الأحد، 2 أغسطس 2015

في النقد القصصي- قراءة في "افتحوا الأبواب" لجبران الكرناوي-عبد الواحد كـــفيح

في النقد القصصي


  قراءة في "افتحوا الأبواب" لجبران الكرناوي


عبد الواحد كـــفيح   


جموعة القصصية "افتحوا الابواب" لجبران أبي مروان الكرناوي والتي صدرت عن منشورات همزة الوصل تتضمن 17 نصا. نصوص متألقة تغوص عميقا في عالم بكر ساحر، تحيل على نصوص حية لم نستطع بعد نسيانها أو إخراجها من الذاكرة.
عنوان المجموعة دعوة لفتح أبواب موصدة على أسرارها. في هذه القراءة العاشقة سأقوم تلبية لأمر الكاتب بفتح الأبواب المغلقة. غير أني أعترف بأنني لن أفتح الأبواب جميعها و لكن بعضها، كما أنني سوف لن أتطرق لدلالة صورة الغلاف (والذي صممه بالمناسبة الفنان مصطفى العرش) و لا لثقافة الأبواب و لا لفعل الأمر، و مع كل ذلك سأفتح الباب رقم (0) محاولا فيه وضع الأصبع، على عالم جميل، هو عالم البادية الساحر، الذي سحر صاحبنا و وشمه بوشمه الرائع في أكثر من نص.
كما أنني في هذا الباب(0)، لن أتعرض لما  حبلت به المجموعة القصصية من خصوبة في الرصيد اللغوي و إنما التوغل في ما صاحب كل النصوص من تماسك و صدق في المواقف القصصية.
و حيث أن الحكي و السرد، كلما تعلق الأمر، بمواقف طفولية و ذكرياتها الجميلة، إلا وكان صادقا و حميميا خال من كل تصنع لا يحتاج لبهارات زائدة ولا لمساحيق تجميلية. في الباب رقم صفر لن أدعي الإطلاع بدقة على مفاصيل و تمفصلات المجموعة القصصية ولكن مع ذلك سأفتح و إياكم:
الباب رقم1- لكن قبل فتح هذا الباب، اعترف مسبقا، أنني دققت بكل قوة، فوقفت في أكثر من نص من نصوص المجموعة على بدايات، ولا أقول مقدمات، بدايات نصوص تخالها بادئ الامر كأبواب موصدة في وجه القارئ، لكن ما  تلبث أن تفتح على مصراعيها، فيتدفق شلال الحكي هادئا ووديعا يحملك إلى عوالم مشتعلة مضاءة - و لو بالشموع - كما في نص "من وحي الهامش"و قد عمد الكاتب خلخلة البناء المعماري للسرد حيث في انتظار نهاية السرد تتولد المعاني وتتسلسل لتبدأ القصة  من جديد ويطول نفسها التصاعدي. و هكذا فإن كانت هذه المتوالية الهندسية في الحكي تطول فهي لا تستجدي الأفكار و المعاني، و إنما تأتيه منقادة، فيغزل، لنا منها، كل مرة، فراء دافئا نستلذ فيه بالعودة إلى إلى ذواتتنا التي تفر منا يوميا. فالعودة إلى الذاكرة، بكل ما تحمله من سحر الماضي الجميل، و كل ما تعلمناه و تلقيناه من عبر و مواعظ و تجارب حياتية، تجعلنا نعيش الواقع و الحقيقة معا. جاءت النصوص على هذا النحو تباعا كجوقة متناغمة فيها صدى الماضي ورائحته، يعلق عليها أحد الرواة "ما ألذ دفء حكايات الماضي"  بالصفحة 12 من قصة "جبان أوكول أوبان" كما في "نيني يا مومو،" أجرادة مالحة فين كنت سارحة"؟، العفريت النفريت في أحمد و العفريت وكذا فرفر يعلق و يدق الجرس. إلى غيرها من النصوص التي تسافر بنا على بساط من حكي ساحر لعالم الطفولة الآسر، و هكذا جاءت جمالية النصوص من هذه النوستالجيا و الحنين لنصوص تمتح وتستمد سحرها من زمن ولى، لكنها تتملص في آخر المطاف من الذاتي الضيق إلى  مجال  الواقع الجماعي الأرحب.           
