في النحت العراقي الحديث
مكي حسين
من تماثيل الأسس إلى فضاء الحرية
أول تمثال برونزي تمت سباكته في العراق عام 1966
عادل كامل
* ما يبقي: النحت/ جذور
لنتخيّل أن الضوء لم يجد حاجزا ً، مصدا ً، موضعا ً يعترض مساراته، كي يستقر، أو يتجمع فيه، فهل باستطاعتنا أن نجد مقاربة لتحديد جوهر (الزمن) من غير تحوله إلى مكان، وهل باستطاعة المتلقي ـ حتى لو كان متخصصا ً في الفيزياء الحديثة ـ أن يعيد تحليل العلاقة بين الطاقة والكتلة، أو هل ثمة معنى (للجاذبية) من غير وجود الكواكب، النجوم، والمجرات ...؟
سيقال: ما شأن هذه الانشغالات بفن النحت؟
ليس لدي ّ إجابة مسبقة أبدا ً! ولكن لدي ّ مشاهدات سمحت للنحت أن يتشكل مع تأسس التجمعات السكانية الأولى، مع اكتشاف النار، والمأوى، والشروع بالزراعة، وتدجين الحيوان، وبزوغ عصر: الآلهة الأم ـ للتعبير عن حتمية نشوء: أقدم وسيلة مستحدثة للتمسك بصناعة: المصير، أو المستقبل!
بالطبع يمكن إغفال الحتميات التي مهدت لتحولات المكان، ولغياب الزمن بفقدان آثاره، وتحول الكتلة إلى طاقة، ومنها تحولها إلى مجالات مازالت أدمغتنا لم تقترب منها، وان إعادة قراءة نظام المجرات، النجوم، والكواكب من غير جاذبية كالحديث عن كتلة خالية من المجال أو الفضاء...الخ
ولكن ما علاقة هذا بالنحت...؟
قبل أن يمتلك الدماغ قدرات على صياغة الأسئلة، والمباشرة بصناعة أدواته، ـ مأواه وطعامه وأمنه ولغته وتصوّراته ـ خلف سلاسل من المجسمات مازالت مقترنة بتاريخ النوع البشري، وتحديدا ً، بتاريخ أول صياغة تقنية مركبة لمفهوم: المصنع، ألا وهو: عصر الأم ـ إن كانت مازالت خارج حدود التاريخ المادي للإنسان ـ أو عندما هبطت من المجهول وتكون فوق الأرض..!
فالمتلقي اليوم يتمكن من العثور على مجموعات كبيرة من المجسمات/ التماثيل، ظهرت في البيئات التي تشكلت فوقها أولى القرى ـ والمدن ـ في مناطق جعلت من الأرض ـ قبل مليوني عام ـ قرية كبيرة، كحال عالمنا اليوم، في ظل هيمنة العولمة، وبرنامجها في تفكيك (المكان)، ومنح الفوضى قدرات اكبر على الهدم.(1)
إلا أن الاختلاف بين الماضي السحيق وحاضرنا، لن يفهم بوضوح إلا بفهم المجال (المدى/ المسافة) بين الأجزاء المكونة للمكان، مهما كانت صغيرة أو كبيرة. ذلك لأن القوة المحركة المسؤولة عن المقدمات ونهاياتها، مازالت تعمل باللغز ذاته الذي وجد سمته في عدد من الآثار/ المخلفات، ومنها: النحت ـ الأدوات ـ وما دوّن باللغة من قصائد وتعويذات وملغزات أخرى.(2)
هذه الإشارة تمثل ملاحظة سابقة على عصور: التحريم، والممنوعات، وتفكيك التجمعات السكانية، ألا وهي أن التجمعات السكانية الأولى، مهدت لصياغة أقدم علامة تجمعت فيها مجموعة كبيرة من الدوافع، الغايات، وصاغته عبر تماثيل: الأم.
ولا أهمية إن كانت تلك المجسمات تؤدي دور النذور، أو إشارة للاحتفال بمواسم الخصب، أو اعترافا ً بمكانة الأم ـ بوصفها أقدم مؤسسة يتم فيها إنتاج: أدوات الإنتاج، وأول شريعة سمحت للتعديل، التشذيب، والاختراع أن يكون فعلا ً لديمومة عصر الأم ...الخ، إلا بوجودها (السكن/ المأوى) الواقعي وليس الافتراضي ـ أو الخيالي. فالنحت ـ بعد ذلك ـ وعبر الحضارات الزراعية الأولى ـ من وادي النيل إلى وادي الرافدين، ومن الهند إلى الصين، مرورا ً بالحضارات المماثلة، والأحدث اليونانية والإغريقية، وفي العديد من القارات ...، لم يغب، ولم يندثر، بل اقترن بأنساق البناء، وصولا ً إلى عصر: العولمة ـ وما بعدها.
