الثلاثاء، 6 أكتوبر 2015

الشاعر أدهم عادل في مهرجان بارك بلادي ‫

تزوير لوحات جواد سليم-د. إحسان فتحي



تزوير لوحات جواد سليم


د. إحسان فتحي


كم هي بائسة هذه المحاولة ، فالمزور تميز بدرجة عالية من الغباء المستفحل، ونحن نحمد الله على تدني مستواه "الفني"، ونأمل أن لا يقع احد المغفلين من شرائها لكي تتصدر أهم جدار في صالته!



 

 

في الخزف العراقي المعاصر عبلة العزاوي جذور التحديث وخصوصية الأداء-عادل كامل









في الخزف العراقي المعاصر
عبلة العزاوي
جذور التحديث وخصوصية الأداء




عادل كامل


[1]




عبلة العزاوي 2015

   ربما آخر من تعنيه، أو تهمه، هذه الكلمات، هي الخزافة الرائدة عبلة العزاوي ( ولدت عام 1935 في بغداد)، فإذا لم تكن تأمل أو تنتظر رحيلها ـ بدل انتظاره في عزلتها شبه التامة  ـ فإنها غير مكترثة لكلماتنا، حتى الصادقة منها والموضوعية، ليس لأنها أدت ما كان عليها أن تؤديه، بل لأنها لم تعد منشغلة بالخسائرـ والمكاسب، إزاء أسئلة لا إجابات عليها..!
    وحيدة، ربما حتى إنها انفصلت عن (ذاتها) بعد أن أتعبتها العزلة، وأتعبها الفراغ، والإهمال، أو للقاء زميل أو جار أو عابر سبيل، فمنذ غمرها العمل الخزفي لعقود طويلة، أي منذ تلقت أولى كلمات الفنان جواد سليم، في خمسينيات القرن الماضي، عندما كانت طالبة في معهد الفنون الجميلة، بالبهجة والأمل، عندما أكد لها سلامة اختيارها لفن الخزف، فن استنطاق الطين، وسماع ما يكتم من مشفرات وأصداء وأزمنة،  سمح لها أن تكمل دراستها في فرنسا، متحدية نفسها، قبل أن تتحدى الآخرين.  فلم يعد يعنيها ما يقال عنها، حتى بعد أن أغلقت مشغلها، وقاعتها، وتخلت عن صناعة علاماتها البغدادية، الجمالية، والسحرية، من ثناء أو إهمال! ربما ستكون سعادتها الوحيدة، ليس في امتداد العمر، بل بوضع خاتمة له؛ لرائدة حفر اسمها مع رائدات كنزيهة سليم، مديحه عمر، سهام السعودي، ليلى العطار، بهيجة الحكيم، نعمة محمود حكمت، وداد الاورفلي، سعاد العطار، بتول الفكيكي، فرح عدنان، مهين الصراف، نهى الراضي، وسماء  حسن، جنة عدنان، وغيرهن..

مع الكاتب/ 2015

   فهل هو مصير تنفرد به عبلة العزاوي، أم انه تتمة لـ (نموذج) يماثل مصائر النساء اللائي نذرن حياتهن للإبداع الجمالي، الثقافي...،  مؤكدة ـ بشكل أو آخر ـ إن حقوق المرأة ، في بلدان اختلطت فيها أصوات الموت بأصوات أخرى لا علاقة لها بالحضارة، والتنمية، والمثل النبيلة، إن غابت هذه الحقوق، فلا حقوق للطفل، ولا حقوق للرجال، وللمجتمع بأسره.
   والغريب إن منظمات المجتمع المدني، والمنظمات الخاصة بالمرأة، والحقوق، والجمعيات المكلفة ـ من المجتمع أو من الحكومة ـ  برعاية الإبداع والمبدعين، ولسنوات غير قصيرة، تكاد تكتفي بالشعار، وبالاسم.  فهل نوجه اللوم لها، لأنها عادت إلى مدينتها، بغداد، ولم تختر فرنسا، مثلا ً، للإقامة، والتمتع بالحقوق، أم نلومها لأنها انشغلت بأقدم فن عرفته الحضارات الإنسانية، أم نلومها لأنها وجدت مصيرها (المعزول) مكافأة لها...، وهي تتعامل معها بلا مبالاة، بل وبصمت، وبقناعة إن العدم ليس إلا وجها ً للحياة، وان الحياة ليست إلا امتداد  للعدم!
     فعندما كنت أتحدث معها، تذكرتني بصعوبة، وقالت:
ـ لِم َ تتعب نفسك!
ولكنني تذكرت إنها ـ قبل عام ـ كادت تتيه وهي في طريقها لزيارتي في بيتي، على بعد لا يتجاوز الخمسين مترا ً، لأنها حلمت ورأتني تعرضت لكسر في ذراعي....، فقالت:
ـ أنت أستاذي!
والغريب أيضا ً وأنا أتحدث عن تجربة النحات عبد الجبار ألبنا انه نطق بها (مواليد 1924)، وفاء ً لا أكثر ولا اقل...!
    أعود أتساءل إذا كان مصير خزافة رائدة يغدو بلا معنى...، كمصائر مبدعات عراقيات واجهن قدرهن بالصبر ذاته الذي جعل من أيوب السومري رمزا ً مزدوجا ً لتحمل أوزار لا ذنب له في تحملها، أو للمعنى ومشفراته العصية على التفكيك...، وذلك لأن خزافة كبيرة مثل عبلة العزاوي،  لأنها نموذجا ً للمبدعة نراه يغيب عنا، من غير اكتراث، أو مبررات، عدا الإهمال، والعقود.
   فهل (المصيبة) إذا عمت، كما في المثل، خفت...؟
   لأن تذكر أسماء عشرات اللائي ـ وفي زمن ازدهار الفضائيات ومواقع التواصل وغيرها ـ أرغمن على تناول السم الذي ارتوى منه سقراط، وليؤكد أن اللغز العنيد هذا الذي سمح للإهمال واللامبالاة والقسوة ...، نظاما ً للتعامل مع العلامات الخلاقة، ومع رموز الحياة... فهل هذا كله هو قفا: الشفافية والديمقراطية والحرية، أم وجهها...؟


[2]



ألحارثي مع عبلة العزاوي 2012


* إشارة
    [ لم تصدم الخزافة عبلة العزاوي (1935) بنشر خبر رحيلها، وكأنه وحده أعاد إليها الحياة! فالخزافة، منذ عقدين، لم تعد مشغولة بالطين، وبهموم الفخار والخزف، أو بالحياة الثقافية. لكن نبأ وفاتها لم يسمح لها بالدفاع عن حياتها، وعن عزلتها، وتخليها عن قاعتها، وتوزيعها لممتلكاتها الفنية، فحسب، بلا لأنها ـ كمثال لزميلاتها وزملائها ـ لم تجد إلا القليل الذي يبقيها على قيد الحياة.
  حتى إن الفنان المسرحي الكبير د. حمودي ألحارثي، في زيارته لي، صدق الخبر، ولكن ما أن حدثته عنها ـ كجارة لي وشريكة عنيدة في اختراع الرموز الجمالية ـ إلا وطلب مني أن نذهب معا ً إلى زيارتها.
إنها، كجسد، قالت لنا: مازالت تنتظر اللحظة التي لا مناص أنها شبيهة بالتي جاءت بها، للحياة، أن تكون خاتمة لعمر أمضته بين الأفران، والأطيان، والألوان...، وإنها  سعيدة لأنها عاشت في بغداد، ولم تمكث في باريس، بعد إكمال دراستها فيها، وان حياتها كانت حافلة بالعمل، فما يبقى ـ قالت ـ ليس الجسد، بل قدرته على الإبداع، وهو يناور الزمن، والمجهول.
    وكان معنا، حفيدي علي (3 سنوات) الذي عقد معها صداقة، بعد أن تذكرت الفنانة والدته التي درستها فن الخزف، قبل ربع قرن.



 
حفيد الكاتب مع الخزافة 2012

   وتركت الفنان حمودي ألحارثي يصوّرها، وهو يحاورها، لإعداد مادة وثائقية عن فنانة كرست حياتها، كأسلافها أسطوات بغداد، لبناء علامات جمالية، تحمل لوعة بغداد، وتاريخها العتيد..]
14/ 7/ 2012

كولاج ـ 1985

* العزاوي ورحلتها في الخزف
مهما تنوعت أهداف الفن، منذ تجارب الإنسان الأولى، وحتى عصر الحداثة وما بعدها، لم يكن موت الفنان [ المؤلف ] نهاية للخطاب في مغزاه الأسلوبي، باتجاه خصائص فردية، بين التحليل والتركيب، وكافة التحولات والمتغيرات، إلا لصالح الأسلوب، داخل بنية [النص] وإحالاته. وتنوع منهاج البحث، وان يحدد طرق التأمل، لكنه يغني الخطاب، لان التوقيع، في الأخير، سيشكل هوية الفنان،  ومادة النص، حتى بعيدا عن الأهداف المتوخاة، أو المحددة.
عند الخزافة عبلة العزاوي ، في معرضها الشامل ( 1970 – 2000 ) – بغداد ، قاعة عبلة للفنون ــ نعثر على خلاصة لهذا المسار ، الداخلي للفن الأكثر صعوبة، والأكثر صلة بحياة بالحياة اليومية للناس، كما نتلمس مغزى العلامات الخزفية ، في الأشكال ذات التكوين المزدوج بين الموروثات والعلامات الحديثة.



جدارية ـ 1990

مرجعيات
إن النظرية تستعين بالنماذج . وعند تفحص الدافع الخفي المحرك للعمليات الإبداعية ، تظهر بدائية الفنان ، لصالح إبداعه الجمالي ، والتعبيري بشكل عام . والبدائية ، تحديدا ، تضعنا في منطق الوجود خارج زمنه ، ومكانه ، وفي ذات الوقت ، تفسر أهمية الخصائص الفردية . فمنذ رواد الحداثة في العالم ، غويا أو جوجان ، ماتس أو هنري روسو ، بيكاسو أو جايكومتي – على سبيل المثال – كانوا يحققون ، في إمبراطورياتهم الفنية ، أنظمة بالغة الدقة ، والتعقيد في تفسير وجهات نظرهم ، ورؤاهم ، وشخصياتهم عبر الأسلوب ، أو التوقيع ، داخل مفهوم الاتجاه العام . فالبدائية لا تتقاطع مع الحداثة ، شرط أن تمتلك خصائص المبدع ، وتفرده الخاص .
ومازالت عبلة العزاوي تتذكر كلمات أستاذها الخزاف الفرنسي ، بدراسة فنها البيئي، والشعبي، والحضاري، .. وهي كلمة لجواد سليم قالها للفنانة عبلة العزاوي ، في نهاية الخمسينات ، مشيرا لعلاقة الفنان بالمحيط ، والرموز المرئية. وقد وجدت الخزافة. منذ باريس ، إنها مشغولة بما يحيط بها .. فالفن هو امتداد جمالي لعالمها الخارجي ، دون قطيعة ، لان الفن لديها لا يحمل وظيفة محددة ، نفعية ، كما في الخزف التقليدي ، وإنما هو الجزء الذي يكمل أبعاد المشهد العام . وبدائية عبلة العزاوي لها خصائصها النفسية .. ومن المهم الإشارة لكفاحها ، في طفولتها وصباها ضد المرض ، والانحياز للفن كتعبير علاجي ووقائعي في ذات الوقت . فرؤيتها حافظت على ما يدور في رأسها بنوع من العناد ، والتحدي ، ولكن بعيدا عن الانغلاق، أو التكرار غير الضروري، ومن ثم فأنها راحت تعبر من غير حذر المدارس والأساليب ، وإنما جاءت تجاربها ، ومراحلها الفنية ، لتمثل التجريب بمعناه الإبداعي .. وعناصر هذا التجريب، عندها ، تتكون من [ 1 ] الحفاظ على مكوناتها الشخصية ، وعالمها الخاص [ 2 ] وتأمل عناصر المرئيات المحيطة بها .. [ 3 ] مع العناية بالمكان . أن الإشارة الأخيرة ، منحت أعمالها بعدا تشكيليا نحتيا ، فقد راحت توازن بين المضمون وأسلوب رؤيتها للأشكال : للاختزال ، ومعالجة الرموز الشرقية ، والعناية بتحوير الأشكال كمفردات ترتبط بخصائص أسلوبها الخزفي والجداري معا . فهي تلقائية ، وكما قالت ذات مرة ، أن الطين هو الذي يجعلها تفكر، فهي تفكر نيابة عنه. إن موت [ المؤلف ] يحدد إبعاد الفن واحد غاياته الأكثر استحالة على التعريف. والفن البدائي ، في أعلى مراحل الحداثة، يمتلك هذه الخاصية : هذا التوقع للفردوس الغائب، للأشياء الكامنة في البصريات، أو لكل محركات السطح ومكوناته غير القابلة للتفسير المباشر.