الباب الثاني:
على مستوى السرد القصصي، فقد عمد الكاتب، وهذا أسلوب محبب، على تكسير الإيهام والتمرد على نمط السرد الكلاسيكي التقليدي الذي يوصف بحمار يسير الهوينى  في ظهيرة يوم قائظ . كسر الكرناوي على لسان أبطال قصصه، هذا الخط الأفقي الرتيب، بل فجر نسقه الكرونولوجي السردي المألوف، وجعلنا نحس أن شيئا ما يتحرك داخل النص بل يدعونا بطريقة أو أخرى إلى إعادة النظر في محطات الانطلاق التي لا تفضي، في آخر المطاف، إلا إلى محطات عادية ومألوفة ومعروفة، إذ نحن في حاجة إلى تكسير الثبات والرتابة والسكون، الذي عادة ما يستوطن القصة،
والدفع بها إلى عوالم عذراء مغايرة للوصول بها في آخر المطاف، إلى محطات مدهشة وغير مألوفة.  تماما كما تكسير الجدار الرابع في المسرح" قال شخص ما بداخلي لم لا يكون بالتناوب بيضا؟" لم أهتم بما قاله هذا المشاكس الذي بداخلي " ص 42 حسب قصة بيضة الثعبان.هذا علاوة على دعوة القارئ لمشاطرته بل توريطه في الحكي " بفطنة الجماعة تبدأ الحكاية وتنتهي الحكاية" ص 15 وفي ص 16 جاء على لسان السارد" لندرك سرد الحكاية فبفطنة الجماعة تبدأ الحكاية وتنتهي الحكاية" هذا شيء محبب للنفس، السرد داخل السرد والتشظي والمشاكسة لاستفاقة القارئ من غفوته، من سيطرة سلطة الخط السردي المستقيم: بداية وسط ونهاية، وجعله يعيش الأحداث ويشارك فيها كما عرفنا قديما في الروايات العالمية نذكر منها على سبيل المثال "جاك القدري" عند ديدرو وحديثا في  رواية "لعبة النسيان" وآخرين، لذا فقد جاءت نصوص المجموعة مفعمة بالحركة و الدينامية، تصدع بالأصوات والروائح. نصوص تكاد تعلن أنها نصوص موغلة في السباطة -من حيث أفكارها- لكنها تلتف حول الذات حالما يغوص القارئ اللبيب، عميقا في معانيها ،فتدرك أن عالمها ملغوم وكله ترميز..عالم مشفر يستدعي الانتباه والحيطة والحذر، خلافا لما يمكن أن نستنتجه من مواقف تؤدي بقارئها إلى السطحية والالتباس.
الباب الثالث:
 أتفق مع مقولة "إن الأدب لا يغير الواقع المرير الذي نعيشه، فالذي يغيره هو السياسة"، لكن الأدب عنصر من عناصر تحريك الواقع، ولذا فإن الأديب يجب أن يمشي على الأرض وهو شهيد كما يقول  المتصوفة، أي يجب أن يكون أكثر جرأة في التعبير عن هذا الواقع وتغييره، وإذا ما تحول إلى راصد و واصف للواقع يتحول أوتوماتيكيا إلى إعلامي وليس فنانا، فنلفي نصوص الكرناوي مفعمة بالقلق النفسي والحيرة الدائمين من خلال لاأدرية متكررةفي أكثر من قصة─ تخلق للقارئ مواقف محرجة وقلقة، ليفتح الأبواب الموصدة والمغلقة على خباياها، فيتوسل بالحلم والخيال والذاكرة ليكتشف ما خلفها من أسرار، لذا تراه  حائرا مضطربا، تتنازعه أفكار شتى  