قصة قصيرة
كآبة بيضاء
[من دون مجازفة يكون الأيمان أمرا مستحيلا.]
سورين كييركيغور
إلى عدنان المبارك
عادل كامل
لم يكن نبأ رحيل صديقه قد احدث صدمة بوصفه غير قابل للتصديق، أو لأنه كان لا يريد أن يصدقه، فكر مع نفسه، بشرود، أو لأن رحيله خسارة طالما قال إنها كانت تماثل استبعاد الأمل بالعثور على عقار لمرض لا يمكن الشفاء منه، أو لأن رحيله يوازي استحالة تسكين تلك الآلام العصية، بل لأن علاقته بصديقه كانت بمثابة عبور بالمحنة إلى أقصاها. فكر بذهن تائهة، انه لم يفقد شريكا ً لا يمكن تعويضه، في حياة بدت تبرهن إنها كانت عصية على الفهم، وربما خالية من المعنى، عقيمة، وغير قابلة للتسوية، بل لأنه أحس بصعوبة إغراء نفسه بالعثور على معادل لا يجعل حياته تبدو مثل ورقة شجرة تتدلى بانتظار مصيرها...، فالقضية لا علاقة لها بالخسارة، أو بالخيبة، لأنها، منذ غادر القفص، والحديقة، قبل عقود، وجد اختياراته تدحض أي أمل بالعثور على حلول مناسبة، تعيد السكينة التي وجدها قد غادرته، فقد تذكر آخر لقاء له قبل أن يطلق جناحيه للريح، إن صديقه أكد له انه سيحمل معه رائحة العش، والأشجار، والأهل، والتراب...، حتى لو صار نائيا ً وفي أقاصي الأرض، فالحكاية غير قابلة للشرح، ليس لأنها غير قابلة للتفتيت، بل لأنها تتكّون عبر اندثارها، وزوالها أيضا ً، وقد تأكد له أن رسائلهما، عبر الأثير، والباثات المختلفة، داخل الزمن وخارجه، كانت معادلا ً يصعب تفنيده، أو تعويضه بأي بديل مماثل، آخر. صحيح لم تعد ثمة ـ وفق الوقائع ـ صداقات، ولا ما يماثلها، شبيهة بزمنها، ولكن كل منهما كان يدرك أن هناك لغزا ً يصعب الاستغناء عنه: لغز مودة يصعب وضع شواخص لها، أو تركها تعمل من غير بصيرة تذهب ابعد ملغزاتها.
وود لو ابتعد عن بيته الخشبي، تحت أغصان الأشجار، داخل القفص الحديدي الكبير، والقيام بجولة له ليس للتحقق من النبأ، أو نفيه، وليس للتخفيف من الصدمة، أو استبدالها أو التحايل عليها، بل للانشغال بجعل رؤيته اقل عتمة، والحفاظ على مرونة ما تساعده بفهم ما كان عليه أن يقوم به..، لكن قواه لم تساعده على تنفيذ رغبته، رغم ضآلتها، فترك نظره يذهب إلى أقصاه.
اقتربت منه نملة وسألته:
ـ أيها الصقر...، أراك شارد الذهن...
لم يجد لديه ما يبوح به، فالأمر لا يعنيها، ولا يعني أحدا ً آخر سواه. ولكنه وجد أن الكلمات تختلط داخل حنجرته، وتتداخل أصواتها بمعانيها، لتعلن له انه قد يفقد قدرته على التنفس، والتفكير، وربما الحركة أيضا ً، وإلا لماذا عاملها بلا مبالاة، وقد تدخلت من اجله، وليس من اجل نفسها، فلوي عنقه، وحدق في عينيها الواسعتين:
ـ لا يمكن الاعتذار لك، سيدتي، فالكلمات ليست سوى بقع معتمة وأنا لا أكاد أرى شيئا ً..
مضيفا ً:
ـ من شدة التوهج!
هزت رأسها:
ـ قلنا هذا منذ زمن بعيد...!
منذ زمن بعيد...، كأنه اكتشف امرأ ً غدا نسيا ً منسيا، وليس له وجود، انبثق من غير قصد، مثل مصادفة كان عليها أن تحدث، لوجود ما لا يحصى من المصادفات، بقانونها، أو من غير هذا القانون، فقد تذكر ما كان يردده صديقه، بان ما لا يمكن إغفاله، ولا يمكن محوه، لا يكمن في تدوينه، وصياغته كمواعظ، وإرشادات، وأوامر، بل الذي يمد المحو بما يجعل ديناميته غير قابلة للدحض. قال له إن الألفية الثالثة، يفترض إنها لم تعد أسيرة نشأتها، ومقيدة بقيود ماضيها السحيق، عند سواحل العفن، في المستنقعات، ولكنه سمع أصداء صوت صديقه يتخلل ممرات الهواء، والضوء، تتموج، وتتابع، مكملة بعضها البعض الآخر، بسلاسة، بان ما يخسره الكائن، وما سيخسره ـ من الفيروس إلى أرقى الثعالب والدلافين والطيور ـ هو جزء من ترتيب يذهب ابعد من حصره بحقبة أو سِفر أو كتاب، فقال يخاطب صديقه، قبل الإفاقة من الشرود:
ـ فهناك ـ إذا ً ـ ما قبل الزمن....، وما بعده!
رفعت النملة صوتها:
ـ ها أنت تحجب عن نفسك ما تود إعلانه...، ولا تبوح إلا بالفائض من اجل ...
ـ آسف...، الآن بدأت أدرك إنني ابحث عن عقار...، علاج ما ... لشرودي.
فضحكت:
ـ لن تجد ضالتك، فمرضك سابق في وجوده وجودك أيها الصقر...، وهذا لا يتقاطع مع القول باستحداث المرض...، فالفاعل السابق على فعله يؤكد انه في فعله الفاعل وليس الفعل! وهذا يعني إن ما حصلت عليه من دواء ليس له علاقة بمرضك، لا من بعيد ولا من قريب! فالنتائج قد لا ترجع إلى مسبباتها، بل قد تكون خالصة، تماما كوجودك من غير أسباب بعد أن أصبحت تامة، ولا حاجة لها إلى البراهين، والأدلة!
شرد ذهنه، أكثر فأكثر، مما اضطره لاستنشاق الهواء، فشم رائحة جذور رطبة ميزها عن رائحة التراب، ورائحة الرماد، والغبار.
ولا يعرف لماذا تذكر جده الذي ولد في البرية، بعد أن حصل على الإقامة، في القفص ذاته الذي لم تجر عليه تحسينات تذكر، انه قبل أن يصاب بالعمى التام، إن ما يؤيد صواب استبدال العداوة بالتعايش المرح، المشترك، بين الفصائل، والأنواع، يدحض مفهوم ديمومة النكبات، والعيش فوق بركان، وقال انه لو لم يحصل على يقين يؤيد صواب رؤيته بتالف الحياة ما بين أشرس المخلوقات مع ارقها، واخسها مع أكثرها نبلا ً، وأمكرها مع تلك التي ولدت كي تحافظ على نوعها من اجل المودة والحد من الاقتتال إلا لأسباب قاهرة. فتذكر صديقه يعيد عليه سرد حكاية أقدم مصالحة جرت في تاريخ الحديقة، قبل أن تسّور وتقام لها حيطان وجدران عالية محمية بالأسلاك والحرس والكاميرات، من خطر الضواري غير القابلة للتنازل عن شراستها، وشعورها بالمجد، والعظمة، إنها لم تحصل إلا بوجود من سبر أغوار القدر، ومخفياته الدفينة، والعمل وفق مبدأ: عش لغيرك كأن الآخر لا يعيش إلا من أجلك! ولكنه قال إن الحشرات والديدان والقوارض وكل دابة تدّب لم تخلق إلا بخليط من العناصر ذاتها التي فقدت توازنها، بعد أن تحولت العداوات إلى عرف، ومسلمات أسبابها كامنة فيها، وراحت تعمل عمل النار؛ لا تترك إلا رمادا ً يشترك بتجديد الدورة، فلا احد استطاع محو جاره القريب، ولا احد استطاع اجتثاث جاره البعيد، وإيذاءه دون أن يدفع الثمن...
ودار بخلده: لهذا ـ قلت لي ـ فكر بصوت مسموع: تبحث عن درب، ـ مثل سفينة تتعرض للأعاصير، إن لم يعمل الجميع على سلامتها، ـ إن لم نعمل معا ً على سلامته، فالعثرات لن تدع أحدا ً يتقدم خطوة إلا صوب المجهول.
فسألته النملة:
ـ وماذا قلت له...؟
ـ بعد أن حلق عاليا ً حتى كاد يتوارى في .....، الأفق، قلت لنفسي: خلف من احلق، ومن ذا سيكون دليلي في هذا الليل .... فقال لي: لا تغفل أن تتذكر إن النار الكامنة في الأشجار، الماء، الصخور تأبى إلا أن تكسر قيودها، فإما أن تحلق معي...، نحو حديقة لا يتحول فيها الفيل إلى قملة، والأسد إلى جرذ، والنسر إلى برغوث...، وأما ...
ـ ماذا قال..، تكلم، لا تغلق منقارك هذا المثلوم؟
ـ قال: أن اغطس!
فدار بخلده، وهو يستمع إلى أصوات وضوضاء ولغط كان لا يدعه يصدق انه أصبح وحيدا ً، لأنه راح يرى موجات سكانية، تتبعها أخرى، وفي فترات مختلفة، تفر هاربة شاردة بدل أن تلقى المصير ذاته الذي اعد لها، ولنا، ولكم....
ورفع صوته قليلا ً:
ـ تركونا...، الواحد بعد الآخر، بحثا ً عن حديقة ليس مهمتها ذبح أبنائها، وأدمة اقتتال الجميع ضد الجميع، وتأجيج فن النذالات، الخساسات، وما فوق الدعارة، والكراهية، والبغضاء والحفاظ على لغز بذرة الموت دائمة الاخضرار، وهي لا تتعرض للخمول، ولا تهن في عملها أبدا ً. كانوا يغيبون، يختفون، جماعات جماعات، وافرا ً، ومجموعات مجوعات، سيدتي، أما من تبقى فكان يلقى المصير الذي لم نعد نعترض عليه: النزول إلى المكان الذي لا رجعة منه...، أو انتظار ما بعد الرحمة: المحو بما يمتلك من تنويعات، وتمويهات، ولذائد فائقة المذاق!
قالت النملة بأسى عميق:
ـ لا أحزان تدوم...
فقال لها:
ـ ولا مسرات دائمة. لكن صديقي الذي كنت أتتبع خطاه في الريح ...، بعد دهر، أنبأني بأنه مهما ابتعد، وحلق عاليا ً، وعانق تخوم المسرات المستحيلة، فانه مازال يستنشق رائحة العش الذي ولد فيه...
فقالت النملة بصوت مستفز:
ـ لأنك لم تغادر معه...، أم لأنك اخترت مغطسك معنا..؟
ـ خجلت من الكلام، بالأحرى: لا اعرف ماذا حدث لي....، لكن عدم المعرفة كان قد بلغ ذروة هذا الخجل. فانا طائر كسر جناحي قبل الخروج من ....
ـ أكنت جبانا ً...؟!
ـ ربما كنت متهورا ً، طائشا ً، مخبولا ً، مغامرا ً...، إلا إنني لم أكن احمل جرثومة هذه الرذيلة: الجبن!
ـ وهل كان....؟
صرخ الصقر:
ـ لا ...، كان خلي يحمل نارا ً أبى أن يراها تنطفئ وتصير رمادا ً في حديقتنا السوداء!
ـ وأنت...؟
ـ أنا تركت النار تخمد...، بهدوء، بهدوء...، بل بلذّة هادئة، هادئة جدا ً، وبلا مبالاة....، فبعد أن رأيتها تتوهج وجدت روحي تدفن في القاع، وجدتها تغيب...
ـ لماذا ...؟
ـ ذات مرة قال لي صديقي في واحدة من رسائله: أنت ملح الأرض...، فقلت له: لم تعد الحرية تغويني برؤية من يغطس، وأنا أنجو بمفردي من مخالب الضواري وأنيابها، فأما ننجو جميعا ً أو لتأخذنا جهنم.
ـ لا تموه علي ّ...؟
ـ وهل ابقوا لي قدرة على التمويه...، أو سلامة العقل، أو حسن المنطق، بعد أن خمدت النيران في ّ وصرت رمادا ً لها.
ـ مازلت ـ أيها الحكيم ـ لم تفقد توهجك القديم...
اقترب منها قليلا ً:
ـ لا ...، أنا لم اخلط بين الثقيل والخفيف...، ولا بين البعيد والأبعد، ولا بين القريب والأقرب...، فبعد أن درست خصائص العناصر الظاهرة والكامنة أدركت إن لكل منها، ولكل منا، في هذه الحديقة، تفوق عنصر على آخر يفضي إلى خسران الكثير من ديمومتها...، وصديقي الذي ذهب إلى البعيد، مع ما لا يحصى من السكان، الطيبين، المتوهجين ذكاء ً...، أنا ذهبت ابعد منه، وابعد منهم جميعا ً!
ـ ابعد منهم...، ومنه...؟
ـ في هذا القفص....، داخل هذا العش، مكثت أتتبع خطا صديقي في الأفق، فوجدت إنني انتزع الأوهام، الواحد بعد الآخر، حتى لم تعد هناك سلطة للوهم علي ّ...، فأصبح أكثر من طليق! حتى كأن العبودية لا وجود لها، ولا حتى للشر حضور!
ـ غريب...
ـ ما الغريب ..؟
ـ انك الآن لا تقو حتى على الطيران، وتتبجح بالمجد كأنك ذهبت ابعد من النصر؟!
ـ الم ْ أخبرك إنني ذهبت ابعد منه، وابعد منهم..!
ـ صديقك لاذ بالريح...، والأفق، من غير أوهام وتمويهات وخداع...؟
ـ وأنا لم اترك مساحة نائية لم أزرها وأحط عند تخومها البعيدة...
ـ وما الذي كنت تبحث عنه...؟
ـ لا شيء! اللا شيء تماما ً! لأن الذي كان يشغل الجميع صعقني حتى لم تعد لدي ّ أسئلة أو حتى تصوّر....، فالجميع ـ وانتم، يا معشر النمل، في المقدمة ـ لا هم لهم إلا بلوغ تلك الذروة...، التي لا عمل فيها، والتي هي ضد العمل، من اجل الحصول على ركن...، ضفة، زاوية، مزدحمة بالثمار، والجداول، والغزلان، والبلابل، والحرائر، والـ ...
ـ عدت تموه علي ّ...، وأنت تكاد تسقط أرضا ً...من شدة الارتباك، والذهول.
ـ وهل اقدر أن أقول شيئا ً آخر، بعد أن أخبرتك، يا سيدتي، إن صديقي هرب لينجو من النزول إلى الأعالي! وليس من الظلمات!
ـ أوه...، أيها الكافر، رحت تجدف.
ـ ها... لو كان ما تقولين يحمل ذرة صدق، فهذا هو ذروة إيماني! فانا هو الصادق بعد أن لم يعد لدي ما اشك به، وما يثير مخاوفي!
ـ ذروة الإيمان بماذا ...، حدد... أرجوك...؟
ـ إن أحدا ً لا يقدر على الصلح، أو المصالحة، أو التعايش، مادامت النهاية تدّب كدبيب هذه الأنعام ترتكب أشنع المعاصي، والفواحش، والموبقات، ثم لا تكف تتضرع بالحصول على الغفران، والنجاة، كي تولد أكثر استعدادا ً لديمومة ما هو أكثر قسوة من الموت، وأكثر شناعة من الرحمة!
ـ آ .....، تكاد تخرجني عن ملتي، ملة النمل...، لأنني بدأت أراك تتعذب وتشقى من غير سبب...، باستثناء حملك للأوزار والآثام والخطايا بطيب خاطر!
للمرة الأولى منع ضحكة كادت تفسد عليه شروده:
ـ لو كنت شعرت بثقل هذه الأوزار، أو عذابها، لقلت: هل من مزيد؟
ـ اووووه...
ـ لا تكترثي.. فالخروج عن الدرب...، يعززه!
هزت النملة رأسها مذعورة:
ـ بمحوي...؟
ـ كما حصل لي...، سيدتي، عندما كان علي ّ اما ان لا اخرج عن مساره، او اغيب فيه.
ـ عدنا الى قيود الحتميات.
ـ بل ... الى لا حافاتها...!
ـ حقا ً ان الصدمة لم تترك لك الا ان....، تجد عونا ً...
فرد بهدوء:
ـ لو لم يكن الموت هو أعلى درجات الحرية، لكان وجودها اشد إيلاما ً وأذى من قيودها...! بل لكان وجود الحرية ذاته قيدا ً...!
ـ هذا هو شرع النمل، سيدي!
ـ لا اختلاف عن شرع البرغوث أو القمل أو البشر...، فكل من تسول له وساوسه الخروج لن يلقى إلا المصير الذي سيمضي حياته كلها لدحضه....، فالمعضلة هكذا تغدو وهمية، ومن صنع التصوّرات..
ـ افتراضية...؟
ـ حتى هذا الافتراض...، سيدتي، تارة يوهمنا بالمسافة بين الأضداد، وتارة يوهمنا بوحدتها.
هز رأسه، بشرود تام، وهو يلمح ذبذبات تتراقص في الهواء، فقال يخاطب النملة:
ـ كنا نفكر بالعقار ولم نكن نفكر بالمرض...
ذلك لأنه شرح لها عبر صمته وشروده أن صديقه غادر لأن الهواء تحول إلى ذرات لا لون لها، حادة، جارحة، وان الحديقة التي كان عليها أن تساعده تحولت إلى إدارة لا عمل لها إلا القضاء على العمل... وسحق كل من يخرج عن الدرب، سحقا ً ناعما ً، وفي الغالب، مروعا ً حد انه وصف بما يحدث للميت من عذابات في أول أيام دفنه في القبر! غريب ...، رد عليها وترك نظراته تعالج نقص الهواء، وتقلص جسده، وتعرضه إلى هزات، فقالت بصوت مرتبك:
ـ انك ترتجف، ولا تقوى على الوقوف....
وجد صعوبة بالرد، فكرر بصوت مخنوق:
ـ الهواء، الهواء، الهواء....