حداثة وجذور
انشغلت ، في مراحلها الأولى ، بالفنون القديمة . بدمى الطين ، وفخاريات الإنسان القديم ، حيث غدا الانشغال بالفن ، جزءا من بنية الحياة المبكرة للإنسان . كان ذلك الفن قد ترك أثره في تجاربها البكر : تأمل الأشياء الأكثر صلة ، وقربا ، بالمرئي .. ومحاولة منح المعنى مغزاه بإشكاله . فالشكل بلغ سر الحرف ، داخل الكلمة ، وسر الكلمة داخل الجملة . ولم يكن مفهوم النص الفني عندها إلا كمد جسر بين الذات والعالم المحيط بها . بعد ذلك ، وجدت في المكان كثافة فريدة للزمن .. السكون الذي تكمن داخله الحركة . هذا المفهوم العام ، لزمن الفن ، خارج المراحل ، دخل المفاهيم الحديثة . فالحداثة الأوربية ، وان ارتبطت بالتقنيات العلمية ومختلف العلوم ، والتسارع في بنية الحياة، إلا أنها لم تفقد جذورها بالموروث القديم ، لا على صعيد الوعي ، بل بمستوى تمثلات اللاوعي لعلاقة الذات بالمسافات المحيطة به . أولا : كانت العزاوي منشغلة ، بما تراه ، وتلمسه ، ثانيا : راحت تجد مغزى أسرار الأصابع فوق الطين . الإشارة الأخيرة ، ترتبط بالأسلوب ، والرؤية الفنية . بعد ذلك – ثالثا – راحت تكوّن مفرداتها بمنطق التجريب . فالحداثة لم تشغلها كنزعة متطرفة ، أو أوربية ، وإنما كأسلوب يمتلك أبعاده ، مع الحفاظ على أسئلة الفن ، داخل النص الفني . ان العلاقة ، في هذا المنحى ، لها صلة بالحرفي البغدادي ، البنّاء ، وتقاليده المتوارثة ، مع عناية بمناهج التحديث ، على الصعيد التقني ، فالفنانة ، بعد دراستها في فرنسا ، ومنذ ثلاثين سنة ، وازنت بين الصنعة والفن .. بين القديم والجديد ، بين المعرفة والتلقائية .. وهي أسس منهجها التجريبي ، في الخزف العراقي المعاصر . فالحداثة ، لديها ، تكمن في إعادة بناء الأشكال ، وإعادة بناء العلاقات بين العناصر ، لرسم حدود ( التوقيع ) الذي يمثل كيانها بمرجعياته المختلفة . فالخزف غدا جزءا من مكونات البيت ، والمدنية ، على صعيد الفن ألجداري . فهي تتقاطع – بوعي أو بدونه – مع ظاهرة هدم البنية المتجانسة ، ومع ظاهرة التلصيق والانتقائية ، ومحاولة منح الفن شرعية وجوده المعرفي ، والعضوي، بالحفاظ على زمنه، ومكانه، أي تاريخه الجمالي، والفني في الأخير.


بغداد المدورة
تركت بغداد في ذاكرة الخزافة ، كمشهد يومي ، فضلا عن انشغالها بتاريخ الفن الشرقي ، وحكايات ألف ليلة وليلة ، والموروث الإسلامي ، أثره في تجاربها الخزفية . فتحولت بغداد إلى جدارية كبيرة ، نفذتها في ايطاليا ، قبل عشرين سنة ، وتم نصبها في واجهة المصرف العقاري ببغداد . تحكي الجدارية ، علامات تاريخ المدينة .. فالفنانة تحتفل بعناصر الحياة ، وأبعادها الروحية . إن عمل جدارية بهذا الحجم، أكثر من مغامرة، فقد تحدت الفنانة كافة الاشكالات ، وحققت جدارية ما زالت مثار الإعجاب . فهي جزء من المدينة ، وبنيتها الجمالية . فبغداد تظهر كمدينة محصنة ، يجري نهر دجلة أمامها ، بينما انتشرت القباب والمنائر داخلها : انه أشبه بمدينة أسطورية ، آتية من زمن سحيق ، تحمل معها تاريخها ومعمارها المميز بالأسلوب الشرقي . وبنية الجدارية ، متماسكة العناصر : فهناك علاقة بين المساحات الكبيرة والصغيرة ، ضمن تكوين نصف منغلق ، بينما ثمة علاقة متوازنة بين لون السماء والنهر .. وقد أدخلت الفنانة الحرف العربي ، كجزء من البعد الثقافي الذي ميز بغداد طوال الزمن .. وعلى الرغم من إن الجدارية ذات سطح واحد تقريبا ، إلا إن استخدام الفنانة للمنظور إعطاءها أبعادا وأعماقا متجانسة في الرؤيا وفي التاريخ المشبع بالحكايات والرموز . وقد عالجت ، في حدود بنية النص الفني ، العلاقة الجدلية بين تاريخ المدينة ، ورموزها ، وبين البعد الجمالي ،  والروحي ، عبر استثمار عشرات العلامات ذات الصلة بالمكان ، والزمن . انها صنعت قصيدة من الخزف ، تروي حكاية بغداد عبر الأزمنة .



وحدات تراثية ـ 1980
جداريات
خلال أكثر من 450 قطعة فنية، عرضتها الفنانة العزاوي، مثل الأشكال الاعتيادية، والمحورة، قدمت مجموعة مختارة – تم استعارتها من مقتنيها – من تجاربها الجدارية. وهنا تظهر ملكة التكوين، بعد أن دمجت فن النحت، إلى جانب فن الرسم ، في البعد ألجداري . فهي تخلت عن المفهوم النفعي المباشر للخزف ، وراحت ، كما في التجارب الفنية المعاصرة ، تضع الفن هدفا لها . وللفن ألجداري ، من زاوية أخرى ، صلة بالأعمال الجدارية القديمة ، إن كانت آشورية أو بابلية ، فضلا عن تأثيرات الفن الإسلامي ( الأرابسك ) .. فهناك عدة مرجعيات لتكويناتها الجدارية ، حورتها ، بأسلوب يناسب أبعاد الفن الحديث على صعيد النحت والرسم ، فضلا عن المتغيرات في معمار المدينة . فالفنانة العزاوي، بدافع الخزف،  راحت تكون جدارياتها كمشاهد ثابتة للمدينة ، لا كبعد خارجي أو تصميمي محض ، وإنما كجزء من بنية المدينة الشرقية . فعناصر فنها مختلفة عن النزعات الأوربية التجريدية التي شاعت في التشكيل العربي ، خلال القرن العشرين ، ذلك لأنها استلمت الموروث الشعبي ، وتحويراته ، ببعد هندسي اعتمد أسلوبها في التجريب . فهي راحت تتمسك بوحدات فنية محلية، كالأقواس والمنائر وواجهات المعمار والزخارف الجصية ، في سياق الحداثة التي شملت أشكال الحياة المختلفة . وقد جاء الفن ألجداري – الخزفي ، إحيائيا لمفهوم الفن تجاه البيئة والموروث، مع عناية بجعل المعنى جماليا، عبر الاختزال، والإيحاء، والدلالة التعبيرية.


حروف ـ 1990
بصمات
لم تعتمد عبلة العزاوي، خلال نصف القرن الأخير ( 1950 – 2000 ) التيارات الأوربية ، بالرغم من دراستها في باريس ، وإنما اعتمدت ، بالدرجة الأولى صياغة توقيعها ، بالأسلوب المتوازن للموروث والتراث الشعبي ولعناصر شخصيتها ، المتقشفة ، والجمالية ، والتأملية . فالفنانة ، حاولت منح الطين أحد أهم مميزاته الحيوية ، المرونة ، والاكتفاء ببعض الأفكار التصميمية ، مع عناية باختيار الوحدات والموضوعات البيئية .. ولم تتطرف بالمعالجات الراديكالية للخزف في تياراته الحديثة ، كما فعل سعد شاكر ، رائد الخزف العراقي المعاصر ، بل حافظت على النمو الطبيعي لفن الخزف في بعده الفني – والجمالي .. ومن هنا كان إخلاصها لهذا الفن بالدرجة الأولى ، مع استثمار عناصر من النحت الفخاري والرسم ألجداري .. حتى بالإمكان القول إنها فنانة كلاسيكية ، في الحفاظ على تقاليد فن الخزف ، بعيدا عن وظائفه والاستهلاكية، أو المتطرفة في التجديد .. إنها وازنت ، في مسارها الطويل نسبيا، كما قال الفنان الدكتور عبد الستار الراوي ، بين مختلف الروافد ، ببلورة رؤيتها الجمالية لفن الخزف العراقي المعاصر.**



[3]




وكتب عنها الدكتور وريا عمر أمين الإشارة التالية:



رائدة الفن التشكيلي خزافة العراق الأولى (عبلة العزاوي)



  تعود معرفتي بالفنانة التشكيلية عبلة العزاوي إلى ربع قرن حيث كنت أتردد على قاعتها الفنية و الثقافية (قاعة عبلة ) الكائنة في الغزالية في الشارع المسمى باسمها ( شارع عبلة العزاوي).التقي فيها بالفنانين و الأدباء و المثقفين و استمع إلى أحاديثهم و المحاضرات الثقافية التي كانت تلقى من قبلهم  وأتلقى منها دروسا في علم و فن السيراميك  وأشارك في نشاطاتها الفنية و الثقافية .
ــ  ولدت عبلة العزاوي في بغداد 17 – 11 – 1935
ــ أول من تخرجت كفتاة من معهد الفنون الجميلة في بغداد – فرع الخزف
ــ أكملت دراستها الفنية في المعهد الوطني للفنون التطبيقية في فرنسا
ــ ساهمت في العديد من المعارض الفنية داخل و خارج العراق
ــ اشتركت في المعارض المتخصصة بالخزف في (لندن و دمشق و كاراكاس و فينا ...)
ــ شاركت بتمثيل الخزافين العراقيين في معرض دمشق والفنانات العراقيات في فينا
ــ أنجزت أعمالا نصبية جدارية أبرزها : جدارية المصرف العقاري (بغداد المدورة بقطر 40م)
ــ تمتلك قاعة خاصة بها للفنون التشكيلية منذ 1968
قال عنها الفنان و الأديب  والناقد عادل كامل
"هي خزافة وريثة عدة الاف سنة من تاريخ العراق حافظت على روح المدينة العراقية و و اخذت تاريخ العراق و تراثه ولم تتاثر بالتجارب العالمية ..فن عبلة العزاوي كالفن السومري و فنون العالم القديم ، وهي تمتلك الأمل و تمتلك الفلسفة وتفتح الأبواب للعالم لتقول: هذا الجمال , هذا الفن"
لم تعتمد عبلة العزاوي، خلال نصف القرن الأخير ( 1950 – 2000 ) التيارات الأوربية ، بالرغم من دراستها في باريس ، وإنما اعتمدت ، بالدرجة الأولى صياغة توقيعها ، بالأسلوب المتوازن للموروث والتراث الشعبي ولعناصر شخصيتها ، المتقشفة ، والجمالية ، والتأملية . فالفنانة ، حاولت منح الطين أحد أهم مميزاته الحيوية ، المرونة ، والاكتفاء ببعض الأفكار التصميمية ، مع عناية باختيار الوحدات والموضوعات البيئية .. ولم تتطرف بالمعالجات الراديكالية للخزف في تياراته الحديثة ، كما فعل سعد شاكر ، رائد الخزف العراقي المعاصر ، بل حافظت على النمو الطبيعي لفن الخزف في بعده الفني – والجمالي .. ومن هنا كان إخلاصها لهذا الفن بالدرجة الأولى ، مع استثمار عناصر من النحت الفخاري والرسم ألجداري .. حتى بالإمكان القول إنها فنانة كلاسيكية ، في الحفاظ على تقاليد فن الخزف ، بعيدا عن وظائفه والاستهلاكية، أو المتطرفة في التجديد .. إنها وازنت ، في مسارها الطويل نسبيا، ، بين مختلف الروافد ، ببلورة رؤيتها الجمالية لفن الخزف العراقي المعاصر .
و قال عنها الفنان الدكتور برهان جبر حسون الذي جمع بين التشكيل و الطب:
“ تتواصل الفنانة مع مسيرتها الطويلة فتعرض تنوعا و كما من الأعمال الزاخرة بالمفردات و التكوينات الموروثة من الجداريات و المعلقات و المسلات و المنمنمات و القلائد و و التمائم و التعاويذ و الآنية , التي تسجل الحياة البغدادية في أدق تفاصيلها و مناسباتها , حيث تأخذك بعيدا لتلج بك تلك البوابات العصية حيث يستفيق التراث و يغدو حاضرا متناغما مع العصر لا طارئا مقحما عليه..إن العزاوي لا تنفذ منجزاتها – أو لنقل آثارها الخزفية – بطريقة بنائية إنشائية, ولكنها تطلق عنان مخيلتها في أزقة الذاكرة و ثناياها لتقتنص منها الرموز و الدلالات  وربما الحكايات لتعيد صياغتها برؤية تشكيلية عالية و حس لوني رشيق، كمن يعيد ترتيب شظايا مرآة مهشمة ..)
وقال عنها الدكتور عماد عبد السلام رؤوف في كتابه ص21 (رحلة بين الطين و الروح – سيرة شخصية و فنية)
“ …لم تكن عبلة فنانة و كفى ، و إنما كانت – رغم زهدها الشديد و قناعتها التامة – شخصية مؤثرة ايجابا في كل من كان حولها تشيع جوا من التفاؤل ، في وقت لم يكن ثمة ما يبعث اله . و تعزز أواصر المحبة و تنشرها حولها , على رغم كل مشاعر الضيق و الالم التي اخذت تنعكس على وجوه الناس و تصرفاتهم احيانا.
... أصبحت قاعة عبلة ابرز معالم حي الغزالية , وأصبحت موئلا لسلسلة من المحاضرات الأسبوعية يتناول فيها المحاضرون ، في جو أليف , موضوعات تراثية و فنية و حضارية , و صار الناس يتقاطرون إلى القاعة يسمعون و يتحاورون و يألفون و يؤلفون . فلا يخرجون الا وقد نسو همومهم و معاناتهم التي جاءوا بها.فمن محاضرات هذه القاعة مثلا محاضرة (النحت في الفضاء ) للفنان رافع الناصري, ومحاضرة عن الفنان المسرحي حقي ألشبلي بمناسبة مرور ثلاث سنوات على رحيله سنة 1987, ألقاها الأستاذ خالص عزمي , و أخرى عن (النخيل) للدكتور عبد الأمير ثجيل , و(الرسم في الإسلام ) للصحفي زهير أحمد القيسي , و (التأريخ في الشعر)للأستاذ محمد البازى,و (الشاعرات في العصر العباسي) للدكتور حميد الهيتي و( الشاعرات في الخمسينيات) للأستاذ خالص عزمي و (هاشم الخطاط) للدكتور نوري القيسي , و ( الحروف و الأرقام العربية ) للمحامي موفق مصطفى العمري , و الأرقام العربية و الهندية) للاستاذ صبيح الأوسي . و ( معجزات العلاج) و (عجائب التداوى) و كلتاهما للأستاذ مثنى إبراهيم حمدي,
و (الإنسان و الكون ) و ( المذنبات) و ( مجاهل الذرة ) و ( من مجاهل الأرض) و ( الأرض بالأرقام) و كلها للدكتور وريا عمر أمين و (فلسفة كانت و علم الجمال) للناقد حميد ياسين و ( الاستنساخ البشري) للدكتورة ندى الأنصاري و (علم النفس و دوره في حل مشاكل الحياة اليومية) للدكتور عبد الحافظ سيف ,وهو من اليمن , و تاريخ المسرح العراقي) للفنان يوسف العاني..‌..و (اكتشاف ثبر المعتصم بالله) و ألوان الأحجار الكريمة) و ( جولة سياحية في بغداد العباسية) للدكتور عماد عبد السلام رؤوف....وغيرها
       ومن طريف ما يذكر إن مجلة (صوت الآخر) العدد 167 الصادرة يوم 24/10/2007 نشرت خبر انتقالها إلى جوار ربها..سارعت أنا في تكذيب الخبر في نفس المجلة و أقمنا نحن أصدقاء القاعة بهذه المناسبة حفلة بعنوان ( عودة عبلة إلى الحياة).

