الاثنين، 25 أبريل 2016

أختام*-عادل كامل
















أختام*

   
عادل كامل
 [8] الجسد: المنفى مستعادا ً


     ليس للمعنى، خارج حدود الخامة، أو ما سكن الرأس، إلا حضور ذلك الذي شغل من حز فوق الصخرة إشاراته المبعثرة، ربما اللا متوقعة، والخالية إلا مما أخفاه، بحثا ً عن ذات لا يعرف عنها إلا وجودها المؤقت: حاضرها المبني بالمحفزات، والإنذارات، والمخاوف. فلم يبق لدي ّ من المعنى ـ بعد أن تحرر الختم من وظيفته في التداول، بل وحتى من العرض ـ إلا أن ادعه يسكنني. لقد قلبت المعادلة، فبدل أن اسكنه، تركت جسدي يستقبله للمغادرة معا ً في اتجاه ترك الأسئلة اقل إيذاء ً، أو ضررا ً.
     ربما، بهذا الهاجس كان للجسد مكانة الأرض، فكلاهما يخفيان مساحات لم ْ تدشن: الفضاء، كمشهد النجوم في ليلة باردة: أجزاء تعمل حد استحالة إدراك ما الذي وجدت لتعمله. فأنا حاضر بحدود وعيي لما لا يحصى من المغيبات، والمجهولات. فانا غائب إلا في حدود هذا الانشغال الودود: الفن.  وهو العمل المضاد لعصر غدا ساحة أسواق استبدلت جحيم الحروب بجحيم السلع، والبضائع، واستبدلت جلجامش أو الاسكندر، أو جنكيز خان، ومن قبله هولاكو، أو بكر صوباشي ـ أو كل من افزع تراب الأرض وقلوب اشد الرجال حكمة، ودمر براءة مجتمعات تقليدية ـ بتجار كبار يقودون شركات تخضع لأنظمتها أجهزة بالغة الدقة في التستر على جحيم عالمنا الحديث؛ وهو العمل المضاد، بالدرجة الأولى، لترك أحلامي تتسرب خارج الخامات الشبيهة بتلك التي تصالحت مع أصابعها، ومع نبضات مخاوف قلوب صانعيها.
     ما هذا الذي لا يمكن الاقتراب منه، لا لأجل لمسه أو رؤيته أو السكن بجواره، هل هو اله إنسان الكهف، قبل مليوني سنة، أم هو اله المصانع أو اله عصر أصبحت (الحرية) فيه أكثر السلع تداولا ًـ واستهلاكا ً، وابتذالا ً! هل هو أن أحافظ على (الحاضر) ـ بتراكماته ـ والخوف من فقدانه، كي استبدل عمل الصياد ـ في تدمير الطرائد وتمزيقها ـ بالسكن في الخامات: في الفن، وليس في القبر؟  يقينا ً أنني ولدت في الذعر، فأنا ولدت مذعورا ً، وكلما أنهكت رأسي بمعرفة القوانين، وأنظمتها، ومشفراتها، أزدت ذعرا ً، فليس ثمة إلا الأقنعة، من اللغة إلى الصمت، ومن الأعياد إلى مواكب الجنائز، والى المآتم الاحتفالية، ومن البطولة إلى الحضيض، ومن اللذة إلى المرارات، كلها، اشتبكت في حركة نهايتها أصبحت مرئية أكثر بكثير من مقدماتها.. فأي اختيار بإمكاني الاعتراف انه ليس ناء ٍ عن فناء حكمت به ...؟
     كان الجسد وحده ـ من الرأس إلى الأصابع ـ أراه لا يكف عن انشغالاته بالبحث عن هذا السكن المستحيل. فبعد  الخروج من الرحم، إلى مجتمعات المنافسة حد التصفيات، ما الذي يوازي انشغال المتصوف بنشدان أبدية لا أسئلة ولا عدم ولا انبثاقات فيها، ما الذي يوازي اللا فعل، الفناء في حضور لا إرادة لي فيه، وأنا اصطدم، عبر سنوات القسوة، بالثوابت الأشد صلابة من الوهم: البحث عن الأبدية، وعن متنزهات تتوفر فيها لذائذ الخمور، وغوايات عالم الحريم، والأبكار، والغلمان، ولحوم الطيور..وما لا يحصى من الهبات لمخلوقات كنت أضعهم في مرتبة ما بعد الطحالب، والرخويات!
     فلم يكن لأصابعي إلا إجابة من امسك بالمفتاح وتركه يدور في القفل: الختم. فالصمت ليس دلالة مضادة للكلام، والعدم ليس نقيض الوجود، بل، كلاهما يعملان عمل الجسد وقد غدا مأوى نفسه: الختم يكتم كتماناته بمغادرة التأويل، والشرح، والإضافات. فعمله شبيه برؤية مجرة قيد الاندثار، وقد تجمعت فيها ما لا يحصى من الأجزاء ـ كالشمس والأرض والقمر وبغداد وسومر ـ في تجنب أن اكتشف وقوعي في فخاخ طالما ذعرت منها: فخ الصياد، وأنا عملت أن لا أقوم بدور الضحية. لكن (الختم) لا يعلن إلا ما هو عليه: فك ملغزات هذا الانشغال، لأنه ـ في الأخير ـ وثيقة.
     واعترف ـ هنا ـ أنني بلغت إرادة اختيار كل ما لم اختره: نسج جسدي داخل هذه الشبكة من الخيوط، والعلاقات، داخل جسد آخر، لا اعرف أأنا أصبحت شريكه، أم هو الذي أصبح شريكا ً لي، أم كلانا  بلغ ذروة الشرود وقد غاب حضورنا، ولم يبق إلا الأثر ممتدا ً كما تكونت بذور الخلق في الخامات البكر: دورة تعقبها، إنما ـ في المسافة بينهما ـ أكون قد تلمست ـ ووضعت ـ زوالي موضع التنفيذ: ختمي!
[9] العطر: حافات الختم ـ وملغزاته


    كيف تكّون العطر، وليس كيف تكّون العفن ـ لو لم ينحدر من الشمس: العفن، وليس ما جرى في الظلمات، في القاع، بل ما غابت عنه النار. انها معادلة لوجود خاتمته امتدت بالمقدمات: عطور للصخور، وأخرى للحبيبات، للماء وثانية للأصابع، للفجر وأخرى للصحراء، عطور ورود لم يغب عنها النظام ذاته الذي لم يغب عن الأثر: عظم حك ونقش بالنبضات، وصخرة شذّبت حتى بدت آلهة. ألا أبدو قد أمسكت بالذي امسك بمصيري، وتركني استدل بآثار تمحو خطاي، وتثبتها، كأنني المخفي في حلقات جسر يمتد من المجهول إلى المجهول، كي لا يمتد، في نهاية المطاف، إلا وقد أصبحت مراقبا ً لأثري في هذه الدورة.
     عطر من كان يحرك في ّ حاسة المتابعة، لو لم يكن قد قلب نشأته البكر: المستنقعات، حيث تكّونا، كما تكّونت المجهريات، لندّب، بالإضافات والحذف، بالاختفاء والتمرد، بالصبر وبالمغامرة، كي تتكون أقدم الحواس: مع الملامس، والشم، والإصغاء ..الخ تقنية مبكرة للتملك: حدود الباثات، وإقامة علاقة (ما) معها. فما لا يحصى من الروائح، راحت تكّون أجهزتها، مثلما موجات الأصوات، والإشعاعات، بدأت بالتحول من الاضطراب إلى التخصصات، لكنها بدت مثل لعبة، ولا تخلو من براءة: عصر المكونات الأولى: العش/ الرحم/ والأرض. فالكيان لم يتميز بحجمه أو لونه أو عمله فحسب، بل بما ترك من رائحة ستبقى مدوّنه في موقعها في الدماغ: رائحة الجلد، والأم، والحيوانات، والرماد، والمطر، ورائحة الغرباء ...الخ تبقى عالقة داخل خلايا الدماغ ـ لقرن ـ وبالإمكان استرجاعها في جزء من الثانية: ما تتركه العاصفة، والأمطار، والبراكين. لأنها جميعا ً، في لحظة، تحول (الخامة) إلى (نص/ اثر) ـ و (أثر ـ نص) يغدو مستودعا ً، خزانا ً، وكنزا ً. ففي الختم تتراكم ـ وتتزامن ـ الروائح، لترقّم، ضمن  ومضات أخرى.
     فقد انجذبت، على سبيل المثال، إلى كهوف كانت تجاور بيتنا، لها رائحة سابقة على الأسئلة. من ثم  ـ وأنا انتقل من الجبل إلى الصحراء، فانجذبت إلى مدافن سومر، عند الزقورات. كانت خرائب القصور شبيهة بصور أفلام الرعب التي ـ هي الأخرى ـ جذبتني برائحة عنفها، وغموضها، ومخفياتها؛ رائحة العشب، والدم. فالأميرة السومرية مازالت تتعطر، قبيل رحيلها، بعطر حضارة لم يبق منها الكثير: سراديب مخربة، وسقوف منهارة، وجدران متآكلة، لكن شبعاد لها رائحة البلل: الحليب والبول. فكنت أجد أني أقمت علاقة ما مع أميرة سممت أتباعها وأخذتهم معها إلى العالم الذي لا عودة منه. تلك الرائحة لم تغب عنها رائحة الخفافيش، والثعالب، والطيور، وروث  البهائم، فالأميرة راحت تسكن رأسي.
     وفي المتحف ـ في بغداد ـ كنت أعيد تركيب وبناء ملكة معاصرة: ملكة ضد الزمن. فرائحة العرش لم تعد رائحة قبر، بل رائحة ختم. لأن الأخير غدا مركبا ً بعناصر راحت أصابعي تشاركه عبوره نحو الحاضر. ففي شرود لم يخل من انحياز للعناية، رسمت شبعاد، أميرة سومر، لذائذ غامضة لكنها راحت تغذي لدي ّ انشغالا ً بالجسد، رمزيا ً، كي يلبي متطلبات براءة لم تدرب على الهزيمة بعد. انه عشق العطر، في الغالب، لكنه سمح للحواس أن تكّون حمايتها، وجدرانها. إن شبعاد ـ وهي شبيهة بإنانا ـ مثلما سمحت لي كلمات الكاهنة انخيدونا أن تكون أول منفية في المنفى، تجرجر  مجذوميها إلى الجذام، فكنت أميز، بالدرجة الأولى، رائحة انتهاك: تارة أكون منفاها، هزيمتها، وموتها، وفي الغالب، فتاها المسحور. تلك لم تكن لعبة، بل صياغة. فالختم لم يعد جنسانيا ً، لا لها ولا لي، بل غدا وحدة المنفي بمنفاه، وحدة الدال بالمدلول، والأم بابنها.
     على أن للعطر غواية ترك الأصابع تنبش، تحفر، تفتش، تلامس، تغوص، وتجتاز ثوابت المحرمات نحو الداخل: ظلمات لها مذاق المتوحد وقد أدرك انه كلما ارتوى ازداد انجذابا ً للذي يقع وراء العطور. فالمحرمات تغدو خارج المعايير، والمفاهيم المتداولة. لا لان شرط الديمومة لم يقم على نعم أو لا ، ولم يقم على (يجب)، و (كما ينبغي) لأن من تقمص لغز السر ـ والمقدس اللا متناهي ـ لغز الآلهة، ليس إلا طبالا ً، وان كان يلهو بالمعاقبة، والدفن. إنما (الآخر) فقد كف أن يكون مع الحسنات أو الآثام: انه ـ وهو أنا ـ ترك خلاياه تشتبك بأكثر الجاذبيات تحررا ً من القيود: الكف عن الأنا ـ الآخر، لأجل خاتمة طالما كونت مقدماتها عبر آلام الوضع، إنما الذاكرة ليست مجموعة ملفات، بل بؤر لا مرئية للذي سيغدو ختما ً: عطرا ً يعيد للميت، في الانبثاق، كثافته وقد استحالت أثيرا ً، أو فنا ً، أو مسعى لا ينتظر الثناء، أو المعاقبة.
     هذا العطر وقد تجمّد، شبيه بالجهد وقد  تحول (عمله) إلى كتلة حجرية، معدنية، ورقية، رقما ً في حساب، مما يسمح للختم أن ينفي تاريخه التليد، ويتحول إلى جسد، إلى خط، إلى عثرات، والى مشفرات يصعب تتبع خطوطها الداخلية وما تهدف إليه، أكثر من أنني وجدت حياتي تنسج مصيرها لتستدل عليه، لا في زمن محدد، بل في زمن يسكن المصير ذاته: حركته، وعبوره من الكتلة إلى لا مرئياتها. فانا  ـ إذا ًـ محكوم ـ منذ بزوغ هذا الانتباه ـ باحتفال رحت اجمع عناصره، وأعتني بتراتيله، لإقامة أختام تكّون سكني: هذا المدفن وقد غدا مضادا ً لموته. إنها شروط غير اجتماعية، لكنها، لم تنشد الانفصال، بل ـ في هذا المسار الأنثوي الخالص وغير النسوي ـ تأخذ البذرة نظامها: إنها محكومة باستحالة أن تكون خاتمة، أو بالإمكان حذفها من الوجود. على أنني وأنا أشم كفن/ تاج/ خرز/ أساور/ عظام/ رماد/ ومخلفات أميرة سومر ـ وهي تترك نشيدها أعيد إنشاده بعد خمسة آلاف عام ـ أفيق، وأنا اصنع أختامي لمواصلة الاحتفال ذاته: الدخول في الجحيم، بطيب خاطر، في البحث عن الذي لا وجود له، والذي أصبح يترك غباره  غواية للمشي خلفه، كالسير وراء أعمى يدلنا أين هي مواقع الشموس التي ستتكون، بعد انطفائها، وكيف ستعيد ترتيب القمر وزحل والمشتري والأرض وغيرها، حبات لقلادة يتم ترتيبها خشية بقاءها مبعثرة، في جيد أبدية أن الإله وحده تام العلة، وناء ٍ عن تأويلاتنا، وبالدرجة الأولى: استحالة أن تكون للمحدود، جسارة التدشين بالعصيان، كي يقلق، يشوش، بخطابه أن اللا متناهي له، ما للعاشق، من تبعات، وذنوب.
     كان الختم صفرا ً تجمعت ( تجمدت/ تكومت/ انتظمت/ انصهرت/ تبعثرت/ تلملمت/ تآخت/ اشتبكت)  فيه الوحدات، الأعداد، المجهريات، الذرات، ولا مرئياتها، لا في اليسار ولا في المقدمة، إلا محّملا ً بعطر الكثافة، وغير قابل للزيادة أو للنقصان، بصفته، كاللاحافات تتجمع فيها العناصر، وفي مقدمتها، هذا الذي نمشي خلفه، بعد أن جرجرنا إليه، باستحالة أن يعلن عن وجوده، أو عن غيابه في الأخير.
     هو ذا نبض من عثر على حبيبة لا وجود لها إلا عبر وجودها نائيا ً بعد أن تركت لنا عطرا ً نكاد نراه، ونصغي إليه: نهاية الدم، والكف عن الدنيا للعابرين، شذاذ الآفاق، الخارجين على العفة، والطهر، والمخبرين، والمجندين عنوة، وحاملي الكاتم، والنافخين بالبوق، الطبالين، مع/ ضد، بحسب الضلالات، حيث الختم بوابة، وحجر أساس، وبخور ولادة. الختم ـ هو ـ من لامس النائي، وفارق القريب، فأي عطر هذا سكنني، وبذر منفاه في ّ، كي لا يكون الختم إلا الخاتم ـ به ندوّن محونا ـ وبه ـ نترك للمحو ـ أن يجاورنا، وخطانا أبدا ً لن تتمايل، مهما اتسعت/ وضاقت،  مسافاته، إذ ْ به يكون العدم تاما ً، مثلما الثنائيات، ليست إلا حافات أصفار.


* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).


الخميس، 21 أبريل 2016

كتُبنا .. ماذا سيحدث لها بعد أن نموت؟

كتُبنا .. ماذا سيحدث لها بعد أن نموت؟: أعاني من أصوت الباعة الجائلين الذين يستخدمون مكبرات الصوت في ندائهم على بضائعم، فأصواتهم تقتحم صمتي وهدوئي داخل حجرات بيتي، لكن صوتاً بعينه أكرهه أكثر، فهو يعذبني، هو صوت مشتري كتب وكراسات قديمة، يقف أمام بيتي وينادي في إلحاح وكأنه يقصدني:- إللي عنده كتب قديمة، الكيلو بربع جنيه.أنظر حينذاك إلى كتبي المصفوفة حولي في المكتبة، فإذا مت فجأة قد يبحث

رسالة أنجلينا جولي بين الحياة والموت

رسالة أنجلينا جولي بين الحياة والموت: 'أنجلينا جولي' النجمة الأمريكية الشهيرة ترقد حالياً في أحد المستشفيات بين الحياة والموت.. هي لا تعاني من مرض عضال لكنها تعاني من مرض آخر اسمه الإنسانية!!هذا المرض كان شائعاً في بلاد العرب والمسلمين لكننا حاصرناه وتمكنا من استئصاله ضمن أشياء كثيرة اختفت من قاموسنا رغم أن ديننا الحنيف أول من علم البشرية معنى الإنسانية والإيثار وغيرهما من المعاني

الاثنين، 18 أبريل 2016

في النحت العراقي الحديث-مكي حسين من تماثيل الأسس إلى فضاء الحرية-عادل كامل





في النحت العراقي الحديث

مكي حسين
من تماثيل الأسس إلى فضاء الحرية



أول تمثال برونزي تمت سباكته في العراق عام 1966
 

عادل كامل


* ما يبقي: النحت/ جذور
   لنتخيّل أن الضوء لم يجد حاجزا ً، مصدا ً، موضعا ً يعترض مساراته، كي يستقر، أو يتجمع فيه، فهل باستطاعتنا أن نجد مقاربة لتحديد جوهر (الزمن) من غير تحوله إلى مكان، وهل باستطاعة المتلقي ـ حتى لو كان متخصصا ً في الفيزياء الحديثة ـ أن يعيد تحليل العلاقة بين الطاقة والكتلة، أو هل ثمة معنى (للجاذبية) من غير وجود الكواكب، النجوم، والمجرات ...؟
   سيقال: ما شأن هذه الانشغالات بفن النحت؟
   ليس لدي ّ إجابة مسبقة أبدا ً! ولكن لدي ّ مشاهدات سمحت للنحت أن يتشكل مع تأسس التجمعات السكانية الأولى، مع اكتشاف النار،  والمأوى، والشروع بالزراعة، وتدجين الحيوان، وبزوغ عصر: الآلهة الأم ـ  للتعبير عن حتمية نشوء: أقدم وسيلة مستحدثة للتمسك بصناعة: المصير، أو المستقبل!



   بالطبع يمكن إغفال الحتميات التي  مهدت لتحولات المكان، ولغياب الزمن بفقدان آثاره، وتحول الكتلة إلى طاقة، ومنها تحولها إلى مجالات مازالت أدمغتنا لم تقترب منها، وان إعادة قراءة  نظام المجرات، النجوم، والكواكب من غير جاذبية كالحديث عن كتلة خالية من المجال أو الفضاء...الخ
   ولكن ما علاقة هذا بالنحت...؟
    قبل أن يمتلك الدماغ قدرات على صياغة الأسئلة، والمباشرة بصناعة أدواته، ـ مأواه وطعامه وأمنه ولغته وتصوّراته ـ خلف سلاسل من المجسمات مازالت مقترنة بتاريخ النوع البشري، وتحديدا ً، بتاريخ أول صياغة تقنية مركبة لمفهوم: المصنع، ألا وهو: عصر الأم ـ إن كانت مازالت خارج حدود التاريخ المادي للإنسان ـ أو عندما هبطت من المجهول وتكون فوق الأرض..!


 


    فالمتلقي اليوم يتمكن من العثور على مجموعات كبيرة من المجسمات/ التماثيل، ظهرت في البيئات التي تشكلت فوقها أولى القرى ـ والمدن ـ في مناطق جعلت من الأرض ـ قبل مليوني عام ـ قرية كبيرة، كحال عالمنا اليوم، في ظل هيمنة العولمة، وبرنامجها في تفكيك (المكان)، ومنح الفوضى قدرات اكبر على الهدم.(1)
    إلا أن الاختلاف بين الماضي السحيق وحاضرنا، لن يفهم بوضوح إلا بفهم المجال (المدى/ المسافة) بين الأجزاء المكونة للمكان، مهما كانت صغيرة أو كبيرة. ذلك لأن القوة المحركة المسؤولة عن المقدمات ونهاياتها، مازالت تعمل باللغز ذاته الذي وجد سمته في عدد من الآثار/ المخلفات، ومنها: النحت ـ الأدوات ـ وما دوّن باللغة من قصائد وتعويذات وملغزات أخرى.(2)
    هذه الإشارة تمثل ملاحظة سابقة على عصور: التحريم، والممنوعات، وتفكيك  التجمعات السكانية، ألا وهي أن التجمعات السكانية الأولى، مهدت لصياغة أقدم علامة تجمعت فيها مجموعة كبيرة من الدوافع، الغايات، وصاغته عبر تماثيل: الأم.
    ولا أهمية إن كانت تلك المجسمات تؤدي دور النذور، أو إشارة للاحتفال بمواسم الخصب، أو اعترافا ً بمكانة الأم ـ بوصفها أقدم مؤسسة يتم فيها إنتاج: أدوات الإنتاج، وأول شريعة سمحت للتعديل، التشذيب، والاختراع أن يكون فعلا ً لديمومة عصر الأم ...الخ، إلا بوجودها (السكن/ المأوى) الواقعي وليس الافتراضي ـ أو الخيالي. فالنحت ـ بعد ذلك ـ وعبر الحضارات الزراعية الأولى ـ من وادي النيل إلى وادي الرافدين، ومن الهند إلى الصين، مرورا ً بالحضارات المماثلة، والأحدث اليونانية والإغريقية، وفي العديد من القارات ...، لم يغب، ولم يندثر، بل اقترن بأنساق البناء، وصولا ً إلى عصر: العولمة ـ وما بعدها.


[2] عند حافات الرواد
   لم يصبح مكي حسين، نحاتا ً موهوبا ً، مرهفا ً، ومنشغلا ً بالحريات، والجماليات، وحده خارج وطنه، الذي ولد فيه، بل هناك سلاسل من الهجرات المنضمة، ترجع إلى حقبة الاحتلال البريطاني ـ بعد الحرب العالمية الأول ـ ووجود منافي للعراقيين، خارج وطنهم، بدل تعرضهم لفقدان المواطنة، أو الحياة أصلا ً، ثم الهجرات المتعاقبة، بعد 1958، وعلى نحو أوضح، بعد عام 1963، والهجرات التي أكملت إعادة رسم خرائط العالم الجيو ـ سياسية، خلال الخمسين سنة الأخيرة، وهي هجرات اضطرارية، ليس طلبا ً (للعلم)، بل لتنفس الهواء، بعد أن صار نادرا ً في وطنهم.  على أن الفترة التي نشأ فيها مكي حسين، ودرس الفن، وعرض أولى تجاربه النحتية، في ستينيات القرن الماضي، كانت بمثابة تكملة/ تتمة ـ بردود أفعالها ـ لجيل الرواد، ممثلا ً ببزوغ ثلاث جماعات فنية سرعان ما تحولت إلى مشاغل أتاحت لبلورة تقاليد فنية نتذكرها ـ بعد أكثر من ستين عاما ً ـ بحنين، وآسف إنها تكاد تغيب، وتندثر، وإنها لم تعد حاضرة إزاء مفاهيم التحديث، والحداثة، بعد أن تحول الوطن إلى منفى، أو سرداب لحفظ ما تبقى من المخلوقات البشرية.(3)
     ففي سنوات الستينات ـ محليا ً وعربيا ً وعالميا ًـ كان المشهد يغلي؛ من الثورة الطلابية في فرنسا إلى الثورة الثقافية في الصين، ومن الكفاح المسلح في كوبا ً وأمريكا اللاتينية إلى أرجاء العالم، وهي الحقبة التي كانت فيها (الحداثة) الأوربية قد بلغت ذروتها، أو شيخوختها، فضلا ً عن تأزم الاشتراكية السوفيتية، وبزوغ عصر (التقنية) بوصفها أيديولوجيا للمستقبل ـ  وتجدد (الرأسمالية) بمشروعات عابرة للقارات، وظهور الشركات المتعددة الجنسيات، وسيادتها وفرض نفوذها بصياغة نظام: حرية السوق ...الخ وهي أحداث لم يكن باستطاعة (المثقف/ الفنان/ أو المواطن العادي) أن يمسك بمساراتها، وتعقيداتها، أو يفك ألغازها، ولكن هذا لم يمنع الكثير من المواهب أن تحافظ على (هويتها) إزاء الخلخلة، وتداخل التيارات، حد ظهور (العنف) كواجهة للنضال التحرري، كلها أسهمت في بلورة أفكر جيل مكي حسين، وأثرت فيه، ومنحت الفنان نزعة صريحة للتمرد على الأساليب التقليدية، من اجل بلورة اتجاهات تمثل عصرها، أو بما دعاه غوته: روح العصر.






   لم تكن سنوات الستينات امتدادا ً لحقبة الرواد، إلا بوصفها الامتداد المغاير/ المضاد/ والمكمل لها، خاصة بعد حزيران 1967، كي يشكل عقد الستينات، فرصة للشك، والتشوش، والتجريب، في إطار البحث عن حلول تكمل مشروعات التحديث التي بدأت منذ ثلاثينات القرن الماضي، وفي شتى الحقول، ومنها الفن، والنحت تحديدا ً. فظهرت جماعة المجددين، الرؤيا الجديدة، كما ظهرت أسماء شابة واعدة  لم تكن تعمل على تحويل الفن إلى (سلعة) أو مشروعا ً أحاديا ً للفن، بل عملت على عدم تجزئة الرؤية وتأسيس علاقة حيوية بين الفن والمجتمع، من ناحية، ومنح الفن مكانته في التحولات، كعلامة طليعية، من ناحية ثانية. وهكذا نشأت تجارب تداخلت فيها فنون الملصق، والكرافيك، وأصداء التيارات العالمية، غير الأوربية، كالمكسيكية، باستخدام الخامات المختلفة، وبالدرجة الأولى: منح التعبير جسورا ً نحو المتلقي العام، بدل محاكاة النماذج التقليدية، أو الواقعية بمعناها الفوتوغرافي،  كي تظهر فعاليات ثقافية/ فنية، كأسبوع التضامن مع شيلي، وفلسطين، فضلا ً عن قضايا تحرر الشعوب...، بوصفها موضوعات تخص حرية الإنسان، في بلدان مازالت منكوبة بتراث مظلم من مخلفات عصور فقدان الهوية الوطنية.
     وإذا كانت التأثيرات المباشرة ـ وغير المباشرة ـ للفكر اليساري، التقدمي، التحرري، قد بلورت ملامح هذا الجيل، فان سمة التجديد ستعمل على صياغة مفهوم الفن الطليعي، بعيدا ً عن كونه فنا ً مكملا ً ـ أو ديكورا ً ـ أو سياحيا ً حسب، بل يلتزم بإعادة النسج بالحرية التي يتمتع بها الفنان، كمفكر، وليس التي تتحكم برؤاه، أو بأسلوبه. فعلى العكس من النزعة الجمالية الأحادية، التي طالما كانت تدفع بالفن نحو الحياد،  غدا التفاعل العضوي للفنان، مع المتلقي، ومع فنه،  لإعادة إحياء المسارات المتجذرة في فنون الحضارات القديمة، ليس في استنساخها، أو محاكاتها، بل في إعادة قراءاتها بما يمتلكه الفنان من أدوات معرفية لا يمكن عزلها عن المجتمع، البيئة، والعصر...
في هذه السنوات بدأت مجسمات مكي حسين تشكل حضورها، إلى جانب تجارب: إسماعيل فتاح/ طالب مكي/ اتحاد كريم/ جوشن إبراهيم/ سليم مهدي/ مقبل جرجيس/ خلود سيف فرحان، فضلا ً عن نشاطات الرواد، بصورة عامة، وتمسكهم بأكثر الصياغات إقناعا ً: ديالكتيك المخيال بالذاكرة، أو المعاصرة بالموروث، كما في تجارب محمد الحسني، عبد الجبار البناء، صالح القرة غولي، عبد الرحمن الكيلاني، ميران السعدي ...الخ، لتشكل هذه السنوات، روحا ً حية للمغامرة، كما وصفها الشاعر فاضل العزاوي في كتابة " الروح الحية". (4)

 