[2] عند حافات الرواد
لم يصبح مكي حسين، نحاتا ً موهوبا ً، مرهفا ً، ومنشغلا ً بالحريات، والجماليات، وحده خارج وطنه، الذي ولد فيه، بل هناك سلاسل من الهجرات المنضمة، ترجع إلى حقبة الاحتلال البريطاني ـ بعد الحرب العالمية الأول ـ ووجود منافي للعراقيين، خارج وطنهم، بدل تعرضهم لفقدان المواطنة، أو الحياة أصلا ً، ثم الهجرات المتعاقبة، بعد 1958، وعلى نحو أوضح، بعد عام 1963، والهجرات التي أكملت إعادة رسم خرائط العالم الجيو ـ سياسية، خلال الخمسين سنة الأخيرة، وهي هجرات اضطرارية، ليس طلبا ً (للعلم)، بل لتنفس الهواء، بعد أن صار نادرا ً في وطنهم. على أن الفترة التي نشأ فيها مكي حسين، ودرس الفن، وعرض أولى تجاربه النحتية، في ستينيات القرن الماضي، كانت بمثابة تكملة/ تتمة ـ بردود أفعالها ـ لجيل الرواد، ممثلا ً ببزوغ ثلاث جماعات فنية سرعان ما تحولت إلى مشاغل أتاحت لبلورة تقاليد فنية نتذكرها ـ بعد أكثر من ستين عاما ً ـ بحنين، وآسف إنها تكاد تغيب، وتندثر، وإنها لم تعد حاضرة إزاء مفاهيم التحديث، والحداثة، بعد أن تحول الوطن إلى منفى، أو سرداب لحفظ ما تبقى من المخلوقات البشرية.(3)
ففي سنوات الستينات ـ محليا ً وعربيا ً وعالميا ًـ كان المشهد يغلي؛ من الثورة الطلابية في فرنسا إلى الثورة الثقافية في الصين، ومن الكفاح المسلح في كوبا ً وأمريكا اللاتينية إلى أرجاء العالم، وهي الحقبة التي كانت فيها (الحداثة) الأوربية قد بلغت ذروتها، أو شيخوختها، فضلا ً عن تأزم الاشتراكية السوفيتية، وبزوغ عصر (التقنية) بوصفها أيديولوجيا للمستقبل ـ وتجدد (الرأسمالية) بمشروعات عابرة للقارات، وظهور الشركات المتعددة الجنسيات، وسيادتها وفرض نفوذها بصياغة نظام: حرية السوق ...الخ وهي أحداث لم يكن باستطاعة (المثقف/ الفنان/ أو المواطن العادي) أن يمسك بمساراتها، وتعقيداتها، أو يفك ألغازها، ولكن هذا لم يمنع الكثير من المواهب أن تحافظ على (هويتها) إزاء الخلخلة، وتداخل التيارات، حد ظهور (العنف) كواجهة للنضال التحرري، كلها أسهمت في بلورة أفكر جيل مكي حسين، وأثرت فيه، ومنحت الفنان نزعة صريحة للتمرد على الأساليب التقليدية، من اجل بلورة اتجاهات تمثل عصرها، أو بما دعاه غوته: روح العصر.
لم تكن سنوات الستينات امتدادا ً لحقبة الرواد، إلا بوصفها الامتداد المغاير/ المضاد/ والمكمل لها، خاصة بعد حزيران 1967، كي يشكل عقد الستينات، فرصة للشك، والتشوش، والتجريب، في إطار البحث عن حلول تكمل مشروعات التحديث التي بدأت منذ ثلاثينات القرن الماضي، وفي شتى الحقول، ومنها الفن، والنحت تحديدا ً. فظهرت جماعة المجددين، الرؤيا الجديدة، كما ظهرت أسماء شابة واعدة لم تكن تعمل على تحويل الفن إلى (سلعة) أو مشروعا ً أحاديا ً للفن، بل عملت على عدم تجزئة الرؤية وتأسيس علاقة حيوية بين الفن والمجتمع، من ناحية، ومنح الفن مكانته في التحولات، كعلامة طليعية، من ناحية ثانية. وهكذا نشأت تجارب تداخلت فيها فنون الملصق، والكرافيك، وأصداء التيارات العالمية، غير الأوربية، كالمكسيكية، باستخدام الخامات المختلفة، وبالدرجة الأولى: منح التعبير جسورا ً نحو المتلقي العام، بدل محاكاة النماذج التقليدية، أو الواقعية بمعناها الفوتوغرافي، كي تظهر فعاليات ثقافية/ فنية، كأسبوع التضامن مع شيلي، وفلسطين، فضلا ً عن قضايا تحرر الشعوب...، بوصفها موضوعات تخص حرية الإنسان، في بلدان مازالت منكوبة بتراث مظلم من مخلفات عصور فقدان الهوية الوطنية.
وإذا كانت التأثيرات المباشرة ـ وغير المباشرة ـ للفكر اليساري، التقدمي، التحرري، قد بلورت ملامح هذا الجيل، فان سمة التجديد ستعمل على صياغة مفهوم الفن الطليعي، بعيدا ً عن كونه فنا ً مكملا ً ـ أو ديكورا ً ـ أو سياحيا ً حسب، بل يلتزم بإعادة النسج بالحرية التي يتمتع بها الفنان، كمفكر، وليس التي تتحكم برؤاه، أو بأسلوبه. فعلى العكس من النزعة الجمالية الأحادية، التي طالما كانت تدفع بالفن نحو الحياد، غدا التفاعل العضوي للفنان، مع المتلقي، ومع فنه، لإعادة إحياء المسارات المتجذرة في فنون الحضارات القديمة، ليس في استنساخها، أو محاكاتها، بل في إعادة قراءاتها بما يمتلكه الفنان من أدوات معرفية لا يمكن عزلها عن المجتمع، البيئة، والعصر...