تتوق إلى المعرفة والاكتشاف، فتنصهر الذات القلقة إلى تساؤلات " لست أدري (ص )21 لست أدري (ص 61) لست أدري (ص 64) لست أدري (ص 66) أما الحلم فتتغدى عليه نصوص "أحلام صغيرة" (ص 61) وفي "الفم المسدود يدخله الدود" (ص 49) والصفحة (20) و ص (21) وهذا الباب الثالث أتركه مشرعا على مصراعيه للنقاش وطرح الأسئلة الحارقة، لأن رسالة الفنان كما يقول لوكاتش تكمن في طرح الأسئلة وإثارة المشكلات.
الباب الرابع:
وقد فتحته عنوة على ذكريات الجدة المعتقة في خوابي الذاكرة. كل جداتنا كانت لهن صناديقهن الخاصة، وما أدراك ما صناديق الجدة، إنه ذاك القمقم الذي لا يتجرأ على فتحه إلا هي، ففي قصة " لعنة الصندوق" أو لعنة الحكي كما يحلو لي ان أعنون هذا النص، الصندوق منبع وصنبور الحكي المتدفق الذي لا ينضب. رحل بنا الكرناوي ممتطيا صهوة الخيال، وخلفه انساق القراء، من قلعة السراغنة إلى برشيد إلى جمعية الهوارة إلى زاوية بلكرن. لم تترك له الجدة سوى هذا الصندوق المليء حتما بآلاف القصص والحكايا الساحرة، مليء بالسرد والحكي، فيتفنن الكرناوي في بلورة هذه الحكايا إلى أفكار يدافع عنها ويعيش منها و بها، لأن الكاتب - كما يحلو لي أن أردد دائما- يبتكر كل يوم قصة ليؤجل موته إلى ليلة أخرى إضافية كما جدتنا شهرزاد. ورث عن الجدة الحكي، كانت وصية الأب للراوي ب ص (44) "لعنة الصندوق" بأن يضع له مكانا خاصا بالقلب، وهكذا تأبط الكاتب مسوداته ودواته وقلمه وأقسم ألا يمتهن قط في حياته غير فن الحكي، تمنيت من كل قلبي أن أعرف سر خواء الصندوق إلا من أحمر الشفاه، وتلك لعنة أخرى أظنها لعنة العولمة والهامبورغر التي ستأتي لا محالة في المجموعة القصصية القادمة، كما أنه لم ينس نصيب الجد والذي أخرسه في( ص 40) و (41) " كان الجد لا يزال صامتا"  في قصة بيضة الثعبان.
الباب الخامس:
 تفصيح الدارج: بعملية حسابية سريعة يتبدى لنا ما مدى مناورات الكاتب، في تفصيح الدارج والإصرار على استعمال التعابير الدارجة المغربية والتي عادة ما تأتي لتلبية رغبة استناد الملفوظ لصاحبه، فإن الكرناوي استدعاها عن قصد في مواقع عديدة أظهرت سهولة استعمال الدارجة المغربية سردا وحوارا، منها على سبيل المثال: قرصنيي جيبي - فلان و فرتلان - الكراويل - رد إلي سباطي- سير على الله ادهن السير يسير" (دفن نصيبه من اللحم بداخل كسرة خبز ذات حاشية) جغم جغمته- رُدّ بالك" الخ ..
كما ان اختيار الأسماء،في اعتقادي، لم يأت اعتباطا بل كان في غاية الإتقان  حيث توصيف الذي لا يوصف وإعطاء كنيات وتوصيفات لشخصيات كان لابد لها من تميز عن سائر الشخصيات،  ونورد أمثلة على ذلك ك: منحوس / و مرزاقة /عزيزة/ جمعة/سراج / وبسمة / وبشْر/ / سعيد / مسعود/ تعسان
المجموعة القصصية افتحوا الأبواب جاءت ناضجة فنياً من حيث الأسلوب واللغة وتوظيف المفردات الموغلة في المعجم المغربي الأصيل، وطريقة السرد وكذلك في براعة الوصف .‏


