السبت، 30 يناير 2016

الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 1/3 -سعد محمد رحيم


الذات والآخر في السرد: قراءة تحليلية لمعضلة الهوية في الرواية العراقية 1/3


سعد محمد رحيم
مدخل؛ سؤال الهوية
الرواية خطاب جمالي؛ سردي ـ ثقافي، يُحيل إلى الواقع والتاريخ حتى وإن توسّل بالمخيلة. وهي خطابُ ذاتٍ فردية وجماعية، وخطابُ هوية وزمن وحياة. فالرواية فضاء سردي، الحفر في طبقاتها التحتية يوصل إلى منابع ثقافة، ويكشف عن إيحاءات هوية..
إن مبتدأ علاقة السرد بالهوية هو انشباك السرد بكينونة الإنسان ووجود العالم لحظة وعي الإنسان بهما.. فالهوية هي ماهية نمط وجود وكيفيته ومقاصده، وتمثلات ذلك في الوعي والوجدان.
البحث في الهوية هو من منظور فلسفي؛ بحث في الوجود، في كينونة الإنسان والمجتمعات والعالم.. هذه الكينونة بتاريخها وذاكرتها وأقدارها وحاضرها والأشكال المحتملة لمصيرها قائمة في السرد، في الفنون السردية التي ابتكرها الإنسان منذ أزمان طويلة ليفهم موقعه في الوجود، ويزيح شيئاً من الغموض الذي يجلل هذا الوجود، وهو قائم فيه..
"إن جذور العلاقة بين السرد والكينونة تمتد إلى العلاقة بين السرد والكون في طفولة الفكر البشري. وإذا كانت الكينونة بمعنى عام، تفيد ( الانوجاد ) الحضاري للإنسان في التاريخ، فإن هذا ( الانوجاد ) ذاته يرتد للرؤية التي صاغها الإنسان للكون من حوله، وهي رؤية تقوم على أنساق حكائية تمثّلَ الإنسانُ فيها الكون، وترجمها تخييلياً في أساطيره وخرافاته منذ عصور سحيقة"(1)
يصبح البحث عن الهوية معضلة وجودية حين تتحول الهوية إلى مصدر إعاقة للحياة، وحين تحول عقابيلها دون تفتح الذات وانطلاقها في أفق حر. وفي ظني؛ هذه ثيمة مقترحة دائماً لروايات جيدة.
كل رواية جيدة لابد لها، في لحظة ما، من أن تطرح سؤال الهوية.. وهو سؤال مركّب يأخذ في البدء أبعاداً ثلاثة:
ـ هوية الذات الكاتبة في مواجهتها لنفسها وآخرها، والعالم.
ـ هوية الخطاب السردي بوصفه متناً مثقلاً بالدلالات والمعاني.
ـ هوية النص المكتوب بوصفه شكلاً فنياً مائزاً، أي إبداعاً يفرض نفسه بين نصوص أخرى لا تعد.
والأبعاد الثلاثة للهوية هذه منشبكة في علاقات اتصال مرآوية وتفاعلية، مولِّدة للدلالات.
فالرواية تحكي عن شخصيات تسعى لإثبات ذواتها في العالم.. أن تقول للآخرين، من أنا، وإلى مَ أرمي؟. فينفتح السرد على المغامرة الإنسانية، على تلك التجارب التي تركِّب الإنسان، وتعيد تركيبه في خضم حركة العالم وعلاقاته. ذلك أن الشخصية الروائية تخرج على قيم انتمائها المعطى/ الموروث، رافضةً التماثل مع أعضاء جماعتها، وباحثةً عن الفرادة. فالصفة الغالبة عليها هي التمرد.. إن الممتثل والمتماثل لا يمكن أن يكون شخصية جذابة في رواية.
منذ البدء علينا أن نفترض أن الهوية تأسيس مستمر، ولذا لا يمكن منحها حدوداً صارمة أو مضموناً جوهرانياً.. معضلة الهوية أنها تتخطى نفسها دوماً باتجاه أفق لا يُدرك كأنه السراب، فهي تحفِّز الأسئلة والشكوك.. هذا لا يعني أن لا هوية ثمة.. فقط نحن نتكلم عن شيء زلق حرباوي أحياناً، ولعوب.
إن صوغ عالم روائي هو في فحواه إعادة لصوغ موقع الإنسان والمجتمع في العالم، والتعريف بماهيتيهما.
وإذن تتحدد تمثلات الهوية بـ؛
ـ ما الذي يريد أن يقوله الروائي عن نفسه خفيةً عبر السرد، وعبر ما يرويه الرواة؟.
ـ ما الذي يقوله الرواة عن أنفسهم، في خضم صراعاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم بعضاً؟.
ـ ما الرؤية التي تنطوي عليها الرواية إزاء الوجود والعالم؟.
ها هنا لا نقرأ الرواية بعدِّها نصاً أدبياً له شكله الأستطيقي، بأنساق سردية متعينة، بقدر ما نقرأها خطاباً ثقافياً مترعاً بالدلالات التي تحيل إلى خارج النص المكتوب، والذي يرتبط بسياق اجتماعي ـ تاريخي.. فلا نسعى إلى تعيين هوية النص الأدبية. فما يهمنا، في هذا المقام، هو البحث عن تجليات الهوية التي هي موضوعة إنسانية بأبعادها الذاتية والاجتماعية والسياسية والوجودية، في الرواية العراقية المكتوبة باللغة العربية تحديداً.
الذات في السرد
السرد يخترق الذات، يحتلها ويعيد صياغتها.. الذات بعد ذلك هي غيرها قبل ذلك.. الذات السادرة في الحياة، هي الذات الساردة وقد أنسنت الطبيعة وأجرت عليها تحوّلاً، حتى وإن كان طفيفاً لا يكاد يُرى أو يُحس. وتلك هي الثقافة.. الذات الساردة هي الذات بعدما تثقفت. هنا نتكلم في الأنثربولوجيا، ولم ندخل بعد محفل الأدب، وما زلنا لم نتكلم في التاريخ.. الفضاء المشترك الذي يجعل تنقلنا بين هذه الحقول يسيراً، سلساً، هو التخييل. وقد يعترض معترض؛ أفي التاريخ الذي هو علم في الإنسانيات والاجتماعيات، فسحة للتخييل؟. وأقول؛ حتى هذه اللحظة، نعم.. ورثنا بعض حقائق عما جرى، وورثنا كثيراً مما جادت به المخيلة.. لكن هذا لا يمنحنا، ونحن مطمئنون على حكمنا، حق الجزم بأن التاريخ محض أكاذيب. إنه سرديات، كما الأدب، كما الأنثربولوجيا.
وفقط حين نقرأ التاريخ كما نقرأ الأدب، بروح تتسلى، وعقل يتعلم، من غير أثقال الإيديولوجيا، من غير عُقد جذورها في الصحارى البعيدة وفي الأزمنة السحيقة، من غير أن نسحب أدران التاريخ وسوءاته إلى راهننا، سنقلل احتمالات النزاعات، وسننعم بفرص سلام أكبر.
وإذن، الذات هي موضع التقاء جريان التاريخ ودفقات التخييل منظوراً إليها من زاوية موضوعية ـ تاريخية. وهي موضع التقاء تيار العقل والإرادة المحرِّضة على الفعل منظوراً إليها من زاوية ذاتية ـ تاريخية. أي أننا لا نستطيع أن نفصل التاريخ أبداُ عن كينونة الذات.
وعلى الرغم من أننا نعيش في عصر تعولم فيه كل شيء تقريباً، وأصبح التواصل بين البشر، مع توافر التقنيات الحديثة، أكثر يسراً، فإن هذا لم يحل دون تعميق النزعات الذاتية. ولا محل مثالي لاختبار هذه الحقيقة أكثر من ميدان الكتابة الروائية. فالانفتاح المفرط على الخارج يحفِّز في الإنسان الرغبة في العودة إلى الذات والتعرف على مكنوناتها وخلجاتها العميقة، وصراعاتها الخفية، والأهم موقعها ومكانتها، إزاء الآخر.
"إن الرواية العربية في بداية الألفية الثالثة يسكنها توجه جمالي مختلف، قوامها إنصات مرهف للذات، وسبر لأغوارها، ومساءلة تشظياتها، وآثار ذلك على الهوية في عالم مفتوح، لا يكف عن التغير والتبدل بوتيرة متسارعة"(2).
في الرواية العراقية بقيت الشخصيات غالباً، ولمدة ليست بالقصيرة، مغتربة عن ذاتها، لا تجرؤ على الإفصاح عن هويتها الذاتية كما تعيها حقاً وتشعر بها.. بقيت توارب وتناور عبر اللعب البلاغية وتتخفى خلف إنشاء فضفاض وخلف رموز مستغلقة أحياناً خوفاً من أن تكشف عن كينونتها الحقيقية.. كان السرد هرباً من ضرورة الإمساك بحقيقة الذات إلى سردية أخرى مموهة ضبابية، ومقنّعة. ففي كثر من الروايات العراقية لن تستطيع تحديد الهوية المذهبية، والعرقية ـ الاثنية لمعظم الشخصيات، وحتى الهوية السياسية كانت تبقى ملتبسة إلى حد بعيد. وما برحت الرواية العراقية لعقود طويلة تُكتب في ظل رقابة صارمة مؤسسية، وحتى ذاتية.. كان الروائي نفسه يمارس تلك الرقابة، وأحياناً بوسواس وحسابات تتعدى محددات ومعايير المؤسسة نفسها.. ولأن لا رواية جيدة يمكن أن تُنتج في مناخ من القلق والخوف والحذر المَرَضي ظلت الرواية العراقية متأخرة بخطوة أو خطوات عن مثيلاتها المنتجة في العالم، وحتى في دول عربية كمصر ولبنان والمغرب.
كما بقيت ثمة منطقة شبه مجهولة، مضببة، هلامية، خشي الروائي العراقي لمدة طويلة من انتهاكها، وإضاءتها.. كانت تلك منطقة الهوية السياسية الصريحة.. كان ذلك موقعاً مراقَباً، خطراً، ومثيراً للريبة.. أما الذات الساردة فما برحت تلجأ إلى التعمية، إلى الإنشاء الفضفاض.. إلى التداعيات التي لا تفضي إلى قرار.. كانت ثمة إشارات عابرة خجولة خائفة قابلة لتأويل مغاير.. لم تكن المخيلة محرَّرة، واللغة كانت شبه محتلة ببكتريا الخوف.. والرواية المكتوبة، في النهاية، كانت مبتغى هرب لا اعتراف.
غالباً ما نلتقي بشخصيات مأزومة، في روايتنا العراقية، وحتى أولئك المتبنين منهم لأفكار اجتماعية ـ سياسية، والمدافعين عن إيديولوجيات أو قيم عليا نجدهم مصابين بالإحباط، وقريبين من اليأس بهذه المسافة او تلك، وبذا يطغي على لغتهم التذمر والقلق والسوداوية والخيبة، فتراهم غير متوافقين مع بيئاتهم الاجتماعية، ولهم خلافاتهم الحادة، إنْ كان لهم مثل هذا الارتباط، مع مؤسساتهم أو أحزابهم.
هذا ما جرى لكريم الناصري في رواية ( الوشم ) لعبد الرحمن مجيد الربيعي، ولتوفيق في رواية ( المسرات والأوجاع ) لفؤاد التكرلي، و لـ ( كاتب القصص والروايات) هكذا سمي في رواية ( الحلم الجميل ) لأحمد خلف.
يغدو الواقع أقوى من إرادة الشخصية الساعية للتغيير. وبالتالي ينتقم الواقع من المسعى، ويكون الثمن رضوضاً نفسية، وإحباطاً معنوياً، وحيرة عقلية، وانكفاءً على الذات.
وثمة شخصيات تحاول الهرب إلى ملاذات لا تعرف عنها شيئاً. وفي أحايين كثيرة هي لا تعرف على وجه التحديد ماذا تريد.. هنا يمكننا التكلم عن فقدان الاتجاه والتيه.
ولأن أرضيتنا الاجتماعية والسياسية دائمة التعرض لزلازل وانهيارات يصبح خلق شخصية تجد خلاصها في نهاية المطاف، وتنعم بالاستقرار والسلام، ضرباً من التضليل والتلفيق.
وجهة النظر الواحدة المتسيدة على مسار السرد تكاد تطبع الرواية العراقية بميسمها.. وغالباً ما تتداخل في مثل هذه الروايات السيرة الذاتية مع المتخيل السردي، ويرفد التاريخ المتن الحكائي للنص.. في رواية ( الحلم العظيم ) لأحمد خلف يتشكل السرد في إطار واقعي يحيل إلى مرجعية تاريخية معروفة، لذا يمكن قراءتها بوصفها شهادة رجل مثقف عن حقبة مضطربة موّارة بالأحداث الدراماتيكية من تاريخنا الوطني، وعن حياة جيل عانى في خضم تلكم الأحداث. على الرغم من أن المؤلف استخدم ضمير الغائب وهو يقدِّم وجهة نظر شخصيته الرئيسة، وهو شاب يجد نفسه إزاء احتدامات واقع سياسي صاخب، فيتأسس تبعاً لذلك وعيه السياسي ـ الاجتماعي المغذي لموهبته المتفتحة في مجال الأدب.. إنه ( مؤلف القصص والروايات ) الذي لم يكتب شيئاً لافتاً بعد، لكنه يحلم بمستقبل زاهٍ لبلاده، يتساوق مع ارتقائه في عالم الشهرة الأدبية.
نقرأ الجملة الاستهلالية للرواية: "ذات ليلة باردة، اكتشف الولد، أن همس المتزوجين في غرف النوم يُسمع بعد الحادية عشرة..". وهي جملة ذات إيحاء جنسي لا يُخفى، سيمتد كشعاع منفلت ليجلل مساحات واسعة من السرد فيما بعد.. فالشخصية لم تكد تغادر مرحلة مراهقته، ويحيا في بيئة محافظة شحيحة، لا تشبع الرغبات الجنسية الطبيعية، فيعيش عالم استيهامات، عاداً إياه المكان الذي فيه مصرعه ومثواه. هنا يتناظر الحرمان العاطفي والجنسي مع ممارسات سلطة سياسية قمعية، ليعكسا أزمة الشخصية الاجتماعية والوجودية.
في واقع مترع بالتناقضات والمحبطات والكوابيس يستحيل الحلم إلى عبء، وتغدو محاولات تحقيق الذات والبحث عن هويتها فيه إشكالية كبرى.
روايات عراقية كثيرة حاولت خلال السنوات العشر الأخيرة توظيف التاريخ بوقائعه التي شهدها كتّابها، والذين خلقوا شخصيات مناظرة لشخصياتهم، أو بعثروا شخصياتهم في أكثر من شخصية واحدة داخل النص الواحد..
تنقل رواية ( المحرقة ) لقاسم محمد عباس حكاية طالب جامعي ( مروان ) يطلب منه والده، في لحظة عصيبة التخلي عن دراسته والالتحاق بوحدة عسكرية في البصرة هرب منها أخوه ( غسان ).. أي أن عليه أداء دور غسان في الجيش خشية انتقام السلطة من العائلة. فيذهب إلى هناك؛ يموّه شخصيته ويخدع الضباط، يساعده الشبه الكبير في ملامح الوجه بينه وبين أخيه.. وبخسارته لمستقبله الجامعي سيخسر حبيبته ( ياسمين ) أيضاً، وهي ابنة عمه التي تنصحه برفض هذه الصفقة غير العادلة، لكنه لن يحرِّك ساكناً، فتتزوج من رجل آخر..
سيتقمص مروان شخصية أخيه حتى لن يعود مروان مرة أخرى، ولن يغدو غسان بطبيعة الحال. ولن يكون في مكانه الذي تخلى عنه بضغط من ظروف قاهرة، بل لن يجد ذاته ثانية في أي مكان. وإذا كانت الحرب قد شطرت ذاته في ذاتين ظاهرياً فإن الشرخ سينتقل حتماً إلى ذاته الداخلية. وسيحاول من طريق الكتابة أن يمضي بالحوار حتى نهايته علّه يستوعب ما يجري، ويفهم ذاته، من أجل أن يتصالح معها ويعيد لها وحدتها، بعدما كان يقول؛ "وكأنني أتحدث إلى شخص آخر، لا علاقة له بي". فهل سيفلح؟!.
يكتب قاسم محمد عباس روايته بضمير المتكلم. وفي أية رواية مكتوبة بهذه الطريقة ثمة اقتران سري بجنس السيرة الذاتية، لا من حيث الشكل فحسب، بل من حيث التورط بالاعتراف.. إن روايات ضمير المتكلم، كما أزعم، تعد مخزون اللاوعي لكتّابها، لإنهم يُستدرجون، بحكم إغراءات الطريقة نفسها، إلى البوح الذاتي، واستعارة تفاصيل من التجربة الشخصية يستثمرونها في تعزيز عالمهم المتخيل.