هبت نسمات امتزجت فيها أصداء أصوات خفيضة، فاخبرها انه لم يكن يأمل بلحظات يجهل كيف ستكمل تتابعها، إن كانت مقيدة بأقصى ما تتمتع به من حريات، أو طليقة بقيود حتميتها...
ـ آ ... فهمت.
عندما تجدد الاتصال بينهما، بعد عقود، لم يجد صعوبة بالعثور على ممر يذهب بهما ابعد من الإشارات، والكلمات، فعبر الأثير ـ تابع يصغي لصوت صديقه ـ تستطيع رؤية المشهد كاملا ً، كأنه لن يتوانى عن استدعائنا للقيام بما لم ننجزه...، ولم يكن الأمر يتعلق بالصفقات، أو بالمكاسب، قال لنفسه، بل لأنه عندما غادر، خاطبه: ها أنت أصبحت طليقا ً كما كنت عليه قبل تكونك الأول..! ولكنه أحس بان خواطره تضمر خيبة لا يريد إعلانها، والاعتراف بها، لجارته النملة، وهي مازالت ذاهلة منشغلة بأمره.
ـ لا!
قال للنملة التي اقتربت قليلا ً منه:
ـ آخر كلمة قلتها لصديقي، أينما ذهبت، فسيتتبع شبح الحديقة خطاك، أو تدرك انك تمشي بعناد خلفه!
صاحت النملة:
ـ الآن فهمت لماذا أنت كدر..، وحزين...، فأنت صدمت بخبر رحيل صديقك الأعز، الذي كنت تأمل أن يشيعك، ويرتب مراسم دفنك، حتى لو كانت افتراضية، وعن بعد! بدل أن ترمى فوق القمامة، لتفترسك كلاب الليل! أو تتحول إلى غبار، أو إلى أثير!
ـ ليس هذا بالضبط...، فانا ميت مثلما أنت ِ ميتة، مع إننا لم نولد بعد...، فهو بالتحديد لم يمت بعد، لأنه كاد يمسك بلغز ولادته المشفر! فهو ذهب ابعد من موته، مثلما انه مازال يتجمع تحضيرا ً لمولده!
ـ آ ....، مازلت تعمل على نفي نبأ رحيله...، لأنك لا تريد أن تؤكد رحيلك أنت، أم لان الحقائق أصبحت كالأوهام كلاهما لا تعرف من يفند الآخر، أو يمحوه.
ـ أيتها الحكيمة...، أنا لا أتحدث عن الصداقة التي مسها الغياب، وهددها بالمحو...، بل عن هذا الذي يولد توا ً...، عبر زواله، وتلاشيه! فأين هي الحكمة التي لا تترك إلا أثرا ً يزيل غيابها، قبل أن يكنس حضورها! أنا أتحدث عن فخ إن نجوت منه آذاك، وإن وقعت فيه آذاك، فلا تدرك أخيرا ً أكان قد نصب لك، أم كان عليك أن تقع فيه..، وسابقا ً قال احد صقورنا: هل توجد نذالة أو معصية كنذالة ومعصية من يشهد أمام الإله لمصلحة الإله بأمر الإله.....؟
ـ آ...، كأنك غادرت قفصك، كأنك فلت من الزمن، ومن الداء، ومن المعاقبة...؟
صدم. أنا قلت له ـ راح يخاطب نفسه بصوت جهوري ـ لن تعزل قدرك عن عثراته، ولن تقدر أن تعزل العثرات عن قدرها. الكل لا يتجزأ رغم إننا نمضي زمن زوالنا لا نعرف من الجاني ومن المجني عليه، ومن أصاب ومن أصيب!
ـ كأنك تخفي علي ّ ما يجول بذهنك...؟
تململ، وحرك رأسه يسارا ً ويمينا ً، مصغيا ً لنبضات قلبه تدق موزعة وخزات ناعمة داخل جسده، ليرتفع قليلا ً في الهواء:
ـ أنا احلق...، فانا لم اغب بعد!
ابتسمت النملة:
ـ لكنك قلت لي: إن ما كان يشغلكما ليس الموت، ولا الدنيا...؟
عاد ووقف بجوارها:
ـ صحيح...، العاجز وحده من يشغله الموت، والأكثر عجزا ً من يدع الدنيا تمشي فوقه! لكن اخبريني أيتها الحكيمة هل هناك قضية لا علاقة لها بالخروج من العدم، وبالعدم الممتد....، من ثم المضي في استكمال ما لم يستكمل بعد...؟
قالت النملة بثقة:
ـ اجل، هو الذي لا تقدر الكلمات على إعلانه...، مع إنها لا تقدر على تجاهله، وإغفاله.
ـ الصمت..؟
ـ الصمت كلام شبيه بالثقوب السود، لأنني كنت أتحدث عن الذي لا نمتلك إلا أن نقع فيه، أو نختاره.
وقال لها متابعا يرد على ما قاله:
ـ فانا لم اختر هذا القفص...، ولم اختر إلا أن ...
صمت وقال بصوت متدفق:
ـ فلقد أدركت إن صديقي، في المرة الأولى، لم يغب....، فقد أعاد لي هذا الذي لا علاقة له بما يجري في حديقتنا...، وها أنا اعترف لك انه سمح لي، في المرة الثانية، أن استيقظ من الغياب... فانا كنت طليقا ً داخل قفصي، ثم فجأة وجدت إنني في مواجهة ما يسمى بما وراء الزمن...! فانا أصبحت خارج الرحلة! تائه تماما هل تراها لم تبدأ بعد، أم ليس لها بداية أصلا ً...؟
ـ آ ...، ها أنت تفكر...، لأنك بعد قليل ستصبح هدفا ً...!
ـ أنا لا أفكر إذا فانا موجود! وغريب أمر من قال أن وجوده رهن الفكر!..، لأن عدم التفكير هو نفي للموت...، فالذي يفكر يدرك تماما ً انه لن يغادر قفصه... ليس لأن القفص سابق على وجودنا، بل لأن وجودنا من غير قفص يبرهن بضرورة اختراعه!
ـ تعرف ...، أيها الصقر...، أنا محض نملة! وأنت محض طير! لهذا اطلب منك أن تكتم هذا الذي يكاد يفضحك، ويصير مصيرك كمصير أسلافك، لم يمسكوا بالصحراء، ولا الصحراء أمسكت بهم!
ـ كأنك تشاهدين ما يدور في رأسي..؟
ـ بل أنا قرأت الذي دار برأسك، وأكاد اعرف ما الذي لم يدر برأسك بعد!
ـ جاسوسة! أيتها الشقية، ألا تعرفين انك هو أنا، وأنا هو أنت! فانا وأنت وحدنا القفص، وسيغيبنا أيضا ً...! فعلى م َ نفسد حياتنا ونذهب أعمق من مغطسها...؟
فقالت بهدوء:
ـ لا تضطرب...، فما كان بينكما لم يكن عقدا ً...، ولا عبورا ً...، ولا بحثا ً عن فردوس....، كلاكما كان قد دمج السابق باللاحق ، واللاحق بالسابق، لأن كلاكما لم يكن مع الليل، ولم يكن مع النهار...، كلاكما رأى الجحيم في الفردوس، والفردوس في الجحيم، فالعالم حديقة لا حافات لها، رغم إنها مكونة من أقفاص، وأجنحة، وزرائب، ومستنقعات!
ضحك الصقر، وهو يخاطب صديقه:
ـ أنت كنت تبحث عن أيام مضافة تصغي فيها للذي يمد بعمر ديمومتك....، وأنا كنت اعمل على تقليصها. أنت كنت تحب أن تتعلم، وأنا كنت أشذب ما تعلمته، أنت تتسع، وأنا أتقلص، أنت تواجه موتك، وأنا امشي خلفه أدله علي ّ! أنت كنت تحفر بالكلمات فوق الريح، وأنا أرفرف لعلي أنجو منها، أنت كنت تعمل على سبر جذور المحنة فتدرك إنها ذهبت ابعد من مداها، وأنا كنت أراها تركتني تلهو بي مثل ورقى تتدلى بانتظار مصيرها....
ـ أين..؟
سمعها تخاطبه وهو يحّوم مبتعدا ً عنها:
ـ لا اعرف!
ارتفع في الهواء، وود لو ارتفع من غير توقف، لولا وجود السقف الذي يغطي الحديقة بأكملها، فضلا ً عن أسوار أعلى منه، يصعب رؤيتها بالعين المجردة...، إلا أن ذلك لم يمنعه من العثور على فتحة ضيقة للمغادرة، بعيدا ً عن قضبان القفص، والابتعاد عن جناح الطيور الكاسرة، والمتوحشة، وطيور الحب، والأخرى التي لم تروض بعد، فضلا ً عن البرمائيات الطائرة، والزاحفة ذات الأجنحة الرمزية...، وهو يتمتم: والأخرى الخاملة، الشبيهة بالعاطلين عن العمل، مهمتها المراقبة، والرصد، وإصدار التنبيهات، والتحذيرات، وبث موجات صوتية مهمتها إثارة الريبة، الحذر، والخشوع. لأنه طالما خاطب صديقه بأنه يعيش في نهاية عصر بالكاد يمتلك علامة تميزه، ودالة عليه. ود لو تحول إلى غيمة، أو إلى إشعاع، أو تحول إلى فراغ. إنما ذلك، دار بباله، لا يليق بعجوز هرم عاطل عن العمل، مثل 99% من سكان الحديقة! فالطيران تضمن عدم الرضا العنيد، قال لصديقه، ذات مرة، انه كف عن البحث ـ البحث عن إجابات لمحض المساومة مع الزمن، أو مداراة من يمثله ـ فالجسد لم يعد إلا ماكنة معطوبة. ماذا قلت؟ تلك هي كلمة صديقه، الأكبر سنا ً منه بعقد، بعد أن ساعده أطباء الحدائق البعيدة للبقاء أطول فترة في مواجهة الغياب. لم يقاوم طرفة خطرت بباله: كلانا يعرف انه آخر من سيتخلى عن أسلحته....، إنما كلانا، قال لنفسه، خارج الخدمة: أصبحنا من الأسلاف..!
لكنه لم يجد مناسبة تسمح له باستعادة الأنفاس، كلذّة الارتفاع قليلا ً في الهواء. ثمة لجوء ما إلى جهة تغمره بالاطمئنان، لكن لم يولها تمام الثقة: الهواء....، والدوران، دورة كاملة، من ثم الانخفاض، والارتفاع مجددا ً، حتى عاد وقال لنفسه انه الآن فك لغز جده عندما لم يبح له بكلمة حول الخلاص...، لقد أدرك أن جده ترك جرثومة لم يتم القضاء عليها حتى عندما أعلنت إدارة الحديقة على لسان مستشارتها السيدة الببغاء عن تجفيف منابعها واستئصالها من الجذر. جرثومة اللجوء إلى قوة ما ...، تزيح كابوس مشاعر الريبة، والخوف، والإحساس بانعدام الآمان...، فقد قال له صديقه انه لم يصب بها، جرثومة الاستغناء عن حساب الممكنات، والاحتمالات لفهم معنى كل منهما على انفراد. فليست المهمة هي الحصول على مصادر للسعادة، والممتلكات، والحياة ببذخ، بل المعضلة تعني: إلى متى تمضي تمشي مترنحا ً في عالم وجد مصيره فيه مهددا ً على مدار الساعة..؟
ولم يتخيل انه ـ من غير حذر ـ سيعيد تفكيك قراءة المروية التي دفنها عميقا ً حتى انه لم يسمح لنفسه بمعرفة موقعها داخل تريليونات الخلايا ذات القدرات العالية على الخزن والتمويه...، صديقه لمّح بالمفتاح بعد أن بات من المستحيل العثور على القفل، فمن ذا سيدله على الثقب...؟ جده لم يبح له لا بالأمل ولا بالخلاص ولا بالمصير...، كل ما باح به له: احرص أن لا تقع فريسة سوء الاختيار....، لكن ما معنى أن يدير قفاه لحياة أدرك إنها لو كانت فائضة فمن ذا باستطاعته أن يبرر له سحقها، ومحوها...؟ قال صديقه له إن المفتاح ليس الخطوة البيضاء في الدرب...، فالدرب ذاته لا تكونه إلا ما لا يحصى من مفاتيحه المندثرة، وهي ـ أعاد التفكير ـ تتناسل وفق عدد الخلايا، هندسيا ً وليس رياضيا ً، إزاء القفل، الذي أغلق أي مفهوم للعدد، والحساب! ذلك لأنه تذكر إن الحروب لا تحدث إلا وفق التناسب بين الحساب والهندسة، وما الضحايا، إلا الغبار الذي يسم الدرب بعلاماته، وليس لان آليات التصادم حاصلة بسبب تصادمات التراكم، بين من يمتلك الأدوات، وبين من جرد عنها، لمحو العلامات كافة في خاتمة المطاف، مما يجعل سياق عمل الجرثومة، ديناميا ً، حتى بجودها الافتراضي، أو بواقعيتها المرة.
كاد يتكوم بسبب خدر حصل في مفاصل جناحيه، وتسلل إلى نهايات ساقيه، بل حتى كاد يلامس أظافره التي تنبه لوجدها للحظة، لكن الخدر لم يقترب من خلاياه العليا، داخل جمجمته، وكأنها محصنة، أو تتمتع بمناعة لا تقهر، وإنها تعرف آليا ً كيف تؤدي واجبها في التنفيذ. فجده ـ خاطب نفسه ـ لم يرضخ للبطش، والتهديدات المتكررة، ولم يرض بحياة باذخة لوّحت له، حتى كان يرها أكثر قربا ً من أية نهاية سوداء محتملة أخرى...، بل فضل الكف عن مواصلة الدفاع. صديقه لفت نظره إلى حوار قديم جرى بينهما، دار حول لغز الشيطان الذي أخفاه ـ كما قال ـ عن الرب نفسه، وإلا فان مشروعه لن يكتب له النجاح، حتى لو كان على مدى حقبة ممارسته مع ضعيفي الإيمان، كأمراء الحروب، اللصوص، وكبار الأثرياء، ورؤساء الشركات العملاقة، والنسوة ذات الرهافة، والبنات المولعات بالتحول إلى أمهات، ومدراء الأجنحة، وأساتذة الشر، وعظماء فاقدي الشفقة...الخ، فكر الصقر إن صديقه ـ هو الآخر ـ قبل أن يشد العزم على الرحيل، والمغادرة، أكد له ما جعله يغطس عميقا ً في المحنة، ابعد مما توقع، قائلا ً إن الشيطان لا يوهم، ولا يغوي، ولا يخدع....، لأنه وحده ـ بالقياس إلى الأقل مرتبة منه ـ يعرف أكثر مما يجب بما جرى ...، بل يكاد يكون الأكثر قربا ً من الإله، والعارف بأسراره، فقال صديقه انه اطلع على الألواح كاملة التي ترجع إلى زمن ما قبل الطوفان الأعظم بقرون ...، وقد كانت حكاية تماثل عمل النار إزاء خالقها، ليست مهمتها الحرق، والحرق، وتحويل الغابات، بكائناتها، وكنوزها، إلى رماد، بل، على العكس، إلى: تطهيرها! فالنار ليست أداة إبادة، واجتثاث، بل ـ سمعه يتغنى بلحن رقيق وناعم شبيه بنسيم الفجر البارد ـ بوصفها السكينة المستعادة من غير شوائب، ولا غبار!
اندفع إلى الأمام:
ـ ولكن أي لغز هذا الذي سمح له أن يواصل، من غير كلل، ولا تردد، دوره الضار..، فهل كان ينكل بنفسه، كمصاب بمرض لا علاج له...؟ أم لا يعرف ماذا يعمل...، أم يتباهى بعنجهيته أمام الإله..؟ لم يجد إجابة لديه على ما دار بذهنه، فأعاد السؤال:
ـ إذا كان ـ هو ـ وحده أكثر المخلوقات قربا ً من الإله، ومعرفة بالخفايا، والأسرار الكامنة في الأسرار، أو تلك التي تصبح خارجها، فمن ذا منحه بسالة التمرد بإغواء هذا الحشد من الإثمين، الفاسدين، سفاكي الدماء، المزورين، وباعي الضمائر، وهادمي الحدائق... ؟
أغلق فمه بأمر لا إرادي.
ـ ربما هو أمر ذاته... وكفى!
سمع صديقه يخاطبه عبر الأثير:
ـ قلنا إنها حكاية عفا عليها الزمن، ولا تحتمل المزيد من التأويل...
هز رأسه متمتما ً:
ـ اقصد كيف لم يتم قرأتها على نحو يظهر أن الشيطان دفع للغواية أو وقع فيها ببراءة....، ومن غير قصد مسبق...، قل بعفوية، أو مثل من يزل لسانه بما يضمر...؟
ـ آ ....، عدنا إلى السؤال الذي بلغ درجة الصفر لدي ّ، وهي درجة تجعل الموت في أعلاها، فهربت، قبل أن يتم اجتثاثي، وحرقي، أو التنكيل بي، أو تركي أتعفن في جحر من جحور هذا المستنقع، ولكن السؤال هو: من أغوى الشيطان وصور له انه يقوم بعمل ماجد، باذخ، جميل.....، وإلا كيف واصل بذر بذرة الخطيئة، ثم الإثم، ثم المعصية، وهو العارف بأنه تحت نظر الإله....، ما الذي يجنيه، هذا بحساب الربح والخسارة، حتى لو انتصر على الجميع، أي جميع المؤمنين الذين لا عمل لهم إلا الإفلات منه، والحصول على ركن في الفردوس...، أو فضلة ارض....؟ هل ستقول: الإله هو من أغواه...؟ ذلك لأن الإله يعرف تمام المعرفة انه لم يجحد، ولم يشرك، ولم يكفر، ولم....، فيغفر له ويمنحه موقعه في الجنان...؟
ارتج رأسه كمن أصيب بصدمات كهربائية عنيفة كادت تطيح به، وتسلبه قدرته على الطيران، حتى رآه ينفصل عنه، لكنه سرعان ما أفاق:
ـ جدي لجأ إلى الإله....، حفر، حفر، وحفر حفرة عميقة ودفن جسده فيها.
متابعا ً أضاف يخاطب صديقه:
ـ أما أنت فلذت بجلدك وفلت من الأنياب والمخالب بحثا ً عن حديقة لا قرارات جائرة فيها، فلا أوامر بتحويل البلابل إلى ضفادع، والضباع إلى ليوث، والجرذان إلى ذئاب....، حديقة من لا يعمل فيها يجبر على أما على العمل أو العمل أو يذهب مع الريح!
