الخميس، 4 يونيو 2015

جريمة ضد الحضارة-]د.احسان فتحي


 جريمة ضد الحضارة

Dear Iraqi Architects, Archaeologists and Friends,
-


This is to relay to you the sad but unconfirmed news that the so-called ISIS or "Islamic State" has recently turned its destructive attention to Ashur in Northern Iraq and a World Heritage Site since 2003. The reports, which are not supported by visual evidence, say that the Ziggurat and the arched gate were destroyed presumably by explosives.  It is well known that Ashur site is largely archaeological ( some 5000 years old) and there are no prominent architectural features except the recently reconstructed "Tabira" arched gate. The rest is simply excavated locations in the form of mud brick walls and foundations. There are no 'idolatry' statues whatsoever in the site.  I also find it difficult to imagine the blowing up of a huge earth mountain which is all what remains of the ancient imposing Assyrian ziggurat.

Nevertheless, any damage, no matter how small it is, to an extremely important historic site, is criminal and represents another horrible war crime.  All civilized humanity condemns such incomprehensible action.

Ihsan Fethi
Iraqi Architect and Heritage Expert
May 29th, 2015.
   

بيرنارد راسل في الذكرى الخامسة و الاربعون لوفاته-د. وريا عمر امين

  بيرنارد راسل  في الذكرى الخامسة و الاربعون لوفاته

 Bernard Russell
د. وريا عمر امين
  بيرنارد راسل (1872 – 1970) فيلسوف وعالم منطق ورياضي ومؤرخ وناقد اجتماعي بريطاني. كان ليبرالياً واشتراكياً وداعية سلام قاد الثورة البريطانية ضد المثالية في اوائل القرن العشرين. يعد أحد مؤسسي الفلسفة التحليلية و يعتبر من أهم علماء المنطق و الرياضيات في القرن العشرين. تعد مقالاته الفلسفية نموذجا فكرياً في الفلسفة , ولا زال لعمله أثراً ظاهراً على المنطق و الرياضيات و نظرية المجموعات و اللغويات و الفلسفة و بالتحديد فلسفة اللغة و نظرية المعرفة و الميتافيزيقيا.
كان راسل ناشطاً بارزاً في مناهضة الحرب ومناهضة الامبريالية. سجن بسبب نشاطه الداعي للسلام خلال الحرب العالمية الاولى. قام بحملات ضد الحرب العالمية الثانية وهاجم تورط الولايات المتحدة في حرب فيتنام كما كان من أنصار نزع الاسلحة النووية.
حاز عام 1950 على جائزة نوبل للادب تقديراً لكتاباته المتنوعة والمهمة والتي يدافع فيها عن المثل الإنسانية وحرية الفكر.
من اقواله:
*  الى ان بلغت الاربعين من عمري كان لي عقلا قويا عملت في حقل الرياضيات و حل المشكلات الرياضية المعقدة. بعد الاربعين ضعف عقلي توجهت الى الفلسفة واصبحت فيلسوفا. و عندما بلغت الستين فقدت عقلي تماما و انخرطت في السياسة و اصبحت سياسيا.
* مشكلة العالم أن الأغبياء والمتشددين واثقون بأنفسهم أشد الثقة دائما، أما الحكماء فتملأهم الشكوك.
* الوطنيون دائما ما يتحدثون عن الموت في سبيل بلادهم، لكنهم لا يتحدثون أبدا عن القتل في سبيلها.
* الحرب لا تحدد من هو المصيب، بل تحدد فقط من هو الباقي.
* الحياة ليست إلا منافسة يريد فيها كل منا أن يكون المجرم لا الضحية.
* لن أموت أبداً دفاعاً عن قناعاتي، فقد أكون مخطئاً.
* العلم هو ما تعرف والفلسفة هي ما لا تعرف.
* قد يضع العلم حدودا للمعرفة، لكنه لا يجب أن يضع حدودا للخيال.
* أكثر الجدالات عنفا هي التي تدور حول أمور تافهة ليس لها أدلة جيدة تثبتها أو تنفيها.
* تقرير رجل غبي عما قاله رجل بارع يستحيل أن يكون دقيقا، لأن الغبي يقوم لاإرادياً بترجمة ما يسمعه إلى ما يمكن أن يفهمه.
* هناك دافعان لقراءة كتاب ما: الأول هو الاستمتاع به، والثاني هو التباهي بقراءته.
* الوقت الذي تستمتع بإضاعته ليس وقتا ضائعاً.