والآن تعيش هذه الفنانة العظيمة التي وهبت حياتها للفن وحيدة  في قاعتها المهجورة..نحن زملاءها المقربون (الفنان الروائي عادل كامل و الفنان حميد ياسين وأنا وآخرين ) نزورها ونتفقد أحوالها ... أطال الله من عمرها ووهبها الصحة و الأمان.



 شهادة

   للنحات مصطفى بهجت، والذي عاصرها، كلمة بهذا الصدد:
  [ حين يعيش الإنسان فترة ربيعه يسعى الجميع لقطف زهرة من زهور حقله، والآخر يسعى لصيد فراشة من فراشاته، وأضعفهم حيلة يتسلل ـ وربما خفية ـ ليملأ رئتيه من عبق عطره، وعندما يدخل مرحلة الخريف وتذبل الأغصان وينحني العود وتجف أوراق الشفاه وتذبل أوراق الخدود ويصير صديقه الأوحد سرير المرض، يهجره الجميع ويصير مثل (إرمْ) بعد أن كانت ذات (عِماد). ومهما طالت معاناته مع المرض وكل أنواع الحاجة لا يجد ولا حتى تربيتة من صديق أو يدا ً تمتد إليه بالعون، ولا كلمة تعينه على الحال ويصبح نسيا ً منسيا ، فإذا تسمعهم فجأة يلهجون باسمه، ويعلقون صورته بخيوط الشمس، ويتحدثون عن فنه، وانجازاته... فاعلم انه قد مات!) 20 تموز 2015


العزاوي ـ 16/7/2015

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ولدت في بغداد عام 1935
ـ درست الفن في معهد الفنون الجميلة ـ بغداد ـ فرع الخزف
ـ تابعت دراستها الفنية في المعهد الوطني للفنون الجملية والتطبيقية في ( بورج ـ فرنسا)
ـ أقامت ستة معارض شخصية في بغداد وشاركت في العديد من المعارض الفنية داخل العراق وخارجه.
ـ حققت أعمالا ً نصبية جدارية أبرزها جدارية المصرف العقاري (بغداد المدورة)
ـ عضو نقابة وجمعية الفنانين التشكيليين العراقيين.
** ومن الغريب ـ هنا ـ أن هناك، في الحي الذي تسكنه الفنانة، أكثر من 15 صحفيا ً، ومعنيا ً بالفنون والثقافة!، لم يفكر أحدا ً منهم بالإشارة إلى تجربتها، أوالى وضعها الإنساني، بل وحتى في زيارتها!

السبت، 3 أكتوبر 2015

قصة قصيرة ساعات في شباك اللا وجود-عدنان المبارك

 قصة قصيرة



ساعات في شباك اللا وجود


 عدنان المبارك

- كل يوم هو قليل من الحياة ، وكل استيقاظ قليل من الولادة ، وكل صباح قليل من الشباب ، الا أن كل حلم هو بديل الموت. أرتور شوبنهاور ( 1788 – 1860)

كتبت عن الآخرين كثيرا .لأبدأ الكتابة عن بعض زوايا الداخل التي أهملت لزمن طويل. في أواخر العمر انتفض شوبنهاور فيّ , قرأته كثيرا لكني وجدت مؤخرا أنه كان محقا على طول الخط. عاش اليومي كألماني كما أنا الآن كأوربي. لكن عدا اليومي أبصر كل الأشياء بأكثر من عينين. في زمن المراهقة وأولى سني البلوغ أخافونا بشوبنهاور بل برجال وديعين ومسالمين أمثال المسيح وكانت وبوذا والرواقي زينون. قائمة الفنانين ( البوروجوازيين ) كانت طويلة جدا. مرة ، ولربما أكثر ، ذكرّتهم بكلمة المسيح عن الساكن في بيت من زجاج ويضرب الآخرين بالحجارة. أعترف بأني لم أكن حذرا في فترة الشباب بل لغاية الشيخوخة ، في الاستماع الطويل الى المسيح. لكنها كانت ذنوبا صغيرة عامة. ومنذ أسابيع أنام وأستيقظ وأمامي صورة الفيلسوف الألماني. هذا الصباح استيقظت مبكرا. لا أعرف السبب. أكيد أني كعجوز لست بحاجة الى كثير من النوم. خرجت في العاشرة من البيت. وجهتي الباص الذي يخترق تلك الغابة الساحرة. سأقضي النهارهناك وجزء من الليل. آخر باص من هناك يعود في الساعة التاسعة. تذكرت أن هناك مصطبات وطاولات في الغابة. عملت كم سندوتشه وملأت الترمس ببيرة البرميل. تلفنت الى مجيب ، وهو كاتب عراقي مرح يبيع روحه مقابل كم نكتة وشائعة. اعتذر بسبب وجع معدة يفتك به. فكرت بأن الوحدة في الغابة مبتكر قديم للإنسان. قبل كل شيء سأتجول هناك ثم أجلس مع البيرة وأتذكر ، كعادتي ، كل الأمور السيئة وليس في حياتي وحدها. الانفصال عن الواقع مرض قديم ، لكن أمراضا شتى تحاصرني من كل الجهات ، وليكن معها هذا أيضا.
تجولت وعدت الى مصطبتي المفضلة التي تنشر فوقها شجرة صنوبر ضخمة أغصانها التي تبدو مثل أيادي عملاق من احدى الأساطير السكندنافية. شربت قليلا من البيرة وها أن كل كوابيس العراق أخذت تحاصرني من جديد : لو أن هذا لم يحدث لحدثت نكبات أخرى ، لو أن صدام رضخ للأميركان وصحبهم الاسرائيليين لما حدثت الحرب الأخيرة ، وقبلها لوجاءه ( صوت العقل ) لما غزا الكويت ، ولو تقبل بهدوء رواقي ما يضمره الملالي لما أستعرت الحرب معهم. لو تصفح التأريخ ولو قليلا لعرف بأن المصالح هي فوق كل شيء ، أكيد أنه عرف بهذه الحقيقة لكني تذكرت طائراته التي قصفت جزيرة مجنون حيث كانت ثغرة القوات الإيرانية. لسد الثغرة أفنى عددا لابأس من الجنود العراقيين هناك. لو لم يحصل كل هذا لعاش الناس بلا خسارات في الممتلكات والأرواح. و لو لم يكن يتيما و( شقاوة ) لما حدث كل هذا. الغيظ والحسرات المتوالية حرمتني من طعم السندويتشات والبيرة. قبل أسبوع خلع سنّي طبيب عراقي. قال هذا الشاب بالغ الهدوء : ( ليس بالغريب اذا وصلت هجرة العراقيين الى الأسكيمو. سادية " الجماعة " ، أستاذ ، لاتشبع ). عشب الغابة أخضر ، أشجارها خضر ، لا أعرف متى تصل الخضرة الى السماء والرب. بهذه الصورة غير المعقولة أوغل في التفكير. خسرت معركة أخرى : الهاجس العراقي غيور كثيرا يريد هيمنة مطلقة لكني أصبح أحيانا كمن أزيح عن صدره ثقل أكبر من صخرة سيزيف ، حين أروح مع أفكار أخرى. حتى هذه توميء بكل قسوة وتشف الى حفر الماضي التي وقعت فيها ، الى كل ذلك الزمكان البريء لكن المقفر في كثير من مساحاته.
بقيت في الغابة لأكثر من عشر ساعات. أستمعت الى تسجيلاتي الموسيقية ، فالطبيعة في الغابة افترقت عن الريح وعمّ السكون الذي هبط ، كما خيّل اليّ ، من سماء مجهولة. في طريق العودة فكرت بأن هذا الاحتقان يدفعني الى مشاعر متطرفة : كمد التذكارات القديمة والصفاء المترجرج للحاضر الذي منّ عليّ بهذا التسجيل الموسيقي وذاك. فوك النخل فوك ... مختارات من باخ و موتسارت وشوبان وبيتهوفن. صعدت نشوة الموسيقى الى اليافوخ. نهضت وأخذت أرقص تانغو حزينا فهمت من همسه أن لا حدود بين الوجود والآخر : اللاوجود. خيل اليّ أني فتحت قفص اللاوجود وخرجت الى الآخر مهرولا ! لا أعرف كيف هو هذا اللاوجود. ربما يقترن عندي بتصور لهروب الى مكان لم يكتشفه ألمنا المشترك.
أفكار عن شوبنهاور، معضلة التجريد والتشخيص، قدوم مفترض لغودو... وللدقة كانت هناك أخرى لا تخلو من الاضحاك كأن أتحول الى سمكة في بحر تحت الأرض ! أوأن يأخذني صديقي ع. ك ويضعني مع قرد صغير مرح على غصن عال في احدى أشجار مملكته الحيوانية ، أو هلوسة عن لقاء مع أصدقاء قدامى أمثال صاموئيل بيكيت وهيرونيموس بوس ولويس بونويل وسقراط . في الحقيقة هؤلاء أصدقاء اعتادوا على المجيء اليّ بعد منتصف الليل كي نعربد نكاية بالوجود كاملا ! لكنها نكاية صغيرة حسب ، فالحصار لا تفكّه العربدة. الوجود. الكل يعتبر الوجود حالة إيجابية يكون العدم نقيضها. شوبنهاور العزيز ينعت الحالة بأنها عالم المخيلة / التصور. خلافا لإرادته لا أجد في العدم نفيا مطلقا للوجود. وحتى أن العدم لا يكترث لهذا الأمر. انه المرحلة الأخيرة وكفى !
لقاءات منتصف الليل ليست بين أصدقاء. غودو أعرفه من زمان .ها هو جالس الآن مثل التمثال لكنه قلب تصوري عنه رأسا على عقب. هاديء يميل الى الوقار، ومن النوع الصامت. بونويل يقلقني بنظراته الثاقبة. مرة واحدة سمعته يجدف بصوت عال. كان غاضبا خلال أكثر من لقاء. قال بما معناه أن الموت اختطفه قبل أن يحققق بضعة مشاريع فلمية. تكلم طويلا عن واحد منها. كالعادة يغلف أفكاره الحقيقية بأخرى شبه بريئة ، وهكذا كان مشروعه الفلمي عن كيف تحاكم الله هيئة قضائية (محايدة ) من مختلف القوميات. قال بأنه كملحد ، و( الحمد لله ! ) سيكون محامي الدفاع عن الله. ظهر الشاطر حسن أيضا. كان بريئا على طول الخط لكن هذا لايعني بأنه عديم المكر ولا يعرف التأني في التفكير. بعد كل لقاء مع هيرونيموس بوس لا أشعر بالشبع ولا الارتواء. هل كان خائفا أم أراد أن يضحك على الجميع حين عمل تلك اللوحات التي خلط فيها الفاحش بالجليل.
هكذا أنا دائما . تفكيري يخترق شتى المواضيع . أفكر في آن واحد بشوبنهاور وإشكالية التجريد والتشخيص ( كتبت بضع مرات عنها لكني اكتشفت قبل كم يوم بأني لم اعطها حقها كاملا ). هناك زوار دائميون هم أكثر واقعية في أحلامي وليس في اليقظة. بعضهم بالغ العصبية وحتى أنه يصرخ مهددا ويتهمني بأمور لم أسمع بها أبدا. لكن في الغابة كانت الغلبة لأمور أخرى. بهذه الصورة تذكرت بأني أخذت معي كتابين عن التجريد والتشخيص والرياضيات ورواية الروسي فكتور بييليفن ( حياة الحشرات ) من عام 1993. هناك روايته الأخرى (جيل بي P ). ، قيل أن الفلم المعتمد على الرواية كان من اثارات عام 2006. لم أقرأ هذه الرواية ولم أشاهد الفلم. بونويل أغرم بكشف عورة الشر. ونجح على طول الخط. بيكيت الصادق أكثر من كل رسول طرح بكل كبرياء وصفة ثمينة حقا : كل هذا لعبة فاشلة وهيهات أن تكون هناك مسرة حقيقية. حشرت الكتابين من جديد في ( حقيبة الظهر )، وأخذت أتصرف كايّ متنزه ، أبحلق في الأشجار والطيور وأتابع قطرات ندى الصباح المحتضرة على العشب. كذلك أخرجت السندويتشات وترمس البيرة. هذه البيرة قوية. بالطبع أخترتها عامدا. ففي الغابة يحلو الانتشاء. حين بلغت الثامنة عشرة اشترى أبي قنينة بيرة ديانا احتفالا بعبوري امتحانات الإعدادية. لم تكن الأم راضية. قال لها : البيرة بريئة وليس مثل عرقي الذي تلعنينه كل ليلة. حينها ضربت البيرة رأسي بقوة وجاءني شعورغريب بأني سكرت. طمأنني الأب بالقول : ( البداية هكذا دائما . نشوة البيرة تتبخر بسرعة ). الذاكرة تفسد كل متعة. سيكون شيئا رائعا ومفيدا لوأخترع العلم أداة تفتح الذاكرة وتغلقها حسب الطلب. شربت أكثر من نصف بيرة الترمس وتمددت على المصطبة على أمل أن أغفو قليلا. هذه المرة نجحت وتسللت الى مملكة النوم التي تنسيني كل فظاعاتنا. آخر وجه أبصرته قبل نزولي الى المملكة كان لهيرنيموس بوس المغرم بالرمزية التي كرسها لخطايانا وأحوال نقصنا. بعده بقرون جاء السورياليون بلعبهم التي أوحى لهم بصنعها...
بقيت طويلا لا أصدق بأني غفوت على المصطبة حتى الثامنة والدقيقة الخمسين. هرولت الى موقف الباص. انفرجت أساريري ، فها هو يتقدم صوبي . جاءتني مسرة صغيرة : سأفكر بأصدقائي مرة أخرى ، فطريق العودة يستغرق أكثر من نصف الساعة. كذلك قررت أن أفكر أطول ببيكيت ...