المعرض السنوي لجمعية الفنانين التشكيليين .. وذكرى رحيل جواد =

-

المعرض السنوي لجمعية الفنانين التشكيليين .. وذكرى رحيل جواد سليم



تزامنا مع المعرض السنوي لجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، ومرور الذكرى الخامسة والخمسين لرحيل الفنان  الرائد جواد سليم تقيم اللجنة الثقافية للجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين، عرضا ً لفلم ( صانع الحرية ) عن الفنان جواد سليم ، إعداد وسيناريو توفيق التميمي ومونتاج محمد النجار ومدير التصوير زمان فالح وإخراج طالب السيد، مع حوار عن الفن العراقي والمرحلة الحالية ومعرض الجمعية. يوم الثلاثاء الموافق 2/2/ 2016 . الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، في مقر الجمعية الكائن قرب معرض بغداد الدولي ومعهد الفنون الجميلة مقابل حديقة الزوراء.
 

   

الخميس، 28 يناير 2016

حينما اجترحت الالهة-غالب المسعودي

حينما اجترحت الالهة
الحب..............
وصفته بانه داء لا يرجى شفاء منه...!
تخاصمت في العلى
سلطت كيوبيد بسهامه
على شغاف القلب...........؟
الحب شمس وقمر
تعكسه الاضواء في ليل
سهر..............
اسيرو ظلي وجعي
يعصف بي لهب حارق
لعل من طارق..............!
ارشف آهاتي  من عطشي.........؟
اخبو كخيمة
 تجاذبها الصحراء من دون عمد..........
ابتسامة من عينيها
تشعل صمتي
هل انت حب بلا حدود.....؟
احلم
اداعب وجنتيها
امسك
يديها
تمنحني السلام واغفو.....................!
في احضاني تولدين
من تراب الى انثى
واي انثى
(مهر لا وكس ولا شطط)
حب اداره الله
في كور
ان طابقتها الاقدار
لن تصغي لاحد
كسيوف غادرت اغمادها
في ظل نازلة ولم تحد
والقنا تلعب
بإياديين صمد لن ترد
لأجل شفاه ان اجرست
تحدس الاخبار في ارض ثمد
اسكب في رحى الساجور اشرعتي
لا ابتغي الود من ألس جحد
نار وماء وجسد
وكشح ضمه كفلان
من فرط الحسد
بت اشكو من هواها
فتنادي
ذات حبل من مسد...............!
تضرم النار بقلبي
واجثو ضارعا

بين نهد..........ونهد.............؟

الثلاثاء، 26 يناير 2016

أختام*-عادل كامل












أختام*


عادل كامل


[2] النائي
   عندما لم تعد هناك فئة (مثقفة) نادرة التخصص، وذات كيان يتمتع بحفريات نائية، منفصلة عن مجتمعها، وقد أصبحت منشغلة للبقاء على قيد الحياة، وقد أصبحت معنية، بالدرجة الأولى، أن لا تندثر، وتغيب، فان هذا الخط الفاصل ـ هذه الفجوة/ بله الفجوات والمسافات غير القابلة للردم إلا في حدود الاستثناء ـ ستزداد اتساعا ً نحو كائنات ستنفصل عن (النخبة) ذاتها، بوصفها قد ذهبت ابعد من: الولادة ـ الموت، ولكنها ليست ابعد من تمسكها بهذا الذي هو ابعد من الغايات/ الأهداف، إن كانت قد حددت، أو لم تحدد. إنها ليست إشكالية، بل ستوضح إن تفكيك (الإشكاليات) يتطلب هذا الحفر، أحيانا ً، خارج البرمجة.
   لنأخذ مثال: اللغة. إنها وجدت ـ ككل أداة ـ ضمن عوامل يمكن الإشارة إلى عدد منها، مثلما سيكون الباقي مشروعا ً للامتداد. فهي لا تنغلق عند حدود، الوظيفة وجمالياتها، لكن (لغتنا) منذ دوّنت أقدم النصوص فيها، لم تتخل عن العوامل التي تسري في مجالات البرمجة كاملة، من الأثير إلى النص.  فعندما يغفل المتابع، أو يغيب عنه، أن كل يوم، في لغة مثل الانكليزية، وفي سبعينيات القرن الماضي، تندثر20 كلمة، لتحل 20 جديدة، فان برنامج الحياة برمته يتعرض للتآكل، والتعفن، أي: ديمومة التصادم.
   وقد برهنت الحياة ذاتها إنها لا تعمل بإمرة فيلسوف، أو طاغية، وحيد، وفي الوقت نفسه، ستعمل بديالكتيك: اللا ـ كل، إزاء الكل، ومن ثم: الانتقال إلى المجموعات، ومنها: النوع البشري.
    فعندما نجد أن هناك من توقفت ديناميته عند: حدود، لا يمكن تجاوزها، فانه يكون قد وضع الديمومة في مأزق. والمفارقة وحدها تفصح عن أمثلة تذهب ضحيتها كائنات لا تحصى. وقد يكون الرد ـ بمعنى الدحض ـ هنا، هو المثال على إبقاء مقولات كالترتيب الهرمي، إزاء أي تحرر يتوخى الارتقاء بالنوع نحو هذا الذي لا خاتمة له.
   فتلك الفئة التي دوّنت النصوص التي مازالت متداولة، في الحقول كافة، والرمزية منها تحديدا ً، ليست (متقدمة) إلا قياسا ً بما سبقها، لأنها، في الصيرورة، لن تغدو (مستقبلا ً)، بل عثرات.
   والسؤال: إلى أين يتجه الإنسان، إن لم يذهب: أما إلى الفردوس، وأما إلى الجحيم، من ناحية، أو يرجع إلى العناصر التي تكّون منها، من ناحية ثانية، عندما يكون زمن (الوجود) محصوراً بينهما. وهذه عملية اختزال لكنها ليست بلا فائدة، في الأقل، لأنها التاريخ ممسرحا ً ـ ومرئيا ً، بتصادماته، كي يجري  بعجلات المنقرضات.
    فما الذي تريد تلك النخبة أن تلفت النظر إليه، غير (العدم)، مقارنة بما تسعى إليه الحياة برمتها؟ انه ليس هدفا ً يستعاد وتتم الإشارة إليه بمعزل عن مصيره: الاندثار....، أم هناك هذا السابق على (العناصر) والمندمج معها، والمتقدم على ـ حضورها/ وغيابها؟
     لكن هذه الإشارة لن تثمر جدلها ـ بوصفها جدلية وهي تذهب ابعد منه ـ إلا بوصفها تتمسك بالعقلانية، منهجا ً، نحو هذا: اللا ـ شكل، في آليات عمله، أو في غائيته. فالمنجز ـ علما ً أو فنا ً ـ أو صهرا ً لهما ـ يحافظ على تنبؤاته في مواجهة أشكال الثابت، والأبدي.
    فهل الكتابة حقبة لها زمنها التاريخي، أم إنها تؤدي دور الجسور نحو (غائية)، بلا غاية، للحفاظ على (الدينامية) أم أن إرادة (الحياة) ما هي إلا احد أشكال المحركات النائية، وخارج حدود الوعي ـ واللغة؟
   هنا تبلغ المغامرة ذروتها: التقدم في المجهول. وهي مغامرة لن تترك (الحياة) بلا غاية، من ناحية، وتدفع بها نحو (مجهولها) من ناحية ثانية.
    بدءا ً، ليس التطور وهما ً، بل جزءا ً من العنصر غير المسمى، المشترك، مع ما لا يحصى من العناصر، في ديمومة هذا الذي لن يترك أثرا ً له، عدا ـ في لحظة المراقبة ـ ومضاته وكأنها مستمدة من التاريخ، وليس من تلك التي سكنت الذات الحية، ونخبها، على مر الزمن. فالتاريخي يغدو أبديا ً، ولكنه، وبالتاريخ، يغدو منطقه، على أن توظيف (المجهول) إلى مشخص أو إلى تأويلات رمزية، سيعزز النظام الهرمي، ولا يعدله، مما يجعل: الولادة، في هذه الحالات، وكأنها وحدها تعمل بمعزل عن موتها ـ وفنائها.
   إنها شبيهة بالأنظمة التي درست، منذ الاقتصاد البري، في الزراعة، ومن ثم إلى التفكير المجرد، حيث الأشكال وحدها تحذف، لتجد أشكالا ً توازي تطور (الذكاء/ الأدوات/ الخبرة)، إنما المعركة ذاتها ـ منذ تشكل خلايا الحياة الأولى ـ لم تحتفل بنصرها، مثلما لم تهن لهزائمها. فهل باستطاعة الفن أن يقول ـ أو أن يخفي ـ شيئا ً غير: دورات الولادة ـ الموت، وهي دورة التحولات، أم أن هناك، شيئا ً ما من (اللا ـ شكل) والذي هو (اللا زمن) لديه ما لم يعلن عنه، ليس استحال، بل بوصفه برنامجا ً، إن تمت معرفته، فانه لن يقارن إلا بما أخبرتنا الحواس ـ والحدوس به، ويكون قد تشّكل كما الحاضر ـ غائبا ً، وكالميت الذي يفند (الموت) بغياب اكتسب لغز حضوره؟




