصورين في انفعالات عنيفة غاضبة وسط منظر طبيعي مظلم إن هذه اللوحة بمثابة نهاية العالم الذي يحتضر الذي أهلكتة النيران ودمرتة مشاعر العذاب وآلام البشر . فقد صور الجحيم وعذاباتة الأفكار التي طالما شغلت فكر بوش وعبر عنة في العديد من لوحاتة فقد لاحظنا أهتمام بوش بالدين وتمسكة بة مما عكس ذلك على لوحاتة فهو دائماً مايقصد نقل رسالة من خلال لوحاتة . ................... الجزء الأوسط من اللوحة: الجزء الأوسط هو شاغل المساحة الكبرى ومحتل المكان الأوسط . صور بوش في هذا الجزء الحياة الدنيوية وملذاتها أشتملت هذه اللوحة على أجسام عارية صغيرة جداً أو ناقصة النموفقد صور معنى ((الجشع)) بالأضافة إلى الخطايا المهلكة : الحسد- الكسل- الشراهة- والبخل. كماصور بعض الأشكال الرمزية ,مثل الأشكال التي يصعب تحديدها في أوضاع تدعو إلى السخرية ... كما صور الأشكال المعمارية الغريبة والمناظر الطبيعية . أستخدم بوش في هذا الجزء من اللوحة الألوان الفاتحة التي تصور الملذات وجمال الدنيا وحلاوتها فقد استخدم الأخضر بترجاتة اللانهائية ليصور الطبيعة وأستخدم الأزرق الفاتح بتدرجاتة أيضاً استخدم الأزرق الممزوج بالأبيض ليصور السماء وأستخدم مزيج من لون البيج والأبيض لتصوير الأجسام العارية ,ايضا الملامس بشكل عام بهذه اللوحمة ناعمة عمد الى تسسيح اللون لدقة والوضوح . حينما ننظر اليى هذا الجزء من اللوحة ننجذب إلى الوانها بالأضافة على الأشكال المعمارية الغريبة التي صورها بوش. نلاحظ أن بوش غالباً مايرسم الأجسام عارية بشكل غير دقيق فقط لتوصيل فكرة وجود هذه الأجسام وتعريها لايقصد الأبداع في رسمها . ركز في هذه اللوحة على الطبيعة لتوصيل فكرة الأنغماس في الشهوات ... ولاينسى بوش العمق في لوحاتة فهي من مميزات لوحات بوش الأهتمام الكبير بالعمق فكأنما نعيش داخل اللوحة لا أن نشاهدها فقط.. فقد قام بتظليل بعض المناطق وتفتيح أخرى لأعطاء الأحساس بالأرتفاع والأنخفاض فقد ابدع بوش بعكس نظرتة وتصورة للحياة الدنيوية بهذه اللوحة الرائعة. ............................ الجزء الأيسر الجنة والنعيم.... نرى في وسط اللوحة أشكال معمارية غريبة فهو قد يقصد بذلك بأن الجنة تحمل أشكال معمارية لاتوجد بالحياة الدنيوية لذلك صورها بشكل غريب . أيضاً نرى إلى سيدة تتوسط فتاتين وأهتم في هذا الجزء بالطبيعة بشكل كبير جداً وتعد المناظر الطبيعية في أعمال بوش إبداعاً يستحق المشاهدة , أنة يصور من خلالها معنى الموضوعية بحدة شديدة وكأنة ينظر أثناء تصويرة للعالم المرئي من خلال المجهر . أستخدم بوش في هذا الجزء الألوان الفاتحة ليصور النعم والملذات والبهجة كما أستخدمك اللون الأسود لتظليل أعطائنا أحساس بالعمق . ظهر لبوش في هذا لجزء بعض الملامس الخشنة مثل التظليل وبعض المرتفعات. كما رسم في هذا الجزء من اللوحة بعض الخطوط الواضحة في رسم الشجرة التي تقع يسار اللوحة ,نلاحظ ايضاً رسم بوش الغير دقيق للإنسان والكائنات الحية الأخرى . فقد جمع بوش كل هذاة الأشكال بوحدة زخرفية مدهشة . وفي النهاية أحب أن أنوة على الفترة الزمنية التي عاشها بوش الغريبة لها أثر كبير في تكوين شخصيتة ,فالسمة التي تميز هذا الزمن كانت التشجع على الفردية , في تقديم الشكل التصويري الذي يعبر عن مخاوف الناس الثائرة على مصيرها .وأنتظارها من دقيقة لدقيقة حكماً أبدياً في مقابل آثامهم.

بوش، هيرونيمس الخطايا السّبع المميتة 1480عام.زيّت على اللّوح، 120 سم 150 سنتيمترًا برادو دل مسيو، مدريد لوحة الخطايا السبع المميتة عبارة عن مستطيل يحتوي على رسم مركزي لعين الإله، تحتوي المسيح الذي يراقب العالم. جيث الخطايا السبع المرسومة كحطايا دنيوية، متوضعة حول الشكل الدائري. فهذا الشكل الدائري الذي تتوسطه الألوهة يبين قدرة الله على رؤية كل شيء. فما من خطيئة لا تلاحظ. أما في الزوايا الأربعة للوحة فنجد "الأشياء الأربع الأخيرة" كما تذكرها الكتب المتداولة لنهايات العصر الوسيط وهي: فراش الموت، الحساب الأخير، الجنة وجهنم، وهذه هي المواضيع المفضلة للوحات بوش المنفردة. التحليل والنقد الفني: أستخدم بوش في هذي اللوحة من الألوان , ولكن أستخدم الألوان الغامقة كعادة بوش في أغلب لوحاته وقد يرجع السبب في ذلك لأختيارة للمواضيع . أستخدم تدرجات البني المدموج مع قليل من الأحمر وأستخدم أيضاً تدرجات البيج وأستخدم الأبيض لإبراز بعض الأشياء. كما هو معروف عنه حيث الخلفية الغامقة. أستخدم في الدائرة الواقعة في الجهة اليمنى الأزرق المدموج بالأبيض ليظهر لون السماء. نلاحظ في لوحة فراش الموت الدقة في رسم الشخوص وتعابير وجوههم لنقل الفكرة أستخدم في هذا الجزء الأحمر والبني والبيج والأبيض والأسود كما ركز على الظل والنور في هذا الجزء حيث ظهر بارزا في ملابس الأشخاص. ملامسة ناعمة قام بتسييح اللون فقام برسم الغرفة من زاوية واحدة حيث أظهر جميع الشخوص مع مراعاة العمق في التصوير . تنقل لنا اللوحة رسالة غاية في الوضوح حين يكون الإنسان على فراش الموت فنهاية كل منا هو الموت فهو كرسالة تذكير وتحذير من بوش. أما جزء من اللوحة بموضوع الحساب الأخير أستخدم الأزرق كخلفية ما استخدم البيج والبني بتدرجاتهم . ينقل لنا بوش تصوره عن الحساب الأخير بطريقة غريبة حيث رسم شخوص مرتفعين عن الأرض وكأنهم طائرين بالإضافة إلى الشخوص الخارجين من القبور. أما الرسمتين الأخيرتين الجنة والنار فالنار أستخدم فيها البني بتدرجاتة , والجنة أستخدم فيها العديد من الألوان البيج والبني والأبيض والأحمر والأصفر. كانت لمساته ناعمة في اللوحتين وتتميز لوحة الجنة بالدقة والجمال في رسم الشخوص والعمائر . من أكثر مايميز هذه اللوحة عن باقي اللوحات أسلوبه في جمع المواضيع وفكرته الرائعة الغريبة ودقته في رسمها شيء رغم صغر الدوائر التي تحمل هذة المواضيع الكبيرة . وأخذ الشكل الدائري الذي يحوي على مركز وهي العين الله التي لايخفى علية شيء
هيرونيمس بوش . إغراء القديس أنطون . 1500 . زيّت على اللّوح . برادو دل مسيو، مدريد، أسبانيا أهتم بوش بالقديس أنطوان فهو يهتم بكل ماله علاقة بالدين . قام بتصوير بالقديس أنطوان وهو جالس في الصحراء , فقد أنسحب القديس أنطوان إلى الصحراء حيث عاش في وحدة كاملة , وأغري مراراً من قبل الشيطان , ولكنة بقي مخلصاً. أستخدم بوش في هذه اللوحة عدة ألوان منها : الأخضر بتدرجاتة – البني بتتدرجاتة – كما أستخدم الأسود في التضليل- أستخدم اللون الأصفر – كما أستخدم الأزرق المدموج بالأبيض. أوضح بعض الملامس على لوحته قام بتسييح اللون في الماء ,قام بوضع بعض الملامس الخشنة على الأشجار, كما أبرز بعض الخطوط الواضحة في مثل سيقان الأوراق والأشجار , أيضاً نلا حظ بأنة رسم القديس أنطوان بشكل دقيق حيث انه أبرز تعابيير وجهه ,كما أهتم بالعمق فقام برفع بعض الهضاب وخفض بعضها ,أستخدم اللون الأسود لتحديد الظل والنور في اللوحة حيث أنة اهتم بهذا الجانب في هذه اللوحة فقد خرج عن عادته في رسم الشخوص حيث رسم القديس بدقة وكان غالباً مايرسمها بشكل رمزي لتوصيل الفكرة فقط . يحاول بوش توصيل رسالة من هذه اللوحة وهي مدى صبر القديس وتحمله لصعاب والعيش في الصحراء في سبيل الإخلاص لدين.

 

هيرونيمس بوش . المسيح على الصّليب مع المانحين و القدّيسين . زيّت على اللّوح . فنون جميلة ديز موسيى الإلكترونيّة، بروكسل، بلجيكا قام بوش بتصوير المسيح المحكوم علية بالإعدام بالقانون اليهودي بالموت , حيث رسمه معلق على الصليب لينفذ علية الحكم.أستخدم بوش في هذه اللوحة الأخضر بتدرجاتة اللانهائية بالخلفية حيث رسم مساحات خضراء ممتدة . كما أستخدم تدرجات البيج والأبيض برسم جسم المسيح, كم أنة أستخدم البني والأحمر ودرجاتة ,والأسود كما أستخدم اللون الأصفر . قام بوش بتسييح اللون بهذه اللوحة فلم يظهر فيها لمسات خشنة أو واضحة ماعدا قليل في بعض الأشجار بالخلفية . نلاحظ في هذه اللوحة ,قام بوش برسم تعابير الوجهة واضحة , كما أن بوش لم يهتم برسم تفاصيل جسم المسيح . كما أظهر بوش بعض الخطوط العريضة في ملابس الأشخاص فقد أهتم برسم بعض تفاصيل الملابس. حين النظر إلى اللوحة ننظر حالاً إلى المسيح المعلق فقام برسمه بمبالغة قليلة لجذب النظر إلية حين النظر إلى اللوحة. أهتم بوش في هذه اللوحة اهتمام كبير بالظل والنور حيث أنه انعكس بشكل واضح على ملابس الشخوص فقد ظهر النور قادم من يسار الشخوص. كما أهتم بوش بالعمق الذي يميز لوحاته ويكسبها روعة وكأنما في داخل اللوحات ,قام برسم المسيح ومن حوله قريبين لنظر بينما رسم المسطحات الخضراء بعيدة بالإضافة إلى بعض العمائر البعيدة . تعتبر هذه اللوحة من ضمن المواضيع الدينية الشاغلة لفكر بوش فقام بترجمة مايفكر به على لوحاته .
Hieronymus Bosch . عمليّة الحجر . 1475-1480. زيّت على اللّوح مدريد، أسبانيا تقريبًا نصف قرن مسبقًا، هيرونيموس بوش طوّر عمله، قطع الأحجار الّذي يُعْرَض أيضًا في برادو ((عملية الحجر)): كان هناك اعتقاد سائد عند الهولنديون , وهو إذا كان شخص عندة سلوك غريب أو مصاب بالصداع , يقولون بأن به حجر برأس, استغلال لسذاجة الناس البسيطة . قام بوش برسم هذه اللوحة . موضحاً الطريقة البدائية في عمل العمليات.حيث إنه أستخدم اللوحة تشبة غلاف كتاب , حيث أنه قام باستخدام فن الكتاب أعلى الكتاب وأسفله,مع وضع الرسمة بشكل دائري محاط باللون الغامق. أستخدم بوش بهذه اللوحة : الأزرق بتدرجاتة,وأستخدم الأزرق الممزوج بالأبيض لتصوير السماء . كما أستخدم البيج الأخضر بتدرجاتهم ليصور الأعشاب وأستخدم الأحمر والأسود. الملامس : قام بتسييح اللون ولم يستخدم الملامس الخشنة .قصد بالتسييح الدق توصيل الفكرة السائدة في ذلك الوقت . قام برسم الشخوص بشكل غير واضح أستخدم بعض الشفافية . أهتم برسم بعض التفاصيل مثل ملابس الشخوص في هذه اللوحة . أهتم بالظل والنور في هذه اللوحة وقد يهمل بوش الظل والنور في كثير من لوحاتة أو لم يركز علية بشكل واضح . أهتم بالعمق في اللوحة كما أهتم به في جميع لوحاته , خرج بوش في هذه اللوحة عن المواضيع الدينية بشكل صريح , وقام بنقل الأفكار السائدة بذلك العصر , وأتقن من خلال تصويره لهذا الاعتقاد توصيل الفكرة .
السّاحر . 1500 . زيّت على اللّوح . Musé إلكترونيّ بلديّ، Saint-Germain-en Laye، فرنسا نرى هيرونميموس بوش يصور الساحر المتفرجين , وأمامه بعض الناس صور بوش الساحر وكأنة بمثابة معلم وأمامه مجموعة من التلاميذ . أستخدم بوش الخلفية الغامقة , كما أستخدمها في كثير لوحاتة المكونة من البني والأسود والقليل من البيج . أيضاً أستخدم الأحمر والبني وتدرجات البيج والأسود والأبيض في رسم الشخوص بالإضافة والقليل من اللون الأصفر. رسم بوش الشخوص بدقة كبير موضح تعابيير وجوهم المصورة لدهشة , والتعجب من عمل الساحر . الساحر هنا كأنما الواضح انة يقوم بعمل المعلم أمام مجموعة من الشخوص . نلاحظ بعض اللمسات الخشنة التي أستخدمها في الخلفية , أما برسم الشخوص قام بتسييح اللون . نلاحظ بوش قام ببعض المبلاغة بعض الشيء فقام بتوضيح الرجل المتعجب بشكل كبير حيث قام بتقريب وجهه إلى الساحر , كما نلاحظ اهتمام بوش في هذه اللوحة بشكل كبير بالظل والنور حيث يظهر بشكل واضح منعكس علا ملابس الشخوص, حيث يتضح بأنة قادم من الخلف المائل إلى اليسار . في هذه اللوحة أهمل بوش إلى حد ما العمق لم يركز علية بشكل كبير مثل باقي اللوح , قد نشعر ببعض العمق ولكن ليس كما اعتدناه. أستطاع بوش خلال هذه اللوحة نقل الصورة التي التي يريد نقلها حيث صور السحر الذي كان منتشراً في عصره. فكذا بوش كان يعبر عن روح عصره ,وما أصاب ذلك العصر من بدع عقائدية جديدة , وصراعات في مواجهة الكنيسة , وتطرفات في دائرة مفرغة .

