الاثنين، 8 يونيو 2015

قصة قصيرة-حين عدنا إلى النيرفانا-عدنان المبارك

قصة قصيرة


حين عدنا إلى النيرفانا


عدنان المبارك


- الى الصديق عادل كامل


- عندما كنت يافعا وقريبا من مستهل الحياة نظرت بكل يقظة ، فرأيت أن جميع الأشياء هي مادة للانحلال . بوذا

الفنطزة جينوم محترم في كل جسم . بعضهم يربط الفنطزة بخيوط غيرمرئية بهذا الواقع الذي يقترب بسرعة كبيرة من البلادة المطلقة. عين كاف يركز في فنطزته على واقع تعاسة الكائن الحي سواء أكان انسانا أو حيوانا. ويخال اليّ أن فنطزته ستصل الى عالم النبات أيضا ، ولربما الى الجماد والتابوات الرئيسية في حياتنا النمالية . ليست نمالية ! فهذه الحشرات لا تصرخ وتخلق ضوضاء لأتفه الأسباب ، لا حجمها الصغير يسمح بذلك ولا أشغالها الكثيرة. من المناسب القول : ضفدعية . فهذا المتقافزة تجيد عمل الضجيج وأن تجعجع بلا طحن. عين كاف أقنعني منذ قصصه الأولى بأن الفنطازيا درع متين سواء أمام السلطة ، أيّ سلطة ، والآخرين والله أيضا. حوارات قصصه نبيهة ذكية تريد مسك أخطر قضايانا ، وغالبما يفلح. فيما يخص الحوار أنا لا أبتعد عن اللجوء اليه في سردياتي وغيرها وحتى أني أصاب بنوع ليس بالخفيف من الإحباط اذا لم ألق تجاوبا في الدخول معي في حوار. مثل هذا الإحباط يقودني الى اختيار آخر : الحوار مع النفس. في الواقع لهذا مزايا كثيرة ، فبسرعة يمكن تحويله الى هذيان أو هلوسة أو خطاب جماهيري أو تحريضى على القتل والأضطهاد الخ ، أو كلام هاملتي. أقول هذا ولأني في حيرة من أمري - أقصد كتابة نص سردي جديد. بعد تفكير ليس بالطويل وجدت أن خير مخرج هو الأخذ بالاثنين : الحوار والمونولوغ بشتى أصنافه. طيّب ، أنتهيت من موضوع الحوار والمونولوغ. والآن أيّ مضمون لسرديتي القادمة. ضعفي مزمن إزاء القضايا الكبرى مثل الزمن والكون والوجود ولغز السلطة في الكون أو أجزاء منه ، وهنا سأستخدم المونولوج ، أما الحوار فبمقدور فنطزتي المتواضعة أن تدبر الأمر ( لابد من القول ، وبكل صدق ، أني أخذت منذ العام الماضي ، وبالضبط منذ الثالث عشر من تشرين الثاني ، وهو يوم ميلادي الثمانين ، أميل الى الثرثرة وحتى أني صرت أعاملها ، ماركسيا ، كفائض للقيمة. أظنه زاء دال من نبهني الى أن الثرثرة عملية تفريغ برميل القمامة الموجود في الوعي. أعجبني هذا المجاز. أما ما يخص اللاوعي فقد فشل زاء دال في الإجابة على سؤالي لكنه في النهاية اتفق معي حين ذكرت مقولة أن الهذيان والهلوسة والانفصال المتقطع في الكلام عن الواقع الاعتيادي هي كلها رمي لأثقال اللاوعي ) خاصة أنه لا تفتقد دائما المواضيع. بالفعل ، حصل الاختيار بلا عقبات وتحت عنوان : ( الكون وعين كاف وأنا ). هذا مجرد مخطط وقد أدخل شخوصا أخرى...
طيّب ، ها نحن الاثنين جالسان على ساحل نهرنا وبدأنا الكلام ، بصوت خافت عن آخر ألاعيب الحكومة :
أنا : هذه حكومة بائسة شأن سابقاتها وجاراتها. بلاغتها مستعارة من هذا وذاك. لكن لنترك هذا الموضوع ولنطلق العنان لفنطازيتنا صوب الفضاء الخارجي مثلا !
عين كاف : موضوع شائق جدا وحتى أني على كامل الاستعداد لترك حيواناتي لكن لأجل محدّد ، والذهاب الى كوننا الحبيب !
أنا : بكل موضوعية وتواضع أقول : لاتنقصنا نحن الآثنين روح الفنطازيا والنظرة الثاقبة الى واقعنا أيضا. هل تعرف بأن الكاتب العربي يبتعد عن الفنطازيا خشية أن يتهم بانعدام الجدية في أعماله وكونه يكتب عن عالم بعيد وليس عن هذا الواقع وذاك. المفارقة الكبرى هنا أن هذا الكاتب يصدق أقوال كهذه وكأن سرديات ويلز ومن سبقه وكامل أدب الخيال العلمي كتبه بطرانون لبطرانين ، والأثنان أعميان أو أحولان والا كيف تجاهل واقع مثل هذا والذي بحّت فيه أصوات الاستعاثة.
عين كاف : كلامك قند ، وهذا رأيي من زمان : أن ندخل هذا الواقع في ماكنة فرم اللحم كي يخرج منها آخر رغم أنه لا يزال لحما.
أنا : اذا سمحت ، سأدخل في ماكنة الفرم الفنطازيا كي تخرج واقعا آخر. الأستاذ القديم فرويد الذي من الصعب الاتفاق معه على طول الخط ، كتب مرة أن تصاعد الفنطازيا واشتدادها يسبّب العصاب والذهان ناهيك عن أنها المراحل النفسية الأسبق التي تمهد الطريق لأعراض المعاناة والإحباط الى آخره . وهنا ربط الأستاذ بين الفنطازيا وأحلام النوم التي هي محض فنطازيات كما أحلام اليقظة. أكاد أقول هنا ، بالأحرى أكرر قول خالتي أم ستار ( يا ستّار ! ) ، اذ كيف تحشر الفنطازيا نفسها في كل مكان ! أها ، تكلم الأستاذ أيضا عنا نحن الخائبون من كتّاب اليوم ، فقد وجدنا نمارس أحلام اليقظة ، ونخلق أبطالا يجسّدون كل مساويء التمركز في الأنا. قد تتفق معي بأنه يبالغ وليس قليلا ، اذ ما أكثر الأبطال المضّحين وحتى بحياتهم من أجل مثل عليا معيّنة. أنا لا أتهم الأستاذ بأنه متعصب لأفكاره لكن قد يساعده مثل هذا التفسير ، ولا أتذكر أين قرأت عنه ، على أن المفارقة تكمن هنا في أن الايثار هو تمركز معيّن في الأنا. يرى أستاذنا أن الكاتب المعاصر صار يطّشر أناه من خلال مراقبتها بمنظار دقيق جدا. فيما يخص الفنطازيا يجد أستاذنا أن الكاتب الحالم في اليقظة يسعى وبكل حرص على اخفاء فنطازيته أمام الآخرين... السبب ؟ هو يخجل منها ( لعلمك يا صديقي أنا لا أخجل بفضل لجوئي الى التمويه ! ) ولا يريد أن يسبب الشعور بالبغض لدى القاريء. الأستاذ يذكّرنا هنا بأن الأنا هي موطن الخوف. غريمه الأستاذ يونغ يعالج الموضوع من جانب آخر ، ولا حاجة الى القول بأنه يسلط على هذه الإشكالية وغيرها ضوءا آخر. ويكتب عني وعنك و بقية الخائبين بأن سرّ الكتابة شبيه بسرّ الارادة الحرة ، أنها اشكالية تجاوزية يعجز علم النفس عن حلها. كل ما يقدر عليه توصيفها. لا أخطيء اذا قلت بأنك تجدني قد ابتعدت عن الموضوع أي الفنطازيا وأحلام النوم واليقظة. بكل تواضع أقول باسمي واسمك بأن مثل هذه المواضيع صارت من اختصاصنا ، ومن هنا اقتراحي بالانتقال الى مواضيع أخرى طالما اتخذنا القرار بترك الأرض لأهلها من حيوان ونبات وجماد و... خرافات الى آخره. أنت موافق ؟
عين كاف : كل ما قلته صحيح. أأكيد أننا سنمارس الكتابة في الفضاء الخارجي أيضا ؟
أنا : ولم لا ، ولو أني أفضل اللجوء الى التمويه الذي صار عندي يقترب من خداع النفس. لكن لايهم. فكل واحد يخدع نفسه مرات ومرات قبل أن يقول له الموت : كفى !
عين كاف : كلامك قند مرة أخرى . أنا شخصيا أغادر عالمنا أكثر من عشر مرات في اليوم وأروح برفقة الفنطازيا الى أماكن مجهولة وأخرى معروفة. لك أن تتصور بأني رقصت البارحة لوحدي في صحراء بلا آفاق ، وكانت الموسيقى تنطلق بمختلف الايقاعات ، من الفالس والتانغو والجاز وحتى أني زعقت بمقام ( زوروني بالسنة ). أن تنسى يا صديقي آلآم الوجود وأفعال الانسان العاقل وتطلق اللامعقول من قمقممه هي سعادة لاتضاهيها تلك السعادة الموعودة. في هذا العمر صرت يا عزيزي أؤمن عميقا بما قاله بليز باسكال عن هوس المعرفة : طالما لا يمكن أن تكون شموليا وتعرف كل شيء عما يمكن معرفته كاملا ، عليك أن تعرف القليل عن كل شيء. وهو أجمل حقا أن تعرف شيئا عن الكل من أن تعرف كل شيء عن أمر واحد. والشيء الأجمل هو مثل هذه الشمولية. فلو كان ممكنا امتلاك هذا وذاك يكون هو الأحسن . لكن اذا كان لابد من الاختيار ينبغي أختيار المعرفة أي القليل عن كل شيء ...
أنا : لا أريد مقاطعتك ، لكن من لعنات الانسان هو أنه يريد معرفة كاملة والا ليبق أميّا وجاهلا ، وحجته ، هنا ، أن الآخرين يتكفلون بانقاذه من جهله عند الضرورة.
عين كاف – هذا صحيح لكن ليس دائما. وفي الأخير ليست هي مشكلتي. ما أرغب قوله الآن هو أننا قررنا ترك الأرض لأهلها ، وقد يكونوا الشرعيين ، ومعنى هذا أننا نترك مشاكلهم لهم. قل لي هل تفزعك ، وكما أفزعت باسكال ، هذه الفضاءات التي لانهاية لها ؟
أنا : أنا فزع أيضا ، بل كلي دهشة واستغراب مثله حين أفكر بأنه قد أختير لي مثل هذا المكان من بين كل هذه الفضاءات .
عين كاف : طبيعي ومنطقي أنك في حالة كهذه ، فأنت تلك القصبة الباسكالية الأكثر ضعفا لكنها المفكرة ، ولا أعرف هل هذا امتياز أم لعنة. باسكال الذي عرف المفارقة جيدا نسي وكما يبدو أن العقل الذي أمتدح قوته هو عرضة للكنس في أي لحظة ، ولأن هذه الطبيعة الجبارة هي هكذا...
أنا : أنا أقول هذه المرة : كلامك قند. لكن قل لي الا تضحكك كل هذه اليوتوبيات ؟ أعترف بأني حين أشعر بالكآبة بل ذلك النوع السافل من اليأس ألجأ الى قراءة اليوتوبيا تماما كما يفعل الانسان الذي يأكله الضجر ويبحث عن فلم كوميدي أو سيرك ربما جاء الى المدينة. مفارقتنا الكبرى هو أننا نريد الرحيل من فضائنا ، أقصد جحيمنا ، تماما كما لو أن الأرض وحدها قد اخترعت هذه النار. لم أقل لك بأن قراري بترك الأرض لم يأت بسهولة ، فخشيتي كانت أن لا يكون ذا فائدة ما مثل هذا القفز في المجهول. لكن بعد محادثتنا هذه اكتشفت أن هذا القرار اتخذ بكل تسرع. أنا لا أقدر على الشكاية من أحوالي المادية ، فالجدّ ترك لي هذا البيت الصغير ، ومن السهولة تحويله الى صومعة بوذية ! لحظة ! هل تذكر تلك التجربة من قبل ثلاث وعشرين سنة حين رحنا لبضعة أيام مع النيرفانا ، آه ، تلك التجربة العظمى في حياتي والتي أرغمنا على انهائها بسبب اقتحام إحدى شراذم ذاك الانقلاب إلى البيت. كانوا يبحثون عن ابن العم الذي أعتبروه عنصرا خطرا على سلطتهم الجديدة. عزيزي عين كاف ! ليس اليأس ما يدفعني الى القول بأن لا فائدة من مغامرتنا الفضائية المخطط لها بل أخشى أن أفقد كل الفرص رغم أنها فقيرة ومعدومة الأمل. خشيتي الأولى أن لا أكون قد خيبت ظنك إذا غيّرت الرأي وواصلت تلك التجربة النيرفانائية القديمة. وليس لأنها مأمونة بل لأن البقاء معها في البيت أفضل بكثير من انتظار فرصة العثور على فضاء آخر ، أو الانزواء في صحراء ما. سأتعبد من جديد إلى البراهما الذي استغربت في البداية من أنه بأربع رؤوس وأربع أذرع. الانطفاء ، الانطفاء واختفاء الوجود الفردي والرغبات و الشهوات. لا أتذكر الآن ولو بيتا واحدا من قصيدتي عن النيرفانا. الكولسترول لعنة هذا الجسد الذي يرمزوبكل وضوح إلى اللعنة الكبرى : أن تكون ( هنا والآن ) لمدة تبدو ميكروسكوبية إذا قارنتها بما يحدث في احد فضاءات الكون الأخرى.
اذا وافقت أعدك بأن البيت سيكون مهيئا في أربعة أيام كي نروح مع تلك الغالية – النيرفانا !
عين كاف : عزيزي ! لا زالت أمامنا فرص كثيرة كي نمارس الجنون ونرحل بصورة غير مشروعة إلى أحد تلك الفضاءات . لكن قل لي هل ثلاجتك فارغة أم بقي فيها شيء من الطعام .لا أسأل عن الشراب ، فأكيد أن هناك قنينة في زاوية ستتظاهر أيها الماكر بأنك نسيت تماما أمرها ! والآن لنسرع ، فالشمس على وشك الاختفاء ، وأنا لا أحب السير في الظلام. هل تعرف أني غالبما أدندن حين أكون وحيدا بإحدى بستات صديقة الملّاية ...