[3]  اللا ـ شخصي
بعبارة لا ينطقها أحمق، كما في خاتمة مسرحية غاليلو لبرشت، فان الأرض: تدور، حتى لو نطقها من غير صوت، أو بكتمانه. ولو كان قد رفع صوته، غاليلو، وليس برشت، فان الشخصي لا يعنيني كثيرا ً. ذلك لأن لذّة المعاقبة التي لها ليست مرضية، ولهذا فهي لذّة ليست خالصة، مع إنها لا تخفي انتصار كوبرنيكس، بالذهاب ابعد من دوران الأرض حول الشمس.
   ثمة لذّات شخصية استثنائية، كالإدمان بمختلف أنواعه، كالإدمان على الفساد، أو تناول الكحول، أو إشباع الرغبات الأكثر سادية من القتل، وأخرى، كتنفس الهواء الأنقى، أو تناول الطعام بشراهة، يمارسها حشد بلا عدد، لكن لذّة أن يقول سقراط، في واحدة من ومضاته، إن المحادثة إلى رجل يفهم، لا تختلف كثيرا ً عن التحدث إلى رجل صفر. فالأول يفهم، والآخر لا يفهم، وهكذا  يغدو الكلام بلا لذّة.
   والأمثلة، مع زيادة السكان ـ من ادم الذي ينتسب إلى الواحد الأحد، إلى سبعة مليارات مخلوق يبحثون عن الخلاص ـ ليست نادرة، ذلك لأن الحقيقة ستبقى قائمة، بمعزل عنا! فأين هو فن تلك الومضة، وهي تنتقل من حد إلى حد آخر، ومن زمن إلى زمن ابعد، أم كما دوّن أفلاطون، بحكمة بلغت ذروتها: إن الأعمى الذي يسير من الليل إلى النهار، خير من الأعمى الذي يتجه من النهار إلى الظلمات!
    الإنسان أعمى! تلك هي كلمة والدي، استخلصها، بتأثيرات المعري، وشوبنهاور، واليوت، فلم اعترض، ولكني كنت أتساءل: هل الحقيقة عمياء؟ قال: لا! ولأنني كنت منشغلا ً بما تصنعه الألوان في مصيري، لم يشرد ذهني إلى منطق اللغة كي أراقب الزمن، كعبارة برخت: إن الحقيقة بنت الزمن، وليست بنت الأشخاص..؟ لكنني، بإحساس لا علاقة له بالتقدم، أو بلفت النظر، أو استبعاد الهزيمة، كنت أدركت في وقت مبكر جدا ً ـ أن هناك كائنات ارتقت بتجاربها نحو هذا الذي لا يقبل الانغلاق، ليغدو لذّة نادرة. إن (نرسس) لم يكتشف كم هو جميل، فهذا لا يعنيني كثيرا ً، لكن (المرآة) كانت مرحلة متقدمة في مصير النوع: إن الحقيقة تعدلنا، مع إنها، إزاء المطلق، لا تترك شيئا ً للتقدم ـ أي حتى لقول كلمات لا تعني أكثر من كونها كلمات! وها أنا ـ من غير شعور، ولكن بوعي تلقائي ـ أقع في الفخ: إن الفنون اللا شخصية ـ من الهرم والزقورات إلى ناطحات السحاب ـ ترغمنا أن نحدق في الطريدة التي لا وجود لها، إنما علينا أن لا نتركها تتوارى أو تغيب.
    فهل الحقيقة مبصرة، مثل العلاقة بين ما لا يحصى من العناصر في بناء منظومة الحياة/ المجتمع/ وزواله، كي يمتد حتى بحدود قرون، أو آلاف السنين، لتخبرنا، إنها عبرت، مثل ذرات بحجم مجرات، أدت عملها، في معبدها، أو في مختبرها الكوني، أو في لا مكانها، بوجودنا أو من غير هذا الوجود، على حد سواء؟
   سيقال أن موت المؤلف/ الفنان/ وانتفاء الذاتي، ترجع إلى (هيغل)، عندما لا حظ أن الموسيقا لا تعزف إلا من اجل الرب، بل للحصول على ثمن. ماركس، لم يعدل هيغل، بل توغل في تفكيك العلاقة، بين المثالي والضرورة، ولم يصدم (كانسان)، كما صدم بوجود آليات بشرية، تسمح للرأسمالي/ الصياد/ الجلاد، أن لا يبالي بضحاياه. فالنمل البشري، إزاء المركز، منظومة عمل قائمة على التدمير. لأن المركز، في الأخير، سيجد نفسه مدمرا ً. فثمة مركز آخر، كنجم كبير، بمروره، يلتهم الكواكب والكويكبات، من غير مشاعر زائدة، أو زائفة، لأن آلية العمل تصبح شبيهة بعمل اللغة التي لا تصدر أصواتا ً.
    لا شخصي...، تماما ً، هي الأبنية التي سمحت الفنان( سيزان) أن يخبرنا بها، لكن هل ثمة لذّة صفر، أو مشذبة، أو جمالية، أو عقلية، كالتي سمحت لـ (نيوتن) أن يكتشف قوانين الجاذبية...، وسمحت لدارون، مع سبنسر، أن يعزلا الحقائق عن التصوّرات، ويرتقيا ـ بالتفكير ـ نحو الحقيقة؟
     ها هي الحقيقة، تقودني إلى ديناميتها، وليس إلى موتها. ففي الفن، لذّة تتحقق فيها، إن كانت الحياة فيها بعضا ً من الشعر أو ما لا يحصى منه. فالفن يعرف كيف يجتاز عثراته، وعقباته، مثلما بالإمكان تخيل فيل يمشي تحت المطر وكأنه وحده اكتشف ذلك الممر الذي ينقذه من البلل. ولدي المهووسين بكرة القدم، كعشاق (مسي) أو (رونالدو)، إنهما يمتازان بمهارة ذلك الفيل، فـ (مسي) يخفي الكرة ولكنه يمضي بها من خلال أرجل المدافعين حتى ابعد من المرمى!
    فمن غاليلو إلى سيزان، ومن دارون إلى مسي، ومن نيوتن إلى ماركس...الخ، يعبر ذلك العنصر اللا مرئي للبرهنة بان الابتكار ـ وهو معنى الحياة بعيدا ً عن نظامها الهرمي ـ يؤدي دور مرور الأطياف حتى لو كانت منظومات المراقبة (المركزية) قادرة على الاعتراض، مع إنها، ستستثمر مصائرهم لصالحها، وتحتفظ بما اكتنزت، إنما الحقيقة، والحقيقة بحسب المختبرات، تذهب ابعد من ذلك.
   هل قلت إن اللا شخصي، ليس ما هو ما قصدته الألسنية/ البنيوية، منذ بواكير علم الانثروبولوجيا، وصولا ً إلى التفكيك، وإنني لم اقصد ـ أيضا ً ـ الحديث عن نظام يعمل بمعزل عن العاملين فيه، مع انه، لا علاقة له بموت الفن أو موت الإنسان؟ إلا إنني حاولت لفت النظر، ضمنا ً، للقبول بالقهر، من قبل (النمل) البشري، والعمل ضد الحقيقة: ضد الفن ـ ضد الإنسانية التي قرأت لحكماء سومر، ولسقراط، أو لتولستوي، وللآخرين أصحاب النزعات المرهفة، مثلا ً، لأنها ناصعة، كالنجوم التي أثارت دهشة (كانت)، لكن ليس من اجل لذّة خالصة قائمة على (الشيء في ذاته)، لأنها في الأصل عبرت مخيال قهري ـ بل أداء ً شبيها ً بعمل الدماغ ـ وما كان عاملا ً لهذا الوعي في رصد مرور هذا الذي ستكون (علامته) غائبة، بحضورها المحصور بين مجهولين، وليس بين غائبين. فالأشياء التي تفنى، مقارنة باللا ـ شكل، تعمل بمعزل عن هذا الزوال ـ الفناء. فالعقل سيتتبع مساره عبر علاماته في الزوال، فيما الفناء، يلحق، رمزيا ً في الأقل، باللا كل.
    فهل (الهرم) علامة اكتنزت بلغز ديمومة مكوناتها، أم للنظام الهرمي ـ من الرأس إلى الرمل ـ لغزه كي يبلغ تاريخنا ذروته...، أي نهاية الدورة، كي تعمل الحقيقة ـ بعيدا ً عنا أو بنوع يماثلنا أيضا ً؟
   إن الإجابات، في الغالب، تترتب بقيود لغتها، وليس بما يتمتع به الدماغ من مديات ابعد، لأن الأخير، بحسب العلماء، ليس مجموعة أجزاء، لكنه ليس (كلا ً)، بل مركبا ً تضمن، عبر الزمن، تلك الأطياف التي سمحت لغاليلو  أن لا يقول بصوت مسموع، بل أن يتمتم مع نفسه: تعيس هو البلد الذي يحتاج إلى أبطال!. فهو لم يخترع، ولم يكتشف، شيئا ً شخصيا ً، بل تتبع الظل وهو مأخوذ بلذّات لا شخصية: لذات لا علاقة لها بالحروف، والصوّر، والرموز، والحدوس. ليس لأنها تعمل بمعزل عن المراقبة، بل لأنها، كما هو المنطق الجدلي وهو يتوغل في تفكيك الجدل، في تفكيك ذاته، لا يتباهى بالنصر: أي بمحو الآخر. فالفردوس، طوال الحقب المظلمة، لا يسكنه إلا أقل الناس رهافة، لأن انتصاراتهم برمتها شيّدت على إقامة نيران مستعرة للآخرين. ويا لهو من خلاص...، مثل هذا (المثلث) في مقدمة السهم، أو في الرؤوس النووية، بشارة لأعياد لا وجود لها، عندما تستحيل المراكز إلى أثير.!



