تشكيل
في تجربة عبد الكريم خليل النحتية
دلالة الطين وجمالياته
مؤيد داود البصام
يمتاز فن النحت عن الفنون التشكيلية الاخرى باستثناء بعض الاعمال الخزفية، باسلوب تجسيد الاشياء بابعادها الثلاثة، وهو ما يتطلب مهارة فائقة تتواشج مع نسق البناء المعماري ،لان الحجم يتأثر في فن النحت بالغرض الوظيفي، ان لم يكن عامله الوحيد، اضافة الى ان النحت يمنح الفنان حساً فنياً عالياً باللمس، وترتكز هذه الحساسية لدى الفنان عندما يشتغل بمادة الطين خصوصاً والسؤال الذي يتبادر للذهن ،هل يتمكن النحات من التعبير عن اللحظة الجمالية بالابعاد المتعددة المتجسدة؟ عكس ما تنتجه اللوحة المسطحة واللون والخط والحس البصري وتراقص الالوان امام الفنان من دون ان يتحرك حول العمل، الا باتجاهه البصري المستقيم او بتحريك رأسه يميناً او يساراً او يتراجع خطوات للخلف، لرؤية المنظور او التناسق العام والتوازن في اللوحة.
ان النحات فنان ذو قدرات انبهارية وليست انفعالية مستديمة، فهو ينبهر بالفكرة ويتفاعل معها، قبل ان يجعلها واقعا، لهذا من الصعب اجترار تجربة الرسام على النحات، بالرغم من تحكم الفرشاة بنقل التعبير والانفعال وهي المسافة التي تباعد بين الرسام واللوحة في العلاقة الحميمية وحاول بعض الفنانين الحداثويين من تجاوزها بالرسم بالاصابع والكف في لحظة الانفعال، بينما ظل الملمس يشكل اهمية في عمل النحات، التحسس اللا ارادي بين لحظة واخرى وهو يمثل ديناميكية الشخصية والاحساس بان هذه اللمسة تنقل التعبيرات والافكار لتجسيد اللاوعي باللحظة الجمالية، نوع من الحميمية تتخطى الانفعالية في الرسم ،وما صرخة مايكل انجلو امام تمثال (النبي موسى) انطق، الا لتبرهن على حدود البداية والنهاية في عمل النحات، لكن الرسام يبدأ ولا يعرف متى ينتهي الا بنهاية اللحظة الانفعالية المستديمة (هذا التوصيف ينطبق على الفنون التشكيلية الحديثة، اكثر منه من عمل الرسام القديم، الذي كان عمله شبيه بعمل النحات في مشغله) واذا اخذنا بنظرالاعتبار القطع الذي احدثته المدارس الحديثة، ابتداء من الانطباعية والتأثيرية ..الخ فقد وضعت مفاهيم مغايرة لعمل الفنان الحديث عن الفنان القديم في النسب التعبيرية والانفعالية والقيم الجمالية.
ان ثنائية التصميم ذوالابعاد التي يشكل قطباها النحت والعمارة،تمثل ظاهرة المعاناة الطويلة التي تخفض مستوى الانفعال الذي يتلبس الفنان في بداية الفكرة وتحويله الى الحرفة والتأمل، ولو سأل سائل لكن الفترة الزمنية المتباعدة بين البدء وخلال مراحل اتمام اللوحة يخضع لها الرسام عندما يرسم بالزيت، وهذا صحيح والزمن عند الرسام تراتبي في استمرار الفعل ورد الفعل،فهو في لحظة يقف امام اللوحة يكون عند تخوم لحظة الانفعال، وبالتالي لا تحدد اللوحة شروطا للتعامل بينها وبين الفنان، بينما النحت له شروطه لخضوعه لبنائية الكتلة والحجم، والاشتغال اما من الاسفل الاساس او الاعلى ونزولا بالحجم الى الاسفل متحكمة به القياسات ، يعني تغير مسار العمل والبدء من جديد، وهي شروط لا تفرضها اللوحة.
كما ان اختيار النحات للمادة مسألة غاية في الاهمية، لانها تتحكم بمصير عمله فمادة مثل (النحاس ، النورة، الاحجار مثل البازلت، المرمر..الخ) تتطلب دقة ومهارة وخبرة وتحكم، فبعد لحظة الانفعال والانبهار تتراجع حالة الدهشة والانفعال ويحل مكانها دور الخبرة والتجربة، (إذا استثنينا مادة الطين التي تتيح للفنان من دون المواد الاخرى في النحت، التفاعل معها ضمن احاسيسه اللحظوية) تشترك اليدين مع بقية اجزاء الجسم والفكر في صياغة اللحظة الجمالية ولذتها، بينما تنضوي بقية المواد ضمن عملية التجربة الجمالية الخاضعة للبحث والمعرفة ،يقول د. جمال مقابلة (اللحظة الجمالية الغامضة اصلا لوقوعها على تخوم الوعي، ستختلط بالوان المعرفة او البحث عن الحقيقة، وستبدو هزيلة بنظر بعض المفكرين في ذلك).
في معرضه الاخير قدم الفنان عبد الكريم خليل في قاعة مدرارت آذار 2007 اخر اعماله المشغولة بمادة الطين مبتعدا عن استخدامه للمواد الاخرى وبالذات المرمر في معارضه السابقة.