- أستر بارك ، آيار ، مايس 2015

*
رسالة من عين كاف إلى عدنان المبارك :






بعد أن قرأت قصتك ( حين عدنا إلى النيرفانا ) (1)، وقد اخترت عين كاف ـ الذي سمحت لي إن أتحرى عنه بوصفه يقبع داخلي، أو يمثلني، بشكل ما من الأشكال ـ لفت نظري انك عثرت على أول قفل ـ في حياتي ـ كان علي ّ ألا ابحث له عن مفتاح؛ قفل بمعنى استحالة مغادرة لغزه، وإلا كيف جعلني أتحول إلى منقب يقودني لأدراك استحالة إجراء تسوية ما من التسويات. واعني بهذا القفل كلمة بوذا. فانا كنت فجعت بها منذ رأيت النور يسمح لي بمعرفة أن الظلمات بلا حافات، من جهة، وان النور ذاته ليس إلا عتمة مقارنة بالأنوار المنتشرة في مناطق متفرقة من كوننا، كضوء الكوزرات، الأسرع من سرعة ضوء شمسنا بـ 8 ـ 12 مرة، حيث تتحول أشعة نجمنا إلى جدار معتم، من جهة أخرى. دون إهمال إن أشعة شمسنا تتخللها مادة فحم حالكة رغم إننا نبتهج بسطوعها الخادع. أليس هذا هو أول قناع، لم نصنعه نحن الفانين، بل صنعته الشمس! فأنت أمسكت بالذي وجوده يعادل عدمه تماما ً! (2) فأعيد قراءة الصدمة التي واجهها بوذا بالمعنى الذي لا يتركها من غير تفكيك، كي أقول: أنا لا يعنيني الزوال...، وفناء كل ما يجنيه ويحصل عليه الإنسان، فالعالم ـ من اصغر جزيئاته إلى أكبرها، دون إهمال تكون القشرة العليا المتخصصة بالعمليات الذهنية، مشيدة فوق طبقة من الخلايا تتضمن فترة الثدييات، وأسفلها تاريخنا عندما كنا ننتمي إلى الزواحف ـ كي أسعى ـ بهذه الإرادة العمياء أو بإغراءاتها وتنويعاتها ـ للحلم بوجود نهاية افتراضية هي أس (اللعبة) بمنطقها الباحث عن خاتمة، وليس عن ديمومة. فالكل ـ رغم مشهد الاندثار المادي ـ يبذل كل ما يمتلك لقلب اللا شرعية إلى (نظام مشروع) والى (قانون) والى (ثوابت أبدية) وفي كون لا يسمح للمصادفة أن تحدث إلا مرة واحدة!...، وهكذا فانا لم ابحث عن (ملكية) كي أحافظ على ديمومتها، وهي قد أصبحت قيد الزوال، أو ربما بوصفها زائلة قبل أن تتمتع بحضورها الغريب. وها أنا انشغل بما شغل بوذا: القناع! فالصور اللانهائية للكيانات ـ من الأحادية إلى المركبة والى ما بعدها ـ مرغمة في اتخاذ موقف الدفاع ....، موقف المفترس، بما يمتلك من أدوات راحت تتقدم بتقدم تاريخ الاشتباك...، فموقف الدفاع سيغدو مشروعا ً، ومبررا ً للهجوم، لأن العدالة ـ هنا ـ لا تمتلك ما يمتلكه الزوال، لكن لا احد لديه قدرة الاعتراف بحق الآخر ـ كحق الاختيارـ قبل الانشغال بمصيره. ودعني أوضح قليلا ً استحالة عزل الدفاع عن الهجوم، فلافتراس لا يحصل بدافع الضرورة، كالجائع وهو يفترس كل ما يجده أمامه، بسبب الغريزة، بل راح يتسلى بضحاياه. ربما يبدو هذا هو امتياز الإنسان، ولكن التمعن في تاريخ الأشياء ـ كتأمل مجرة تلتهم مجرة أخرى عبر زمن يستقر مليون سنة ـ يوضح إن الافتراس هو نظام سابق على تعديلاته، بالبحث عن تسوية منطقية، أخلاقية، وربما ثقافية. فالقتل غدا تسلية تتجاوز مفهوم الإشباع، نحو المتعة الخالصة! نحو: القتل من اجل القتل، الشبيهة بالفن من اجل الفن، أو جمع المال من اجل جمع المال! متع خالصة، تفرض ضرورتها باختراع أقنعتها، وتمويهاتها، وخداعها، فماذا افعل وأنا أدرك إن أصل (الأنا) ـ وكل ملكية ـ ما هي إلا سلاسل من الاغتصابات، فان لم تدافع عن كيانك، بالبداهة ـ الإرادة العمياء كما وصفها شوبنهاور ، وبإرادة البقاء بحسب دارون ـ تهلك، وتغيب! فهل باستطاعتي اختيار غيابي ـ أو موتي الحر ـ غيابي وأنا مكبل بأنساق برمجة عنيدة تخفي ما تظهر، وتظهر ما تتستر عليه؟ فانا فجعت ليس لأن الأشياء تتلاشى، بل لأنها وجدت لتحفر قانونها الذي تصنع منه سلطة، تارة، ومعارضة لها، تارة أخرى. فالفكاهة لا تستقيم مع الأسى، ولا تختلط، كما اختلطت بحضورنا نحن الأكثر رغبة باختراع تسليات على حساب الآم المليارات. وإلا كيف أغلق فمي وأنا اعرف أن هناك 17 ألف طفل يموتون يوميا ً، وان هناك مليار مدقع، وملياري إنسان يعيشون تحت خط الفقر، وهناك ملايين المنكوبين بالنزوح، والتهجير، والانخلاع، والاغتيال، والمحو....؟ فهل امتلك قدرة الحصول على خلاص، ما لم أتمتع بجبروت القاتل، وبخصائص المعادن؟
فانا إذا ً لم انشغل باستنطاق الآخرين في حديقتي، لأنك لمحّت إلى حالة النبات، والى حالة الحيوان، والتحول إلى غبار أو إلى أثير ـ فانا لست ضيفا ً فيها، أي في الدنيا، بل أنا وجدت وليس لدي ّ إلا أن أرى الجميع يكملون دورتهم....، يستكملون كل ما يستحيل أن تكون له نهاية، لأنها ليست ناقصة أو مبتورة، هذه الدورة خارج نطاق مشاهدتنا لها، الأمر الذي يدفع بالشك إلى أقصاه: كيف أتحدث عن أمر اجهله...، وما مغزى الزعم بالصدق، والأمانة، والموضوعية....، في أمر خارج نطاق أدواتي المحدودة، وهي قيد الانحلال، والتلاشي....؟ بل وكأنني اغوي الآخر بأننا وجدنا لغاية ما هي، بحسب هذا المشهد، أكثر من عودة إلى قانون الأقوى، والأكثر مكرا ً، والى: استبدال أو تغيير اللا شرعية إلى نظام للطاعة...، والولاء..؟
ستقول لي: هكذا وجدنا أنفسنا/ مصائرنا، في موقف الشبهات...، ولسبب ما من الأسباب اخترنا الكتابة بدل الصمت، واخترنا البحث عن فضاءات نائية، بدل القبول بعفن (حضارات) ـ لو وضعت تحت المجهر فان رائحتها لن تترك فراغا ً إلا وملأته ـ لظهرت قواعدها جلية على مدى التاريخ من الويلات، والانتهاكات، بعد مسيرة طويلة من المواجهات، كلها عملت بإرادة جعلت اللعبة تمتد، لتبلغ ذروتها، في عصرنا: ونحن نراه يبرهن انه محكوم بالزوال، قبل غوايات هذه المعرفة، أو طيفها، أو حتى شبحها.
سأقول لك: أنا لم أهمل هذا الإشكال، اللغز، لأنني تساءلت أيضا ً: أي فايرس أو داء أو جرثومة لم تسمح لنا إلا أن نحافظ على النظام نفسه/ سلاسل المواجهات والتنكيل والمعاقبات، بحجة الوصول إلى (النيرفانا) ـ كالحلول التي اختارها عدد من النساك، والكهنة، والمتصوفة، بوصفها حلا ً مشروعا ً، وربما شرعيا ً، في مواجهة لعبة الفناء، والقهر غير المبرر، حتى وفق قواعده المعلنة، فالبحث عن (التام) و (الكامل) والذي لا يفنى، يرجعنا إلى لحظة الصدمة بأننا وجدنا كي نغيب. وهنا يغدو الخلاص الفردي، لهذه (الأنا) خيانة! وإلا كيف تجد من يأمر بالقتل، والذبح، بهدوء، من اجل الحصول على ركن للخلاص، في مكان ما، في المجهول، الذي يزعم انه واضح كوضوح الشمس! وهو يتسلى بضحاياه، بل يخترع آلاف الوسائل كي يحافظ على ديمومة هذه الفكاهة. فأنت تجد ما يسمى بالقادة أو الزعماء الكبار، تجدهم يأمرون بإبادة الملايين، ليس بحثا ً عن الموارد، والمكاسب، والمستقبل حسب، بل من اجل تعزيز قانون الفكاهة الخالص! وإلا كيف تصدق أن هناك ربا ً ما، لدي أي شعب من الشعوب، لا عمل لديه، سوى إنزال العقاب بمخلوقات هي اوهن من طيور في قفص، أو جرذان في مصيدة؟
ستقول: ها أنت تحفر في المجهول..؟