[4] استبصار
    على إن تحديد جوهر الوجود، لن يفضي بأكثر من إنسان يحدق في: كل ما يقع خارج وعيه. على أن الوعي ليس حاسوبا ً متقدما ً، ومنفصلا ً عن معنى (ما) في هذه العلاقة ـ المعادلة. فانا لا اخترع هذا الذي غدا خارج أدواتي في المراقبة ـ والحكم، الأمر الذي لا يسمح لي بأكثر مما ذهب إليه حكماء ـ العقلاء والمجانين ـ بتلخيص رأس مالهم حول (الحياة) بوصفها ليست فائضة ـ أو خالية من المعنى، أو: إرادة عمياء. حكماء تركوا الفجوات تسكن حكمتهم، وتسكن اللا محدود، لإعادة التحكم بمصائرنا، من غير النظام (التراتبي) الذي كان (الهرم) نموذجه على مر الزمن.
     ما الذي يشغل رأس فنان يستطيع، مثل شجرة، أن لا يصدع رأسه بما هو أعظم من الصدمات: الحماقات البشرية، التي لا يمتلك ـ لا الفنان ولا تمتلك الشجرة ـ في نهاية المطاف، إلا الدفاع عن كينونة ـ وجود مهدد بالمحو ـ أو، في الأقل: بالاستلاب؟
      ففي التعرف على ما هو خارج المعرفة، وحدودها، وعمل أدواتها، يستعيد الكائن ـ الذي توهم حريته في عالم محكم، قليلا ً من أندر الومضات التي لا تضعه فوق البشر ـ بوصفه استثناء ً، بل علامة صاغتها التحولات، وقد راح يجد خطاه فيها الدرب الذي لا يجعل نظره (تقدميا ً) ويده باحثة عن طريدة، لا يجعل صمته حرا ً وكلامه مغامرة، لا يجعل أحلامه ملاذا ً، وأفعاله سلسلة من المناورات...، فهو لا يسعى لمغادرة أوهامه ـ وأخطاؤه، كي يجاور عالما ً لم يترك أملا ً إلا بالعثور على كل ما يدفعه أما إلى السكينة، وأما إلى: اللامبالاة!
   هذا الكائن، كلما ازدادت عزلته، ازداد استبصارا ً بكل ما لا يلمحه البصر، أو يتتبع علل العقل. فهو سيعيش من غير أمل، ولكن من غير قنوط، فهو لا يعمل كما يعمل (النمل) أو تعمل الأشجار، أو (الأشياء)، واقصد من غير أمل، أي من غير وهم، مهما كان متقدما ً، ويتمتع بقليل أو بكثير من اليقين، فالأمل، ليس السراب، وليس هو استبدال (المنفى بمنفى أكثر اتساعا ً)، وليس هو الارتداد، وترك الكسيح يصبح قدوة ـ كما في النص السومري عند معالجة معضلة العدالة الإلهية ـ وقد دوّنت قبل ظهور إبراهيم بألفي عام ـ ولكن لأن السبعة مليارات (كائن/فرد/ رقم/ شفرة/ كلمة/ حرف ..الخ) تؤدي دورا ً شبيها ً بمعركة يكون النصر فيها وهما ً بنيويا ً، فان هذا الأمل، لديه، كمن يعمل عمل المستغفر للمستغفرين، كما كانت رابعة العدوية تفعل، أو كقولنا للباحثين عن خلاصهم عن قصر في الفردوس، وعن غلمان، أو عن حواري، أن لا يسرفوا في الأحادية، والتحكم بالمصائر بوصفها غنائم حرب، فالأمل ليس أن اعثر على ديمومة لا تكون جزءا ً من وجود لا يتوقف عند(حد) أو ينتهي بخاتمة.
      وبمعنى ما مماثل: كيف يتأتى لنا أن نمسك بأمل إزاء وجود لا يبوح بأكثر من ومضات: ذرات أو لا مرئيات تعمل بما يدحض أي حكم، بعد أن كانت مسيرة الأنواع قائمة على إحراز نصر لا وجود له في النهاية، إلا بحدود تحولات العفن إلى عطر، والعطر إلى عفن، لأسباب لا علاقة لها إلا بحدود (الوهم) الذي غدا (أملا ً) لديمومة تصادمات لن تترك لنا إلا احتمالات تقسيم البشر، بحسب تاريخهم، إلى: قاتل ـ وضحية، كي يستعيد الأخير، دور الأول، عبر البرنامج ذاته، ومن غير تعديلات تذكر!
 فماذا يريد الفن أن يؤديه، إذا استبعدنا التشخيص، التعبير، الرمز، واحتمالات التأويل، وما يبدو راسخا ً، أو منزلا ً، أو خاليا ً من الغبار...؟

[5]
   في الغالب لا اشعر بالندم، ولا بالإثم، لأنني لا امتلك إجابة أخيرة ما إذا كان الفراغ، أو العادة، أو الحوار مع النفس، سببا ً ابرر به انشغالاتي بالفن. ولا استبعد أن لفت النظر، حتى وأنا أتوارى بعيدا ً عن الآخرين، له تأويله.
    ففي عالم السلع ـ البضائع، ينوع الصانع إنتاجه، بعلامة ما، للترويج، إنها منافسة  للديمومة، إن كانت على مستوى  الغرائز، أو على صعيد الاستحداث.
    ومادمت اجهل تماما ً لماذا (الديمومة) لديها ما لا يرد، كي تكون موازية للقدر، والحتميات، فانا اجهل لماذا ـ بعد تذوق مرارات الإخفاق في الحسم ـ علي ّ أن أرى ما لا يحتمل، من رداءة ونذالة، من قسوة وعدم حياء في ديمومة المطالبة: بالتغيير، الإصلاح، والثورات؟
    فلا الفن، ولا الطب، ولا المواعظ باستطاعتها أن تذهب ابعد من حدود عملها: فالمريض سيلقى حتفه، في نهاية المطاف، لأن برمجة (الديمومة) قائمة على كل ما لا علاقة له بحرية الاختيار، فالأدوات مقيدة بوظائفها، مثل السلع: الاستهلاك.
    ولا أكثر إثارة للقهر أن تنتهي الحكمة باعتراف: هذا هو الواقع! لأن الأحلام ـ بمشفراتها ـ تعمل في هذه الحدود.
   وهكذا دأبت، في كل صباح، قبل الشروع بالكتابة، أو الانشغال بالفن، أو أن أعيد قراءة كتب، تبعدني قليلا ً عن حافات القفز وراء الجنون: العقل، لأن الأخير، كما تؤكد البراهين، ذروة آليات عمل المفتاح في القفل. فانا إذا ً في حال المتورط. فانا أصبحت ورطة نفسي! فالجنون، كالعقل، كلاهما شبيهان بشرود المتيم، لا ينظر إلا للذي يرغب في النظر إليه.
    وللدقة، أنا لست أسير قيود المكان الذي ولدت فيه، وزمنه، ولكنني ـ حياء ً ودقة ـ لا اذهب ابعد منهما. فقد تكون الإجابات، في كوكب آخر، ككوكب أنطوان اكزوبري في الأمير الصغير، خالية من الأسئلة. إنما أنا أرى عرضا ً مسرحيا ً شبيها ً بنظرية المؤامرة، مهما استبدل العرض، فانا لن أغادر نسق استحالة دحضه، أو حتى تعديله. فالدماغ يعمل بالغاز شبيهة بعمل شجرة تقاوم البرد أو أي عدوان، وشبيهة بالحرباء تستبدل لونها تكيفا ً بزمن قياسي، ومثل من يجهد كيف يكون بصره تقدميا ً ويده تصفق للرداءة، قلبه ينحاز للطهر وفمه ينشد للموبقات، أو مثل قديسة وحدها تدرك إنها غير مسؤولة عن عفن العالم..!
     ثمة  قيود لن نغادرها إلا بالتوحد معها، حتى بعد الموت، فإنها ستمتد، كإرث، للذين سيولدون بعدنا. فإذا كنت لا استطيع استبعاد رائحة تفسخ جسدي، أو حتى رائحة رمادي لو اخترت النار بديلا ً عن الدفن تحت التراب، فما معنى الحديث عن عطور أزهار البرية، أو ورود بساتين بغداد...؟
    ويا له من اكتشاف، شبيه بالجاذبية، أو من اكتشف إن سرعة الضوء لا تقربه من معرفة لغز: اللا ـ كل، واعني بأننا أسرى النسبية. فاينشتاين الذي لم يستطع أن يفهم شيئا ً من الصفحات الأولى التي قراءها من رواية القصر، وقال إنها بحاجة إلى دماغ يوازيها، فانا اجهل تماما ً فك مسيرة تاريخ لو لم أكن مكبلا ً به لكنت غادرته، فأرحت الآخرين ونفسي أولا ً منه ...
    فهل نطق كافكا بلسان الرب أم عمل على استبعاد بديهة المشهد ذاته الذي عاشه سيزيف وصولا ً إلى بشاعات العولمة، وعالمنا المعاصر، وما تؤديه الأسلحة المحرمة من تسليات موجعة لضحاياها، ماذا قال كافكا أكثر من رصد الإجابات على أسئلة غائبة، لكن اختيار الموت، لم يعد ممكنا ً، وفي حالات نادرة، كالأمير الايطالي الذي اضرب عن الطعام احتجاجا ً على الموجودات وعلى الوجود، ورحل بهدوء، أو كغرق فرجينا وولف، فانا لعلماء النفس شطارتهم في العثور على أعراض للإدانة!
    إنها برمجة تحتم على المبرمج، مهما تحرر من آليات عملها، أن يجد نفسه قد أتقنها، وأدى دور من يقف في أعلى الهرم: الصياد، أو الأمير، أو مدير الشركة، الأكثر مكرا ً ودهاء ً وجورا ً وقوة وفتنة وثراء ً وبرمجة يجادل بها للإبقاء على القاعدة شرطا ً للحفاظ على وجوده في الذروة: فوق الصليب أو الموت كمدا ً أو التمتع بعقارات كالمورفين أو الشعر أو الفن أو المشعوذات أو مرتلا ً في حضرة الرب، والكل يعرف، إن (الرب) يقع بعيدا ً عن ذرى التصوّرات، والكلمات. فالصياد وحده لا يفرط بلذّة إنزال اشد درجات الألم، والذل، بالآخر الذي لن تنتهي أسطورته بموته، بل سيأخذ بثأره عبر برمجة تمتد إلى ما لا نهاية، أو عند حدود برمجتها.
     فهل ـ في الفن ـ استطيع أن أجد سلوى غير تجاهل هذا العرض المروّع للقانون السابق على كلمات مالتوس: حرب الجميع ضد الجميع، حيث العناصر، في تشكلها، لا تكف عن دورها في إثبات أن: النهار يكمن في الليل، مثلما العتمة قد وجدت سكنها في أشعة الشمس!
    قوانين....، لا تجد إجابة إلا ورأسك بين يدي ّ جلاد أما أن يرسلك إلى جهنم، أو لا يمتلك أن يرسلك إلى أي مكان آخر...! ففمك إن نطق أغلق، وإن لم ينطق فلا معنى لوجوده...، فأية برمجة عنيدة هذه التي حولت حياتنا إلى مسرحية تجري في القاع، لكن بمرأى  من يمرحون تحت الضوء...! قوانين تدفع بالمفارقة للحفاظ على (المثلث): رأس... وقاعدة لا إرادة لديها  إلا التنفيذ، والطاعة. وأيا ً كان الرأس، فالمنفى يحتم شكل منفييه، مثلما المنفيين، في محاولات الخلاص، يعززون دور المركز: المنفى. وكأنها لعبة إن لم تلعبها أرغمت أن تطرد منها، أو تلعبها بحرية وحدها لا إرادة لديك إلا على أخيارها. إنها كحرية الطريدة، أينما ولت، فالمخالب غرست في أقاصي لا مرئيات جيناتها!  فهل  استطيع، بهدوء، أن اغوي أصابعي/ بصري/ دماغي، بالتحايل على نهاية وضعت، قبل أن يكون هناك نهار، وقبل أن تكون هناك دابات تدب بهذا الدبيب الذي غدا مشهدا ً مألوفا ً، بأدواته، وبتقنياته، مادمت أدرك إن موتي مدوّن في سلسلة تحولات العناصر، قبل أن يكون ثمة دماغ ـ وحواس، أم إن هذا كله نتيجة حتمية لوجود  المقدمات، ونهايتها، وهي جديرة بالملاحظة؟
تأملات أثناء العمل ـ وقد سبق أن نشرت حلقات من التجربة تحت عنوان: اختما معاصرة.