الأربعاء، 3 يونيو 2015

لكي لا تضيع ثروة الألحان-خالص عزمي



لكي لا تضيع ثروة الألحان


خالص عزمي


حفل تأريخنا الموسيقي والغنائي باعمال فنية ذات قيمة عالية في روعة التأليف والتلحين وحسن الاداء ؛ الا انها اهملت ومسحت من ذاكرة الاجيال ؛ لاسباب كثيرة اهمها ارتباطها المباشر بمرحلة سياسية معينة من تاريخ العراق المعاصر ؛ او عقائدية ذات توجه ينم عن مرحلة معينة مقبولة في حينها ؛ ومنبوذة في مرحلة لاحقة . 
ايام الدراسة الابتدائية والمتوسطة ؛ كنا نردد كثيرا من الأناشيد ذات العذوبة في اللحن والموسيقى والتي وضعها الافذاذ أكرم رؤوف ؛ وسعيد شابو ؛ وجميل سليم وغيرهم ؛كما في ( لاحت رؤوس الحراب ؛ بلاد العرب اوطاني ؛ يا اوربا لاتغالي ؛ايها الجيش الصغير ... الخ ) 
وحينما كبرنا أخذنا نردد بعض الاغاني العراقية الوطنية لكبار المطربين من امثال عزيز علي ؛ محمد الكبنجي ؛ ( دكتور ؛ السفينة ؛ انا المسيجينة انا ؛ لازم ربك يوم يعدلها ..) فلما منع قسم منها لاسباب سياسية (خلال فترة محددة من الزمن )؛ أخذ النسيان يغلفها في رفوف النبذ التعسفي القسري . بل ان الامر ادى في كثير من الاوقات لمنع المطربين انفسهم من الغناء بسبب النظرة الضيقة لمفهوم جوهر الغناء أتباعا لتلك الرغبةالآنية في تسطيح الوعي السياسي المتخلف لمهمة الفنان . 
وعلى هذا الاساس ؛ فقد ضاعت مئات الالحان التي بذل في اعدادها عشرات الكتاب و الملحنين والمطربين ؛ جهودا مضنية في سبيل ايصالها للجمهور والذائقة النقدية وذلك عبر اكثر من ثمانين عاما من عمر العراق المعاصر . ان هذا الموضوع بالذات ؛ لايقتصر على العراق وحسب ؛ بل ينصرف ويغطي كثيرا من الاقطار العربية ؛ حيث اخذنا نستمع ومن زمن بعيد الى مبررات لاعلاقة لها بقيمة اللحن او الموسيقا ؛ بل ترتبط بمسميات حقبة محددة ما كالقول بان تلك الاغاني او الاناشيد تمثل ؛ الاسرة العلوية في مصر او عهد الملك فاروق ؛ او عهد الملك غازي ؛ او عهد الوحدة ؛ او فترة الاحتلال الفرنسي ؛ او ايام المقاومة ؛ او ثورة العشرين ؛ او ثورة الجزائر .... الخ ) 
ولربما يبهت مثل هذا القول الكثيرين فيستفسرون مستغربين : ( ماذا تريدمنا ان ننشد (عبد الاله ياعظيم الصفات؛ او... والفن مين أنصفوا غير الفاروق ورعاه ؛ او ... ) ؛ واجابتي هي : كلا ثم كلا ؛ ليس الامر كذلك فان بعضها مقبول ومحبذ والآخر مرفوض لارتباط كلماته بشخصانية فردية سياسية ضيقة الافق . على ان الذي اريد الوصول اليه ؛ هو الحل الواقعي والحقيقي للحفاظ على هذا التراث الضخم من الضياع ؛ والعمل على الابقاء عليه كمجهود فني يتوجب التمسك به ؛ كما تفعل كثير من شعوب العالم مع كنوزها الثقافية !! 
قبل ايام كنت استمع الى العملاق ( لوتشيانو بافاروتي) ؛ وهو ينشد مقاطع من اوبرا عايدة ( فيردي ) ؛ و التي كنت قد سمعتها من غيره ايضا وهي تغنى قرب اهرامات مصر الخالدة ؛ فسألت نفسي هل منع أحد انطلاق تلك الاوبرا على ارض مصر بحجة انها تعود الى عهد الخديوي اسماعيل يوم افتتح قناة السويس . او لان اوبريت الحصان الابيض ( رالف بيناتزكي ) تمثل عهد قيصر النمسا فرانس جوزيف ؛ او لان اوبرا ريغوليتو ( فيردي ـ وهي في الاصل الملك يلهو لفكتور هوجو ) لا يجوز سماعها في فرنسا لانها تتحدث عن الملك فرنسوا الاول ؛ او لان اوبرا توسكا ( ياكومو بوتشيني ـ في الاصل رواية فكتوريين ساردو ) لايتوجب مشاهدتها او سماعها في ايطاليا لانها تنال من سمعة الشخصية الايطالية الممثلة ب( سكاريبيا الرهيب ) رئيس البوليس والامن ؛ او لان فيناويات الفالس والبولكا والمارش لمجموعة عائلة شتراوس يتوجب الحجر عليها في النمسا بسبب انتمائها الى العهد الامبراطوري .... الخ ؟!! وهنا رددت على نفسي بالقول ...... ان الامر عندنا يختلف تماما ؛ أذن ماذا يجب علينا ان نفعله تجاه الحفاظ علىثروتنا في الموسيقا والالحان ؟!! بل ماذا عليتا ان نفعل تجاه كل ثروة ثقافية ابداعية انتجتها عقولنا واحاسيسنا ؛ وستنتجها لاحقا ؟!! وبعد تفكير جاد ومرهق وجدت حلا مرجحا يمكن تحقيقه بيسر من خلال اتباع الوسائل العملية التالية : ــ 