عندما أعيد النظر باختيارنا للكتابة، بمعزل عن الأصوات، وباقي الحواس، وما تخفيه، وتتستر عليه، وبمعزل عن محركاتها غير المرئية، أجدها ـ كما تابعت ولادتها في المدينة التي ولدت فيها، سومر ـ أجدها خالية من الغموض. فالقول بأولوية الكلمة كالقول بأولوية القناع.....، فيخّيل إلي ّ إن مهمة (البشر) تحددت، أو برمجت، وفق هذا النسق: الذي لا يزول يستدعي الفانين، والمحدودين، لمنحه الشرعية، شرعية الوجود، وليس العكس. لكن الكتابة ولدت مع الحساب، أي مع التراكم، ومع التطور، أي تطور القشرة العليا، أي الدماغ، لكن الغريب لا احد يريد أن يحصي عدد المهن، والحرف، والمكتشفات، التي اخترعها وابتكرها سكان سومر، لأنه ـ ببساطة ـ قد تمت إبادتهم، ومحوهم، مثلما تم استبعاد (الحقيقة) من اجل الحفاظ على أقنعتها. وجعل التصورات بديلا ً للذي نراه لا يدوم أكثر مسافة تلاشيه.
ستقول: ما الجديد...؟
أقول: إن استحالة أن أكون (أنا) كاستحالة أن امتلك (حرية) محارب اعزل في مواجهة تاريخ طويل مزدحم بأدوات التعذيب، وبفنون القسوة، والاستئصال، والاجتثاث، حد المحو. وقد سمحت لأحد شركائي ـ في الحديقة ـ أن يصرخ: أنا مشبوه، متهم، ما دمت على قيد الحياة. واذكر إنني كتبت، قبل عشرين سنة: الفنان مشبوه! فسألني زميل: ماذا تقصد...؟ قلت له: اسأل سارتر! والآن أبوح لك: الفنان زنديق، خارج عن الملة، جاحد، كافر...، ولا يستحق إلا أن يعامل معاملة من يتم رمي جثثهم إلى المزابل، أو تقطع رقابهم أمام ديمقراطيات العالم كافة! فالجديد ـ هنا ـ هو قناع ما قبل (القديم)، لأنني، ببساطة، أحاول التستر بنيرفانا أبدية، يمارسها النبات، وأنا، بفعل تجددها ابعد من مشروع تجدد السلع، وإعلاناتها...!
فاسمع صوتك الخفيض، المشبع بضباب يوم بارد من أيام البصرة، وليس من وارشو، ولا من المدن الأخرى التي سكنتها، مادام سكنك لم يغادر قبرك الأبدي، وأنت تجد ولادتك قد صارت مكملة لنقصها المتواصل، تهمس عبر المسافات:
ـ انه العقاب...
فاعترف، لك ولنفسي، علانية، ولمن يحفر في ظلمات هذه الكلمات: انه ليس العقاب ـ مستبعدا ً صخرة سيزيف بوصفها حدثا ً رمزيا ً، بعد ان تم استبعاد واقعيته ـ بل البحث عن هذا العدو/ الفيروس، وهو الداء إزاء هذا الذي لا يفنى، وهو الذي لا يبخل بمنحنا قدرات متجدد على اختراع الأقنعة، والتمويهات، والخداع. بوذا لم يوهم أحدا ً بأكثر من الاستقامة، مثل لاوتسي الذي قال: ضع خطوتك في الطريق السليم! بعيدا ًعن اللا متناهي، وتلميذه غاندي، امسك بالدرب: العصيان السلمي. بدءا ً بالملح، دفاعا ً عن حقوق: الجميع. فاكتشف إنني أكافح للامساك بقليل من موتي....، لكن اللامعقول ـ وهو الاصلب في نظام عصر الدعاية، أي عصر الأقنعة، والغش ـ لا يسمح لي بأكثر من دفاع اختيار الموت، وهو ـ كما قال ادلر ـ الذي اكتسب ايجابيته بما يمتلكه من السلب. انه شبيه بمثال: إن مضار (الخمر) أكثر من منافعه، وهو الذي يسمح للبشر بارتكاب أخس، أفظع، أنذل، أوسخ الجرائم مادام اليأس من رحمة الرحمن ليس إلا خيانة، بل كفرا ً.
ستقول: هو ذا فائض اللا معقول...
وخطر ببالي مثال آخر حيث كنت أتحدث مع زميل لي عبر ألنت عما يفجع الصخور، في بلداننا، وفي عالمنا، فطلب مني، ببساطة، أن اقرأ قبل النوم، دعاء الشجرة، وأواصل قراءة دعاء الصخور، وعند الفجر، أعيد قراءة دعاء العدم! فقلت له: منذ زمن بعيد لم اعد مدمنا ً، لا على المخدرات، ولا على العقاقير المهلوسة، ولا على الأفيون، ولا على الحلم بالحصول على حديقة في الأعالي. وطلبت منه أن يراجع هذه الإشكالية، في الفكر السومري، عندما سأل الفقير الغني: لماذا لم تستجب الإله لي، وأنا أؤدي لها الفرائض، والطاعة، والقرابين، وأنا أراها تفرط في ثروات الظالمين، وقسوة الحاكمين. فقال له: الإله أعلى من أن تكون عالية كي تستجيب لك! ثم انك لم تخلق إلا من الوحل، واليه تعود! وها أنا قرأت دعاء: الغبار، فانا جئت من المجهول، وسأكمل ـ بموتي ـ دورته.
وسأقول: أحسنت...! فانا قاومت أن أكون الشر ـ رغم أنني خلقت لنقله ـ وقاومت الظلمات، رغم إنها ـ بحسب الفيزياء ـ لا تترك أشعة من غير سواد/ وعتمة، وإنني قاومت الكسب الحرام، رغم إنني لا امتلك قدرة الفرار مادامت المنافي، شبيهة بنظام حديقتي، تكونها أقفاصها، ونظامها الهرمي قبل ذلك. هل اذكر لك لماذا أغلقت الباب وحرمت على نفسي مغادرة قبري، سأقول، ببساطة، إن صاحب الجريدة التي كنت اعمل فيها، عاملني ككلب، فلم يدفع أجور عملي، لأشهر، فأخبرته برسالة: لست كلبا ً. كما إن ما تدفعه الصحف، لا يساوي ثمن الورق، والحبر، رغم إن بعضها تعد من المؤسسات الكبرى. وآخر خمس مقالات نشرت لي في مجلة تابعة لوزارة الثقافة، لم تصرف مكافآتها، بسبب التقشف، أو إفلاس الوزارة، وهو الإفلاس المقابل لتبديد مبلغ مقداره ألف ألف مليار أنفقت خلال الأعوام المنصرمة.
وها أنا أراك تفكر بالإصغاء إلى ما لم أبح به...، فأقول:
ـ تخيّل إن مقنعا ً يتهمني بأنني كنت مكلفا ً بمراقبته...، غير مدرك إنني كنت أعمى امشي خلف أعمى.....، وحتى هذا الأعمى، عندما بحثت عنه، لم أجده.
والآن أراك تهز رأسك، من غير صوت، فأسمعك تقول لي: الكل في المصيدة!
فلا أجد ردا ً إلا بالبحث عن منفذ كي أعود إلى (حديقتي)، فهناك، أروض الحقائق، كي انتزع الأقنعة، الواحد بعد الآخر، من قناع النمر إلى قناع الثعلب، ومن قناع الغزال إلى قناع الخنزير، ومن قناع الغراب إلى قناع البلبل.....الخ، كي اكتشف أخيرا ً إن المثل السومري ـ الذي طالما كان يتردد داخل رأسي ـ: ما من امرأة ولدت ابنا ً بريئا ً قط! يسمح للمصيبة/ الخطيئة/ الكارثة/ أن تصبح قناعا ً جمعيا ً. وبمعنى ما، من اجل الدقة، فها أنت تراني أتشبث بظل قناع يسمح لي بالدفاع عن نفسي، أو عن ما تبقى منها. فاشعر تماما ً إنني أصبحت كيانا ً لا مرئيا ً، ولكنني مازالت مبرمجا ً بالوهم كي لا انشغل بصناعة (سلعة) ما، للأسف، مضى زمنها...، لأنني أصبحت ـ كما في تجربتي وأنا أتحول إلى نبات والى ذرات والى أثير ـ ورقة تتدلى...: ورقة لا تمتلك مصيرها كي تأخذ دورها في سلم الارتقاء: من كيان لا يراه احد...، إلى الحضارات العمياء. وكل هذا يحصل كي تمتد ديمومة هذا (الزائل) ـ المنحدر من الأصل ـ بمساعدة برمجة تجعل الزائل يغوينا بإقامة أفظع المذابح للأطفال والنساء دفاعا ً عن الذي لا تدركه عقولنا الواهنة، العاطلة والمعطلة عن العمل، وإبصارنا الكليلة، بحجة انه خاطب صانعي المجازر، عبر التاريخ، ووعدهم بالأبدية الخالية من الشوائب!
فاضطر أخيرا ً لاستحضار دقتك في الملاحظة، كي تراني هربت من قفصي، لكن للانتساب، في هذه المرة، إلى مملكة النبات، لعلي، بعد قرون، لا اخدع بالعواء، ولا بالكلمات، وتصبح جريمتي محصنة، لا تمسها يد الإثم، وخارج نطاق الشبهات، فلا شطط غواية، تجرجرنا إلى السيرك، ولا شفافية مزيفة تقذفنا ابعد من قاع الحضيض.