[3] مخفيات بأنساقها المتجددة

     لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءا ً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية، المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن  حقائق التقدم (العلمي) لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، وحقوق المرأة...الخ،* كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام.  فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي ـ ذاكرته الجمعية ـ كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني.(5)
    فالنحت لم يكن يؤدي دورا ً فوقيا ً، كما تؤديه الأصوات، الشعارات، والمؤثرات الأخرى، بل هو الأساس الذي بنيت عليه أصول: البيت/ المصنع/ والمعبد. فقد أدرك إن (الكتلة) ـ كالضرورات التي قادت السومري إلى بلورة نظام العدد/ الحساب، والى الزمن بدراسة حركة الكواكب ـ ما هي إلا تضافر روافد انصهرت لتشكل مفهوما ً دنيويا ً ـ روحيا ً بدرجة لا يمكن فصلهما عن البعض. فتماثيل الأسس ستتحول لديه إلى الرابط ـ الجسر ـ بين الأرض والسماء، بين الحاضر ـ المستقبل...، لأن هذه الجسور تمنح الحركة ديناميتها الاجتماعية/ المعرفية في نهاية المطاف. ومع إن مكي حسين اعتنى بدراسة الخامات، إلا انه، قبل ذلك، تلمس اللغز (الجمالي/ الروحي) لدور المجسمات/ مع المعمار، في بناء النظام الاجتماعي المتكامل، والموحد. مثلما تعلم أن الرؤية الذاتية هي مسار دقيق للحرية الإبداعية بشروطها التاريخية ـ المادية ـ وما تمثله من قيم رمزية هي جزء من المعتقد العام لتلك المجتمعات.
    فالسنوات التي أبصر فيها النور ـ بعد قرون طويلة من الظلمات ـ سمحت له أن يحفر في هذه العلاقة، ويعمل على تطوير مشروع الفن الحديث، وطنيا ً.(6)
   ولعل أول تمثال برونزي أنجزه، قبل أن ينشغل في اختيار (المربع) (القيد) هو تمثال الرجل صاحب الجناح، يسمح للماضي  أن يمتد، أو بالأحرى: أن لا يموت أو يغيب، وفي الوقت نفسه، أن لا يسمح للحاضر بالارتداد. فالحرية ـ هنا ـ شبيهة بالضوء والجاذبية والطاقة ـ توق للتسامي بالدرجة الأولى.  هذا المجسم ـ الشبيه بنماذج نحتية لا تحصى في النحت العالمي أيضا ً ـ تلخص رؤيته للدور الذي يؤديه الفن ـ في عقد الستينات من القرن العشرين ـ نموذجا ً لتماثيل بوابات المدن، الساحات، والأختام، ولتماثيل الآلهة إنانا/ الأم ...، صحيح انه لم ينجز بالحجر أو بالخشب، إلا أن خامة (البرونز) ستذكرنا بنموذج (العجلة) السومرية، وبقناع الإمبراطور سرجون، في أكد...، حيث الإنسان بنزعته اللاواعية للطيران، استمد احد أسس (التحديث) في عالم تزداد  مصائر كائناته تعقيدا ً، ومأساوية.
     فإذا كانت الحداثة الأوربية، قد بلغت ذروتها، بتدشين زمن الحرب الباردة، وإعادة رسم خرائط العالم، فان عالم ما بعد (الحداثة) لم يكن ليؤثر في مسار شعوب مازالت ترزح تحت أوزار عهود طويلة من فقدان الحرية ـ والاستقلال. شعوب لا تنتج إلا قهرها، بعناد تنتهك فيه مصائر كل من يعمل على دحض الرداءة، أو الخلاص منها. فتوهجات، صخب، والتباسات العقد الستيني التي لم تدم طويلا ً، ستترك أثرا ً يسمح للحفاظ على استقلالية (الفن) بأداء دوره الطليعي. (7)
    فظهرت منحوتاته المبكرة المعنية بدراسة العلاقة بين المربع ـ والإنسان، متجاوزة المعنى الأحادي للتأويل، ولكن بإيحاء يبلور المجال الدينامي لعلاقة الإنسان ـ بالحياة. فالمربع قد يعني: التاريخ ـ وقد يرمز للقدر ـ أو للسلطة، أو للموت، أو لغياب شروط الحياة الأساسية ....الخ، إلا أن العلاقة ستلقي المزيد من الضوء على مفهوم (الصراع) و (الحركة) ومنح النحت مكانته ـ الأولى في حضارة وادي الرافدين وفي الحضارات الأخرى ـ بوصفه لا يعمل عمل (الأصوات) أو (الشعارات)، بل ابعد منها، وأكثر حفرا ً في الأعماق.
     فإذا  كان الفيلسوف الألماني (مارتن هايدغر) قد قال بان الشعر هو ما يبقى، فإننا إزاء ديمومة ليست مغايرة للشعر: الزمن/ الضوء، الجاذبية أو المديات أو المجالات الأبعد...الخ وقد وجدت علاماتها مجتمعة في النحت، بل في النحت لأنه ـ تاريخيا ً ـ أقدم تحد للزائل ـ وأقدم كفاح في مواجهة الغياب.
    فعندما يمتلك النص النحتي ـ حتى الرسمي منه كما في رليف اللبوة الجريحة في العصر الآشوري، الذي لفتت انتباه جواد سليم ذاكرا ً كم من الرهافة والإنسانية فيه ـ قدرة تنصيص، أو احتواء، أو صهر، أكثر الأسئلة والأفكار، فانه سيحافظ على ديمومة غير قابلة للدحض: استغاثات اللوعة البشرية بين القهر والانعتاق، بين الجبر والحرية، بين العقل والفوضى، بين الحوار وتكميم الأفواه، بين النظام والعشوائية المنتهكة لكل أشكال الإبداع، عدا التدمير..، وبين العدالة والقهر.


 

[4] الذاتي ـ موضوعا ً
    إذا لم يكن قسم (ابقراط) اعترافا ً بتأجيل الموت، ومد الجسد بوسائل تساعده على البقاء، لفترة أطول من الحياة، فلا مجال لتأويل القسم بالرضوخ لعبودية الحياة؛ فترة أضافية، باستمناء عذابها، وقهرها، ولكن عندما تنبني مؤسسات كبرى، وذات تاريخ عريق، على قهر (الجسد) (الإنسان)، حتى إن الضحية، في دفاعه عن حريته، يسهم بتعزيز آليات عمل تقسم العالم إلى: ما فوق الطغاة ـ والى ما تحت العبيد، فان المصير يغدو ملتبسا ً، وأكثر غموضا ً.
   فهل (الذاتي) ـ بيولوجيا ً ـ لن يعزل عن الذاتي (ثقافيا ً/ إنسانيا ً) أو (جماليا ً)، أم انه لا توجد إنسانية، في الأصل، من غير قهر عوامل القهر؟
     كانت السنوات التي درس مكي حسين الفن فيها، وباشر بعرض منحوتاته، كانت بعض أكثر العلامات قد رسخت (قسما ً/ انتماء ً) لصالح المكان ـ الوطن ـ الجسد (بوصفها علامات مركبة)، كتجربة محمود صبري. على إن الأخير لم يكتوي بالنفي، بعد أن غادر وطنه، بل عندما كان يحفر في الظلمات التي حملت قرونا ً عملت على تدجين جينات الذات ـ والمجموعات ـ والسماح لها ببرمجة البقاء تحت شروط العبودية. فالمواكب الجنائزية التي رسمها محمود صبري، مع تسليط الضوء على موضوعات انتهاك حقوق الطفل، المرأة، والحياة عامة، في خمسينيات القرن الماضي، لم تكن  دوافعها ذاتية ـ بيولوجية ـ إلا للارتقاء بها نحو نقد بنية الظلم، ونظام العبودية، التي ظهرت إنها تمتلك النظام ذاته للمراكز ـ المحيط، بقانونها الهرمي، وإنها تواصل تجديد قدراتها على الهيمنة.
    على إن تأثيرات محمود صبري، ستتصدع، بعد أن اختار (واقعية الكم) حيث ظهرت أسماء فنية (رائدة) تعيد لقسم ابقراط قدرته على مقاومة القيود ـ والرضوخ لديمومة القهر. أسماء فنية عرفها مكي حسين، عن قرب، مثل كاظم حيدر في تجربته (الشهيد/1965) وتجربة محمد مهر الدين بصراحتها وهي تدخل عناصر الملصق/ الكرافيك، في نسيج النص التشكيلي...، لكن حضور إسماعيل فتاح، سيشكل منعطفا ً لتجارب دفعت بالذاتي نحو ذروته، مثلما لم يترك للموضوعية إلا أن تتعرض للهدم. فالذي كان يقلق فتاح، ليس الموت/ الحب، شعار (إنانا)، أو جدلية الفكر العراقي برمته، بل قدرات (الذات)  غير المحدودة بإعادة قراءة مصائر تحدق في المجهول. (8)
    فلم يكن لدى مكي حسين سوى جسد: إنانا ـ الآلهة الأم ـ ومشفرات الجسد، بإعادة صياغة المصير، ومواجهة (القدر) بإرادة (الحرية، كمساحة اختلاف بين القيد/ الظلم، وما يتضمنه الفن من خطاب كونته أحلام الموتى على مدى قرون من التراجع بعيدا ً عن التاريخ ـ وتاريخ الحضارة)، فلقد اختار النحات: الجسد/ المسمار، إشارة محورة لتماثيل الأسس السومرية أكثر منها إيحاء ً بأجساد جايكومتي، النحيلة، لأن الأخير، في الأصل، استمد الكثير من منهجه (رؤيته)، من الحضارات القديمة، والمصيرية تحديدا ً، فالجسد، كي يقاوم، يتخلى عن البيولوجي ـ الفسلجي، ليمتلك معالجة معرفية/ فنية، توحد عبرها إرادة الحياة، بمنح التأمل الوجودي قدرات اكبر على التعبير...، لأن التعبير ـ عامة ـ لا يذكرنا بما أنتجته الحرب العالمية الأولى، والثانية، من: صراخ ـ وعويل، وفضح لسلاسل من الإبادات التي شهدتها أوربا فحسب، بل بالتاريخ الأقدم، والأكثر حداثة، للصراع الذي ما انفك  ينتج مليارات الأجساد المعرضة: للانتهاك ـ العبودية، النفي، والاستغلال.
   ولأن مكي حسين، لم يعزل مهمة بناء النص الفني عن جوهره المعرفي، حتى لو كان جماليا ً خالصا ً، فانه ما انفك يحفر في الجسد المكتوي ـ عبر الحياة اليومية وما تتعرض له حقوق (الإنسان) في الثلث الأخير من القرن العشرين، وأمام أنظمة تدعي إنها ذاقت مرارات الحروب...، فصار الجسد ـ المستعاد من مدافن أور، انشغالا ً منح موضوعاته نسقها التعبيري ـ بأصول مستمدة من تأملاته للأجساد  وقد فقدت ملامحها، واستحالت إلى أشباح. وكأن منحوتات مكي حسين، تعيد قراءة القانون الأقدم، وهو الأكثر حداثة أيضا ً، بما يواجهه الجسد من تدمير منظم، قصد إعادته إلى أصله: البيولوجي ـ وليس إلى شعار: يولد الإنسان حرا ً...، ولكن النحات لم يترك (القيد) ـ حتى لو كان قدرا ً أو نهاية حتمية لإنتاج المراكز والمهمشين من الضحايا ـ رمزا ً لجماليات السلطة، وهي منشغلة بصناعة المزيد من الجثث، أسوة بصناعة الموت، واستحداث جماليات للإبادة، بل علامة تنتج وعيا ً مغايرا ً  لتفكيها، وهدمها، من اجل عدالة لا تقسم البشر إلى: ما فوق الصيادين ـ والى ما تحت الطرائد.
   لقد اكتوى الفنان ـ بوعيه المرهف ـ بما كان يحدث في  بلدان لم يسمح لها حتى بإنتاج غذائها الزراعي، وبتطوير صناعاتها الأولية، وهي تحاصر بوعي (الأصوات/ الشعارات/ والوعود)، وليس بما يجعلها قادرة على تحقيق جدلية إن: التنمية (للجسد/ الإنسان)، هي المفتاح الذي يدور في القفل، من اجل عواصم تحولت إلى قرى، وليس إلى أسواق للمنافسة، والى ساحات حروب  صار فيها ابقراط نفسه ـ نادما ًعلى قسمه، لأن أحدا ً من صانعي الجثث لا يريد سماع حكمته الموضوعية، بوصفها ليست نزعة ذاتية إلا وهي تعمل على إطالة عمر (الحرية)، وليس زمن الظلمات ـ والخراب.