بوش، هيرونيمس الجنّة : طلعة الميمون 1500-04 زيّت على اللّوح، 86،5 إكس 39،5 سنتيمترًا بالازو دكيل، فينيسيا يصور بوش طلعة الميمون حيث قام برسم الأشخاص وكأنها طائرة بأجنحة والبعض منهم عراة وكأنما الأشخاص موجودون في ظلمة ويرتقون ليخرجون من الظلمات إلى النور . أستخدم بوش الألوان التي غالباً مايستخدمها في لوحاته وخاصة الدينية منها .وهي الأسود والأبيض ودرجات البني والبيج . رسم بوش الخللفية غامقة بالألوان البنية كما تردج بها من الأسفل بالفاتح وتغمق حتى تصل إلى اللون الأسود في الأعلى . صور بوش الشخوص بشكل سطحي ولم يتطرق إلى العمق فيها ورسمها بشكل دقيق . صور الاشخاص كأنما في ظلمة متمنين الخروج إلى النور المميز في اللوحة أستخدامة لشكل الهندسي المتقن وهو الدائري الذي أستخدم فية اللون الأبيض على خلفية غامقة لإبرازها . كما أبدع بتوزيع النور من الشكل الهندسي (الدائري)كما قام بوش بتكبير حجم الدائرة للفت النظر والأهتمام بها . وكما في لوحات بوش الرائعة أهتم أيضاً هنا بالعمق بشكل لافت للأنتباه مما أكسب اللوحة جمالأ وأبرزها. حيث رسم الدائر وكأنها تبعد مسافة طويلة والأشخاص يرتقون ليصلوا إليها . غالباً مايعكس بوش لنا معتقداتة ومعتقدات عصره في لوحاتة فلوحاته بمثابة كتاب تاريخ ولكنة مشوق .

سفينة الحمقى . 1490-1500. زيّت على اللّوح . اللّوفر، باريس، فرنسا نلاحظ أن بوش قام بتصوير الناس بهذه اللوحة على أساس أنهم جميعهم حمقى . حيث أن الناس تسير في سفينة لاتصل إلى الشاطئ أبداً وتلهيهم الشهوات ولا يقصد بوش في هذه اللوحة الكافر بل صور ضمن هذه السفينة برومينت بينهم راهب وراهبة ولكن رغم ذلك كل الناس يعيشون في غباء يضحك بوش وهي ضحكة حزينة فهذه اللوحة تعبر عن القبح داخلاً. صور بوش الناس ملتهون بالملذات منهم من يغني ومنهم من ياكل ناسين الدين ومن بين هذا كلة يحوي المكان ضحكات متصاعدة . أستخدم بوش في هذه اللوحة الأخضر بتدرجاتة الا نهائية كما أستخدم الأبيض والأسود وتدرجات البيج وأستخدم الأزرق الغامق . ظهرت بعض الملامس الخشنة على بعض الأشجار كما في عادتة وقام بتسييح اللون في باقي أجزاء اللوحة . راعى أيضاً بوش الظل والنور ولكنة لم يكن محط أهتمامة . كما لاينسى بوش أن يظهر العمق في لوحاته وهو مايميز لوحاته عن باقي اللوحات أبداعية في أبراز العمق . حيث يشعرنا بقرب القارب منا بينما تظهر الحديقة الحضراء بعيدة . أيضاً رسم بوش شجرة خضراء كبيرة وسط القارب بدلاً من الشراع وداخل هذه الشجرة رأس شخص ربما كان يصور به الأرواح الشريرة والبشعة أو ربما كان يقصد بة الشيطان الذي يقودهم إلى الشهوات . قام بوش بتصوير هذه اللوحة لتعبير عما بداخلة من أظهار عدم رضاه على الناس حيث انهم غافلون ملتهون بالملذات . إن لغرابة الفترة الزمنية التي عاشها بوش لها أثر كبير في عكس ذلك على شخصيتة , فالسمة التي تميز هذا العصر التشجيع على الفردية في تصوير الشكل التصويري الذي يعبر عن مخاوف الناس السائدة الثائرة على مصيريها وأنتظارها من دقيقة لدقيقة حكماً أبدياً في مقابل أثامهم.

هيرونيمس بوش . عيد الغطاس . 1480-1490. زيّت على اللّوح . متحف فيلادلفيا للفنّ، فيلادلفيا، السّلطة الفلسطينيّة، 1480-1490 الولايات المتّحدة الأمريكيّة عيد الغطاس قام بوش بتصويره , حيث صور شخوص تحتفل بهذا العيد , والملاحظ هنا أنة لم يصور الشخوص بشكل دقيق كعادة بوش في أغلب لوحاتة ’ وغالباً ما يركز على رسم تفاصيل ملابس الشخوص بشكل كبير. أستخدم بوش في لوحته العديد من الألوان منها : الحمر والأخضر بتدرجاته والبيج الممزوج بقليل من الأحمر والبني والأسود . كما قام بخلط الأبيض بقليل من الأسود والأزرق ليظهر لنا لون السماء المائل إلى اللون الرمادي. أظهر في هذه اللوحة بعض اللمسات الخشنة على البيت حيث أوضح خشونة العش في أعلى البيت , وقام بالتسييح في بقية أجزاء اللوحة . أهتم في هذه اللوحة بإظهار الظل والنور فكان منعكس بشكل واضح على ملابس الشخوص . كما أظهر العمق حيث رسم الشخوص ثم البيت ثم المسطحات الخضراء التي تعد من الخلفية . كعادته بوش ينقل أفكاره ومعتقداته عن طريق لوحاته .


طفل المهدي المنتظر بدعامة السيرقام بوش بتصوير طفل المهدي المنتظر دعامة السير نلاحظ بأن بوش رسم الطفل بتفاصيل غير دقيقة و غير واضحة كما قام بوش بتكبير حجم الطفل لتأكيد على أهميتة في اللوحة وتوجة النظر إلية مباشرة كما أنه عمد على أستخدام خلفية غامقة وقام برسم الطفل بالون الأبيض الممزوج مع تدرجات البيج وقلبل من البني . نلاحظ أيضاً أن بوش قسم الخلفية إلى قسمين غير متساويين حيث أن الجزء الأعلى يحثل مساحة كبيرة وهو غامق بينما يحتل الجزء الأسفل مساحة بسيطة وهي بلون فاتح . أستخدم بوش بعض اللمسات الخشنة في خلفية اللوحة ,أما الطفل فقام بتسييح اللون . رسم بوش الدعامة بخطوط دقيقة وسخيفة ولم تكن بشكل واضح . أيضاً لم يهتم بوش بتظليل حين رسمة لطفل إلا أنة قام بتظليل بعض الأماكن إلا أنه لايكفي لنقل الصورة بشكل واضح. من خلال النظر إلى هذه اللوحة نشعر بالعمق ولكنة ليس بشكل كبير كما أعتدنا من بوش في باقي لوحاته


الموسيقار ومطرب القوالي نصرت فاتح علي خانفاتح علي خان......صوت الوحدة وسفير التعايش- ماريان بريمر ترجمة: رائد الباش






الموسيقار ومطرب القوالي نصرت فاتح علي خانفاتح علي خان......صوت الوحدة وسفير التعايش


ماريان بريمر
ترجمة: رائد الباش

في الذكرى الخامسة عشر لوفاة الموسيقار الباكستاني الاستثنائي نصرت فاتح علي خان يتذكَّر العالم "ملك موسيقى القوَّالي" الذي كان شخصية منيرة في تاريخ هذا البلد المسكون بكثير من الظلام. ماريان بريمر يعرِّفنا بهذا الموسيقى العظيم.

تمثِّل معايشة عمل موسيقي من أعمال نصرت فاتح علي خان العظيمة مواجهة ميتافيزيقية. وغناؤه غياب عن هذا العالم، يحملنا إلى خلف المحسوس. لقد قام مخرج فرنسي بإخراج فيلم وثائقي عن هذا الموسيقار الصوفي الذي يعدّ على الإطلاق أهم الموسيقيين الصوفيين في القرن العشرين وأطلق عليه اسمًا جريئًا للغاية هو "آخر الأنبياء". ولد نصرت فاتح علي خان في عام 1948 في مدينة ليالبور التي تعرف في يومنا هذا باسم فيصل أباد. وقبل عام واحد فقط من ولادته ولد وطنه، دولة باكستان من مخاض كفاحها من أجل الاستقلال عن الهند. وفي تلك الأيَّام لم يكن هناك من يتوقَّع في هذا البلد حديث الاستقلال أنَّ نصرت سيصبح أهم وأبرز شخصية في باكستان.

الجمع بين عناصر من الموسيقى الفارسية والعربية - الشاعر والملحِّن أمير خسرو الذي ولد في عام 1253 وتوفي في عام 1325 ويعدّ مؤسِّس موسيقى القوَّالي. ويعدّ أسلوب نصرت الموسيقي، أي موسيقى القوَّالي المشتقة من الكلمة العربية "قول" - خير مثال على الطرق الصوفية الإسلامية في جنوب آسيا. وفي موسيقى القوَّالي اتَّحدت في القرن الثالث عشر كلّ من العناصر الهندية والفارسية والعربية لتخرج تقليدًا موسيقيًا جديدًا. كما أنَّ الأب الروحي لهذا الأسلوب الموسيقي هو الشاعر والملحِّن أمير خسرو الذي عاش في قصر سلطان دلهي وولد في العام 1253 وتوفي في العام 1325؛ وما يزال ضريحه في دلهي مركزًا مهمًا للزوَّار المتصوِّفين في الهند حتى يومنا هذا.
وازدادت بسرعة أهمية موسيقى القوَّالي في الهند التي أصبحت في العصور الإسلامية الوسطى مهد الفنون الفارسية؛ وفي تلك الأيَّام تأثَّر الكثيرون من الهندوس بأغاني أمير خسرو بحيث أنَّهم اعتنقوا الإسلام. واليوم تشكِّل موسيقى القوَّالي جزءً مهمًا في حياة المسلمين الدينية في جنوب آسيا والذين يزيد عددهم عن ثلاثمائة وخمسين مليون شخص. ولا يكاد يوجد مزار صوفي في الهند أو باكستان لا تعزف فيه أغان من مخزون موسيقى القوَّالي. ولا يكاد يوجد كذلك متجر موسيقى لا توجد فيه ألبومات الأستاذ نصرت فاتح علي خان.
البعد الصوفي
وأناشيد القوَّالي هي قصائد ملحَّنة من كنوز الصوفيين الكلاسيكية مثل أعمال الشاعر جلال الدين الرومي وحافظ وبعض الشعراء المحليين. وهذه القصائد مديح لله وللنبي وللأولياء الصالحين. وهي تعبِّر أيضًا عن شوق ومحبة المريد وحرقته، وتحمل في داخلها ألم الفراق وفرحة التوحّد مع الإلهي. وكان نصرت فاتح علي خان يغنِّي باللغة الفارسية وكذلك أيضًا وبشكل خاص باللغتين الباكستانيتين الأردية والبنجابية. وكانت مهمته باعتباره المغنِّي الرئيسي أو ما يعرف بالقوَّال هي بث الحياة في الأبيات الشعرية والتشديد على بعض الأبيات ومدِّها بالإضافة إلى إثراء اللحن الأساسي بنبرات رائعة. وإمَّا أعضاء الفرقة فهم يصفِّقون حسب الإيقاع ويردِّدون ما يقوله القوَّال، تمامًا مثلما هي الحال في موسيقى التراتيل الإنجيلية حسب أداء الرد والجواب.
وفي البدء كان يرافق الغناء طبل الدولاك والطبلة، وفيما بعد تم إدخال آلة الأرغن التي دخلت الهند عن طريق المبشِّرين المسيحيين. والمزج المثالي بين الإيقاع والنصوص والغناء في موسيقى القوَّالي يحدث لدى المستمعين نشوة صوفية. والهدف النهائي لهذه الموسيقى هو جعل المستمعين يعيشون حالة من التنزّه والسمو. وكانت لدى والد نصرت الذي كان قوَّالاً مشهورًا خطط أخرى من أجل ابنه؛ إذ كان يرى ابنه طبيبًا، وينظر إلى هذه المهنة على أنَّها مستقبلية مضمونة أكثر من حياة الموسيقي المتواضعة. ولكن نصرت الذي يعني اسمه "النصر" كان مولعًا بالموسيقى. وهكذا استطاع نصرت في فترة مبكِّرة حمل والده على إدخاله إلى فنِّ القوَّالي.
التواصل مع الأصل المقدَّس

نقل عن نصرت فاتح علي خان قوله: "عندما أبدأ الغناء فإنَّني أغيب في موسيقاي ولا يبقى شيء غير هذه الغيبوبة". وبسرعة أثبت نصرت أنَّه خليفة جديرًا لهذا التقليد. وكان ظهوره العلني الأوَّل وهو في سنِّ السادسة عشر بعد وفاة الده. وفي الذكرى الأربعين لوفاة والده غنَّى على ضريح أبيه. وبعد ذلك تولَّى مبارك عم نصرت تدريب ابن أخيه.
وبعد وفاة العم أصبح نصرت فاتح علي خان في العام 1971 رئيس هذه الفرقة الموسيقية الأسرية. وانتشرت شهرته في باكستان والهند، ووصلت بعد فترة قصيرة إلى المسارح الدولية؛ وأوصلته أوَّل جولاته الموسيقية في مطلع الثمانينيات إلى انكلترا وإلى الدول الإسكندنافية، حيث قدَّم موسيقاه بصورة رئيسية أمام الجمهور الباكستاني في المهجر.
وفي الأعوام اللاحقة غنَّى نصرت بالإشتراك مع موسيقيين غربية مثل بيتر غابرييل وإدي فيدر (بيرل جام)، وكان يركِّز على المهرجانات الموسيقية العالمية ويحاول المساهمة في بعض مشاريع الانصهار ويسجِّل بعض المقطوعات الموسيقية التصويرية لأعمال من إنتاج هوليوود.
وهكذا أصبحت للمرَّة الأولى موسيقى القوَّالي معروفة في أوروبا والولايات المتَّحدة الأمريكية. ولكن نصرت خان بقي دائمًا مرتبطًا ارتباطًا قويًا بأصل موسيقاه المقدَّسة. وبالنسبة له كانت موسيقى القوَّالي حسب التقاليد الصوفية سبيلاً إلى الله وبذلك أيضًا إلى معرفة النفس، هذه المعرفة التي كانت تحدث في الحوار ما بين القوَّال والمستمعين، على خلاف الموسيقى الشعبية ذات الوتيرة السريعة التي احتك بها نصرت في دول الخارج.
"أفضل صوت في العالم"