استره بارك – آب / أغسطس 2015

في معرض وديان العريبي * فن الطرق على النحاس وجمالياته- عادل كامل






في  معرض وديان العريبي *

فن الطرق على النحاس وجمالياته



 عادل كامل



[1]
    تستقي وديان العريبي مكونات تجربتها الفنية بالطرق على النحاس، بترك الذاكرة تعمل في حدود التجريب، وليس في حدود المحاكاة، ولا يتحقق هذا لأنها تركب، أو تصهر، أو توحد حسب، بل لأنها تسمح لخيالها أن يحافظ على مداه الواقعي، في زمن تعددية التيارات، واختلاف الأساليب، من ناحية، وفي عصر حرية التعبير، بالا فصحاح عن مغامرة الفنان في الاكتشاف، والتوغل في الأعماق، كأحد عناصر ديمومة الأثر، لدي المتلقي، ومهماته في القراءة، والتفكيك، والاستجابة أو الدحض، من ناحية ثانية. فالفن ليس مستحدثا ً إلا بوصفه يرجعنا إلى نشأة الخطاب الجمالي، وملغزاته، التي ترجعنا إلى أزمنته السحيقة.  
   فالفنانة لا تعزل حاضرها عن منجزات أعمال الطرق على النحاس، وصهر المعادن عامة، لدى أسلافها في بلاد سومر، وبابل، وأشور، كما لم تهمل ما تعلمته، من حرفيات ومعلومات وتدريبات، من تجارب زوجها الفنان محمد حسن جودي، في هذا المجال.
    فأعمالها الفنية  ـ هنا ـ لا تحافظ على التوازن بين الموروثات التراثية، والشعبية، والمنجز الحديث حسب، بل منحت سلاسة التعبير ما يتضمنه التجريب ويؤشره كاختيار لدى الفنانة في سعيها لتجعله لصيقا ً بخصائص المدرسة الشرقية، القديمة منها والحديثة، مع عناية بالعلامات الشعبية، ووحداتها الجمالية.


  فالقلائد، والثيمات المتداولة للأمثال، والموضوعات ذات الطابع الفلكلوري، والأشكال الهندسية وما تمثله من أبعاد رمزية، تؤكد إنها تقيم علاقة مع المشاهد قائمة على الامتداد، التواصل، وليس على القطيعة.
   وعمليا ً فإنها منحت هذا الضرب من الفن تقاليده المتوارثة، العريقة، مع منح الطرق على النحاس مجاله العملي ـ والفني معا ً. فهي ـ في هذه النماذج ـ  تتحدى ذاتها، بالدرجة الأولى، لتؤكد إنها صاغت علامات أودعتها خلجاتها، تصوّراتها، وهمومها، وكأنها وجدت مأواها في الفن، بالقدر نفسه، سمحت للفن أن يشكل وثيقة مشحونة بالعاطفة والتحدي، لزمنها، ومشروعا ً لإعادة قراءته، ورؤيته بحدود الفن، وجمالياته.
[2]
 
 

    عند قراءة نصوصها (النحاسية) لا يتخيل المتلقي أن تمسك بها أنامل وجدت لتمسك بالمغزل تغزل به منديلا ً للذكرى...، فلغز الأنثى، حتى عند (ماني) أو (نيتشه) أقوى من القهر...، ليس لأنه لم يترك للآخر، الجور بالقهر، بل لدحضه، بحثا ً عن عالم تتوازن فيه الأضداد.
   وقد اختارت وديان العريبي أقسى الخامات، كأنها تعيد سرد حكاية هبة الإله الأولى للإنسان في فجر نشوء القرى الزراعية، وتدشيانات ما سيسمى بالحضارة: الفأس؛ حيث كان عصر الحديد قد بلغ شيخوخته، ليحل عصر صهر المعادن، في بلاد سومر، قبل ستة آلاف عام، ومع إنها لم تنشغل بتصنيع خاماتها، إلا إنها وجدت في النحاس درسا ً في العمل. امرأة لا تريد أن تنظر إلى الوراء...، بل أن تشق دربها بما تمتلكه من صفاء، ورقة، ومرونة، في عالم يزداد توحشا ً، وقسوة، ومتاهات.
   جاء اختيارها للفن ليفسر انتمائها إلى شعب صاغ بالفن لغة للاكتشاف، على خلاف أزمنة أخرى خلت من الأثر، ومن علاماته. فاختارت ـ في نصوصها السلسة ـنقوشا ً، ورموزا ً، وعلامات مستمدة من موروث ـ هو الآخر ـ مهدد أن يصبح نسيا ً منسيا...، فراحت تنبش في الذاكرة، وفي المتحف المتخيل، وفي ما تبقى من التراث الشعبي، أشكالها، وتكويناتها، بعيدا ً عن ظواهر الحداثة الخداعة، والمراوغة، وأوهامهما. فوديان العريبي تنسج بالمعدن خيوط نصوصها المستعادة، والمستحدثة أيضا ً. ففي الاستعادة ثمة انشغال يعيد للهوية معالمها، بساطتها، وشفافيتها، كجزء من ضمير عام، يتعامل مع الفن، كتعامله مع الماء، والخبز، وهو اتجاه يكاد يغيب، ويندثر، حتى عن حرفينا، وأسطواتنا، وفي المجال الآخر، فان لا جديد تحت الشمس، يعيد للمتلقي شغف قراءة القديم. فليس ثمة جديد إلا وقد نسج (العدم) فيه خيوطه: تلك الأنامل تهذب الخامة، الخليط من مجموعة عناصر، من غير إغفال الهواء والنار.


     




  فاختيارها للنحاس، في عصر الرسم بالليزر، والخامات اللا فنية، والنفايات، والرسم بمادة النحت، في عصر فن الحاسبات، والسماح للمصادفات الانتظام بقانون صياغة العلامة المركبة، من وحدات لا مرئية، عبر الكومبيوتر، تتوحد مع ذبذبات الدماغ وإشاراته واليات عمله اللا واعية، ومع اللاشعور الفردي/ الجمعي، يغدو اختيار النحاس، كاختيار (الطين) لدى الخزاف: العودة إلى الأصول، لاستعادتها من ناحية، والسماح لها أن تكوّن ذائقة تحافظ على ذاكرة المكان، وذوبان الزمن، من ناحية ثانية.
    فالنصوص الفنية ـ هنا ـ لا تخفي أنها من صنع أقدم مشروع للتواصل، والتجدد: فالعقل هنا ليس جنسانيا ً، أحاديا ً، وإنما سمح لليد أن تمارس دور المخيال بحدود صياغته لهويته: سلاسة التعبير، وبساطته، ومد الجسور مع الواقع.
   فالفنانة تختار مسارا ً عمره بعمر مقاومة (المكان) لغيابه. وهذا قد لا يبدو مهما ً، أو قابلا ً للمقارنة مع محاكاة تجارب الحداثة، ولكن أهميته تأخذ موقعها طالما إن الاضطراب ليس راسخا ً وغير قابل للدحض، والتعديل. فالبساطة، والعفوية، والسلاسة، تتضافر لصياغة ذات الأشكال التي أنتجها المكان، كايكولوجية تعيد للبيئة دور المرأة بوصفها مبدعة، وليس بوصفها فائضة، أو تابعة، أو سلعة، أو أداة للاستخدام. إن السلاسة التي تمتلكها العديد من تجاربها النحاسية، لا تذكرنا بمكانة المرأة في العراق القديم: المرأة الأميرة والشاعر والكاهنة حسب، بل بوصفها قدوة للمجتمع وهي تشذبه من القسوة، والمكر، وتعيد له توازنه، كحياة ليست فائضة، أو تترك كبرياءها يتمرغ في الوحل.
   فالهلال أو الشجرة أو الأشكال الهندسية المستمدة من الموروث الشعبي، تتداخل مع ألوان السماء؛ الشذري، والأزرق الفيروزي، وكأن المكان يحتفل، ويحتفي، بدل أن تحدث القطيعة، بين الصانع وعلاماته، أو بين الماضي وحاضره المتجدد.


***
وللفنانة كلمة كتبتها حول مكونات النحاس، وخصائصه، تلقي الضوء على ما تعلمته، بالدرجة الأولى، من زوجها الفنان والباحث محمد حسين جودي،  واستثماره في تجربتها: رموز من التراث.