 
[5]  مجسمات عام 2010
   لخص الكاتب (نزار رهك) تجربة مكي حسين، لعام 2010، التي جاءت بعد انقطاع سنوات طويلة، بعبارة :" الوطن عبر نافذة الجسد".(9)
    إن وجود مكي حسين، مع مئات من المخلوعين ـ بحسب مفهوم هابرماس لعام ما بعد الحرب العالمية الثانية ـ في المنافي، والشتات، والأقفاص، عبر القارات، خلق قطعية لم تقم المؤسسة الفنية:الثقافية، في داخل الوطن، ولا التجمعات في الخارج، بردمها. لكن المسافة لم تتجل في اتساع الفجوات، بل في محو الذاكرة، أو تعطيل عملها، كأن المطلوب، خلال العقود الخمسة الأخيرة، ليس تشتيت النخب الإبداعية، بل محو أثرها أيضا ً، كما حصل في تدمير المتاحف العراقية، وترك كنوزها للريح. ولعل القليل من  الكتابات بتوخيها خلق مجالات أفضل للتواصل، لتجاوز أزمات غير حقيقية عملت عليها قوى الهدم. فان إشارة الكاتب رهك لم تصدر عن مشاعر رومانسية، بل ترجعنا  إلى نشوء (الجسد)، والى ما تمت صياغته عبر علامات رسخت مسارا ً للديمومة، والانبعاث.  فالوطن، منذ تشكل حضاريا ً، مع النحت، الكتابة، لم يتبلور عبر الأرض، وزمنها فحسب، بل بما يجعل (الوطن) مصنعا ً للديمومة، مع الأوطان التي شغلها التعايش السلمي.
   فمنحوتات عام 2010، التي عرضها في ألمانيا، ترجعنا إلى تدشيناته السابقة، في ستينيات القرن العشرين: الجسد المحاصر بالقيود، ولكن الجسد ـ المسمار ـ السومري ـ للعلاقة بين السماء والأرض، بين المطلق والتاريخ، وهو يعمل على كسر قيوده. إن الجسد ـ بوصفه وطنا ًـ ليس موقعا ً أحاديا ً أو مركزا ً للتعصب، كما دعت بعض التيارات كي يصبح كونيا ً، ذلك لأن (الكوني) في الحضارات المتقدمة، والتي لم تترك إلا صمتها يأتينا شبيها ً بضوء المجرات الذي يبرهن انه لا يمتلك إلا زواله، تأسس إبداعها ـ في مواجهة الغياب، والمجهول ـ إلا بتضافر عناصر كونت كيانها ذاته وليس كيانا ً آخر...، ومع إننا ندرك تماما ً عمل القوانين العامة، كالهواء والماء أو الفضاء أو الزمن المشترك بين الكائنات بلا استثناء، إلا أن لكل كيان ـ منذ صار الإبداع الفني مقترنا ً بنشوء حضارة الأم ـ له خصوصيته، بصمته، فلم يصر الوطن ذريعة لشن الحروب، بدوافع التوسع بالملكية، كما هو حال انشغال الإمبراطوريات التوسعية، منذ نشأت وحتى يومنا هذا ـ في ذهن المبدع، ورؤيته، بل مأوى شبيها ً بالرحم، ولكن بعد مغادرته. فأسفار سومر حول الفردوس المفقود، كما لمّح فرويد لهذا المفهوم، بالولادة: الخروج من المكان الوحيد الذي لا يعاقب فيه الجنين ـ مع إننا في عالمنا نعرف أن هناك 17 ألف طفل يموت في اليوم الواحد، كما ذكر الأمين العام للأمم المتحدة ـ لأن الأم لا تقذف بأبنائها إلى الجحيم، رغم انه سيشكل تحديا ً متواصلا ً للصراع، بل امتدادا ً لدينامية  توخت تقليل الخسائر، وإعادة بلورة  توازنات تجعل من الحياة اقل استحالة، ورداءة.
     إن مكي حسين يختار (الوطن)، كما اختاره منذ البدء، موضوعا ً لتماثيله. ولكن انقطاع النحات عن العمل، بل وتجاهله من قبل (الداخل)، وهشاشة العلاقة مع ما يحدث في المنافي ـ مشروع القرى المتناثرة وقد تحولت إلى أسواق والى مناطق معزولة، رغم ثورة الاتصالات وهدم الحدود والممنوعات والمحرمات التي عفا عليها الزمن ـ  أدى إلى استكمال حقيقة تشتيت الكيانات المبدعة ورموزها ـ بمختلف حقول الإبداع ـ فلا المؤسسات في الداخل يعنيها أمر آلاف المخلوعين، المهجرين قسرا ً، والمنفيين، ولا تجمعات الخارج فكرت أن المنفى نشأ في الوطن، مما سمح للنسيان ـ والإهمال المقصود والعفوي المواكب لدرجة التخلف الحضاري ـ أن يشكل ملامح وطن ـ بلا هوية. على إن عصر ما بعد (الحداثة) والدخول في حقبة ما بعد (العولمة)، عبر تحول عدد من البلدان إلى خرائب، وأطلال، والبعض الآخر إلى جزر للعيش بلا خوف من القتل، أو الانتهاك، لن يدوم إلى الأبد. فالأوطان ـ الكيانات المتحررة من الأحادية والتعصب ـ في هذا العالم، تعمل بالرسالة ذاتها التي مازالت الأم ـ كآلهة أرضية ـ  تتوخى صياغته بأقل الخسائر. فالوطن ـ الجسد ـ  عند نحات كبير، مثل مكي حسين، هو العالم صوب مركزه، العراق، وهو العراق ـ بلا ما بين النهرين ـ علامة تجدد الرسالة ذاتها للفنون التي حفرت عليها حروف الكتابة، وشرائع أنظمة الحضارة.
   تماثيل مكي حسين، هي: الأجساد لا ترقص في مهرجان للفكاهة، بل هي الأجساد المنتزعة من عذابات الضحايا، وما لا يحتمل من انتهاك حقوق الإنسان، وكي لا استعمل كلمات (نزار رهك) ـ حيث تجد من يتحدث عن عظمة الاحتلال بوصفه تحريرا ً من الدكتاتورية، متجاهلا ً أن هناك خمسة ملايين تم قذفهم بعيدا ً عن الوطن، وهناك أربعة ملايين نازح بلا مأوى، وملايين الأرامل، والأيتام، والمعاقين، والعاطلين عن العمل، وملايين يعيشون تحت خط الفقر، بعد أن خربت الزراعة، والصناعة، والإسهام ببرمجة تحويل البشر إلى أشباح، لا أمل لديها إلا أن لا تمتد سنوات منفاها في الوطن، حيث الموت غدا ً رجاء ً ...الخ ـ  فان تماثيل مكي حسين، وجدت الوطن يسكنها، ووجد الوطن مأواه فيها ـ كحروف ومسامير وأبدان نحيلة مستمدة من الحياة اليومية لملايين الفقراء والمهمشين والمنفيين في وطنهم ـ مثلما سمحت لتماثيله أن تعيد عرض المشهد دوليا ً، مستلهما ً قانون الإبداع بالحفاظ على روح جيل لم يفقد الرجاء، رغم عقبات الخراب، والتوزيع الجائر للثروات، والفوضى، لقراءة تستلهم العدالة المنصوص عليها في الشرائع، وليس شعاراتها.


[6]   ديمومة: الحرية ليست شعارا ً
    في إشارة دونها الكاتب موسى الخميسي، حول الخصائص  التي تميزت بها تجربة النحات مكي حسين، يلفت الانتباه إلى: انه " واحد من نخبة فنانينا العراقيين المعاصرين الذين كرسوا أنفسهم لجهد خاص يتسم بسعيهم لخلق موازنة واعية بين الرمز والتشخيص" وانه يمسك الإنسان حتى في عزلته، مانحا ً تجربته سمة: الأناشيد البصرية. مشخصا ً إلى عدم خضوعها إلى أسلوب موحد...، إنما...، التعبير فيها غير منفصل عن الشكل الجمالي....(10) الخ
    إن الكاتب موسى الخميسي يسمح للمتلقي بالتوسع في القراءة. فإذا كان معظم زملاء مكي حسين تلقوا صدمة (التشتت في المنافي)، فان من مكث يواصل نشاطه داخل الوطن ـ ومنهم إسماعيل فتاح قبل أن يغادر هو الآخر ـ مكث يستكمل الملامح المخبأة للأسلوب كي يؤسس هوية لا يمكن دراسة تفاصيلها إلا بالابتعاد عنها ـ مكانا ً وزمنا ً ـ كي نلحظ إن لغز الأنظمة اللا واعية ـ في حضارة وادي الرافدين ـ  بتعرضها إلى صدمات الغزو ونكبات الطبيعة وكوارث الحروب الأهلية، ومنها الحروب الطائفية ـ قد ازدادت قدرة على تجديد عوامل انبعاثها.   ومع إن العدد الأكبر من جيل مكي حسين، التحق بالمنافي، إلا أن العقود الأخيرة، برهنت إن عمليات (النفي)، والمعاقبة في الداخل، وإنهاك الوطن بفوضى تحمل كل الصفات إلا الفوضى الخلاقة، وهي زمن ما بعد الشروع  بتدمير العراق ـ وليس إسقاط نظامه الأحادي  حسب، وهي أحادية لم تهبط من العدم ولم تتشكل إلا بتضافر عوامل تنتمي إلى قرون من الاستبداد، وبوجود قوى كبرى تتحكم بالمصائر ـ  كلها لم تفض إلا لبلورة تيارات تؤكد إن رد الفعل (الفني/ الثقافي/ العلمي) قد يتأخر، بسبب الصدمات والترويع، والعودة إلى العصور المظلمة، شبيهة بأزمنة الأوبئة، واغتيال العلماء، ومحاكمة كل من يمتلك قدرة على القراءة، في محاولة لإعادة دكتاتورية (الديمقراطية) بأحادية اشد مرارة من معوقات الحزب الواحد ...الخ، إلا إنها سرعان ما تنتج (تيارات) فنية، ثقافية، تستمد دوافعها، ليس من الحتميات، ولا من إرادة الحياة، بل من الوعي بقدر (الإنسان) المعاصر، الذي تحدث عنه (مالرو)، وهو الوعي الذي بهر اندريه مالرو في مقدمته لكتاب بلاد سومر، حيث هدم الفجوات، وأزمنة القطيعة، كي يرى في إبداعات سومر :" تيار الحرية الخفي الذي يرتفع إلى السطح ثم يموت ويبعث. من الإلهات الأفاعي إلى آخر التماثيل الصغيرة، ومن صور الخصب إلى معبودات حلف. فحيثما يفنى ذلك التيار، نجد في ذلك اتجاها ً ظاهرا ً إلى الأشكال البشرية التي تميز النحت على نطاق واسع، وتميل إلى أن تجعلنا نتغاضى عن حرية التماثيل الصغيرة، ومع ذلك فان هذه الحرية الخلاقة أيضا ً توجه كل الفن العراقي، أشبه بحجر المغناطيس اللا مرئي." (11)

   وهي إشارة تجعل من تجارب مكي حسين، وكأنها تستمد نسيجها من البيئة التي ما انفكت تمنح جيناته مشفرات الحرية ـ لكن بمعناها الفني ـ والجمالي أيضا ً.
   فبعد أن أصبحت قوافل الهجرة مشهدا ً يوميا ً، وبعد أن فرضت القطيعة المزدوجة ـ بين الخارج والداخل والداخل مع المنافي ـ  ولكل أسبابه ـ يبرز دور النحات (العراقي) بهوية لا تستنسخ ماضيها، ولا تحاكي الحداثات ـ وما بعدها ـ محاكاة عمياء، بل تدخل في معالجات هي ذاتها امتدت من تماثيل (إنانا/ عشتار) في فجر السلالات ـ وأقدم منها ـ وصولا ً إلى ما بعد تفكيك الإمبراطورية الآشورية، في الحضر، وفي العصر الذهبي للدولة العباسية...، فثمة مقدمات تذهب ابعد من نهاياتها. واقصد ـ تحديدا ً ـ  إن النهايات، في كل عصر، تحافظ على نسج له قدرات صارمة على النمو ـ ومقاومة الاندثار والمحو. فالمقدمات التي قدمها النحات، ـ ليست مشتتة أو بلا هوية أو خاضعة لرؤية أسلوبية متباينة ـ بل على العكس ـ تماما ً، إذ ْ تبدو وكأنها ـ رغم عولمة الثقافة المصنعة في عالم يزداد جنونا ً بإنتاج السلع (12)، وبصناعة الجثث، لجني المزيد من الأرباح، راحت الذات، بوصفها بنية جمعية (ما) يصعب تحديد ماهيتها، إنما تعكس هذه الذات (الجمعية) لغز: النبوغ العراقي ـ كما قال الروائي الفرنسي فكتورهيغو وهو يستقبل ممثل العراقي في باريس ـ وهو الذي يفسر ـ على سبيل المثال ـ: احد عوامل نشأة جيل الرواد ـ منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى نهاية خمسيناته ـ  وكأن هذا الجيل لم يتلق معارفه، وتدشيناته، في أوربا وجامعاتها المعنية بالحداثات، بل استقاها من مخفيات تماثيل الأسس، ومن تماثيل الآلهة الأم، وأساطير الحفر في منهج صناعة الحياة، وليس الرضوخ لتراتيل عبادة الموتى.(13)
   إن منحوتات  مكي حسين، وكأنها تعرض في صالة بغدادية، تمتلك الروح العنيدة التي نذر جواد سليم حياته من اجلها، وهي التي مثلتها التجارب الطليعية لصالح القره غولي، واتحاد كريم، ومقبل جرجيس، وطالب مكي، وإسماعيل فتاح، والحسني، ومحمد غني حكمت، والرحال، وعبد الجبار البناء ..الخ، لأنها تستمد دوافعها من القوانين ذاتها التي أتاحت للقدماء اختراع، وتأسيس أصول أقدم صياغة للحرية، بعلاقتها الجدلية بإنتاج عوامل الازدهار الاقتصادي، ألا وهي حرية الإبداع، وليس التمسك بالارتداد، أو الحفاظ على أنظمة  صارت تعمل ضد التاريخ، وضد الإنسان.(14)
__________________________________________________

* وأنا أدوّن هذه الإشارات، حول تجربة النحات مكي حسين، أشعر بالأسى، بل والخجل، فالمقارنة بين الألف الثالث ق.م، واليوم، في البلد نفسه، يجعل التاريخ يسير بعناد نحو الخلف. لأن ما كتبه صموئيل كريمر يبدو خياليا ً، ولا علاقة له بالجذور الحضارية في بلاد وادي الرافدين. انظر .....س.ن.كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الأصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980، فيذكر كريمر: إن سومر ـ هي ـ من أنتجت أول: مدرسة في العالم/ أول علاقة بين المدرسة والبيت/أول حكم ديمقراطي في العالم/أول اقتصادية واجتماعية/ أول قانون/ أول سابقة قضائية/ أول كتاب صيدلة/ أول تقويم زراعي/ أول مقولة في الكون والتكوين/ أول أمثال وأقوال/ أول فردوس/ أول بعث وقيامة/ أول ملحمة وعهد فروسية/ أول أغنية حب/ أو عصر ذهبي.

المصادر
1 ـ إبراهيم عباس إبراهيم " الإلهة الأم في حضارات «الجزيرة الفراتية» من خلال المكتشفات الأثرية  "   http://www.welateme.info/erebi/index.php
2 ـ جورج كوبلر [نشأة الفنون الإنسانية ـ دراسة في تاريخ الأشياء] ترجمة: عبد الملك الناشف. المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر ـ بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين ـ بيروت ـ نيويورك 1965.
3 ـ  د. إحسان فتحي "الشتات الفني العراقي" ـ http://www.iraqstory.com/
4 ـ فاضل العزاوي [الروح الحية ـ جيل الستينات في العراق] دار المدى للثقافة والنشر ـ دمشق 1997
5 ـ نزار سليم [الفن العراقي المعاصر] الكتاب الأول ـ فن التصوير ـ وزارة الإعلام ـ بغداد 1977
6 ـ شاكر حسن آل سعيد [فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] الجزء الأول ـ دار الشؤون الثقافية والنشر ـ بغداد ـ 1983
7 ـ ادوارد لوسي سميث [الحركات الفنية بعد الحرب العالمية الثانية] ترجمة: فخري خليل، مراجعة: جبرا إبراهيم جبرا. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1995
8 ـ عادل كامل [الفن التشكيلي المعاصر في العراق ـ مرحلة الستينات] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1986
9 ـ نزار رهك " جولة في أعمال الفنان مكي حسين" موقع" صوت اليسار العراقي" http://saotaliassar.org/Aadaab/Maki01.html
10 ـ موسى الخميسي "أجساد متمردة تصبوا إلى تحقيق أملها:  موقع "صوت اليسار العراقي"  http://saotaliassar.org/Aadaab/Maki01.html
11 ـ أندري بارو [سومر ـ فنونها وحضارتها] ترجمة: الدكتور عيس سلمان وسليم طه التكريتي. المقدمة: اندريه مالرو. بغداد ـ 1979.ص 13 وما بعدها.
12 ـ د. إبراهيم الحيدري " عولمة الثقافة وثقافة التصنيع" موقع: الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=511362
13 ـ ميشيل شوسو دوفسكي [عولمة الفقر] ترجمة: جعفر علي حسين السوداني. بيت الحكمة ـ بغداد 2001
14 ـ جميل حمودي ـ دليل الفنانين العراقيين] وزارة الإعلام ـ 1973 ص 163
15 ـ مكي حسين " تاريخ  سباكة التماثيل البرونزية في العراق:  موقع "صوت اليسار العراق": http://saotaliassar.org/mkalat01.html


* سيرة
ـ ولد في البصرة عام 1947
ـ أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة ، بغداد 1967
ـ شارك في معرض جماعة البداية 1967
ـ شارك في معرض الفن العراقي المعاصر 1972ـ عضو جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين.
ـ غادر بغداد وانقطع عن الاتصال بشكل كامل عن الوسط الفني ,والوطن منذ عام 1979,بعد هذا التأريخ بثلاث عشر سنة سنحت له الظروف أن يعيد علاقاته  بالوسط الفني العراقي وبعض الأصدقاء.(15)


15/4/2017
Az4445363@gmail.com

الأحد، 17 أبريل 2016

هل سيستمر مكتب زهاء حديد ؟- د. إحسان فتحي






هل سيستمر مكتب زهاء حديد ؟

 د. إحسان فتحي
عندما درست الشابة العراقية زهاء حديد هندسة العمارة في كلية الجمعية المعمارية في لندن من عام 1972 إلى 1977 كانت قد تأثرت بالضرورة  بالأفكار الطليعية لعدد من أساتذتها المشهورين ومن بينهم كان الهولندي ريم كولهاس، الالماني ليون كريير، اليوناني زينجيليس، والفرنسي برنارد شومي.  بعد تخرجها اشتغلت في مكتب (أوما) لاستاذها كولهاس لثلاث سنوات الا انها اختلفت معهم ولم يعجبها ان تكون خاضعة لتوجيهات تحدد افكارها المتمردة.  لذا لجأت الى الاستقلالية المهنية  عندما اسست مكتبا خاصا بها عام 1980 في جزء من بناية مدرسة فكتورية قديمة في منطقة (كلاركينويل) في لندن. وعندما فازت بالجائزة الاولى لمسابقة نادي هونج كونج العالمية، والتي شارك بها مئات من اشهر المعماريين في العالم،  بدء نجمها يسطع في الاوساط المعمارية وخاصة لان رسوماتها كانت تمثل لوحات فنية ملونة وكبيرة صادمة للمتلقي، وتحتوي على رسومات هندسية كان من الصعب فهمها. كان اسلوب الرسم التفكيكي المتفجر و المتشظي مؤثرا جدا لان الثقافة الغربية تنجذب لما هو غير مألوف وكل ما يكسر بل يحطم التقاليد السائدة ويتناغم مع الفكر الأدبي والثقافي الطليعي الذي كان يقوده آنذاك الفيلسوف ألتفكيكي الفرنسي الجزائري المولد، جاك دريدا.