في هذه السنوات بدأت مجسمات مكي حسين تشكل حضورها، إلى جانب تجارب: إسماعيل فتاح/ طالب مكي/ اتحاد كريم/ جوشن إبراهيم/ سليم مهدي/ مقبل جرجيس/ خلود سيف فرحان، فضلا ً عن نشاطات الرواد، بصورة عامة، وتمسكهم بأكثر الصياغات إقناعا ً: ديالكتيك المخيال بالذاكرة، أو المعاصرة بالموروث، كما في تجارب محمد الحسني، عبد الجبار البناء، صالح القرة غولي، عبد الرحمن الكيلاني، ميران السعدي ...الخ، لتشكل هذه السنوات، روحا ً حية للمغامرة، كما وصفها الشاعر فاضل العزاوي في كتابة " الروح الحية". (4)
[3] مخفيات بأنساقها المتجددة
لم يقم مكي حسين بقراءة كنوز وادي الرافدين، بدءا ً بتماثيل الأسس، والأختام، وتماثيل بوابات المدن، والآلهة فحسب، بل اشتغل على استنطاقها لتتبع مساراتها الداخلية، المخبأة، وقدراتها على منح (التعبير) المكانة ذاتها للفنون المتكاملة. فلم يعزل النحت عن حقائق التقدم (العلمي) لتلك المجتمعات عند فجر السلالات في سومر، مع اختراع الكتابة، نظام الري، سبك المعادن، التعليم، الطب، الفلك، مجلس الشيوخ بجوار مجلس الشباب، وحقوق المرأة...الخ،* كما ذكرها صموئيل كريمر بتدشينات مبكرة للحضارة العراقية، ولها أسبقية، مقارنة بما كانت تنتجه الحضارات الأولى، قبل ستة آلاف عام. فلقد وجد مكي حسين نفسه يتلقى المعارف في المتحف العراقي ـ ذاكرته الجمعية ـ كي يواصل إكمال مشروعات جيل الرواد: جواد سليم ومحمد الحسني وخالد الرحال والكيلاني.(5)
فالنحت لم يكن يؤدي دورا ً فوقيا ً، كما تؤديه الأصوات، الشعارات، والمؤثرات الأخرى، بل هو الأساس الذي بنيت عليه أصول: البيت/ المصنع/ والمعبد. فقد أدرك إن (الكتلة) ـ كالضرورات التي قادت السومري إلى بلورة نظام العدد/ الحساب، والى الزمن بدراسة حركة الكواكب ـ ما هي إلا تضافر روافد انصهرت لتشكل مفهوما ً دنيويا ً ـ روحيا ً بدرجة لا يمكن فصلهما عن البعض. فتماثيل الأسس ستتحول لديه إلى الرابط ـ الجسر ـ بين الأرض والسماء، بين الحاضر ـ المستقبل...، لأن هذه الجسور تمنح الحركة ديناميتها الاجتماعية/ المعرفية في نهاية المطاف. ومع إن مكي حسين اعتنى بدراسة الخامات، إلا انه، قبل ذلك، تلمس اللغز (الجمالي/ الروحي) لدور المجسمات/ مع المعمار، في بناء النظام الاجتماعي المتكامل، والموحد. مثلما تعلم أن الرؤية الذاتية هي مسار دقيق للحرية الإبداعية بشروطها التاريخية ـ المادية ـ وما تمثله من قيم رمزية هي جزء من المعتقد العام لتلك المجتمعات.
فالسنوات التي أبصر فيها النور ـ بعد قرون طويلة من الظلمات ـ سمحت له أن يحفر في هذه العلاقة، ويعمل على تطوير مشروع الفن الحديث، وطنيا ً.(6)
ولعل أول تمثال برونزي أنجزه، قبل أن ينشغل في اختيار (المربع) (القيد) هو تمثال الرجل صاحب الجناح، يسمح للماضي أن يمتد، أو بالأحرى: أن لا يموت أو يغيب، وفي الوقت نفسه، أن لا يسمح للحاضر بالارتداد. فالحرية ـ هنا ـ شبيهة بالضوء والجاذبية والطاقة ـ توق للتسامي بالدرجة الأولى. هذا المجسم ـ الشبيه بنماذج نحتية لا تحصى في النحت العالمي أيضا ً ـ تلخص رؤيته للدور الذي يؤديه الفن ـ في عقد الستينات من القرن العشرين ـ نموذجا ً لتماثيل بوابات المدن، الساحات، والأختام، ولتماثيل الآلهة إنانا/ الأم ...، صحيح انه لم ينجز بالحجر أو بالخشب، إلا أن خامة (البرونز) ستذكرنا بنموذج (العجلة) السومرية، وبقناع الإمبراطور سرجون، في أكد...، حيث الإنسان بنزعته اللاواعية للطيران، استمد احد أسس (التحديث) في عالم تزداد مصائر كائناته تعقيدا ً، ومأساوية.
فإذا كانت الحداثة الأوربية، قد بلغت ذروتها، بتدشين زمن الحرب الباردة، وإعادة رسم خرائط العالم، فان عالم ما بعد (الحداثة) لم يكن ليؤثر في مسار شعوب مازالت ترزح تحت أوزار عهود طويلة من فقدان الحرية ـ والاستقلال. شعوب لا تنتج إلا قهرها، بعناد تنتهك فيه مصائر كل من يعمل على دحض الرداءة، أو الخلاص منها. فتوهجات، صخب، والتباسات العقد الستيني التي لم تدم طويلا ً، ستترك أثرا ً يسمح للحفاظ على استقلالية (الفن) بأداء دوره الطليعي. (7)
فظهرت منحوتاته المبكرة المعنية بدراسة العلاقة بين المربع ـ والإنسان، متجاوزة المعنى الأحادي للتأويل، ولكن بإيحاء يبلور المجال الدينامي لعلاقة الإنسان ـ بالحياة. فالمربع قد يعني: التاريخ ـ وقد يرمز للقدر ـ أو للسلطة، أو للموت، أو لغياب شروط الحياة الأساسية ....الخ، إلا أن العلاقة ستلقي المزيد من الضوء على مفهوم (الصراع) و (الحركة) ومنح النحت مكانته ـ الأولى في حضارة وادي الرافدين وفي الحضارات الأخرى ـ بوصفه لا يعمل عمل (الأصوات) أو (الشعارات)، بل ابعد منها، وأكثر حفرا ً في الأعماق.