الأحد، 24 يناير 2016

يـــــا باسل الحزن-مؤيد داود البصام


 كتاب

يـــــا باسل الحزن

مؤيد داود البصام
لتحميل الكتاب يرجى النقر على الرابط التالي
http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N

الجمعة، 22 يناير 2016

كتاب "عشر سنوات هزّت العالم: -

يضم كتاب "عشر سنوات هزّت العالم: عقد على احتلال العراق 2003-2013" (784 صفحةً من القطع الكبير) الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، خلاصة الأوراق والشهادات التي قُدّمت للمؤتمر الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات على مدى يومين في العاشر والحادي عشر من نيسان/ أبريل 2013، وقد تضمن جدول أعماله شهادات شخصيات ساهمت، على نحو أو آخر، في الحدَث من مواقعها المختلفة، منها ستّ شهادات يقدّمها هذا الكتاب في القسم الرابع، علاوةً على رؤًى أكاديمية بحثية قدّمها أربعة وعشرون باحثًا بحثوا في الخلفيات والتداعيات الداخلية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تمخّض عنها الغزو والاحتلال اللذان انطلقَا لينفِّذا سياسات تمَّ التخطيط لها في وقت مبكر، كما سنلاحظ عند تناولنا الأوراق البحثية.

ماذا حصل في العراق منذ تلك الحقبة؟ وما هي التغيرات السياسية والاجتماعية والبشرية التي ‏أحدثها الاحتلال؟ وكيف يمكن رصد آثار ذلك كلّه في المحيط العربي، ولا سيما في سورية؟ هذا ما يُعنى به هذا ‏الكتاب الذي يضم بين دفتيه أربعةً وعشرين بحثًا وستّ شهادات تتناول كلّها ما وقع للعراق من كوارث خلال ‏عشر سنوات أعقبت الاحتلال، وخصوصًا تفكيك الدولة والجيش، وتفاقم مشكلة الهوية والنزاعات المذهبية ‏والقومية، علاوةً على صعود الدور التركي، وتوسّع السيطرة الإيرانية، وتضاؤل الدور العراقي في الوقت نفسه. ‏والكتاب، بهذه الصيغة، هو خلاصة بحوث ومناقشات مستفيضة قُدّمت في مؤتمر علمي عقده المركز العربي ‏للأبحاث ودراسة السياسات عام 2013، محاولةً لفهم مقدّمات الحرب على العراق ومجرياتها وتفصيلاتها ‏وعقابيلها المستمرة حتى اليوم، وهو ما جعل العراق ساحة تصادمٍ إقليمية، وحوّله من بلد مرغوب فيه ‏بذاته إلى بلد يلعب اللاعبون فيه ألعابهم المتنافرة والمتعاكسة. ‏

ورَد هذا الكتاب الذي قدّم له الدكتور عزمي بشارة في أربعة أقسام. فالقسم الأول منها هو "العراق من الداخل: الدوافع الخارجية والتغيرات السياسية والمجتمعية من جراء الاحتلال"، وهو مُكوَّن من عشرة فصول رئيسية عن أطاريح تفكيك الدولة العراقية في أجندات المحافظين الجدد، ملقيًا الضوء خصوصًا على تصريحات مساعد وزير الدفاع الأميركي بول وولفويتز، والكيفية التي تمّ عدّ العراق من خلالها دولةً راعيةً للإرهاب، موضحًا أبعاد اللعبة السياسية التي أدخلها الاحتلال بهدف صنع دولة عراقية جديدة لا تمتُّ إلى جذورها الماضية بصلة، وأُدخِل عليها الكثير من الأفكار النيوليبرالية في الممارسة الاقتصادية التي أضرت بالاقتصاد العراقي كثيرًا، إضافةً إلى توضيح دوافع ما قبل الغزو وبعده، ودور كل من المليشيات المدعومة من الخارج والشركات الأمنية الخاصة في الأحداث التي عرفها العراق في مراحل الغزو وما بعده.

أمّا القسم الثاني من الكتاب "تداعيات الغزو على الوطن العربي"، فهو مُكوَّن من سبعة فصول تحدثت عن تداعيات الغزو على الخليج العربي، وعلى سورية، وعلى القضية الفلسطينية، وعلى منطقة الشرق الأوسط بأسرها، كما أشارت بعض فصول هذ القسم إلى أثر الغزو في صورة العرب في الغرب. وأمّا القسم الثالث من الكتاب "التداعيات الإقليمية والدولية للغزو"، المُكوَّن من سبعة فصول أيضًا، فهو يستعرض عدة قضايا، محورها الرئيس تداعيات الغزو على عدد من الدول من بينها إيران، ويقرأ الموقف الروسي من الغزو، كما يبحث مشاركة اليابان في التحالف، ويدرس تأثير الانسحاب الأميركي من العراق في أولويات الاهتمام الأميركي في العالم.


وأمّا القسم الرابع، فقد خصّص شهادات ورؤًى متعلّقةً بحرب العراق، وهو يتضمن شهادات مطّلعين على أوضاع الغزو وتداعياته فكانت شهادة ناجي صبري الحديثي وزير خارجية العراق حين الغزو، وشهادة هانز كريستوف غراف فون سبونيك، مساعد الأمين العامّ للأمم المتحدة المشرف على البرنامج الإنساني قبل الغزو، وهو الذي استقال من منصبه احتجاجًا على الاستهداف غير الإنساني للعراق قبل الغزو. إضافةً إلى شهادات كلّ من مؤيد الونداوي، الأكاديمي العراقي وأحد الناشطين في المسألة الإنسانية للعراق، ورعد الحمداني قائد فيلق الحرس الجمهوري الثاني، وكلير شورت وزيرة الدولة البريطانية السابقة في حكومة توني بلير، وجوناثان ستيل كبير مراسلي الغارديان إبان الغزو.

الخميس، 21 يناير 2016

بعد 55 عاما .. جواد سليم ونصب الحرية-إعداد: عادل كامل

بعد 55 عاما .. جواد سليم ونصب الحرية

وثائق وشهادات

إعداد: عادل كامل
      كالكثير من المشاريع المحكومة بالفشل، أهملت المؤسسات المعنية بالفن، وغير الفن، بالحفاظ على تراث جواد سليم، رغم الكثير من الجهود التي بذلت  بتحويل بيت الفنان إلى (متحف)، والحفاظ على ارثه، أثناء حياة سعاد ونزار ونزيهة، وباقي أفراد أسرته...، أو بعد رحيلهم...، فتناثرت تجاربه الفنية، ومقتنياته، وتوزعت، كما تعرض الجناح الخاص به ـ في مركز الفنون ـ بعد 2003، للنهب، والتلف، والضياع...
   لكن القليل من رسوماته، ومجسماته، لم تغب عن الذاكرة: الشجرة القتيلة، شعار الجمهورية، العلم العراقي، شعار مصلحة نقل الركاب، تصاميم العديد من الكتب، البنّاء، الأمومة، السجين السياسي، إضافة إلى بغدادياته ... الخ
   لكن (نصب الحرية) ـ الذي تعرض لمحاولات عديدة للهدم ـ امتلك اللغز ذاته الذي بحث عنه جواد سليم، ومكث يجد، يوما ً بعد آخر،  استجابة لا شعورية أولا ً، وفنية رمزية إبداعية ثانيا ً، من لدن الملايين التي وجدت فيه: علامة اجتمعت فيها عناصر الإبداع.
   إن جواد سليم نفسه لم يفكر ولم يطمح أن يكون أسطورة، رغم انه استثمر حداثات الفن الأوربي بمنحها سرها المشيد بالرهافة والخبرة، بل عمل على صياغة (علامة) استمد مكوناتها من أحلام أجيال غابت ومكثت تحلم أن تصنع مصيرها بالعمل ـ وبالحرية.
   وبعد مضي 55 عاما ً على إقامة نصب الحرية (1961)، في اكبر ساحات بغداد ـ الباب الشرقي ـ يكون جواد سليم حقق رسالته الفنية/ الأخلاقية/ والجمالية...، فصار النصب: علامة في مدينة، ومدينة في علامة. حتى بات من الصعب تخيل بغداد اليوم من غير نصب الحرية، أو تخّيل نصب بغداد من غير بغداد... فلقد أعاد جواد سليم ـ بعد قرون من الظلمات ـ للفن مكانته في الضمير ـ وفي الذاكرة، وفي المخيال الشعبي النبيل.
    في الوثائق/ الشهادات التالية، تؤكد أن نصب الحرية، ليس من الماضي...
    ولأن النصب، لم يكن علامة منفصلة عن تاريخ وادي الرافدين، وحضارته، فقد ترك أثره، منذ شيّد، في عدد كبير من الذين عاصروا نشأته، وحضوره الإبداعي كأحد رموز العراق الحديث. فالفن، كما تؤكد مدوّنات التاريخ، إن لم يستمد شرعيته من الضمير الاجتماعي، والثقافي، فانه لن يتحول إلى معمار روحي، والى أداه فعّالة في الخطاب المعرفي للشعب، ونخبه الإبداعية. وفي الشهادات، والنصوص التالية، إشارات تلقي الضوء، وقد استمدته من النصب تحديدا ً، حول مفهوم الهوية، وامتدادها، في عصر تصادم العلامات، ولكن، في إطار صيرورتها الخلاقة.


شهادات شارك فيها:
1 ـ  جبرا إبراهيم جبرا
2ـ عباس الصراف
3 ـ شاكر حسن آل سعيد
4 ـ إسماعيل الشيخلي
5 ـ د. شمس الدين فارس
6 ـ د. محمد صادق رحيم
7 ـ عدنان المبارك
8 ـ أ.د تيسير الآلوسي
9 ـ د. خالد القصاب
10 ـ عادل ناجي
11 ـ د. شوقي الموسوي
12 ـ   د.عبد الإله الصائغ


توق للحرية

   " وهذا النصب يتألف من أربعة عشر مجموعة من البرونز، في كل مجموعة منها عدة شخوص وينتشر على إفريز شاهق طوله خمسون مترا ً، وعلو منحوتاته ثمانية أمتار. فهو إذن من اكبر النصب في العالم، وهو أضخم نصب قام بعمله فنان عراقي منذ أكثر من (2500) سنة. ومع ذلك فقد أكمله في سنة ونصف! والسر في ذلك ولا ريب هو تاريخ تطور الفنان وما قام به من رسم ونحت طوال عشرين سنة من حياته، وما واكب من تاريخ قومي كان هو في الغمرة منه، مع انه ـ كما كان يردد ـلا تهمه السياسة في شيء. فالتاريخ القومي هنا عملية مخاض نفسي، أو عملية نمو وإيناع في تربة اكتشفت منذ حوالي خمسين سنة كوامن خصبها. (....) فعزم أولا ً على جعل منحوتاته على الغرار العراقي القديم ـ وهو النحت الناتئ، لا النحت المجسم. ثم أدرك ان عليه ان يجعل العمل كله حلا ً وسطا ً بين الأسلوب الذي يتوخاه الفنان لو كان عمله خاصا ً به وبين ما يتوقع منه الجمهور الذي ينظر إليه في ساحة كبرى. وإذ راح يرتب مجموعاته الأربع عشرة استدرج تجارب سنيه الطويلة وتراكمات الرؤى والرموز التي لم يتح له في الماضي ان يبلورها على مثل هذا النطاق ـ وراح يرتبها، فيما أراه أنا، على شكل بيت من الشعر يقرأ من اليمين إلى اليسار. فكل مجموعة هي فكرة قائمة بذاتها ولكنها تتصل الواحدة بالأخرى في سياق يؤلف المعنى الذي يعبر عنه النصب بأجمعه: توق العراق إلى الحرية منذ القدم، وتقديمه الضحايا في سبيلها، لكي ينعم أخيرا ً بالسكينة والازدهار والخلق."
جبرا إبراهيم جبرا
الرحلة الثامنة، بيروت، 1967 ص 188ـ 202