ولان شهرة زهاء بدأت بالتصاعد بسرعة اصبحت مطلوبة بشدة للتدريس في عدد من اهم الكليات المعمارية في العالم منذ عام 1980 ومنها كانت جامعات هارفرد وشيكاغو واوهايو ووكولومبيا في نيويورك وييل، وكذلك في هامبورغ، ولكن لم تطلبها اي جامعة عربية !  كان من بين طلابها شاب الماني لامع اسمه (باتريك شوماخر- تولد 1961) وصادف ان رغب بالعمل في مكتبها في لندن بعد ان حصل على شهادة البكالوريوس من جامعة شتوتغارت وساوث بانك في لندن عام 1990.  لكنه باشر بالعمل في المكتب عام 1988، اي قبل تخرجه، لكنه حصل على الدكتوراة في الفلسفة ، وليس العمارة، من جامعة (كلاجينفورت) الالمانية. وعلى ما يبدو فأن زهاء شعرت بعمق تفكيره وتنظيرة المعماري المتفرد والجرىء مما جعله مقربا جدا منها بالرغم من الفارق بين عمريهما. لعب باتريك دورا هاما في تحويل الاتجاه التصميمي لمكتب زهاء من التفكيكية التي لم تنجح كثيرا حيث لاقت مقاومة شديدة لدى الاوساط المعمارية الى ما سماه هو ب "العمارة البارامترية" التي تبنت الاشكال المعمارية البايولوجية المنحنياتية. كما ان صدمة زهاء برفض مشروعها الاهم في المملكة المتحدة، وهو دار أوبرا كارديف (عاصمة ويلز) في 1995، بالرغم من فوزها بالجائزة الاولى، سبب لها خيبة امل كبيرة وجعلها تفكر في انطلاقة جديدة. بدأت تصاميم زهاء تلقى استحسانا تدريجيا وشكل فوزها بمسابقة بناية (بييرفيف) في مدينة مونبليية الفرنسية في عام 2002 (نفذ المشروع في 2012)، بداية تحرك نحو اسلوبها الانسيابي الجديد. بعد ذلك توالت المشاريع بسرعة واحدة تلو الاخرى مما اضطرها الى شراء كل بناء المدرسة القديمة وتحويرها الى مكتب استوعب حوالي 400 مهندس وموظف.



ومن بين كل هذه التصاميم المبهرة المنفذة برز بعضها بشكل لفت انظارالنقاد ، المعجب منهم والحاقد، ومنها كان كل من بناية شركة بي ام دبليو للسيارات في ميونخ، والمسابح الاولمبية في لندن، ودار للاوبرا في الصين، ومدرسة اكايمية جريس في لندن، ومركز حيدر علييف للفنون في باكو، اذربيجان، ومتحف ماكسي في روما، ومكتبة لجامعة فيينا، ومتحف في جلاسجو، واستاد رياضي في الدوحة.
وفي عام 2008 وافقت زهاء على ان يصبح باتريك شوماخر شريكا لها في المكتب واصبح في الحقيقة ساعدها الايمن في جميع اعمالها مما خفف كثيرا من اعبائها ومنحها الوقت الكافي للسفر و لتصميم العديد من الاشياء الاخرى غير المعمارية كتصميم الاحذية، والاثاث، واليخوت، والمجوهرات، وحتى الازياء. ونظرا لكثرة المشاريع المحالة لمكتبها قررت ان يكون لها ايضا 6 مدراء عامين اساسيين من جنسيات متنوعة وهم: موزهان مجيدي، جيان لوكا راكانا، جيم هيفيرين، شارلز ووكر، ساتوشي اوهاشي، وتياجو كوريا. وفي عام 2013 قررت زهاء تحويل مكتبها المعماري من شركة الى مؤسسة، وأوصت بجزء كبير من ثروتها الشخصية (قيل انها بلغت حوالي 37 مليون باون استرليني اي حوالي 52 مليون دولار حسب قائمة الصنداي تايمزلاثرياء بريطانيا لعام 2011) الى المكتب لكي يستمر من بعدها.
في زيارتها الاخيرة الى ميامي (فلوريدا) للاطلاع عن كثب لمشروعها (برج سكني) اصيبت زهاء بالتهاب شديد في القصبات تحول بعدها الى مرض ذات الرئة (النيمونيا) وهو مرض خطيرسبب، على ما يبدو، بأحتشاء في عظلات القلب مما ادى الى توقفه ووفاتها.  ذكرت التقارير المقتضبة بانها كانت قد نقلت من فندقها الى احدى مستشفيات (ديد كاونتي) بميامي في الساعة السابعة والنصف من فجر الاربعاء 31 أذار(مارس) وتم ادخالها في احدى غرف الطوارىء ولكن دون جدوى. ولم يعلن عن اي تقرير للطبيب العدلي او الطبيب المقيم عن سبب الوفاة المؤكد، وعلى ما يبدو ايضا بانه لم تجراية عملية تشريح (أوتوبسي) للتحقق من سبب الوفاة بشكل حاسم ونهائي. تم نقل جثمانها بعد يومين او ثلاثة الى لندن. وتمت مراسيم الدفن يوم الاربعاء 7-4-2016 بدءا من مراسيم صلاة الميت في جامع لندن المركزي الى نقل الجثمان الى مقبرة (برووكوود) في منطقة ووكنج (سري) حيث دفنت الى جنب والدها واخيها فولاذ وعمها في الجزء الاسلامي من المقبرة الكبيرة.
بعد مراسم الدفن تجمع العاملون في المكتب مع عدد كبير من أصدقاء زهاء في بناية متحف التصميم الذي كانت قد اشترتها في عام 2014 بمبلغ 10 مليون استرليني لكي تحولها الى مركز للبحث والارشفة لمكتبها.  القى الشريك باتريك شوماخر كلمة ابدى فيها حزنه العميق لهذا المصاب الجلل لكنه وعد الجميع بأن مكتب زهاء سيستمرفي العمل وهم ملتزمون باكمال ما لايقل عن 60 مشروع متعاقد عليه. وقال باتريك بأنه في طبيعته كان منطويا جدا ولكن عمله مع زهاء حقق له علاقات وصداقات واسعة مع ابرز المنظرين والمعماريين في العالم.
نحن المعماريون العراقيون، وكل عراقي وعربي،  نتمنى ان ينجح شوماخر والعاملون معه في مكتب الفقيدة الغالية زهاء في المحافظة على حيويته وابداعه الطليعي وتنفيذ كل هذه التصاميم المتفق عليها. الا ان التجربة العالمية لمكاتب مشاهير المعماريين في العالم تشير الى صعوبة، بل حتى استحالة، استمرار المكتب بعد وفاة صاحبه المشهورلاكثر من عدة سنوات. ذلك ان غياب شخصية عملاقة ومؤثرة مثل زهاء حديد سيفقد المكتب احد اهم اركانه واساس طاقته والشعلة التي كانت تحركه. وبالتالي فأن شوماخر قد يستطيع تجنيد الطاقات العاملة حاليا لسنوات قليلة قادمة ولكنه لن يتمكن من الاستمرارلاكثر من سنوات قليلة.  لقد شاهدت له عدة محاضرات حاول فيها تفسير "العمارة البارامترية" ورفضه لفكرة المدن الصغيرة المتراصة وترويجه الشديد للمدن العملاقة العمودية (ميجا سيتيز)، اضافة الى اصراره بأن دور المعماري هوالبحث عن الشكل وليس الوظيفة. لم تكن شخصيته مؤثرة مثل زهاء ابدا. كان ضعيف الاداء بالرغم من قوة الافكار التي كان يطرحها ولغته الانجليزية التي يجيدها بشىء من الصعوبة ولكنته الالمانية!
ببساطة، ان زهاء حديد، بشكلها، بعقلها، بشخصيتها،بحضورها، بطريقة كلامها، بعبقريتها، سوف لن تتكرر ابدا. كانت شهابة مدوية سطعت في سماء العمارة ثم اختفت بسرعة. توارت عنا بلحظة قاسية ولكننا سنراها في تصاميمها وهي آثارها التي ستبقى تلهمنا لفترة طويلة من الزمن.


*معماري ومخطط مدن
جمعية المعماريين العراقيين
16 نيسان 2016

(ملاحظة: إن اسمها هو زهاء وليس زها، كما جاء بهوية الأحوال المدنية العراقية الخاصة بها)

الجمعة، 15 أبريل 2016

أختام *- عادل كامل
















أختام *

عادل كامل

 [5] التراكم ـ من الحواس إلى الختم


     كلاهما، الحواس والدماغ، لا يمكن فصلهما في التقدم، بأمل أن لا افقد الأمل، نحو مساحات غير مكتشفة. ما الحواس ...؟ إنها [1] الأصابع التي راحت تعيد تمثل العالم، وتستغرق في تأمل اشتباكاته، وومضاته، وتعيد صياغته بما يطرد ـ أو يهذب ـ أي درب يؤدي إلى انغلاقه. [2] فيما حاسة البصر لم تتكون بمعزل عن ما لا يحصى من الومضات (الضوء بصفته لغزا ً بدءا ً من الشمس إلى النار) فكلاهما لا يسهمان بوضع دفاعات معقولة ضد الخارج، بل ينشغلان برؤية البعيد، وما وراء السطح، وهو اكتشاف أبعاد (الروائح) [3] من العفن إلى عطر الورود، بالتفريق بينهما، وانتقاء ما يتكيف مع الجسد. [4] بينما عمل التذوق لن يسمح بمعرفة كم هي مذاقات الموجودات لا تحصى فحسب، بل اكتشاف ما يوازي تعقيدات عمل الدماغ. [5]  أما الأصوات فإنها لن تبرهن على عملها بمعزل عن أجهزة الاستقبال، فكلاهما غاية لوسيلة، ووسائل لغاية، كي تظهر نزعة دراسة درجات الأصوات، من الصمت إلى الدوى، لبلوغ فلسفة الإصغاء ـ والكلام (الحوار/ الجدل).
     فهل كانت ثمة أبعاد، غير العمق، بعد العرض والطول، كالزمن، وأبعاد تخص تراكيب أكثر تعقيدا ً كالإشعاعات اللا مرئية، والمديات، وتحولات الطاقة، وما سيشكل وسطا ً بين الأجزاء، وصولا ً إلى العلة المكتفية بذاتها، إلى: اللا علة، قياسا ً بمحدودية عمل الدماغ ـ وعمل أدواته.
     في مخيالي ألبدئي الشارد، وفي سنوات مبكرة جدا ً، عشتها في مناطق زاخرة بالصخور، وأخرى مع الماء، وثالثة بين الرمال، كان للخامات، مع حواسي المتوثبة، والمتوقدة، أثره في تبلور ولعي بتحليل الانجذاب إلى (الختم) ـ بمعناه الشامل ـ وصياغته بما يعيد السكينة لذات عاشت صدمة الولادة ـ الخروج من العماء إلى الأصوات والمرارات والضروريات ـ إلى: الكد، وصدمات متلاحقة لم تنفك تزداد قسوة، وتعقيدا ً، كي تتحول إلى عناد في الإمساك ـ والتمسك ـ بالأمل، كالإمساك بالمستحيلات، أو بما لا وجود له إلا في حدود زمن اندثاره، وغيابه. لماذا (أنا) أفكر كي أدرك في نهاية المطاف، أني عملت للخسران؟ ساجد الجواب الرادع: هذه هي سنة الأمور، كي تلجم في ّ الأسئلة، وكي أجد موقعي في الجماعة: في شريعة يتحكم فيها نظام لا ينتج إلا ما لا يترك شيئا ً للبقاء. ففي الغابة، لا تنتهك الطرائد وتهلك وتغدو فريسة فحسب، بل الصياد، هو الآخر، مهما صاغ هرمية سلطته، فلن يذهب ابعد من مدفنه. فلماذا علي ّ أن أغلق أدوات الحفر...؟
     في هذه اللحظة تبدو الصخور، وخامات أخرى، كالطين، والخشب...الخ ليست فائضة في وجودها بجواري، ولكنها لن تقيم علاقة معي إن لم امتد إليها، واعقد معها علاقة لن ادعها تتكامل إلا مع ذاتي بالمودة، وليس بالعدوان!
      فهل كان دافعي هو ذاته لدى الإنسان الذي وجد نفسه في العراء، في الغابات الكثيفة، تحت الأمطار، مشردا ً، محاصرا ً بالأعداء، كي يحز، ويحفر، أو يخط، أثرا ً ما لتعبير ـ وصولا ً إلى مهيمنات السحر ـ ام ان الفراغ لدي ّ، كالذي توفر عنده، سمح للحواس أن تؤدي دورا ً قادها إلى وجود أقدم: علامة مقاربة للعملة. فما بذل فيها من جهد، وما في الخامات من ندرة، باختلاف خصائصها، وما تعنيه، وما فيها من مهارة..الخ فقد تحولت إلى مأوى له، شبيه بالكنز، دماغا ً آخر كونته عناصره، التي لا يمكن عزلها عن أولى أحاسيسه بالسيطرة، بعد كفاح مرير قاوم فيه عوامل انقراضه.
     أم كان الموت ـ لطفل أو لرجل في الستين ـ سببا ً لصياغة لغة ما للحد من الصدمات ـ من صدمة الولادة إلى الموت ـ خارج متطلبات الآخرين، أم كان محض أداء محاكاتي لإشباع غريزة التملك، والهيمنة، ولفت النظر، وتدوينها ـ توثيقها ـ وحفظها ـ كما يحتفظ الذكر بالأنثى أو العكس لإدامة كل ما لا يمكن إلا رؤيته يتسرب وينحل، ويغادر، أم أن أقدم الدوافع، كأكثرها حداثة، ستبقى تحت مناطقها المخبأة بعناية، ولا تعمل إلا عبر قوانين الظاهر: حدود الحواس، وانشغالات الدماغ، ضمن الجماعة ، والكل الذي لا أجزاء فائضة في وجوده؟