فإذا كان الفيلسوف الألماني (مارتن هايدغر) قد قال بان الشعر هو ما يبقى، فإننا إزاء ديمومة ليست مغايرة للشعر: الزمن/ الضوء، الجاذبية أو المديات أو المجالات الأبعد...الخ وقد وجدت علاماتها مجتمعة في النحت، بل في النحت لأنه ـ تاريخيا ً ـ أقدم تحد للزائل ـ وأقدم كفاح في مواجهة الغياب.
فعندما يمتلك النص النحتي ـ حتى الرسمي منه كما في رليف اللبوة الجريحة في العصر الآشوري، الذي لفتت انتباه جواد سليم ذاكرا ً كم من الرهافة والإنسانية فيه ـ قدرة تنصيص، أو احتواء، أو صهر، أكثر الأسئلة والأفكار، فانه سيحافظ على ديمومة غير قابلة للدحض: استغاثات اللوعة البشرية بين القهر والانعتاق، بين الجبر والحرية، بين العقل والفوضى، بين الحوار وتكميم الأفواه، بين النظام والعشوائية المنتهكة لكل أشكال الإبداع، عدا التدمير..، وبين العدالة والقهر.
[4] الذاتي ـ موضوعا ً
إذا لم يكن قسم (ابقراط) اعترافا ً بتأجيل الموت، ومد الجسد بوسائل تساعده على البقاء، لفترة أطول من الحياة، فلا مجال لتأويل القسم بالرضوخ لعبودية الحياة؛ فترة أضافية، باستمناء عذابها، وقهرها، ولكن عندما تنبني مؤسسات كبرى، وذات تاريخ عريق، على قهر (الجسد) (الإنسان)، حتى إن الضحية، في دفاعه عن حريته، يسهم بتعزيز آليات عمل تقسم العالم إلى: ما فوق الطغاة ـ والى ما تحت العبيد، فان المصير يغدو ملتبسا ً، وأكثر غموضا ً.
فهل (الذاتي) ـ بيولوجيا ً ـ لن يعزل عن الذاتي (ثقافيا ً/ إنسانيا ً) أو (جماليا ً)، أم انه لا توجد إنسانية، في الأصل، من غير قهر عوامل القهر؟
كانت السنوات التي درس مكي حسين الفن فيها، وباشر بعرض منحوتاته، كانت بعض أكثر العلامات قد رسخت (قسما ً/ انتماء ً) لصالح المكان ـ الوطن ـ الجسد (بوصفها علامات مركبة)، كتجربة محمود صبري. على إن الأخير لم يكتوي بالنفي، بعد أن غادر وطنه، بل عندما كان يحفر في الظلمات التي حملت قرونا ً عملت على تدجين جينات الذات ـ والمجموعات ـ والسماح لها ببرمجة البقاء تحت شروط العبودية. فالمواكب الجنائزية التي رسمها محمود صبري، مع تسليط الضوء على موضوعات انتهاك حقوق الطفل، المرأة، والحياة عامة، في خمسينيات القرن الماضي، لم تكن دوافعها ذاتية ـ بيولوجية ـ إلا للارتقاء بها نحو نقد بنية الظلم، ونظام العبودية، التي ظهرت إنها تمتلك النظام ذاته للمراكز ـ المحيط، بقانونها الهرمي، وإنها تواصل تجديد قدراتها على الهيمنة.
على إن تأثيرات محمود صبري، ستتصدع، بعد أن اختار (واقعية الكم) حيث ظهرت أسماء فنية (رائدة) تعيد لقسم ابقراط قدرته على مقاومة القيود ـ والرضوخ لديمومة القهر. أسماء فنية عرفها مكي حسين، عن قرب، مثل كاظم حيدر في تجربته (الشهيد/1965) وتجربة محمد مهر الدين بصراحتها وهي تدخل عناصر الملصق/ الكرافيك، في نسيج النص التشكيلي...، لكن حضور إسماعيل فتاح، سيشكل منعطفا ً لتجارب دفعت بالذاتي نحو ذروته، مثلما لم يترك للموضوعية إلا أن تتعرض للهدم. فالذي كان يقلق فتاح، ليس الموت/ الحب، شعار (إنانا)، أو جدلية الفكر العراقي برمته، بل قدرات (الذات) غير المحدودة بإعادة قراءة مصائر تحدق في المجهول. (8)
فلم يكن لدى مكي حسين سوى جسد: إنانا ـ الآلهة الأم ـ ومشفرات الجسد، بإعادة صياغة المصير، ومواجهة (القدر) بإرادة (الحرية، كمساحة اختلاف بين القيد/ الظلم، وما يتضمنه الفن من خطاب كونته أحلام الموتى على مدى قرون من التراجع بعيدا ً عن التاريخ ـ وتاريخ الحضارة)، فلقد اختار النحات: الجسد/ المسمار، إشارة محورة لتماثيل الأسس السومرية أكثر منها إيحاء ً بأجساد جايكومتي، النحيلة، لأن الأخير، في الأصل، استمد الكثير من منهجه (رؤيته)، من الحضارات القديمة، والمصيرية تحديدا ً، فالجسد، كي يقاوم، يتخلى عن البيولوجي ـ الفسلجي، ليمتلك معالجة معرفية/ فنية، توحد عبرها إرادة الحياة، بمنح التأمل الوجودي قدرات اكبر على التعبير...، لأن التعبير ـ عامة ـ لا يذكرنا بما أنتجته الحرب العالمية الأولى، والثانية، من: صراخ ـ وعويل، وفضح لسلاسل من الإبادات التي شهدتها أوربا فحسب، بل بالتاريخ الأقدم، والأكثر حداثة، للصراع الذي ما انفك ينتج مليارات الأجساد المعرضة: للانتهاك ـ العبودية، النفي، والاستغلال.