بين بوابة عشتار ونصب الحرية


    " البوابة مستطيلة طولها الأفقي خمسون مترا ً وعرضها العمودي ثمانية أمتار وسمكها متر واحد وترتفع عن الأرض خمسة أمتار، إنها جسر مرمري استند طرفاه على قاعدتين وبقي معلقا ً في الفضاء تاركا ً تحته ممرا ً واسعا ً يصل ساحة صاخبة بمتنزه هاديء بسيط.
   باب عشتار محدودة الفكر تروي مراسيم المواكب البابلية والجموع الوافدة على بابل مخترقة ذلك الدهليز المعتم ... وبوابة بغداد كونية كبيرة تحمل ملحمتها على ظهرها تروي للأجيال المتعاقبة صراع البشر مع أقدارهم.
  باب عشتار أنشودة يرددها التاريخ... وبوابة بغداد ملحمة تتحدث عن التاريخ.
   وباب عشتار ممر ضيق يوصل لمدينة سجينة داخل أسوار... وبوابة بغداد بساط شهرزاد السحري محلقاً في الفضاء.
   باب عشتار مظلمة رهيبة يعتليها حراس أشداء يسددون نبالهم وسهامهم للقادمين إليها وتحمل جدرانها حيوانات أسطورية مخيفة ... بوابة بغداد عارية مفتوحة ليل نهار بلا رقباء يعتلي تماثيلها الحمام الآمن فيكسبها حياة ووداعة واطمئنان.
   باب عشتار تلثمها الشمس سويعات من النهار... بوابة بغداد تعانق الشمس عند شروقها وتودعها عند الغروب، ولم يكن ذلك من قبيل الصدف بل قصده جواد وعناه فأراد ان يبعث الحياة في ملحمته فوضعها في خط مسيرة الشمس حيث تطول الظلال وتقصر فتكون الأشكال في حركة دائبة لأنها تستجيب لكل لمحة من الضوء المتغير، وإذا دجى الليل ونشرت المصابيح أنوارها الشاحبة على تلك الهياكل توقف الزمن وتسمرت دون حراك، فترقد في جمود حتى بزوغ صباح جديد، إنها دورة الزمن الأبدية"
عباس الصراف
[جواد سليم] وزارة الإعلام ـ بغداد 1972 ص137 ـ 138


التجاوز
   " هذا هو أخيرا ً إذن مبدأ (التجاوز) لدى الفنان وقد تقمص كل ذاكرة محاوره. فنصب الحرية محفوف بمخاطر الوقوع في رتابة (التخلف) اذا لم يقترح منذ البداية كل هذه الإمكانيات الواسعة للخروج عن ارض (الذاتية): ذاتية الركون إلى (دغوماتية) التفسير. وجواد سليم يحقق تجاوزه الذاتي في (الرمز) ولكن ضد (المتناقض) الذي ينشد اللا ـ تناقض أو وحدة التعاقب فهناك ما يسمى عادة (بالانقطاع)، وهو ما سينشد بدوره (اللا انقطاع). ان (الانقطاع) في نصب الحرية هو (قدر) الميثولوجي: فما لم يدرك المشاهد ان ثمة لا منطق معين في العلاقات بين الأشياء وأشياء الأشياء سوى تلك النفحة الرقيقة بروائحها الطيبة: روائح الانجاز الجميل فلا (شخصية مركبة). أي ان ما أنجزه جواد سليم بوضوح في رسومه في الخمسينيات (1953) يطالعنا الآن في نحوته الستينية (1961). وهو أكثر أصولية (في علم الأصول) في جوهره. فنحن أبدا ً بإزاء عمل فني يمتزج فيه الرسم بالنحت، بالموسيقى، وبالفن المعماري ـ كما يمتزج فيه الطبيعي بالثقافي وما يخص الفنان وما يخص الجمهور بل وما هو مستقل في إطار (شيئية) الوجود. فمبدأ (التجاوز) في جميع الأحوال إذن يتقمص هذه الأشكال النحتية الهائلة، أي في ان نعيد النظر مجددا ً في كل مرة لما نراه. فليس نصب الحرية إذن هو هذه المساحات والكتل المحددة من البرونز. ذلك لأنه أيضا ً تلك النوبات المرضية والانهيارات النفسية التي مر بها جواد سليم أثناء انجازه لبدايات عمله.. (....) أيكون إذن موته المفاجئ جزءا ً من عمله هذا وهو في صيرورته المستقبلية ؟هنا نستفيق من سبات عميق على حقيقة  ان استمرار العمل الفني بعد موت الفنان هو أيضا ً جزء من سيرورته الجنينية قبل ولادته. فإذا كانت جهود الإنسان تختصر في (زحزحة) الطبيعي إلى ثقافي فان جهود الإنسان الخلقي هي التي اختصرت وستختصر (زحزحة) الثقافي إلى ما فوق الثقافي."
شاكر حسن آل سعيد
[جواد سليم ـ الفنان والآخرون] دار الشؤون الثقافية العامة ـ بغداد 1991 ص206


انجاز كبير

[ إن نصب الحرية يعد بحق من اكبر الأعمال وأعظمها في النحت المعاصر، حيث حقق جواد في هذا الانجاز الرائع كل ما كان يصبو إليه من قيم فنية لذا فإننا نرى فيه خلاصة ما كان يريد ان يقوله ويعبر عنه منذ ان تأثر بفنون وادي الرافدين ودراسته في باريس مع أستاذه (جانيو) الذي يعد من اكبر فناني النحوت البارزة في فرنسا. ودراسته في كل من روما ولندن بعدئذ حتى انتهت به هذه المسيرة القصيرة من عمره الفني بهذا الانجاز الكبير. يبقى جواد فنانا ً عراقيا ً أصيلا ً ومبدعا ً فتح آفاقا ً رحبة وواسعة أمام الكثير من زملائه وأصدقائه وطلابه في البحث والاستقصاء وإنارة الطريق لهم، وعلى الأخص في استلهام تراث الأمة وتاريخها في إطار من القيم المعاصرة والرؤية المتقدمة وبإعماله تلك دفع عجلة الفن العراقي إلى أمام في فترة كانت تعج في أرواح الشباب المتطلع للمستقبل، ثورة وجدانية وفكرية وسياسية هدفها السير بالوطن والأمة نحو التقدم والدخول إلى معالم الحضارة الإنسانية الحديثة"
إسماعيل الشيخلي
مجلة الرواق ـ وزارة الثقافة ـ بغداد العدد(14) 1983


تعبيرية النصب وجمالياته

   " شيد هذا النصب في ساحة مركزية ذات الحركة الدائرية والتي تلتقي بها ستة شوارع رئيسة. فبصورة جيدة يستطيع المشاهد ان ينظر إلى هذا النصب من أية نقطة في الساحة. فبهذا نستطيع ان نشير إلى ان مكان النصب اختير ايجابيا ً تحقق من خلاله التعامل الصحيح مع المجموعات المعمارية المحيطة به.
     وقد طرح الفنان مضمون هذه الملحمة بشكل قصصي ديناميكي من خلال تقصيه لبعض القيم الجمالية لفن وادي الرافدين القديم، وقد سبكها بروح معاصرة مكونا ً من ذلك خاصية ما تميز به النصب بهيأته التكوينية العامة. ومن خلال ذلك استطاع الفنان ان يتوصل إلى صياغة بلاستيكية موحدة ذات لغة تشكيلية معاصرة تعبر عن واقع موضوعي تحسه جماهير شعبه..."
    " فبغض النظر من ان التكوين الفني للإفريز متكون من أجزاء مركبة من قطع برونزية مخرمة وزعت على الخلفية البيضاء ببروزات متفاوتة فان الفنان استطاع ان يجد بثبات الحركات البلاستكية والانسجام اللوني العام للنصب. ومن الناحية الأخرى فان الفنان استند على بعض القيم الجمالية اللونية للرليف  البابلي لكن جواد لم يعتمد على التراث من خلال المحاكاة وإنما من خلال تقصيه للقيم الجمالية التي أدركها الفنان البابلي. فالفنان جواد لم يستعمل الألوان كما استعملها الفنان البابلي في طلي رليفاته وإنما استطاع ان ينظم الإيقاعات اللونية من الألوان الطبيعية للمواد التي استعملها في بناء هذا النصب من حجر ابيض وبرونز. فالكتل البرونزية ثبتت على الخلفية البيضاء بتفاوت لذلك تكونت ظلال مختلفة تفاوتت درجاتها اللونية وشاركت هذه الظلال مشاركة مباشرة تكوينا ً مع الكتل الأصلية. استطاع الفنان هنا ان يستخلص هارموني بين الألوان الطبيعية للمواد ودرجات الظل والنور المختلفة، وذلك بالحصول على تكوين بلاستيكي عام يعطي قوة تعبيرية ديناميكية للنصب المعماري مع القطع البرونزية الضخمة المتكونة منها شخصيات النصب. فأيادي المناضلين الضخمة والتي تعبر عن الألم والإصرار على النضال جسد فيها الفنان كره الشعب للاضطهاد. ان هذه الشخصيات العملاقة يرمز بها الفنان إلى الشعب البطل المناضل ضد الجوع والفقر. الملاحظ في هذا النصب ان الفنان أجرى عمليات اختزال لبعض الأجزاء وذلك لكي يستطيع ان يؤكد على الأجزاء المهمة التي تبرز من خلالها قوة تعبيرية أقوى، وهذه إحدى الصفات المهمة التي تميز بها الفن السومري القديم."
د. شمس الدين فارس
               [المنابع التاريخية للفن ألجداري في العراق المعاصر] وزارة الإعلام ـ السلسلة الفنية (24) بغداد ـ 1974  ص52 وما بعدها


سيمفونية
    " نصب الحرية في الباب الشرقي لبغداد هو ختم اسطواني سومري مكبر من حيث فكرته , أما اذا أردنا تشبيهه بلافتة في تظاهرة كما يرى مصمم بناؤه وقاعدته (رفعت الجادرجي ) فسنقع بركاكة تجربتنا للشعور بفشل التصميم عموما . إذا أخذنا أي ختم اسطواني سومري ومررناه على لوح من الطين فسنحصل على نحت بارز مستطيل مؤلف من الشخوص والحيوانات والرموز يشبه إلى حد بعيد نصب الحرية هذا هو الذي منح نصب الحرية مشروعيته وأصالته العراقية .. عند النظر إلى النصب من اليمين إلى اليسار نرى كتلة نحتية يتبعها فراغ ثم كتلة نحتية أخرى  وهكذا ...ان هذا الارتفاع والهبوط يفتح آذاننا إلى صوت الطبلة الغجرية العراقية المتفردة من بعيد فهو صوت وفراغ ثم صوت ففراغ، ان هذه الحركة والتوقف والارتفاع والهبوط تجعلنا قادرين على اخذ أي جزء من الملحمة ومعاملته كعمل فني نحتي مستقل , لكن هذا لم يؤثر إطلاقا على النسق الفني التام والعلاقة الوطيدة بين كل أجزاء الملحمة عند النظر إليها كاملة مرة واحدة .. لقد حقق جواد سليم ذلك بقدرة فنية عالية , حيث سلم أجساد شخوصه بعظام غير مرئية عملت كمساند داخلية تعطي حركة وشكلا يميز كل المشخصات بصفة مشتركة تبعث الشعور بذلك النسق الفني المشترك العالي الذي نراه في النصب اليوم . ولهذا نستطيع النظر إلى النصب كاملا لنجد كل جزء فيه يكمل ويغني الآخر بجانبه في تكوين متماسك صلد . كذلك اذا توقفنا أمام نصب الحرية في بغداد لمسافة عدة أمتار عنه، ونسينا لدقيقة واحدة السياج القبيح في الأسفل والروائح الكريهة التي تخدش شمنا لغرقنا في شعور من الرغبة في التحرك والارتفاع والمشي بين شخوص المنحوتة ,, إنها أشكال درامية تحكي قصصا تدعونا إلى لمسها والحركة معها."
  د. محمد صادق رحيم
مجلة الثقافة الجديدة ـ العدد 292


جواد... جواد ... جواد ...

شمس بابل وقباب بغداد ونساء حماماتها
فتح لها كل الشبابيك هذا القادم من درب تبّانة
حين هبط في الرصافة.
كان قد رسم على جدران الزقاق المجاور
الأهلّة والنارجيلات ومويجات دجلة النزقة.
ثم راح الى امرأتنا البغدادية.
رسم هالات ضوء تنبض في الوجه.
جرّاوية الأسطه أراد وضعها على رأس انكيدو،
وانتزاع السهم من صدر اللبوءة.
عمل استراحة  تذكارية ،
وجلس مترنما مع الجالغي والمقام.
أمامه جاي سنكين ،
وفي الفم جكارة مزبّنة ،
وفي الرأس
بضع حكايات من شهرزاد
راح يستمع اليها الواسطي أيضا ،
رغم أنه دخل من زمان ، رواق المقامات
وأولئك الرجال والخيول
 والجدران التي أضاعت  جغرافيتها.
رفع ابن سليم فوق بغداده لافتة من رخام
أضاءتها شمسان -
كونية وتلك البابلية التي كانت قد شبّت في قلبه
 وطافت في كل أزقتنا القديمة.
أما دجلته فوصلت منعطف الزوّية
وهي تردد بحزن شفيف :
جواد ... جواد... جواد...