تكوين لجنة ثقافية فنية دائمة من المختصين الموسيقيين والملحنين والشعراء والنقاد تتولى جرد جميع نتاجنا الغنائي والموسيقي لمختلف الحقب الزمنية وتسجيله كما هو ؛ ثم تبويبه على اسس علمية تتوزع على انواعه والوانه المختلفة ( المقامات ؛ اطوار الريف ؛ تراتيل الكنائس والاديرة ؛ الانشاد الديني الاسلامي ؛الاغاني الجبلية ؛ اغنيات المدن ...لخ ) لكي يصار بعدئذ تحديد الموقف الفني الحرفي المهني منه بعيدا عن الاجتهادات الفردية او السياسية او الاجتماعية ذات الافق الضيق المتزمت . واقترح لكل ذلك ما يأتي : ــ 
اولا ـ الاحتفاظ به كما هو ذخيرة فنية يمكن الرجوع اليها كصدر في البحث والتسجيل التاريخي . 
ثانيا ـ توزيع ما له قيمة فنية مبتكرة مجددا بصيغة تقربه الى الجمهور كتراث وطني شعبي . 
ثالثا ـ تحويل كلمات الاغاني او الاناشيد غير المرغوب بها سياسيا ؛ الى كلمات عامة تتعلق بالوطن او الوصف التاريخي لحضارته او الجغرافي لطبيعته وما الى ذلك ؛ دون المساس باللحن او الموسيقى . 
فلو أخذنا مثلا نشيد ( عبد الاله .... يا عظيم الصفات يا سليل المكرمات ) فيمكننا تحويل معناه الى 
(العلم ) بتغيير كلمات النص الى ( رمز البلاد .... يا شموخ الاباة يا وريث الملحمات .... ) وهكذا 
رابعا ـ الاحتفاظ بالالحان والموسيقى دونما كلمات لكي يحسن بثها او تداولها من جيل الى جيل . 
خامسا ــ بدءا من منتصف القرن الماضي تقريبا ؛ دأب كثير من الملحنين الكبار في عالمنا العربي على تحفيظ المطربين الحانهم عن طريق التسجيلات الصوتية المختلفة ؛ وانه امر مهم لو التفتت الى هذا العمل الخصب الفني والتجاري بنفس الوقت ؛ واعيد تسجيلها باصوات ملحنيها ( للسماع والحفظ ) ؛ كما فعل العبقري عبد الوهاب في بعض الاغاني ؛ فان ذلك سيشكل ثروة فنية تأريخية ؛ لعل الكثيرين لم يلتفتوا اليها كل تلك الفترة الزمنية الطويلة . 
سادسا ــ الشروع بتدوين ذلك الكم الهائل من الاعمال الفنية ؛ في نوطات موسيقية ( كما وضعت اول مرة ) مصنفة بحسب مؤلفيها كحق مشروع يحافظ على النتاج ومبدعه من الاغفال المتعمد او الجهل الفاضح .ولكي لايقال عن عمل فني معروف بعد فترة من الزمن ( انه من التراث ) تخلصا من الجهل بالمؤلف او الملحن او الامعان في تجاهلهما . 
سابعا ـ بعد الفرز والجمع والتبويب والتصنيف ؛ وما دار حول كل ذلك من بحث وتنقيب في نطاق محاضر الجلسات والاجتماعات ؛ لابد من الاحتفاظ بذخيرة هذا الكنز التراثي في موقع او جناح خاص تابع الى متحف او معرض دائم أسوة بالفنون التشكيلية اوغيرها . 