[6]  المدفن ـ ونقيضه


    الختم، أو بالمعنى ذاته: الفن، ليس مدفنا ً، مع انه يؤدي دورا ً شبيها ً به، وإنما هو ترك الملغزات تعمل كعمل: الضوء، أو كعمل القلب، وكعمل يتقاطع مع الاندثار. ففي هذا السياق تبزغ فكرة أن (الملكية) تصنع من يغذي تراكماتها! ألا تبدو الرأسمالية ، أي تراكمات الجهد وصولا ً إلى ما بعدها، ولدت قبل أن يولد الرأسمالي الأول: صاحب الغابة أو صاحبتها/ المهمين أو المهيمنة/ الماكر أو الماكرة/ الرائي أو الرائية/ الجبار أو الجبارة/ المنقذ أو المنقذة ...الخ بصفته صاغ ثنائية: الصياد ـ الطريدة، وشيّد نظام من في المقدمة؟ أم هناك ـ على الضد ـ يوتيبيا تنزع نحو العدل؟
     ذلك الصانع، وهو يترك أصابعه، كما افعل ـ تعمل كعمل الإلكترون بنظام لم تضبط وثباته، لكنه ـ يعمل ـ بعد ظهور نظرية الذرة ـ إلى عالم تكونه لا مرئياته.. راح يتراكم،  بالمعني وبالرموز، من الصوت إلى الكتابة، وبالإشارات، وتنوعها، خلجاته، فوق الصخرة، أو فوق العظم، أو فوق سطوح الفخاريات. كان يمارس الدفن ـ بلا وعي منه تماما ً ـ ولا يتقاطع مع رغباته وضرورياته. فالقلق، كالثقة بالنفس، كلاهما يجتمعان في (الختم). فهو قبر تحت السيطرة. قبر بالجوار، بل هو يقع في مركز الذات ـ وفي إطار المجموعات البكر. يحفر الأشكال المستمدة من الغيوم، ومن الشهب، ومن لمعان أنياب الكائنات المفترسة، ومن خفايا الجسد، ومن ومضات رذاذ الماء، والأطياف، ومن شرر حدقات مخلوقات الليل، وما يخفيه الظلام .. انه يدوّنها، يجمعها، ويدفنها. فهو لن يتركها خارج سيطرته. لأن القبر ـ هنا ـ  يؤدي دور القاصة، وكالرحم، كلاهما مأوى للمغادرة.  وربما خطر بباله ان لغز عمل الرحم، كأقدم ماكنة للإنتاج، شبيهة بعملية الدفن. فما لن يدفن لن ينبعث. وربما خطر بباله ـ بعد أن بلغ حجم دماغه حجم دماغ اينشتاين ـ أن الموت ليس نهاية.  بل دربا ً آخر للحياة. وربما حدس أو تعلم بالتجربة في ذلك الزمن السحيق أن البذور، إن لم يدفنها في الأرض، ويخفيها، لن تتكاثر، ولن يتضاعف عددها، الأمر الذي مهد له مشروع حفظ الجسد (التحنيط)،  كي تعود إليه الروح أو النفس، أو أن يجد فردوسا ً في الأعالي. وربما أجرى مقارنة بين عمل الرحم ـ وعمل الأرض ـ فأدرك أن لم يخف البذرة في مكان آمن، لن تحافظ الحياة على ديمومتها ...؟

    فهل كنت ـ بسبب هذا اللا وعي ـ وليس بسبب الإرادة العمياء التي تحدث عنها شوبنهور، أحاول تلمس طريقي وأنا لا استطيع مغادرة حياة داخل سرداب ـ كما قال منعم فرات ـ إنما بسرداب خال ٍ من السلالم؟  أم ـ مع استحالة دحض مثاله ـ كنت أجد في (الختم) حماية رمزية أتوارى داخلها لأداء دوري في كلية الدورة، أم، في سياق آخر، لتفكيك الموت، وإعادة دراسته كأجزاء خاصة به، وليس كضد أو نقيضا ً للحياة، أي الموت، لان الأخير حركة سالبة، أو كدفاع غير ايجابي، في مواجهة حياة لا تساوي ـ عند الحكيم ـ أكثر من تركها تذهب، مثلما جاءت، كعمل مرور هذا اللا مرئي بين الليل والنهار، وبين النهار والليل، وكعمل الدورات الشبيهة بالولادة ـ الشباب ـ الهرم، والموت. أم الختم  ذاته يمتلك غواية ما أخرى شبيهة بما يفوق رغبات الانجذاب الجنسي، والضرورات الأولية للبقاء، ليجعل ذاتي مكبلة بحريات قيودها، كالذي اعتقد انه كتم داخل الأسرار سره، أو كالكاتم في الكتمان كتمانه: أدرك ـ في لا وعيه السحيق ـ انه لم يتكون فائضا ً، وان وجوده ليس زائدا ً، أو كمصادفة ما، وإنما حتميا ، بلذّة توق تبقى كامنة في خفايا ألتوق، وملغزاته، وان الختم، ليس إلا علامة أبدية لفناء لا وجود له، إلا عبر تحولات الأشكال، ومرور الزمن.







[7] مسافات ـ الفن / السلعة

    ما المسافة الفاصلة بين السلعة (التداول ـ الاستهلاك) في عملها النفعي المباشر، وبين اللا سلعة، إذ ْ الفجوة بينهما لن تردم بالميتافيزيقا. أو في الخلط بين الغايات والوسائل. فالأشياء لن يتم الوعي بها من غير جسور مع من يكون شريكا ً/ مجاورا ً/ نقيضا ً/ مضمرا ً معها في العلاقة (الثنائية، غالى جانب مجموعة لا تحصى من الصلات المشتركة في أبعادها وعملها)، وإلا كيف استطيع أن أدرك ما لا وجود له، وبالمقابل، هل ثمة أشياء توجد بمعزل عن سواها، كي تبقى الدورة غير تامة، أو ناقصة؟ على أن استحالة وضع مقدمة ـ لأية مقدمة ـ في البحث عن الأصول، يماثل استحالة وضع نهاية لمسافات بلا حافات، ويصعب تخيّل محوها تماما ً.صحيح أن المادة لا تستحدث ولا تخلق من العدم، وصحيح أن الوعي ـ في وجوده ألبدئي ـ هو الآخر ـ ليس مستقلا ً عن الوعي بأسبابه، فثمة علاقات متنوعة أنتجت وعيا ً ببواكير السحر، مرورا ً بالمعتقدات، ووصولا ً إلى وعي لن يجتاز مداه، في العثور على مسافات للحركة. انه ليس العجز بسبب المحدودية فحسب، بل لان الدينامية ذاتها قائمة ـ مع ـ وخارج ـ هذا الوعي في أسباب نشأته، وحضوره.
     فإذا كانت السلعة، بحد ذاتها، تكتم ما لا حدود له من الملغزات (ولا احد يعرف كم في السلعة من ميتافيزيقا/ ماركس) برغم شروط الدورة ووجودها المبني على العلل، فكم ستبدو الكيانات (واللا كيانات) الكامنة فيها، أكثر استحالة على التحديد. وسنجد أنفسنا ـ بالفطرة ـ في الصفر الأول: هل لوجودنا دالة غير الوجود ذاته، وغير هذا الذي ـ تشكل عبر العلل، وصولا ً إلى ما يعجز الوعي من بلوغ لا حافاته. أما إجراء مقاربة لتفكيك (الميتافيزيقا) فلن يجتاز حدود التصورات (الصور/ اللغة/ وعمل المشفرات الأعمق)، وإلا كيف باستطاعة المحدود، أن يتجاسر ـ من غير ظهور المهيمنات والعنف ـ ويضع معايير تقيمية، وعادات، وقواعد ـ تبلغ حد المحرم ـ للذي هو خارج مدى الحواس ـ الدماغ ، والجسد بصفته سينتقل من اللا سلعة إلى التداول ـ الاستهلاك. لقد بذل عمانوئيل كانت جهدا ً استثنائيا ً بمنح (الميتافيزيقا) إمكانية أن تكون علما ً، وإعادة قراءة كتابه [مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما ً] لن تغادر السببية ، لأن أي علم، ليس علما ً إلا بما هو موجود، وليس بنقيضه أو عدمه. ذلك لأن أدواتنا، وفي مقدمتها اللغة، لن تجتاز تاريخ وجودها مع أجهزة النطق، والعوامل الأخرى. ثم أن الكلام ذاته يصعب تصور عزله عن المتكلم، أو عن الوسط ذاته. والعالم بحكم انه ـ خارج وعينا ـ ليس ساكنا ً، وليس عدما ً ـ حتى بامتداده في الوجود ـ فان مصير المعرفة لا مبرر لها أن تكون معرفة. هل وصلت الحد ونقيضه كي اختار (غاية لوسيلة) أو (وسيلة لغاية) في بلوغ الهدف الذي أواصل بحثي فيه عن هذا الذي بلغ الثابت: في التصّورات، وفي قوانينها، أم سأضطر للعثور على الهاجس ذاته الذي تلبس وعي أسلافي في تصادمهم ـ مع ـ الوجود، لأجل بناء توازنات معه؟
     إن العالم الذي وجدنا أنفسنا فيه، لم يعد يسمح للبحث عن صفاء خالص، او عن جمال خارج الغائيات، ولا عن سلع ليست معدة لتداول ـ الاستهلاك. لأن الروحي، والجمالي، كلاهما يؤديان عملهما في العلاقات بين الصانع والمتلقي، فثمة وظيفة، شغل، بمعنى: ثمة موت!
     وبمشاهدة ما يحدث في عالمنا وإعادة قراءته، لن يغادر الوعي ما حز فوق مجسم (ختم) بما أخفى، واحتوى، من رهافته إزاء عالم مقدماته تدوم بخاتمة ديمومة هذه المقدمات. أم ليس في عالمنا من صخب بلغ حد اللا متوقع ـ واللامعقول ـ في عمليات التدمير ـ وتكرار الأنظمة ذات الثبات: الصياد ـ الضحية/ الليل ـ النهار/ الموت ـ الميلاد ...الخ التي لن يغادرها الوعي ـ ولا الجسد ـ لا بدحضها ولا بقبولها من غير إدراك أن المنتج ـ حتى في بلوغ ذروته بالتكامل أو نحو الصفاء التام ـ لن يجتاز عجزه، مما يسمح له بالعبور، وليس بالتوغل، والحركة وليس بالصفر.
     بهذا الشرود الذي كونه ثالوث (الملكية ومتراكماتها/ القسوة حد اللامبالاة/ وأقنعة اللغة وما تنتجه من أوهام) ـ إضافة إلى ما لا يمكن وضعه بجوار العلل ـ مع المحيط، مثلما  مع الذات، كي تكون الأختام مساحة لرهافة لم أتمكن من نبذها، أو التخلي عنها، بصناعة سلع ـ مضادة للسلع ـ كما في المجسمات، وبناءها الرمزي.
* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).

ماذا تعني «الصرخة»؟ قصة أشهر لوحة بعد الموناليزا-*مريم عادل



ماذا تعني «الصرخة»؟ قصة أشهر لوحة بعد الموناليزا
*مريم عادل


لا رسم بعد اليوم لنساءٍ جالسات يحكن ورجال منهمكين في القراءة، أريد أن أعرض أناسًا يتنفَّسون ويحسُّون ويحبُّون ويتألمون، أود أن أعيد إلى الناظر الشعور بالعنصر المقدس في هذه الأشياء، فيرفع قبعته احتراما كما يفعل في الكنيسة *إدفارد مونش.

لماذا أصبح بورتريه الذعر الوجودي الذي رسمه إدفارد مونش ثاني أشهر لوحة في تاريخ الفن؟

يقول شاكر عبدالحميد في كتابه الفن والغرابة: «من بين كل الفنانين الذين عبروا عن معاناتهم بالصراخ كان «إدفارد مونش» 1863-1944 الذي أنتج صورة واحدة شهيرة اخترقت الطبيعة كلها، ونفذت إلى قلبها من خلال صرخة مفاجئة تتردد أصداؤها في الأفق ولا يمكن مقاومة الإحساس بالفزع واليأس الذي تحمله، حيث يسهم كل عنصر في التكوين في خلق الحالة الانفعالية».

لوحة الصرخة الشهيرة لإدفارد مونش التي رسمها عام 1893، قد وُجِّهت لتصوير ذلك الألم الخاص بالحياة الحديثة، وقد أصبحت أيقونة دالة على العُصاب والخوف الإنسانيّ. في اللوحة الأصلية تخلق السماء الحمراء شعورًا كليًّا بالقلق والخوف وتكون الشخصية المحورية فيها أشبه بالتجسيد الشبحيّ للقلق.

في ظهر لوحته كتب مونش بعض أبيات الشعر، التي ذكرها في يومياته واصفا ما حدث له: كنتُ أسيرُ في الطريق مع صديقين لي ثم غربت الشمس، فشعرت بمسحة من الكآبة. ثم فجأة أصبحت السماء حمراء بلون الدم. فتوقَّفت وانحنيتُ على سياجٍ بجانبِ الطريق وقد غلبنى إرهاقٌ لا يوصف، ثم نظرتُ إلى السُّحب الملتهبة المعلقة مثل دمٍ وسيفٍ فوق جُرفِ البَحرِ الأزرق المائل إلى السواد في المدينة. لقد استمر صديقاي في سيرهما، لكنَّنى توقَّفت هناك أرتعشُ من الخوف، ثم سمعتُ صرخةً عاليةً أخذ صداها يتردد في الطبيعة بلا نهاية!

في أحضانِ أبٍ يُهدِّدُ بالجحيم

كانت ملائكة الخوف والندم والموت تحفّ بي منذ أن ولدت، ولم تكفّ عن مطاردتي طوال حياتي. كانت تقف إلى جانبي عندما أغلق عيني وتهدّدني بالموت والجحيم وباللعنة الأبدية. *إدفارد مونش
ماتت والدة مونش بالسلّ وهو في الخامسة من عمره، وتركت لهم رسالة وداع أخيرة تقول فيها:

الآن يا أطفالي الأعزاء، ياصغاري يا حلوين، أقول لكم وداعا، سيكون بوسع والدكم إخباركم عن كيفية الوصول إلى الفردوس أفضل مني، سأكون في انتظاركم جميعا هناك.