ـ اسكت!
ـ هل تطلب مني الصمت؟ تنهاني عن الصواب وتأمرني بالمنكر...، يا اعز من عرفت...؟
ـ أنا أخشى عليك أن تلقى المصير الذي فلت منه...
ـ آ ...
وشعر انه يتهاوى، لا يقوى على مقاومة ثقل الأرض، لولا انه أحس انه تحرر من الجاذبية، مع إن انعدام الوزن لا يعني غيابها، أو غيابه، وتحوله إلى أثير، بل الأمر يماثل تأجيل البت بما ستؤول إليه الوقائع!
ـ يا صديقي ـ وقسما ً بضرورة عدم القسم ـ أنا لم أفكر باستبعادك من الطيران...، بل خفت عليك من العقارب، والأفاعي، والتماسيح....، فانا لم أغوك بالحياة...، مهما كانت غير فائضة، وغير تامة المعنى، وأحيانا سافلة، نذلة، واشد خساسة من الغدر...، ذلك لأنني لم أفكر بالرحمة لأدعك تموت ألف ألف ألف مرة قبل أن يصبح الموت ملاذا ً شبيها ً بالقضاء على المرض من غير عقار ومن غير كي ومن غير بتر أو استئصال ...، بل حذرتك من الكلمات.... فأنت أينما تولي وجهك لا ترى إلا وجه من يرسلك إلى ما بعد الموت!
ـ صديقي...، الكلمات مثل البهائم داخل أقفاصها، لا تضر ولا تنفع..، فالألفية الثالثة، كما قلت لي، حولت عالمنا إلى حديقة تكاد لا ترى إلا بالمجهر ...، مسورة، وداخل كل سور سور، مثلما خارج كل سور من أسوارها، سور أعظم....، لأن تلك الجرثومة التي تحدث عنها جدي، والتي حملتها معك في منفاك البعيد، سابقة في وجودها أسوار بغداد عندما كانت عاصمة للدنيا، وسابقة سور الصين العظيم أيضا ً...، لكنها، لا تشبه سور برلين، ولا الحصار الذي ضرب ضد سكاننا، قبيل الحرب...، فهناك الأسوار الشبيهة بهذه الأقفاص، داخل كل قفص، وخارجه، حيث لا حافات للقفص الذي نلوذ إليه، أو نهرب منه...، وليست الكلمات إلا حجارة هذه الأسوار!
ـ آ ....، كان الشيطان بعونك!
ـ أرجوك....، ماذا أقول لربي...، وأنا إيماني به سابق على وجودي هذا العارض، والذي لم أجد له موضعا ً ادعه يستقر فيه، أو انفيه بعيدا ً عنه..
ـ الم ْ اطلب منك أن تغلق فمك ...؟
ـ لكنه يسمه ما في القلوب، فكيف لا يسمع ما في الحنجرة...؟
ـ آ ...، هذا لا يصدر عن اله رحيم،، بل لا يصدر إلا عن إدارة خرافية لحديقة أكاد لا أرى منها سوى الرماد، والغبار...وبقايا بقع رمادية، وأخرى سوداء.
ـ أرجوك كن رحيما ً بنا ...، وبنفسك أيضا ً، فانا الآن أرجوك الركون إلى الصمت! لأن إدارة حديقتنا اشد أذى من الشيطان نفسه!
عندما حاول الارتفاع قليلا ً إلى الأعلى، بدل التقدم إلى الأمام، لاحظ إن المسافة تسمح له بالصعود...، فعزم على المثابرة، كلما ارتفع انتابه إحساس بنشوة غير متوقعة، بلذّة خالصة، وفي الوقت نفسه انتابه عسر في التنفس، وصعوبة في الرؤية. كان الخدر قد اختفى، وكأنه يحلق للمرة الأولى، طليقا ً، من غير تردد، أو حذر. فدار بخلده إنها ليست لعبة، ولا غواية، أن يسترد عزيمة كاد يصدق إنها تلاشت، فعاد يرى المشبك الحديدي، المنسوج كبساط، والمغزول بإحكام، يبتعد عنه كلما تحداه ببذل جهد مضاعف في الارتفاع، فخطر له انه قد يكون وقع في كمين، وإلا ما جدوى الصعود حتى لو نجح في العثور على فتحة، أو منفذا ً للمغادرة، لأن انعدام الوزن ليس إلا مصادفة، لكنها ليست خالصة، أو من غير مصادفات، فترك جسده يستقر ملامسا ً حافات السقف، وراح يحدق في غيمة رمادية كانت تقترب منه، استنشق رائحة تراب محروق، وبول جاف، وغبار ساخن، فظن إنها سحابة صيف، لا تنذر بالمطر، إنما أدرك انه يواجه كتلة هائلة ـ لا أول لها ولا نهاية مكونة من البعوض والبرغوث والجراد ـ:
ـ هل جاءوا لسحقي...؟
أجاب كبير البعوض:
ـ لا ... سيدي، لا توجد أوامر بذلك!
فسأله في الحال:
ـ ماذا تفعلون إذا ً...؟
ـ ذاهبون لتقديم العطايا والنذور ....، ومبايعة سيدنا الفيل الأعظم..
بحث عن صديقه فلم يجده. ففكر بلغز انعدام الجاذبية، وعودتها، وما إذا كانت الحقائق باطلة من غير الأوهام أم أن الأخيرة بحاجة إلى الحقائق والبراهين والاختبار..؟ أجاب كبير الجراد:
ـ لا تشغل بالك...، أيها الخفاش!
كم ود لو استعاد غريزة المواجهة، ومحاه، لولا أنه أسرع، ليرى الجراد، والبرغوث، والبعوض يسرع باتجاهه أيضا ً:
ـ ماذا تريدون مني..؟
انسحب الضوء، واحتفت الجاذبية، وانعدم الزمن ...، فراح يصدق انه ربما يكون أسرف في الوهم:
ـ لا ... لم تسرف، فبعد أن نؤدي يمين الطاعة والولاء وتجديد المبايعة ...، سنشارك في مهرجان الخلاص والنصر المبين.
ـ الخلاص والنصر المبين...؟
ـ نعم...، أيها السنونو!
ـ لو كررتها مرة ثانية فسأضطر للاتصال بالمستشارة، بل بمكتب السيد المدير!
ـ آ ...، آسف، فانا لا أرى ولا اسمع ولا مجال للحركة أو حتى التفكير..
اخبرني ماذا سيجري في هذا المؤتمر الكبير:
ـ نحن مكلفون للرد منطقيا ً على سؤال أيهما سابق على الآخر، الشر أم الأشرار، ووضع إجابة مؤكدة وشاملة ومحكمة على سؤال: وأيهما يصنع الآخر، وهل بالإمكان فصلهما عن بعض، وما تأثيرات ذلك على ديمومة هذا الذي تراه يمتد إلى ما لانهاية...، ومناقشة ماذا سيحدث إن تم القضاء على الأشرار إزاء الشر، وهل القضاء على الشر ينتج ملائكة يعمرون حديقتنا، مطهرين من جرثومة الحنين للشر أو للأشرار....؟
ابتسم سرا ً...، فقد تذكر انه كان عمل مع بغل ـ يوم كان رفع لافتة: صقر للإيجار، إبان العهد الأول بعد الطوفان ـ وكانت مهمته كتابة خطاباته، وتلقينه مبادئ تعمل وفق الاشتباك؛ فنعم لا تصير لا إلا لأن لا غير منفصلة عن نعم. ولقنه بالقول أن الجهل ما هو إلا أعلى مراتب المعرفة. فداخ البغل ـ مديرنا المسؤول عن جناح الزواحف والطيور العمياء ـ وسأله بغضب يتطاير منه الشرر: هل تسخر مني وكأنك تسخر من سيدنا المدير؟ رد الصقر بذعر: لو كانت المعرفة جديرة بالاحترام، سيدي، لكنت مديرا ً وليس راعيا ً للنعاج، والكلاب، والضفادع. فالجهل ـ أيها الزعيم ـ وحده يمتلك قدرة التحكم بالمصائر، ومنها مسارات المعرفة، وإلا ما ـ ما هو تأويلك وتفسيرك لسر فناء الثوابت والحقائق والمعارف...، وديمومة أكثر العلوم قدما ً ورسوخا ً؟
أجاب كبير البعوض:
ـ أين أنت..، أيها الصقر ...؟
ـ في الظلام...
فقال بصوت مرح راقص:
ـ يبدو إنهما ـ الشر والأشرار ـ عملة ولا وجه لها ولا قفا! وهي التي تتحكم بتاريخ الأنواع ومصائرها...؟
ـ صحيح...، هذا ما كنت دوّنته في احد خطابات البغل...
ـ أي بغل؟
ـ رئيس المؤسسة العظمى الأستاذ الأبرز والعالم الخبير....
ـ آوووه...، عرفته!
وأضاف بخوف:
ـ لم تفقد ـ سيدي ـ سلطتك بعد!
فكر بشرود: لو لم افقدها لكنت تحولت إلى حفنة رماد. متابعا ً، من غير رقابة:
ـ قبل مغادرتي عشي....، وقبل سماعي نبأ ارتقاء اعز أصدقائي إلى الأعالي، طلبت المؤسسة المتحضرة للحوار المشاركة بالرد على ما يحدث ...، وسألتني إذا ما كانت جرثومة الهوس بقطع الرقاب، وقطع الأرزاق، والانحدار إلى عصور ما قبل الظلمات، يكمن فينا أم لا، أم هو مؤامرة، وعدوان، وخرق للقوانين، والشرعيات، وهل باستطاعتنا الخروج من المتاهات وكأننا لم ندخلها...، ولصالح من يعمل مدراء الحظائر والزرائب والأجنحة الخلفية والأمامية على هدم أركان حديقتنا وتفكيكها وتخريبها والعودة بها إلى حقبة ما قبل تكّون جرثومة العفن، والخطيئة، ولذّة سفك دماء الأطفال والنساء، ومحو العقول وغسلها وتطهير الذاكرة من ثوابتها..؟
ـ سيدي ...، أنت تفكر؟
ـ اخرس!
سمعه يقهقه، فقال كبير البرغوث:
ـ إن أغلقت فمي أم لم أغلقه فانا ذاهب لتقديم ولاء الطاعة لسيدنا الفيل، ولسيدنا الثعلب، ولسيدنا العقرب...، فهم وحدهم يعرفون ما يدور في رؤوسنا قبل أن تتكون هذه الرؤوس، وهذه الأجنحة، وهذه الشقوق، وهذه المخالب والأنياب....!
اشد الظلام، حتى أحس بكثافته تطوقه، لكنه وجد وسيلة للتعايش معه من غير عثرات، فلمح بقعا ً مدورة تتداخل تصدر أصواتا ً امتزجت فيها عطور مشعة...، ثم رأى الكتلة تحاصر جسده من الجهات كلها. وما أن بحث عن كبير البعوض، أو كبير البرغوث، أو كبير الجراد، لم ير أحدا ً منهم ما عدا ما لا يحصى من الأسماك، والطيور، والنمل، تداخلت، مركبة، ومنصهرة بنظام يعمل بدرجة عالية لا تدع أحدا ً يصطدم بأحد، فلا جرادة تغادر الجراد، ولا سمكة تشذ عن السرب، ولا برغوثة تخرج على النسق، ولا ضفدعة تتمرد على الجماعة، ولا بعوضة تتمرد، ولا طير يعصي الأوامر....
ـ لا أحد ...، وفي الأخير، يتم استدعائي، ومعاقبتي إلى ابد الآبدين...؟
لم يسمع إجابة، فرد على نفسه:
ـ ليس الذنب ذنب من يعاقبك..، وليس الذنب ذنب من يعاقب..، وليس الذنب مشتركا ً بينهما....، فالوهم سيد الثوابت مادام هذا هو الذي لا يمتلك حضوره إلا بحضور الغائب...!
فقد تذكر ـ قبل لحظات ـ مروره فوق مهرجان القتل الفكاهي، حيث شاهد أعمدة تتدلى منها الأسود، والنمور، والتماسيح......، فاقترب من احد المعلقين وسأله: ماذا فعلت؟ فرد: أنا عثرت على جرثومة الشر....! فصلبوني قائلين إذا قضيت على الأشرار فماذا تفعل العدالة، فقلت لهم: تقصدون العاملين فيها! وقال الآخر: أنا قضيت على الفقر ولم اقض على الفقراء فقالوا أيها البهيمة أتهدم عرش الأغنياء. وقال آخر: أنا قضيت على الإرهاب وقلت الإرهابيين ضحايا أبرياء علينا إعادتهم إلى أمهاتهم ومنازلهم. وسمع الآخر يقول انه صلب لأنه وجد عقارا ً لا يسمح لأحد بالذهاب إلى السجن. آخر قال انه استأصل المرض فلا معنى للعقار والدواء. وأجاب سواه: أنا جرجروني إلى المشنقة لأنني وضعت خارطة طريق لا تدع أحدا ً عاطلا ً عن العمل، ذلك لأنني حسبت جهد عمل سكان هذا العالم لتفضي دراستي إلى وجود فائض لا يتراكم كي يقود إلى التصادم والى حروب الجميع ضد الجميع، فعلقوني. وأضاف آخر بصوت مذعور: أنا فككت المثنويات إلى أحاديات تعمل وكأن لا عمل لها سوى التآلف، والوحدة، فلا تصادم بين الحدود، ولا تناقضات تقود إلى التناقضات، فقالوا أنت تخرب أوامر مديرنا، فغرسوا المدية في قلبي. تابع آخر قائلا ً انه للمرة الثالثة يعلق، لأسباب مجهولة، وذلك لأنه لا يدلي إلا بالاعترافات نفسها، لا يستبدلها بأخرى، وفي كل مرة يعلق، ثم يستدرج لاستبدالها ولكن أخيرا ً قال انه لا يقول إلا ما يؤكد صوابها، وقد أيدت غزال منتزعة الجلد، أقواله، لأنها تعرضت للحالة ذاتها، فكلما سلخوا جلدها تعترف بأنها لم تعتد على جارها النمر، ولا على جارها الذئب الأسود، وإنها لا تمتلك ما يدل على ارتكابها إساءة ضدهما، ولا ضد الآخرين. فلم يجزع، مقتربا ً من حزمة شدت بالحبال شدا ً محكما ً، لم يتبيها إلا عندما ركز نظره فرآها مجموعة طيور حديثة الولادة قتلوا بتهمة الخروج على الدرب...، لكن احدهم مازال يستنجد متضرعا ً انه لم يفعلها، ليس لأنه لم ير الطريق، بل لأن الدرب لا وجود له. أما أنا فالقوا القبض على بتهمة حبي للمرح، والطرائف، وظنوا إنني خارج على قانون الظلمات، فأمروني بشرب ألكاس التي شرب منها سقراط، وهكذا نجوت، ومكثت معلقا ً، وسأبقى هكذا حتى ينفي الجديد قديمه، ولا يغدو قديما ً مادام الأمل هو أقدم بذرة لا يمكن مس ديناميتها، أو القضاء عليها.
ورفع صوته:
ـ وسألوني بصوت واحد:
ـ ماذا فعلت من اجلنا..؟
صمت برهة ثم قال:
ـ قلت لهم: أنا بغل للإيجار...، ولم اعد صقرا ً...، أو حتى نملة! فانا خرجت ابحث عن صديقي الذي أخذه من أرسله، فقلت لعلي اعثر عليه، أو يعثر علي، كي اصعد معه، أو يعود أدراجه إلينا ليقضي بعض الوقت ويتمتع بعطور هذه المستنقعات، ويستمع إلى أصداء عواء ذئاب ستموت قبل ولادتها!
ـ بغل أو حمار أو حشرة...، اهرب، هرول، ولا تصغ إلا لمن لا يتكلم!
وكاد يصطدم بالجدار الصلب الخالي من النقوش، والعلامات الهندسية، الشبيه بسطح جبل تعرض للتعرية، فغدا ناعما ً، فانحرف، بعد أن استدار، يسارا ً، متلافيا ً المحرقة، التي أثارت فيه رجات كادت تطيح به، وتسقطه أرضا ً، فضلا ً عن إدراكه للقرار الخاص بمنع أي طائر الارتفاع أعلى من مدخنتها، بحسب أوامر السيد المدير. تذكر صديقه الذي غاب، وربما تستر في مكان ما، ممتزجا ً بالغبار، أو تلاشى داخل حبيبات الزمن. ذلك لأنه استعاد تحذيراته من الاقتراب منها، فقد قال له إنها علامة تماثل الفجوة العازلة ما بين الأعالي، وما تحت الأرض، فهي شبيهة بترسانة أسلحة، لكن عملها يحافظ على الشفافية، أسوة بباقي أسلحة الدمار الشامل، الأخرى، فخاف، مبتعدا ً برغبة تلافي إثارة الشكوك، أو حدث الأنظار تجاهه، فانا مازالت كلما تفحصت المحنة، أجد إنني أتمرغ داخلها. ولكنه لم يقاوم كآبة بددت حاله المرح التي شعر بها قبل وخزات الخوف الأخيرة، فراح ينظر شزرا ً إلى الجانب الخلفي من المحرقة، حيث ترتفع أعمدتها الفولاذية، عاليا ً لتلامس الغيوم، لبرهة، تاركا ً جسده ينخفض بحدود لا تلفت أنظار المراقبين، القابعين في مراصدهم السرية، المموهة، بلون الأشجار، والممتدة مع امتداد سور الحديقة: وهو سور ـ خاطب صديقه ـ يماثل سور الصين العظيم، يعزل الحديقة عن العالم، ويعزل العالم عنها.
إنما استنشق رائحة حادة، كانت رائحة رماد، لكنه قال إنها ليست خالصة، بل مازالت مشبعة بأنفاس مليارات مليارات المليارات من الحيوات، والأنفس، والأرواح، بحسب التصنيف المتداول لسكان الحديقة. لكن كلانا لديه تصوّر يجعل اختلاف تصوراتنا أكثر إثارة للجدل.
ـ هل اختلفنا حقا ً...؟
لم يجب، لأنه انشغل بمشاهدة سلسلة من التلال الرمادية متلاصقة كانت تمتد إلى ما لانهاية، تتخللها، شواخص وعلامات قاومت التعرية، تنتمي إلى عصر ما قبل عصر المحرقة، بل ـ وخاطب صديقة بصوت مرتجف ـ إلى ما قبل ظهور الدواب في البراري، أو في المستنقعات، تلال ذات رؤوس حادة، وأخرى مدببة، وثالثة تحولت إلى هضاب، فيما كانت المدافن الأخرى تبدو مثل حصى منثور بغير نظام.