عدنان المبارك
باندهولم 26-  أيلول 2013


نصب الحرية ببغداد الرمز التكويني الأكثر غنى بين النصب المثيلة عالميا


     منذ لحظة الاشتغال الإجرائي وتجسيد القيم الإبداعية فيه، كان نصب الحرية في بغداد حالة استثنائية وسط غرابة ما تكتنفه المراحل التي مرّت عليه. صحيح أنّ ولادة النصب جاءت مع ثورة 14 تموز التي عبرت عن انعتاق الشعب من بنية مجتمعية شبه إقطاعية ومن حالات التخلف والجهل، إلا أن النصب يوحي لك بأنه قبس من سومريات الحضارة التي شيدت على ضفاف الشطآن الملأى بأمواه الخلق الأولى. أنت تتطلع ممعنا في النصب فتجد تلخيصا لأسطورة الخلق ولأساطير الإنسان السومري يبني وجوده بحكمة عقل متمدن، وبأذرع سمر ارتفعت فضاءاتها مشرعة كصواري السفائن التي تمخر عباب العواصف المتلاطمة وتنتصر عليها منعتقة من أسرها، متحررة من قيودها.. وإذا كان النصب يتميز عن إبداعات أخرى بذات العنوان كونه يقدم كينونته بانوراميا بحكاية أسطورية لمسيرة شعب لم يقبل لنفسه إلا أن يكون مهد حضارة البشرية الأمر الذي ارتقى بوعيه عاليا ليرفض أن يحيا بعبودية لعنف لحظة من الزمن قد تكون استغلت ظرفا لتحاول استعباده لكنها تفشل أمام إرادة من نيران الثورة والثوار يحطمون السلاسل والقيود.. إنّ هذه الميزة ليست ميزة مضمونية كأنها فكرة صماء بلا أدوات تقديم وعرض.. إنها ميزة تميز النصب في بغداد عنه في كل بقاع الدنيا بكونه ملحمة تشكيلية استثنائية لا تتكرر. من هنا صار هذا النصب قيمة جمالية بخصوصية محلية وبأجنحة تنشر مداها على مدى الفضاء الإنساني.. الأمر الذي يحول نصب الحرية ببغداد إلى رمز مفتوح للحرية لا تستطيع حدود أو جغرافيا أن تأسره. وهذا يعني لطلبة الفنون التشكيلية ولعلم الجمال إيقونة ودرسا خالدا سيبقى الفنانون يبحثون عن لحظة للفرجة واللقاء ليتمعنوا في عطاءات بلا حدود، عن دروس بلا منتهى، عن قيم متجددة تعايش الأزمنة والمراحل في كل مرة تثور على معطى المرة السابقة بجديد قراءة في عين مبدع أو عالم للجمالية...إن للعراقيين فخرهم في نصب الحرية كونه ينبوع عطاء ومنهلا مازال يمنح الحياة لقيم الحرية والانعتاق ويثير فيهم قيم الثورة وسيبقى الملتقى الجمالي والفكري الاجتماعي الذي تلتئم حوله الأنشطة بخاصة منها تلك التي تتحدث باسم المقدس الاجتماعي، المعبر عن الصوت الجمعي  الهادر للشعب الذي يأبى إلا أن يتجه في دروب الحرية لأنها دروب السلم والتقدم والحياة حرة كريمة.. ذلكم هو نصب الحرية في ساحة التحرير في العاصمة العراقية بغداد.. ذلكم هو ملخص كل نصب الحرية في العالم وهو ملتقاهم وموئل الدلالات الحافة لنصب الحرية بمختلف العواصم...


 أ.د. تيسير عبد الجبار الآلوسي
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا


السيمفونية

في شهر كانون الثاني 1961م، أصيب جواد سليم بنوبة قلبية مرة أخرى، وكان قد أصيب بنوبات متعددة أثناء دراسته في انكلترا وفي ايطاليا، عندما كان مرهقا بعمل نصب الحرية لثورة 14 تموز 1958م، واذكر انه شكا لي من الم في صدره ونحن في سيارتي قاصدين مطعم (الباجة) في شارع الشيخ عمر بعد منتصف الليل.
ادخل جواد بصورة مستعجلة إلى الردهة الثامنة في المستشفى الجمهوري، ولازمته هناك مع الدكتور سالم الدملوجي (صديقنا الحميم وأستاذ الأمراض الباطنية في وقت لاحق). وأجريت له كل ما تطلبه حالته، وكانت زوجته (لورنا) تلازمه طيلة الوقت.
غطوا وجهه الشاحب بقناع الأوكسجين وربطوه بأنابيب طبية متعددة. تحسن وضعه في الأيام الأولى لكنه أصيب بنوبة قلبية ثانية فجلل العرق وجهه ونزل ضغطه وبدا عليه صعوبة في التنفس وعطش للأوكسجين مع حالة من هذيان يصاحب عادة هذه الحالات. قال لزوجته: (تصوري إني أراك الآن ملاكاً .. تصوري أنت لورنا ملاك). ثم علت وجهه ابتسامة ساخرة اختفت فجأة وجمدت عيناه فتوقف كل شيء.
أصابنا الوجوم أنا وسالم ولورنا، ففصلتُ عنه أنابيب الأوكسجين والتغذية وهو بلا حراك، مات جواد ولم يتجاوز عمره اثنين وأربعين عاماً.
وانتقل بذاكرتي إلى غرفة الأموات المظلمة في المستشفى، وجسد جواد مسجى على منضدة (البورسلين) الأبيض، سال من الأعلى خيط نور صغير ليخترق الظلمة ويسقط فوق وجه جواد الشاحب.
وفي ركن الغرفة تجمعت ظلال الأصدقاء تبكي المشهد الكئيب: حافظ الدروبي وإسماعيل الشيخلي وسعد شاكر ومحمد عبد الوهاب وباهر فائق وسالم الدملوجي وخالد القصاب. وانبرى النحات خالد الرحال يخفق بيده عجينة (البلاستر) يغطي بها وجه جواد ولحيته ليعمل منها قناعاً لوجهه والدموع تنهمر من عينيه، تكسر القناع عدة مرات لرداءة المسحوق، فأسرع سعد شاكر في الذهاب إلى معهد الفنون الجميلة لجلب مسحوق بديل، فأعاد الرحال عمل القناع مرة أخرى، وهنا أطلق باهر فائق صرخة من قلب الظلام: (خالد لاتخنق جواد)، وانخرط الجميع بالبكاء.
توفي جواد صبيحة يوم 23 كانون الثاني 1961م، وشُيع جثمانه بعد الظهر من معهد الفنون الجميلة في الكسرة بجمع مهيب إلى مثواه الأخير في مقبرة الاعظمية. ركب إلى جانبه بالقرب من التابوت في السيارة التي تحمل النعش فائق حسن واخو جواد سعاد سليم وإسماعيل الشيخلي وفرج عبو.
وسار خلف السيارة مشياً على الأقدام عميد معهد الفنون الجميلة وأساتذته والشاعر محمد مهدي الجواهري والفنانون وطلاب المعهد. وكان شكري المفتي معاون عميد المعهد قد اتصل بشباب الاعظمية لاستقبال الموكب استقبالاً يليق بما يستحقه من احترام.
غابت الشمس الحمراء خلف الأفق، وبقي لحن الكيتار الأخير من أغاني الفلامنكو الحزينة التي كان يعزفها جواد يرن طرياً في أذني، لم يذو مع السنين بل ظل يحكي لي قصة عبقرية نادرة انتهت بعد عمر قصير، ذهبت ولم تعود.
د.خالد القصاب