لكن والده الطبيب العسكريّ، الذي كان عليه أن يخبر ولده الصغير كيف يذهب للفردوس حيث والدته، أحاطه بدلًا من ذلك بتربيةٍ دينيةٍ تقوم على أساس مزاجٍ مُتعصِّبٍ وحاد وقلق دينى طهراني (بيورتاني) مع تهديدٍ مستمرٍّ بالعقابِ بالجحيم، الذي كان يُحلِّق فوق رأسه دائما من جانب ذلك الوالد. وعندما انضم مونش للمجموعة البوهيمية في أوسلو التي تتكون من الفنانين والكتاب والطلاب الذين رفضوا حياة المجتمع البرجوازيّ، وكانت تلك الأفكار غريبة جدا عن المجتمع أنذاك، جعلت والده يسخط عليه أشد السخط.

لم يتزوج إدفارد مونش، ولم يستطع أن يحرِّر نفسه من قرن الحب والجنس بالمرض والموت. فالعلاقات السويَّة -في رأيه- بين الرجل والمرأة مستحيلة لأن كلا منهما يحاول السيطرة على الآخر. وكان يشعر أن لوحاته بمثابة أطفاله، لا يحب الانفصال عنها، عاش خلال الـ 27 سنة الأخيرة من حياته في وحدة وعزلة تزداد وتتوحش.

وصف الناقد التشكيلي سالدي 1915 مونش بأنه «مُبدِّد الأحلام»، الرسام المحاصر بالفزع الذي تطلقه كل أشكال المعاناة في الحياة كما تصوره ألوانه الموحية، الرجل الذي يُهيمنُ عليه شحوبُ الرعب والانقباض. في عالمه حضورٌ خاص للبدائية الخشنة والموت المتسلل خلسة والعالم القديم والعالم الجديد، حيث تسيل دماء موضوعاته وتصرخ بصوتٍ عال معبرة عن معاناة وجودها الخاص وغموضه.
وعلى الرغم أن مونش كان ممسوسًا بفنه، فإنه ليس مجرد مصور ذي طاقة إبداعية ورؤية تصويرية نقية وبسيطة وإحساس بالقيم، لكنه أيضا فنان ذو استبصار ينم عن فهم مأساوي واكتئابي آسر يخلب الألباب.

كان حزينا لأن الألوان لم تكن كافيه لإيصال ما يشعر به إلى العالم، ناضل من أجل أشياء مستحيله وكنت أرى في يأسه إيمانا من نوع خاص *كريستيان سكريدسفيغ

القلق الوجوديّ

كان سلوكي دائما على شفا هاوية، ولم تكن حياتي إلا محاولة للبقاء واقفا *إدفارد مونش
تعبر لوحة الصرخة عن ذلك القلق الشخصي الذي عاناه إدفارد مونش في حياته، ثم جسده في فنه، في اللوحة يتحول الإيقاع المنحني المتقوس الذي يصرخ إلى رمز وجودي يمتزج بنفسه مع الإيقاعات الخاصة بالطبيعة، وهذه الطبيعة التى من خلال إيقاعات سماوية حمراء وبحرية زرقاء وسوداء، تبدو وكأنها جميعها، تصرخ معًا، ومعها مونش صرخة مرعبة، وكأم مونش أيضا يصرخ ولا يصرخ، فالطبيعة تصرخ بعنف وكآبة، يصرخ ولا يصرخ وكأن صرخاته داخلية، تنم عن المعاناة والقلق والألم الشديد، وكأنها تخرج من جسده كله، من وجوده كله، فتتردد أصداؤها في ذلك الوجود الكبير المحيط به، وكأنه هو أيضا وحده الذي يعاني، بينما يمشي أصدقاؤه في هدوء في اللوحة، خلفه غير مكترثين، وفي مذكراته كما قال، تركاه في وضعه المرعب ذلك، وسبقاه، تركاه وراءهما ومضيا.

يقول ديفيد ولكنز: من خلال صرخته، وهي صرخة طويلة ممتدة، أصبح مونش، وحده أمام الطبيعة، وأدرك أسوأ كوابيسه ومخاوفه من الأماكن الواسعة الهائلة الممتدة. لقد أصبح في مواجهة الجليل بالمعنى الذي أشار إليه بيرك وكانط.

مع صراخه يتشوَّه وجهه حتى يصبح شبيها بالجمجمة بكل دلالتها التصويرية والرمزية الخاصة بالموت والتى لا يظهر خلالها جنس الإنسان إذا كان امرأة أو رجلًا، فهذا القلق الهائل لا يفرق بينهم. سجَّل مونش صرخته في ذاكرته وجسَّدها في لوحته وجسد نفسه معها وهو يصرخ صرخته هذه التى خلد من خلالها رعب الطبيعة من الغياب وفزع الإنسان من الموت.

الصَّرخة.. موناليزا العصر الحديث

قد ترجع شهرة الصرخة لسهولة فهمها ووضوحها للجميع، خصوصا الذين لا يتمتعون بثقافة فنية خاصة، فبمجرد رؤيتها يكون من الصعب نسيانها. واعتبر النقاد الصرخة أيقونة العصر الحديث كما كانت الموناليزا هي أيقونة عصر النهضة. سجّلت الصرخة نقطة تحوُّل هامة في القرن العشرين، لقد قطع الإنسان كل صلاته بما كان يمنحه الارتياح في القرن التاسع عشر؛ أما الآن، فلا يوجد إله، لا يوجد تقاليد ولا عادات، ولا أعراف ولا ثوابت، فقط إنسان مسكين في لحظة أزمةٍ وجوديَّةٍ مهولة يواجه وحده الكون الذي لا يفهمه ولا يستطيع التواصل معه سوى بالذعر.

المثير بشأن اللوحة ليست الطريقة التي أثرت بها في الفن الحديث لاحقًا، ولكن كيف توغّلت اللوحة في الثقافة الشعبية، وأصبحت أكثر شهرةً من مونش نفسه، الكثير من الناس لا يعرفون مونش ولكن يعرفون الصرخة. جدير بالذكر أن العنوان الأول الذي أطلقه مونش على هذه اللوحة لم يكن هو “الصرخة” بل “يأس” أو “قنوط” despair.

أصبحت الصرخة أيقونة أعيد نسخها وإنتاجها في بطاقات البريد والملصقات الإعلانية وبطاقات أعياد الميلاد وسلاسل المفاتيح وأصبحت إطارا لسلسلة من الأفلام السينمائية ظهرت عام 1996 وما بعده بعنوان الصرخة أيضا. وأعاد أندي وارول رسمها مرات عديدة أخرى على طريقته عام 1984.

يوجد من اللوحة 4 نسخ مختلفة بيعت نسخة 1895 في مزادٍ علنيّ خلال أول ربع ساعة من عرضها بـ 120 مليون دولار أمريكي، وتعرضت اللوحة للسرقة من متحف مدينة أوسلو بالنرويج خلال شهر أغسطس 2004 على الرغم من وجود كاميرات تصوير متعددة ضد السرقة داخل المتحف وخارجه وأعيدت في 2006. وكانت قد سرقت من قبل أيضا سنة 1994 من متحف مونش بأوسلو وأعيدت في مايو من نفس العام.

مونش مع نيتشه ودوستويفسكي وكيركيغارد!

لم يظهر من الرسّامين بعد من استطاع النفاذ إلى العوالم الموسيقية للروح والميتافيزيقيا واللاوعي بمثل ما فعل دستويفسكي في الرواية * إدفارد مونش

يقول آلان باونيس في كتابه الفن الأوربي الحديث: كان مونش صديقا للكاتب المسرحي ستريندبيرغ الذي شاركه آراؤه عن العلاقة الجنسية. وكانت واضحة أيضا آثار صلته بسورين كيركيجارد، الفيلسوف الديني الدنماركي، وبدوستويفسكي الذي غيرت رواياته العظيمة الإحساس الأوربي في نهاية القرن التاسع عشر. وتأثر مونش كثيرا بقراءته فلسفة نيتشه، كما كان مزاجه يميل كثيرًا إلى الاكتئاب. وربط البعض مُفسِّرًا حالة الرعب في اللوحة أفكار مونش بأفكار نيتشه عن موت الإله وأفكار شوبنهاور عن الخوف، وأن اللوحة مُجرَّد تحدٍّ لشوبنهاور الذي قال بأن الفن الانطباعي لا يمكن أن يرسم الصرخة.

تقول رضوى عاشور عن لوحة الصرخة في سيرتها الذاتية التي تحمل نفس الاسم:

لأنّ الصرخة لوحة شهيرة فقد حظيت بكتابات كثيرة تصفها وتقرؤها وتصنف موقعها من تاريخ الفن الأوروبي الحديث، ومقدمات الحركة التعبيرية في نهاية القرن التاسع عشر، وتبحث في تفاصيلها وتربط أحيانا بين التجربة التي تنقلها وحياة مبدعها، بل وتسعى إلى تحديد موقعه الجغرافي اللحظة التي أشار إليها في يومياته، أين كان يقف وإلى أي اتجاه كان ينظر حين داهمه الخوف الشديد.. بل وذهب البعض إلى أن هذا المكان كان قريبا من مسلخ المدينة، وقد يكون الصوت جئير الحيوانات ساعة الذبح، وأنه -أعني الموقع- كان بالقرب من مصحة للأمراض العقلية، تعالج فيها أخت مونش. وربط هذا البعض بين الصرخة وأصوات المرضى المثقلين بمتاعبهم النفسية والعصبية.

وبصرف النظر عن دقة هذا الكلام أو نفعه، تبقى اللوحة على طريقة الفن، تتجاوز هذا الظرف الشخصي لتجسد تجربة دالة لشخص مفرد ينتبه فجأة إلى رهبة الوجود ووحشته وتوحُّشُه فيرتجف هلعًا وهو يلتقط صرخة أو يردِّدها.
________
*ساسة بوست

الأحد، 10 أبريل 2016

خمس نصائح لقراءة 100 كتاب في العام

خمس نصائح لقراءة 100 كتاب في العام: إذا أردت أن تصبح من رواد الأعمال الناجحين، عليك أن تزيد من عدد وقيمة الكتب التي تقرأها. إننا نسمع كيف كان بيل جيتس، وبين كارسون يجلسان في منزليهما ويقرآن كميات هائلة من الكتب. كما أن عادة القراءة ليست من العادات السهل تطويرها، ولكنها من العادات التي تساعدك على تطوير نفسك في أعمالك الهامة. عندما بدأت في القراءة وأنا في الحادية والعشرين من عمري، كنت

السبت، 9 أبريل 2016

أختام * - عادل كامل



















أختام *


عادل كامل
[1] لغز الخامة

    تستدرج الخامة ـ إن كانت بكرا ً أو مركبة ـ موضوعها، في الغالب، قبل أن ينشغل وعي (الصانع/ الحرفي/ الفنان) بانتقاء موضوعه.  على أن هذا لا يعني أن الخامة (بمجموع عناصرها الطبيعية/ أو المصنعة/ والمستحدثة) تفكر!، أو لديها قدرة القرار، الاختيار، والحسم، إنما ستمتلك جسرا ً لا مرئيا ً مع لا وعي الفنان السحيق، أو الآني، المباشر، في تحويل (الفكرة) إلى علامات مشتركة بينها، وبين صانعها. فالخامة تجد مأواها في ما سينشده الصانع/ الفنان، بل تجدها تحرر زمنها، كي تقع اسر زمن آخر. ولعل دراسة أقدم الخامات المستحدثة، في الأعمال الشبيهة بالفن، من خرز، وأساور، وقلائد، وتماثيل، ومجسمات خالية من التشخيص، تحكي العلاقة التي تحول الخامة من وضعها البكر ـ الزاخر بما لا يحصى من تأثيرات العوامل الخارجية/ الزمنية/ والإنسانية ـ إلى وضع تغيب أو تدفن فيه حريتها ـ كما غابت أو دفنت سابقا ً ـ في الهيئات الجديدة، وفي الوقت نفسه، شخصية الصانع، ولا وعيه، وختمه في الأخير.
     فالحزوز التي وضعها إنسان البرية/ المغارات، فوق العظام والصخور، لا يمكن تكرارها، أو استنساخها، مرة ثانية، إلا لوظائف مغايرة. فالحزوز الشبيهة بشخابيط طفل لم يبلغ سن الثانية بعد، تحكي، لا وعيه تماما ً، وهو وعيه الآخذ بمغادرة مخبأه ومناطقه الدفينة، النائية. فهي قد تبدو عشوائية، أو لا علاقة لها بما يخص وعيه، ولكنها، في سياقها ـ ومن منظورنا بعد زمن طويل ـ تحكي كم أسهم الأثر (العظم/الصخرة/ الخشبة)في ذلك الضرب من التعبير: حزوز شبيهة بالحروف، والأرقام، بما تمثله ـ في وجودها ـ من انتقالها من مادتها البكر، إلى علامة للتداول.
     والحزوز الغائرة، المبعثرة، أو المنتظمة، فوق الصخور، لا تحكي ما نفذ فوق الخشب، أو الجلد، أو حتى خامات المعادن البكر، ففي كل خامة خصائصها الدالة عليها، أولا ً، والدال على عصرها، ثانيا ً، وعلى صانعها، ثالثا ً، وعلى ما تخفيه رابعا ً، وعلى ما هو مشترك بين دماغ الصانع، وعناصرها الدفينة، أخيرا ً.
     فهل كانت تلك العلامات الدالة على المكان، والعصر، وعلى البيئة والإنسان (الايكولوجيا الشمولية)، وعلى بواكير الإحساس بالزمن، والفقدان، وتكون المخيال، والذاكرة، توثق بواكير الرهافة بما كانت تمثله من حيازة وتملك، فهي، في هذا السياق، ستصبح أول توقيع أبدعته الأصابع ـ في الانتقال من العشوائية إلى نظام الأثر ومكوناته البنيوية ـ وهي أول تدشين لمعالم مسار (طريق/ درب) سينتهي بموت الفن ـ وموت الإنسان بتحوله إلى مجموعة عناصر/ أشياء ـ لصياغة يصعب تحديد ما اذا كانت ستستعين بموضوعات غير التي جعلتها تنتمي إلى عصر الطين، مثلا ً، كي تجد انجذابها ـ كما وجدناه ـ مع بيئتنا، وعصرنا، أم أنها لم تكن ـ بتزامنها المتداخل/ المركب/ والمنصهر ـ إلا حلقة في مسار، بلا مقدمات، وأخيرا ً بلا خاتمة.
 