قصة مشتركة-حوا سكاس و حمودي الكناني

قصة مشتركة


الشاطئ


حوا سكاس و حمودي الكناني  
لم يكن ينوي الانتظار طويلا عندما أحس بالضجر الذي بدأ يساوره مع كل دقيقة تمر، فراح يبحث عن مكان يتأمل فيه الساعة التي يتم فيها اللقاء. حزم كل شيء يمكنه من مداعبة المكان وأخذ يتمشى على مهل
رمال تتكسر عليها أشعة الشمس المائلة، نوارس تحلق هنا وهناك، تطلق صرخات حادة، صافية. البحر تداعبه نسيمات عليلة، فيتحرك ليتكور أمواجا تضرب بعضها البعض برفق، وتتحطم على شاطئ البحر متناثرة، تنتهي في مكان ليس ببعيد عنه، ففضل أن يمد قدميه ليحس بملاطفة الموج لهما.
انحنى قليلا يصغي إلى همس البحر، يلامس الأمواج المتكسرة تحت قدميه. مد نظرة طويلة نحو الأفق البعيد والسماء المتعانقة مع البحر، وساءل نفسه: ترى، هل ستوفي بوعدها له؟ هل ستأتي إلى الموعد المنشود؟ آم انه سيبقى ينتظرها ويتأمل لقاءها؟
إلى متى؟ إلى متى أنتظرك أيتها الجميلة الساكنة في قلبي منذ الأزل؟ يسأل نفسه مرارا وتكرارا دون أن يدرك الجواب. غيابها يعصف به في غمرة الشوق الذي يدب في عروقه، يجعله هائما في دوامة أفكاره وهواجسه، يبعثره كورقة متناثرة في أرض قاحلة، حزينة، ويكاد يغلبه اليأس.
انسدلت الدقائق كالساعات الثقيلة، البطيئة. حملق في السماء، فرآها  قد رسمت له حروف اسمها بألوان الغسق الجميل، ففكر في نفسه: من أي كوكب أتيتِ لتزرعي حبك في روحي بطيبتك، بنقائك وشفافيتك؟!في الأفق، انحنت الشمس إلى مغربها، وصبغت الكون بخيوطها السحرية الحمراء والصفراء الداكنة، شقّت طريقها نحو الليل، وأخذت العتمة تتسلل إلى كل الجوانب.  يا للخسارة! ها هو موعد آخر ينقضي دون أن تأتي.الخيبة تغلغلت في أعماقه مرة أخرى، والحزن اجتاح كيانه بينما كان يستقيم في وقفته ويهمّ بالذهاب.و فجأة...كاد لا يصدق ما ترى عيناه! إنها هناك.. في البعيد.. واقفة خلف الأشجار. لا بد أنها هي. يكاد يجزم بذلك، رغم أنه لم يلتق بها أبدا من قبل، ورغم أنها بعيدة. ولكنه أحس كأنه يعرفها جيدا، يعرفها بقلبه.
وقفت هناك ساكنة، مشرقة، متألقة. وبعد لحظات... تحركت نحوه بخطى بطيئة، مترددة. ريح خفيفة هبت وداعبت خصلات شعرها المتموجة، الطويلة، المشعة بانعكاسات الشمس الحمراء، الصفراء. وقفت قبالته، عيناها العسليتان، الجميلتان، ترمقانه بنظرة رقيقة، نقية.وقف يتأمل وجهها، حلّق في بحر عينيها، تذوّق طراوة شفتيها، وتحسّس نضارة وجنتيها بعينيه. أراد أن يمد يده إليها ليتأكد من حقيقتها... و لكنه بقي جامدا في مكانه، ولم يثن عنها عينا. انتظرتك طويلا.
- أعرف. أنا آسفة.
- المهم إنك هنا الآن.
أتظن أنها خطوة حكيمة؟
-ولِم كل هذا التردد؟
مدينتنا لا تجعلنا إلا مترددين... خائبين... ميتين.
- أحبك بعيدا عن مدينتنا التي أشبعتنا خيبة وقتلا وخرابا.
إذن، عليك أن تعرف شيئا.
قولي.
- ... سأرحل.
ماذا؟؟؟؟؟
أنت قلتها بلسانك. لم تعد هذه المدينة لنا. يجب أن أرحل.
إلى أين؟
لا أدري. إلى أي مكان يحسسني بذاتي. ربما لهذا ترددت كثيرا للقائك.
لا أتخيل أن تكوني بعيدة عني بعد كل ما كان بيننا.
ستنساني.
كيف أنساك وقد أصبحت الدم الذي يجري في عروقي وأنفاسي التي تتردد في صدري؟؟ لا ترحلي. دعيني أعيش قرب حسنك الفتان. لا تتركيني لوحدي هنا.
عليّ أن أرحل. أنا آسفة.
طوقته بنظرة أخيرة.. حزينة.. مودعة.. واستدارت للذهاب... للرحيل... للأبد.
أحسّ بالحزن الذي يداهم صدره، يجتاحه كالطوفان. كيف ترحل؟ ماذا سيفعل من دونها؟ كيف سيقضي لياليه دون أن يسمع صوتها الليلي،
 الهامس، الناعم كنسمة النقاء التي تلفح روحه وسط الخراب والصخب الذي يعيش فيه.
- انتظري!
ناداها بصوت عال، قلق، قبل أن تبتعد كثيرا.
توقفت... توجهت إليه.
ركض إليها... اقترب منها.
- خذيني معك. لا تتركيني هنا وحدي دون أمل ولا حلم.
مدت إليه يدها.
- تعال. دعنا نذهب إلى أي مكان يحترم إنسانيتنا، نجد فيه بعض الأمان، ونحقق فيه بعض الأحلام.
يدا بيد، ها هما الآن يبتعدان عن الشاطئ... عن اللا أمان... اللا معنى... ويرحلان... إلى حيث لا يدريان.


سلامات رفعة الجادرجي