ولأن مكي حسين، لم يعزل مهمة بناء النص الفني عن جوهره المعرفي، حتى لو كان جماليا ً خالصا ً، فانه ما انفك يحفر في الجسد المكتوي ـ عبر الحياة اليومية وما تتعرض له حقوق (الإنسان) في الثلث الأخير من القرن العشرين، وأمام أنظمة تدعي إنها ذاقت مرارات الحروب...، فصار الجسد ـ المستعاد من مدافن أور، انشغالا ً منح موضوعاته نسقها التعبيري ـ بأصول مستمدة من تأملاته للأجساد وقد فقدت ملامحها، واستحالت إلى أشباح. وكأن منحوتات مكي حسين، تعيد قراءة القانون الأقدم، وهو الأكثر حداثة أيضا ً، بما يواجهه الجسد من تدمير منظم، قصد إعادته إلى أصله: البيولوجي ـ وليس إلى شعار: يولد الإنسان حرا ً...، ولكن النحات لم يترك (القيد) ـ حتى لو كان قدرا ً أو نهاية حتمية لإنتاج المراكز والمهمشين من الضحايا ـ رمزا ً لجماليات السلطة، وهي منشغلة بصناعة المزيد من الجثث، أسوة بصناعة الموت، واستحداث جماليات للإبادة، بل علامة تنتج وعيا ً مغايرا ً لتفكيها، وهدمها، من اجل عدالة لا تقسم البشر إلى: ما فوق الصيادين ـ والى ما تحت الطرائد.
لقد اكتوى الفنان ـ بوعيه المرهف ـ بما كان يحدث في بلدان لم يسمح لها حتى بإنتاج غذائها الزراعي، وبتطوير صناعاتها الأولية، وهي تحاصر بوعي (الأصوات/ الشعارات/ والوعود)، وليس بما يجعلها قادرة على تحقيق جدلية إن: التنمية (للجسد/ الإنسان)، هي المفتاح الذي يدور في القفل، من اجل عواصم تحولت إلى قرى، وليس إلى أسواق للمنافسة، والى ساحات حروب صار فيها ابقراط نفسه ـ نادما ًعلى قسمه، لأن أحدا ً من صانعي الجثث لا يريد سماع حكمته الموضوعية، بوصفها ليست نزعة ذاتية إلا وهي تعمل على إطالة عمر (الحرية)، وليس زمن الظلمات ـ والخراب.
[5] مجسمات عام 2010
لخص الكاتب (نزار رهك) تجربة مكي حسين، لعام 2010، التي جاءت بعد انقطاع سنوات طويلة، بعبارة :" الوطن عبر نافذة الجسد".(9)
إن وجود مكي حسين، مع مئات من المخلوعين ـ بحسب مفهوم هابرماس لعام ما بعد الحرب العالمية الثانية ـ في المنافي، والشتات، والأقفاص، عبر القارات، خلق قطعية لم تقم المؤسسة الفنية:الثقافية، في داخل الوطن، ولا التجمعات في الخارج، بردمها. لكن المسافة لم تتجل في اتساع الفجوات، بل في محو الذاكرة، أو تعطيل عملها، كأن المطلوب، خلال العقود الخمسة الأخيرة، ليس تشتيت النخب الإبداعية، بل محو أثرها أيضا ً، كما حصل في تدمير المتاحف العراقية، وترك كنوزها للريح. ولعل القليل من الكتابات بتوخيها خلق مجالات أفضل للتواصل، لتجاوز أزمات غير حقيقية عملت عليها قوى الهدم. فان إشارة الكاتب رهك لم تصدر عن مشاعر رومانسية، بل ترجعنا إلى نشوء (الجسد)، والى ما تمت صياغته عبر علامات رسخت مسارا ً للديمومة، والانبعاث. فالوطن، منذ تشكل حضاريا ً، مع النحت، الكتابة، لم يتبلور عبر الأرض، وزمنها فحسب، بل بما يجعل (الوطن) مصنعا ً للديمومة، مع الأوطان التي شغلها التعايش السلمي.