ان مثل هذا الطرح المكثف ( وغيره كثير ) ؛ سيؤدي الى عدم ضياع ذلك التراث او الخزين السجين في متاهات من العبثية المستهترة باعمال فنية بذل فيها معدوها ومبدعوها جهودا مضنية لكي ترى النور . واليوم أتسآئل ؛ كم من الاغاني والاناشيد والمؤلفات الموسيقية غابت في طي النسيان او الاهمال ؛ في حين كان من الجدير بها ان تبقى حية تعزفها مئات الالات الموسيقية ؛ او ترددها عشرات الحناجر العذبة . وتأكيدا لذلك .... لو عدنا الى الماضي التأريخي السحيق ؛ ألا يحزننا ضياع مئات من الالحان والقطع الموسيقية التي وضعها اجدادنا الفنانون العظام على امتداد الوطن العربي من الاندلس فالشمال الافريقي حتى آخر ذرة من سواحل جزيرة العرب ؟!! اذن لماذا لا نعمل الان بجد على تلافي مثل هذا الامر فنسعى الى تحقيق ما فاتنا في الماضي ... 

لو اتيحت لاي منا جولة في متاحف الفن الموسيقي في الدول المتحضرة او حتى عن طريق الانترنيت ؛ لهالنا ذلك التسجيل الدقيق المبرمج لاعمال فنية واسعة مصنفة على عدة ابواب ؛اما بحسب اللحن او الموسيقا ؛ او تأليف الكلمات ؛ او بحسب المطربين او او قادة الفرق الموسيقية ؛ او الحقبة التأريخية ؛ او المواقع الجغرافية ؛ او اجناس الشعوب او اعراقها ا وثقافاتها وحضاراتها او تقاليدها ... الخ 
كان لي صديق من محبي سماع الاوبرا ؛ اتيحت له فرصة زيارة فينا لاول مرة ؛ فاراد ان يبتاع بعض التسجيلات لاوبرات كان يعشقها ومنها اوبرا عطيل ( فيردي ) ؛ سألني عن الطريقة الصائبة لتحقيق ذلك ؛ فنصحته ان يزور(ضمن مواكب السواح ) دار الاوبرا ليطلع على جوانبها كافة ؛ ثم يتجه بعدئذ منفردا الى جناح ملحق بالبناية يقع على الشارع العام مباشرة فيقتني منه ما يرغب من اهم الاعمال الموسيقية في ( الاوبرا او الاوبريت ) .اتصل بي مساءا وهو في حالة من الخجل قائلا ؛ لقد ذهبت الى جناح العرض فاستقبلتني فتاة ؛ ولماسألتها عن مطلبي ؛ اخذتني جانبا وهي تشير الى خزانة ( كارتات ) طويلة قائلة ؛ كل هذه التسجيلات هي لاوبرا عطيل ؛ وما عليك الا ان تحدد ؛ الفترة الزمنية التي قدمت فيها الحفلة المطلوبة ؛ا والبطل الذي غرد فيها ؛ا والمسرح الذي قدمت عليه ؛ فلدينا مئات التسجيلات منذ اول اصداح لها وحتى آخر حفلة ؛ تعثرت في كلامي وقلت لها تخلصا من المأزق ؛ اريد تسجيلا ( سي دي ) لاخر حفلة ؛ نظرت الى الكومبيوتر ثم اليّ باستغراب وهي تقول ؛ عذرا ان آخر عرض لهذه الاوبرا هو الذي قدمه المغني العالمي الاسباني بلاسيدو دمينجو من على مســــرح ( لاسكالا ) الشهير ؛ ولكن هذه الحفلة بالذات غير كاملة ؛ لان دمينجو ( كما تقول المعلومة التي امامي ) احتبس صوته فجأة و وغادر المسرح لم يستطع اكمال االاوبرا . هنا اعتذرت وانا اسبح بعرق الجهل لا الخجل ؛ وخرجت وانا اقول لنفسي يا لها من امم تعنى باعمالها الفنية وتحرص بكل ما اوتيت من حول على تراثها غير عابئـــة بتغير المكان والزمان ولا ( بالدولة والرجال !!!)؛ ما دامت تلك الاعمال الفنية المصانة قد ضمنت المجد والخلود .