  العبقرية والأصالة في فن جواد سليم

   تنتابني الرهبة حين أتطلع في نصب الحرية في ساحة التحرير ببغداد ،واسأل نفسي يا ترى كيف بَنت عبقرية جواد سليم هذا الإنشاء النحتي العظيم الذي لا يضاهيه أي نصب رأيته في جميع تنقلاتي وسفرياتي ؟
لو نأخذ كل قطعة على حدة ونفتش بما فيها سنجد ان هناك تكوينات ومحاكاة مدروسة بإتقان شديد وكأن جواد سليم كان يريد ان يقول لنفسه وللتاريخ "سأجعل من هذا النصب العملاق لا مثيل له في الدنيا . وسأجعل منه سيمفونية خالدة كمسلة حمورابي ، ولم لا وأنا عراقي؟ ووطني فيه من كنوز الفن ما يعادل حضارات كاملة" اجزم ان جواد كان يدردش مع نفسه هذه العبارات وهو يضع السكيتشات ( المسودات ) أمامه ويحذف ويضيف ثم يدون ما يجب عمله..ثم يتخيل كيف يكون النصب وكيف ستكون رفع الستارة عن هذا النصب العملاق... جواد كان يحلم وينتشي بتلك الأحلام التي أصبحت حقيقة ، بل أحلامه أصبحت تاريخ خالد.
ولد جواد سليم سنة 1919 في أنقرة- تركيا حيث كان أبوه ضابط متجند في الجيش العثماني. كان الأب هاويا للرسم ويمارس هوايته عند الفراغ . نشأ جواد في تلك البيئة العائلية المحبة للفن فكانت أمه تمارس الفنون اليدوية، و للفنان جواد سليم اخوين سعاد ونزار وهما أيضا فنانان مرموقان في الوسط الفني العراقي، وأخت واحده اسمها نزيه وهي فنانة ومدرسة لفن الزخرفة والديكور في معهد الفنون الجميلة، وقد درستني عام 1965 و1966 حين كنت طالبا في المعهد وكانت علاقتي جيدة جدا معها . انا هنا أتذكر إنها أخذتني إلى بيتها مرتين و (كان موقعه قريب من المعهد ) للمساعدة بنقل بعض الحاجيات الفنية التي كنا نستخدمها نحن الطلبة في دراستنا الفنية، وكان هو نفس البيت الذي عاش فيه أخوها جواد سليم .كانت تلك هي فرصتي التي شاهدت فيها الأستوديو الخاص بجواد وهو بسيط ومتواضع وصغير على ما أتذكره الآن وفيه بعض معدات الفنان التي كان يستعملها .
لقد كانت والدة جواد الدافع الأول في نشأة فنانا العظيم ، فلقد شجعت ابنها على ان ينشأ بين الطين والشمع لصناعة التماثيل الفطرية التي يتلهي بها كل طفل لقضاء وقته بسعادة.
تأثر فناننا الراحل بالفن القديم لحضارات وادي الرافدين ابتداء من الفن السومري حتى الفن الأشوري وهذا ما يظهر جليا في قوة الإنسان العراقي المحطم للقيود في نصبه العملاق نصب الحرية. كما تأثر جواد سليم بالفن الإسلامي وخاصة فن الواسطي .
ان نصب الحرية هو بالحقيقة السيمفونية الأسطورية للفن العراقي المعاصر .فلقد غاص المايسترو جواد سليم في أعماق التاريخ السومري والاكدي والبابلي والآشوري حيث الأنغام الانسيابية والحس المرهف والقوة التي بنى عليها العراق حضاراته المتتالية.
كتب فنانا الراحل ما يلي عن نصب الحرية :"إنني في الوقت الذي أدعو فيه لخلق الفن العراقي الصميم أود القول باني لا أروم تحنيط العقول وتقييد الأفكار المتحررة، إنما أريد النظرة والانطباعة ". أما النظرة فهي ان نرى اللوحة بسذاجتنا وبباصرة أجسامنا، وأما الانطباعة فهي ان نراها بعقولنا وبباصرة تفكيرنا. فأنا مثلا عندما اعرض ما ارسمه على خادمتنا الصغيرة تفهم ان هذا التخطيط لقطة وذلك ( الاسكيتش) لرجل و الثالث لكمنجة هكذا ...وأنا في الوقت ذاته عندما اعرض هذه اللوحات نفسها على شخص تقمص روحية المثقف لما فهم منها إلا الشيء غير الموجود فيها. مرجع هذا ان الصغيرة نظرت لهذه اللوحة بسليقتها وبفطرتها ، أما المثقف فقد شاهدها ببصيرته المفكرة وأفقه الثقافي.
ويضيف في مذكراته أيضا حول نصب الحرية وهو يشبهه بالسيمفونية ويقول : " إنني كثيرا ما امثل دور النحات بالمؤلف الموسيقي . والمؤلف الموسيقي لايمكن ان يؤلف سيمفونية أو أوبرا الا بطلب حكومي او طلب إحدى الجمعيات الكبيرة، كذلك النحات لا يمكن ان يعمل غالبا إلا للحكومة او للجمعيات. وتشابه القطعة الموسيقية رسالتها النصب الموضوع في إحدى الميادين الذي يعطي فكرة نبيلة عالية لكل سائر".
وهنا اسرد ما ذكره الكاتب عباس الصراف في كتابه الشهير جواد سليم وهو يصف فيه قصة نصب الحرية:
" فرحلتنا الأولي قصيرة... زمانها عشرات السنين من القرن العشرين ،ومكانها ارض الرافدين ، وأحداثها صراع الشعب العراقي مع المغتصب وأعوانه، تبدأ بثورة العشرين، ثورة الفلاحين العراة إلا من أسمال تسترهم ، والجياع إلا من كسرة خبز تسد رمقهم . طال الصبر بهم فتجهمت وجوههم ، وعلاهم الغضب فسددوا نظراتهم بشزر . ديست كرامتهم فانتفضوا ثائرين على خيولهم الجامحة. زوبعة لولبية في بداية النصب قوامها حصان التف بجيده للوراء ورجل التوى ظهره يساند ذلك الحصان ،وقد ارتدى زي الفلاح العراقي، ثم يقابلهما رجلان مسك كل منهما بزمام، واندفعا بحركة مضادة عنيفة، ثم ذلك المحور الثابت الذي توسط تلك الزوبعة متمثلا بذلك الثائر الذي رفع يديه المقيدتين إلى الأعلى بقوة وشموخ محاولا ان يحطم بقيوده شيئا ما. عاصفة هادرة هبت من الريف لتوقظ المدينة فكان لها ما أرادت. فاندفعت الجموع برجالها ونسائها وحتى أطفالها بمظاهرات صاخبة وهتافات غاضبة ترفع اللافتات الصارخة متمثلة بتلك القطع التي علت أيدي الفتى والفتاة. وتتوسع رقعة المعركة وتتلاحم الجماهير فيضطرب الحكام وتحسسون مواقعهم المنهارة فيتشبثون بأقسى الأساليب وأشرس الوسائل في سبيل البقاء فتسقط الضحايا وتنصب المشانق وتمتلئ السجون، ولكن اليأس لم يعرف طريقه الى النفوس فالشعب يستعد بعد كل انتكاسة لجولة أخرى. وهكذا خاض الشعب مظاهرات وانتفاضات ووثبات توجها بثورة الرابع عشر من تموز بقيادة الجيش العراقي متمثلا بذلك الجندي الصارم الذي حطم قضبان ذلك السجن الكبير فأشرقت شمس تموز بقرصها المنير".
بقي ان نعرف ان بوابة ذلك النصب الذي وضعت عليه سيمفونية الخلود لفناننا الراحل جواد سليم هي من تصميم المهندس المعماري العراقي ذو الحس الفني رفعت الجادرجي. وقد شيدت من الاسمنت المسلح وغلفت من أجود أنواع المرمر المستورد من ايطاليا لكي تقف شامختا ضد العواصف والمؤثرات الجوية. ان عمليات صب القطع البرنزية عملت جميعها في ايطاليا وشحنت إلى العراق. و بقي ان نعرف أيضا ان قياس هذه البوابة المستطيلة الشكل يبلغ 50 مترا ويبلغ ارتفاعها 5 أمتار.
وأخيرا لا بد ان نتذكر ان جواد سليم قد صمم شعار الجمهورية العراقية بعد ثورة 14 تموز وقد أدخلت اللجنة المشرفة عليه بعض التعديلات ،وصمم شعار مصلحة نقل الركاب مقابل ( 15 دينار!) وصمم واجهة المصرف الزراعي عام 1953 بنحت بارز ( ريليف) تمثل الإنسان والأرض. عمل رئيس قسم للنحت في معهد الفنون الجميلة وتتلمذ على يديه خيرة النحاتين العراقيين البارزين ومنهم : محمد غني ،خالد الرحال ، محمد الحسني وهو أستاذي ، وميران السعدي ودرسني النحت أيضا في معهد الفنون وإسماعيل فتاح وطالب مكي وهو زميلي في مجلة مجلتي وجريدة المزمار وكان رئيس الرسامين في المجلة وعيدان الشيخلي ونداء كاظم وعبد الجبار ألبنا.

عادل ناجي
ألذات والامتداد : نصب الحرية

    ان محاولة الفنان العراقي اعتماد الحياة الباطنية الروحية في الإبداع ، هي مثال للديمومة التي تقر ضمناً مبدأ الحرية ، المُشتغل في حياة الصورة الفنية ، دون الاستغناء عن حياة الخارج ... فقد احتوت نتاجات الفنان " جواد سليم "  في النحت والرسم  ، على طاقات التعبير الخاصة بالجسد الأنثوي الخصوبي، الذي اعتبره الفنان رمز لمعنى هذا الوجود الخليقي مما فيه من إشارات للمثال وتعددية في القيم الجمالية والفكرية والحضارية ..؛ فمن خلال تخطيطاته التحضيرية نُلاحظ ان الفنان يمجد النزعة التعبيرية للكلمة والصوت والصورة لصالح الجوهر، لتستوعب مجريات الكيان الاجتماعي في المشهد الفني المشفـّر بالممارسات الإيمائية ؛ بمعنى انه كان مقتنعاً بالوظيفة الاجتماعية والثقافية لفنه ، وعلى وجه الخصوص في عمله الفني الرائع ملحمة (( نصب الحرية )) بتكويناته الاسطورية المُغلفة بالحداثة والذي اصطحبنا معه كالسندباد نحو الحريات ، يُترجم لنا زماننا ، ليسحبنا بعد حين بروحيته الشفافة ، نحو تأملات الصمت والأسئلة النبيلة التي تنتج الهوية ..؛ حيث صور الفنان في هذا النصب عذابات الجسد المنتصر في رحلة البحث عن الحرية ، وفق رؤيته الذاتية الحدسية ،المُشتغلة على الجدل والجدلية بين ثنائيات الوجود ( الأرض والسماء – الجسد والروح – المرأة والرجل – الأسود والأبيض – الحياة والموت ...) ، ابتداءأً من منحوتة الحصان الجامح المعبر عن  يقظة الإنسان المتطلع إلى الآتي ، ومنحوتة الأبطال الثائرين وهم في حركة هائجة باتجاه مركز ثقل العمل الفني ، بجانب الطفل الذي رمز له الفنان بالأمل ، مروراً بالأجساد المتهالكة التي تمثل  الضحايا ( الباكية – الشهيد – الام الولود – السجين السياسي..)  التي مهدت السبيل إلى الحرية المنتظرة ، وصولاً إلى فكرة السلام المنشود .    هذه الجدلية المتصاعدة والمحتفظة بجماليات المكان المتخيل ، قد جعلت المشهد  مُمتليء  بالقيم الإنسانية النبيلة والرموز الفكرية ذات المرجعيات الحضارية ، بجانب امتلاكه لحضوره الثقافي المشروع على صفحات التشكيل العراقي المُعاصر ، فقد صورت الاجساد المتراكبة ( الفتاة – الشهيد – الجندي – الثور – الشجرة – قرص الشمس ...) باسلوب بانورامي يعتمد التسطيح والتحوير لأجزاء المشهد لإحالتها إلى أشكال هلالية متنوعة ومتنامية حركياً عبر التفاعل المتصاعد ما بين المركز والأطراف ... فالفنان جواد مرتبط – على حد قول الأستاذ شاكر حسن آل سعيد – بالعقل الرياضي السومري الذي توصل إلى توطيد العلاقة مع  الحركة المحيطة بالسكون المركزي لأسباب خليقية تأملية بحته .
       فقد كانت لهيمنة الجسد المقدّس ، المستعير لخصائصه الفنية من مملكة الوجود في مشهد النصب ، قد أحدثت تحولاً فكرياً وجمالياً وأدائياً نحو الداخل ، بعد ان  كان الفن سابقاً موجه باتجاه الخارج (النموذج) ؛ اذ طرحت هذه المنحوتات ملامح وعي تشكيلي غير مطابق لايقونية الجسد .. فالجسد هُنا  قد استحضر الثقافة وصار يقود الذات باتجاه الحركة الكونية ، فلم يعد الجمال الحقيقي مُقتصراً على ظاهرية المرئي (الجسد) وإنما تعداه نحو الأعماق (الروح) ، لتكون وظيفة الجسد – على حد تعبير افلاطون – إيقاظ الحب ، الطاقة الكامنة فيه تبعث في الروح قوة مُحركة تسمو إلى المثال ؛ على اعتبار أن الجسد وإحالاته المُشفرّة بالحركة ضرورة داخلية لترجمة ما لم يُترجم .. فالفنان قد استعان بهذا الجسد من أجل الارتقاء بالمرئي إلى مديات بلا حافات ؛ بوصف إن الجميل لا يُرى إلا عندما يتموضع في جسدٍ ما .

     فموضوعة الجسد لدى جواد ، قد أصبحت تمثل نقطة تحول وارتكاز رياضي في فنه أولاً وثانياً في تاريخ الحركة التشكيلية العراقي المعاصرة ، تجعل من ألذات والخيال وجوداً حقيقياً يمتلك جوهر المرئيات قبل الولوج في تمظهراتها الجزئية ...؛ لان فكرة المرئي – على حد تعبير غوغان – هي التي تجعل الجسد ملائماً للرسم والذاكرة لا تحتفظ بكل التفاصيل الجزئية ، بل ما يُثير الروح والقلب فقط .. ومن هنا نلاحظ أن التكوينات الجسدية المتهالكة في هذا النصب ، تنتمي إلى الرمز أكثر من انتمائها إلى المكان ، كونها أطياف كُتب لها البقاء والحضور .
د. شوقي الموسوي

نصب الحرية لافتة

يا جسداً يحتضن الساعةَ أعراسَ الدم ...
ويصفِّقُ للشجرِ الراكضِ في الدرب إلينا ...
الليلةَ يُبعثُ كلُّ الشهداء ...
ينتظمون كراديساً سكرى تتلألأُ في الليل ...
يَطْلُونَ رؤوسهمو المصدوعةَ للذكرى ...
للشطِّ يغنون ... للسلم يغنون
للجبلِ العاصب غيماً بالعطر يغنون
للهور يغنيه بالمطبج
يكظم حيفا إذ يدبك يا اولاد الطاعون
سرّاق الماعون للهور استبدل بالقصب الخاوي
اغصان الزيتون يغنون
 يغنون ...
هشَّتْ في التحرير صدورٌ ...
همدت للنكرات قصور غرقى بالأفيون  ...
الشهداء الشهداء ...
الشهداء انطلقوا صخبين ...
حملوا نصب الحرية لافتة طافوا بشوارع بغداد البصرة اربيل الموصل
 صخبين يغنون ...
يافَرَحَ المنسيِّ أتيت ...
كلُّ جرار مدينتنا رشحت لهبا ...
صارت اسرابُ حمام الزاجل قوساً للنصر ...
والسحبُ السوداءُ شعاراً ثوريا ...
القاتل مقتول والسارق ملعون
فانفجر الإسفلتُ شموعا ...
والفرح المبهورُ دموعا ...
قل رائحة المسلخ تنأى ...
قل حافلة الموتى تنأى ...
وتعال نغن
أشهد أن العشق سلام ...
أشهد أن الموت سلام ...
اشهد أن اليوم القادم أحلى الأيام

  د.عبد الإله الصائغ

* من ديوان هاكم فرح الدماء  1974.