  مكونات وخصائص النحاس :
تتكون اغلب خامات النحاس من نوع الكبريتيد وهو (الجالكوبايرايت) ( ) Chalcopyrite وهو كبريتيد النحاس والحديد يحتوي على 34,5% من النحاس مما تتطلب تحميصها إلى الاوكسيد اولا ، ثم صهرها الى النحاس . وخام النحاس (الملاخايت) Malachite هو كربونات النحاس القاعدية الخضراء والذي يحتوي على نسبة 57,03% نحاس ويتميز بمظهره العنقودي ويتواجد في الاجزاء المتاكسدة لعروق النحاس المنتشرة في صخور الحجر الجيري ، ويتواجد عادة على هيئة الياف شعاعية .
اما خصائص النحاس فهو من المعادن غير الحديدية أي انه لا يحتوي على عنصر الحديد أساسا ولا يتأثر بالمغناطيس ، ويعتبر من المعادن الثقيلة عالية الكثافة حيث تكون كثافته 8,93% غم/سم3 ووزنه النوعي 3,9-43 وينصهر في درجة حرارة 1086م وهو لين ومتين سهل التشكيل على البارد او على الساخن وهو مقاوم التاثيرات الكيماوية ويتميز بقابلية عالية للتوصضىيل الحراري والكهربائي ، ويستخدم بشكل اسلاك في الخطوط الكهربائية والبارمترات والاجهزة الخاصة بالصناعات الغذائية ، وقابل للسحب والسباكة . فهو يدخل في تكوين سبيكة النحاس الاصفر والذهب والبورنز ، والنحاس الاصفر يتركب من 86% نحاس و10% قصدير و4% زنك ويستخدم في صناعة الزنبركات وحنفيات المياه ووصلات الانابيب النحاسية ، ويصبح النحاس لينا قابلا للتشكيل والتطويع اذا تعرض للحرارة حتى الاحمرار وتركه يبرد في الهواء الجاف ولكنه يصبح هشا قابل للتشقق والتكسر اذا تعرض الى درجة حرارة عالية تصل الى اكثر من 1000م ْ درجة مئوية ولا يتحمل الصدمات ( الطرق ) الضغط العالي ويتاثر النحاس بالرطوبة ، اذ تتكون مادة خضراء اللون على سطحه ، اذا ترك في مكان رطب او في الماء ثم تعرض للهواء الجاف ، وهذه المادة الخضراء تسمى كبريتيد النحاس . ويتاكسد النحاس عند تسخينه بالحرارة وثم يتعرض للهواء فتتكون مادة كربونية سوداء اللون على سطحه تسمى كاربونات النحاس .
ويتآكل النحاس عند تعرضه لوقت طويل للرطوبة ، أو عند تركه في أي حامض لفترة طويلة وخاصة النتريك التيزاب ويذوب في حامض الهيدروكلوريك اذا ترك فيه فيخرج لهبا اخضر اللون مع ظهور فوران شديد وخروج رائحة كريهة وسامة ، ويباع النحاس في الاسواق التجارية بشكل صفائح الواح طولها 10 امتار او اكثر ( رولات ) ويستورد من بلاد الغرب حيث توجد مناجم النحاس هناك وتجري عليها عملية تعدين .
نبذة مختصرة عن تاريخ صناعة النحاس في العالم :
يعد النحاس واحدا من المعادن الاولى التي عرفها الانسان منذ اقدم الازمنة وطوعه لاستعمالاته الخاصة ، وتدلنا مجموعة من الاثار النحاسية العراقية القديمة ، على ان العراقيين القدماء اول من استخدم النحاس في الصناعات اليدوية منذ اوائل الالف الرابع قبل الميلاد 4000 – 6000 ق.م ومن هذه الاثار تلك التي عثر عليها في المقابر والمدافن في عدة مواقع عراقية تعود للادوار التاريخية اورك وجمدة نصر . كالبلطات والمقاشط وشلفات السكاكين والخناجر والدبابيس وادوات الصيد ورؤوس الرماح والثيران والتماثيل الصغيرة والمناجل والمسارج والمصافي والماسكات واطر المرايا والاواني وغيرها من المواد والالات والعدد ، وقد تقدمت صناعة النحاس تقدما عظيما عند العراقيين القدماء في العصر السومري والعصور التاريخية اللاحقة .
واستخدم العراقيون ثلاثة طرق في تصنيع النحاس هي :
أ‌- الطرق بالمطرقة الحديدية على النحاس البارد .
ب‌- الطرق على النحاس بعد تسخينه .
ت‌- الصب بالقوالب الفخارية .
ووجدت اثارا نحاسية متقنة في العصر السومري استخدمت فيها طريقة الصب ، كالثيران الرابظة والثيران المدورة ، وتماثيل حيوانات اخرى صغيرة .
اما اقدم اداة معدنية صنعها الانسان القديم من النحاس هي راس رمح من النحاس الخالص عثر عليها في موقع يسمى اور قرب مدينة الناصرية في محافظة ذي قار في العراق .
اما في العصر الاسلامي ، فقد تقدمت صناعة النحاس في مدينة الموصل في شمال العراق في القرن السابع الهجري / الثالث عشر الميلادي . وفي القاهرة مصر في العهد المملوكي في القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي وشملت هذه الصناعة على صناعة الصواني والمواقد والشمعدانات والصناديق والاباريق والطسوت والقصاع والاطباق واصبحتا من المراكز المهمة في انتاج التحف المعدنية ، وتكفيتها بالفضة والذهب ، والتكفيت ابتكار عراقي ابتكره صناع التحف المعدنية الموصليين ووصلوا به غاية في الابداع ( ) .
وقد ابدع النقاشون العراقيون والمصريون والسوريون في نقش الخطوط العربية المتنوعة والتصاوير المختلفة التي تمثل مظاهر الحياة والترف وحياة القصور ومجالس الانس والطرب ومظاهر القنص والصيد واللعب بالكرة والصولجان ومظاهر فلكية كالنجوم والقمر والاجرام السماوية وبعض الحيوانات والطيور والزخارف النباتية والهندسية الدقيقة في التحف المعدنية وهناك امثلة رائعة للتحف المعدنية الموصلية والقاهرية والدمشقية والحلبية في معظم متاحف العالم الشهيرة كالمتروبوليتان في امريكا والاستانة في استنطبول ومتاحف برلين وبيناكس في أثينا ومتحف نيويورك ومتحف اللوفر في باريس والمتحف البريطاني ومكتبة الدولة في ميونخ والمتحف الوطني في فلورنسة ومتحف كلستان في طهران والمتحف الاسلامي في القاهرة ، ومكتبة الجامعة الازهرية في القاهرة ، وفي دار الاثار الاسلامية بمتحف الكويت .
وامتد تاثير صناعة الموصل المعدنية في القرن الخامس عشر الى اورا وخاصة ما يتعلق بفن التكفيت فظهر التاثير في مصانع البندقية وجنوا وغيرها من المدن الايطالية في العصور الاوسطى حيث اقبل صناع التحف المعدنية في اوربا على تقليدها واستوحوا ايضا اساليب جديدة لصناعتها واشكالها من صناعة التحف الموصلية والدمشقية ، وبرزت من جراء ذلك مدرسة فنية في اوربا عرفت بمدرسة البندقية الشرقية . وقد ورثت البندقية صناعة التحف المعدنية من العرب المسلمين منذ القرن الخامس عشر .
وعرف استخدام النحاس وسبائكه في القارة الامريكية في زمن يعود الى ما قبل العهد الكولومبي (Columbian) ، وقد اخذ الغزاة الاسبان من السكان الأصليين في أمريكا الوسطى اساليب صناعة النحاس وتطويعه واستخدموه في صناعة العدد المستعملة في تشييد معابدهم المشهورة كالفؤوس والمعاول ، وعرفت صناعة النحاس في امريكا الشمالية اذ صنع السكان عددهم وادواتهم منه .
أنواع النحاس :
1- النحاس الخام .
2- النحاس الخالص .
3- النحاس العادي .
4- النحاس المصوب .
5- النحاس المطروق .
6- النحاس السبيكة الأصفر .
ويتوفر النحاس العادي في الاسواق المحلية ويمكن الحصول عليه بشكل صفائح ويباع بالامتار وبالاوزان ، ويمكن معرفة وزن المتر الطولي منه .
1- النحاس الخام ( الملاخيت) :
وهو كربونات النحاس القاعدية الخضراء الذي يحتوي على نسبة 57,03% نحاس وعلى نسبة مختلفة من الحديد ومعادن اخرى ، ويستخرج من باطن الأرض من بعض الشوائب الموجودة في الصخور الجيرية ويحمص إلى الاوكسيد ويصهر ويختزل الى النحاس ، وعند الكشف عنه يمكن ان نسقط قطعة من النحاس الخام الملاخيت في نار الفحم يختزل الخام ويظهر الفلز النحاس ، ويعطي رائحة ثاني وكسيد الكبريت وقد نحصل أيضا على النحاس الاسود وهو اكسيد نحاسي نقي يمكن تنقيته بالتسخين ، ويمكن معرفة الملاخايت بتبليله بحامض الهيدروكلوريك فيعطي لهب كلوريد النحاس الأزرق .
2- النحاس الأحمر الخالص – النحاس النقي :
الذي يخلو من المعادن الأخرى ويظهر شكله لماع يشبه الذهب ويعرف بالذهب الكاذب .
* افتتح معرض الفنانة وديان العريبي في صالة المعارض بوزارة الثقافة ـ الاحد ـ  4/10/2015
السيرة الذاتية
  .
  وديان العريبي . بغداد. تعمل في وزارة الثقافة دائرة الفنون التشكيلية .
الوظائف التي عملت بها : المتحف العراقي ( قسم تصوير فوتوغراف ) .
المكتبة الوطنية دار الكتب والوثائق ( قسم مايكرو فيلم ) على كأميرة 16 و 35 ملم
جريدة دار الجماهير للصحافة ( منظم أرشيف ) .
دائرة الفنون التشكيلية ( قسم العلاقات والإعلام ) منظم أرشيف من (1996 إلى 1999) .
مشاركة في معرض الكتاب الدولي الذي يقام سنويا في معرض بغداد الدولي .
*عضو جمعية المصورين العراقيين .عضو نقابة الصحفيين .عضو نقابة الفنانين العراقيين .عضو نقابة الفنانين التشكيليين .عضو اتحاد المصورين العرب . عضو رابطة المرأة العراقية .
إقامة دورات على النحاس والتلوين بالمينا في سوق الحرفي في جرش من 2001-2002 .
في جمعية سيدات عجلون سيدات جرش من 2001-2002 .
في جمعية عمان
طبع كتب من تأليف وديان حسين عريبي ( تعليم الرسم 2001 ) .
نشر مواضيع في جريدة ( العراق – والمنار – والزمان ) .
ونشر مواضيع في مجلة ارض كلكامش .


الثلاثاء، 29 سبتمبر 2015

الكاظمية التراثية تنقرض!- د. أحسان فتحي*







الكاظمية التراثية تنقرض!


د. أحسان فتحي*

الأعزاء الأصدقاء

تحيات
     اكتب لكم اليوم عن مصير مدينة الكاظمية التاريخية والذي يتجه بسرعة نحو الزوال الكامل، وهو أمر في غاية    الخطورة ويمثل خسارة لا تعوض لأحد ابرز الأمثلة على الموروث الثقافي في العالمين العربي والإسلامي


 *معماري عراقي
متخصص في الحفاظ على التراث

نخبة من اعمال د.غالب المسعودي

الاثنين، 28 سبتمبر 2015

في نصوص علي النجار التشكيلية مخفيات اللاوعي بين الاغتراب والمنفي-عادل كامل



 


في نصوص علي النجار التشكيلية
مخفيات اللاوعي  بين الاغتراب والمنفي

عادل كامل


[1] ملامح
    إذا افترضنا ان حياة الرسام تنقسم إلى قسمين، وأحيانا ً إلى مراحل، ففي الأولى يسهم الرسم بصناعة الرسام، وفي الثانية، يصنع الرسام الرسم. وقد توجد مراحل أخرى يهدم فيها الرسام الرسم، أو يهدم الرسم الرسام...، فان تجربة علي النجار، التي بدأت عند تخوم تجارب الرواد في التشكيل العراقي الحديث، في خمسينيات القرن الماضي، ثم اشتغلت بمعالجات تخلت عن (المراحل) كي تمارس عمليات البناء/ الهدم، والهدم/ البناء، انطلاقا ً من مشروع يقف على الضد من: البذخ، التمويه، القناع، المدح، توخيا ً للبقاء شديد الانحياز لتأملاته، وصدقها.


   ربما نقول: إن كبار الرسامين، أي المشتغلين بالرسم، عبروا من الواقع إلى الرسم، وفي الوقت نفسه، مهدوا لنا كيف نُستدرج للعبور من الرسم إلى الواقع، لكن الأخير سيضعنا إزاء تجربة تحولت إلى خبرة على صعيد الألوان، الفضاء، الرهافة، الرموز ...الخ، لأنها ذاتها هي التي ستتميز بعلاماتها، أو بما تتركه من اثر، وأصداء، إزاء المجهول. فالتاريخي يكمن عبر نسيج النص، اللوحة، كي يمارس النص الفني الإقامة في المسافة ذاتها التي شغلت كيان الفنان، لكن هذه الإقامة عندما تدمج المراحل، والعمر، بدءا ً بالطفولة، والعذابات اليومية، والسكن في المنافي، ومواجهة العلل، والتحولات، والمتغيرات، تعدو موقفا ً إزاء العالم، بعد ان يكون الفنان قد صهرها، شذبها، وأعاد صياغتها، عبر ذروة ستشكل مرحلة ممتدة  عبر هذه المفازات، كي تزداد صفاء ً طالما مكث الفن يدوّن  ما هو منوع، ومركب، وحدسي، ومتداخل، لصالح الصوت النائي الذي لم يقدر العالم بأسره على محوه، كي يعيد بناءه، كما تضمنت الآثار ذاتها التي صنعتها الأساطير، بتحولها من الواقعي المحسوس، واليومي، إلى الافتراضي، والمتخيل، كي لا يتقهقر هذا إلى الأصل، بل كي يصير أصلا ً آخر، ينبثق، مثلما يعيد كل موت لغز بذرته العنيدة، عبر مشفراتها، وآليات عملها، بموت غير محكوم إلا بالمعادلة ذاتها للظلام ـ وطاقته، وهو العدم وقد غدا ممتدا ً، إلى وجود مكّون بالوضوح الذي حفر في مستحيلاته.
      فما تلخصه تجربة أكثر من نصف قرن، عند علي النجار، من لوعة ومسرات، حساسية وصدمات، صخب وفراغات، قسوة وهشاشات، بوح وصمت..الخ، يمكن ان يقارن بإعادة قراءة جدار رسّم إنسان الكهوف فوقه كل هذا الذي يمتلك الأصل وضده، الوجود ومخفياته، آلامه ومباهجه، غموضه وما هو اشد غموضا ً، ما قبل العضوي وما بعد الزمن: هذا الانشغال بما حول المحو إلى ضوء، والغياب إلى حضور، وكأنه يؤدي ما كان يؤديه المرتل في صلاته عندما منحت الآلهة نفسا ً من أنفاسها، وأرسلته بإناء، وقد وضعته في قلب الإنسان. فالمندثر يتشبث كي لا يكون إعلانا ً، أو دعاية، أو علامة للعبور...، بل احتفاء ً ـ ربما ـ بما تداخلت فيه الأزمنة، وهي تحافظ على زمنها الفريد، النائي، الخاص، الذي عاشه الفنان، ودوّنه، مثل من لم يفقد الأمل، حتى لو كان افتراضيا ً، ووهما ً، أو طيفا ً من الأطياف، كي يكون الرسم إقامة لم تترك أثرها حسب، بل راحت تدعونا للاحتفاء بإسرارها وبأسرار الرسم،، بملغزاتها وبما كتمه الرسم وما أعلن عنه: انه الرسم الرسام، معا ً، وهما المسافة الفاصلة بين المسافات، لكنها أبدا ً لم تعمل إلا بحضورها، في كلية الغياب.
[2] أزمنة







     لم يتم دحض احتمال أن الفن ظاهرة غرائبية، حد المرض، أو الجنون، كما فعل الرسام الهولندي (روبنس)، بالرغم من أنه سيصبح قديسا ً للرومانسيين، وللمدرسة الرومانتيكية، بعد قرن، فقد استعاد فكرة: ان العقل السليم في الجسم السليم.  لأنه سيرسم موضوعاته وكأنها في احتفال، إنما ليس كما فعل الرسام (بوش)قبل قرنين، عندما عرى مآسي محاكم التفتيش، وصور الإنسان في القاع. لكن روبنس، كما سيصّور الفنان الحديث، احتمى بالجسد، وجعل منه علامة بالغة الترف، والنشوة، والكمال. فروبنس لم ْ يأت بسلطة جديدة للفن، بعد أن ثبت عصر النهضة: مكانة الجسد، استنادا ً إلى موروثهم الإغريقي. ففي عصر روبنس، كانت سلسلة من الخرافات قد استبعدت، فلم تعد الأرض مركزا ً للكون، على سبيل المثال، كما كان التشريح، في الطب، قد أسهم بنبذ الشعوذة، وطرد الساحرات، بسيادة تطبيقات العلم الحديث، وتدشينات العقلانية الحديثة.  ولم يكن لدي روبنس إلا أن يصّور الحياة   الجديدة، منذ القرن 17، بعد الازدهار التجاري ـ وبدء الثورة الصناعية في أوروبا، إلا أن يتبنى موضوعات المسرة، حد البذخ،، ومتع الحياة، بعيدا ً عن رؤية المشهد بكليته، وفي جدله. فلم يكن الجسد مأوى للشيطان، أو وصمة عار، أو علامة تدني. لقد أعاد له، كما فعل الإغريق، كماله، وتناسقه. فنصوصه النشوانة لم تعد تنظر إلى العالم الآخر، النقيض، المختلف، الذي رآه (رامبراندت)، ولا (دورر) قبل ذلك، بل راح يصور سعادته ـ كسفير لهولندا في لندن حتى في فترات الأزمات ـ عبر البذخ النادر للحواس، وجماليات النشوة، ورهافتها، مع تجاهل محرمات الجسد، وحشمته القديمة.  ولم يكن نموذجه لجسد المرأة، إلا ليمثل الوضع قبل الطرد، ممتلئا ً بالحياة قبل أن يصدعها الآخر، ولا المرض، ولا الشيخوخة، ولا الزمن نفسه. كانت لوحاته تمجد ازدهار (السلطة) وخطابها، وليس العكس. ليمثل فنه ريادة منحت الجسد حقوقه، خاصة، أنه لم يترك تفصيلا ً إلا وبلغه؛ لتبدو واقعيته من صنع المخيال، ولا علاقة لها بالمشهد في كليته. فالمقدس العنيد، منذ الآن، لن يحجب ولن يستر خلف أقنعة، أو قشور. لأن (الحقيقة) عارية، وهي حقيقة ما قبل تدخل الزمن/ والشيطان/ في واقعة ارتكاب (الإثم)، أو تذوق ما كان يجب أن يبقى نائيا ً، ومحرما ً. روبنس، بآليات لاوعيه، سمح للحياة أن تمتد خارج التابوات، فصورها كمعطى خارج الدحض، والاستلاب. فالهدف ـ هنا ـ ليس سقوط الجسد، والعقل السليم، بل كمالهما.