عادل كامل

1/6/2015


*

1 ـ ومعنى نرفاناـ بحسب الموسوعة هو: مفهوم النيرفانا في البوذية الجاينية هي حالة الخلو من المعاناة.تعتبر الـ (نيرفانا) هي حالة الانطفاء الكامل التي يصل إليها الإنسان بعد فترة طويلة من التأمل العميق، فلا يشعر بالمؤثرات الخارجية المحيطة به على الإطلاق، أي أنه يصبح منفصلا تماما بذهنه وجسده عن العالم الخارجي، والهدف من ذلك هو شحن طاقات الروح من أجل تحقيق النشوة والسعادة القصوى والقناعة وقتل الشهوات، ليبتعد الإنسان بهذه الحالة عن كل المشاعر السلبية من الاكتئاب والحزن والقلق وغيرها. ويصل الكهنة البوذيون والفقراء الهنود إلى حالة الـ (نيرفانا) بعد فترات طويلة جدا من التأمل العميق، إلا أن الأمر وبطبيعة الحال صعب جدا على عامة الناس، وكل ما ذكرناه واقعي تماما على الرغم مما يبدو عليه الأمر من مجرد فكرة فلسفية. وبقي أن نذكر أن أصل كلمة (نيرفانا) من لغة الهند الأدبية القديمة ويطلق عليها اسم (اللغة السنسكريتية).
2 ـ البابليون هم أول من تحدث عن العدم، وعندما أحرجوا بتعريف الوجود، قالوا انه العدم الممتد. لكن هذا لا يخلو من تأثير المفهوم السومري للدورات، بدءا ً بدورة الذرة، وانتهاء ً بدورة الكون. وهو الذي سمح للدهرين والمرجأة والملحدين بخلافات كبرى مع وعاظ السلاطين، بل ومع الأديان نفسها.


كتب-دار الغاوون تُصدر ديوانين لأميرة أبو الحسن ودنيا ميخائيل



كتب
دار الغاوون تُصدر ديوانين لأميرة أبو الحسن ودنيا ميخائيل



  صدر لدى "دار الغاوون" في بيروت ديوانان جديدان للشاعرتَين: السورية أميرة أبو الحسن، والعراقية دنيا ميخائيل.
رجل أضاع النوم في سريري
الديوان الجديد للشاعر السورية أميرة أبو الحسن يحمل عنوان "رجل أضاع النوم في سريري".
وهذا الديوان، وهو الرابع للشاعرة، تتابع فيه أبو الحسن صقل جملتها الشعرية، وإذكاء الطابع الأنثوي الخاص في قصيدتها، باحتراف وحساسية كبيرَين. من أجواء الديوان:
تعبتُ
وأنا أدلُّ الرجال إلى بيتي
ما من واحد منهم
عرف الطريق بقلبه!
لشدَّة ضيق المكان
مشيت خلفكَ
خطوتي... تشبه صوتي
توشكُ هي أيضاً
على الاختناق
كلَّما عدتُ
وجدتُ طيفكَ
لا أنا تعبت من العودة
ولا هو
ملَّ من الانتظار
جدير بالذكر أن أميرة أبو الحسن من مواليد السويداء جنوبيّ سوريا العام 1959. صدر لها في الشعر: «بين سهو ونسيان» (2005)، «حالات» (2006)، «احتفاء بشيء ما» (2008)... إضافة إلى ديوان مشترَك مع الشاعرة البحرينية إيمان أسيري بعنوان «بين بحر وبحر» (2008).

الحرب تعمل بجد






هذا الديوان الذي سبق له أن صدر عام 2001، يعود في طبعة ثانية أنيقة تضمّ مختارات من جميع دواوين الشاعرة دنيا ميخائيل. واختيار هذا الديوان تحديداً لإعادة إصداره ينبع من مركزيته في مسيرة ميخائيل، إضافة إلى النجاح اللافت الذي حقّقته طبعته الإنكليزية لدى دار "نيو دايركشينز" الأميركية الشهيرة. وعنه كتب الناقد الأميركي لورنس ليبرمان: "الديوان الشغل الشعري لدى دنيا ميخائيل يرتقي بالعاطفة عبر أسلوب من شفافية أخَّاذة وصور استبصارية مرهفة تمسُّ قلب القارئ الذي لا يُخطىء بَصمَتها الخاصة ونبرتها المتألقة التي تندلق من اللغة الأصلية".
من أجواء الديوان نقرأ:
توقَّف الزمن عند الساعة الثانية عشرة
واحتارَ الساعاتي
- لا خلل في الساعة -
كلُّ ما في الأمر
أن العقربَين طال عناقهما
ونسيا العالم.
هناك من يدقُّ الباب
يا لحزني
إنها السنة الجديدة وليس أنت.
والجدير بالذكر أن دنيا ميخائيل مواليد بغداد العام 1965. صدر لها في الشعر دواوين عديدة منها: "مزامير الغياب" (دار الأديب البغدادية، 1993)، "يوميات موجة خارج البحر" (دار الشؤون الثقافية، 1995 - دار عشتار، 2000)، "على وشك الموسيقى" (دار نقوش عربية، 1997).


إصدارات جديدة-صدور كتاب "بقلم جمال عبدالناصر"


إصدارات جديدة
صدور كتاب "بقلم جمال عبدالناصر"