فمنحوتات عام 2010، التي عرضها في ألمانيا، ترجعنا إلى تدشيناته السابقة، في ستينيات القرن العشرين: الجسد المحاصر بالقيود، ولكن الجسد ـ المسمار ـ السومري ـ للعلاقة بين السماء والأرض، بين المطلق والتاريخ، وهو يعمل على كسر قيوده. إن الجسد ـ بوصفه وطنا ًـ ليس موقعا ً أحاديا ً أو مركزا ً للتعصب، كما دعت بعض التيارات كي يصبح كونيا ً، ذلك لأن (الكوني) في الحضارات المتقدمة، والتي لم تترك إلا صمتها يأتينا شبيها ً بضوء المجرات الذي يبرهن انه لا يمتلك إلا زواله، تأسس إبداعها ـ في مواجهة الغياب، والمجهول ـ إلا بتضافر عناصر كونت كيانها ذاته وليس كيانا ً آخر...، ومع إننا ندرك تماما ً عمل القوانين العامة، كالهواء والماء أو الفضاء أو الزمن المشترك بين الكائنات بلا استثناء، إلا أن لكل كيان ـ منذ صار الإبداع الفني مقترنا ً بنشوء حضارة الأم ـ له خصوصيته، بصمته، فلم يصر الوطن ذريعة لشن الحروب، بدوافع التوسع بالملكية، كما هو حال انشغال الإمبراطوريات التوسعية، منذ نشأت وحتى يومنا هذا ـ في ذهن المبدع، ورؤيته، بل مأوى شبيها ً بالرحم، ولكن بعد مغادرته. فأسفار سومر حول الفردوس المفقود، كما لمّح فرويد لهذا المفهوم، بالولادة: الخروج من المكان الوحيد الذي لا يعاقب فيه الجنين ـ مع إننا في عالمنا نعرف أن هناك 17 ألف طفل يموت في اليوم الواحد، كما ذكر الأمين العام للأمم المتحدة ـ لأن الأم لا تقذف بأبنائها إلى الجحيم، رغم انه سيشكل تحديا ً متواصلا ً للصراع، بل امتدادا ً لدينامية توخت تقليل الخسائر، وإعادة بلورة توازنات تجعل من الحياة اقل استحالة، ورداءة.
إن مكي حسين يختار (الوطن)، كما اختاره منذ البدء، موضوعا ً لتماثيله. ولكن انقطاع النحات عن العمل، بل وتجاهله من قبل (الداخل)، وهشاشة العلاقة مع ما يحدث في المنافي ـ مشروع القرى المتناثرة وقد تحولت إلى أسواق والى مناطق معزولة، رغم ثورة الاتصالات وهدم الحدود والممنوعات والمحرمات التي عفا عليها الزمن ـ أدى إلى استكمال حقيقة تشتيت الكيانات المبدعة ورموزها ـ بمختلف حقول الإبداع ـ فلا المؤسسات في الداخل يعنيها أمر آلاف المخلوعين، المهجرين قسرا ً، والمنفيين، ولا تجمعات الخارج فكرت أن المنفى نشأ في الوطن، مما سمح للنسيان ـ والإهمال المقصود والعفوي المواكب لدرجة التخلف الحضاري ـ أن يشكل ملامح وطن ـ بلا هوية. على إن عصر ما بعد (الحداثة) والدخول في حقبة ما بعد (العولمة)، عبر تحول عدد من البلدان إلى خرائب، وأطلال، والبعض الآخر إلى جزر للعيش بلا خوف من القتل، أو الانتهاك، لن يدوم إلى الأبد. فالأوطان ـ الكيانات المتحررة من الأحادية والتعصب ـ في هذا العالم، تعمل بالرسالة ذاتها التي مازالت الأم ـ كآلهة أرضية ـ تتوخى صياغته بأقل الخسائر. فالوطن ـ الجسد ـ عند نحات كبير، مثل مكي حسين، هو العالم صوب مركزه، العراق، وهو العراق ـ بلا ما بين النهرين ـ علامة تجدد الرسالة ذاتها للفنون التي حفرت عليها حروف الكتابة، وشرائع أنظمة الحضارة.
تماثيل مكي حسين، هي: الأجساد لا ترقص في مهرجان للفكاهة، بل هي الأجساد المنتزعة من عذابات الضحايا، وما لا يحتمل من انتهاك حقوق الإنسان، وكي لا استعمل كلمات (نزار رهك) ـ حيث تجد من يتحدث عن عظمة الاحتلال بوصفه تحريرا ً من الدكتاتورية، متجاهلا ً أن هناك خمسة ملايين تم قذفهم بعيدا ً عن الوطن، وهناك أربعة ملايين نازح بلا مأوى، وملايين الأرامل، والأيتام، والمعاقين، والعاطلين عن العمل، وملايين يعيشون تحت خط الفقر، بعد أن خربت الزراعة، والصناعة، والإسهام ببرمجة تحويل البشر إلى أشباح، لا أمل لديها إلا أن لا تمتد سنوات منفاها في الوطن، حيث الموت غدا ً رجاء ً ...الخ ـ فان تماثيل مكي حسين، وجدت الوطن يسكنها، ووجد الوطن مأواه فيها ـ كحروف ومسامير وأبدان نحيلة مستمدة من الحياة اليومية لملايين الفقراء والمهمشين والمنفيين في وطنهم ـ مثلما سمحت لتماثيله أن تعيد عرض المشهد دوليا ً، مستلهما ً قانون الإبداع بالحفاظ على روح جيل لم يفقد الرجاء، رغم عقبات الخراب، والتوزيع الجائر للثروات، والفوضى، لقراءة تستلهم العدالة المنصوص عليها في الشرائع، وليس شعاراتها.