 


[2] الزوال بوصفه ديمومة!
     بيد أن تاريخ الفن، منذ انشغلت الأصابع برهافتها، قبل مليون سنة في الأقل، لم تهمل كون الجسد أول تدشين لغاية ستّولد وسائلها، حقبة بعد أخرى، ألا وهي أن هذا الجسد، ليس رمزا ً فحسب، بل معطى للوجود بمخفياته، الأمر الذي جعل المشفرات تبقى تحافظ على آلياتها النائية، وسيكون من الصعب فك عملها بأدوات ـ هي في الأصل ـ خاضعة لمجموعة شائكة من المخفيات. كما ستشكل حماية الجسد ـ من الألم والوهن والموت ـ محركا ً للتطبيقات العملية لديمومته. مما سيولد لغة رمزية ـ من السيف إلى الوردة ـ على نحو يغدو فيه الفن أكثر التصاقا ً بالجسد ذاته. بوصفه المستلم والباث في ذات الوقت. فالميت سيترك جسده رهينة، كي تعود إليه روحه (نفسه)، الأمر الذي جعله يسن نظام حمايته من التلف. فما معنى حياة تتعطل فيها الأعضاء؟  وما معنى لوجود الفن ـ من مثلث الرمح وخرز القلائد وزخارف الأساور إلى حزام العفة...؟ ومن الأواني إلى ماموثات المغارات وغزلانها وصولا ً إلى حداثتنا ـ لو لم يكن وجوده مقيدا ً بأنظمته نفسها: البيئية/ الاجتماعية/ والنفسية..؟
     علي النجار، منذ نصف قرن، ـ وبصفته وريث حضارة عراقية منحت الجسد موقعه في الخطاب الحضاري/ الفني، سبقت الرومان، وعصر النهضة، والحداثة الأوربية، بألفي سنة ـ سيجد في الجسد إشكالية فلسفية لا يمكن فصلها عن الفن ـ ولا عن رؤيته الوجودية. فالجسد استحال كيانا ً معرضا ً للأذى، بعد أن أستمد وجوده بوجود عناصر أرضية (الطين/ والدم/ مع هبة منحتها الآلهة إليه وهي (النفس): وربما هي الروح أو ما يميز هذا الكائن عن أقرانه، من النبات والحيوان. إنه وحده، النموذج المركب من معادلة ثلثيها من الأرض ـ وهي المحكومة بالفناء ـ وبثلث من السماء، يصعب تحديد ماهيته، أو دوره. فأقدم نص عراقي (جلجامش) سيعالج إشكالية انهيار الجسد (موت أنكيدو)،  ومنح (العمل) أقدم مفهوم مجتمعي كي ينتج فيه الإنسان مصيره، هو بمثابة تفكيك للغز الجسد، وإشكاليا ته. وعلي النجار لم يجعل الجسد نموذجا ً لخطاب الاحتفاء بالحياة، ومجدها، بل ملاذا ً، وحماية من: الآخر/ ومن الزمن. فالبعد الفلسفي ـ السيكولوجي، الرمزي، سيسمحان لعلي النجار التوغل في الأقاصي: الاحتماء بما هو قيد الزوال، والتجول في مساحات المتاهة: اللاوعي، لتصبح الأرض مض ممر نحو اللاحافات، حيث المحنة ليست تاريخية أو من صنع المتضادات البشرية فحسب، بل كامنة في اللغز: هل الآلهة ـ بما تمتلكه من لا متناهيات ـ بانتظار وجود كائنات زائلة تؤدي لها ولاء السيادة ـ والامتنان؟  إنه ليس منهجا ً في الشك الفلسفي، بل في الإنسان ذاته فهو ليس مثالا ً ـ لا أشور ً يقود، ولا رومانيا ً إلى التكامل، كما لا ينتمي إلى مسرات (روبنس) ومنهجه المقترن بالمجد الأرضي وعالمه الباذخ بالشهواتـ والنعم، وإنما إشكالا ً لن يمتد إلا بتكرار الامتداد، لحظة أثر لحظة، بزواله. حتى  أن النص الفني، في هذا السياق، لا يهمل رمزية التشبث بالخالد، والأبدي، كقناع لحتمية الاندثار. علي النجار، لا يزخرف محنته، ويزوقها، ولا يتوارى فيها، بل سيدّون (يرسم ويحفر) تاريخ عراك لهزيمة لا يغدو فيها النصر إلا أثرا ً ، ملاذا ً تذهب إليه الأصابع علها تجد لومضات القلب سكننا ً، حتى لو كانت المسافة برمتها، ليست إلا الزوال ذاته.




[3] الأثر: تدوّين المخفيات
    لم يكرس علي النجار فنه، للاحتفال، كما ستتعمق النزعة الباذخة في الرسم العراقي، بالحياة، في الوقت الذي كان من الصعب تلمس مظاهر واقعية للعصر الحديث. كانت تجربته تضعنا في مجال آخر: ليس الارتداد أو النكوص، بل قراءته للحاضر بعد إزالة قشوره. فالأقنعة ـ إذا لم يكن الخطاب الفني برمته بعيدا ً عن البرمجيات البكر ـ ليست إلا ـ كاللغة ـ لا تذهب أبعد من أنظمتها النائية، إلا بالترميز والتشفير الذي يعمل بديالكتيك المحركات ـ الأشكال. إن علي النجار، منذ البدء، لم يحتفل بالطبيعة، ولا بالجسد، ولا بما هو مغاير للوجود بصفته إشكالية. وكمقارنة للمعنى ـ هنا ـ فلإشكالية لن تنغلق عند مسار أخير، إنما تحافظ على صلاتها بما ينبثق عبر العصور، الأمر الذي منحه، في تجاربه الأولى، منهجا ً في الحفر: لا فوق الجدران القديمة، أو في مخفياتها فحسب، بل في الجسد الذي سيحافظ على موقعه بين العناصر ـ والتصورات. فالفنان لا يتكلم، لأن الرسم  ليس وسيلة أو أية في ذاته، بل ـ هو ـ محاولة لتحقيق الوجود ذاته وهو غير قابل للتحقيق. فالجمال لن يصبح عاما ً، كقوانين راسخة، بل جزءا ً من موقف ـ وعصر، مع انشغال بمحنة وجوده، ومحنة تدمير هذا الوجود. فالفنان لم يعلن منهجه إن كان واقعيا ً أو مثاليا ً، بل عمل وكأنه أمسك بالجدل كي لا يتحول (الموضوع) إلى: أشياء، وإنما ليحافظ على ديناميته، بما فيها من بدائيات غائصة، ومحكمة، ومعاصرة. لقد قلت (كأنه) بدل منحه اليقين، لأن رهافة الفنان لم تعمل كعمل الواعظ، أو لتجعل من الحكمة منهجا ً لها، بل على العكس:  يعمل الفنان بحرية حتفه: تلك المواجهة مع عالم وجد نفسه فيه، مراقبا ً لمعادلات لن تترك لهذه الحرية إلا أن تأخذ موقعها من الإشكالية: وجود لا يجد حمايته إلا في سلاسل دفاعات جميعها لن تترك إلا أثرا ً لهذه المواجهة. فالفنان يترك حواسه جميعا ً ـ أصابعه وجسده وبصره ـ وخاماته، تدوّن عمق المأزق: استبصار ما يحدثه البصر من تعرية للسطوح، والأبعاد، في تصوير علامات النص، وعملية نسجه. الأمر الذي جعله لا يشبه إلا نفسه، بعد أن أختزل تاريخ الرسم التعبيري/ والمشفر، وما لا ينتسب إلى مدرسة محددة. فهو يتتبع خطاه في تلمس مساحة المنفى، إن كان في الجسد، أو في الأرض التي ولد فيها، أو في مدن الحداثات وما بعدها. إنه لم يبد إعجابا ً بالطبيعة، أو بكائناتها، ومنها الإنسان، إلا وقد تحولت إلى وجود لازمة (مأزق)، مع وجوده، في نصوص لن تصبح (علامات) إلا بصفتها تحافظ على مشفراتها، بدل التباهي بالعثور على خلاص. إنها تناور مضمونها بأشكال تخص عمل الزمن نفسه، مثلما إنها تحمل علامات شاهدها ـ شاخصها أيضا ً. فالرسام لن يكف عن تتبع اللامرئيات كي تأخذ موقعها في النص: المخفيات وقد كفت أن تحتفل بمجدها!

 


[4] ممرات الفن: المرئيات ليست خاتمة
     لم يبن (سيزان) نصه بحياد، كي يفصل المحركات (المكونة من أشياء) عنها. أي ما يهدف إليه التكوين. فثمة تمهيدات لا تحصى نبه إليها حكماء الأزمنة السحيقة، والفلاسفة، والمشتغلين بـ (الكلمات). فالأشياء بصفتها خالية من الحياة، كأشياء صماء، استبعدت عن ضرورات تدخلها في التأويل. فالفن للفن ليس نزعة باذخة للفن، أو دعوة نخبوية إلا بحدود إعادة معالجة الأسس التي ستبنى عليها الأشياء: الكلمات في الشعر/ الألوان في الرسم/ والخامات المختلفة في النحت مثلا ً. لكن عدم فهم الوجه المخفي لهذا السياق، هو ـ وحده ـ سيمنح النص (والشكلانية برمتها في هذا الاهتمام) بريقا ًكأنه وحده الدال على معدنه النادر. ذلك لأن رسام المغارات، لو استبعدنا أسباب التعبير وأعدنا قراءة النص من الزاوية ذاتها، فانه، هو الآخر، سيكون بناء ً. وبمعنى آخر: كان عمله بمثابة تفكيك/ وهدم، للأشياء إعادة وضعها في موقعها من نصه.
     علي النجار، قبل أن يستند إلى حفريات اللاوعي ـ واللاشعور، لم ينشغل بالزخرفة، والتنميق، والتكوين لصالح جماليات الفن (الباذخ) بعيدا ً عن موقعه في الخطاب الكلي، وليس كأثر في التقسيمات الاجتماعية للعمل. بل انشغل بالنص بصفته شديد الصلة بما يحدث بعيدا ً عن المراقبة ـ والملاحظة. فالأشياء، في نهاية المطاف، لا تبلغ ذروتها في الرأسمالية فحسب، بل في جذورها،  وهي لا تقوي إلا على أن تؤدي دورها في العملية البنائية ـ وفي هدمها. وعلي النجار، بصفته من أندر الرسامين العراقيين، والأقل إثارة للضجات، انشغل بالثقافة ـ أي بالإنسان من منظور ثقافته ووعيه للعالم ـ وليس باشياءه، فهو لم يموه بعزل المحركات عن مخفياتها. فلم يستخدم السطوح بعزل عن تلك العوامل التي لا تتم البرهنة عليها إلا علاماتها. فهو: يركب/ يدمج/ يصنف..الخ مفرداته البصرية كي لا يفصل (النص) عن موضوعه المنتقى. إن عدم اهتمامه بالفصل، لم يجعله (شكلانيا ً) وأحاديا ً في عملية البناء الفني. فالجمال ـ والحقل الجمالي ـ حتى وإن كان المثاليون قد منحوها شيئا ً من المقدس، والمتعالي، لن تسامى بعيدا ً عن الدافع النقدي ـ المختلف والمعارض ـ في إعادة بناء ما يتطلب أن تتمثل فيه عناصر التوازن ـ والجلال ـ والومضات الإبداعية التي هي عملية سابقة على تقسيم العمل ـ ولاحقة عليه أيضا ً. فالرسام لا يرسم لفئة محددة، كالنخب الأكثر ثراء ً، أو للسوق، كما لا يرسم للعدم: إنه يرسم ذاكرة كل كائن لن يكرر ـ حرفيات برمجته إلا بتعديلات ستظهر في مهارات الأداء، وتقدمه أيضا ً. فإذا كان النبات يمتلك ذاكرة ـ نواة دماغ ـ في مكان ما من الجذر، فان امتياز البشر، والفصائل المماثلة، غادر عالم الأرض، ومكث في الرأس. فثمة أفق يمتد، من الحواس إلى لا حافات الكون، ستسمح للفنان ـ وقد راح يكون عالمه بالإشارات والرموز والمشفرات ـ كي لا يبني نصا ً أحاديا ً، لا باذخا ً ـ كنصوص روبنس ـ ولا نصا ً للاستهلاك، بل متوازنا ً بين خصوصية الفن، والمتلقي؛ نصا ً ليس بصفته (سلعة) محض، بل بما يمتلكه من أبعاد تجعل الوعي فيها، فاتحة لتدشينات تجعل (الأشياء) جزءا ً من العملية الإبداعية،وليس نهاية لها.