الموسيقار يوهان برامس وإفتتاحيته المأساة ( Tragic overture )-مازن المنصور

الموسيقار يوهان برامس وإفتتاحيته المأساة ( Tragic overture )


مازن المنصور
الموسيقار برامس هو ألماني الآصل ولد في مدينة هامبورغ ، تعلم الموسيقى على يد والده وكان يعزف على آلة الكونترباص ثم أ حترف العزف على آلة البيانو في الرابعة عشر من عمره وكانت أعماله للبيانو تتميزبأيقاعتها الصعبة المعقدة المتداخلة وتتكررالألحان في القطعة الواحدة مما يعطى مؤلفاته طعما فريداً، تمتاز موسيقاه بالروح الرومانتيكية في صيغة كلاسيكية بحته . وقد ا قتبس الكثير من طابع بيتهوفن من ناحية الآستعانة بالأوركسترا لتصوير المشاعر والعواطف . ومن أعماله ( اربع سيمفونيات ، وكونشرتات ، وصوناتات للكمان وا لبيانو ، والكثير من موسيقى الصالون ، وكذلك السيمفونية ا لثانية (ري ميجر ) تصف لمعان الشمس في السماء الزرقاء ، حيث تنعكس ضلا لها على الحقول السندسية الخضراء . وقد سميت بسيمفونية الريف . وكذلك السيمفونية الأولى من مقام ( دو ماينر ) ا لتي سأتحدث عنها، وكذلك أفتتاحية المأساة .

افتتاحية المأساة.

تبدأ الآوركسترا بعزف عنيف وقوي ، وكأنه انذار برفع الستار عن ( المأساة ) يعقبها لحن هاديء يقود إلى جملة عبورية صاعدة في صور صخب متواصل . ويأبى الهدوء إلا أن يعود في لحن تؤديه آلة الفلوت . ثم تصل إلى حوار موسيقي يتخلله نوطات متقطعة تمثل سهام القدر ، يصاحبها نوطات اهتزازية تؤديها الأوتار لتصور جوا من الرهبة والانتضار . ولكن النغمة القوية تراودنا من جديد في صورة ( كريشندو ) ، يتصل بنفس الفكرة الآساسية الهادئة التي تتبادلها آ لة الكلارينيت والشيللو في حوار فلسفي عميق .

في القسم الثاني من الافتتاحية نلمس نوطات متقطعة في شكل ( Pizz ) تؤديها آلة الكمان في خفة . ثم تبدأ عملية توسيع الفكرة الآساسية في أوضاع شتى تنقاد بالتالي إلى لحن جديد ، مشيد على رقصة كلاسيكية تمثل بصيص الأمل ونور الحياة .

اما الفسم الثالث يبدأ بخفوت وتعمق ، فالفلوت والة الباصو يتلازمان في أفكار عاطفية متهادية ، تزداد حميتها حتى تصل إلى الصخب . وقد يلازمها من حين لآخر مقاطع ترديدية ( Canon ) تؤديها الآلات الوترية والخشبية كل منها بدورها . ثم تتبدل النغمات في إيقاع حار ، يمثل الصراع بين الإنسان والقدر . وينتهي الصراع على صوت البوق الذي يعلن السكينة والسلام . حقا انها اقتتاحية تعبر عن الجو المليء بالمأساة .

إ ما السيمفونية الأولى وهي من مقام ( دو ماينر )

فهي على أربعة حركات .