  صدر للدكتور خالد عزب مدير إدارة الإعلام بمكتبة الإسكندرية، والباحثة صفاء خليفة، كتاب تحت عنوان "بقلم جمال عبد الناصر"، عن دار عن أطلس، وينقسم الإصدار إلى قسمين رئيسيين، القسم الأول تأمل في فكر وشخصية جمال عبد الناصر، والقسم الثانى عبارة عن مؤلفات جمال عبد الناصر كاملة وهي علي التوالي رواية في سبيل الحرية، فلسفة الثورة، يوميات حرب فلسطين 1948.
بعد مرور أربعون عامًا علي وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وجدنا أنه من الضروري إلقاء الضوء علي أحد وأهم جوانب الشخصية الكاريزمية لجمال عبد الناصر، ألا وهو الجانب الثقافي والفكري، وقد تجلي هذا الجانب من الشخصية في سلوك جمال عبد الناصر الإنسان والزعيم ورجل الدولة.
عرف "جمال عبد الناصر" دائمًا بأنه "أفضل قاريء"، فكان شغوفًا بالمطالعة، ودارسًا متميزًا لديه قدرة خارقة علي القراءة، وكذلك القدرة علي الاستيعاب والتذكر بنفس المستوي، وذلك في المراحل المختلفة من حياته منذ طفولته، ومرورًا بمرحلة الدراسة الثانوية، والدراسة في الكلية الحربية، وكلية أركان الحرب وانتهاء بمرحلة ما بعد ثورة يوليو، وشكلت قراءات عبد الناصر في بداية حياته النواة التي تمحورت حولها أفكاره ورؤاه. فكانت رغبة جمال عبد الناصر شديدة في أن يعرف بنفسه كل شيء. ويمكننا تتبع ذلك في قراءاته واهتماماته الفكرية خلال أهم فترات حياته، وكذلك في الشخصيات التي أعجب بها وكان لها كبير الأثر في تفكيره في ظل الظروف الدولية والعربية من حوله، والتيارات السياسية والإيديولوجية التي عايشها بداية من أواخر الثلاثينات وطوال فترة الأربعينيات، وكذلك في مرحلة ما بعد قيام ثورة يوليو. ولم يكتف جمال عبد الناصر بالقراءة والإطلاع ولكن كان لفكره وثقافته أبعاد أخري كان أهمها الكتابة.
 تحدثنا سطور هذا الكتاب عن أولي كتابات الطالب جمال عبد الناصر، فقد نشرت له مجلة مدرسة النهضة الثانوية أول كتاباته - مقالة بعنوان "فولتير، رجل الحرية"، وهو في سن السادسة عشرة من عمره. وفي عام 1934 بدأ الطالب جمال عبد الناصر حسين وهو في السادسة عشرة من عمره في تأليف رواية "في سبيل الحرية"، التي تتصدر صفحتها الأولى صورة "عبد الناصر"، وتتناول في مضمونها المعركة الخالدة التي خاضها أهل رشيد بمصر عام 1807، عندما تصدُّوا للحملة الإنجليزية بقيادة فريزر، وألحقوا بها هزيمة منكرة ثم مقدمات الحملة الفرنسية وبعدها الاحتلال البريطاني. لكنه لم ينته منها، بل كتب ستة فصول استكملها بعد الثورة قاص يدعي "عبد الرحيم عجاج"، وقام بنشرها في الخمسينيات.
ثم نجد موهبة جمال التمثيلية عندما قام بدور "يوليوس قيصر" في مسرحية شكسبير ضمن برنامج الحفلة التمثيلية السنوية لمدرسة النهضة 1935 بعد قراءته عن الشخصية وإعجابه الشديد بها. ثم تتطرق الدراسة إلي أي مدي تأثر جمال عبد الناصر بالأحداث في مصر وعلي صعيد العالم العربي والتي دفعته نحو كتابة بعض الخطابات إلي أصدقائه يستنكر فيها تلك الأحداث والتي كان أهمها إلغاء دستور 1923 واستصدار إسماعيل صدقي باشا لدستور 1930، فنجد اسم "جمال" من ضمن أسماء الجرحي في مظاهرات نوفمبر 1935. كما كان يراسل أصدقائه يحثهم علي المطالبة بعودة دستور 1923، وإلغاء دستور عام 1930، ونجد ذلك واضحًا في (خطاب عبد الناصر لحسن النشار عن الحركة الوطنية بين الطلبة لعودة الدستور).
ثم تأتي أحداث 4 فبراير 1942 ويعد هذا الحدث نقطة تحول في تاريخ حركة الثورة المصرية، كما أولد استياء بالغًا لدي الشعب والجيش معًا. وغضب ضباط الجيش من الأحداث وشعروا بالإذلال الذي واجهه الملك واعتبروه اعتداء علي الشرعية والسيادة المصرية وانتهاكًا للكرامة وأن الطريقة التي سلم بها الإنذار اغتصابًا لاستقلال البلاد وسيادتها. واعتبرت كتائب الجيش بالذات أن ما حدث هو أسوأ إهانة وجهت إلي بلدها ونجد مثلاً (خطاب عبد الناصر لحسن النشار يبرز فيه موقفه من أحداث 4 فبراير 1942).
عقب ثورة يوليو صدر كتاب "فلسفة الثورة" عام 1953 الذي يعد أول وثيقة تصدر عن ثورة يوليو ومفاهيمها عام 1953 بعد نحو سنة من قيام الثورة في يوليو 1952، وهو كتاب يحملأفكار الرئيس جمال عبد الناصر، قام بتحريرها وصياغتها الأستاذ محمد حسنين هيكل.
كما كان لحرب فلسطين كبير الأثر علي فكر جمال عبد الناصر وقلمه أيضًا، بالإضافة إلي سلسلة من المقالات نشرتها مجلة آخر ساعة، عام 1955، تحت عنوان "يوميات الرئيس جمال عبد الناصر وحرب فلسطين". فقد كانت لدى جمال عبد الناصر نزعة قوية للتدوين، وقد سجل بخط يده، حيث كتب جمال عبد الناصر يومياته عن حرب فلسطين تحت قصف المدافع مرتين في اليوم الواحد، يبدأ بالكتابة على الأوراق الرسمية التي يعتمد عليها في كتابة تقاريره لقياداته، فهذه هي ذاكرة الكتيبة السادسة، قبل أن يسجل يومياته الشخصية، والتي تتضمن مشاعره ومكنونات نفسه على ذات الأحداث، وتمثل اليوميات -الشخصية والرسمية معًا- نصًا طويلاً ومتصلاً، وكتب - في الحالتين- بذات الطريقة، المكان واليوم والساعة، وعبارات موجزة تلخص ما حدث، مسجلاً مشاعره في بعض الحالات على الوقائع والأحداث.


إصدارات جديدة-أسـرار


إصدارات جديدة


أسـرار
 
عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة، صدر للأديبة والكاتبة الصحفية
" سحر الرملاوي" مجموعتها القصصية « أسـرار ».
تقع المجموعة في 108 صفحة من القطع المتوسط، وتضم أربع عشرة قصة قصيرة.
لوحة الغلاف من أعمال الفنان إيمان المالكي، تصميم الغلاف: إسلام الشماع.
تفتتح " سحر الرملاوي" مجموعتها القصصية بقولها:
( الأسرار نوعان ..
  نوعٌ تخاف أن يطَّلع عليه الآخرون
  ونوعٌ تخاف أن تواجههُ
  إنه هناك؛ في أعماقك
  ممنوع الاعتراف به ! )
وعبر 14 قصة قصيرة - لا تستغرب إن وجدت جزءًا منك مختبئًا داخل إحداها - تطوف بنا الكاتبة في بحور الأسرار المخفية وتسلط الضوء نحو كل خطأ بشري.. تتلمس مواضع الجروح المخفية في النفس البشرية، وتحاول أن تسبر أغوارها وتفسر تصرفاتها وفق الأسرار التي تخفيها.
تقول " سحر الرملاوي": إن الأسرار ليست فقط تلك التي نخفيها عن خجل أو شعور بالذنب، أحيانًا يكون السر شعورًا طاغيًا يتحكم في تصرفاتنا، أو جرحًا قديمًا ينعكس على مستقبلنا ، أوإيمانًا مغلفًا بالشك يلون دوافعنا..
السر أروع المداخل نحو الحقيقة ، وإذا أردت أن تعرف إنسانًا؛ فاعرف سره..
إنه وجعه الخاص ،
محركه ،
موطئ قدمه ،
ومنبع أفكاره.
سحر الرملاوي تهدي مجموعتها إلى:
( إليكم..
  يا من تؤرقكم أسراركم..
  وتحلق بكم أحلامكم..
  ويعجز الواقع عن إرضائكم..
  أنتم بالتأكيد..
  لستم وحدكم ! ).
من قصص المجموعة :
وقت للحلم / جثة عصفور أحمر / حكاية قلب / سؤال و سؤال / امرأة محترمة / اعتقال
نهاية مفتوحة / الملكة / ورقة بيضاء لولا / احتواء / خطوط الحلم / كيف تزوج ابني / عـواء


كلمات لها مذاق الجمر-كلما فكرت أن أعتزل السلطة - نزار قبانى



كلمات لها مذاق الجمر

كلما فكرت أن أعتزل السلطة


   نزار قبانى


كلما فكرت أن أعتزل السلطة..إ
ينهاني ضميري..................إ
من ترى يحكم بعدي هؤلاء الطيبين ؟
من سيشفي بعدي الأعرج..إ
والأبرص.....إ
والأعمى......إ
ومن يحيي عظام الميتين ؟
من ترى يخرج من معطفه ضوء القمر ؟
من ترى يرسل للناس المطر ؟
من ترى يجلدهم تسعين جلدة ؟
من ترى يصلبهم فوق الشجر ؟
من ترى يرغمهم أن يعيشوا كالبقر ؟
ويموتوا كالبقر ؟......................إ
كلما فكرت أن أتركهم.....إ
فاضت دموعي كغمــــامة ...إ
وتوكلت على الله ...إ
وقررت أن أركب الشعب....إ
من الآن إلى يوم القيامة...


حوار مع المدونة البحرينية أميرة الحسيني:''المدونون محرك مهم لثورات الحرية العربية''-زاهي علاوي

حوار مع المدونة البحرينية أميرة الحسيني:''المدونون محرك مهم لثورات الحرية العربية''

زاهي علاوي



أثبتت وسائل الإعلام الاجتماعي قدرتها على نقل وقائع ما يحدث في العالم العربي، كما أتاحت مجالاً أوسع للحرية أكثر من الإعلام التقليدي المكفول بالنظم والقوانين، كما تؤكد المدونة أميرة الحسيني في حوارها مع زاهي علاوي.

لعبت المدونات ووسائل الإعلام الحديث والاجتماعي دوراً مهماً في نقل وقائع الأحداث خلال الثورات العربية وتعبئة الرأي العام العربي والعالمي. كما أدى "تفجر الثورات العربية إلى انفجار في استخدام الفيسبوك وتويتر والشبكات الاجتماعية المختلفة"، كما تقول المدونة والناشطة الحقوقية أميرة الحسيني في حوار مع دويتشه فيله.

وبرز دور الناشطين في العالم الافتراضي من خلال نقلهم للأحداث مباشرة من الشارع إلى الفضاء الالكتروني عبر هواتفهم المحمولة. فمستخدمو تويتر استطاعوا، على سبيل المثال، الوصول إلى جميع المعلومات المنشورة عبر الموقع من خلال استخدام ما يعرف بـهاش تاغ البحث عن المعلومات، التي يريدونها في بلد معين. فعند البحث عن هاش تاغ ليبيا أو 17 فبراير يمكن الوصول إلى جميع المعلومات المتعلقة بالوضع في ليبيا، حيث يمكن مشاهدة الصور وروابط الفيديو الموجودة على الشبكة العنكبوتية، إضافة إلى نشر وصلات وروابط وسائل الإعلام الإخبارية التي تنقل الأحداث أيضا.

الإعلام البديل.. فضاء أوسع للحرية


أميرة الحسيني:''المدونون محرك مهم لثورات الحرية العربية وبديل جاد للاعلام الرسمي أو المسيس الذي لا يعرف المهنية '' وترى أميرة الحسيني أن "بقاء حال وسائل الإعلام على ما هي عليه واستمرارها بدورها التقليدي يفتح المجال أمام الإعلام الاجتماعي أو ما يمكن تسميته بالإعلام البديل. فالإعلام الجديد هو تكوين فطري ولا يحتكم لقانون معين، فكتابتي على المدونة تزيد من مجال حريتي. أي أن تدويني لم يعرضني للخطر، الأمر الذي يدفع الآخرين إلى الحديث عن المواضيع المختلفة من أجل تجاوز حاجز الحرية المهمشة".