[5] المندثر ـ ممتدا ً
     قبل أن يمسك رواد السوريالية بما لفت نظر (فرويد) إليه، حول العالم الغاطس، المسمى باللاشعور؛ المخزون والمكبوت والمجمد في الوعي (الدماغ)، كان اللاشعور لا يعمل بمعزل عن اللاوعي منذ حصل ان دشنت الحواس عملها في العلامات الشبيه بالفن. فما هو (تحت) في الذات، بحسب التجربة، وبما في اللاوعي، بحسب آليات عمله الكلي، كانت النصوص الاستثنائية تحقق تقدما ً في عمليات البناء. فالحقائق وحدها ـ كي تكتسب هذا المجد ـ تمتلك قفاها، ونفيها، وكل ما هو متوار ٍ بعيدا ً عن السطح. علي النجار، لم يرث من أسلافه، منذ فنون سومر وحكمتها، وحضارات الشرق، التصدع البشري وحده، بل، أكثر من ذلك، إشكاليات الإقامة في الوجود ذاته. فالحريات محض علامات خارجية للغاطس بما دعاه (عمانوئيل كانت) بـ: الشيء في ذاته. لقد وجد الفنان نفسه إزاء عالم يعمل على دمجه، وترقيمه، أي ـ في نهاية المطاف ـ على محوه، وعزله عن (كيانه الذاتي) وخصائص تفرده، وما يمتلكه من أبعاد جمالية، وإنسانية، غير زائفة، الأمر الذي جعله أكثر عنادا ً في الاشتغال من (الواقعي) إلى: محركات هذا الواقعي ـ الراسخ، ألا وهو اللاوعي الذي تكون عبر أزمنة طويلة للغاية، داخل خلايا تمتلك آلياتها في العمل. لكن علي النجار، على خلاف من سمح للأشياء ذاتها ان تستنطق ذاتها، مكث بصريا ً، وديالكتيكيا ً، في إعادة قراءتها.  ثمة، هنا، أزمنة قد دفنت عميقا ً في أكثر المناطق سرية، في اللاوعي ـ وليس في اللاشعور وحده ـ راح يحفر فيها، كي يستخرج ـ منها ومن ذاته ـ: كائنات وكيانات وعلامات لا وجود لها في الحاضر، إلا كمخفيات. حيوانات ليست أسطورية، بل سابقة عليها، ونباتات، هي الأخرى، بدت شبيه بالبشر، وأجواء لونية لا تحدث إلا عبر من أمسك بملغزات آليات الأحلام العميقة. فعلي النجار لا يني يزيح حجب تلك الأحلام، حد الكوابيس، ويتركها مرئية: إنها كيانات لم يحولها إلى أشياء ـ وهو الفارق بينه وبين من دفع بالفن إلى جمالياته الباذخة/ الأحادية/ النخبوية في الأخير ـ بل منحها لغزها وهي تثب من ظلماتها إلى ظلمات مضاءة بالوعي: العالم القائم على نظامه السائد: الاشتباك. حيث الأخير يعمل على خلخلة الحواس، والوظائف، لرسم المشهد بعيدا ً عن جاذبيته، ومحسناته. فالفنان لم يعمل عمل المزخرف، لأجل التزويق، بل لأجل الصدمة. فالعالم الغاطس يفتقد إلى الشفافية، لكن الفن، سيجعل من الأخيرة، تعمل كالمعادل الموضوعي الذي تحدث عنه (اليوت)   بين الحدود، في معالجة الصدمات. فالفنان يصّور عالم: الغابات/ البراري/ والبحار وقد تداخلت فيها كائناتها النباتية والحيوانية تداخلا ً جعله يستبعد الأشكال الهندسية ـ التي سيرجع إليها بعد أربعين سنة وهو يتفحص الجسد، ويتأمله ـ  جسده ـ في المنفى ـ ليتمسك بعملية رصد ما ستؤول إليه تعقيدات تكوّن النصوص، وأشكالها. فالعشوائية ذات النظام السحيق، التي اعتنى بمعالجتها في نصوصه الفنية، سمحت له برؤية عالم يقع تحت ـ في الخفاء ـ داخل وعيه المستحدث. ثمة زواحف، وثدييات لاحقة على النبات، وقد سبقتها مشاهد البراكين، والطوفانات، لمشهد لن يحدث إلا في المختبرات الكبرى، وقد رصدها بعد أن وجد حاضره لم يبتعد ـ إلا بأنظمة التزوير/ الأقنعة ـ عن تلك العصور التي صاغتها قوانينها، وأنظمتها. فالزمن ـ هنا ـ تكومت فيه المسافات كي تبلغ درجة الكثافة القصوى: الصفر. والأخير، ليس بالتأويل، بل بالمشاهدة، كالعدم. ذلك لأن الرسام لن يتباهى بكائناته، بل يصّورها كأجزاء كوّنت لا وعيه ـ وهو لا وعينا السحيق ـ لا في ماض ٍ فان ٍ، بل في امتداده، وقد غدا بلا مقدمات، لكنه كون حاضره الذي أعاد بناءه الفنان، كنصوص كوّنت المشهد، ولم تغادره.




[6] المفنى ـ ومشفرات المنفي
     (1) نادرة هي النصوص التي تدوم طويلا ً، إن لم كن تكاملت فيها علل وجودها، ومقاومتها لعوامل اندثارها. والنجار، الذي ظهر في خاتمة عهد الريادة الفنية، وذروتها، في خمسينيات القرن الماضي، لم يجد ميلا ،ً أو رغبة، أو وعيا ً كي يحول فنه إلى علامات للاحتفاء، أو الاحتفال، بل ترك (هويته) تؤكد أن المحو غدا ظاهرة تتطلب المعالجة. فكانت رهافته الفنية قد سمحت له أن يستعيد (حريته) في قراءة الحاضر. وإذا كان الرسم الواقعي ـ كالرواية ـ سيجد دحضا ً أو سلسلة من التحويرات، فقد وجد الفنان، أنه أكثر علاقة مع ذاته، في تحديد منهجه في الرسم. كانت ستينيات القرن الماضي ـ عالميا ً ومحليا ً ـ مدوّية. فهي لم تخبأ ما ستؤول إليه انفجاراتها البركانية، من الصين إلى فرنسا، ومن أمريكا اللاتينية إلى الوطن العربي. فالحرب الباردة ستخلي نهايتها لمناف ٍ وحريات تتصارعان بأشد المناورات عملا ً بالمشفرات. وإذا استبعدنا شرط أن يكون الفنان مدركا ً لموقعه، وموقفه منها، فان رهافته، بالضرورة، لن تغر له إن أختار دربا ً للاختباء. علي النجار، بحساسيته وفطرته وعفويته ـ كالتي كانت لدي أستاذه فائق حسن وأثرها في ريادته ـ ترك نصوصه تجاور، وتحاور، وتعالج مفهوم: المنفى ـ والمنفي. والشاعر المعري لم يترك برهة للاستراحة ـ برؤيته الكلية، وفي مقدمتها: ان الإنسان سيناور بالتصّورات، ويجعلها، في الغالب، مغايرة لها. كان إحساس على النجار بالمنفي، داخل (المنفى) منحه قدرة رؤية المتناقضات/ والتصدعات الحاصلة أمامه. فليس ثمة إلا أن تجرفه عاصفتها، أو يقاومها باختيارات مستحيلة. فألف عام من ديمومة الاحتضار، واستبعاد تمهيدات عملية لصياغة المصير، لا علما ً ولا معرفيا ً، جعلت مساحة المنفى، عند المنفي، لا تقبل المناورة. والسؤال: أكانت تجاربه الفنية محض مرآة، للواقع الذي يغلي، ويتعرض إلى التفكيك، أم كانت  بمثابة مناورة للدفاع، بحسب آليات عمل الموجود في الوجود؟ كان الجسد  لا يمتلك إجابات، ولا الحواس، ولا الوعي إلا في حدود عدم الاندماج. فكان فنه، قبل أن يبحث عن ملاذ آمن له في العالم، لغة لا تنتمي إلى الكلام، بل ولا إلى الصمت، إنها ـ شبيه برسومات المغارات والدمى والأختام وتماثيل عصر الآلهة الأم ـ تحكي ما لا يحكى من إعلان يصعب إخفاءه: الاستنجاد بغائب يعيد للأرض سكينتها، والإنسان سلامه. كان هذا الإحساس بالمنفى، في نصوصه، يأخذ الطريق الذي لم يزّور فيه الفنان، عمق الاشتباك. وبعيدا  عن محن اليسار أو اليمين، المبرمجة أو التي  لم تجد شكلا ً آخر لعملها، فان خسائر الجميع، لن تتوازن مع من سيربح قليلا ً من الزهو أو شارات التفوق. نصوص علي النجار الفنية، منذ غدا الجسد جرحا ً في الاستبصار: ليس غاية وليس وسيلة، بل استحالة. فالمنفى في: المجتمع/ العائلة/ النفس..الخ، لن يدع انتظار الفجر إلا تمويها ً لفجر سيولد داخل حدود البنيات نفسها. فعناصر النص الحديث (وهي ذاتها شبيه برسومات ما قبل التاريخ/ الفطريين/ المهووسين جنسيا ً/ وما قبل الكتابيين/ وبأكثر الراديكاليين الأوربيين تضادا ً مع أنظمة الرأسمال/ المخصيين/ واللامنتميين..الخ) تحدق في عالم لن تدع فيه للعثور على نهايات لها مقدمات مغايرة  لها لم يحصل فيها (الصياد) القديم/ أو المعاصر، إلا على ما سينزله من محو بخصمه وإيذاء يبلغ  حد الجور، والمرض، كي تتجسد في رسومات (علامات) تكونها مشفراتها، ومن الصعب تفكيكها إلا بالأسلوب الذي يعيد للرماد مكوناته قبل الحرق.


 


(2)
     علي النجار، مع تجارب متفرقة لزملاء له، جرفهم (وربما سحرهم/ جذبهم) هذا الانحياز إلى حداثة لا تتوخى التلاعب بالفن، في الأقل أن لا يعلن عن موته، أو أن لا يغدو قناعا ً، أو أن يتحول إلى (سلعة) في سياق: الإنتاج ـ الاستهلاك، وليس التأمل أو الحكة. فنصوصه الفنية، بما فيها من أشكال مستدرجة من الأزمنة السحيقة، تعاصر حداثات الحاضر، لكن ليس لدحض (المحنة) أو مقاومتها، أو تمجيدها، بل لتحديد الاحتيار، بين اختيارات أخرى مهمتها كانت اقل تكلفة، بما تؤديه للمجتمع الناشئ، وهو مازال مهوسا ً بـ: رب الجميع ضد الجميع. هذا الاختيار المبني على بناءات غاطسة في اللاوعي ـ وفي اللاشعور ـ تظهر مدى عمق لمفارقات التي لم تتعرض للنقد/ التفكيك/ الدحض، إلا كتمهيد لحقبة لا يصبح فيها الاشتباك أساس الإقامة.  إنه تأويل ينحاز لمنهجية التحليل السيكولوجي، لكنه، لن يجعل من الرسم الحديث، علامة مرض)، كما لفن النظر (خروشوف) ـ أمين سر الحزب الشيوعي السوفيتي ـ وهو يتأمل لوحة لبيكاسو، إنا لأن الغاطس في لوحة بيكاسو ـ في هذا الاتجاه ـ تظهر ما تم دفنه خلف الخطاب المعاصر نفسه. فالمرض (الخاص بالجسد) ليس هو المرض في (الفن)،  إلا إذا كانت التعبيرية قد كفت ان تكون فنا ً. لكن المرض (فيهما) ليس علامة امتنان أو ثناء. انه عواء شبيه بما دفن تحت قاع البحر، وليس هو الذي يتناثر مع الأشلاء، أو يظهر عند رمال السواحل. نصوص النجار، سمحت لآليات اللاوعي ان تمنحه مراقبة: ذاته/ مجتمعه/ وكائناته، كي تمهد لقراءة تبقى تستدرج قراءها لقراءة عالم يكونه المنفى ـ وهيدغر لم يغب عنه هذا التصور في رؤية الإنسان الحديث مقذوفا ً/ مرميا ً ـ  لا يمتلك المنفي فيه قدرة تلمس الدرب الذي لا وجود له لنجاته، إلا وقد غطاه رماد الاشتباك، وغباره، وإشعاعاته القاتلة بصمت. لكن هذا لن يدحض أن (الأمل) ـ في التشبث بالحياة ـ غواية شبيه بـ (الهمسات) التي برمجت حكاية الطرد ـ والعصيان، وإنما مناورة قائمة في جعل ما سيزول، نابضا ً بمبررات وجوده.  ومنهج علي النجار، وهو يصّور منفاه، لا يناور جماليا ً، ولكنه سيتمسك بـ (هويته/ بصماته/ شخصيته؛ أي أن يكون: هو، وليس آخر تم استحداثه بحسب ضرورات العصر) التي ـ شغلت كل من رأى لا حافات المنفى ـ لن تعزل  عن: طيوره/ أشجاره/ نساءه/ حيواناته/ أطفاله، صخوره/ أجنته..الخ وقد استحالت إلى كائنات حشرت في سفينة ما قبل (الطوفان ـ المعاصر) لعالمنا   الحديث ـ المحكوم  بملغزات العولمة ومشفراتها ـ  كي تدل أن الوعي بالفن ـ وأيا ً كانت طرائقه ومعالجاته واستثناءاته ـ لا يمكن عزله عن حساسية الفنان، والتي ستشكل احد مكونات هويته في مواجهة: المحو.


 

(3)
     فالهوية ليست تركيبا ً مضادا ًللاضطراب الحاصل في: الذات، أو في المجتمع، ولا رصدا ً لعشوائية منتظمة تعمل وكأنها مدوّنة مسبقا ً فحسب، بل لأن الهوية لدي الفنان، لن تغادر وعيه بتحديد ماهية الاشتباك، والتباساته.  فقد كان علي النجار يستطيع قراءة لوحات (روبنس) أو بعض لوحات فائق حسن، أو ألدروبي، لو كان قد استبدل رهافته، بدرب آخر، يجعل من الفن قناعا ً للتداول ـ وللأمل معا ً. لكن هذا كله لم يجعل من نصوصه شفافية عمياء! أو مبصرة،  بل لذّة بالغة المرارة للانتماء إلى المنفى الذي مكث غريبا ً فيه، وعاملا ً محركا ً للمتلقي في إعادة قراءة الوقائع، وتشخيصها، كي لا يتحول الفن (هذا) إلى نخبة لا تعرف أن (الجماهير) مازالت تصفق للصياد. فهل يتوغل الفنان في منهجه هذا بالبحث عن (كمين) أو رؤية نصوصه كعلامات مراقبة، لم ينتجها، إلا المنفي داخل منفاه؟ أيا ً كانت الإجابة فان الفنان علي النجار، لم يتخل عن رؤية الأزمنة في زمن متجاور: إن المنفي سيصّور رفيف روح عملت جدران المنفى، ومن حافظ على ديمومته، على محوها. إنما نوصه الشبيه بهذا الرفيف، لا تتوخى صناعة آمال لن يخسر فيها المنفي حياته، إنما لن يكون لنصر الآخر، إلا مسافة الزوال، وقد بلغت خاتمتها. إنها الحشرجات، الاستغاثات، التي دفنها منعم فرات في مجسماته، تجد ممراتها، في نصوص علي النجار، وهي تجعل اللون ـ كما هو لغز امتزاج الدم بالتراب لصناعة إنسان وادي الرافدين ـ عنصرا ًديناميا ً لن ينفصل عن هويته، أو عن رؤيته الفنية.