وفي سي دي يحمل عناون "Hommage à Nusrat Fateh Ali Khan" صدر تكريمًا للأساذ نصرت فاتح علي خان تم اقتباس نصرت للإشادة بتأثيره في موسيقى القوَّالي: "عندما أبدأ الغناء فإنَّني أغيب في موسيقاي ولا يبقى شيء غير هذه الغيبوبة ... وبفضل أسلافي وأجدادي أستطيع إيصال الرسالة التي أوصلوها، وأن أضع نفسي في خدمة مستمعيَّ لكي أتيح لهم هذه الرسالة". وعلى موقع اليوتيوب توجد العديد من التسجيلات التي توثِّق الدخول في هذه الغيبوبة. وفي هذه التسجيلات يُشاهد رجل بدين يحيط به مثل بوذا أتباعه - الموسيقيون. وبينما يدخل نصرت في أعماق أغانيه يلقي يديه إلى أعلى ويبدأ بتحريك رأسه وبهزِّه في نشوة الغناء. وغالبًا ما تستمر حفلاته لعدة ساعات وأحيانًا طوال الليل. وصفت مجلة "رولينج ستونز" صوته الرائع ذات مرَّة بأنَّه "الأفضل في العالم".
توفي نصرت بعد يومين من الذكرى الخمسين لولادة دولة باكستان، ولكن قبل ميلاده الخمسين. وكانت من نتيجة مرض السكري أن أودت بحياة هذا القوَّال في السادس عشر من شهر آب/أغسطس في عام 1997 ليتوفى بذلك وفاة مبكِّرة. ويمثِّل نصرت بالنسبة لشبه القارة الهندية ودولتيها المتعادتين صوت الوحدة - صوت هو تعبير عن ثقافة مشتركة تشترك فيها الهند وباكستان. ويعدّ نصرت بالنسبة لوطنة مصدر أمل أبديًا يستمر أيضًا في الأوقات غير المستقرة.
وفي الأعوام الماضية أصابت التفجيرات الإرهابية بعض المزارات الصوفية في البلاد وأصابت بهذا قلب روحانية الشعب الباكستاني. ومنذ ذلك الحين أصبحت حفلات القوَّالين قليلة. ولكن على الرغم من ذلك لا يمكن تفجير إرث نصرت فتاح علي خان وإزالته عن الوجود بهذه السهولة.



بسلامتها - دعونا نقترب من بابلنا أكثر!-صائب خليل

بسلامتها - دعونا نقترب من بابلنا أكثر!
صائب خليل
21 حزيران 2016

حين سمعت بدعوة العتبة الحسينية إلى تغيير اسم بابل، تداعت امامي سلسلة طويلة من الصور: بدأت بداعش التي خربت آثار نينوى وتدمر، إلى التدمير الذي احدثته القوات الأمريكية التي لم تجد مكانا تعسكر فيه (بالصدفة) إلا عند آثار بابل فسحقت المسرفات بلاطات أرضية بنيت قبل 2600 عام، إلى الحقد التاريخي اليهودي المتأصل لهذا الاسم وهذه المدينة. ولم أستطع منع نفسي من التساؤل إن لم تكن هذه إحدى الصور التي تكمل هذه السلسلة! لكني أيضاً لم استبعد ان تكون القضية كلها فقاعة إعلامية بهدف تحويل النظر عن معركة الفلوجة المحتدمة.

العتبة الحسينية سارعت بنفي قرار تغيير اسم مدينة بابل إلى مدينة الحسن. وتم التراجع في البداية تحت عنوان "توضيح" (1) فنقل عن علي كاظم سلطان: “ان العتبتين المقدستين ليس لديهما أي مساعي الى تغير اسم المدينة الرسمي بل لتسليط الضوء على كرم أهالي المدينة باحتضانهم للزائرين”.

كذلك قال مسؤول اعلام العتبة الحسينية حيدر السلامي انه “ليس للعتبتين أي دخل في موضوع تغيير أو تعديل أو إضافة أي اسم لأي محافظة ولا يعنيها أمر كهذا وليس في نيتها طرحه لا رسميا ولا شعبيا”. واشار الى ان “إضافة عبارة (مدينة الإمام الحسن عليه السلام) إلى مدينة الحلة إنما هي إضافة تشريفية تكون لها كاللقب أو الكنية أو الوصف من قبيل إضافة عبارة مدينة الإمام الحسين عليه السلام إلى مدينة كربلاء فنقول (كربلاء مدينة الحسين)"
وعزا الخطأ إلى "لبس في تعبير محرر الخبر أو بالأحرى مصدر الخبر أو الشخص المصرح والذي أورد الإشارة إلى تغيير اسم بابل الى مدينة الحسن”. (2)

لكن من قرأ الخبر في نصه الأصلي يدرك فوراً أن هذا ليس سوى تراجع دبلوماسي قد يكون سببه الضغط الشديد الذي حصل.
ففي نص الإعلان جاء: "وتابع سلطان حديثه ان المطالبة بتغيير اسم محافظة بابل جاءت بناء على دعوة وجهها مرجع الطائفة الكبير اية الله العظمى السيد (محسن الحكيم) -طيب الله ثراه- في زمانه بان تسمى كل محافظة من محافظات العراق باسم أحد ائمة اهل البيت عليهم السلام". وهو نص واضح لا يمكن لشرح ان "يوضحه"، فكلمة "تغيير" واضحة لا مجال لإساءة تفسيرها، وكذلك ليس لمحرر ان يخترع مثل هذا النص ويضعه من عنده.

الكثير من المدافعين عن العتبتين، الذين لم يجدوا طريقة مقنعة للدفاع، مثل جسام محمد الذي تبنى نظرية "غلطة المحرر"، انهال بالشتائم على المهاجمين، ثم أضاف واصفا الجميع بالجهل: " ان العتبتين المقدستين لو كانت مقتنعة بمسألة تغيير الاسم فلن يغير رأيها هاشتاك هنا، او صراخ هناك، فهي لا تمانع ان تفعل ما تريد ان اقتنعت به، ما دام شرعياً، اقتنع الناس به ام لم يقتنعوا، فكلام الجهلة ليس بوصلة للعتبتين." وأشار إلى ان "المرجعية العليا" (لاحظ: "المرجعية" وليس "العتبتين") سبقت حتى منظمات المجتمع المدني بالتنديد بسرقة الآثار وتغيير الهوية الحضارية للبلد. وقال أن "نشر الخبر المكذوب، يذكرنا بالذباب حين هجومه على جيفة لكلب بين حديقة أزهار غنّاء، تاركين ورودها الجميلة." (3)

المسؤولين في المحافظة تحدثوا بحذر شديد لحساسية الموضوع ومكانة "العتبتين". فقال عضو مجلس محافظة بابل حسن كمونة بان تغيير اسم المحافظة "سيأخذ منعطفاً آخر"(4). وانتقدت د. حنان الفتلاوي أيضا بحذر، مذكرة بتاريخ بابل الممتد لأكثر من 5000 سنة وأنه لا يمسح بجرة قلم او بمؤتمر. (5)

لكن من انتقد من الكتاب لم يجد ضرورة دبلوماسية فكان شديدا في الغالب. فهاجم الكاتب نصير المهدي المشروع بقوة قائلا: (6)
"بينما تتفاعل قضية تحرير الفلوجة لبناء مناسبة وطنية تعيد الى العراق ولو القليل من عافيته تظهر من بين الثقوب فتنة تسمية محافظة بابل باسم الامام الحسن عليه السلام" وتساءل: "ما علاقة الأمام الحسن عليه السلام ببابل؟" واستغرب العذرين الـ "بائخين جدا هما أن بابل تستقبل زوار الحسين عليه السلام وأنها محافظة كريمة ككرم الأمام الحسن عليه السلام. حسنا ألا تفعل القادسية ذلك؟ وهل السماوة مثلا أقل كرما؟" ..."يتخذون من اسم الامام الحسن عليه ستارا لنية مبيتة في خدمة الصهاينة الذين يشكل لهم اسم " بابل " كابوسا يتمنون لو يزيلونه من الذاكراة والتاريخ كي لا يبقى فيه الا صفحات انتصارهم على العرب والمسلمين وإذلالهم ."... "باستغلال عواطف الناس ومشاعرهم وحبهم لأهل البيت عليهم السلام يمررون الأجندات المشبوهة لتدمير حضارة العراق ومحو تاريخه وتشويه أجياله.. بماذا يختلفون عما فعلته داعش في تدمير آثار ومعالم المنطقة في سوريا والعراق كي لا يبقى على وجه هذه المنطقة الا اسم " إسرائيل " ومزاعمها التاريخية الباطلة في المنطقة . "

وفند علاء اللامي(7) حجة ان اسم بابل وثني قائلا: "هل يعلمون أن أصل كلمة كربلاء هو كرب إيلاء. .أو كرب إيل في اللغات السامية القديمة ومنها الآرامية أي قرب الإله ومثلها باب إيل أي باب الإله .. فهل يجرؤون على تغيير اسم كربلاء أيضا ؟
ورأت زينب الموسوي انه تصريح للتلهية: (8) "يوم لازم نغير النشيد الوطني الى "يحسين بضمايرنا (دعوة اطلقت عام 2003) يوم العلم يوم اقليم يوم نغير اسم محافظة وهكذا"

إلا أن عماد حسن أكد أنها مؤامرة طويلة وأن "المسألة لم تبدأ اليوم" مشيراً إلى اخبار من السنة الماضية بأن " هناك امرا مبيتا بل مشروعا كاملا وهيأة عليا تخص موضوع الحلة مدينة الامام الحسن . .. وهو مدعوم من المرجعية كما يدعون" وأن "الخطوات بدأت منذ زمن وحاولوا اليوم الانتقال الى خطوة مفصلية باتجاه التغيير.. وأن هذا هو الهدف الحقيقي الأصلي من أنشاء هذا الكرنفال، وأن رئيس المشروع حسن علي الحلي قال في كلمة العام الماضي: "أنّ اسم الإمام الحسن(ع) سيُحصّن المدينة من تداعيات متغيّرات العصر التي تحاول جرّ أبنائها الى أفكارٍ بعيدةٍ عن الإسلام تحت مسمّياتٍ مشبوهة.". "الاصرار عليه (تغيير الإسم) يدل على انهم ارادوه تغييرا رسميا بديلا ان لم يكن ملازما كحد ادنى وخطوة اولى... الشيء (الذي كان) غير المتوقع هذه السنة هو هذه الهبة والرفض من العراقيين حتى من بعض المحسوبين على التيارات الاسلامية .. كان رفضا شاملا.." (9)

وأخيراً كتبت بيداء حامد بأنها خدعة من إعلام محترف يريد إلهاءنا: (10)
"الاعلام المحترف لا يكذب علينا، هو يكتفي بوضع اقدامنا في ساحة المعركة الخطأ .. واخشى ان تتكفل غفلتنا بالباقي ..
النصر بالفلوجة ما زال وليدا طريا بحاجة الى حماية، كيف وجدنا انفسنا فجأةً .. نقاتل في بابل؟!"

إنها وجهة نظر أخرى معقولة، ولكن.. من الذي أطلق هذه الخدعة ليحرف تركيزنا عن "النصر بالفلوجة"؟ وإن كانت العتبتين بريئتان من التآمر على إسم بابل لأي سبب كان، فمن الذي أطلق ذلك البالون من داخلهما؟ ولماذا؟

هذا سؤال لا يبدو ان العتبة الحسينية تريد او تقدر على الإجابة عنه، فليس لنا سوى ان ننتظر ما سيأتي به المستقبل. وحتى ذلك الحين دعونا نحتفل بسلامة بابل من المؤامرة مهما كان مصدرها، ودعونا نزيد معرفتنا بها بهذا الفلم الجميل عن الطلاء الخزفي الأزرق الذي احتفت به بوابة عشتار بأكثر من عشرين ألف قطعة من الحجر الازرق المزجج، وكيف تطلبت صناعته افرانا مستقرة الحرارة على 950 درجة مئوية، وبدون أجهزة سيطرة بل وبدون مقاييس حرارة! دعونا، وعلى عكس ما أرادوا، دعونا نعرف بابل أكثر ونحب بابل أكثر. (*)
(*) فيديو: الطلاء الخزفي البراق في بابل
 https://www.facebook.com/Iraqimuseumfriends/videos/240635896320588/



(1) العتبة الحسينية تصدر توضيح بخصوص مهرجان الامام الحسن في بابل
 http://imamhussain.org/news/6643vie.html
(2) المسؤول الاعلامي للعتبات حيدر السلامي يبرر الامر بانه مجرد كنية تشريفية اضافية لبابل https://www.facebook.com/photo.php?fbid=1010874842353395&set=a.513717152069169.1073741830.100002926652950&type=3&theater
(3) Jassam Mohammad - كذبة تغيير اسم بابل.. خطأ يرتكبه محرر في موقع...
https://www.facebook.com/jassam.mohammad/posts/1220453554634246?hc_location=ufi
(4) عضو بمجلس بابل: تغيير اسم المحافظة سيأخذ منعطفاً آخر
 http://www.alsumaria.tv/news/171667/
(5) ‏د. حنان الفتلاوي‏ : تاريخ بابل يمتد لأكثر من 5000 عام https://www.facebook.com/hanan.alfatlawey/photos/a.165161543552941.39323.159405140795248/1019240704811683/?type=3&theater
(6) نصير المهدي ينتقد تغيير اسم بابل
 https://www.facebook.com/neseer.elmehdi/posts/1753345478279892
(7) علاء اللامي - هل تعلم الجهات الطائفية التي يديرها لصوص العتبات...
 https://www.facebook.com/allamialaa/posts/1094878617239400?pnref=story
(8) زينب الموسوي - اكو ناس تعتاش على اللغوة الزايدة
https://www.facebook.com/talbt.almhmd/posts/805203422949766?comment_id=805204606282981
(9) Imad Hasan - المسألة لم تبدأ اليوم .. راجعوا تحضيرات الدورات...
 https://www.facebook.com/imad.A.H.H/posts/1011043292336550?__mref=message_bubble
(10) Baydaa Hamid
https://www.facebook.com/baydaa.hamid/posts/842921235843354?pnref=story

الخميس، 23 يونيو 2016

أختام *-عادل كامل





















أختام *


 الختم الثاني

عادل كامل
       
[8] منعم فرات ـ السرداب خال ٍ من السلالم!