ـ أنت لذت كي تتحرر من هذا الكابوس...؟
مسترجعا ً صوت صديقه بلحن غزل بدوامات راحت تتداخل أمام ناظريه:
ـ لا اعرف من حفزني للبحث عن فضاء لا يكبلني بالحفر والأنفاق والشقوق...
بدا له المشهد كلوحة خرافية زاخرة بالظلال والصمت، تمتد أمامه من غير حيطان، أو حجابات، ولكنها كانت تبدو له مثل مدينة لم يمحها الزمن، بل عمرها، وصنع منها بساطا ً مزخرفا ً بالدغل، والحجارة، وببقايا جدران متآكلة.....
ـ لا تذهب بعيدا ً!
سمع صوت صديقه يأتيه من القريب:
ـ أصبحت لا اعرف من هو الذي يقاوم غيابه، هل هو أنت أم أنا....، فكلانا يضمر لغز ما إذا كان يدنو أم يولي فارا ً...؟
تحسس وخزات لاذعة في صدره، من الداخل، سرعان ما انتقلت إلى جناحيه، ومنها إلى الرأس:
ـ كلانا رحل قبل حضوره، مات قبل أن يكفن بقماط طفولته، وقبل أن يرى حتى أن للشمس خفايا ً وملغزات كاتمة للأنفاس....!
وتجمد، فقد لمح طيف صديقه يهبط من الأعالي...، وشاهد محياه: هالة ضوء، وخطوط متداخلة بنعومة، مترابطة، تحولت إلى بقع حادة سرعان ما توارت... بورتريه غابت عنه الذات من شدة حضورها فيه، وغاب الرسم كي يغدو أثرا ً للتشتت، والانتشار...، ولم يسرع:
ـ بإمكاني البوح ـ بل الاعتراف ـ من غير تمهيدات أو عاطفة رخوة: عندما لذت بالفرار، من حديقتنا، قبل عقود، فانك كنت تبحث عن المعنى....، الذي غاب عنا، فصرنا نتلمس اللا معنى بسنوات دثرناها بالظلام والخوف والموت!
عاد محياه يتكون عبر أشكال هندسية حلزونية، وعندما نظر إلى الأرض، لم ير سوى مساحة ممتدة ليس لها لون محدد، عدا مسحة من لون الرماد، والغبار، سحقت حتى ابيضت فغدت شبيهة بلون الأثير. وثمة أشكال تتخفى عبر توازنها بين ما تخفيه وما تريد أن تعلنه، أعمدة بدت كأشجار جذوعها خاوية، ومثل رماح موزعة بلا قانون، ومن غير نسبة ونظام للتوازن، فلم يقاوم رغبته بالكلام:
ـ قلت لك....، هنا، أعدت حفرنا لنا قبل أن نولد، ومسحوا أسمائنا قبل أن تدوّن... ، أنت هربت، لأنك عثرت على ثغرة للمغادرة....، فالعالم ـ رغم انه محكوم بالدوران والتداخل والانصهار والتلاشي ـ وجد ليعمر...، ويبنى...!
هز رأسه، تاركا ً صاحبه في استراحة:
ـ ها أنا أعود استدل بأثرك في الدرب..
فرد صديقه:
ـ لن تجد أثرا ً يدلك على ... الأثر ..!
ـ ولكنك حصلت على الكثير...؟
ـ حصلت على هذا الذي أراه يغيب، حصلت على ما سأفقده.
فكر مع نفسه: إبان نزولي إلى العالم الذي لم يعد منه احد، عثرت عليك، فقلت لي: من يرى الشمس مرة فلن يتلطخ بالظلمات...
كانت الحديقة تمتد بعيدا ً في الأفق، حتى شاهدها بلا حدود، أو نهاية، فدار بخلده، انه كلما ابتعد عن المركز، أحس إنها تضيق، حتى وجد جسده يتراجع:
ـ عندما عثرت عليك، سألتك: إذا كنت تخلصت من المعاقبة، فمن هذا الذي يعاقبنا، بإفراط، من غير شفقة؟
فراح يضحك بصوت مكتوم، ويقول لنفسه:
ـ لو كنت عرفت... لكنت مت!
مرت ساعات حسبها سنوات، محلقا ً، من غير أن يرى أثرا ً للحديقة:
ـ ماذا قلت ...؟
لأنه ترك جسده يهبط، فوق تل يشرف على بحر من الرمال. فشاهد ما لا يحصى من الأشكال، ومن اللا أشكال، ذبذبات ملونة، وألوان فاقدة للوضوح، بقع تتسع، وأخرى تتقلص حد التلاشي، أخرى تبتعد، وسواها يوخز بصره:
ـ قلت انك لم ترحل...، وأنا قلت لك يتحتم علينا الذهاب ابعد من الرحيل...، لا يفعلها الرب وكأنها لعبة مهووسين ...، يخلقنا ليخلق الشر ثم يمتحنا ليعفو عنا ....، أنا دخت!
وشرد نظره بقراءة الأسماء التي رآها فوق عدد من الشواهد:
ـ هؤلاء كانوا يظنون إنهم صنعوا مجدنا....، بعد أن لم يتركوا لنا سوى الخراب...، والمحو...
ـ انهض.
ـ من...؟
ـ أنا النملة التي رأتك شارد الذهن، تحدث نفسك فظننت انك وجدت ما كنت تبحث عنه!
عندما آفاق لم يستطع أن يتذكر ـ عند عبوره المسافات ـ ورؤيته لعدد لا يحصى من العلامات، عدا صور متناثرة لأصداء راحت تعيد له التوازن:
ـ أنت هربت من موتك...، وطلبت مني أن اهرب...، أنت نجوت، ولأنك رأيت الدرب فمشيت، أنا قبعت داخل حدود حفرتي، حفرتي التي أعدت لي قبل أن أرى النور....
قهقهت النملة:
ـ هذه هي المحنة! لن تقدر أن تهرب منها، ولن تقدر أن تتجاهلها.
ـ المحنة...، أو المعضلة، سيدتي ...
وجد الكلمات لا تغادر فمه، فأصغى لها:
ـ المحنة لم تتخل عنك، ولا أنت تركتها.
هو رأسه وأكد لها إن الأمر لا علاقة له بمغادرة الجحيم، للبحث عن زاوية أو ركن في الفردوس، بل .... المعضلة...
قالت بمرح:
ـ أنا أيضا ً اسأل السؤال نفسه، ولكني وجدت البحث عن إجابة مضيعة للوقت...، فانا لم تعد لدي ّ أسئلة، أما إننا وجدنا هكذا، أو إنهم سلبوها منها، أو إنها لا تعني سوى ....
صاح:
ـ ولا ...أنا...
ـ ماذا قلت؟
ـ قلت: لِم َ نولد موتى...، أي لم لا نولد، ولماذا نولد كي نمضي حياتنا ترزح تحت النير...، نقضي العمر ننتقل من قفص للدخول في آخر، منشغلين بتلافي العثرات، فلماذا نعاقب عن أفعال لم نخترها.....؟
ـ هذه هي أسئلة صديقك أيضا ً...، فكف عنها، عندما غادر مستنقعنا، أما أنت فاخترت الدوران داخل قفصك، فما نجوت منه بالفرار، ولا مت واسترحت من نفسك!
ـ آ ...، ولا احد يريد أن يصحوا...، لا احد يعمل للعثور على منفذ للخلاص، إن لم اقل إن اللعبة صاغت ديمومتها لأسباب آخر من يفكر بحلها هم نحن لأنها هكذا تماثل الحكاية التي قرأتها في الألواح: الإله يخترع الشيطان، كي تحدث الحكاية، فالشيطان هو الذي يبادر للرهان حول إخلاص أيوب ...، فيتحدى الإله من اخترعه، بمعزل عنا...، هكذا صرت لا أعرف أأنا رحلت أم صديقي اجتاز بوابات الرحيل......؟
ـ صعب...الرد صعب، والإيضاح أكثر صعوبة، إن لم اقل استحالة...، فانا محض نملة، وأنت تعرف النملة لا تولد إلا لتموت نملة! كالعبيد، لا تسمع منهم إلا ضجات فارغة، للأسباب ذاتها التي تبقى كامنة عبر ديمومتها!
قرب رأسه منها كثيرا ً:
ـ لم اعد امتلك حتى رغبة بالطيران، بعد أن توارى صديقي في البعيد....، ثم ها أنت تشاهدين من يقول لي: صديقك لم يغادر! فانا بت لا افهم لماذا أثير هذا الغبار...، وأنا اعرف انه مازال يسبقني كدليل فوق هذه المدافن...؟ آ ....، لو عرفت كيف أتصالح مع هذه العثرات، وأغلق فمي، كأنني قلت ما كان يجعل قلبي يعمل بسلاسة! أم إن اللعبة ذاتها تجرجرنا حتى بعد انكشاف بهتانها، أم إنها لا تكمن إلا في هذا البهتان...؟ أنا صدمت برحيله، وها أنا لا امتلك إلا أن انفي النبأ، كي اصدق إنني أنا من أضل الدرب، وأنا هو من غادر...!
ضحكت النملة بصوت شفاف:
ـ ومن أين يعبر الضوء، وكيف يجري الزمن من غير مسامات هي ذاتها عليها أن لا ترتد، وان لا تتقدم أسرع من تنفيذ واجبها!
ـ عبر الظلمات....، لكن ما معنى هذا الضوء...، هذا القليل منه.....؟
ـ كان عليك أن ترحل، فالضوء وحده يمتلك لغز زواله...!
ـ أنا رحلت.
ـ أنت غطست، وصديقك راح يراقب ....، ثم أدرك أن الضوء سمح له ليرى كم الظلمات بلا حافات.
ـ آ ...، الآن اجهل من غادر...، ومن سيغادر...، ومن ذا يفك لنا باب المغادرة، ويدعنا ندنو منها..؟
وأضاف بصوت متلعثم:
ـ كأن هذا الانشغال لا يعمل إلا عمل العقار المميت، فلا شفاء من مرض هو وحده يذهب ابعد منا، إن لم نكن نحن هو هذا المرض....؟
ـ بالضبط.
ـ إذا ًانا هو من ارتكب الاثم الذي تجنبت ارتكابه...، وصديقي الذي ظننت انه كان دليلي...، تركني....، فماذا اتتبع خطاه في الغياب؟
ـ صديقك الذي لم تره...، يقف بجوارك!
بحث...، حلق، وهبط، مسرعا ً دخل إلى عشه وخرج منه، وألقى نظرة إلى الحظائر، والزرائب، والحفر، وباقي الأجنحة....، تسمر عند المحرقة، ليشاهد، خلفها، تلال الرمال تمتد، متلاصقة، ثم تبدأ مساحات تشغلها الرمال، وبجوارها تقع المستنقعات، والبرك، يشقها مجرى النهر، يتلوى، محاطا ً بحقول القصب، والنخيل، والبردي، ليظهر إقليم البعوض، بجوار إمبراطورية البرغوث، وفي الأعلى، شاهد آلاف الغربان تتجمع، لصق النسور، والبلابل، وخلفها امتدت بحار الغبار التي خلفها الطوفان الأعظم، وبمحاذاتها، قبور الأزمنة التي لم تترك إلا معابد متآكلة ومهدمة محا أثرها الزمن، وبعثرت علاماتها الريح، والعواصف....
ـ لا أرى أحدا ً!
ـ لأنك، أيها العجوز، ولدت أعمى!
ـ ولكنني تتبعت خطا صديقي وهو يعبر من سواحل العفن إلى هذه الحدائق!
ـ وهو ...، مثلك، ولد لينجو...
ـ ولكني أصبحت وحيدا ً...، فلا أجد أحدا ً اهتدي بخطاه...، ولا أجد أحدا ً يسترد روحي مني، أو يأخذها...؟
ـ تلك ـ هي ـ محنتك...، أمضيت حياتك تأمل من يكسر قيود قفصك ويقول لك: اخرج..، انتظرت بركانا ً أو طوفانا ً أو زلزلا ً يطيح بها ويقول لك: أنت طليق ...، انتظرت من يحررك منها....، ومن يساعدك على النجاة ....، ولكن عندما أمسكت بالمفتاح، قلت: أنا لم يشغلني خلاصي، ولا أمر نفسي، فكل ما علي ً عمله هو أن اعرف لماذا يذهبون أفوجا ً أفواجا ًعائدين من الباب الذي خرجوا منه...، بعد أن رأيت احدهم يذبح من بجواره، ويمحو كل منهم اثر الآخر...، فهل التراب هو المفتاح أم هو القفل...؟
ووجد رأسه يتمايل:
ـ وماذا لو حصلت على الذي سأفقده... وماذا لو حصلت على ما لا وجود له... ؟
ـ ها، يا صديقي الصقر...، هذا ما دفعهم لوضعك في القفص...، وشددوا الحراسة عليك!
ـ ولكني كدت افلح بالقضاء على نفسي!
ـ هكذا اختلطت عليك التصورات...، فلو عملت مثلما يعملون، ولو صرت مثلهم، لكنت حصلت على قفص أرحب!
ـ عدنا إلى الجحيم الأشد غموضا ً من الفردوس!
ـ تقصد انك ستعود إلى الفردوس المشيد بجوار المحرقة ..؟ لأننا لم نر...، سوى: النور يخرج من الظلمات، والظلمات لا تقوى على إطفاء ضوء شمعة بحجم طائر يرفرف...؟
ـ استعدادا ً للذبح...؟
ـ أو للرقص....!
ـ اخبريني...، وكلانا ُسمح له بهذا القدر من الاسترسال....، أين هو صديقي...؟
ـ بجوارك!
ـ لكنني بحثت عنه فلم أجده.
ـ لأنك لم تبحث عنه..!
وأضافت النملة:
ـ وهل وجدت أما ً أنجبت وليدا ً ذهب ابعد من رحمها...؟
ـ أنا هو من لم يذهب ابعد من قفصه...!
ـ لكن الذي تبحث عنه أخذك معه ابعد من الغياب!
تلمس جسده، تنفس، وضرب ساق الشجرة برأسه، وعاد يحدق في عيني النملة:
ـ من علمك هذه الحكمة...؟
ـ آه ...، أيها الصقر...، كيف غفلت ذلك ..؟
ـ ما هو ..؟
ـ عمرك...! فهو شبيه بالفجوة بين الإله والشيطان، والذي يماثل المسافة بين حضورك وغيابك، فالذي أمسكت به، لم تمسك به، انه هو الذي امسك بك، لكن لا أنت ذهبت ابعد منه، ولا هو تخلى عنك!
رفع رأسه يخاطب صديقه:
ـ أين أنت يا من كنت تحثني على تحطيم القيود....؟
ـ .....
أجابت النملة:
ـ أيها العجوز...، أصغ للذي يذهب ابعد من الصوت...، فالكلمات غبار، أيها العجوز أبصر للذي يذهب ابعد من الضوء، فالكلمات حبات رمل، والضوء جدار...، أيها العجوز استنشق الهواء فانه آت ٍ من سواحل العفن، وسيعود لها، فالعطر الذي فيه ما هو إلا الغواية ، أيها العجوز لا تتلمس الحقائق وكأنها وجدت داخل قفصها، فهي لن تدعك تنتظر أكثر من عبورها ابعد من السمع والبصر وباقي الحواس، لأن الحكمة وإن ولدت من هذه العناصر، لكنها إن لم تغادر قفصها فإنها لن تدعك تمسك بالمفتاح، ولن تدعك ترى القفل!
تأملها عن بعد مستنشقا ً رائحة غياب الزمن:
ـ بدأت أرى صديقي، أيتها العزيزة...، فها أنا أغيب بحضوره!
ـ ها أنت بدأت تتعلم كيف تضع قدمك في الدرب..، وتختبر معرفتك، فإذا كنت ذهبت ابعد من مسافات العبور، في دروب هذه الحديقة ومخابئها، حفرها ودهاليزها، سراديبها وزرائبها، أنفاقها وعثراتها، حظائرها وشقوقها، مدافنها ومتاحفها، جداولها ومستنقعاتها، فما كان عليك أن تفعله، هو: أن من لم ير نفسه، لن يراه احد، حتى لو نال مجد السماء، بعد مجد الأرض، فمن يرى نفسه يكون أفناها، وأزالها، وأذلها ومحاها، قبل أن تأخذه الريح معها إلى المجهول..!
ـ آ ...، أيتها الحكيمة، أنا لم أكن اجهل هذه الموعظة...، لكن من ذا كان يقدر أن يتصرف وكأنه رأى الدرب...، وخطانا لم تسمح لنا إلا أن تؤكد أن الأعمى لا يمشي إلا خلف آخر يقهر الظلمات ، بعد أن فقدنا البصر، وسلبت منا البصيرة، فانا لو كنت غادرت، فانا سأحمل مصيري معي، أينما حللت، وإن مكثت ـ كما فعلت ـ فمصيري كنت رأيته حتى قبل أن أتعلم الطيران.....! وها أنت ِ تشاهدين إن الذهاب ابعد من حافات الدرب، شبيه بمن فقد الدرب تماما ً، مع أن هذا محض وهم لم يترك للفجوات إلا أن تكمل بعضها البعض الآخر، مثل الحقائق، لو كانت صحيحة، لكانت سدت أغلقت الدرب، أو لم تترك له حتى هذا الأثر الذي رحنا ندب بفضل عثراته، وبما يجعلنا أكثر قدرة على تحمل أوزاره، حتى لو كانت بحجم هذه المحنة، وبعمق هذا الفراغ...
ووجد جسده النحيل يرتفع قليلا ً، قليلا ً، في الفضاء، مبتعدا ً عن الأرض، أعلى فاعلي، حتى اصطدم جسده بالسقف، فأحس بألم القضبان توخز جناحيه، فلم يكترث لها....، لأنه وجد المسافة تمتد...، فترك بصره يدله على الدرب...، رغم انه عندما أحصى الحواجز، لم يستطع أن يضع لها عددا ً...، ولكنه وجدها تتهاوى، كما تهاوت قدام صديقه إبان الفرار، من غير الم، ليجد مصيره في مركز الهاوية.