[7] اللون ـ لا حافات المجهول    
     لم يدوّن رسام المغارات، وهو يلون رسوماته الشبيه بالفن، دلالة استخدامه لها، وإن بدت للخبراء (والعلماء) أنها ذات صلة بالخامات المتوفرة (الفحم/ المواد العضوية/ الرماد/ الصخور الملونة/ المعادن) دون إهمال رؤية الأشياء بألوان مختلفة، وليس بلون واحد، لا يذهب ابعد من ثلاثين ألف سنة. ولأن علي النجار سمح لبصره ان لا يتقيد بالوعي، فان لاوعيه سيعيد لنا مفهوم الخطاب المشفر للألوان، وليس للمعاني التي نفذت سحريا ً، أو التي استدمت السحر فيها. فالفنان لن يستخدم ترف الألوان، أو غزارتها، ولا بهجتها، إلا في حدود مشفراتها بما تريد الذهاب به ابعد منها. هذه المقارنة ستبقى تعمل في حدود التأويل، فالرهافة بذاتها تقانة مستحدثة، مع (الأصابع/ البصر/ وبدء نشوء الدماغ) في إقامة  ممرات (جسور) بين الرائي ومرئيا ته. وهي جسور (ممرات) بالغة التداخل والتعقيد، لأنها ليست ممرا ً أحاديا ً، إنما ستعمل عمل الدماغ في أداء ما يمتلكه من استجابات واختيارات. هنا لا  يرسم الفنان علي النجار ببصره، أو بقلبه، بل يرسم بكيانه. فهو ـ عمليا ً ـ لا يرسم، بل يؤسس حورا ً ترك فيه المجهول يتدخل بألوانه ـ وأشكاله ـ المنتقاة. فالقصد لن يتوقف عند الدلالة المحددة، بل يتخطاها كي تحكي نصوصه استحالة أن تجد طريقا ً آخر، كالكلام، أو الاشتباك. ثمة أداة تنتمي إلى التهذيب ـ مع ان فرويد أغلق هذا الاحتمال وذكر ان الإنسان ـ في الأصل ـ لم يخلق كي يكون مهذبا ً / أو متحضرا ً؛ كي يصنع حضارة جديرة بمعناها ـ إلا ما هو شبيه بالتهذيب سيسلكه إنسان المغارات، وهو ما سيسلك علي النجار، في عالم أشد تعقيدا ً في لامبالاته تجاه مصائر البشر. ألا يحق لقراءة المتلقي ان تتخلى عن برمجتها في الثابت، كي تفكك دلالات الألوان، وباقي عناصر الفنان النائية، للمعنى  الكامن في ماهية الإنسان ذاته؟  فالرسم ليس إشباعا ً، مع انه ـ منذ وجد ـ  لم يفارق مجساته الدفاعية ـ الخاصة بديمومة ما هو عليه ـ بمعنى ان الإشباع ممتدا ً ـ ومتجددا ً ـ إزاء موضوعات تبدو حلولها ممكنة، لكنها عمليا ً، لن تجد غاية لها إلا في طرق لن تبلغ خاتمتها أبدا ً. فعلي النجار يلوّن، بما هو مضاف للبرمجة ذاتها التي لوّنت الأشجار والغيوم والطيور ..الخ بما و خاص بأشعة الشمس، في مجموعتنا، ومجرتنا، إضافة إلى المكونات الأخرى، مع حاسة البصر، كي يضعنا في اختياراته الفنية: ألوان تتطلب ان تجد من هو خبير بفك مشفراتها، مادامت قد اقترنت بموضوعات: محو الذات ـ وجعل الموجودات أكثر إدراكا ً باستحالة مغادرة منفاها. فالألوان لا تناور، ولا تعمل بالرموز المتعارف عليها، بل بالبحث عن ملاذ حول (الاشتباك) إلى حلم، والمنفى إلى فردوس غير قابل للدحض! هذه المهمة لم يعمل عليها (روبنس) إلا في حدود الآني، والذاتي، عبر نشوء واقعية أحادية استغلت الجانب الآخر من الواقعية، فيما عمل علي النجار، بذاتية لم تهمل جماليات الفن، حتى بقلب الواقعية إلى قاعها. فالألوان ليست وحشية، وليست مشغولة بمهارات رسام يتوخى الاستمتاع ـ والإمتاع ـ كما في أساليب مغايرة شاعت في الرسم العراقي ومنحته انحيازا ً لأحادية  استخدام اللون ـ بل كي يحفر خلف المشهد المصاغ بالأقنعة، والعادات الاحتفالية للألوان، وبهرجتها، المقترنة بعادات راسخة في تذوق الألوان، والانحياز إلى لذائذها، وما تبعثه من بهجة، ومسرات، فيما يختار علي النجار، قفا المشهد: ما الذي يحدث للرائي ـ المنفي ـ في منفاه؟  لأن (لغة)الألوان مازالت مشفرة وتتطلب معرفة متخصصة في اكتشاف نظامها، وعمله. فهي تتكلم ـ ترسل/ تبث/ تنبه ..الخ ـ على اننا لن نجد إلا استجابات لا واعية لندائها النائي: ليس للمنفى حدود بعد أن وجد المنفي، كلما اتسعت رؤيته، إلا أن يتشبث باستحالة الكف عن العمل بالمستحيلات، ومنها التدوين بمشفرات ليست خاصة بالمنفى، أو بالمنفي، وإنما بالمعنى ذاته الذي كلما بدا قيد الاستبصار، والمشاهدة، ازداد اقترانا ً بالمستحيلات، والمجهول.


[8] المنفى ـ حدود المخيال والرسم
     لم يغادر علي النجار جسده، مع إن ما لا يحصى من الخلايا تندثر، وأخرى تولد، وهو يغادر البلاد التي ضاقت عليه على الرغم من تفردها بالثروات الطبيعية، وبالكنوز الحضارية. لم يغادر جسده الذي سيحمله معه وهو يتعقب الإشكال ذاته القائم بين الذات ـ والموجودات/ وبين الذات ـ والوجود. ولا أعتقد انه كان يبحث، وهو يوشك أن يخسر حياته بخسارة جسده ـ حيث المنفى الداخلي تضافرت عليه ما لا يحصى من العوامل كي تجعله خارج مسؤوليات الحكومات والمؤسسات الإنسانية ـ عن فردوس خاص به، ليتناول فيه لذائذ اللحوم، وليحصل على تعويضات خسرها في حياته الأرضية، أو كي ينجو بجسده وهو يرى كيف يتم (تدمير/ وتعقيم) الأرض ـ الرحم وكل ما هو خاص بالانتماء إليها وبهويتها ـ لجعل المستقبل بدرجة الصفر.  لقد غادر علي النجار منفاه، بهدوء، بحثا ً عن بلاد لا يجد فيها من يحد من حرية خياله في الأقل، كي تتوازن لديه متطلبات الكائن البشري، في أبسط شروطها: حرية الحلم.   على أن المنفى لن يخلع من ذاكرته، بمحض العثور على بلد لا تجري فيه محاكمات من غير أدلة، ولا توجد فيه اغتيالات بالجملة. فالمنفى سيتحول إلى مكان (وربما إلى لا مكان يتناسب والتحولات السياسية ـ الجغرافية، في زمن ما بعد ـ ما بعد ـ الحداثات ـ  والدخول في حقبة مغايرة لسنوات الحرب الباردة، كي يبذر فيه أكثر البذور قدرة على الإنبات: إنها بذور ستتركه  يغوص في أسئلة الإنسان الأولى ـ والتي مازالت تتمتع بامتدادها ـ : الأسئلة التي لن تجد خاتمة لها ما دامت دورة الحياة ذاتها لم تبلغ ذروتها. إن علي النجار الذي جعل الفن اختيارا ً لحياته، لم يجعله ملاذا ً إلا لأنه يتضمن ذات الغايات الأبعد من وسائلها. وفي مقدمتها انه تتبع نسغ المخفي في فنون الإنسان ـ وآثاره التي لا تحصى ـ وصولا ً إلى عصر انتهاك الجسد (الجمعي)، بمنطق مضاد  لأية شرعية قائمة على التوازن: أو ما يسمى بـ (العدالة). فلم يحول فنه إلى (سلعة) ـ أو يرسم بمنطق موت الفن ـ كي يدخل لعبة قائمة على النظام ذاته الذي يتحكم بوجود المنافي، إن كانت على صعيد الأقاليم، أو على صعيد مراكزه الكبرى، أو في حدود الجسد، ومتطلباته الأساسية، بل جعله يستعيد مقاومته لموته ـ وموت الفن ـ كي تبقى الحياة تومض بلغز وجودها.  فنصوصه تحكي هذا الذي برمج كدفاع يدحض فلسفات عالمنا القائمة على (المصادرة/ الاستيلاء) و (الاجتثاث) و (العنف) و (الصدمات المروعة)، عبر نصوص فنية غير مصممة ان  تغدو واجهات لمؤسسات تعمل على (ترقيم) الكائن البشري، كنمل، أو حشرات، أو قطيع من الأنعام، والتحكم بأحلامهم، بعد التحكم بمصائرهم. ذلك لأن وعي الفنان الشعري، الجدلي، لم ينحز إلى مؤسسة المنفى، لا في وطنه، ولا في أي بلد أقل مراقبة للمخلوعين الوافدين وللمهجرين والمهاجرين والتائهين الذين وجودا (أجسادهم) تتكيف ـ وليس تندمج ـ فيه. ولأن الشعر مازال يحمل مفهوم يدحض الاحتفال بالموت، فان قضية علي النجار، لن تحافظ على علامتها المحلية إلا وهي تعيد للفن لا حدوده. إعادة قراءة المسافة بين المنفي ـ ومنفاه: بين الجسد والآخرين، وبين الذات ولا حافات الأسئلة المعمرة، أو التي ليست بلا معنى، أو فائضة. فالفنان لن يرسم من أجل الرسم، كما أنه عندما غادر وطنه لم يفعل ذلك طوعا ً، إنما سيجعل من نصوصه الفنية ومضات يدوّن فيها حكايات يصعب سرد مخفياتها إلا بالرسم.
[9] لغز الرسم وأطيافه
     فهل سيجد سببا ً للفن، مستحدثا ً، إلا وقد تتبع ما توارى في ظاهرة الفن، سببا لرؤية أن ومضات (الوعي) ستدله على لا اللا متناهيات ـ خارجه ـ فحسب، بل في مناطقه النائية، داخل جسده، وقد غدا وعيه مفتاحا ً يدور في أي مكان عدا ثقب القفل ـ كي لا تبدو المنافي منعزلة بعضها عن البعض الآخر، ولا عن وعينا فيها، إنما سيتمسك علي النجار بالرسم (كتمسك الأم بوليدها)، كمناورة بين ذاته والحياة، وليس بين ذاته والمجهول. فالميتافيزيقا  ستغدو تصّورا ً لا يمكن عزلها عن اكتشاف الملاذات المستحيلة.  ونصوصه لعام (2010) لا تكمل الدورة التي بدأها قبل نصف قرن، بل تعيد قراءتها لرؤية عالم خال ٍ من المنافي، ومن المنفيين: من وجود حتم ان يكون (الصياد) فيه مركزاً، والضحايا خارج الحياة، والتاريخ.  إنه المحفز نفسه مكث يعمل في مخيال الفنان بصناعة ممرات ـ جسور ـ لكائنات عليها ان ترى ما يحدث في الخلف: خلف الأسواق/ والمرايا/ وما تبثه شاشات التلفاز، والمواقع، وما لا يعد من وسائل إبقاء السستم (النظام) مثلما هو عليه، يزحف نحو خاتمته. إنها رسالة تذكرنا بنصوص سومرية، وبابلية لدي حكماء تلك الأزمنة السحيقة، بإعادة تفكيك سلطة (المركز) ـ المراقب ـ إزاء الآخر،  المنتمي إلى الطبيعة/ والطفولة/ وحقوق المرأة/ والنبات/ والحيوان/ وباقي عناصر الحياة ..الخ فثمة ـ إلى جانب الرسم ـ الوعي بمسارات الوعي وتوجهاته، جعلت النجار يمارس الكتابة، بما تتضمنه من انشغالات فلسفية، وجمالية، واجتماعية، مهمتها لن تنفصل عن هاجسه كفنان، وشاعر، أينما ذهب، وحل، فانه لم يتخل عن التفكير بعالم لا يتأسس على (الإيذاء) حد المحو، على صعيد الكائنات، أو ممتلكاته، مما سيجعل فنه  ليس معاصرا ، من أجل المعاصرة، بل قائما ً على سؤال: لماذا الإيذاء حد المحو، وبدرجات باذخة التنفيذ، والاحتفال، بالآخر، أيا ً كان، وفي أي زمن، مادام ثمة استحالة  لم تجعل من الحياة فائضة؟  إن فن علي النجار، صنع منه طيفا ً، إنما سيسكن هذا الطيف أكثر القلوب براءة، مثلما إن علي النجار، جعل من فنه علامات لـ  (منفى) تمتد عتباته إلى بذور الخلق الأولى، ولن تنتهي عند جدران منافينا المعاصرة، المستحدثة، بلوعة تخلو من الإجابات، بل تزخر بالأسئلة التي لعلها لن تتوارى، أو تغيب، مهما كان غبار، أو رماد الاغتراب خاليا ً من الألوان؟