     لم يكن النحات منعم فرات كاتبا ً، ولكن الكلمات القليلة التي تركها تكفي لمعرفة انه لم يكن مشغولا ً ببيع مجسماته، ـ وإن كان مضطرا ً لبيعها في بداية حياته ـ التي وضعته، ذات مرة، أمام القضاء، فقد كان يرى (الدنيا) سردابا ً خال ٍ من السلالم، وعراك البشر، عنده، غير مبرر، وهذا ما دفعه ليصغي إلى ذرات الخامات في تصادماتها، وفي عويلها العميق، وما تتركه من غموض ملغز، لا يليق بنا كبشر، ولا بأصول الاشتباك. انه سمح لي أن أتذكر أعظم شعراء العراق مرارة في المشهد ذاته، الملا عبود الكرخي، لأنهما كلاهما منحا الفلسفة الانتقادية سكنها في الفن. لم يكن منعم فرات بهلوانا ً، أو أيديولوجيا ، كي يخدعنا، ويوهمنا، ويغوينا، كانت مهمته قد سمحت له أن يستعيد تقاليد أقدم الانشغالات اللا متوقعة: الأشياء الشبيهة بالفن. لكن ليست الهامشية، أو المهمشة، بل المتجذرة في الشخصية الرافدينية، وايكولوجيتها العميقة. فالبدائي يذكرنا ـ في مجال مجاور ـ بالتماثل التكويني الحاصل في تكوينات أجنة الكائنات الحية، واختلافها، بعد ذلك. وكان هذا الاختلاف، في فنه البدائي ـ أو السابق على المعرفة التلفيقية ـ يخص إنسانيته، فلم يبحث عن الثراء أو الشهرة، فقد انشغل بأسئلة ترجع إلى المنطق: لماذا تنتهك حرمات المخلوقات الضعيفة، ولا تجد من يقف معها. الأسد لن يتحول إلى وليمة! ولكنه، لن يفلت من العقاب، عندما نعيد قراءة الدورة كاملة. كان هذا الانشغال يمتلك هويته ـ مع فجر التحديث في الحياة البغدادية ـ وبصماته، وشفافيته. فارجعنا منعم فرات إلى حكماء العصور السحيقة، من سومر إلى بابل، وصولا ً إلى مفهوم المعتزلة حول العقل، والمتصوفة بتخليهم عن غوايات التراب. فكان فنه إجابات لا تتضمن أسئلة، بل تزدحم بها، حد انه لم ير الحياة، إلا كما رآها الشاعر الملا عبود الكرخي ـ كما في رائعته المطحنة ـ فالدنيا ـ الحياة ـ لا تساوي شيئا ً كي تنتهي بالحساب! حساب يجري مع من: مع العناصر، أم مع المكونات، أم مع النتائج ... ومنعم فرات، كالكرخي، لم يهمل المسار المعقد للاشتباك، والتصادمات. فالضحية ـ كما في سفر أيوب السومري ـ يستعيد قراءة مفهوم العدالة برمتها. هذا الوعي العميق الكامن في فن منعم فرات، لم يكن بدائيا ً، أو شخصيا ً، كآخرين سيحولون فنهم إلى سلعة، والسلعة إلى ما تتطلبه من مهارة حرفية، وإنما بمهارة الفنان، كي تعالج قضايا توازي مرارة المحنة: المحدود إزاء مساحة الاشتباك وما تفضي إليه. فلم يحول فنه من اجل الكسب، ولم يسمح  لحياته أن تكون عابرة. فلم يوظفها لأحد، أو يقع في غواية الدفاع عن وهم من الأوهام. لقد وجد مصيره شبيها ً بمن سبقوه، التمسك بالدفاع عن الهزيمة ـ وعن المهزومين ـ: فالاشتباك لن يقود إلى نصر، ولن يقود إلى خاتمة، عدا ديمومة مقدماته ونتائجه: الأكثر رهافة في مواجهة جبروت الظلم ـ والظالم. وحتى لو كان قد اختار الفلسفة ـ كأسلافه المعتزلة ـ لكان لقي حتفه في سرداب، أو لكان اختار الفناء/ والتطهر/ والعفة / كالمتصوفة، ومات ضحية الأنظمة ذاتها في إنتاجها لبنية الاشتباك. تلك كانت ريادة منعم فرات التي صاغها ولفت انتباه نقاد أوربا ـ وربما الاستثناء الجدير بالذكر هنا، هو استأذنا الدكتور أكرم فاضل في عنايته بالفنان ومهد للباقين في الحديث عن حياته وفنه ـ كي لا يذهب المجهول.
     لكن مهاجرا ً لم يحتمل مقاومة الرداءة في وطنه، لن يرصد الجهد الممهد للوعي النقدي ـ على صعيد الكتابةـ أو في الانجاز الفني، خلال القرن الماضي، في التشكيل العراقي، كي يهمل الجهود كافة، ولا يستثني الا من راه عبر ثقب في بصره! فلم يذكر ان الوعي النقدي عند منعم فرات، ومحمود صبري، وجواد سليم، لم يكن عابرا ً، كما لم تكن المقدمات النقدية عند جبرا إبراهيم جبرا، وشاكر حسن، وعباس الصراف، بنزقة في هذا المجال. وسيقال لي: لماذا تشغل نفسك، وتشغلنا، بما هو بمصاف اللا فعل!
    أعود إلى منعم فرات، كإجابة تلخص المسار ذاته لنسق من قال كلمته ومضى، كما قالت العرب، لكن هذا ليس اعترافا ً بالهزيمة، بل للفت النظر إلى البلاغة الزائفة لعصر الإعلانات، وإهمال سيسمح للدورة أن تبلغ نهايتها: الاستهلاك. لأن مفهوم صياغة الأختام البكر، لن يغادر لغز تكّون الرهافة ـ من الأصابع والحواس إلى الدماغ، ومن الأخير إلى الوعي والى النص الذي غدا نموذجا ً للأكثر احتمالا ً في تدشين الدروب الوعرة. فعندما تشتد العتمة ـ لا بغياب مصدر الإنارة فحسب ـ بل لانحسارها لدى الباحث وتحولها إلى حلقة بين لا محدودين ـ أو مجهولين. وإذا كان من الصعب إجراء مقارنة بين ما ينتجه المحدود، وصلته بما هو ممتد، فان الأخير، ليس فائضا ً في حضوره عبر علامات قاومت زوالها، لا كي تغوينا بالخالد، والسرمدي، بل كي لا تمجد الوهم كثيرا ً! 
[9] اللاحافات ـ الصفر عددا ً


     وأنا انظر إلى تلال القمامة، التي كانت ترمى إليها جثث المغدور بهم وتترك نهبا ً للكلاب التي لا اعرف أأنا كنت انظر إليها مذعورا ً أم هي التي كانت تؤجل مشروعها نحو جسدي، فكرت بالمخلفات: نفايات المدن في خرابها/ وما يخلفه الزمن/ ولا مبالاة الناس. فإذا كان الأوروبي يتداول سلعه، ليستهلكها، فهو أكثر فهما لمصيره بين خاتمته ومقدماتها. بضائع جميعها لم تصنع في بلدي، فالناس تحولوا إلى مستهلكين، الأمر الذي عزز عزلتهم، وهمومهم، إلا في الرصد والمراقبة. فالعمل أصبح ـ كما كان عمل المزارع أو الحائك قبل نصف قرن ـ لوثة! فكرت في النفايات المنتشرة، في الساحات، مع بقايا أشجار مهملة، وعند نهايات الأزقة، وفي الممرات الجانبية، ولماذا أصبحت لا تثير القرف! هل لأن من أسهم في دفن أحفاده يجد سلوى في عرض نشاطه، بعد أن صنعه، كي يدافع عنه في هذا العرض الغامض للأعماق، والخواء! فانا لن أنسى أن أستاذا ً يعمل في وزارة ثقافية وتربوية، طالما انجذبنا إلى حواراته حول ما يحدث، رايته، في يوم عاصف،  يفّرغ سلة المهملات فوق تل الزبل الذي يقع في نهاية الشارع! ما علاقة هذا بعملي وأنا مشغول بالعثور على غواية للتنفس، وليس للخلاص! فالموت هو الذي بلغ ذروته، أما الحياة، فلم تعد إلا دحضا ًلكل ما تعلمته منها. الأمر الذي سمح لي أن احفر مساحة ارقد فيها، في الختم، ختمي، أو في العبارة، عبارتي. على أن دوافع الحياة ليست ذاتية، من غير محفزات حتى لو كانت بحجم مرور طير، أو تأمل شجرة معزولة بين مدافننا. فالمائة عام الأخيرة، التي أراها أمامي، ليس باستطاعتها إلا أن تسهم بموتي جزءا ًجزءا ً، وها هي تحول الأشكال إلى نفيها، ولا تترك للدوافع إلا أن تكون لا متوقعة، ولا معقولة. فهل كان إنسان المغارات ـ الذي وجد نفسه يحفر فوق الصخرة، أو يرسم فوق الجدران، يعمل بدوافع القهر، وهو ـ مثلي ـ أدرك أن الجدران لن تحمي شيئا ً، أم كان، لسبب ما، يعمل بقوة الديمومة، واليات غوايتها؟
     أليس من العبث أن اسأل نفسي سؤالا ً حول اللغز الذي سكنه، وجعله متوازنا ً، وهو عرضة للافتراس، بدل أن أحاور الجزء الآخر في راسي؟ يصعب علي ّ ـ الآن ـ الإجابة عن سؤال: ما الصدق/ ما الواجب/ وما الصواب ...؟ فالاشتباك ـ الشبيه بحرب الجميع ضد الجميع ـ لا يستند إلا إلى نظام الصياد ـ الضحية، هذا الذي ـ خلال قرن ـ اتجه نحو خاتمته: بلدان غادرت التاريخ،وبعضها تُرك يحتضر فوق تلال القمامة، وعند الخرائب، وأخرى تنهش بعضها البعض الآخر؟ فأي أمل، أو حرية، أو خلاص، أو منطق، بإمكانه أن يستبدل الوهم، والرداءة، والتعفن، بهواء غير اسود!
     لقد تحدث (ادلر) عن الدفاعات التي يستند إليها المنتحر، الدفاعات السلبية، لكنها، في الأخير، لا تقل رداءة عن عمل الشعوب التي تفترس أخرى، وتحولها إلى مخلوقات بلا غاية، ضائعة، وحشية، ولكنها ـ كالكلاب التي كنت أراقب شراستها ـ لا تعرف الرحمة.
     وأنا أراقب الريح تهز سعف نخلة الجيران، اجهل ما اذا كانت هي التي تمشي في جنازتي، أم أنا هو من يمشي في جنازتها! الريح، بمعنى ما، الوسط المرئي للعبور، لا تمتلك إلا عفنا ً تحمله معها، داخل أرضنا، دون إضافات تذكر. فالعفن الذي حصل، بعد أن انفصلت الأرض عن نجمها، وتجمعت العناصر، وصار لها مجالها الحيوي، أنتج لغزه. فذرات هذا الجسد، جسدي، مع كل ما أنتجته، ونطقت به، وكتمته، سيكّون جزءا ً من الريح وهي تؤدي دورها ـ الذي لا مقدمات له، ولا خاتمة ـ في المرور، والعبور، والإعادة. فثمة آخر مغفل سيعمل لا على غواية الآخرين، أو إيذاء البيئة، بل في الذهاب بعيدا ً في مدياته من اجل التوازن. حقا ً أن من لا وجود له ـ أمامي ـ أراه يحفر ـ كما اشتغل في فك مشفرات مخلفات السابقين ـ واراه، مثلي، يجهل سر استحالة استبعاد القبول إلا بالغواية نفسها: المرور إلى هناك، وابعد، في انتظار الذي يمر بأسرع من زماننا ـ في أبدية اللا حافات!



تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.