الحركة الأولى : هي ألحان متباطئة تتدرج في السرعة ، فتبدأ المقدمة بجملة موسيقية من طابع رهيب عميق . وكأنها تنذر بعاصفة هوجاء أو مأساة حزينة . تنتقل بعدها إلى اللحنين الأساسيين تتناوبهما الآلات الوترية والهوائية . فالأوتار تعزف ألحان الأمل وا لتفاؤل ، والهوائية تسجل نغمات الحزن والأسى . وهكذا تستمر الألحان في تطورها وتفاعلها حتى نصل إ لى جملة رهيبة تؤديها آلة الشيللو . وقد نلمس في الألحان السريعة فواصل موسيقية وإيقاعات مختلفة ، مشتقة من أ لحان المقدمة . ثم ننتقل إلى مناضرة موسيقية بين اللحنين الأصليين اللذين يتقابلان سويا ، ويتفاعلان طبقا لنظام توسيع الفكرة اللحنية . وتختتم الحركة بجمل صغيرة في إطار ضيق متماسك الآطراف تلقب قي المصطلح الموسيقى بل ( Stretto) .

الحركة الثانية : بطيئة في مبناها ، تمثل بألحانها تبدد الكرب والغيوم . تبدأ الحركة بجملة عاطفية تتعالى بها أصوات الكمان في جو سماوى بديع . وقد تلعب ألة الفلوت دوراً مهماً في الأستجابة إلى لحن الأوتار ثم تعقبها ألة الكلارينيت وكأنه استعراض حافل لمجموعة العازفين ، وتأبى ألة الكمان إلا أن تظهر حلاوة ألحانها في جملة انفرادية دون المجموعة ، يردد صداها آلات الترومبا والكورنو في نغمات خاصة متباعدة . وتنتهي الحركة في جوها الهادىء الباسم ، الذي يصور إزالة اليأس والتشأؤم .

الحركة الثالثة : وهي حركة مرحة رقيقة في أسلوبها ، ومشيدة على ثلاثة ألحان متفاوتة ، فاللحن الأول تعلنه ألة الكلارينيت في صورة بهيجة تمثل السعادة والأمل ، ثم يأتي لحن ثان في نفس المقام ، وكأنه ابتسامة عذبة . أما اللحن الثالث فينطبع بطابع ا لظرف والأشرا ق .


الحركة الرابعة : بدايتها تكون بنغمات بطيئة ،ثم تعقبها نغمات أخرى متهادية ، وبعدها إلى أسرع . فالألحان البطيئة تذكرنا بالحزن وا ليأ س الذي راودنا في الحركة الأولى . وتستمر آ لة الكمان في عزف هذه النغمات الرهيبة حتى تدخل الأبواق بأصواتها الرنانة ، تعقبها آلات الترومبون ، وكأنها تعلن القوم بالانتقال من عالم الأسى إلى عالم مفرح ، وتتوجه أغنية الفرح التي تمثل الظفر والانتصار . ومن الواضح أن برامس ا قتبس هذه ا لنهاية من الحركة الأخيرة من السيمفونية التاسعة لبيتهوفن .
___________________________________________________________________

تأريخ الأغنية السياسية في العراق- حميد البصري

تأريخ الأغنية السياسية في العراق


حميد البصري
قال أحدهم في إحدى الفضائيات العراقية بأنه لاتوجد أغنية سياسية في العراق عدا الأغاني التي كانت تمجد النظام .... الخ .
في الواقع أن أية أغنية تعتبر ، في الجوهر ، سياسية ، حتى العاطفية تعبر عن مفهوم اجتماعي سياسي يجسد العلاقة بين الرجل والمرأة .اما مفهوم الأغنية السياسية فقد ارتبط بالأغنية الوطنية .. الأغنية الثورية .. الأغنية المناضلة .. الأغنية الرافضة ، بعيداً عن أغنية السلطة .. اغنية مديح الحاكم أو الترويج لأفكاره .
عندما نتكلم عن الأغنية السياسية في العراق ، نعني بها المفهوم أعلاه . فقد بدأت تلك الأغاني في النصف الأول من القرن العشرين وكانت بشكل أهازيج (هوسات ) انتشرت في ثورة العشرين وكان مضمونها محرضاً ضد الأستعمار الأنكليزي ومن أجل الحرية والاستقلال ، أما الحانها فكانت عفوية بسيطة .
ثم جاءت أغاني المناضلين في سجون العهد الملكي ، إذ كان المناضلون يؤلفون كلمات تتكلم عن هموم الوطن والحرية ، يلحنون بعضها ألحاناً بسيطة مثل :

السجن ليس لنا نحن الأباة السجن للمجرمين الطغاة

ويركبون البعض الآخر على ألحان شعبية مثل :

يا أمي لا تبك عليّه أنا المناضل يا هنية

أو الحان مأخوذة من أعمال موسيقية عالمية مثل :

لأجل السلام سنزيل الظلام

ونرفع الأعلام للحب واسلام

بعد ثورة تموز عام 1958 التي أسقطت الملكية وأقامت الجمهورية ، ومع الروح الثورية والحرية التي سادت العراق خاصة في السنتين الأولى للثورة ، ظهرت مجموعة من الأغاني السياسية التي الهبت حماس الجماهير العراقية للحفاظ على الثورة ومكتسباتها مثل أغنية ( هربجي ) للفنان الراحل( أحمد الخليل ) .