كما تضيف المدونة البحرينية المعروفة في إطار توضيحها لخصوصيات الإعلام الجديد: "الإعلام البديل أثبت قدرته على نقل الحقائق والوقائع في العالم العربي، وأتاح مجالاً أوسع للحرية أكثر من الإعلام التقليدي المكفول بالنظم والقوانين. ولذلك عملت الحكومات العربية جاهدة على كبت الحريات، ولذلك يمكنني القول إن الإعلام الجديد الذي أثر في الثورات العربية كان يعمل في ظل كبت كبير، فقد اعتقل وحوكم الكثير من المدونين. الفضاء الالكتروني فضاء مراقب ومعتم وفيه الكثير من الحجب، وهناك دول تحجب مواقع بأكملها مثل فيسبوك وتويتر ويوتيوب. وهناك دول تحجب بعض المصطلحات، التي لا يمكن البحث عنها عبرالشبكة العنكبوتية، ففي البحرين مثلا تحجب الإنترنت بطريقة علنية."
وتلفت الحسيني الانتباه في حديثها مع دويتشه فيله إلى أن النقاش حول مصداقية الإعلام البديل توقف، لأن الثورات العربية الحديثة أثبتت أن المحطات الفضائية العالمية تعتمد على المدونين في نقل الأحداث، خاصة "وأنهم موجودون في الشارع وينقلون الأحداث مباشرة، ففي مصر مثلاً ذهب الكثير من الصحفيين والمنتجين الإعلاميين ومندوبي وسائل الإعلام للتخييم في ميدان التحرير، الذي كان مركز الثورة. كما وقعت أحداث في مدن ومناطق مختلفة لم يتم تغطيتها بنفس القدر، لكن المدونين هم من نقل وقائع الأحداث الجارية في هذه المناطق". وتشدد أميرة الحسيني على أن "المهم في الثورات العربية أنها كانت تنقل من قبل المدونين والناشطين عبر الشبكة العنكبوتية دقيقة بدقيقة وحدث بحدث، وتابعنا ذلك عبر تويتر مثلا. وهذا شيء مهم بالنسبة لمن يراقب الأحداث ويريد معرفة المجريات على الأرض.“

"إجحاف بحق المرأة بعد الإطاحة بمبارك"

ورغم وجود المرأة ومشاركتها جنباً إلى جنب مع الرجل في الثورة ووقوفها معه في الصفوف الأمامية، إلا أنها لم تلق الاهتمام الكافي من قبل الرجل أو المجتمع، حسبما تقول أميرة الحسيني، التي ترى أنه "تم الإجحاف بحق المرأة بعد الإطاحة بالرئيس حسني مبارك في مصر، إذ لم تعط حقها حتى في يومها، يوم الثامن من آذار/مارس، فلم تُنظم مظاهرة تكريماً لها، الأمر الذي سبب إحباطاً في الشارع العربي. فالمرأة شاركت الرجل وأنجحت هذه الثورة، كما أن المضايقات التي تعرضت لها المرأة كانت مخجلة ومحبطة ومحزنة في نفس الوقت.“

غير أن الحسيني اعتبرت في ختام حديثها لدويتشه فيله أن "المرأة العربية وصلت إلى العالمية من خلال نشاطها عبرالشبكة العنكبوتية مثل الفتاة التونسية لينا بن مهني، التي كانت ضيفة على الكثير من الفضائيات العربية ووسائل الإعلام العالمية، ليس لمعرفة مجريات الأحداث في تونس فحسب، بل لمعرفة دور الإعلام الجديد والجيل الجديد من الشباب في تنظيم الثورات ومستقبل البلاد. لقد شاهدنا النساء في الصفوف الأمامية للثورات في كل من مصر وتونس، لذلك لا يمكن إنكار دورهن في المجتمع."