الأربعاء، 22 يونيو 2016

محمد أركون.. فتوحات معرفية لا تزال شبه مجهولة-*هاشم صالح





محمد أركون.. فتوحات معرفية لا تزال شبه مجهولة
*هاشم صالح



كان محمد أركون قد أصدر كتابه «قراءات في القرآن» مرتين في حياته: المرة الأولى في باريس عام 1982، والمرة الثانية في تونس عام 1991. والطبعة الثانية كانت نسخة طبق الأصل عن الأولى، ما عدا إضافة مقدمة جديدة مهمة. والآن، يصدر الكتاب للمرة الثالثة، بعد رحيل المؤلف، في طبعة ضخمة أكبر من السابق بكثير. وهذه الطبعة الفاخرة التي تتجاوز الخمسمائة صفحة من القطع الكبير، الصادرة عن دار نشر باريسية شهيرة «ألبان ميشال»، تعتبر جديدة بكل المقاييس. فقد اكتشفت زوجته السيدة ثريا اليعقوبي أركون على جهازه الإلكتروني كنزا ثمينا، ألا وهو مراجعة شاملة لكتاب «قراءات في القرآن». ويبدو أنه اشتغل عليه في أواخر حياته كثيرا ونقحه، وأضاف كثيرا إلى فصوله وعدل وصحح وغيَر وحسَن. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكتاب يحتوي على أربعة فصول جديدة تنشر لأول مرة، وهي: الدين والمجتمع طبقا للمثال الإسلامي، والوحي.. التاريخ.. الحقيقة، ومن أجل إعادة قراءة نقدية أو ما بعد نقدية لسورة التوبة، والتركيبة المجازية للخطاب القرآني.
ومنذ البداية، يقول لنا الناشر جان موبوتا: إن محمد أركون أحد أكبر المفكرين في عصرنا الراهن فيما يخص الإسلام والدراسات الإسلامية، فقد قطع ليس فقط مع النزعة التبجيلية لكثيرين، وإنما مع النزعة المحافظة للاستشراق أيضا. لقد جدد المنهجية الاستشراقية، وتجاوزها بمراحل. ودعا إلى قراءة نقدية، أي علمية، لكل تراث الإسلام، وبالأخص القرآن الكريم. لقد كان محمد أركون مفكرا قاسيا مع نفسه، ومع الآخرين. بمعنى أنه لم يكن يتساهل أبدا عندما يتعلق الأمر بالبحث العلمي الرصين، وبكيفية تطبيق المنهج والمصطلح على تراث الإسلام الكبير. وكان يهدف إلى تجاوز القراءة الحرفية الدوغمائية المتحجرة والمدمرة لجوهر التراث الديني. وهي القراءة التي أوصلتنا إلى «داعش» والـ«دواعش». فالنص الديني لا يؤخذ دائما بحرفيته المرتبطة بظرفيتها، وإنما بجوهره ومقصده الأسمى ومعناه العميق. كان أركون يهدف إلى مصالحة الإسلام مع الحداثة والنزعة الإنسانية. وكان يبحث عن إسلام مؤنسن أو إنساني النزعة، إسلام متصالح مع أفضل ما أعطاه تراثه الروحاني والأخلاقي الكبير من جهة، ومع أفضل ما أعطته الحداثة التنويرية من جهة أخرى. ألم يهد أطروحة الدكتوراه الكبرى إلى والده وخاله قائلا: «إلى أبي وخالي الحاج العربي اللذين كشفا لي عن الأبعاد الروحية والإنسانية للإسلام»؟
وفي مقدمته للطبعة الثانية، أي الطبعة التونسية، يقول محمد أركون ما معناه: «هذا الكتاب الذي نشر للمرة الأولى عام 1982 كان قد نفد بسرعة. وقد ترددت كثيرا في إعادة نشره لأني كنت أفكر في تأليف كتاب جديد. ولكن تبين لي أنه يمثل مرحلة علمية ضرورية من أجل إضاءة النص القرآني والتراث الإسلامي العريق ككل. وكنت قد طبقت فيه لأول مرة المناهج الألسنية والسيميائية على النص الأعظم للإسلام.وكان ذلك في وقت مبكر يعتبر فيه مثل هذا العمل نوعا من (الهرطقة) بالنسبة للمتدينين التقليديين، بل وحتى بالنسبة لكثير من الباحثين المحدثين الذين نجد أنهم يظلون متحفظين ومترددين في تطبيق مناهج العلوم الإنسانية على النصوص الدينية.. وهذا شيء مؤسف لأنه لا يمكن أن نتحرر من العقلية الدوغمائية إن لم نفعل ذلك».
هذا الكلام قاله محمد أركون قبل ثلاثين سنة، بل وطبقه عمليا قبل خمسين سنة. وهذا يعني أنه استبق حركة الأحداث، وعرف أين تكمن المشكلة الكبرى بالنسبة للعالم الإسلامي. لقد هاله حجم الخدمة التي قدمها فلاسفة أوروبا لتراثهم المسيحي على مدار ثلاثة قرون من عمر الحداثة، في حين أن أحدا لم يفعل شيئا يذكر بالنسبة للتراث الإسلامي. ولهذا السبب شمر عن ساعديه وأراد خدمته بكل الوسائل المتاحة، أي عن طريق تطبيق المناهج الحديثة عليه. هنا، تكمن الخدمة الكبرى التي قدمها أكبر مجدد للفكر الديني في تاريخنا الحديث. ولكن متى سيفهم المثقفون العرب حجم الزلزال الذي أحدثه محمد أركون في دراسة التراث؟ في الواقع أن بعضهم أصبح يدرك ذلك. ولكن الفتوحات المعرفية التي حققها لا تزال مجهولة في معظمها بالنسبة لكثيرين. وربما كان السبب يعود جزئيا إلى صعوبة فكره ووعورته ومستواه العالي جدا من الناحية الأكاديمية. فهو مليء بالمصطلحات التقنية العويصة التي لا تستطيع أن تفهمها جيدا قبل أن تقرأ مكتبة كاملة في العلوم الإنسانية. من هنا، صعوبة ترجمته أيضًا حتى على شخص مثلي أمضى عمره في هذه العملية. على أي حال، أرجو أن انتهي من ترجمة هذا الكتاب الضخم في نهاية العام لكي يصدر مطلع العام القادم عن دار الساقي في بيروت. إنه كتاب يحتوي على فتح الفتوح، على آخر أفكاره وأطروحاته التي ستغير المشهد الفكري في العالم العربي والإسلامي كله.
ومن أهم فصول الكتاب نذكر: كيف نقرأ القرآن اليوم؟ أي كيف نقرؤه بعيون جديدة وبفكر تاريخي وألسني وسيميائي جديد؟ كيف نقرؤه إنتربولوجيا وفلسفيا أيضا؟ هناك فرق بين القراءة الطقوسية الشعائرية العذبة والقراءة النقدية والفلسفية الحديثة. يعرف ذلك كل من تربى تربية قرآنية في طفولته الأولى. نحن نتوهم أننا نعرف القرآن لمجرد أننا تلوناه آلاف المرات في حياتنا. ولكن هذا مجرد وهم سرعان ما يتبدد عندما نطلع على بحوث العلماء الكبار عنه. وعلى عكس ما يظن، فإن عظمة القرآن لا تتجلى لك بشكل حقيقي إلا بعد قراءة كتاب أركون. ذلك أن المجددين الكبار هم الذين يضيئون التراث، وليس المقلدين الذين يكررون نفس الكلام منذ مئات السنين. لن تعرف معنى القرآن الكريم حقيقة إلا بعد الاطلاع على فصول هذا الكتاب المتتالية. أتوقف عند فصل ضخم بعنوان: الحج في الفكر الإسلامي. هنا أيضًا لن تعرف معنى الحج حقيقة إلا بعد الاطلاع عليه. ذلك أن هناك فرقا شاسعا بين المنظور التقليدي له والمنظور التاريخي الحديث. وبعد أن تقرأ الفصل، تشعر وكأنك اكتشفت قارة جديدة، وفهمت الموضوع بشكل مدهش وغير مسبوق. ثم تقول بينك وبين نفسك: يا إلهي كيف خفي علينا كل ذلك؟ هنا تكمن أهمية البحوث العلمية الأكاديمية المطبقة على التراث. إنها تحررك من نفسك تقريبا. إنها تضيء لك ماضيك وتراثك، فتصبح تراهما بعيون جديدة. إنها تبين لك الفرق بين جوهر التراث وقشوره.والأخطر من ذلك، تبين لك أننا نتمسك بالقشور ونهمل الجوهر. وجوهر تراثنا العربي الإسلامي العظيم هو القيم الروحية والأخلاقية والميتافيزيقية العليا. وكل هذا نسيناه بسبب التسييس المفرط للدين. وأكبر جريمة ارتكبتها حركات التطرف الداعشي وغير الداعشي هي أنها قضت على جوهر الإسلام وطمسته، وشوهت سمعتنا في شتى أنحاء العالم، وهي جريمة لا تغتفر. وعلى أي حال فهذه مشكلة قد لا نقوم منها قبل خمسين سنة قادمة! ذلك أن تراثا عظيما ضخما، يشبه البحر المتلاطم الأمواج بتياراته المتشعبة وأفكاره، اختزلوه إلى مجرد قطع للرؤوس وتكفير للبشرية جمعاء. تراث مليء بقيم العقلانية والنزعة الإنسانية والتسامح والفتوحات المعرفية الكبرى حولوه إلى مجرد مقولات صدئة وتخريجات مضحكة وفتاوى فتاكة لنشر الرعب في شتى أنحاء المعمورة. هنا تكمن جناية هؤلاء على تراثنا الديني والفكري والأخلاقي الكبير. كيف سنسترد سمعتنا؟ كيف سنسترد هيبتنا عالميا بعد كل ما حصل؟ عن طريق قراءة كتب جادة مضيئة، مثل كتاب أركون، ثم عن طريق نشر الفكر التنويري الإسلامي في كل مكان، وبكل الوسائل المتاحة. ذلك أن المعركة الدائرة فكرية قبل أن تكون عسكرية أو سياسية، ويخطيء من يظن أننا ربحنا المعركة الفكرية ضد حركات الإسلام السياسي التي تكتسح الشارع. إنها معركة طويلة الأمد، وأكاد أقول إنها لما تكد تبدء. وعندما تطلعون على هذا الكتاب تعرفون معنى المعركة الفكرية التي تنتظرنا وحجم المعركة الفكرية. إنها هائلة وأكاد أقول: تقصم الظهر!
كنت أتمنى لو أستطيع التوقف عند الفصول الأخرى الهامة، وكلها هامة تكمل بعضها بعضا. ذلك أن أركون ما انفك يحفر على الإشكاليات، ويعمقها أكثر فأكثر على مدار خمسين سنة متواصلة. والدليل على ذلك هذا الكتاب الذي نقحه وأعاد كتابته حتى آخر لحظة في حياته. ذلك أن تحرير المسلمين فكريا كان شغله الشاغل. عليه ينام ويستيقظ.كنت أتمنى لو أستطيع التوقف عند فصل حاسم بعنوان: الوحي والحقيقة والتاريخ. هنا أيضًا، لن تخرجوا منه «سالمين» بعد قراءته. أقصد لن تخرجوا منه تراثيين ماضويين كما كنتم قبل قراءته، سوف ينكشف لكم تراثكم على حقيقته وكأنكم تطلعون عليه لأول مرة. وهنا تكمن ميزة البحوث الريادية التجديدية التي تغير العقليات والأفكار الأكثر رسوخا. ومعلوم أن زحزحة الجبال أسهل من تغيير العقليات، ولكن صاحب نقد العقل الإسلامي كان قادرا على زحزحة الجبال.
أخيرا ينبغي التنويه بالجهود الكبرى التي بذلتها زوجته السيدة ثريا اليعقوبي أركون، ليس فقط لإخراج هذا الكتاب الضخم بكل المقاييس، وإنما أيضًا للإبقاء على ذكراه حية من خلال المؤسسة التي أنشأتها بعد رحيله: مؤسسة محمد أركون للسلام بين الثقافات. وهي مؤسسة تقدم للقارئ مجانا مدخلا واسعا إلى فكر محمد أركون من خلال الأشرطة التسجيلية التي تظهره بالصوت والصورة وهو يتحدث في مداخلاته ومقابلاته الكثيرة.هذا وقد أشرفت أخيرا على توزيع جائزته السنوية في مجلس الشيوخ الفرنسي على أحد الباحثين في الفكر الإسلامي.
______

*الشرق الأوسط

الاثنين، 20 يونيو 2016

وداعا ً ناصر الاسدي-د. إحسان فتحي






وداعا ً ناصر الاسدي




  إلى الزملاء المعماريين العراقيين والأصدقاء في كل مكان

تحيات وسلامات

بمناسبة رحيل الصديق والزميل العزيز ناصر الاسدي وودت أن اكتب بعض السطور عن حياته المهنية الحافلة بالمنجزات المعمارية والأكاديمية تخليدا لذكراه وتحية إلى حسه الوطني العراقي الكبير وللطاقة المذهلة التي كان يتمتع بها. وكذلك تصحيحا لبعض الأخطاء التي نشرها بعض الزملاء عن أعماله، ولأنني كنت أراه يوميا تقريبا لأكثر من 12عام في قسم العمارة في جامعة بغداد


د. إحسان فتحي  
جمعية المعماريين العراقيين









الجمعة، 17 يونيو 2016

سومريات على ورق البردي

قصص ليست قصيرة جدا ً- عادل كامل

قصص ليست قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] عفن
   قالت الدودة التي أخرجت رأسها المدبب من عفن لحم الحمار الميت، منذ أسبوعين، تخاطب زميلتها، وهي تتنفس الهواء:
ـ ما أقساه، حتى إن رائحة الزنابق، لم تعد تحتمل، ولا رائحة الشمس!
  فقالت لها زميلتها:
ـ إن عطر لحم حمارنا الميت، لا يمكن استبداله حتى بهواء الفجر، فكيف وقد امتزجت به رائحة الورود، والنهار!
فقالت الأخرى بصوت حزين:
ـ ما هذا التشاؤم...؟
ـ حرت معك...!
   فقالت لها، وهي تعيد دفن رأسها وتخفيه، بصوت خفيض:
ـ  لو لم نستنشق هذا الهواء، ونتذوق مرارته، لما استسغنا عطر عفن لحم حمارنا المسكين!