Az4445363@gmail.com
30/6/2015
كآبة بيضاء
[من دون مجازفة يكون الأيمان أمرا مستحيلا.]
سورين كييركيغور
إلى عدنان المبارك
عادل كامل
لم يكن نبأ رحيل صديقه قد احدث صدمة بوصفه غير قابل للتصديق، أو لأنه كان لا يريد أن يصدقه، فكر مع نفسه، بشرود، أو لأن رحيله خسارة طالما قال إنها كانت تماثل استبعاد الأمل بالعثور على عقار لمرض لا يمكن الشفاء منه، أو لأن رحيله يوازي استحالة تسكين تلك الآلام العصية، بل لأن علاقته بصديقه كانت بمثابة عبور بالمحنة إلى أقصاها. فكر بذهن تائهة، انه لم يفقد شريكا ً لا يمكن تعويضه، في حياة بدت تبرهن إنها كانت عصية على الفهم، وربما خالية من المعنى، عقيمة، وغير قابلة للتسوية، بل لأنه أحس بصعوبة إغراء نفسه بالعثور على معادل لا يجعل حياته تبدو مثل ورقة شجرة تتدلى بانتظار مصيرها...، فالقضية لا علاقة لها بالخسارة، أو بالخيبة، لأنها، منذ غادر القفص، والحديقة، قبل عقود، وجد اختياراته تدحض أي أمل بالعثور على حلول مناسبة، تعيد السكينة التي وجدها قد غادرته، فقد تذكر آخر لقاء له قبل أن يطلق جناحيه للريح، إن صديقه أكد له انه سيحمل معه رائحة العش، والأشجار، والأهل، والتراب...، حتى لو صار نائيا ً وفي أقاصي الأرض، فالحكاية غير قابلة للشرح، ليس لأنها غير قابلة للتفتيت، بل لأنها تتكّون عبر اندثارها، وزوالها أيضا ً، وقد تأكد له أن رسائلهما، عبر الأثير، والباثات المختلفة، داخل الزمن وخارجه، كانت معادلا ً يصعب تفنيده، أو تعويضه بأي بديل مماثل، آخر. صحيح لم تعد ثمة ـ وفق الوقائع ـ صداقات، ولا ما يماثلها، شبيهة بزمنها، ولكن كل منهما كان يدرك أن هناك لغزا ً يصعب الاستغناء عنه: لغز مودة يصعب وضع شواخص لها، أو تركها تعمل من غير بصيرة تذهب ابعد ملغزاتها.
وود لو ابتعد عن بيته الخشبي، تحت أغصان الأشجار، داخل القفص الحديدي الكبير، والقيام بجولة له ليس للتحقق من النبأ، أو نفيه، وليس للتخفيف من الصدمة، أو استبدالها أو التحايل عليها، بل للانشغال بجعل رؤيته اقل عتمة، والحفاظ على مرونة ما تساعده بفهم ما كان عليه أن يقوم به..، لكن قواه لم تساعده على تنفيذ رغبته، رغم ضآلتها، فترك نظره يذهب إلى أقصاه.
اقتربت منه نملة وسألته:
ـ أيها الصقر...، أراك شارد الذهن...
لم يجد لديه ما يبوح به، فالأمر لا يعنيها، ولا يعني أحدا ً آخر سواه. ولكنه وجد أن الكلمات تختلط داخل حنجرته، وتتداخل أصواتها بمعانيها، لتعلن له انه قد يفقد قدرته على التنفس، والتفكير، وربما الحركة أيضا ً، وإلا لماذا عاملها بلا مبالاة، وقد تدخلت من اجله، وليس من اجل نفسها، فلوي عنقه، وحدق في عينيها الواسعتين:
ـ لا يمكن الاعتذار لك، سيدتي، فالكلمات ليست سوى بقع معتمة وأنا لا أكاد أرى شيئا ً..
مضيفا ً:
ـ من شدة التوهج!
هزت رأسها:
ـ قلنا هذا منذ زمن بعيد...!
منذ زمن بعيد...، كأنه اكتشف امرأ ً غدا نسيا ً منسيا، وليس له وجود، انبثق من غير قصد، مثل مصادفة كان عليها أن تحدث، لوجود ما لا يحصى من المصادفات، بقانونها، أو من غير هذا القانون، فقد تذكر ما كان يردده صديقه، بان ما لا يمكن إغفاله، ولا يمكن محوه، لا يكمن في تدوينه، وصياغته كمواعظ، وإرشادات، وأوامر، بل الذي يمد المحو بما يجعل ديناميته غير قابلة للدحض. قال له إن الألفية الثالثة، يفترض إنها لم تعد أسيرة نشأتها، ومقيدة بقيود ماضيها السحيق، عند سواحل العفن، في المستنقعات، ولكنه سمع أصداء صوت صديقه يتخلل ممرات الهواء، والضوء، تتموج، وتتابع، مكملة بعضها البعض الآخر، بسلاسة، بان ما يخسره الكائن، وما سيخسره ـ من الفيروس إلى أرقى الثعالب والدلافين والطيور ـ هو جزء من ترتيب يذهب ابعد من حصره بحقبة أو سِفر أو كتاب، فقال يخاطب صديقه، قبل الإفاقة من الشرود:
ـ فهناك ـ إذا ً ـ ما قبل الزمن....، وما بعده!
رفعت النملة صوتها:
ـ ها أنت تحجب عن نفسك ما تود إعلانه...، ولا تبوح إلا بالفائض من اجل ...
ـ آسف...، الآن بدأت أدرك إنني ابحث عن عقار...، علاج ما ... لشرودي.
فضحكت:
ـ لن تجد ضالتك، فمرضك سابق في وجوده وجودك أيها الصقر...، وهذا لا يتقاطع مع القول باستحداث المرض...، فالفاعل السابق على فعله يؤكد انه في فعله الفاعل وليس الفعل! وهذا يعني إن ما حصلت عليه من دواء ليس له علاقة بمرضك، لا من بعيد ولا من قريب! فالنتائج قد لا ترجع إلى مسبباتها، بل قد تكون خالصة، تماما كوجودك من غير أسباب بعد أن أصبحت تامة، ولا حاجة لها إلى البراهين، والأدلة!
شرد ذهنه، أكثر فأكثر، مما اضطره لاستنشاق الهواء، فشم رائحة جذور رطبة ميزها عن رائحة التراب، ورائحة الرماد، والغبار.
ولا يعرف لماذا تذكر جده الذي ولد في البرية، بعد أن حصل على الإقامة، في القفص ذاته الذي لم تجر عليه تحسينات تذكر، انه قبل أن يصاب بالعمى التام، إن ما يؤيد صواب استبدال العداوة بالتعايش المرح، المشترك، بين الفصائل، والأنواع، يدحض مفهوم ديمومة النكبات، والعيش فوق بركان، وقال انه لو لم يحصل على يقين يؤيد صواب رؤيته بتالف الحياة ما بين أشرس المخلوقات مع ارقها، واخسها مع أكثرها نبلا ً، وأمكرها مع تلك التي ولدت كي تحافظ على نوعها من اجل المودة والحد من الاقتتال إلا لأسباب قاهرة. فتذكر صديقه يعيد عليه سرد حكاية أقدم مصالحة جرت في تاريخ الحديقة، قبل أن تسّور وتقام لها حيطان وجدران عالية محمية بالأسلاك والحرس والكاميرات، من خطر الضواري غير القابلة للتنازل عن شراستها، وشعورها بالمجد، والعظمة، إنها لم تحصل إلا بوجود من سبر أغوار القدر، ومخفياته الدفينة، والعمل وفق مبدأ: عش لغيرك كأن الآخر لا يعيش إلا من أجلك! ولكنه قال إن الحشرات والديدان والقوارض وكل دابة تدّب لم تخلق إلا بخليط من العناصر ذاتها التي فقدت توازنها، بعد أن تحولت العداوات إلى عرف، ومسلمات أسبابها كامنة فيها، وراحت تعمل عمل النار؛ لا تترك إلا رمادا ً يشترك بتجديد الدورة، فلا احد استطاع محو جاره القريب، ولا احد استطاع اجتثاث جاره البعيد، وإيذاءه دون أن يدفع الثمن...
ودار بخلده: لهذا ـ قلت لي ـ فكر بصوت مسموع: تبحث عن درب، ـ مثل سفينة تتعرض للأعاصير، إن لم يعمل الجميع على سلامتها، ـ إن لم نعمل معا ً على سلامته، فالعثرات لن تدع أحدا ً يتقدم خطوة إلا صوب المجهول.
فسألته النملة:
ـ وماذا قلت له...؟
ـ بعد أن حلق عاليا ً حتى كاد يتوارى في .....، الأفق، قلت لنفسي: خلف من احلق، ومن ذا سيكون دليلي في هذا الليل .... فقال لي: لا تغفل أن تتذكر إن النار الكامنة في الأشجار، الماء، الصخور تأبى إلا أن تكسر قيودها، فإما أن تحلق معي...، نحو حديقة لا يتحول فيها الفيل إلى قملة، والأسد إلى جرذ، والنسر إلى برغوث...، وأما ...
ـ ماذا قال..، تكلم، لا تغلق منقارك هذا المثلوم؟
ـ قال: أن اغطس!
فدار بخلده، وهو يستمع إلى أصوات وضوضاء ولغط كان لا يدعه يصدق انه أصبح وحيدا ً، لأنه راح يرى موجات سكانية، تتبعها أخرى، وفي فترات مختلفة، تفر هاربة شاردة بدل أن تلقى المصير ذاته الذي اعد لها، ولنا، ولكم....
ورفع صوته قليلا ً:
ـ تركونا...، الواحد بعد الآخر، بحثا ً عن حديقة ليس مهمتها ذبح أبنائها، وأدمة اقتتال الجميع ضد الجميع، وتأجيج فن النذالات، الخساسات، وما فوق الدعارة، والكراهية، والبغضاء والحفاظ على لغز بذرة الموت دائمة الاخضرار، وهي لا تتعرض للخمول، ولا تهن في عملها أبدا ً. كانوا يغيبون، يختفون، جماعات جماعات، وافرا ً، ومجموعات مجوعات، سيدتي، أما من تبقى فكان يلقى المصير الذي لم نعد نعترض عليه: النزول إلى المكان الذي لا رجعة منه...، أو انتظار ما بعد الرحمة: المحو بما يمتلك من تنويعات، وتمويهات، ولذائد فائقة المذاق!
قالت النملة بأسى عميق:
ـ لا أحزان تدوم...
فقال لها:
ـ ولا مسرات دائمة. لكن صديقي الذي كنت أتتبع خطاه في الريح ...، بعد دهر، أنبأني بأنه مهما ابتعد، وحلق عاليا ً، وعانق تخوم المسرات المستحيلة، فانه مازال يستنشق رائحة العش الذي ولد فيه...
فقالت النملة بصوت مستفز:
ـ لأنك لم تغادر معه...، أم لأنك اخترت مغطسك معنا..؟
ـ خجلت من الكلام، بالأحرى: لا اعرف ماذا حدث لي....، لكن عدم المعرفة كان قد بلغ ذروة هذا الخجل. فانا طائر كسر جناحي قبل الخروج من ....
ـ أكنت جبانا ً...؟!
ـ ربما كنت متهورا ً، طائشا ً، مخبولا ً، مغامرا ً...، إلا إنني لم أكن احمل جرثومة هذه الرذيلة: الجبن!
ـ وهل كان....؟
صرخ الصقر:
ـ لا ...، كان خلي يحمل نارا ً أبى أن يراها تنطفئ وتصير رمادا ً في حديقتنا السوداء!
ـ وأنت...؟
ـ أنا تركت النار تخمد...، بهدوء، بهدوء...، بل بلذّة هادئة، هادئة جدا ً، وبلا مبالاة....، فبعد أن رأيتها تتوهج وجدت روحي تدفن في القاع، وجدتها تغيب...
ـ لماذا ...؟
ـ ذات مرة قال لي صديقي في واحدة من رسائله: أنت ملح الأرض...، فقلت له: لم تعد الحرية تغويني برؤية من يغطس، وأنا أنجو بمفردي من مخالب الضواري وأنيابها، فأما ننجو جميعا ً أو لتأخذنا جهنم.
ـ لا تموه علي ّ...؟
ـ وهل ابقوا لي قدرة على التمويه...، أو سلامة العقل، أو حسن المنطق، بعد أن خمدت النيران في ّ وصرت رمادا ً لها.
ـ مازلت ـ أيها الحكيم ـ لم تفقد توهجك القديم...
اقترب منها قليلا ً:
ـ لا ...، أنا لم اخلط بين الثقيل والخفيف...، ولا بين البعيد والأبعد، ولا بين القريب والأقرب...، فبعد أن درست خصائص العناصر الظاهرة والكامنة أدركت إن لكل منها، ولكل منا، في هذه الحديقة، تفوق عنصر على آخر يفضي إلى خسران الكثير من ديمومتها...، وصديقي الذي ذهب إلى البعيد، مع ما لا يحصى من السكان، الطيبين، المتوهجين ذكاء ً...، أنا ذهبت ابعد منه، وابعد منهم جميعا ً!
ـ ابعد منهم...، ومنه...؟
ـ في هذا القفص....، داخل هذا العش، مكثت أتتبع خطا صديقي في الأفق، فوجدت إنني انتزع الأوهام، الواحد بعد الآخر، حتى لم تعد هناك سلطة للوهم علي ّ...، فأصبح أكثر من طليق! حتى كأن العبودية لا وجود لها، ولا حتى للشر حضور!
ـ غريب...
ـ ما الغريب ..؟
ـ انك الآن لا تقو حتى على الطيران، وتتبجح بالمجد كأنك ذهبت ابعد من النصر؟!
ـ الم ْ أخبرك إنني ذهبت ابعد منه، وابعد منهم..!
ـ صديقك لاذ بالريح...، والأفق، من غير أوهام وتمويهات وخداع...؟
ـ وأنا لم اترك مساحة نائية لم أزرها وأحط عند تخومها البعيدة...
ـ وما الذي كنت تبحث عنه...؟
ـ لا شيء! اللا شيء تماما ً! لأن الذي كان يشغل الجميع صعقني حتى لم تعد لدي ّ أسئلة أو حتى تصوّر....، فالجميع ـ وانتم، يا معشر النمل، في المقدمة ـ لا هم لهم إلا بلوغ تلك الذروة...، التي لا عمل فيها، والتي هي ضد العمل، من اجل الحصول على ركن...، ضفة، زاوية، مزدحمة بالثمار، والجداول، والغزلان، والبلابل، والحرائر، والـ ...
ـ عدت تموه علي ّ...، وأنت تكاد تسقط أرضا ً...من شدة الارتباك، والذهول.
ـ وهل اقدر أن أقول شيئا ً آخر، بعد أن أخبرتك، يا سيدتي، إن صديقي هرب لينجو من النزول إلى الأعالي! وليس من الظلمات!
ـ أوه...، أيها الكافر، رحت تجدف.
ـ ها... لو كان ما تقولين يحمل ذرة صدق، فهذا هو ذروة إيماني! فانا هو الصادق بعد أن لم يعد لدي ما اشك به، وما يثير مخاوفي!
ـ ذروة الإيمان بماذا ...، حدد... أرجوك...؟
ـ إن أحدا ً لا يقدر على الصلح، أو المصالحة، أو التعايش، مادامت النهاية تدّب كدبيب هذه الأنعام ترتكب أشنع المعاصي، والفواحش، والموبقات، ثم لا تكف تتضرع بالحصول على الغفران، والنجاة، كي تولد أكثر استعدادا ً لديمومة ما هو أكثر قسوة من الموت، وأكثر شناعة من الرحمة!
ـ آ .....، تكاد تخرجني عن ملتي، ملة النمل...، لأنني بدأت أراك تتعذب وتشقى من غير سبب...، باستثناء حملك للأوزار والآثام والخطايا بطيب خاطر!
للمرة الأولى منع ضحكة كادت تفسد عليه شروده:
ـ لو كنت شعرت بثقل هذه الأوزار، أو عذابها، لقلت: هل من مزيد؟
ـ اووووه...
ـ لا تكترثي.. فالخروج عن الدرب...، يعززه!
هزت النملة رأسها مذعورة:
ـ بمحوي...؟
ـ كما حصل لي...، سيدتي، عندما كان علي ّ اما ان لا اخرج عن مساره، او اغيب فيه.
ـ عدنا الى قيود الحتميات.
ـ بل ... الى لا حافاتها...!
ـ حقا ً ان الصدمة لم تترك لك الا ان....، تجد عونا ً...
فرد بهدوء:
ـ لو لم يكن الموت هو أعلى درجات الحرية، لكان وجودها اشد إيلاما ً وأذى من قيودها...! بل لكان وجود الحرية ذاته قيدا ً...!
ـ هذا هو شرع النمل، سيدي!
ـ لا اختلاف عن شرع البرغوث أو القمل أو البشر...، فكل من تسول له وساوسه الخروج لن يلقى إلا المصير الذي سيمضي حياته كلها لدحضه....، فالمعضلة هكذا تغدو وهمية، ومن صنع التصوّرات..
ـ افتراضية...؟
ـ حتى هذا الافتراض...، سيدتي، تارة يوهمنا بالمسافة بين الأضداد، وتارة يوهمنا بوحدتها.
هز رأسه، بشرود تام، وهو يلمح ذبذبات تتراقص في الهواء، فقال يخاطب النملة:
ـ كنا نفكر بالعقار ولم نكن نفكر بالمرض...
ذلك لأنه شرح لها عبر صمته وشروده أن صديقه غادر لأن الهواء تحول إلى ذرات لا لون لها، حادة، جارحة، وان الحديقة التي كان عليها أن تساعده تحولت إلى إدارة لا عمل لها إلا القضاء على العمل... وسحق كل من يخرج عن الدرب، سحقا ً ناعما ً، وفي الغالب، مروعا ً حد انه وصف بما يحدث للميت من عذابات في أول أيام دفنه في القبر! غريب ...، رد عليها وترك نظراته تعالج نقص الهواء، وتقلص جسده، وتعرضه إلى هزات، فقالت بصوت مرتبك:
ـ انك ترتجف، ولا تقوى على الوقوف....
وجد صعوبة بالرد، فكرر بصوت مخنوق:
ـ الهواء، الهواء، الهواء....