[6] ديمومة: الحرية ليست شعارا ً
في إشارة دونها الكاتب موسى الخميسي، حول الخصائص التي تميزت بها تجربة النحات مكي حسين، يلفت الانتباه إلى: انه " واحد من نخبة فنانينا العراقيين المعاصرين الذين كرسوا أنفسهم لجهد خاص يتسم بسعيهم لخلق موازنة واعية بين الرمز والتشخيص" وانه يمسك الإنسان حتى في عزلته، مانحا ً تجربته سمة: الأناشيد البصرية. مشخصا ً إلى عدم خضوعها إلى أسلوب موحد...، إنما...، التعبير فيها غير منفصل عن الشكل الجمالي....(10) الخ
إن الكاتب موسى الخميسي يسمح للمتلقي بالتوسع في القراءة. فإذا كان معظم زملاء مكي حسين تلقوا صدمة (التشتت في المنافي)، فان من مكث يواصل نشاطه داخل الوطن ـ ومنهم إسماعيل فتاح قبل أن يغادر هو الآخر ـ مكث يستكمل الملامح المخبأة للأسلوب كي يؤسس هوية لا يمكن دراسة تفاصيلها إلا بالابتعاد عنها ـ مكانا ً وزمنا ً ـ كي نلحظ إن لغز الأنظمة اللا واعية ـ في حضارة وادي الرافدين ـ بتعرضها إلى صدمات الغزو ونكبات الطبيعة وكوارث الحروب الأهلية، ومنها الحروب الطائفية ـ قد ازدادت قدرة على تجديد عوامل انبعاثها. ومع إن العدد الأكبر من جيل مكي حسين، التحق بالمنافي، إلا أن العقود الأخيرة، برهنت إن عمليات (النفي)، والمعاقبة في الداخل، وإنهاك الوطن بفوضى تحمل كل الصفات إلا الفوضى الخلاقة، وهي زمن ما بعد الشروع بتدمير العراق ـ وليس إسقاط نظامه الأحادي حسب، وهي أحادية لم تهبط من العدم ولم تتشكل إلا بتضافر عوامل تنتمي إلى قرون من الاستبداد، وبوجود قوى كبرى تتحكم بالمصائر ـ كلها لم تفض إلا لبلورة تيارات تؤكد إن رد الفعل (الفني/ الثقافي/ العلمي) قد يتأخر، بسبب الصدمات والترويع، والعودة إلى العصور المظلمة، شبيهة بأزمنة الأوبئة، واغتيال العلماء، ومحاكمة كل من يمتلك قدرة على القراءة، في محاولة لإعادة دكتاتورية (الديمقراطية) بأحادية اشد مرارة من معوقات الحزب الواحد ...الخ، إلا إنها سرعان ما تنتج (تيارات) فنية، ثقافية، تستمد دوافعها، ليس من الحتميات، ولا من إرادة الحياة، بل من الوعي بقدر (الإنسان) المعاصر، الذي تحدث عنه (مالرو)، وهو الوعي الذي بهر اندريه مالرو في مقدمته لكتاب بلاد سومر، حيث هدم الفجوات، وأزمنة القطيعة، كي يرى في إبداعات سومر :" تيار الحرية الخفي الذي يرتفع إلى السطح ثم يموت ويبعث. من الإلهات الأفاعي إلى آخر التماثيل الصغيرة، ومن صور الخصب إلى معبودات حلف. فحيثما يفنى ذلك التيار، نجد في ذلك اتجاها ً ظاهرا ً إلى الأشكال البشرية التي تميز النحت على نطاق واسع، وتميل إلى أن تجعلنا نتغاضى عن حرية التماثيل الصغيرة، ومع ذلك فان هذه الحرية الخلاقة أيضا ً توجه كل الفن العراقي، أشبه بحجر المغناطيس اللا مرئي." (11)
وهي إشارة تجعل من تجارب مكي حسين، وكأنها تستمد نسيجها من البيئة التي ما انفكت تمنح جيناته مشفرات الحرية ـ لكن بمعناها الفني ـ والجمالي أيضا ً.
فبعد أن أصبحت قوافل الهجرة مشهدا ً يوميا ً، وبعد أن فرضت القطيعة المزدوجة ـ بين الخارج والداخل والداخل مع المنافي ـ ولكل أسبابه ـ يبرز دور النحات (العراقي) بهوية لا تستنسخ ماضيها، ولا تحاكي الحداثات ـ وما بعدها ـ محاكاة عمياء، بل تدخل في معالجات هي ذاتها امتدت من تماثيل (إنانا/ عشتار) في فجر السلالات ـ وأقدم منها ـ وصولا ً إلى ما بعد تفكيك الإمبراطورية الآشورية، في الحضر، وفي العصر الذهبي للدولة العباسية...، فثمة مقدمات تذهب ابعد من نهاياتها. واقصد ـ تحديدا ً ـ إن النهايات، في كل عصر، تحافظ على نسج له قدرات صارمة على النمو ـ ومقاومة الاندثار والمحو. فالمقدمات التي قدمها النحات، ـ ليست مشتتة أو بلا هوية أو خاضعة لرؤية أسلوبية متباينة ـ بل على العكس ـ تماما ً، إذ ْ تبدو وكأنها ـ رغم عولمة الثقافة المصنعة في عالم يزداد جنونا ً بإنتاج السلع (12)، وبصناعة الجثث، لجني المزيد من الأرباح، راحت الذات، بوصفها بنية جمعية (ما) يصعب تحديد ماهيتها، إنما تعكس هذه الذات (الجمعية) لغز: النبوغ العراقي ـ كما قال الروائي الفرنسي فكتورهيغو وهو يستقبل ممثل العراقي في باريس ـ وهو الذي يفسر ـ على سبيل المثال ـ: احد عوامل نشأة جيل الرواد ـ منذ ثلاثينيات القرن الماضي حتى نهاية خمسيناته ـ وكأن هذا الجيل لم يتلق معارفه، وتدشيناته، في أوربا وجامعاتها المعنية بالحداثات، بل استقاها من مخفيات تماثيل الأسس، ومن تماثيل الآلهة الأم، وأساطير الحفر في منهج صناعة الحياة، وليس الرضوخ لتراتيل عبادة الموتى.(13)