[2] ابتلاء
    ابتلى الثور ببقرة لم يفلح بالخلاص منها، أو التواري عنها، كما لم يستطع أن يستدرجها، أو يرغمها، لتجد ثورا ً آخر سواه، على مدى سنين طويلة، لتتخلص منه، أو يتخلص منها، فاعتكف وحيدا ً منزويا ًفي ركن مهمل من أركان الزريبة، يطل على الصحراء، فهزل، حتى كاد المشرف على الزرائب، أن يرسله إلى المسلخ، أو يرسله طعاما ً للمفترسات، في المحمية، مرات ومرات، لولا تحوله إلى جلد لا توجد فيه إلا كومة عظام لا تصلح لشيء، فترك الثور، وفاء ً للأدوار التي  قام بها قبيل اقترانه، وزواجه، في أيام الفتوة، والشباب، وها هو الآن أصبح لا يصلح للحرث، ولا للرقص في السيرك، ولا لإخصاب الأبقار الأكثر فتنة، ورغبة بمواصلة الحياة...، فقد تحول ـ كما دار بباله ـ: إلى ظل متنقل حتى وإن لم يذهب ابعد من حدوده! فصار لا يلفت النظر، ولا هو نظر بأسف لحياته، مادامت ـ في النهاية ـ كأنها حبة رمل تحملها الريح في بيداء بلا حدود، لولا إن (الموت) شاهده، ذات مرة، في إحدى جولاته التفقدية، ودنا منه، بفضول، لم يخل من ريبة، ليراه يلوك علفا ً ثم يتقيأه، وينام، بمعدة خاوية، ليستيقظ، ويكرر العمل ذاته، من غير أن يدفع الطعام إلى معدته الجوفاء، فظنه اجتاز عتبة هوس الثيران بطلب المزيد من حياة معناها يأتي بعد زوالها، أو ربما يكون معناها عصيا ً على الفهم، أو من غير معنى بالمرة....، وانه يستدرجه كي يضع نهاية لأمر خاتمته شبيهة بمقدماته، حتى لو تكررت إلى ما لا يحصى من المرات.  لكن الثور الذي استنشق رائحة حضور (الموت)  لم يكترث له...، فان جاء أو لم يأت فالثور لم يستبعد حضوره حتى لو تستر بالغياب...، فكر مع نفسه، وهو يدور حول ما تبقى من جسده، كما تفعل ثيران النواعير، مظهرا ً أسى شفيف انه جرجر إلى المحمية، لطلعته، ومهاراته، جرا ً، وانه لم يرسل إلى الذبح، أو ليصبح طعاما ً للضواري، والمفترسات، لأسباب لم تعد تشغله، ولم تعد تقلقه، أو تعنيه.
      فاستغرب (الموت) أن يرى ثورا ً ربما كان يخفي لوعة ما تجاوزت قضاياه الشخصية، حتى ظنه كان يفكر...، أو ربما تكون حرفة التفكير قد أدركته....، لكن الثور راح يخط بحافره الحاد المتآكل إشارات فهم منها الآخر انه بريء من أية تهمة، أو ظن، وانه لم يتورط بارتكاب هفوة، أو إثما ً، أو معصية من المعاصي...، فهو ـ خاطب الموت من غير كلمات ـ ود لو عثر على ظل ومشى خلفه، أراح واستراح، ولكنه في الوقت نفسه طالما رغب أن لا يجد هذا الظل فلا يشغله، ولا ينشغل به...
فقرب الموت رأسه منه هامسا ً:
ـ كأنك تكتم لعنتك على الزمان؟
   هاج الثور، رغم هزاله، متضرعا ً:
ـ لا تورطني بما لم افعل...، فالعلف وفير، والهواء شفاف، والماء صاف...، والزمان خير زمان!
مسرعا ً في الدفاع عن نفسه:
ـ فحياتي شبيهة بهذا الماء الذي نزل مدرارا ً من السماء ثم يصعد إليها  بسلاسة ومن غير شوائب!
   صفن الموت قليلا ً، وسأله:
ـ ما ـ هي ـ مشكلتك إذا ً...؟
فقال بلا خوف أو حذر:
ـ  لقد ابتلت بقرة بثور أحمق!
فقال الموت:
ـ تقصد انك ابتليت ببقرة حمقاء؟
ـ ما أدراك....، وأنا لم أتقدم بشكوى، وما بحت لأحد بهذا السر، فقد كتمته بأشد الكتمانات كتمانا ً، حتى أنني دفنته قبل أن يكون له وجود! فصار هو والعدم سواء بسواء!
   رق قلب الموت، فقال له:
ـ سأخلصك منها، فتستريح!
فصرخ بصوت مبعثر:
ـ ماذا تفعل بها؟
ـ سأرسلها إلى المكان الذي لا عودة منه!
   تكّوم الثور قدامه، وهو يتمرغ، متضرعا ً:
ـ لا تفعل ذلك... سيدي، لا تفعل ذلك!
ـ سأخلصك منها، ومن حماقاتها أيضا ً..لتعاقب بما فعلت!
ـ لا تفعل هذا .. أرجوك... لا تفعل هذا...!
ـ وسأنزل فيها اشد العذاب الذي سببته لك ..
ـ أرجوك، سيدي، لا تفعل ... لا تفعل...
ـ وادعها تأتيك تطلب العفو... والمغفرة...، بل حتى اجعلها تستنجد برحمتك!
ـ أرجوك ... لا تفعل ... لا تفعل...
   فقرب الموت رأسه منه، وسأله باستغراب:
ـ ما ـ هو ـ سرك..أيها الثور الغريب...، حتى وكأنك صرت تشفق عليها؟
ـ ...
ـ بل وكأن قلبك مازال يكن لها الود...، أو كأنك مازلت مولعا ً بها؟
ـ ....
ـ أم إن لقلبك رحمة اجهل مداها...؟
ـ لا... لا يا سيدي...
صمت برهة، ثم أضاف الثور مرتبكا ً:
ـ أنا أخشى أن ترسلها إلى العالم الذي لا عودة منه، كي تجد من تنزل فيه الحماقات التي فعلتها بي...، فلا تخرج أبدا ً من العالم الذي لا عودة منه، فيمتلئ بالرزايا، والخطايا، والحماقات!
ـ ماذا تقصد؟
ـ اقصد... سيدي الموقر، إنها قد تجد من تغويه، ثم ترسله إلينا، أو ترسل عجولا ً يافعة، فتزدهر الحماقات في محميتنا الآمنة، مرة ثانية!
ـ لن تقدر...، مادمت أنا هو حارس بوابات الجحيم، والظلمات التي لا عودة منها!
ضحك الثور، متمرغا ً بالروث، فاقدا ً آخر قدرة له على الحركة، وعلى الكلام، إنما ردد من غير صوت، ومن غير كلمات:
ـ  لو كنت تمتلك هذه القدرة، وهذا الصدق، لكنت منعتها من مغادرة العالم الذي لا تزدهر فيه إلا الظلمات، والذي لا عوده منه أبدا ً؟
فقال له غاضبا ً:
ـ الآن....، سأدعك تبحث عني فلا تجدني، وتطلبني فلا تراني!
  أأنت بقرة، لكنه لم يقلها، بل قال متندرا ً، وبلا مبالاة:
ـ مرة ثانية، لم تكن صادقا ً، لا معي، ولا مع نفسك!
ـ ماذا قلت، أيها الثور الأحمق؟
ـ لأنك ـ يا سيدي ـ لا تمتلك إرادة إنزال العذاب في ّ والى الأبد!


[3] خلود
   وهو يراقبهم يفرون، يجتازون السواتر، والحدود، تسمر في عشه، مع انه كان يرى الإعصار يضرب أعالي الأشجار، ويسمع صوت الرعد مدويا ً، فيما سيول الطوفان قد اجتازت حافات الحديقة، وأغرقتها...
    عاد يتأملهم: يغيبون....، بعيدا ً عن العاصفة، والأمطار، فراح يقهقه، مع نفسه...، لأنه  كان قد أصبح وحيدا ً، فلم يجد من يعترض عليه...، أو يؤنبه، فقال مع لنفسه: حتى لو نجوا من الهلاك ... اليوم...، فهل سيحصلون على الخلود؟  ذلك لأنه طالما حثهم للقيام بأعمال تصد الأمواج، وتسيطر عليها، وببناء سواتر لا تقتلع الجدران، إنما...، وقد تخيل المشهد بجلاء، لم يجد أحدا ً يصغي إليه، لأنهم كانوا يمضون الوقت بالبحث على دروب تقودهم لنيل الخلود!

[4] عودة
   بعد أن عاد من سفره البعيد، إلى مدينته، استقبل بحفاوة، من لدن أحفاده، وأبناءه، وهو لم يرهم، بعد غياب امتد قرون طويلة، كما لم ير شيئا ً تغير في المدينة، فحزن، ولم يخبرهم بأسباب عودته. فسأله احدهم: هل أمضيت حياة سعيدة حقا ً بعيدا ً عنا...؟
فقال بصوت خفيض جدا ً:
ـ لا... لكنها كانت محتملة؟
فضحك احدهم وسأله:
ـ ولكن لماذا عدت...ـ ما دامت الحياة غير محتملة في مدينتنا...؟
ـ لم أجد مكانا ً يصلح للموت، أفضل من هذه المدينة...!

[5] شفافية
    قال لزميله، وهو يشاهد ـ عبر شاشة الحديقة العملاقة ـ ارتفاع نافورات من الوهج والشظايا، ممتزجة بأعمدة بيضاء من الدخان والغبار، ترتفع إلى الأعالي، لتبلغ حافات السماء:
ـ لم يعد هناك بشر، لا حيوان، ولا نبات، بإيجاز: لم تعد هناك مدينة، وهذا كل ما في الأمر!
فقال له بصوت هادئ:
ـ أنا لا أفكر بالمدينة، لا بناسها أو بحيواناتها أو بنباتها، وقد غابوا عن الوجود، بل أنا أفكر...
وصمت، فقال له الآخر:
ـ تكلم.
ـ أنا أفكر: من ذا سيمحو المدينة التي لم تشيد بعد، بنباتها وحيوانها وبشرها، فوق هذا البياض الشفاف؟

[6] رؤية
ـ لا تضحك ..، فلم يتركوا لنا دابة لم يغتصبوها، لم يتركوا حجرا ً فوق حجر، لم يتركوا ممرا ً لم يلوث، فما الذي يثيرك ويدعوك إلى القهقهة تارة، والى الهتاف تارة ثانية، والى الرقص طوال الوقت...؟
ـ سيدي...، انظر؟
ـ أنا لا أراك!
ـ كيف تتهمني بالباطل إذا ً...، وأنا لم اعد إلا حافات غبار تتناثر ذراته عبر الفراغات...؟
ـ ...
ـ والآن لماذا بدأت تنوح تارة،  وتبكي تارة ثانية، وأنت لا تقدر على كتمان أساك؟
ـ أين أنت...؟
ـ ألا تراني...؟
ـ لا..!
ـ إذا ً....، انظر إلى ما تبقى منك، انظر جيدا ً إلى ما تبقى مني، كي لا أراك، وكي لا تراني!

[7] أصداء
ـ سيدي...، لم يبق أحدا ً في الحديقة...، فالتصفية جرت بهدوء، من غير صخب، ومن غير عنف!
فسأل مساعده:
ـ  لكني مازلت اسمع عويلا ً يخرج من الحفر...، من الشقوق، ومن الآبار....
ـ لقد ردمت جميعا ً...، البيوت والمغارات والمرتفعات، وصارت جميعها مثل سطح ورقة بيضاء!
ـ ولكن ما الذي اسمعه...؟
ـ هذه، سيدي،  بقايا أحلام كائنات انقرضت قبل أن نباشر بالتحرير!
ـ انه يكاد يربك سكينتي!
ـ سيدي ...، هذه ـ هي ـ أصداء حروف كلماتك وأنت تنقش علاماتها فوق ما تم محوه!


[8] عمل
ـ ماذا تجيد، وأنت تتقدم للعمل في مؤسستنا..؟
ـ سيدي، صنع الجثث!
ـ وأنت؟
ـ توزيعها على الممرات، والدروب، والحدائق.
ـ وأنت؟
ـ  أنا أجيد إعادة رسم ملامحها، وإعادة نقشها، وحذف الزوائد منها، وإضافة إشارات تجعلها أكثر جاذبية، دهشة، ولفتا ً للنظر..
ـ وأنت؟
ـ سيدي، أنا اختصاصي هو: الشفافية!
ـ وأنت؟
ـ سيدي، أنا لم يتركوا لي عملا ً..، فانا أصبحت بعداد العاطلين عن العمل!
ـ ها، ها، أصغ إلي ّ: أنت ستقوم بالعمل الأخير...!
ـ هل أعيدها إلى الحياة؟
ـ لا ... يا أحمق، أنت ستقوم  بمحوها!


[9] أصل
ـ تعال  يا حمار...، ما هي مشكلتك؟
ـ سيدي، أنا لم اعد حمارا ً!
ـ آ ...، أيها الثور..
ـ ولم اعد ثورا ً أيضا ً...
ـ آ ...، أيها الدب، أيها السبع، أيها الخنزير، أيها الديناصور...، أيها المفكر....؟
ـ سيدي، أنا لم اعد اعرف إلى أي الفصائل انتمي!
ـ ها، ها، ها، فأنت إذا ً النموذج الذي كنا نعمل على استحداثه: أنت الآن خارج هذه الأنواع، خارج هذه الصنوف، فأنت لا مثيل لك، ولا شبيه!
ـ ولكني لم افعل شيئا ً، سيدي، فلماذا اقتل؟
ـ  ها أنت رجعت إلى أصلك، وصرت تبحث عن الأبدية!


[10] ثمن
   نظرت النعجة إلى قطيع الماشية، وقالت مع نفسها:
ـ كلي فالعشب وفير، تنفسي فالهواء عليل، ارتوي فالماء زلال...، واسمني ...، استعدادا ً للذبح!
   سمعها كلب الراعي، فقال لها:
ـ هذا أفضل من أن تفترسك أنياب الذئاب...، أو تفطسين في ارض لا ماء ولا عشب ولا هواء فيها!
فقالت له:
ـ تلك حكاية أخرى، سيدي...، فانا لا أتحدث عن أحوال الجحيم، بل عن الذين يدفعون ثمن ولادتهم في هذا الفردوس!

[11] الواجب!
    نظر الطير إلى زميله القابع داخل ثقب تحت الأرض، في الطريق العام، يسحق، تحت الأقدام، من غير أن يرفع رأسه خشية أن يصاب بالمزيد من الأذى.  فبعد أن مر قطيع الجاموس، تبعه فصيل الفيلة، من ثم مرت قطعان التيوس، والجمال، والخراف.
   شاهده يرفع رأسه قليلا ً لعل الدرب فرغ من مرور الدواب، والمواشي، والمفترسات، إلا انه سرعان ما استنشق رائحة عفن الخنازير يقترب، يدك الأرض بحوافره الحادة، دكا ً، فأخفى رأسه تحت الأرض، حتى كاد لا يكون مرئيا ً.
    انتظر...، وهو يراقب من موقعه في أعلى الشجرة..، ليدرك انه لا يمتلك أية قدرة على مد المساعدة لزميلة، أو إنقاذه، أو مساعدته على الطيران...، لأنه وجد قراره بالاختباء في ثقب عثر عليه في وسط الطريق، أمرا ً أنقذ حياته من الهلاك، والموت المؤكد....، فبعد أن مر قطيع الثيران، تبعه قطيع البرمائيات، بمختلف أنواعها، وصنوفها، جاء دور الزواحف العملاقة، تزحف، تتبعها الإبل ذات الرؤوس المركبة، بعدها كانت النمور تهرول راقصة، منتشية بالاستعراض....، من ثم مرت أفراس النهر، والضفادع المرقطة، والديناصورات البيضاء ....، حتى كاد يسمع أنين زميله يأتيه، ممتزجا ً بالأصوات، والغبار، والروائح النتنة، من غير أمل أن يتوقف زحف المواشي، والطيور العملاقة، ذات الأجنحة الفولاذية، تستعرض فرقها استعدادا ً لأداء الواجب.
     هو الآخر، في أعلى الشجرة، فزع لعدم قدرته على مد المساعدة، أو الاحتجاج، أو حتى التذمر، مكتفيا ً بدعاء صامت أن يخلو الدرب من مرور باقي الصنوف الزاحفة، كي يساعد زميله بالهرولة نحو الدغل، والاختباء في الأحراش، بعد أن فقد قدرته على الطيران.
     أخيرا ً ....، مرت السحالي، والزرافات، والقواقع الحلزونية، مشت خلفها الأبقار السمان، تدك الأرض، حتى ظنها تسحق رأسه، هو، فما الذي كان يحدث لزميله، الذي وجد نفسه تحت الأقدام...؟
     تنفس الصعداء...، فقد فرغ الدرب، ليرى زميله يرفع رأسه، بهدوء حذر، مبتعدا ً عن الثقب، متتبعا ً بخطوات ثابتة الآثار التي حفرت أثرها عميقا ً في الدرب.
ـ إلى أين...؟
   لا يعرف إن كان الآخر سمع صوته، أو كان قد اصدر صوتا ً أصلا ً...، فقد شاهده يغادر الثقب، ينتفض، ويرج جسده...، من ثم راح يتتبع خطى القطعان الزاحفة المتجهة صوب الساحة الكبرى، بانتظار أن لا يكون بعداد المتخاذلين، أو الهاربين عن أداء الواجب....!