هبت نسمات امتزجت فيها أصداء أصوات خفيضة، فاخبرها انه لم يكن يأمل بلحظات يجهل كيف ستكمل تتابعها، إن كانت مقيدة بأقصى ما تتمتع به من حريات، أو طليقة بقيود حتميتها...
ـ آ ... فهمت.
عندما تجدد الاتصال بينهما، بعد عقود، لم يجد صعوبة بالعثور على ممر يذهب بهما ابعد من الإشارات، والكلمات، فعبر الأثير ـ تابع يصغي لصوت صديقه ـ تستطيع رؤية المشهد كاملا ً، كأنه لن يتوانى عن استدعائنا للقيام بما لم ننجزه...، ولم يكن الأمر يتعلق بالصفقات، أو بالمكاسب، قال لنفسه، بل لأنه عندما غادر، خاطبه: ها أنت أصبحت طليقا ً كما كنت عليه قبل تكونك الأول..! ولكنه أحس بان خواطره تضمر خيبة لا يريد إعلانها، والاعتراف بها، لجارته النملة، وهي مازالت ذاهلة منشغلة بأمره.
ـ لا!
قال للنملة التي اقتربت قليلا ً منه:
ـ آخر كلمة قلتها لصديقي، أينما ذهبت، فسيتتبع شبح الحديقة خطاك، أو تدرك انك تمشي بعناد خلفه!
صاحت النملة:
ـ الآن فهمت لماذا أنت كدر..، وحزين...، فأنت صدمت بخبر رحيل صديقك الأعز، الذي كنت تأمل أن يشيعك، ويرتب مراسم دفنك، حتى لو كانت افتراضية، وعن بعد! بدل أن ترمى فوق القمامة، لتفترسك كلاب الليل! أو تتحول إلى غبار، أو إلى أثير!
ـ ليس هذا بالضبط...، فانا ميت مثلما أنت ِ ميتة، مع إننا لم نولد بعد...، فهو بالتحديد لم يمت بعد، لأنه كاد يمسك بلغز ولادته المشفر! فهو ذهب ابعد من موته، مثلما انه مازال يتجمع تحضيرا ً لمولده!
ـ آ ....، مازلت تعمل على نفي نبأ رحيله...، لأنك لا تريد أن تؤكد رحيلك أنت، أم لان الحقائق أصبحت كالأوهام كلاهما لا تعرف من يفند الآخر، أو يمحوه.
ـ أيتها الحكيمة...، أنا لا أتحدث عن الصداقة التي مسها الغياب، وهددها بالمحو...، بل عن هذا الذي يولد توا ً...، عبر زواله، وتلاشيه! فأين هي الحكمة التي لا تترك إلا أثرا ً يزيل غيابها، قبل أن يكنس حضورها! أنا أتحدث عن فخ إن نجوت منه آذاك، وإن وقعت فيه آذاك، فلا تدرك أخيرا ً أكان قد نصب لك، أم كان عليك أن تقع فيه..، وسابقا ً قال احد صقورنا: هل توجد نذالة أو معصية كنذالة ومعصية من يشهد أمام الإله لمصلحة الإله بأمر الإله.....؟
ـ آ...، كأنك غادرت قفصك، كأنك فلت من الزمن، ومن الداء، ومن المعاقبة...؟
صدم. أنا قلت له ـ راح يخاطب نفسه بصوت جهوري ـ لن تعزل قدرك عن عثراته، ولن تقدر أن تعزل العثرات عن قدرها. الكل لا يتجزأ رغم إننا نمضي زمن زوالنا لا نعرف من الجاني ومن المجني عليه، ومن أصاب ومن أصيب!
ـ كأنك تخفي علي ّ ما يجول بذهنك...؟
تململ، وحرك رأسه يسارا ً ويمينا ً، مصغيا ً لنبضات قلبه تدق موزعة وخزات ناعمة داخل جسده، ليرتفع قليلا ً في الهواء:
ـ أنا احلق...، فانا لم اغب بعد!
ابتسمت النملة:
ـ لكنك قلت لي: إن ما كان يشغلكما ليس الموت، ولا الدنيا...؟
عاد ووقف بجوارها:
ـ صحيح...، العاجز وحده من يشغله الموت، والأكثر عجزا ً من يدع الدنيا تمشي فوقه! لكن اخبريني أيتها الحكيمة هل هناك قضية لا علاقة لها بالخروج من العدم، وبالعدم الممتد....، من ثم المضي في استكمال ما لم يستكمل بعد...؟
قالت النملة بثقة:
ـ اجل، هو الذي لا تقدر الكلمات على إعلانه...، مع إنها لا تقدر على تجاهله، وإغفاله.
ـ الصمت..؟
ـ الصمت كلام شبيه بالثقوب السود، لأنني كنت أتحدث عن الذي لا نمتلك إلا أن نقع فيه، أو نختاره.
وقال لها متابعا يرد على ما قاله:
ـ فانا لم اختر هذا القفص...، ولم اختر إلا أن ...
صمت وقال بصوت متدفق:
ـ فلقد أدركت إن صديقي، في المرة الأولى، لم يغب....، فقد أعاد لي هذا الذي لا علاقة له بما يجري في حديقتنا...، وها أنا اعترف لك انه سمح لي، في المرة الثانية، أن استيقظ من الغياب... فانا كنت طليقا ً داخل قفصي، ثم فجأة وجدت إنني في مواجهة ما يسمى بما وراء الزمن...! فانا أصبحت خارج الرحلة! تائه تماما هل تراها لم تبدأ بعد، أم ليس لها بداية أصلا ً...؟
ـ آ ...، ها أنت تفكر...، لأنك بعد قليل ستصبح هدفا ً...!
ـ أنا لا أفكر إذا فانا موجود! وغريب أمر من قال أن وجوده رهن الفكر!..، لأن عدم التفكير هو نفي للموت...، فالذي يفكر يدرك تماما ً انه لن يغادر قفصه... ليس لأن القفص سابق على وجودنا، بل لأن وجودنا من غير قفص يبرهن بضرورة اختراعه!
ـ تعرف ...، أيها الصقر...، أنا محض نملة! وأنت محض طير! لهذا اطلب منك أن تكتم هذا الذي يكاد يفضحك، ويصير مصيرك كمصير أسلافك، لم يمسكوا بالصحراء، ولا الصحراء أمسكت بهم!
ـ كأنك تشاهدين ما يدور في رأسي..؟
ـ بل أنا قرأت الذي دار برأسك، وأكاد اعرف ما الذي لم يدر برأسك بعد!
ـ جاسوسة! أيتها الشقية، ألا تعرفين انك هو أنا، وأنا هو أنت! فانا وأنت وحدنا القفص، وسيغيبنا أيضا ً...! فعلى م َ نفسد حياتنا ونذهب أعمق من مغطسها...؟
فقالت بهدوء:
ـ لا تضطرب...، فما كان بينكما لم يكن عقدا ً...، ولا عبورا ً...، ولا بحثا ً عن فردوس....، كلاكما كان قد دمج السابق باللاحق ، واللاحق بالسابق، لأن كلاكما لم يكن مع الليل، ولم يكن مع النهار...، كلاكما رأى الجحيم في الفردوس، والفردوس في الجحيم، فالعالم حديقة لا حافات لها، رغم إنها مكونة من أقفاص، وأجنحة، وزرائب، ومستنقعات!
ضحك الصقر، وهو يخاطب صديقه:
ـ أنت كنت تبحث عن أيام مضافة تصغي فيها للذي يمد بعمر ديمومتك....، وأنا كنت اعمل على تقليصها. أنت كنت تحب أن تتعلم، وأنا كنت أشذب ما تعلمته، أنت تتسع، وأنا أتقلص، أنت تواجه موتك، وأنا امشي خلفه أدله علي ّ! أنت كنت تحفر بالكلمات فوق الريح، وأنا أرفرف لعلي أنجو منها، أنت كنت تعمل على سبر جذور المحنة فتدرك إنها ذهبت ابعد من مداها، وأنا كنت أراها تركتني تلهو بي مثل ورقى تتدلى بانتظار مصيرها....
ـ أين..؟
سمعها تخاطبه وهو يحّوم مبتعدا ً عنها:
ـ لا اعرف!
ارتفع في الهواء، وود لو ارتفع من غير توقف، لولا وجود السقف الذي يغطي الحديقة بأكملها، فضلا ً عن أسوار أعلى منه، يصعب رؤيتها بالعين المجردة...، إلا أن ذلك لم يمنعه من العثور على فتحة ضيقة للمغادرة، بعيدا ً عن قضبان القفص، والابتعاد عن جناح الطيور الكاسرة، والمتوحشة، وطيور الحب، والأخرى التي لم تروض بعد، فضلا ً عن البرمائيات الطائرة، والزاحفة ذات الأجنحة الرمزية...، وهو يتمتم: والأخرى الخاملة، الشبيهة بالعاطلين عن العمل، مهمتها المراقبة، والرصد، وإصدار التنبيهات، والتحذيرات، وبث موجات صوتية مهمتها إثارة الريبة، الحذر، والخشوع. لأنه طالما خاطب صديقه بأنه يعيش في نهاية عصر بالكاد يمتلك علامة تميزه، ودالة عليه. ود لو تحول إلى غيمة، أو إلى إشعاع، أو تحول إلى فراغ. إنما ذلك، دار بباله، لا يليق بعجوز هرم عاطل عن العمل، مثل 99% من سكان الحديقة! فالطيران تضمن عدم الرضا العنيد، قال لصديقه، ذات مرة، انه كف عن البحث ـ البحث عن إجابات لمحض المساومة مع الزمن، أو مداراة من يمثله ـ فالجسد لم يعد إلا ماكنة معطوبة. ماذا قلت؟ تلك هي كلمة صديقه، الأكبر سنا ً منه بعقد، بعد أن ساعده أطباء الحدائق البعيدة للبقاء أطول فترة في مواجهة الغياب. لم يقاوم طرفة خطرت بباله: كلانا يعرف انه آخر من سيتخلى عن أسلحته....، إنما كلانا، قال لنفسه، خارج الخدمة: أصبحنا من الأسلاف..!
لكنه لم يجد مناسبة تسمح له باستعادة الأنفاس، كلذّة الارتفاع قليلا ً في الهواء. ثمة لجوء ما إلى جهة تغمره بالاطمئنان، لكن لم يولها تمام الثقة: الهواء....، والدوران، دورة كاملة، من ثم الانخفاض، والارتفاع مجددا ً، حتى عاد وقال لنفسه انه الآن فك لغز جده عندما لم يبح له بكلمة حول الخلاص...، لقد أدرك أن جده ترك جرثومة لم يتم القضاء عليها حتى عندما أعلنت إدارة الحديقة على لسان مستشارتها السيدة الببغاء عن تجفيف منابعها واستئصالها من الجذر. جرثومة اللجوء إلى قوة ما ...، تزيح كابوس مشاعر الريبة، والخوف، والإحساس بانعدام الآمان...، فقد قال له صديقه انه لم يصب بها، جرثومة الاستغناء عن حساب الممكنات، والاحتمالات لفهم معنى كل منهما على انفراد. فليست المهمة هي الحصول على مصادر للسعادة، والممتلكات، والحياة ببذخ، بل المعضلة تعني: إلى متى تمضي تمشي مترنحا ً في عالم وجد مصيره فيه مهددا ً على مدار الساعة..؟
ولم يتخيل انه ـ من غير حذر ـ سيعيد تفكيك قراءة المروية التي دفنها عميقا ً حتى انه لم يسمح لنفسه بمعرفة موقعها داخل تريليونات الخلايا ذات القدرات العالية على الخزن والتمويه...، صديقه لمّح بالمفتاح بعد أن بات من المستحيل العثور على القفل، فمن ذا سيدله على الثقب...؟ جده لم يبح له لا بالأمل ولا بالخلاص ولا بالمصير...، كل ما باح به له: احرص أن لا تقع فريسة سوء الاختيار....، لكن ما معنى أن يدير قفاه لحياة أدرك إنها لو كانت فائضة فمن ذا باستطاعته أن يبرر له سحقها، ومحوها...؟ قال صديقه له إن المفتاح ليس الخطوة البيضاء في الدرب...، فالدرب ذاته لا تكونه إلا ما لا يحصى من مفاتيحه المندثرة، وهي ـ أعاد التفكير ـ تتناسل وفق عدد الخلايا، هندسيا ً وليس رياضيا ً، إزاء القفل، الذي أغلق أي مفهوم للعدد، والحساب! ذلك لأنه تذكر إن الحروب لا تحدث إلا وفق التناسب بين الحساب والهندسة، وما الضحايا، إلا الغبار الذي يسم الدرب بعلاماته، وليس لان آليات التصادم حاصلة بسبب تصادمات التراكم، بين من يمتلك الأدوات، وبين من جرد عنها، لمحو العلامات كافة في خاتمة المطاف، مما يجعل سياق عمل الجرثومة، ديناميا ً، حتى بجودها الافتراضي، أو بواقعيتها المرة.
كاد يتكوم بسبب خدر حصل في مفاصل جناحيه، وتسلل إلى نهايات ساقيه، بل حتى كاد يلامس أظافره التي تنبه لوجدها للحظة، لكن الخدر لم يقترب من خلاياه العليا، داخل جمجمته، وكأنها محصنة، أو تتمتع بمناعة لا تقهر، وإنها تعرف آليا ً كيف تؤدي واجبها في التنفيذ. فجده ـ خاطب نفسه ـ لم يرضخ للبطش، والتهديدات المتكررة، ولم يرض بحياة باذخة لوّحت له، حتى كان يرها أكثر قربا ً من أية نهاية سوداء محتملة أخرى...، بل فضل الكف عن مواصلة الدفاع. صديقه لفت نظره إلى حوار قديم جرى بينهما، دار حول لغز الشيطان الذي أخفاه ـ كما قال ـ عن الرب نفسه، وإلا فان مشروعه لن يكتب له النجاح، حتى لو كان على مدى حقبة ممارسته مع ضعيفي الإيمان، كأمراء الحروب، اللصوص، وكبار الأثرياء، ورؤساء الشركات العملاقة، والنسوة ذات الرهافة، والبنات المولعات بالتحول إلى أمهات، ومدراء الأجنحة، وأساتذة الشر، وعظماء فاقدي الشفقة...الخ، فكر الصقر إن صديقه ـ هو الآخر ـ قبل أن يشد العزم على الرحيل، والمغادرة، أكد له ما جعله يغطس عميقا ً في المحنة، ابعد مما توقع، قائلا ً إن الشيطان لا يوهم، ولا يغوي، ولا يخدع....، لأنه وحده ـ بالقياس إلى الأقل مرتبة منه ـ يعرف أكثر مما يجب بما جرى ...، بل يكاد يكون الأكثر قربا ً من الإله، والعارف بأسراره، فقال صديقه انه اطلع على الألواح كاملة التي ترجع إلى زمن ما قبل الطوفان الأعظم بقرون ...، وقد كانت حكاية تماثل عمل النار إزاء خالقها، ليست مهمتها الحرق، والحرق، وتحويل الغابات، بكائناتها، وكنوزها، إلى رماد، بل، على العكس، إلى: تطهيرها! فالنار ليست أداة إبادة، واجتثاث، بل ـ سمعه يتغنى بلحن رقيق وناعم شبيه بنسيم الفجر البارد ـ بوصفها السكينة المستعادة من غير شوائب، ولا غبار!
اندفع إلى الأمام:
ـ ولكن أي لغز هذا الذي سمح له أن يواصل، من غير كلل، ولا تردد، دوره الضار..، فهل كان ينكل بنفسه، كمصاب بمرض لا علاج له...؟ أم لا يعرف ماذا يعمل...، أم يتباهى بعنجهيته أمام الإله..؟ لم يجد إجابة لديه على ما دار بذهنه، فأعاد السؤال:
ـ إذا كان ـ هو ـ وحده أكثر المخلوقات قربا ً من الإله، ومعرفة بالخفايا، والأسرار الكامنة في الأسرار، أو تلك التي تصبح خارجها، فمن ذا منحه بسالة التمرد بإغواء هذا الحشد من الإثمين، الفاسدين، سفاكي الدماء، المزورين، وباعي الضمائر، وهادمي الحدائق... ؟
أغلق فمه بأمر لا إرادي.
ـ ربما هو أمر ذاته... وكفى!
سمع صديقه يخاطبه عبر الأثير:
ـ قلنا إنها حكاية عفا عليها الزمن، ولا تحتمل المزيد من التأويل...
هز رأسه متمتما ً:
ـ اقصد كيف لم يتم قرأتها على نحو يظهر أن الشيطان دفع للغواية أو وقع فيها ببراءة....، ومن غير قصد مسبق...، قل بعفوية، أو مثل من يزل لسانه بما يضمر...؟
ـ آ ....، عدنا إلى السؤال الذي بلغ درجة الصفر لدي ّ، وهي درجة تجعل الموت في أعلاها، فهربت، قبل أن يتم اجتثاثي، وحرقي، أو التنكيل بي، أو تركي أتعفن في جحر من جحور هذا المستنقع، ولكن السؤال هو: من أغوى الشيطان وصور له انه يقوم بعمل ماجد، باذخ، جميل.....، وإلا كيف واصل بذر بذرة الخطيئة، ثم الإثم، ثم المعصية، وهو العارف بأنه تحت نظر الإله....، ما الذي يجنيه، هذا بحساب الربح والخسارة، حتى لو انتصر على الجميع، أي جميع المؤمنين الذين لا عمل لهم إلا الإفلات منه، والحصول على ركن في الفردوس...، أو فضلة ارض....؟ هل ستقول: الإله هو من أغواه...؟ ذلك لأن الإله يعرف تمام المعرفة انه لم يجحد، ولم يشرك، ولم يكفر، ولم....، فيغفر له ويمنحه موقعه في الجنان...؟
ارتج رأسه كمن أصيب بصدمات كهربائية عنيفة كادت تطيح به، وتسلبه قدرته على الطيران، حتى رآه ينفصل عنه، لكنه سرعان ما أفاق:
ـ جدي لجأ إلى الإله....، حفر، حفر، وحفر حفرة عميقة ودفن جسده فيها.
متابعا ً أضاف يخاطب صديقه:
ـ أما أنت فلذت بجلدك وفلت من الأنياب والمخالب بحثا ً عن حديقة لا قرارات جائرة فيها، فلا أوامر بتحويل البلابل إلى ضفادع، والضباع إلى ليوث، والجرذان إلى ذئاب....، حديقة من لا يعمل فيها يجبر على أما على العمل أو العمل أو يذهب مع الريح!