لماذا الطين؟ الطين بناء الانسان وسر وجود الكون
تمتاز مادة الطين كون الانسان ينتسب اليها (خلقناه من طين لازب) والاحياء لا يمكن لها ان تعيش من دون ارض رطبة، وهو ما يجعل لهذه المادة خصوصية انفعالية تمتلك روح تتنفس منها بقية الارواح، وهو ما يجعل تحكم المبدع بالصيرورة التي تتفتق عنها رؤاه واحلامه وتفكيره ومعاناته، وهذا باعتقادي ما جعل الفنان عبد الكريم الذي عرف بقدرته وتجربته في استنطاق الحجر وبالذات المرمر وتطويعه حسب رؤاه، ان اختيار مادة الطين لدى الفنان اختياراً للتفاعل وتجسيد الحراك الداخلي ،فهو اكثر المواد قربا للفنان من اللوحة البيضاء التي امامه، اذ تتواشك انفعالاته وافكاره مع حركة اليد والعين وهو مارأيناه في اعمال النحات عبد الكريم في هذا المعرض، انه ينقل لنا احاسيسه لانه ابن حضارة الماء والطين..
المتتبع لاعماله في معارضه السابقة،سيجد ان المعروض استمرار لاعماله السابقة ففكراته (Fukers) ما زالت تشكل الطابع العام في معرضه (المرأة والرجل) حركة الفكر في الوقت والجلوس، لكنه قوض مفاهيم التخييل بنقله الفن الى الواقع عبر التنصيص ،متحولا من تحويل الواقع الى الفن، جاءت شخوصه ممثلة للواقع الذي يعيشه بدرامية وجودها على مسرح الحدث، ناقلا الثقل والمأساة التي يعيشها ويعيشها العراق، ارضا وشعبا، استخدم فيها الرمز والفنتاز واستبدل العلاقات بالرؤوس الطموطية لكشف الخرتته، وكشف عورة الرؤوس الفارغة المتمسكة بكراسيها وما يقدمونه سوى الخراب والدمار.
ان مجموعة الاعمال التي اظهرها باستخدام مادة الطين جاءت لتبلور افكاره وتعزز رؤاه من خلال الالتحام ما بين الانفعال وليونة حركة الطين وطوعيتها، متحركا بها ضمن فهمه لحضارة الماء والطين التي تحمل الرخاء والبلاء في نفس الوقت. مستخدما الاشكال من صور العاب الاطفال والدمى والاشكال الكارتونية والمهرجين، ووضحها بحركة مسرحية، ان الصياغات التي لجأ اليها الفنان،صياغات تعبيرية بالرغم من انه حافظ على الحجوم والمساحات بقياساتها ونسبها الاكاديمية، ولجأ الى التشويه لاضفاء فعل الانفعال ليتطابق مع بنائية التكوين واشتغالاته،فما زالت تكويناته التي تمثل الرجل والمرأة ،فيها سمات الاسترخاء والموسيقى الحالمة، في الوقت الذي صلب وجمد الاشكال المنفردة والمجتمعة من الطواطم.
لماذا لم يعالج شوي الطين؟
ان فنانا مثل عبد الكريم له باع طويل وخبرة لكنه لن يخضع مادته للمعالجة لتبقى متماسكة في داخل النار، ولكنه تركها تحدث هذه التكسرات ثم يلصقها بقصدية ليعيد للاذهان نماذج متحف التاريخ العراقي.
على الرغم من التشويه الذي اتسمت به تكويناته ، الا انه حافظ على الابعاد الاكاديمية للجسم، واحدث التشويه في المظهر الخارجي، وابقى الفكر (Fukers) محتفظا بواقعيته ليجرنا للمشاركة للاحساس بواقعية ما يحدث، فهؤلاء الطواطم من الحمير والحيوانات الاخرى، الذين احالوا حياتنا الى جحيم، هم مجرد مهرجين ومشوهين وعقول قاصرة ، تحمل انتمائاتها باشكال رؤوسها.
إن معرض النحات عبد الكريم يحيلنا الى البعد الاخلاقي للجمال، وتفاعل الفنان مع واقعه وتأثره بما يحيط به على الرغم من اشتغاله الحداثوي، اي انه اشتغل على فكرة الجمال بقيمه الأخلاقية وما يحمله من دلالات حتى في لحظة تشويهه، فالفنان الناطق باحاسيس شعبه، لقد جهز كل آلامه واحاسيسه ليسقطها على الطين، فجاءت المشاعر والاحاسيس متطابقة مع ليونة وطوعية الطين في الاستجابة انها لحظة الانفعال لاخراج المكبوت والمطمور من الداخل الى السطح، بالاشكال الجمالية التي اختارها طاويا حقبة زمنية طويلة لاجل ان يظهر مكنوناته ومشاعره مستخدماً فيها كا طاقاته وتجاربه وخبرته المعرفية، لاشك ان الانزياح الذي احدثه في الاشتغال على ايجاد الجمال في القبح ، لكنه ابقى الاسس جعل من اعماله تجربة لها قيمتها الجمالية والفلسفية، مضيفاً لها تجربة تلوين الطين لاندماج القيم الجمالية في فروع الفنون التشكيلية، إذا ما أخذنا انه اشتغل على المسرح والكارتون والكثير من الفنون الحديثة التي حاول الاستفادة منها في هذه التجربة.