[12] النصر
   مكث الغراب يراقب كيف انقسمت الجرذان إلى فصائل، تدمر بعضها البعض الآخر، حتى لم يعد يرى سوى أشلاء آلاف الجرذان متناثرة، وجثثها تغطي الأرض...، فسأل زميله، وهما يقفان في أعلى غصن إحدى الأشجار:
ـ ماذا تقول...؟
ـ ليس لدي ّ عقل يستطيع العثور على رد، أو إجابة صحيحة...
ـ ألا ترى انه الغباء؟
ـ ربما هو الجنون، أو فقدان العقل...
ـ ولكن هل يدفع الغباء، أو فقدان العقل، إلى الحرب...، أم هو ...
ـ أخبرتك أن عقلي غير قادر على معرفة الأسباب، ولا حتى معرفة الأسباب التي أدت إلى نشوب مثل هذه الصراعات، والمعممات، والحروب...، فأنت تتذكر كيف حصلت المعارك بين فصائل الأرانب، وانتهت بزوالها تماما ً، ثم وقعت حروب النمل مع النمل، وحروب الماعز السود، والخرفان البيضاء، أعقبتها صولات الضباع ضد الضباع، والبعوض ضد الماشية، والعبيد ضد العبيد، ثم معارك الفقراء ضد الفقراء، ومعارك أخرى لا تحصى....
ـ آ ....، كأنك تكتم علي ّ ما تعرفه...؟
ـ لو كنت اعرف، يا رفيقي، لكنت غادرت هذه الحديقة منذ زمن بعيد.....، بدل الاستمتاع بمراقبة مشاهد سفك الدماء، وتناثر أشلاء الأجساد...!
   تساءل بدهشة:
ـ غريب...، وأنا أيضا ً اشعر بلذّة غامضة في المراقبة..، حد الاستمتاع!
ـ أرجوك...، لا تدعنا نختلف!
ـ لم اقصد هذا ...، بل قصدت: إذا  لم يكن الغباء، أو غياب العقل، أو ...، فما ـ هي ـ الأسباب التي تدعوا إلى مثل هذه الأفعال الشنيعة: حيث النصر، في نهاية المطاف، لا يحرزه إلا الموت! وإلا ما هو مصير من نشأ وتكون في عفن المستنقعات، أتراه يغادر الوحل الذي ولد فيه...؟
ـ لابد من حكمة ما غابت عن عقلك، وغابت عن عقلي!
ـ دعنا ـ إذا ً ـ نبحث عنها!
ـ صديقي العزيز...، لو كان لدينا عقل...، كما قلت لك، ما كنا ننشغل بمراقبة أقسى الأفعال الخالية من العقل، ومن الرحمة، ومن الشرف!
ـ آه ...إذا ً .. دعنا نبحث عن بلاد خالية من الحروب القذرة!
ـ صديقي، عندما لم تحصل على السلام في حديقتك، فمن ذا يتبرع بمنحك هذا السلام من غير ثمن؟!
ـ ها أنت بدأت تفكر! أي مازالت تمتلك عقلا ً...؟
ـ هذا ليس عقلا ً، يا صديقي، هذا هو السبب الذي يدعوني لطردك!
ـ لن تقدر...، فانا هو الأحق بهذه الشجرة...
ـ أنا هو الأحق بها، فانا هو الأقوى..
    ولم يترك احدهما الآخر، إلا وهما يتمرغان فوق التراب، وقد اختلطت دمائهما بجوار جثث هامدة للجرذان.

[13] محنة
    اقترب الغزال من قفص البلبل؛ تأمله، وكاد لا يفتح فمه، إلا بعد أن قرأ في صمت الآخر، لوعة طالما شعر بها الغزال، وعذبته. فسأله:
ـ لم تعد تغرد...، يا صديقي؟
     لم يجب، إنما راح البلبل يتأمل الغزال بشرود. تساءل الغزال مع نفسه، بصوت مسموع:
ـ أكاد اعرف محنتك..، يا صديقي، فأنت أسير هذه القضبان، مثلي، داخل هذه الحظيرة، مع باقي الدواب، وباقي الماشية...
ضحك البلبل:
ـ لقد أمضيت حياتي أغرد...، فكانوا يبتهجون بما افعل، ويقولون:  يا للصوت العذب...، بينما كنت أنوح، وأتعذب، وأنا أطالب بالعودة إلى وطني في الغابة!
   ابتسم الغزال ولم يجب. فقال البلبل:
ـ اعرف ما دار برأسك، يا صديقي...، لقد قلت مع نفسك: وماذا افعل عندما لا تكون للقفص حافات؟
رد الغزال بأسى عميق:
ـ عندما كنت طليقا ً، في البرية، قبل  أن أقع في الأسر...، كنت منشغلا ً بالهرب من المفترسات، ومن الضواري، ومن البشر عديمي الرحمة....، والآن، هنا، أصبحت لا اعرف هل ابتهج أم أنوح...؟
 غرد البلبل فجأة، فقال الغزال:
ـ كأنك تقول: عندما تأتي الحرية..، لا تجد أحدا ً يرحب بها!
    كف البلبل عن التغريد، هامسا ً بلوعة:
ـ هل عرفت الآن لماذا لا أرحب بالحرية!
هز الغزال رأسه:
ـ لا افجع من هذه الفجيعة...، ليس لأننا أصبحنا نحلم بها، بل لأنها أصبحت، هي الأخرى،  لا وجود لها!
   فراح البلبل يغرد مرة أخرى. فقال له الغزال:
ـ  أنت تستطيع أن تنوح، وتولول، بصوتك هذا الشجي...، أما أنا فلا احد كلف نفسه وأصغى إلى صمتي!

[14] قضبان

    شاهد العصفور الصواريخ تسقط في الجانب الآخر من الحديقة، تاركة أزيزا ً حادا ً، فسأل حمامة كانت تقف بجواره شاردة الذهن وهي تجهل ما كان يحدث في الفجر:
ـ   أخبريني، أيتها الحمامة، ماذا فعلت الأشجار كي تُحرق بهذه الصواريخ...؟
ضحكت الحمامة:
ـ إنهم لا يقصدون حرق الأشجار، بل يقصدون الدواب، المواشي، البهائم، الزواحف، والقوارض التي في الحديقة!
صاح العصفور:
ـ  أنا أيضا ً لا يعنيني أمر تلك المخلوقات....، فلا أنا مسؤول عنها ولا هي مسولة عني،  أنا سألتك ماذا فعلت الأشجار كي تُحرق...؟ هل ارتكبت الخطيئة...؟
ـ آ ....، لا....، رغم إنها ليست بريئة تماما ً، إلا أن الأشياء لم توجد كي تبقى إلى الأبد...، فان لم تجد من يدمرها، ويرسلها إلى المجهول، ستدمر هي نفسها بنفسها وتغادر وكأنها برهنت أن حضورها وجد بالعبور!
   قرب العصفور رأسه كثيرا ً من الحمامة:
ـ كأن الأمر لا يعنيك أبدا ً!
ـ وماذا افعل....، ولهب نيران الحرائق سيحول حديقتنا إلى تل من الرماد..!
ـ يا للجنون...، حتى انك لم تفكري بالغضب، ولا الاحتجاج، ولا حتى بالهرب!
ـ آ ....، فكرت طويلا ً ....، ولكن ألا ترى إنني لا امتلك قدرة الطيران، فانا ـ مثلك ـ  أراقب وأتحدث من وراء القضبان!

[15] مرور
ـ الكل يولول، الكل ينوح...، على ما يحدث في هذه الغابة، إلا أنت ِ ؟
أجابت الحمامة بهدوء:
ـ  لا تتعجل، أيها العصفور، فبعد أن يكلوا من البكاء، ويتعبوا من العويل، يصمتون...، آنذاك يأتي دوري، ويأتي دورك أنت أيضا ً!
ـ آ ....، هذا يعني إن الكل إلى زوال، عدا المعضلة وحدها هي التي لا تهرم ولا تزول!
ـ من يدري..، من يعلم..، هل تولول النار أم تغرد، وهي تشتعل، أم أن صمت الرماد وحده يعرف كيف يكتم لوعته، ومباهجه، فلا يترك أثرا ً يخبرنا عما حصل له، أو ما حصل لنا، في نهاية المطاف! أم أن هناك لغزا ً ما بينهما لم يسمح لنا إلا برؤية هذا المرور...؟
6/6/2016

معايير القراءة لدى الجمهور العربي: لا أجوبة محددة-بروين حــبيب *

معايير القراءة لدى الجمهور العربي: لا أجوبة محددة
بروين حــبيب *



من بين أفضل 100 كتاب حسب نسبة قراء «الغود ريدرز»، عشر نساء فقط كن أكثر جذبا للقراء هن رضوى عاشور بكتبها «الطنطورية، وثلاثية غرناطة». لطيفة الزيات بروايتها «الباب المفتوح». شيرين هنائي بروايتها «صندوق الدمى». دينا ممدوح في «قصاصات أنثوية». منى ياسين في «خبايا نسائية». إليف شافاق التركية بروايتها «قواعد العشق الأربعون». السعودية أثير عبد الله النشمي بروايتها «أكثر مما ينبغي». سارة البدري بروايتها «فاكهة محرمة» وأخيرا أحلام مستغانمي بكتبها، «الثلاثية، ونسيان.كوم، والأسود يليق بك».
بقية الكتب كلها لرجال، تنوعت بين الرواية والسياسة والدين. والغريب أن أغلب الأسماء التي وردت في القائمة غير معروفة تماما، أو لنقل إنها خارج دائرة الإعلام، وخارج دائرة الجوائز العربية التي أطلقت في السنوات الأخيرة، والتي تثير جدلا دائما بعد إعلان نتائجها، فيما بعضها لكتاب رحلوا مثل، جبران خليل جبران الذي غادرنا منذ أكثر من ثمانين سنة، ولطيفة الزيات التي غادرتنا منذ تسعة عشر عاما… لكن المفاجأة أن تبقى ألف ليلة وليلة، رغم كل ما صادفته من محاكمات واتهامات صامدة في «قائمة المئة» وعمرها اليوم أكثر من ستة قرون… وتتصدر كليلة ودمنة قائمة الكتب القديمة الأكثر قراءة وعمرها ألفا سنة.
قد يقول البعض إن مقياس القراءة في العالم العربي ليس موقعا واحدا، ولكنه أيضا، ليس معرض الكتاب الذي يقام في العواصم العربية، وليس المقالات التي نكتبها حسب قراءاتنا، ولعلي أثق في الموقع أكثر، لأن من يتوجه إليه قارئ يبحث عن الكتاب مستندا إلى مجموع القراء الذين يمارسون القراءة باستمرار، من دون محفّز آخر غير رغبتهم في القراءة ومناقشة أفكارهم بين بعضهم بعضا.
ليس سيئا إذن أن نعتبر الرواية الفن الأدبي الأول الذي يفتن القارئ، وليس كتب الطبخ وتفسير الأحلام وقراءة الطالع، والكتب الدينية الصفراء، كما يُرَوِّج الإعلام عادة.
هناك شيء إذن يلوح في الأفق يقول، إن الفن الروائي بدأ يأخذ مكانة محترمة في العالم العربي، وإن فورة النتاج الروائي التي أنتجت الكثير من الرديء والسيئ وأفرزت أقلاما جيدة بدأت تهدأ، وبدأت الأعمال الأدبية تأخذ مسارا أكثر جدية.
من جهة أخرى بدا أن نسبة المقروئية في العالم العربي تتأثر بما يشاع عن بعض الروايات على أنها روايات لا أخلاقية، أو «أدبا فضائحيا»، كما يسميه البعض، إذ لا تظهر في «قائمة المئة»، أي رواية من الروايات التي أثارت جدلا أخلاقيا حولها… لا تظهر بتاتا. وهذا يعني أن ما يروجه الإعلام العربي على أن هذه الكتب هي الأكثر مبيعا، معلومة مغلوطة، قائمة على المقولة التي تقول» ضربني وبكى، سبقني واشتكى»، فالإعلام العربي لا يشجع على القراءة، بل يصطاد في الماء العكر أحيانا ويحارب القراءة من حيث لا يدري.
فطعن رواية سلفا قبل أن يتلقاها القارئ، يبدو لي جريمة لا تغتفر، صنعت أجيالا تعزف عن القراءة، لأن الأدب في نظرها مادّة مخالفة للشرائع والتقاليد والأعراف التي تربينا عليها.
لم ينهج الإعلام العربي «الثقافي» تحديدا، على تشجيع القراءة وفتح باب المناقشات الراقية التي تؤسس لتقاليد جديدة مغايرة لثقافة الإقصاء ومحاسبة الكاتب على ما كتب، فمادة الكاتب في النهاية هي الحياة، وواقعه الذي يحيط به وإن كانت مخيلته تنسج قصصا بشخصيات، تبدو لنا لا نعرفها، إلا أنها موجودة حولنا ونعايشها يوميا بأسماء مختلفة.
غلطة الإعلام، أنّه روّج لمقولة إن الأدب «سيئ» قبل أن يصبح الأدب مادة تُحَرّم في الحلقات الدينية، وفي خطب المساجد أحيانا، ما جعل جمهور القراء يذهب نحو الإساءة للأدب قبل قراءته.
«قائمة المئة» تكشف لنا أن الكُتّاب الأبعد عن دائرة الضوء، هم بخير أفضل من الذين سلط عليهم الضوء حدّ الاحتراق، يقبل عليهم القارئ بهدوء وتعقُّل وتبادل آراء، يناقش العمل الأدبي في حدّ ذاته، من دون تجريح الكاتب، أو القيام بإسقاطات أخلاقية تطال شخصياته، ثم تطاله هو شخصيا لينتهي مجرما يستحق القتل، أو الإقصاء بأي طريقة أخرى، أو إقلاقه وتشويش أفكاره وإرعابه وتخويفه، حتى ينعكس ذلك على نتاجه. بعضهم يقل نتاجه، والبعض الآخر يدخل رقيبا إلى رأسه ليمارس مهنة القص الذاتية لكل ما يكتبه، فينتج نصوصا عرجاء، تماما كالأفلام التي يلعب مقص الرقابة بمشاهدها فتصبح مشوهة وغير مقنعة.
في «قائمة المئة» أيضا، نكتشف أن الرجال سادة الرواية وسادة الكتب أيضا، وأن «الكذبة» التي يروج لها الإعلام على أن القارئ العربي يذهب مباشرة نحو الأسماء النسائية في الغالب ليست صحيحة، فقد توضّح أن من بين مئة كاتب، عشر كاتبات يُقرأن.
والسؤال المطروح هنا، هو لماذا كل هذه الحروب على المرأة الكاتبة، ما دام القارئ العربي يثق في «ذكورة الأدب» إن صح التعبير؟ لماذا هذا الترويج السيئ للنصوص النسائية على أنها نصوص تهتم بالجسد، وأنها تخدش الحياء؟ أليس الأدب الرجالي على مدى قرون يتغزل بجسد المرأة؟ ولا شيء غير جسد المرأة؟ ألا نملك موروثا هائلا من الشعر الغزلي الذي لم يهتم سوى بجسد المرأة، وكأنها لا تملك من كيانها غير هذا الجسد الفاني؟ حتى أنها فُصِّلت تفصيلا مثيرا للضحك أحيانا، وشبهت بأشياء من الطبيعة، بل وببعض الحيوانات أحيانا، وكأن الحيوان أكثر جمالا منها، فقاعدة المشبه والمشبه به تقول دوما إن المشبه به أقوى تأثيرا ويعطي ثقلا للمشبه.
عرفنا من خلال الشعر القديم أن المرأة الممتلئة الجسم مرغوبة أكثر، طويلة الشّعر، بيضاء البشرة، أو سمراء، حمراء الخدود، ذات عينين سوداوين كبيرتين..
نقرأ مثلا لزهير على سبيل المثال:
فأمّا ما فويق العقد منها …… فمن أدماء مرتعها الكلاء
وأمّا المقلتان فمن مهاة …… وللدرّ الملاحة والصفاء
وهذا يعني أن لون البشرة المحبب شبيه بلون الأرض، والعيون مثل عيون بقر الوحش..
أما الأعشى فيقول:
ظبية من ظباء وجرة أدماء …… تسف الكباث تحت الهدال
وهذا لا شيء أمام غزل امرؤ القيس الذي تجاوز فيه جرأة كل من يدعون الجرأة اليوم من شعراء وكتاب، لكن مع هذا يبقى الشعر الجاهلي، شعرا يقرر في المدارس، من الخليج إلى المحيط، ولا تعلن الحرب إلا على النتاج الجديد، الذي يطرح قضية من قضايا الساعة، ويناشد بمناقشتها وإيجاد حلول لها.
وعلى ذكر الشعر، فـ«قائمة المئة» لم تشمل الشعر، غابت القصيدة تماما عن قائمة من يقرأون، لم يذكر حتى اسم نزار قباني أو محمود درويش، أو سميح القاسم، أو أي شاعر آخر صنع نهضة الشعر في القرن الماضي… حتى أن أحد القرّاء علّق قائلا: «إن كانت هذه الكتب هي أفضل الكتب العربية، فأقيموا على العرب مأتماً وعويلا. ينطبق عليكم قول الشاعر :
أماتكم من قبل موتِكُم الجهل …… وجرّكم من خفة بكم النمل»
والآن هل لنا أن نكون إيجابيين لاستقبال سنة جديدة بنفس جديد، أم أننا سنظلُّ نطعن أنفسنا ككتاب والمجتمع بعدها لن يرحمنا جميعا، لأن يزج بالإعلامي والكاتب والشاعر وكل من له علاقة بالكتاب في كيس واحد…
كل سنة والكتاب بخير، كل سنة والقارئ العربي بخير…
وللحديث بقية إن شاء الله