ـ اسكت!
ـ هل تطلب مني الصمت؟ تنهاني عن الصواب وتأمرني بالمنكر...، يا اعز من عرفت...؟
ـ أنا أخشى عليك أن تلقى المصير الذي فلت منه...
ـ آ ...
وشعر انه يتهاوى، لا يقوى على مقاومة ثقل الأرض، لولا انه أحس انه تحرر من الجاذبية، مع إن انعدام الوزن لا يعني غيابها، أو غيابه، وتحوله إلى أثير، بل الأمر يماثل تأجيل البت بما ستؤول إليه الوقائع!
ـ يا صديقي ـ وقسما ً بضرورة عدم القسم ـ أنا لم أفكر باستبعادك من الطيران...، بل خفت عليك من العقارب، والأفاعي، والتماسيح....، فانا لم أغوك بالحياة...، مهما كانت غير فائضة، وغير تامة المعنى، وأحيانا سافلة، نذلة، واشد خساسة من الغدر...، ذلك لأنني لم أفكر بالرحمة لأدعك تموت ألف ألف ألف مرة قبل أن يصبح الموت ملاذا ً شبيها ً بالقضاء على المرض من غير عقار ومن غير كي ومن غير بتر أو استئصال ...، بل حذرتك من الكلمات.... فأنت أينما تولي وجهك لا ترى إلا وجه من يرسلك إلى ما بعد الموت!
ـ صديقي...، الكلمات مثل البهائم داخل أقفاصها، لا تضر ولا تنفع..، فالألفية الثالثة، كما قلت لي، حولت عالمنا إلى حديقة تكاد لا ترى إلا بالمجهر ...، مسورة، وداخل كل سور سور، مثلما خارج كل سور من أسوارها، سور أعظم....، لأن تلك الجرثومة التي تحدث عنها جدي، والتي حملتها معك في منفاك البعيد، سابقة في وجودها أسوار بغداد عندما كانت عاصمة للدنيا، وسابقة سور الصين العظيم أيضا ً...، لكنها، لا تشبه سور برلين، ولا الحصار الذي ضرب ضد سكاننا، قبيل الحرب...، فهناك الأسوار الشبيهة بهذه الأقفاص، داخل كل قفص، وخارجه، حيث لا حافات للقفص الذي نلوذ إليه، أو نهرب منه...، وليست الكلمات إلا حجارة هذه الأسوار!
ـ آ ....، كان الشيطان بعونك!
ـ أرجوك....، ماذا أقول لربي...، وأنا إيماني به سابق على وجودي هذا العارض، والذي لم أجد له موضعا ً ادعه يستقر فيه، أو انفيه بعيدا ً عنه..
ـ الم ْ اطلب منك أن تغلق فمك ...؟
ـ لكنه يسمه ما في القلوب، فكيف لا يسمع ما في الحنجرة...؟
ـ آ ...، هذا لا يصدر عن اله رحيم،، بل لا يصدر إلا عن إدارة خرافية لحديقة أكاد لا أرى منها سوى الرماد، والغبار...وبقايا بقع رمادية، وأخرى سوداء.
ـ أرجوك كن رحيما ً بنا ...، وبنفسك أيضا ً، فانا الآن أرجوك الركون إلى الصمت! لأن إدارة حديقتنا اشد أذى من الشيطان نفسه!
عندما حاول الارتفاع قليلا ً إلى الأعلى، بدل التقدم إلى الأمام، لاحظ إن المسافة تسمح له بالصعود...، فعزم على المثابرة، كلما ارتفع انتابه إحساس بنشوة غير متوقعة، بلذّة خالصة، وفي الوقت نفسه انتابه عسر في التنفس، وصعوبة في الرؤية. كان الخدر قد اختفى، وكأنه يحلق للمرة الأولى، طليقا ً، من غير تردد، أو حذر. فدار بخلده إنها ليست لعبة، ولا غواية، أن يسترد عزيمة كاد يصدق إنها تلاشت، فعاد يرى المشبك الحديدي، المنسوج كبساط، والمغزول بإحكام، يبتعد عنه كلما تحداه ببذل جهد مضاعف في الارتفاع، فخطر له انه قد يكون وقع في كمين، وإلا ما جدوى الصعود حتى لو نجح في العثور على فتحة، أو منفذا ً للمغادرة، لأن انعدام الوزن ليس إلا مصادفة، لكنها ليست خالصة، أو من غير مصادفات، فترك جسده يستقر ملامسا ً حافات السقف، وراح يحدق في غيمة رمادية كانت تقترب منه، استنشق رائحة تراب محروق، وبول جاف، وغبار ساخن، فظن إنها سحابة صيف، لا تنذر بالمطر، إنما أدرك انه يواجه كتلة هائلة ـ لا أول لها ولا نهاية مكونة من البعوض والبرغوث والجراد ـ:
ـ هل جاءوا لسحقي...؟
أجاب كبير البعوض:
ـ لا ... سيدي، لا توجد أوامر بذلك!
فسأله في الحال:
ـ ماذا تفعلون إذا ً...؟
ـ ذاهبون لتقديم العطايا والنذور ....، ومبايعة سيدنا الفيل الأعظم..
بحث عن صديقه فلم يجده. ففكر بلغز انعدام الجاذبية، وعودتها، وما إذا كانت الحقائق باطلة من غير الأوهام أم أن الأخيرة بحاجة إلى الحقائق والبراهين والاختبار..؟ أجاب كبير الجراد:
ـ لا تشغل بالك...، أيها الخفاش!
كم ود لو استعاد غريزة المواجهة، ومحاه، لولا أنه أسرع، ليرى الجراد، والبرغوث، والبعوض يسرع باتجاهه أيضا ً:
ـ ماذا تريدون مني..؟
انسحب الضوء، واحتفت الجاذبية، وانعدم الزمن ...، فراح يصدق انه ربما يكون أسرف في الوهم:
ـ لا ... لم تسرف، فبعد أن نؤدي يمين الطاعة والولاء وتجديد المبايعة ...، سنشارك في مهرجان الخلاص والنصر المبين.
ـ الخلاص والنصر المبين...؟
ـ نعم...، أيها السنونو!
ـ لو كررتها مرة ثانية فسأضطر للاتصال بالمستشارة، بل بمكتب السيد المدير!
ـ آ ...، آسف، فانا لا أرى ولا اسمع ولا مجال للحركة أو حتى التفكير..
اخبرني ماذا سيجري في هذا المؤتمر الكبير:
ـ نحن مكلفون للرد منطقيا ً على سؤال أيهما سابق على الآخر، الشر أم الأشرار، ووضع إجابة مؤكدة وشاملة ومحكمة على سؤال: وأيهما يصنع الآخر، وهل بالإمكان فصلهما عن بعض، وما تأثيرات ذلك على ديمومة هذا الذي تراه يمتد إلى ما لانهاية...، ومناقشة ماذا سيحدث إن تم القضاء على الأشرار إزاء الشر، وهل القضاء على الشر ينتج ملائكة يعمرون حديقتنا، مطهرين من جرثومة الحنين للشر أو للأشرار....؟
ابتسم سرا ً...، فقد تذكر انه كان عمل مع بغل ـ يوم كان رفع لافتة: صقر للإيجار، إبان العهد الأول بعد الطوفان ـ وكانت مهمته كتابة خطاباته، وتلقينه مبادئ تعمل وفق الاشتباك؛ فنعم لا تصير لا إلا لأن لا غير منفصلة عن نعم. ولقنه بالقول أن الجهل ما هو إلا أعلى مراتب المعرفة. فداخ البغل ـ مديرنا المسؤول عن جناح الزواحف والطيور العمياء ـ وسأله بغضب يتطاير منه الشرر: هل تسخر مني وكأنك تسخر من سيدنا المدير؟ رد الصقر بذعر: لو كانت المعرفة جديرة بالاحترام، سيدي، لكنت مديرا ً وليس راعيا ً للنعاج، والكلاب، والضفادع. فالجهل ـ أيها الزعيم ـ وحده يمتلك قدرة التحكم بالمصائر، ومنها مسارات المعرفة، وإلا ما ـ ما هو تأويلك وتفسيرك لسر فناء الثوابت والحقائق والمعارف...، وديمومة أكثر العلوم قدما ً ورسوخا ً؟
أجاب كبير البعوض:
ـ أين أنت..، أيها الصقر ...؟
ـ في الظلام...
فقال بصوت مرح راقص:
ـ يبدو إنهما ـ الشر والأشرار ـ عملة ولا وجه لها ولا قفا! وهي التي تتحكم بتاريخ الأنواع ومصائرها...؟
ـ صحيح...، هذا ما كنت دوّنته في احد خطابات البغل...
ـ أي بغل؟
ـ رئيس المؤسسة العظمى الأستاذ الأبرز والعالم الخبير....
ـ آوووه...، عرفته!
وأضاف بخوف:
ـ لم تفقد ـ سيدي ـ سلطتك بعد!
فكر بشرود: لو لم افقدها لكنت تحولت إلى حفنة رماد. متابعا ً، من غير رقابة:
ـ قبل مغادرتي عشي....، وقبل سماعي نبأ ارتقاء اعز أصدقائي إلى الأعالي، طلبت المؤسسة المتحضرة للحوار المشاركة بالرد على ما يحدث ...، وسألتني إذا ما كانت جرثومة الهوس بقطع الرقاب، وقطع الأرزاق، والانحدار إلى عصور ما قبل الظلمات، يكمن فينا أم لا، أم هو مؤامرة، وعدوان، وخرق للقوانين، والشرعيات، وهل باستطاعتنا الخروج من المتاهات وكأننا لم ندخلها...، ولصالح من يعمل مدراء الحظائر والزرائب والأجنحة الخلفية والأمامية على هدم أركان حديقتنا وتفكيكها وتخريبها والعودة بها إلى حقبة ما قبل تكّون جرثومة العفن، والخطيئة، ولذّة سفك دماء الأطفال والنساء، ومحو العقول وغسلها وتطهير الذاكرة من ثوابتها..؟
ـ سيدي ...، أنت تفكر؟
ـ اخرس!
سمعه يقهقه، فقال كبير البرغوث:
ـ إن أغلقت فمي أم لم أغلقه فانا ذاهب لتقديم ولاء الطاعة لسيدنا الفيل، ولسيدنا الثعلب، ولسيدنا العقرب...، فهم وحدهم يعرفون ما يدور في رؤوسنا قبل أن تتكون هذه الرؤوس، وهذه الأجنحة، وهذه الشقوق، وهذه المخالب والأنياب....!
اشد الظلام، حتى أحس بكثافته تطوقه، لكنه وجد وسيلة للتعايش معه من غير عثرات، فلمح بقعا ً مدورة تتداخل تصدر أصواتا ً امتزجت فيها عطور مشعة...، ثم رأى الكتلة تحاصر جسده من الجهات كلها. وما أن بحث عن كبير البعوض، أو كبير البرغوث، أو كبير الجراد، لم ير أحدا ً منهم ما عدا ما لا يحصى من الأسماك، والطيور، والنمل، تداخلت، مركبة، ومنصهرة بنظام يعمل بدرجة عالية لا تدع أحدا ً يصطدم بأحد، فلا جرادة تغادر الجراد، ولا سمكة تشذ عن السرب، ولا برغوثة تخرج على النسق، ولا ضفدعة تتمرد على الجماعة، ولا بعوضة تتمرد، ولا طير يعصي الأوامر....
ـ لا أحد ...، وفي الأخير، يتم استدعائي، ومعاقبتي إلى ابد الآبدين...؟
لم يسمع إجابة، فرد على نفسه:
ـ ليس الذنب ذنب من يعاقبك..، وليس الذنب ذنب من يعاقب..، وليس الذنب مشتركا ً بينهما....، فالوهم سيد الثوابت مادام هذا هو الذي لا يمتلك حضوره إلا بحضور الغائب...!
فقد تذكر ـ قبل لحظات ـ مروره فوق مهرجان القتل الفكاهي، حيث شاهد أعمدة تتدلى منها الأسود، والنمور، والتماسيح......، فاقترب من احد المعلقين وسأله: ماذا فعلت؟ فرد: أنا عثرت على جرثومة الشر....! فصلبوني قائلين إذا قضيت على الأشرار فماذا تفعل العدالة، فقلت لهم: تقصدون العاملين فيها! وقال الآخر: أنا قضيت على الفقر ولم اقض على الفقراء فقالوا أيها البهيمة أتهدم عرش الأغنياء. وقال آخر: أنا قضيت على الإرهاب وقلت الإرهابيين ضحايا أبرياء علينا إعادتهم إلى أمهاتهم ومنازلهم. وسمع الآخر يقول انه صلب لأنه وجد عقارا ً لا يسمح لأحد بالذهاب إلى السجن. آخر قال انه استأصل المرض فلا معنى للعقار والدواء. وأجاب سواه: أنا جرجروني إلى المشنقة لأنني وضعت خارطة طريق لا تدع أحدا ً عاطلا ً عن العمل، ذلك لأنني حسبت جهد عمل سكان هذا العالم لتفضي دراستي إلى وجود فائض لا يتراكم كي يقود إلى التصادم والى حروب الجميع ضد الجميع، فعلقوني. وأضاف آخر بصوت مذعور: أنا فككت المثنويات إلى أحاديات تعمل وكأن لا عمل لها سوى التآلف، والوحدة، فلا تصادم بين الحدود، ولا تناقضات تقود إلى التناقضات، فقالوا أنت تخرب أوامر مديرنا، فغرسوا المدية في قلبي. تابع آخر قائلا ً انه للمرة الثالثة يعلق، لأسباب مجهولة، وذلك لأنه لا يدلي إلا بالاعترافات نفسها، لا يستبدلها بأخرى، وفي كل مرة يعلق، ثم يستدرج لاستبدالها ولكن أخيرا ً قال انه لا يقول إلا ما يؤكد صوابها، وقد أيدت غزال منتزعة الجلد، أقواله، لأنها تعرضت للحالة ذاتها، فكلما سلخوا جلدها تعترف بأنها لم تعتد على جارها النمر، ولا على جارها الذئب الأسود، وإنها لا تمتلك ما يدل على ارتكابها إساءة ضدهما، ولا ضد الآخرين. فلم يجزع، مقتربا ً من حزمة شدت بالحبال شدا ً محكما ً، لم يتبيها إلا عندما ركز نظره فرآها مجموعة طيور حديثة الولادة قتلوا بتهمة الخروج على الدرب...، لكن احدهم مازال يستنجد متضرعا ً انه لم يفعلها، ليس لأنه لم ير الطريق، بل لأن الدرب لا وجود له. أما أنا فالقوا القبض على بتهمة حبي للمرح، والطرائف، وظنوا إنني خارج على قانون الظلمات، فأمروني بشرب ألكاس التي شرب منها سقراط، وهكذا نجوت، ومكثت معلقا ً، وسأبقى هكذا حتى ينفي الجديد قديمه، ولا يغدو قديما ً مادام الأمل هو أقدم بذرة لا يمكن مس ديناميتها، أو القضاء عليها.
ورفع صوته:
ـ وسألوني بصوت واحد:
ـ ماذا فعلت من اجلنا..؟
صمت برهة ثم قال:
ـ قلت لهم: أنا بغل للإيجار...، ولم اعد صقرا ً...، أو حتى نملة! فانا خرجت ابحث عن صديقي الذي أخذه من أرسله، فقلت لعلي اعثر عليه، أو يعثر علي، كي اصعد معه، أو يعود أدراجه إلينا ليقضي بعض الوقت ويتمتع بعطور هذه المستنقعات، ويستمع إلى أصداء عواء ذئاب ستموت قبل ولادتها!
ـ بغل أو حمار أو حشرة...، اهرب، هرول، ولا تصغ إلا لمن لا يتكلم!
وكاد يصطدم بالجدار الصلب الخالي من النقوش، والعلامات الهندسية، الشبيه بسطح جبل تعرض للتعرية، فغدا ناعما ً، فانحرف، بعد أن استدار، يسارا ً، متلافيا ً المحرقة، التي أثارت فيه رجات كادت تطيح به، وتسقطه أرضا ً، فضلا ً عن إدراكه للقرار الخاص بمنع أي طائر الارتفاع أعلى من مدخنتها، بحسب أوامر السيد المدير. تذكر صديقه الذي غاب، وربما تستر في مكان ما، ممتزجا ً بالغبار، أو تلاشى داخل حبيبات الزمن. ذلك لأنه استعاد تحذيراته من الاقتراب منها، فقد قال له إنها علامة تماثل الفجوة العازلة ما بين الأعالي، وما تحت الأرض، فهي شبيهة بترسانة أسلحة، لكن عملها يحافظ على الشفافية، أسوة بباقي أسلحة الدمار الشامل، الأخرى، فخاف، مبتعدا ً برغبة تلافي إثارة الشكوك، أو حدث الأنظار تجاهه، فانا مازالت كلما تفحصت المحنة، أجد إنني أتمرغ داخلها. ولكنه لم يقاوم كآبة بددت حاله المرح التي شعر بها قبل وخزات الخوف الأخيرة، فراح ينظر شزرا ً إلى الجانب الخلفي من المحرقة، حيث ترتفع أعمدتها الفولاذية، عاليا ً لتلامس الغيوم، لبرهة، تاركا ً جسده ينخفض بحدود لا تلفت أنظار المراقبين، القابعين في مراصدهم السرية، المموهة، بلون الأشجار، والممتدة مع امتداد سور الحديقة: وهو سور ـ خاطب صديقه ـ يماثل سور الصين العظيم، يعزل الحديقة عن العالم، ويعزل العالم عنها.
إنما استنشق رائحة حادة، كانت رائحة رماد، لكنه قال إنها ليست خالصة، بل مازالت مشبعة بأنفاس مليارات مليارات المليارات من الحيوات، والأنفس، والأرواح، بحسب التصنيف المتداول لسكان الحديقة. لكن كلانا لديه تصوّر يجعل اختلاف تصوراتنا أكثر إثارة للجدل.
ـ هل اختلفنا حقا ً...؟
لم يجب، لأنه انشغل بمشاهدة سلسلة من التلال الرمادية متلاصقة كانت تمتد إلى ما لانهاية، تتخللها، شواخص وعلامات قاومت التعرية، تنتمي إلى عصر ما قبل عصر المحرقة، بل ـ وخاطب صديقة بصوت مرتجف ـ إلى ما قبل ظهور الدواب في البراري، أو في المستنقعات، تلال ذات رؤوس حادة، وأخرى مدببة، وثالثة تحولت إلى هضاب، فيما كانت المدافن الأخرى تبدو مثل حصى منثور بغير نظام.