من تهب أنسام عذبة من الشمال على ضفاف الهور تتفتح قلوب

لو عزف عالناي راعي بالشمال عالربابة يجاوبه راعي الجنوب

هربجي كرد وعرب رمز النضال

وفي بداية الستينات حيث بداية انحسار الديمقراطية والحرية ، انحسرت الأغنية السياسية ثم اختفت مع بدء الأنقلاب الدموي البعثي في العراق عام 1963 ، فعادت الى السرية التامة بين المناضلين التقدميين .
وفي عام 1968 ، وبعد الانفتاح النسبي من السلطة تجاه القوى الديمقراطية ، نشط بعض الفنانين الديمقراطيين بانتاج أغان سياسية دون تمكنهم من تداولها بحرية . وفي عام 1969 ، قدمت الفرقة البصرية أول اوبريت عراقي ( بيادر خير ) من كلمات الشاعر ( علي العضب ) والحان ( حميد البصري ) ، وهو عمل مسرحي غنائي يحكي عن صراع الفلاحين مع الاقطاع واضطرار بعضهم للهجرة الى المدينة .
وفي عام 1970 قدمت الفرقة نفسها الأوبريت الثاني ( المطرقة ) من الحان ( طالب غالي ) الذي جسد معاناة العمال مع أرباب العمل .
بعدها تشكلت فرق صغيرة من الشبيبة الديمقراطية هيأ لها بعض الفنانين اغان سياسية اشتركوا فيها عام 1973 في مهرجان الشبيبة الديمقراطية العالمي في برلين.


في 21 كانون الأول /ديسمبرمن عام 1976 ، وخلال جلسة تشاور ونقاش مع الشاعر المبدع ( زهير الدجيلي ) تم الأتفاق على تأسيس فرقة غنائية مصغرة يكتب كلمات أغانيها الأخ زهير وأقوم انا بتلحينها . وقد اتفقنا على أن يكون مضمون الأغاني غير مباشر ، يتكلم عن حب الوطن والتمسك به وحب الناس مع تضمين مبطن لقضايا شعبنا العراقي والعربي لأننا واثقون من أن السلطة الحاكمة لن تسمح لنا إذا شعرت بمضمون الأغاني ضدها .
وقد أبدع الأخ زهير في ذلك ، فكانت الأغنية الأولى :
تدرون ليش نحب ؟ ... حتى اليحب يعرف يحب الناس
تدرون ليش نحب ؟ ... حتى بعشقنا يلمنا شوق الناس

عشاق هاي الكاع لو شحوا نضل عشاق
نتبادل وياها العمر واشواق وي اشواق
تعطش .. يلمنا الليل عطشانين
تخضر .. يلمنا الصبح فرحانين
عشاق ياخذنا العمر عشاق
واحباب علمنا الوطن شنحب حبينا كا الورد والأكثر القداح
وحبينا أحلى الثمر والأكثر التفاح
لكن محبة الوطن عدنا تضل سلاح
ولو ضاع حب الوطن يا حب يضل له جناح ؟

وفي الوقت الذي كان الأخ زهير يهيئ لنا الأغاني ، اخترت العناصر الغنائية وكانوا أربعة ( فتاتين وشابين ) وبدأت معهم تدريبات مكثفة على الأيقاعات العراقية بآلة ( الدف الكبير ) .
ثم بدأنا التدريب على الأغاني الواحدة تلو الأخرى حتى أكملنا عشر أغنيات منها :
يمر القمر ليلية متعود وينشدني
قلت له حبيبي ضاوي
مثلك يا لمواعدني