* إعلامية وشاعرة من البحرين
( القدس العرب

تاريـخ سـردي لـربـاعـيـات الـخـيــام-*د. عبدالله إبراهيم




*د. عبدالله إبراهيم
تاريـخ سـردي لـربـاعـيـات الـخـيــام

بدأت رواية "سمرقند" لـ"أمين معلوف" بالجملة الآتية المعبّرة عن غرق رباعيات الخيّام: "في أعماق المحيط الأطلسيّ كتاب، وقصّته هي التي سأرويها". ذلك ما تفوّه به بنجامين لوساج، آخر مَنْ آل إليه أمر مخطوط الرباعيات. نسخة فريدة فقدت بغرق الباخرة "تيتانك" ليلة 14 إبريل/ نيسان1912 في عرض المحيط قبالة الأراضي الأميركيّة. أبدى مالك المخطوط حزنًا، وتأسّى لفقدان ذلك الأثر النفيس "مذّاك زاد تسربُل العالم بالدم والظلّ يومًا إثر يوم، وأصبحت الحياة لا تبتسم لي قطّ. وكان عليّ أن أبتعد عن الناس كيلا أصغي إلى غير صوت الذكرى، ولكي أداعب أملاً ساذجًا، رؤيا ملحّة: غدًا سيُعثر عليه. وإذا كان صندوقه المصنوع من الذهب يحميه، فسوف يبرز من الظلمات البحرّيّة، وقد اغتنى قَدَرُه بمغامرة جديدة، ولسوف تستطيع بعض الأصابع ملامسته وفتحه والإيغال فيه؛ وتتابع عيون مأسورة من هامش إلى هامش وقائع مغامرته، فتكشف الشاعرَ وأبياته الأولى وسكراته الأولى ومخاوفه الأولى وفرقة "الحشّاشين". ثم تتوقّف غير مصدَّقة أمام رسم بلون الرمل والزُمُرّد". هذا مدخل شائق لرواية كتبت عن مخطوط شعري نفيس.
لم يحمل المخطوط الغريق تاريخًا، ولم يوقّع عليه الشاعر، وتألّف من مجموع من الأوراق الصينيّة البيضاء بملمس الحرير، عددها أكثر من مائتين وخمسين ورقة متغضّنة يلفّها جلد خشن، ومدعم من جوانبه بشكل يشبه ذيل الطاوس، صنعه ورّاق يهوديّ بناء على طلب قاضي قضاة سمرقند أبي طاهر. لا توجد في المجموع الورقيّ قصائد، ولا رسوم، ولا تعليقات، ولا زخارف، بل صفحات خالية تنتظر منْ يكتب عليها. أهداه لعمر الخيام القاضي أبو طاهر، حينما جيء به مكبّلاً من طرف الجماعات الدينيّة المتشدّدة بتهمة الزندقة، كونه مشتغلاً بالكيمياء، وبدل أن يعاقبه القاضي صرف الغلاة عنه، وأبقاه وحيدًا معه، ثم قال له "احتفظ بهذا الكتاب. وفي كلّ مرّة يتشكّل فيها بيت من الشعر في خاطرك، ويقارب شفتيك ساعيًا للخروج، فاكبِتْه بلا تحفّظ، واكتبه في هذه الأوراق التي ستبقى طيّ الكتمان". لم يكن كتابًا، إذ لم يخطّ عليه شيء بعدُ ليكتسب هُويّته، ولكن ما أن أصبح بحوزة الخيّام حتى بدأ يتشكّل بوصفه كتابًا، فكلّ رباعيّة دوّنت على أوراقه المتغضّنة كانت ترسِّخ من تلك الهُويّة.

أخذ عمر الخيّام بوصيّة القاضي ما تبقى له من عُمْرٍ، فقد وضع أبو طاهر تحت تصرّفه مشروعًا لتدوين رباعيّاته، وطلب أن يدوّن فيه خطراته الشعريّة، وبذلك وهب الحياة لأكثر أسرار تاريخ الآداب استغلاقًا، ففي طيّات ذلك المخطوط تنامت الرباعيّات سنة بعد أخرى، ثم ظلّت مدفونة "مدة ثمانية قرون قبل أن يكتشف العالم شعر عمر الخيّام الرفيع، وقبل أن تبجَّل الرباعيّات على أنها أكثر الأعمال طرافة على مرّ الزمن". لم يحرّر القاضي المتهمَ، ولم يرمِه في المعتقل، إنّما وضعه في مقصورة خشبيّة فوق تلّة في بيته ليكتب فيها أشعاره، فطردت هذه الضيافة الغريبة النوم عن الخيّام، وظلّ ساهرًا يراقب المنضدة الواطئة، وعليها قلم ودواة ومصباح مطفأ، ثم الصفحات البيض المفتوحة بانتظار أن يضع عليها أولى رباعيّاته.

مرّ زمن قبل أن يدوّن الخيّام شيئًا في دفتر أبي طاهر. فقد شُغلت سمرقند بتهديدات السلاجقة، وأُلحق الخيّام في بلاط الخان "نصر" بفضل القاضي الذي عرض عليه رعايته، ثم اقتحمت حياته أرملة طروب تدعى "جهان"، فكانا يمضيان الليل معًا في مقصورة الخيّام. وحينما نجح الشاعر في نظم رباعيّتين، عرفت "جهان" بالأمر، وهي شاعرة أيضًا، فندّت عنها صيحة استنكار أشبه ما تكون بزفرة احتقار؛ وأنحت باللائمة على الشاعر؛ لأن الرباعيّات "فنّ أدبيّ ثانويّ خفيف، بل سوقيّ، يليق أكثر ما يليق بشعراء الأحياء الوضيعة"، فلا يجوز للخيّام نظم رباعيّات لا قيمة لها في تاريخ الأدب. ثم حذّرته أن يتحاشى إطلاع الخان على شيء ممّا كتب؛ فهو لا يقدّر هذا الضرب من الشعر، ولا يرعى أصحابه، وإذا ما جازف عمر ووضع الرباعيّات بين يديه، فلن يدعوه قطّ للجلوس معه على سرير الملك بوصفه شاعرًا ذا شأن. لم يخطر ببال الخيّام كلّ ذلك، إذ لم يتمرّس في أن يكون شاعرًا في بلاط أحد كما هو أمر "جهان"، فجاء ردّه عليها "ليس في نيّتي تقديم هذا الكتاب إلى أيٍّ كان، ولا أرجو أن أجني منه أيَّ ربح، ولا أملك شيئًا ممّا يطمح إليه شاعر من شعراء البلاط".
كان الخيّام عزوفًا عن طلب المجد من غير نفسه منذ بداية أمره، وقد شغل باكتشاف ذاته وباكتشاف العالم. لكنّ حدثًا جللاً انتزعه من تأمّلاته، وهو ظهور الوزير "نظام الملك" والداعية "حسن بن الصباح". الأوّل بوصفه حاكمًا حصيفًا، والثاني باعتباره قاتلاً محترفًا، وما لبث أن نشب النزاع بينهما على الرغم من عهد الصحبة الأبدية الذي اتفقا عليه في زمن الصبا. حدث ذلك في "أصفهان" حيث انتهى الأمر بالخيّام، فنتج عنه تغيير كامل في أسلوب حياته، إذ فقد حُماته الكبار في خضمّ الصراع الدمويّ على الحكم، فأصبح طريدًا يدوّن بين وقت ووقت، في هذه المدينة أو تلك، رباعيّة وأخرى على صفحات مخطوطته.

وكان أن أصبح أحد حرّاس نظام الملك، واسمه ورطان، مريدًا للخيام بعد مقتل مولاه، فلازمه ملازمة القرين مخلصًا على أمل أن يقوده الشاعر من حيث لا يقصد إلى قلعة حسن الصباح للانتقام منه، لأنه تسبّب في قتل سيّده، لكنّ مصاحبته للشاعر أحالته تابعًا مخلصًا، ثم شارحًا لرباعيّاته، وساردًا لسيرته في حواشٍ تركها على هامش المخطوط، فأصبح بذلك مؤرّخًا للرباعيّات التي كانت تنموّ بتطواف الخيّام في دار الإسلام، وكان معه حينما تلقّى الخيّام وهو في "مَرْوَ" دعوة من حسن الصباح ليقيم معه محميًّا في قلعة "ألَمُوت". وفي موقف ملتبس دفع ورطان حياته ثمنًا لحواشيه على رباعيّات مولاه. وانتهى الأمر باختطاف الكتاب والاحتفاظ به في القلعة، وذلك في محاولة لإغراء الخيّام بتعقّب رباعيّاته إلى حيث أصبحت. ماذا يفعل الشاعر وهو في منأى عن رباعيّاته؟ قرّر أنّه "لن يسعى أبدًا للاحتفاظ بأثر عن المستقبل، لا مستقبله هو، ولا مستقبل قصائده". فقفل عائدًا إلى "نيسابور" مسقط رأسه. وهنالك قرّر "التوقف عن الكتابة". حينما يمتنع شاعر مثله عن الكتابة ينبغي أن يموت، وكان كذلك، وهو يقرأ كتاب "الشفاء" لابن سينا. توفي في نيسابور عن أربع وثمانين سنة، وكان تنبأ قبل موته بعشرين عامًا أن قبره سوف يكون في "مكان تَنثر فيه ريح الصّبا الأزهار في كلّ ربيع". وبموته شقّ ديوانه طريقه للحياة، فقد وصل إلى قلعة "ألَمُوت" لكن حسن الصباح أبى أن يودعه في المكتبة الكبرى للقلعة، بل حفظه في منزله، "داخل مشكاة محفورة في الجدار ومحروسة بشبكة ثخينة من المعدن".

وحينما توفّي الحسن بن الصباح عن نحو تسعين عامًا، لم يجرؤ خليفته الإقامة في عرينه، ولم "يجسر على فتح الشبكة العجيبة" التي يقبع فيها المخطوط محبوسًا، ولجيل آخر لم يغامر أحد فيقترب إلى ملاذ الرباعيات، حتى ظهر أحد الأحفاد المتمرّدين على تعاليم الجدّ الكبير، فخرق قدسيّة المكان وانتزع المخطوط، ثم نفض الغبار عنه، وعكف في بيته يقرأ رباعيّاته، ويعيد القراءة، وبتأثير منها حرّر أتباعه من نواهي الشريعة، معلنًا يوم الخلاص من تركة المؤسّس الصباح، ثم أمر بإجلال المخطوط بوصفه كتابًا عظيمًا من كتب الحكمة، وعَهد إلى بعض الفنانين بزخرفته: برسوم بالزيت وزخارف وصندوق من الذهب المنقوش المرصّع بالحجارة الكريمة، بل إنّه أصدر أمره "بمنع نسْخه حفاظًا على فرادة النسخة التي أصبحت بحوزته".

آخر ما انتهى إليه أمر المخطوط أنّه حفظ في قلعة الحشّاشين، فصار محلّ تنازع، إذ كلّ يريد الاستئثار به، وحينما ترجم إلى اللغات الحديثة في القرن التاسع عشر، أصبح الموضوع الأثير في الثقافة العالميّة، فتتبّع الأصل رجل أميركيّ من أمّ فرنسيّة، يدعى "بنجامين عمر لوساج" وتمكن من الحصول عليه، وحينما حاز عليه كان مصيره الغرق، فلا يعيش كتاب استبطن ملذّات الشرق في سياق لا صلة له به.
_____
*الرياض