ـ أنت لذت كي تتحرر من هذا الكابوس...؟
مسترجعا ً صوت صديقه بلحن غزل بدوامات راحت تتداخل أمام ناظريه:
ـ لا اعرف من حفزني للبحث عن فضاء لا يكبلني بالحفر والأنفاق والشقوق...
بدا له المشهد كلوحة خرافية زاخرة بالظلال والصمت، تمتد أمامه من غير حيطان، أو حجابات، ولكنها كانت تبدو له مثل مدينة لم يمحها الزمن، بل عمرها، وصنع منها بساطا ً مزخرفا ً بالدغل، والحجارة، وببقايا جدران متآكلة.....
ـ لا تذهب بعيدا ً!
سمع صوت صديقه يأتيه من القريب:
ـ أصبحت لا اعرف من هو الذي يقاوم غيابه، هل هو أنت أم أنا....، فكلانا يضمر لغز ما إذا كان يدنو أم يولي فارا ً...؟
تحسس وخزات لاذعة في صدره، من الداخل، سرعان ما انتقلت إلى جناحيه، ومنها إلى الرأس:
ـ كلانا رحل قبل حضوره، مات قبل أن يكفن بقماط طفولته، وقبل أن يرى حتى أن للشمس خفايا ً وملغزات كاتمة للأنفاس....!
وتجمد، فقد لمح طيف صديقه يهبط من الأعالي...، وشاهد محياه: هالة ضوء، وخطوط متداخلة بنعومة، مترابطة، تحولت إلى بقع حادة سرعان ما توارت... بورتريه غابت عنه الذات من شدة حضورها فيه، وغاب الرسم كي يغدو أثرا ً للتشتت، والانتشار...، ولم يسرع:
ـ بإمكاني البوح ـ بل الاعتراف ـ من غير تمهيدات أو عاطفة رخوة: عندما لذت بالفرار، من حديقتنا، قبل عقود، فانك كنت تبحث عن المعنى....، الذي غاب عنا، فصرنا نتلمس اللا معنى بسنوات دثرناها بالظلام والخوف والموت!
عاد محياه يتكون عبر أشكال هندسية حلزونية، وعندما نظر إلى الأرض، لم ير سوى مساحة ممتدة ليس لها لون محدد، عدا مسحة من لون الرماد، والغبار، سحقت حتى ابيضت فغدت شبيهة بلون الأثير. وثمة أشكال تتخفى عبر توازنها بين ما تخفيه وما تريد أن تعلنه، أعمدة بدت كأشجار جذوعها خاوية، ومثل رماح موزعة بلا قانون، ومن غير نسبة ونظام للتوازن، فلم يقاوم رغبته بالكلام:
ـ قلت لك....، هنا، أعدت حفرنا لنا قبل أن نولد، ومسحوا أسمائنا قبل أن تدوّن... ، أنت هربت، لأنك عثرت على ثغرة للمغادرة....، فالعالم ـ رغم انه محكوم بالدوران والتداخل والانصهار والتلاشي ـ وجد ليعمر...، ويبنى...!
هز رأسه، تاركا ً صاحبه في استراحة:
ـ ها أنا أعود استدل بأثرك في الدرب..
فرد صديقه:
ـ لن تجد أثرا ً يدلك على ... الأثر ..!
ـ ولكنك حصلت على الكثير...؟
ـ حصلت على هذا الذي أراه يغيب، حصلت على ما سأفقده.
فكر مع نفسه: إبان نزولي إلى العالم الذي لم يعد منه احد، عثرت عليك، فقلت لي: من يرى الشمس مرة فلن يتلطخ بالظلمات...
كانت الحديقة تمتد بعيدا ً في الأفق، حتى شاهدها بلا حدود، أو نهاية، فدار بخلده، انه كلما ابتعد عن المركز، أحس إنها تضيق، حتى وجد جسده يتراجع:
ـ عندما عثرت عليك، سألتك: إذا كنت تخلصت من المعاقبة، فمن هذا الذي يعاقبنا، بإفراط، من غير شفقة؟
فراح يضحك بصوت مكتوم، ويقول لنفسه:
ـ لو كنت عرفت... لكنت مت!
مرت ساعات حسبها سنوات، محلقا ً، من غير أن يرى أثرا ً للحديقة:
ـ ماذا قلت ...؟
لأنه ترك جسده يهبط، فوق تل يشرف على بحر من الرمال. فشاهد ما لا يحصى من الأشكال، ومن اللا أشكال، ذبذبات ملونة، وألوان فاقدة للوضوح، بقع تتسع، وأخرى تتقلص حد التلاشي، أخرى تبتعد، وسواها يوخز بصره:
ـ قلت انك لم ترحل...، وأنا قلت لك يتحتم علينا الذهاب ابعد من الرحيل...، لا يفعلها الرب وكأنها لعبة مهووسين ...، يخلقنا ليخلق الشر ثم يمتحنا ليعفو عنا ....، أنا دخت!
وشرد نظره بقراءة الأسماء التي رآها فوق عدد من الشواهد:
ـ هؤلاء كانوا يظنون إنهم صنعوا مجدنا....، بعد أن لم يتركوا لنا سوى الخراب...، والمحو...
ـ انهض.
ـ من...؟
ـ أنا النملة التي رأتك شارد الذهن، تحدث نفسك فظننت انك وجدت ما كنت تبحث عنه!
عندما آفاق لم يستطع أن يتذكر ـ عند عبوره المسافات ـ ورؤيته لعدد لا يحصى من العلامات، عدا صور متناثرة لأصداء راحت تعيد له التوازن:
ـ أنت هربت من موتك...، وطلبت مني أن اهرب...، أنت نجوت، ولأنك رأيت الدرب فمشيت، أنا قبعت داخل حدود حفرتي، حفرتي التي أعدت لي قبل أن أرى النور....
قهقهت النملة:
ـ هذه هي المحنة! لن تقدر أن تهرب منها، ولن تقدر أن تتجاهلها.
ـ المحنة...، أو المعضلة، سيدتي ...
وجد الكلمات لا تغادر فمه، فأصغى لها:
ـ المحنة لم تتخل عنك، ولا أنت تركتها.
هو رأسه وأكد لها إن الأمر لا علاقة له بمغادرة الجحيم، للبحث عن زاوية أو ركن في الفردوس، بل .... المعضلة...
قالت بمرح:
ـ أنا أيضا ً اسأل السؤال نفسه، ولكني وجدت البحث عن إجابة مضيعة للوقت...، فانا لم تعد لدي ّ أسئلة، أما إننا وجدنا هكذا، أو إنهم سلبوها منها، أو إنها لا تعني سوى ....
صاح:
ـ ولا ...أنا...
ـ ماذا قلت؟
ـ قلت: لِم َ نولد موتى...، أي لم لا نولد، ولماذا نولد كي نمضي حياتنا ترزح تحت النير...، نقضي العمر ننتقل من قفص للدخول في آخر، منشغلين بتلافي العثرات، فلماذا نعاقب عن أفعال لم نخترها.....؟
ـ هذه هي أسئلة صديقك أيضا ً...، فكف عنها، عندما غادر مستنقعنا، أما أنت فاخترت الدوران داخل قفصك، فما نجوت منه بالفرار، ولا مت واسترحت من نفسك!
ـ آ ...، ولا احد يريد أن يصحوا...، لا احد يعمل للعثور على منفذ للخلاص، إن لم اقل إن اللعبة صاغت ديمومتها لأسباب آخر من يفكر بحلها هم نحن لأنها هكذا تماثل الحكاية التي قرأتها في الألواح: الإله يخترع الشيطان، كي تحدث الحكاية، فالشيطان هو الذي يبادر للرهان حول إخلاص أيوب ...، فيتحدى الإله من اخترعه، بمعزل عنا...، هكذا صرت لا أعرف أأنا رحلت أم صديقي اجتاز بوابات الرحيل......؟
ـ صعب...الرد صعب، والإيضاح أكثر صعوبة، إن لم اقل استحالة...، فانا محض نملة، وأنت تعرف النملة لا تولد إلا لتموت نملة! كالعبيد، لا تسمع منهم إلا ضجات فارغة، للأسباب ذاتها التي تبقى كامنة عبر ديمومتها!
قرب رأسه منها كثيرا ً:
ـ لم اعد امتلك حتى رغبة بالطيران، بعد أن توارى صديقي في البعيد....، ثم ها أنت تشاهدين من يقول لي: صديقك لم يغادر! فانا بت لا افهم لماذا أثير هذا الغبار...، وأنا اعرف انه مازال يسبقني كدليل فوق هذه المدافن...؟ آ ....، لو عرفت كيف أتصالح مع هذه العثرات، وأغلق فمي، كأنني قلت ما كان يجعل قلبي يعمل بسلاسة! أم إن اللعبة ذاتها تجرجرنا حتى بعد انكشاف بهتانها، أم إنها لا تكمن إلا في هذا البهتان...؟ أنا صدمت برحيله، وها أنا لا امتلك إلا أن انفي النبأ، كي اصدق إنني أنا من أضل الدرب، وأنا هو من غادر...!
ضحكت النملة بصوت شفاف:
ـ ومن أين يعبر الضوء، وكيف يجري الزمن من غير مسامات هي ذاتها عليها أن لا ترتد، وان لا تتقدم أسرع من تنفيذ واجبها!
ـ عبر الظلمات....، لكن ما معنى هذا الضوء...، هذا القليل منه.....؟
ـ كان عليك أن ترحل، فالضوء وحده يمتلك لغز زواله...!
ـ أنا رحلت.
ـ أنت غطست، وصديقك راح يراقب ....، ثم أدرك أن الضوء سمح له ليرى كم الظلمات بلا حافات.
ـ آ ...، الآن اجهل من غادر...، ومن سيغادر...، ومن ذا يفك لنا باب المغادرة، ويدعنا ندنو منها..؟
وأضاف بصوت متلعثم:
ـ كأن هذا الانشغال لا يعمل إلا عمل العقار المميت، فلا شفاء من مرض هو وحده يذهب ابعد منا، إن لم نكن نحن هو هذا المرض....؟
ـ بالضبط.
ـ إذا ًانا هو من ارتكب الاثم الذي تجنبت ارتكابه...، وصديقي الذي ظننت انه كان دليلي...، تركني....، فماذا اتتبع خطاه في الغياب؟
ـ صديقك الذي لم تره...، يقف بجوارك!
بحث...، حلق، وهبط، مسرعا ً دخل إلى عشه وخرج منه، وألقى نظرة إلى الحظائر، والزرائب، والحفر، وباقي الأجنحة....، تسمر عند المحرقة، ليشاهد، خلفها، تلال الرمال تمتد، متلاصقة، ثم تبدأ مساحات تشغلها الرمال، وبجوارها تقع المستنقعات، والبرك، يشقها مجرى النهر، يتلوى، محاطا ً بحقول القصب، والنخيل، والبردي، ليظهر إقليم البعوض، بجوار إمبراطورية البرغوث، وفي الأعلى، شاهد آلاف الغربان تتجمع، لصق النسور، والبلابل، وخلفها امتدت بحار الغبار التي خلفها الطوفان الأعظم، وبمحاذاتها، قبور الأزمنة التي لم تترك إلا معابد متآكلة ومهدمة محا أثرها الزمن، وبعثرت علاماتها الريح، والعواصف....
ـ لا أرى أحدا ً!
ـ لأنك، أيها العجوز، ولدت أعمى!
ـ ولكنني تتبعت خطا صديقي وهو يعبر من سواحل العفن إلى هذه الحدائق!
ـ وهو ...، مثلك، ولد لينجو...
ـ ولكني أصبحت وحيدا ً...، فلا أجد أحدا ً اهتدي بخطاه...، ولا أجد أحدا ً يسترد روحي مني، أو يأخذها...؟
ـ تلك ـ هي ـ محنتك...، أمضيت حياتك تأمل من يكسر قيود قفصك ويقول لك: اخرج..، انتظرت بركانا ً أو طوفانا ً أو زلزلا ً يطيح بها ويقول لك: أنت طليق ...، انتظرت من يحررك منها....، ومن يساعدك على النجاة ....، ولكن عندما أمسكت بالمفتاح، قلت: أنا لم يشغلني خلاصي، ولا أمر نفسي، فكل ما علي ً عمله هو أن اعرف لماذا يذهبون أفوجا ً أفواجا ًعائدين من الباب الذي خرجوا منه...، بعد أن رأيت احدهم يذبح من بجواره، ويمحو كل منهم اثر الآخر...، فهل التراب هو المفتاح أم هو القفل...؟
ووجد رأسه يتمايل:
ـ وماذا لو حصلت على الذي سأفقده... وماذا لو حصلت على ما لا وجود له... ؟
ـ ها، يا صديقي الصقر...، هذا ما دفعهم لوضعك في القفص...، وشددوا الحراسة عليك!
ـ ولكني كدت افلح بالقضاء على نفسي!
ـ هكذا اختلطت عليك التصورات...، فلو عملت مثلما يعملون، ولو صرت مثلهم، لكنت حصلت على قفص أرحب!
ـ عدنا إلى الجحيم الأشد غموضا ً من الفردوس!
ـ تقصد انك ستعود إلى الفردوس المشيد بجوار المحرقة ..؟ لأننا لم نر...، سوى: النور يخرج من الظلمات، والظلمات لا تقوى على إطفاء ضوء شمعة بحجم طائر يرفرف...؟
ـ استعدادا ً للذبح...؟
ـ أو للرقص....!
ـ اخبريني...، وكلانا ُسمح له بهذا القدر من الاسترسال....، أين هو صديقي...؟
ـ بجوارك!
ـ لكنني بحثت عنه فلم أجده.
ـ لأنك لم تبحث عنه..!
وأضافت النملة:
ـ وهل وجدت أما ً أنجبت وليدا ً ذهب ابعد من رحمها...؟
ـ أنا هو من لم يذهب ابعد من قفصه...!
ـ لكن الذي تبحث عنه أخذك معه ابعد من الغياب!
تلمس جسده، تنفس، وضرب ساق الشجرة برأسه، وعاد يحدق في عيني النملة:
ـ من علمك هذه الحكمة...؟
ـ آه ...، أيها الصقر...، كيف غفلت ذلك ..؟
ـ ما هو ..؟
ـ عمرك...! فهو شبيه بالفجوة بين الإله والشيطان، والذي يماثل المسافة بين حضورك وغيابك، فالذي أمسكت به، لم تمسك به، انه هو الذي امسك بك، لكن لا أنت ذهبت ابعد منه، ولا هو تخلى عنك!
رفع رأسه يخاطب صديقه:
ـ أين أنت يا من كنت تحثني على تحطيم القيود....؟
ـ .....
أجابت النملة:
ـ أيها العجوز...، أصغ للذي يذهب ابعد من الصوت...، فالكلمات غبار، أيها العجوز أبصر للذي يذهب ابعد من الضوء، فالكلمات حبات رمل، والضوء جدار...، أيها العجوز استنشق الهواء فانه آت ٍ من سواحل العفن، وسيعود لها، فالعطر الذي فيه ما هو إلا الغواية ، أيها العجوز لا تتلمس الحقائق وكأنها وجدت داخل قفصها، فهي لن تدعك تنتظر أكثر من عبورها ابعد من السمع والبصر وباقي الحواس، لأن الحكمة وإن ولدت من هذه العناصر، لكنها إن لم تغادر قفصها فإنها لن تدعك تمسك بالمفتاح، ولن تدعك ترى القفل!
تأملها عن بعد مستنشقا ً رائحة غياب الزمن:
ـ بدأت أرى صديقي، أيتها العزيزة...، فها أنا أغيب بحضوره!
ـ ها أنت بدأت تتعلم كيف تضع قدمك في الدرب..، وتختبر معرفتك، فإذا كنت ذهبت ابعد من مسافات العبور، في دروب هذه الحديقة ومخابئها، حفرها ودهاليزها، سراديبها وزرائبها، أنفاقها وعثراتها، حظائرها وشقوقها، مدافنها ومتاحفها، جداولها ومستنقعاتها، فما كان عليك أن تفعله، هو: أن من لم ير نفسه، لن يراه احد، حتى لو نال مجد السماء، بعد مجد الأرض، فمن يرى نفسه يكون أفناها، وأزالها، وأذلها ومحاها، قبل أن تأخذه الريح معها إلى المجهول..!
ـ آ ...، أيتها الحكيمة، أنا لم أكن اجهل هذه الموعظة...، لكن من ذا كان يقدر أن يتصرف وكأنه رأى الدرب...، وخطانا لم تسمح لنا إلا أن تؤكد أن الأعمى لا يمشي إلا خلف آخر يقهر الظلمات ، بعد أن فقدنا البصر، وسلبت منا البصيرة، فانا لو كنت غادرت، فانا سأحمل مصيري معي، أينما حللت، وإن مكثت ـ كما فعلت ـ فمصيري كنت رأيته حتى قبل أن أتعلم الطيران.....! وها أنت ِ تشاهدين إن الذهاب ابعد من حافات الدرب، شبيه بمن فقد الدرب تماما ً، مع أن هذا محض وهم لم يترك للفجوات إلا أن تكمل بعضها البعض الآخر، مثل الحقائق، لو كانت صحيحة، لكانت سدت أغلقت الدرب، أو لم تترك له حتى هذا الأثر الذي رحنا ندب بفضل عثراته، وبما يجعلنا أكثر قدرة على تحمل أوزاره، حتى لو كانت بحجم هذه المحنة، وبعمق هذا الفراغ...
ووجد جسده النحيل يرتفع قليلا ً، قليلا ً، في الفضاء، مبتعدا ً عن الأرض، أعلى فاعلي، حتى اصطدم جسده بالسقف، فأحس بألم القضبان توخز جناحيه، فلم يكترث لها....، لأنه وجد المسافة تمتد...، فترك بصره يدله على الدرب...، رغم انه عندما أحصى الحواجز، لم يستطع أن يضع لها عددا ً...، ولكنه وجدها تتهاوى، كما تهاوت قدام صديقه إبان الفرار، من غير الم، ليجد مصيره في مركز الهاوية.
Az4445363@gmail.com
30/6/2015