[2] العلامات ـ والمشفر
     ما الذي يستدل عليه عالم الآثار، أو المشتغل بالمخلفات، والمتخصص بفك المشفرات، خاصة التي تتضمن ازدواجيات بين دراسة المقاصد المباشرة، وبين ما فيها من غايات غير مباشرة، وهو يدرس حزوزا ً فوق عظم لحيوان قتل ـ أو مات ـ قبل مليون سنة، وما الذي باستطاعته أن يعلنه عن فك خطوط ـ ليست منتظمة في أشكالها الخارجية ـ حزت فوق صخرة، أو حفرت فوق خشبة قاومت عوامل الزوال لقرون طويلة، أكثر من الاشتغال ذاته الذي ميز عددا ً من علماء وفناني، شعراء ومتخصصين في الإنسانيات المعاصرة: ذلك الحفر في فك الظواهر، والبحث عن محركاتها النائية، في نظام الإشارات ـ ومن ثم في العلامات بصفتها دالة بما تريد التعبير عنه.
     لن استبعد تماما ً نسق الدوافع غير الواعية، والأخرى، المتصلة بالحركة الكلية لمجموع الأجزاء ـ مهما اتسعت أو تحولت إلى مصغرات لا مرئية ـ في فهم سياق: اللا متوقع ـ واللا قصدي، وهو مغاير للعبثي، أو لمفهوم العشوائية. فالا متوقع يمثل ـ في حالة دراسة أقدم العينات الشبيهة بالأختام، والشبيهة بالفن ـ متوقعا ً ضروريا ً لاستكمال ذاتيته الموضوعية، وهي موضوعيته، أخيرا ً، في هذه الذاتية.
     ربما ـ بدراسة خطوط مشوشة، مكررة، متعاكسة، مائلة، متقطعة ـ يستدل الباحث قدرة عمل الدماغ في مغادرة مركزه، حيث المسافات، ما بين الأشياء، ستغدو امتدادا ً لأقدم مفهوم كون نزعة الانحياز ـ والتملك ـ والثروة البدائية.  صحيح أن الجهد المبذول وحده لن يعرف (الرأسمال) ألبدئي، أو المبكر، بما حقق، ولكنه سيفصح ـ في هذا الاحتمال ـ عن أقدم نزعة للتراكم بما فيها من قصدية ـ ولا قصدية معا ً.  فالحزوز، والرسومات، والمجسمات، والبصمات التي تركها إنسان الكهف فوق الجدران، ليست علامة دالة لعمل سحري فحسب، بل انها ـ بالدرجة نفسها ـ دالة على صانعها. فالصانع  لم يوثق حدود ذلك الزمن السحيق،  ولا تجمعاته، وتبلور نظام العثور على تجاوز العشوائية فحسب، بل اللا قصدية كممارسة خاصة بالختم ـ: الهوية/ التوقيع، بما يتضمنه من (أنا) بين المكونات الأخرى. فالأنا وجدت في وجود كونه الصراع ـ التنازع ـ والترقب. ولعل التوقيع ـ المنجز ضمن اللا قصد ـ لم يعلن عن قصديته الخاصة بالأنا فحسب، بل لتكامل رسم شبكة الاتصال الكلية للأجزاء كافة.
    ان عالمنا ـ وفنانا ـ المعاصرين، وهما يعيدان قراءة ما لم يدوّن، لأجل التدوين المعرفي، يعلن عن امتداد اللا متوقع في ديمومته الراهنة. فالمعنى لم يعد محدودا ًبالنفع، أو بجماليته، بل ببناء أنظمة لا تحذف منها عمليات التصادم، والنفي، والإضافات في الأخير.
   أتراني كنت أتقمص ومضات باثات قلب ذلك الفتى، وهو يحز، فوق الصخرة، ويحفر فوق الطين، نداءات ذهبت ابعد من الصوت، وابعد من قانون الاندثار، والموت.
  ان مفهوم المشفر ـ العلامة لنظام لم تفك أسرار عمله ـ سيبقى يشفر نظامه باليات تجرجر، حقبة بعد حقبة، (المشتغل) نحو ديمومة طرفي المعادلة: الموت ـ انبعاث. فأنا قد لا اعتقد أني سأرجع إلى العناصر التي كونت جسدي، بالبديهية الواقعية ـ من غير قصد أو بقصد ـ اللا متوقع ان يدفع بأصابعي للحفر فوق خامات شبيهة بالعظام، وبالصخور، كي تمسك بمحركات العلامات المشفرة ذاتها. انه ضرب الدخول في مساحات تحاول الحفاظ على ما فيها من بدائيات ـ وخصائص لا مشاعيه تماما ً. فألانا البكر ـ إن كانت جمعية، كما هي أنا النحلة أو النملة أو الجرثومة ـ أو كانت تعمل نحو عزلتها، ليس باستطاعتها مغادرة قوانين دوافعها المجاورة ـ أو البعيدة ـ عن مقاصد الأنا الجمعية، أو الفردية الخالصة. فالعلامات الشبيهة بالختم ـ التوقيع وصولا ً إلى خصائص الهوية وتميزها عبر أسسها البدائية في التعبير ـ تكون دافعا ً لغواية المغامرة، ومغادرة الانغلاق نحو حافات ترسم حدود الأنا ـ وهي علامات الختم ـ بمشفراته، القابلة للإفصاح عن المعنى، والأخرى، التي جرجرتنا إلى محاولات فك ما فيها من غائيات ـ لا غائية ـ متجاوزة حدود المعلن، نحو دراسة شبكة المقدمات بنهايتها، وهي شبكة النهايات بجذور مقدماتها.

[3] النائي ـ انشغالات مبكرة



     سأنشغل ـ بدل قلب المعادلة إلى نفع ـ بما لا يمكن الإمساك به. ليس هو الماضي، وتراكماته على صعيد المخلفات، وليس هو تقبل صدمات الحاضر، وليس هو الغد، إن كان بديلا ً عما أراه يأخذ طريقه إلى الاندثار فحسب، بل كيف تتجمع التصّورات في كيان لن يهدر لغز ما أنا عليه/ وفيه.
     ففي كل لحظة اكتمال، وتدهور، تنبثق تأملات لا معنى لسترها بالتصورات، ولا معنى للحفاظ عليها بعيدا ً عن الهدم أيضا ً. ففي هذه الفجوة ـ لبن ماض ٍ يصعب على الوعي أن يضع له مقدمات/ وإزاء غد ٍ خارج حدود الحافات، تتكون رهافة شبيهة بالتي أنتجت آلاف الدمى، والأختام، رهافة قائمة على إيمان مزعزع، وشك لن يساوي بين العدم والوجود، لأنها ـ رهافة ـ تحول الصانع إلى علامة خارج ثوابتها. لان (الصانع) هنا وجها لوجه ـ أمام مرآة لا يرى فيها الا غيابه. ان الآخرين لن يلتفتوا الى هذا الأثر ـ المصّنع ـ بقدر ما سيرى هو نفسه بثقة ما عبر أثره. لكن (أنا) الصانع لن تكف عن مقاومة وضعها في فراغ مقيد. ولنأخذ مثال النمل أو النحل أو الطيور، فإنها صاغت مصيرها بنظامها الجمعي واكتفت بالمضي من غير وثبات. وحتى انقراضها ـ كانقراض آلاف أو ملاين الأنواع لم يعد مثيرا ً للأسى أو القلق ـ لأنها عملت ـ وتعمل ـ بمرآة كبرى خالية من التصدعات. إنها مرآة كلية، كالتي تجعل مشهد الملاين تهرول في مارثون محكوم بلعبة الجوائز. لكن صانع العلامات لن يركن إلى نموذجه إلا بصفته عملا ً مغايرا ً لعمل النحل، فاعقد الأعشاش، وكاتدرائيات النمل، والمعمار الهندسي الصارم البناء عند النحل، لا تساوي ـ ولن تقارن ـ بعمل لا متوقع ـ يبلغ حد اللا معقول وربما الفائض عن الحاجة المباشرة ـ تنجزه الأصابع. فليس لدى تلك الكتل الجمعية ما سيسمى بالعمل، لأنها لا تمتلك (أنا) شاردة أو خارج على سياق الدافع الجمعي.
     هل حقا ً باستطاعتنا اكتشاف ذلك بمقارنة حزوز فوق عظم، بخلية نحل مذهلة البناء، دون أن نتقدم خطوة أخرى في تفكيك مفاهيم لغوية ـ فلسفية أو ذات جذر سحري ـ كالعدم، وكالوجود، من غير أن نزعزع الرأي الجمعي، ونحدث شخطا ً مائلا ً أو معوجا ً في مرآة الجماعة؟ نعم ـ لان ذاتية فنان مثل جايكوماتي، أو هنري روسو، أو فان كوخ ـ وكل منهم مغاير للآخر في التفكير وفي الأسلوب ـ ستعمل بنهج مغاير لقطيع يهرول باتجاه الماء، أو بالهرب من لهب بركان! ذلك لان ذاتية الفنان لا تكمن في نموه العقلي فحسب، بل في رهافة يصعب تقييدها بنظام المرآة الواحدة. هذا الفارق يجعل من كل شخط، وكل حز، وكل خرزة، وكل مجسم، وكل إشارة ..الخ علامة مغايرة لتكنولوجيا الدافع الجمعي. لا لأنها تعمل في الذروة فحسب، بل لأنها تتضمن سفرا ً إلى ماضيها، مثلما هي مشبعة بدوافع الهجرة إلى غد ٍ من غير نهايات. هذا الفارق يجعل الختم ـ الإشارة في تحولها إلى علامة/ والعشوائية بما فيها من مهارات البنّاء ـ نموذجا ً مغايرا ً يصعب استنساخه، بل وحتى شرحه. فالماضي السحري في فكر الصانع ـ وليس في آليات الحرفي ـ ليس دائريا ً، وليس له تمهيدات، فهو يلتقي بما هو آت ٍ، عندما لا يخضع الأخير إلى خاتمة. فكلاهما يجتمعان في دحض الثابت، بمعنى: في تدمير المعنى، عبر الثنائية، والجدل، خارج سياق النظام الجرثومي/ ألنملي/ النحلي، والبشري في الأخير!


[4] الامتداد ـ من اللا نافع إلى اللغز

     فهل غير النافع ـ الذي تكّون في عصوره السحيقة ـ كتم وظيفة ما خالصة ـ تخص عمل الأصابع اللا متخصص ـ أم ذات صلة بتكّون المركز ـ الدماغ، أم أن (التغيير) في جذره، وفي نشأته، وساطة (علاقة) تكاملية بين ذات الصانع والبيئة (الايكولوجيا الشاملة)، كضرورة أدت عمل ألتوق، وغواية لا تخلو من مغامرة التوغل بعيدا ً عن الذات، وبعيدا ً عن انغلاقها، كي توسع من حدود سيطرتها على الأرض ـ والفضاء، وضمنا ً، لتلافي الصدمات، واحتوائها، وعدم تركها تعمل بعشوائية، أو على هواها؟  ثمة احتمال آخر يقلب التصّور، أن اللا نافع، تحديدا ً، ليس امتدادا ً، بل حماية للذات. ذلك لان خصائص الأثر (الشبيه بالختم، أو الدمية، أو الرسم، أو أية أداة لها سمات الحرز، والمجسمات، والنقوش) لم تتضمن جاذبية، بل دفاعا ً ذاتيا ًللحفاظ على مكونات الذات وعالمها الداخلي ـ المحمي ـ والمنغلق.
     على ان وجودا ً منعزلا ً ـ بمعنى الوجود محاطا ً بفجوات ـ لن يسمح أن يجد توازنه في التفرد، وفي ظهور علامات استثنائية.  ليس لاستحالة وجود عزلة فحسب، بل لان جذور اللغة ارتبطت بالحركة، بما كونتها من فعل ورد فعل. فإذا كان الجسم يظل ساكنا ً ما لم يحرك، فان الاحتمال الآخر، أي احتمال الانجذاب سيشكل دافعا ً للحركة أيضا ً. فالأثر ـ هنا ـ دال لمدلولات اجتازت الحركة نحو تراكمها. فالفعل سينتقل من المصادفة إلى التكرار، ومن التكرار إلى تشكل الهيأة: الحزوز والأشكال المنتظمة ـ الهندسية ـ بما توفره الخامات في تعاملها مع رهافة حساسية الأصابع. بمعنى ثمة علامة كونتها عواملها المشتركة: الانتقال من اللا تخصص ـ في عمل الحواس والأصابع تحديدا ً ـ إلى صياغة أشكال محددة، ومختارة، قد لا نجد معنى ما لها، في البدء، إنما ستشكل جزءا ً من عالم (تتجمع فيه الأجزاء) ـ لبلورة وجود النوع الواحد، وعناصره المتقاربة، كالثنائية في ديمومة النوع ـ بما يمثله من إعلان للوجود البيئي ـ مع ـ الذات. فهو (تزاوج) تضمن قدرا ً من الرهافة ـ والقصدية ـ مما سيشكل مقدمة لنظام البناء ـ نحو حدوده الجمالية ـ والروحية.
     وليس صعبا ً أن يجد الباحث في قراءة كل اثر ـ في المجموعة الواحدة ـ كي يجدها مختلفة بين المجموعات المتجاورة، أو المتباعدة، ومن ثم وجود قراءات تلخص اختلاف المكان/ البيئة/ والعصور.
     فهل صنع الصانع حزوزه كي يدشن ـ ويحتفل ـ بالانتقال من العشوائية/ واللا تخصص، نحو مكونات المجموعة بما تمتلك من حواس، وقدرة على العمل، وزمن استراحات أتاحت فراغاتها لردمها بالأعمال الشبيهة بالفن، والشبيهة بالسحر، أم وجود هذه العلامات سرعان ما سيشكل جزءا ً من ذاتية ذلك الذي وجد حياته تعادل ما أنجزه، وليس كعمل باقي الأنواع، مكثت تعمل خارج علاماتها المدونة، عدا آثار اضافر، ومخالب، أو ما شابه ذلك لن تقارن بدور الأصابع البشرية ـ مع وجود مجسات أرقى من مثيلاتها لدى الثدييات ـ في الانتقال من الصوت إلى الصورة، ومن العشوائية إلى ضرب من البناء المنتظم، ومن الشرود إلى التمركز، ومن التشتت إلى التمركز، ومن المتاهات إلى الوضوح، ومن الفزع والخوف إلى الطمأنينة، للإفصاح ـ على نحو غير مباشر ـ عن ممارسة عملية لبواكير التنمية، في حدود حياة قطعت شوطا ً متقدما ً عما عليه الأنواع الأخرى، كالنمل، والنحل، والطيور. إنها وثبة اقتران الدماغ برهافة ما امتلكت أدواتها: التحسس/ التذوق/ الشم/ الإصغاء، إلى جانب رهافة الأصابع الاستثنائية، ببناء علامات، مهما بدت فائضة، فإنها ـ أكثر فأكثر ـ تضمنت لغز حضورها.


* التجربة الشخصية في تحولاتها، ومتغيراتها: الفن بوصفه يعمل ضد الوهم ـ والغياب. وقد سبق أن نشر الجزء السابع في (سومريننت).