إن منحوتات مكي حسين، وكأنها تعرض في صالة بغدادية، تمتلك الروح العنيدة التي نذر جواد سليم حياته من اجلها، وهي التي مثلتها التجارب الطليعية لصالح القره غولي، واتحاد كريم، ومقبل جرجيس، وطالب مكي، وإسماعيل فتاح، والحسني، ومحمد غني حكمت، والرحال، وعبد الجبار البناء ..الخ، لأنها تستمد دوافعها من القوانين ذاتها التي أتاحت للقدماء اختراع، وتأسيس أصول أقدم صياغة للحرية، بعلاقتها الجدلية بإنتاج عوامل الازدهار الاقتصادي، ألا وهي حرية الإبداع، وليس التمسك بالارتداد، أو الحفاظ على أنظمة صارت تعمل ضد التاريخ، وضد الإنسان.(14)
__________________________________________________
* وأنا أدوّن هذه الإشارات، حول تجربة النحات مكي حسين، أشعر بالأسى، بل والخجل، فالمقارنة بين الألف الثالث ق.م، واليوم، في البلد نفسه، يجعل التاريخ يسير بعناد نحو الخلف. لأن ما كتبه صموئيل كريمر يبدو خياليا ً، ولا علاقة له بالجذور الحضارية في بلاد وادي الرافدين. انظر .....س.ن.كريمر [هنا بدأ التاريخ ـ حول الأصالة في حضارة وادي الرافدين] ترجمة: ناجية ألمراني. وزارة الثقافة والإعلام ـ بغداد 1980، فيذكر كريمر: إن سومر ـ هي ـ من أنتجت أول: مدرسة في العالم/ أول علاقة بين المدرسة والبيت/أول حكم ديمقراطي في العالم/أول اقتصادية واجتماعية/ أول قانون/ أول سابقة قضائية/ أول كتاب صيدلة/ أول تقويم زراعي/ أول مقولة في الكون والتكوين/ أول أمثال وأقوال/ أول فردوس/ أول بعث وقيامة/ أول ملحمة وعهد فروسية/ أول أغنية حب/ أو عصر ذهبي.
المصادر
1 ـ إبراهيم عباس إبراهيم " الإلهة الأم في حضارات «الجزيرة الفراتية» من خلال المكتشفات الأثرية " http://www.welateme.info/erebi/index.php
2 ـ جورج كوبلر [نشأة الفنون الإنسانية ـ دراسة في تاريخ الأشياء] ترجمة: عبد الملك الناشف. المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر ـ بالاشتراك مع مؤسسة فرنكلين ـ بيروت ـ نيويورك 1965.
3 ـ د. إحسان فتحي "الشتات الفني العراقي" ـ http://www.iraqstory.com/
4 ـ فاضل العزاوي [الروح الحية ـ جيل الستينات في العراق] دار المدى للثقافة والنشر ـ دمشق 1997
5 ـ نزار سليم [الفن العراقي المعاصر] الكتاب الأول ـ فن التصوير ـ وزارة الإعلام ـ بغداد 1977
6 ـ شاكر حسن آل سعيد [فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق] الجزء الأول ـ دار الشؤون الثقافية والنشر ـ بغداد ـ 1983
7 ـ ادوارد لوسي سميث [الحركات الفنية بعد الحرب العالمية الثانية] ترجمة: فخري خليل، مراجعة: جبرا إبراهيم جبرا. دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1995
8 ـ عادل كامل [الفن التشكيلي المعاصر في العراق ـ مرحلة الستينات] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1986
9 ـ نزار رهك " جولة في أعمال الفنان مكي حسين" موقع" صوت اليسار العراقي" http://saotaliassar.org/Aadaab/Maki01.html
10 ـ موسى الخميسي "أجساد متمردة تصبوا إلى تحقيق أملها: موقع "صوت اليسار العراقي" http://saotaliassar.org/Aadaab/Maki01.html
11 ـ أندري بارو [سومر ـ فنونها وحضارتها] ترجمة: الدكتور عيس سلمان وسليم طه التكريتي. المقدمة: اندريه مالرو. بغداد ـ 1979.ص 13 وما بعدها.
12 ـ د. إبراهيم الحيدري " عولمة الثقافة وثقافة التصنيع" موقع: الحوار المتمدن: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=511362
13 ـ ميشيل شوسو دوفسكي [عولمة الفقر] ترجمة: جعفر علي حسين السوداني. بيت الحكمة ـ بغداد 2001
14 ـ جميل حمودي ـ دليل الفنانين العراقيين] وزارة الإعلام ـ 1973 ص 163
15 ـ مكي حسين " تاريخ سباكة التماثيل البرونزية في العراق: موقع "صوت اليسار العراق": http://saotaliassar.org/mkalat01.html
* سيرة
ـ ولد في البصرة عام 1947
ـ أكمل دراسته في معهد الفنون الجميلة ، بغداد 1967
ـ شارك في معرض جماعة البداية 1967
ـ شارك في معرض الفن العراقي المعاصر 1972ـ عضو جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين.
ـ غادر بغداد وانقطع عن الاتصال بشكل كامل عن الوسط الفني ,والوطن منذ عام 1979,بعد هذا التأريخ بثلاث عشر سنة سنحت له الظروف أن يعيد علاقاته بالوسط الفني العراقي وبعض الأصدقاء.(15)
15/4/2017
Az4445363@gmail.com