الجمعة، 5 يونيو 2015

قصة قصيرة الغائب معنا -عادل كامل

قصة قصيرة

الغائب معنا



عادل كامل

    جرى السؤال عنه بصيغة غير مباشرة، بل وكأنه ليس هو المقصود، فقال العم انه من الصعب تخيّل وجود كائنات لها مثل هذه الخصائص، أو الصفات، كي تعمل عمل الجراثيم الفتاكة، شديدة الضرر، الأمر الذي يستدعي تتبع مصادر المعلومات، وما إذا كانت صادقة، أم إنها من اجل التنكيل، والتشهير، وإشاعة الفوضى. وقال العم انه لا يستطيع البت بوجود عنصر يحمل المرض، من غير أن يكون مصابا ً به، فقال الآخر إن المعلومات لا يشوبها غبار، أو شك، وهي ليست بحاجة إلى المراجعة، ولا إلى التدقيق.....، وختم كلامه بابتسامة لم تترك أحدا ً في الجناح إلا وظن انه هو المقصود.
  ولكن الأم سألت الجرذ قبل أن يغادر:
ـ لا يسعنا إلا أن نثمن جهودكم....، إنما لم تخبرنا بعلامة ما دالة ....، ومحددة، وإلا كيف سنتعرف عليه...؟
ضحك الجرذ:
ـ ليس باستطاعتي التحدث تماما ً عما يخفي، أو تشخيص ما يدل عليه...، إلا انه يمتلك خواص تلك العناصر القادرة على التحول...، والتمويه.
ـ خواص...؟
صاحت الأم، فقال لها:
ـ شبيهة بمن يرتدي قناع الساحر...، الذي يتوارى خلفه، فضلا ً عن قدراته العجيبة على الاختباء، والتستر، والتلاشي.ـ عجيب.
  وتساءلت الأم:
ـ إذا كنتم تمتلكون هذه المؤشرات عنه، فلم هو طليق؟
ـ لأنه لا يترك إلا أثرا ًيعمل على محو أثره!
ـ انك ـ سيدي ـ تثير مخاوفنا، حد الرعب...، فالقضية تبدو شبيهة بالدسائس، والمؤامرات، وربما بما هو اشد خطورة ... منهما.
ـ تماما ً....، وإلا لماذا تسللنا، ليلا ً، إلى أجنحة الحديقة...، وحدودها النائية، بحثا ً عنه؟
    غادر الجرذ. فعقد الدب العجوز اجتماعا ً حضرته الأم، وعدد من الراشدين، مع ضيوف من الجناح المجاور، وهو جناح الذئاب، فقال كبيرهم:
ـ لا اعتقد إنها قضية عابرة...، أيها الدب الحكيم..
   فرد الدب بصوت متلعثم:
ـ بل اعتقد إنها قضية خطيرة...، فما ذكره لا يثير الحيرة، والبلبلة، والقلق، بل يجعلنا في الواجهة.
ضحك الذئب:
ـ وعلى من نتستر ...، أم أعادونا إلى نظريات المؤامرة، وكأن الشفافية محض وهم؟
ـ سيدي...
وأضافت الأم:
ـ انه تحدث عن كائن شبيه بالموت...، تعرفه تمام المعرفة، ولكنك لا تمتلك قدرة على تحديد موقعه، ومميزاته!
قال كبير الذئاب:
ـ دعينا من الموت...، فكلنا نموت...، فضلا ً عن كراهيتنا للموت، ورائحته!
ـ اعرف...، وإلا هل باستطاعتك تحديد ملامحه...، وقد تسلل إلينا، وراح يبذر جيناته الملغزة فينا، مستثمرا ً سذاجتنا، وسلاستنا، ونوايانا الطيبة..؟
قال الدب العجوز متسائلا ً:
ـ لِم َ لا نتصور هذا كله محض تهديد لنا...، ونحن مازلنا نتعرض  للفتن، والاجتثاث...؟
قال الذئب باستغراب:
ـ نهدد من...، وعلى من نشكل خطرا ً...، وإدارة الحديقة لم تسمح لنا إلا اختيارات واهية...، بل وتركتنا نعيش محرومين منها.
   هز رأسه بلا مبالاة. فقالت الأم:
ـ أنا لم أحبل بشرير...، ولا بفاسد، لا بجاحد ولا بعاص ٍ...، ولم ألد مخلوقا ً يكاد يكون لا مرئيا ً!
أجابها العم:
ـ لم يتركوا أحدا ً لم يتعرفوا عليه...، تاريخه، أمراضه، نزواته، رغباته، هفواته، نواياه، نشاطاته، وكل ما يدور بباله...
تابعت الأم:
ـ حتى المواليد التي مازالت في الأرحام قد تم ترقيمها، وهم يعرفون عنها ما لم نعرف....!
ـ بل هم يعرفون إنني تخليت عن العواء ...
وأضاف كبير الذئاب بصوت خفيض:
ـ وأنا بصدد التحول إلى كلب...، أسوة بتحويل القطط إلى جرذان، وتحويل الثيران إلى ضفادع، والأشجار إلى نباتات معدنية، والنساء إلى رابوتات بلاستيكية..!
صاح احد الغزلان من وراء المشبك الحديدي:
ـ سيدي، سيدي الذئب؟
هرول الذئب باتجاه الغزال:
ـ نعم، عزيزي، ما الذي حدث؟
ـ السيد الفأر يقول إننا نتستر على كائن غريب الأطوار...
ـ الفأر أم الجرذ؟
ـ الظلام لا يسمح بالرؤية، ورائحته أكثر غموضا ً من صوته، فمن ذا يميز بينهما؟
فقال الذئب للغزال:
ـ لا تقلقي...، عودي إلى نومك، فالقضية لا تستدعي الذعر!
ـ سيدي، وهل نقدر أن نغفو وهناك من ينذرك، ويهددك...؟
فسألها:
ـ هل حقا ً تخفون هذا الذي لا نعرف من يكون؛ هذا الذي يمحو أثره ولا يترك إلا أثرا ً ممحوا ً...؟
ـ صراحة....، عثرنا على جدتي ميتة!
ـ أتشكين بأحد...؟
ـ لا....، بل اشك انه قتلها، فهناك آثار مقاومة...
     اقترب العم ـ وهو مدير جناح الدببة غير الرسمي ـ وسألها بصوت متقطع:
ـ هل باحت جدتك بكلمة...؟
ـ لم يسمح لها الموت...، أو ربما هي التي لم تسمح للموت بذلك!
ـ غريب...
فقال العم:
ـ كما قال السيد الذئب عودي إلى النوم...، فلن يمتد الليل إلى الأبد..
ـ سيدي، ومتى تبزغ الشمس، وأنت نفسك أخبرتنا بأنها لن تظهر مادمنا لا نراها؟
ـ آ ...، أنا تحدثت عن العميان! وقلت: كما قال زميلنا الفيلسوف: علينا أن نبتهج بشروق الشمس وليس بغروبها، نحن العميان!
ـ ننتظر؟
ـ لا فارق، لكن البهجة تمتلك قوة تمويهية سحرية تنطلي حتى على المتكلم!
ـ لكننا نكاد نجهل ما الشمس...، لأننا لم نر إلا النجوم البعيدة، ويقال إنها اندثرت منذ زمن بعيد، وفقدت كيانها، وما نراه ليس إلا وهما، حتى لو بدا ساطعا ً!
قال الدب يخاطب الذئب:
ـ المعضلة إن ذلك الجيل راح يعمل ببالغ الدقة، فلا يدع العين تبصر، ولا يدع الشمس تشرق أيضا ً.
صاحت الغزال:
ـ وما مسؤوليتنا نحن وقد ولدنا لنحافظ على ذريتنا من الفساد، والتلف؟
ـ عفيفة! كم أنت عفيفة أيتها الغزال!
 وأضاف الذئب يقول لها:
ـ وأنا اشهد إن جناحكم شبيه بجناح النعاج، والحمام، والأرانب، من أكثرها براءة، وطهرا ً!
هزت رأسها مبتعدة:
ـ لا أنسى هذا الإطراء أبدا ً....، لأنني قلت لسعادة الجرذ: إذا كانت الغزلان تتستر على شرير ـ كهذا ـ فهذا يعني إن الشر قوة تذهب ابعد من الأشرار!
اقترب الذئب وسألها:
ـ تعالي، اقتربي...
وسألها:
ـ إذا كان الشر يمتلك هذه الفعالية فان الأشرار يمتلكون حصانة!
   ولم يدعها تفح فمها:
ـ وإذا كانت لديك قدرة رؤية الخيط الوهمي بينهما فعليك أن تخبري مكتب السيد المدير مباشرة بما تمتلكين من أدلة...، ومعلومات.
ـ اقسم لك...، اقسم لك...، أنا اجهل هذا الحد الفاصل بينهما، فتارة الأشرار هم من يصنع الشر، وتارة الشر هو من يصنع الأشرار، ويرعاهم، فالعملية زئبقية، تماثل تداخل المعادن الأكثر شفافية بالأكثر كثافة، وصلابة، بل تماثل مفهوم الزواج بين أول الخلق ونهايته...! فالقضية لا تسمح لك بالعثور على قفلها...، فكيف ستعثر على مفتاحها؟
ـ ملعون، أيها الغزال، هل أنت ذكر أم أنثى...؟
ـ لا اعرف! وهذه معضلة قررنا معالجتها بعد العثور على هذا الكائن الطريف!
    في جناح الثيران، المجاور لحظيرة الخيول والحمير والبغال، استدعي الجرذ مسؤول الجناح، وراح يراقبه. كان الظلام حالكا ً، باستثناء ما كان يصدر من إشعاعات مجهولة المصدر، فطلب الجرذ من الثور الاقتراب منه:
ـ نعم، سيدي.
    ولم يشرح له شيئا ً عم أسباب الزيارة، بل استفسر عن رأيه بما يجري في جناح النعاج، والضباع، والأسود...، فأكد الثور إن حالة السبات متواصلة، فلا توجد متغيرات، باستثناء ضجة وزقزقات الطيور عند الفجر، وهمهمات أخرى صادرة عن أجنحة التماسيح، وبنات أوى، والنعام.
اقتربت بقرة سمينة بإفراط، وسألت الثور هامسة:
ـ  في هذا الوقت، ما الذي يبحث عنه؟
   رد الجرذ عليها:
ـ كأننا في مستنقع؟
ـ آسفة، آسفة ...سيدي، اعتذر.
   فنهرها الثور، ودفعها بعيدا ً عنه، لكنها اقتربت وقالت للجرذ:
ـ أخشى إنكم جئتم تعترضون على....
ـ على ماذا ...؟  
سألها الجرذ، فأجابت:
ـ على هذا الإفراط في الوزن!
وأضافت:
ـ فنحن في الواقع لا نتناول أكثر من العلف المخصص لنا.
ضحك الجرذ وقال بصوت حاد:
ـ أتسخرين......، وأنا لدي ّ معلومات إنكم تتسترون على...
اقترب الثور وسأله بفزع:
ـ نتستر على ... ماذا؟
   أجاب الجرذ بصوت غامض:
ـ لا رحمة في الأمر...، فالعقوبة ستتجاوز الموت!
فسألته البقرة بذهن شارد:
ـ أقسى من المحرقة؟
ـ قلت أقسى من الموت!
ساد الصمت برهة اثر دوي حدث في جناح آخر، قال الجرذ:
ـ لم نعثر، في جناح العم، على اثر للذي لا يترك أثرا ً.
فقال رئيس الجناح:
ـ  عدا خوار العجول...، فان أصواتها لا تذهب ابعد من أسوار هذه الزريبة...؟
ـ جيد...، لكن القضية لا تخصكم، ولا تخصني، بل إنها شاملة.
ـ آ ...
 تأوه حصان كان قد اقترب منهم، وقال:
ـ اعتقد إنكم تبحثون عن حمار غير ملتزم؟
تنهد الجرذ:
ـ أكمل...
الحمار الذي وجدناه معنا، ليلة أمس الأول، لا نمتلك معلومات عنه...، فهو يرفض الكلام.
ردد الجرذ:
ـ الحمار، الحمار الأبيض، أم البني، أم الوحشي، أم المرقط...، أم، الحزين؟
ـ انه مختلف تماما ً...، سيدي، فما عرفناه إنهم اشتروه بسعر زهيد، لا يساوي فلسا ً، رغم انه بحجم فيل!
ـ آ ...، ما ـ هي ـ مشكلته إذا ً...؟
ـ يرفس! ويضرط...! فلم يبق دابة إلا وبقر بطنها، وآذاها، وأثخنها بالجراح.
ـ مأبون! الحمار... المأبون! دعك من هذا ...، لأننا سنرسله إلى جناح العاطلين عن العمل...
همست البقرة:
ـ عن أي شيء تبحثون إذا ً...؟
همس الجرذ:
ـ عن كائن يتسلل إلى ....، داخل الرأس...، ويدمدم، يملأ الرأس ضجة، لكنها ضجة طبل، ثم يتسرب إلى البدن برمته، وما أن نشدد الخناق عليه، حتى يتبخر!
ضحك الثور:
ـ يتبخر....؟ انك تذكرني بالصقور التي كانت تحمينا من الجراد....، ما أن بدأت العاصفة، حتى تبخرت، ولم نجد أحدا ً منها!
فكر الجرذ بصوت مسموع:
ـ قالت لي السيدة المستشارة: انه شبيه بالحاضر الذي لا تمتلك شيئا ً عنه سوى غيابه، وأحيانا ًهو شبيه بالعنصر الذي يبحث عن آخر ليشكل معه عنصرا ً مختلفا ً له خواص تدع المصاب أن يتوهم أوهاما ً تذهب ابعد من الحقيقة...!
ـ بل إنها هي الحقيقة...
فسألها الجرذ بغضب:
ـ أين هي ...؟
ـ من؟
ـ الحقيقة؟
ـ أنا قلت انك تحدثت عن هذا الذي يذهب ابعد من الوهم...، فقلت: يا بقرة... ما الذي يذهب ابعد من السراب، غير المطر!
صاح الجرذ:
ـ انه هو الكائن المبلل، أو غير اليابس، الجاف...، ولكنه يتميز بالمرونة، والمراوغة، والخداع...، فهو مثل من يرتدي آلاف الأقنعة، لكن حقيقته مختلفة عن أي قناع منها! فهو يقوم بالجريمة بإعلان براءته منها!
ـ عدنا إلى الحقيقة... سيدي!
فسأل البقرة بصوت مرتجف:
ـ للمرة الثانية تنطقين بالحقيقة...، حتى يخيّل إلي ّ انك تتسترين عليها؟
   اقترب الثور من الجرذ، وخاطبه بوقار:
ـ سيدي، هذه بقرة...، مثل أية أتان، أو فأرة...، لا مهمة لها سوى أن تحبل مرة واحدة في العام الواحد! فهي تعد من أغبى الأغبياء...، فلا تعّول على خواطرها! إنها من الكائنات ذات الصوت الأشد قبحا ً من صوت الحمير، فصوتها يماثل أصوات الضفادع، والصراصير، والخنازير....، فهي لم تبلغ سن الرشد في سلم تطور الأنواع...، بعد، وإلا هل سمعت بقضية شبيهة بنقيضها في وقت واحد، سيدي؟
ـ أخشى انك تقصد الحقيقة أيضا ً يا سعادة الثور؟
ـ وهل هناك سواها...؛ تلك التي تراوغ الوهم، التي تعد من اصلب الثوابت، بمرونتها، وحيلها، وزئبقيتها.
ـ ما هي... أرجوك....، فالفجر يقترب...
 قال الثور فجأة:
ـ بل نحن نقترب منه...، لأن الفجر هو شبيه بالحقيقة التي قصدتها ...
ـ لا تسرف..، فأنت بدأت تراوغ...، حتى إنني فكرت أن أرسلك إلى المسلخ....، فقد استوردنا آلة ذبح حديثة
   هاج جسد الثور، مرتجفا ً، مرتجا ً، وراح يتخبط، فأحاطت به الخيول والأبقار والزرافات وامسكوا به. قال بعد أن هدأ:
ـ انك جئت تبحث عن مخلوق لا وجود له....، تارة تقول انه يدعونا إلى رؤية أحوالنا، فما أن نراه، حتى يغيب..، وتارة تقول انه يوسوس فينا، فما أن يظهر، لنمسك به، حتى يغوص في مناطقنا النائية، المجهولة...، فهل أرسلتك السيدة المستشارة لتمتحن ما بلغناه من ارتداد.... وتدهور، وغباء؟
ـ آ ...، كم زل ّ لسانك يا ثور وأنت لم تكمل حتى نصف عبارة؟
ـ لم يزل....، سيدي، فهذه هي تعاليم استقيناها من أحلام الأسود النائمة...، فأنت تعرف إننا نعمل بها...، منذ زمن بعيد....، لكنها غير معلنة!
صرخ الجرذ، وراح يرقص:
ـ وجدتها، وجدتها، وجدتها!
قالت البقرة متندرة:
ـ الحقيقة؟
    شتمها بكلمة نابية، لاذعة، فاحشة، جعل محياها يغدو كوجه البوم لا احد يعرف كيف غدا رمزا ً للحكمة، والحكماء..! فقالت بخجل:
ـ أنت تعرف..
اعترض:
ـ أنا لا اعرف...
ـ ها أنت لا تقول الحقيقة.
ـ قسما ً ... بالذي لا يرد اسمه إلا عند الشدائد، سأرسلك  إلى جناح الزرافات!
ـ أووووه...، ما أسعدني، وأنا اسمع انك ستخلصني من جناح الحمير والثيران..
توارى الجرذ.
 قال الثور للبقرة:
ـ   ما معنى هذا الإسراف...، وهم يتصيدون زلات ضمائرنا الغائبة!
ضحكت البقرة:
ـ يا حمار! عن أية ضمائر تتحدث...، أم انك أيضا ً تتحدث عن الحقيقة...؟
ـ اخرسي.
ونز عليها.
ـ آ .....، الحقيقة إننا سنلد عجولا ً للذبح! كما تلد نساء البشر البنين كي يرسلوهم للموت في الحروب!
فقالت بصوت غير مسموع:
ـ دعني اعترف لك بما رأيت ليلة أمس...، ولا تشوش علي ّ، بعد أن اختلطت علي ّ الحقيقة بالوهم، والوهم بالحقيقة...
ـ وماذا رأيت ...؟
ـ رأيت شابا ً يجرجر امرأة شمطاء انزوى بها خلف شجرة السدر الكبرى وراح يجامعها ..
ـ وما شأنك أنت بالأمر..، حيوان يجامع حيوانة....؟
ـ عندما رأتني السيدة الشمطاء أحدق فيها استنجدت، واستغاثت، بي... فقلت لها: ليس لدي ّ ما افعله...، عدا ضميري! وهو ـ كما تعلمين ـ لا فائدة منه.
ـ وماذا جرى بعد ذلك....؟
ـ راحت تهمس في اذن الشاب: لا تسرع، اسرع، لا تسرع،...
ـ وماذا كنت تفعلين؟
ـ كنت ابحث عنك!
ـ وأين كنت..؟
ـ في زريبة الحمير...
ـ ملعونة...، بل كنت نائما ً معها احلم!
ـ وبماذا كنت تحلم؟
ـ الم تطلبي مني ذلك بقولك: إن لم تجدني  فانا اسمح لك باستدراجي إلى أحلامك في لحظات النوم العميقة؟
ـ هذه ليست هي الحقيقة...؟
  لكنها  قالت:
ـ ثم هرب الشاب...، أما الشمطاء فبدأت تولول: يا الهي.... لماذا تركتني وحيدة...، فسمعها عدد من حراس الحديقة، اقتربوا منها، وما أن رأتهم، حتى استغاثت: من منكم رأى ... بعلي؟  فهجم عليها الأول...، فراحت تتخيل انه تحول إلى ذئب خافت أن يفترسها، ثم هجم الثاني، والثالث...، حتى كاد الفجر يزيح ظلمات الليل.....، آنذاك وجدت الشمطاء جسدها ملقى عند ضفة المستنقع....، فخرج تمساح، وسألها: ماذا تفعلين هنا يا أيتها الملاك؟ فقالت له: أأنا ملاك حقا ً...؟ قال التمساح بصوت رقيق: يا ملاكي! فسألته: ومن أنت...؟ أجاب: أنا جهنم! فهمست في أذنه: أنا أكاد أتجمد بردا ً!
   خار الثور، ونطحها، ليبقر بطنها، ويخرج عجلا ً منها، بدا قويا ً...، فقال للثور:
ـ يا عم...، لا تؤذ أمنا! فالبقرة كالأرض، إن أذيتها محقتك!
ـ لم أؤذيها ...، أسألها.
اختفى العجل. فسأل الثور البقرة:
ـ اعتقد إن سيدنا الجرذ كان يبحث عن ذلك الشاب...، فهو يعمل عمل تلك المعادن الخسيسة، ما أن تمسه أصابع السحرة حتى يتحول إلى ذهب!
ـ لا ...، أنا لا اعتقد...، فانا أرى انه كان يبحث عن تلك السيدة ذات الجسد الملائكي!
ـ هل تتذكريه...؟
ـ الآن .... لا... ، ولكنه كان شفافا ً شبيها ً بغيمة بعوض هائجة بانتظار إعلان التمرد!
ـ يا بقرة...، كأنه كان يبحث عنك! وليس عني...؟
ـ عني...، عني أنا الشبيه بفيل أعمى!
ـ كان علي ّ أن اخبره بأمرك!
ـ أنا لم انو أن أدعو إلى الشر...، فانا كرست حياتي للفضيلة، وقد شهدت أنت بذلك...، فلا تخافي...، فالعجل ولدنا غادرنا كي يلقى مصيره....، وعلينا أن نبحث عنه.
    دخل الجرذ قفص كبير الاسود:
ـ انهض!
ـ ما أنا بناهض!
ـ قلت لك انهض، وإلا ....
ـ وإلا ماذا ...؟
ـ سأرسلك إلى المتحف! واضعك مع الديناصورات...
ـ آ ....، أبهجتني، فانا عندما استنشقت رائحتك عن بعد، قلت: ما ألذ هذا العطر...، لابد أن هناك نبأ ...
ـ عطري؟
صرخ الأسد بصوت مبحوح:
ـ بل جيفتك! يا جرذ المجاري...، لكن، لا تكترث، ففي عالمنا، اختلطت العطور بالروائح النتنة، فنكهة الأفواه الجوف لم تدعنا نميز ما يصدر عن البلابل!
ـ دخت؟
ـ لا احد يقدر عليك....، فأنت مازلت تنتمي إلى عصر ما قبل الطوفان...، لأنك لم تنج من الغرق فحسب، بل عشت لتشهد ما هو أكثر فظاعة، وأكثر مرارة، فمن ذا يستطيع أن يسد أبواب دربك العنيد؟
ـ اسمع يا ....
    خاف الأسد، وارتد متراجعا ً إلى الخلف، لصق جسده بالجدار، بجوار لبؤته النائمة:
ـ أسمعك، سيدي..
ـ أنا كلفت بالبحث عن عنصر غريب الأطوار، شبيه بالجنين الذي يتكون تلقائيا ً، وبعد ولادته، يتوارى...، مثل فضة الفجر ما أن تبصرها حتى تتلاشى، وتغيب...، ومثل كلمات سيدنا المدير، زعيمنا الخالد، ما أن ينطق بها، حتى تضطر لقضاء عمرك كله بانتظار ما ستؤول إليه....
ـ أسمعك جيدا ً ...
ـ هل في نيتكم إعلان التمرد...، تمهيدا ً للعصيان، وإشعال فتيل الثورة...؟
صاح الأسد مذعورا ً:
ـ هل تدعونا إلى ذلك...؟
ـ أنا...، أنا أسألك، لأن علي ّ أن أقدم خلاصة بما رأيت...، إلى الجهات الرسمية.
ـ سيدي...، أنا أعلنت الثورة منذ زمن بعيد...، منذ زمن بعيد جدا ً...، وقد تكلل نصرنا بهذه الهزيمة الميمونة المدونة في أسفار التاريخ، بالبقع الخالية من اللون؛ فهي شبيهة بثورة الديناصورات، كان مصيرها حتميا ً، لتحتل موقعها في المتحف....، أم أرسلوك لتورطنا ...، وتزهو بمكاسب فاسدة؟
ـ هذا يعني انك لست معهم؟
ـ لا!
ـ مع من؟
ـ أنا مع هذا القفص، ومع هذه النائمة التي لا أراها إلا عبر الأحلام!
ـ آ .....، يا لها من نكبة! لا الدب ولا الثور، لا الحمار ولا الغزال، لا التمساح ولا الكركدن، لا ابن أوى ولا القنفذ، لا التيس ولا الكبش، لا الزرافة ولا الضبع، لا الماموث ولا النمر، لا البرغوث ولا البعوض، لا الديدان ولا الحشرات....، ومع ذلك هناك من يعمل عمل المرآة السرية تترك الجميع يحدقون فيها...، فما أن يتعرفوا على أنفسهم حتى تتهاوى المرآة، وتتناثر، ويجن حاملها، ويتبخر من رأى فيها مصيره يتهاوى....، فعلى من تلقي القبض، ومن المسؤول عن الهاوية، وقد وجدت مأواها واختبأت فيه؟
ـ سيدي، اذهب وسلم نفسك للعدالة! فانا اعتقد انك كنت تبحث عن نفسك!
قال الجرذ، لكن بصوت قوي، وحاد:
ـ لا احد يصدق!
ـ إذا كانوا لا يصدقون الحقيقة...، كما هي عليه، بادلتها، وبراهينها، وعلاماتها...، فلم يبق لديهم إلا أن يذهبوا إلى ما هو ابعد منها!
ـ ماذا قصدت...؟
ـ إلى الوهم!
ـ آ ...، فهمت، الآن فهمت.
ـ لا يا سيدي، لم تفهم شيئا ً! ولكنك، منذ ملايين السنين، لم تقدر أن تفهم إلا هذا الذي رأيته في المرآة...، فصار هو دليلك للدرب، والى المعرفة! لأن الأخيرة، سيدي، لن تترك أثرا ً لخطاها في الدرب، فهي لا تمحوه، كما تظن، ولكنها تجيد أن تورطنا بغوايته، وما أن نجد أنفسنا ذهبنا في العمق، عمقها، حتى يجرفنا السطح، سطحها، فلا تجد شيئا ًيدل عليها، أو يدحضها. فالرواية التي يرويها جرذ، أو قنفذ، أو برغوث، ليس من المنتظر أن تكون لها خاتمة، إلا مثل ظل يحّوم فوق المكان الذي لا مهرب منه، كالجنين لن يغادر الظلمات إلا وتراه يتحدث عن البشارة، والضوء....، فتهرول خلفه....، ثم تكتشف، بعد فوات الأوان، انه هو الذي لا يتركنا نذهب ابعد منه، وقد راح يهرول خلفنا، مثل قاتل لا يرتوي أبدا ً إلا بفتح ممرات مستحدثة للمواليد، المواليد التي لا تمتلك إلا ما تمتلكه البذرة: المغادرة! ثم البحث عن ظلمات تخفي فيها وهنها، فترقد فيه بانتظار المغادرة!
ـ من أنت...؟
ـ أنا هو كل من رأيته عبر بحثك عن الجناة....، أنا ضحيتك، أنا ضميرك، مرآتك التي رأيت فيها هذا الذي لا تخمد ناره، إلا بعد أن تكتوي بها، وتحترق، وتصير رمادا ً....!
ـ انك ترسلني إلى المحرقة؟
ـ بل المحرقة تدعوك إليها...، لكن، لا تخف، فبعد زوال هذه الحديقة، بمن فيها، لا تزول مكوناتها، ولا هذا الذي كنت تحاول الإمساك به...، فهو وجد قبل وجودك،  وهو موجود بوجودك، وسيدوم بعد زوالك. لا تخف، فانا هو من تبحث عنه، لكن للأسف، لن ادعك تلقي القبض إلا على هذا الذي ظننت انك أمسكت به، ومحوته!
3/6/2015