قلت له حبيبي الهوا ذاك اليلمنا بديرة
توسعنا كلنا سوا وواحدنا كمرة صغيرة

قلت له حبيبي الوطن والوطن غالي علينا
لو ضاع ياهو بعد يندلنا ويحاجينا

وأغنية (عيني يا قمرية ) – نحبكم – عليناك يا شوق العالي .... وغيرها .
وفي بداية عام 1977 ، قدمنا الحفل الأول للفرقة التي أسميناها ( جماعة تموز للأغنية الجديدة ) لمجموعة كبيرة من الصحفيين في ناديهم . وقد أعجب الجميع بالفرقة وأغانيها ، وكان من بينهم من هو تابع للسلطة لكنهم لم يجدوا ثغرة يستندون عليها لمنعنا من تقديم تلك الأغنيات إضافة الى اعجابهم باسلوب تقديم الفرقة والحان الأغاني .
حميد البصري
ذكرت سابقا عن بداية تأسيس ( جماعة تموز للأغنية الجديدة ) التي قدمت عشر أغنيات سياسية في حفلها الأول كلها من كلمات الشاعر ( زهير الدجيلي ) والحاني وقد ذكرت نماذج منها .
قدمت الفرقة بعد ذلك عدد من الحفلات الجماهيرية في بغداد وبعض المحافظات العراقية ، بالتنسيق غير المباشرمع القوى الديمقراطية واسناد من أحد المسؤولين في السلطة بسبب قناعته المطلقة بالفرقة وما تقدمه . قدمنا أغان جديدة أخرى من ابداع شاعرنا تحث الناس على التكاتف والعمل من اجل حرية الشعب وضد الظلم والمحافظة على الوطن من أعداءه .
حاولنا تسجيل تلك الأغنيات في الإذاعة والتلفزيون دون جدوى . وفي نهاية عام 1978 ، ومع ازدياد الهجمة البربرية من السلطة البعثية على القوى الديمقراطية اضطررنا الى الخروج من العراق . أعدنا تأسيس الفرقة من جديد في ( عدن ) باسم ( فرقة الطريق ) وبدأنا مرحلة جديدة من الأغاني المباشرة ضد النظام القمعي الدكتاتوري في العراق إضافة الى أغان للشعب الفلسطيني


والعربي وأغان انسانية تدعو للسلام والمحبة بين البشر . ومن تلك الأغاني :
ولتبقى يا وطني أكبر والتبقى يا وطني أخضر
بقلوب العمال تجذر بعيون الأطفال تصور
نجماً.. قمراً.. مطراً .. بيدر
ولتبقى يا وطني أبهى من فرح الموسم أو أزهى
إن تهجر غصنك ياوطني أطيار الحب المذعورة
أو تغدو أنهارك عطشى وتبيت عيونك مأسورة
فالعهد سيبقى يا وطني والشعب سيبقى يا وطني
تكتب أمجادك اسطورة
وأغنية أخرى :
لا لا لا لن نترك الفاشست في عراقنا يعبثون
لا لا لا لن يفلت المجرمون
نقسم بالنهرين .. نقسم بالجبال .. نقسم بالسهول
نقسم بالنخيل .. نقسم بالدم الذي يسيل
لا لا لا لن نترك الفاشست في عراقنا يعبثون
وللشعب الفلسطيني ، ومن كلمات الشاعر الفلسطيني ( توفيق زياد) أغنية المستحيل :
أهون ألف مرة .... أن تدخلوا الفيل بثقب أبرة
وأن تصيدوا السمك المشوي في المجرة
اهون ألف مرة ... أن تطفئوا الشمس
أهون ألف مرة ..... أن تحبسوا الرياح
أن تشربوا البحر وأن تنطقوا التمساح
أهون ألف مرة ...
من أن تميتوا باضطهادكم وميض فكرة
وتحرفونا عن طريقنا الذي اخترناه ... قيد شعرة
ولكسب تضامن الشرفاء مع شعبنا هذه الأغنية :
إننا لا نرهب الموت ولكن ..
يا جميع الشرفاء .. يا جميع الأصدقاء
ارفعوا أصواتكم من أجل شعبي
إننا نطلب من أعماقكم صيحة حب ورصاصة

يا جميع الشرفاء .. يا جميع الأصدقاء
ارفعوا أصواتكم من أجل شعبي
إن أيدي المجرمين القتلة ... مثل آلاف الأفاعي
زحفت تشحذ حد المقصلة
فاصرخوا بالقتلة
وكانت بعض الأغنيات حزبية تشيد بنضال الرفاق ضد السلطة الدكتاتورية وصمودهم في السجون . وكنا نسجل تلك الأغاني ونبعثها الى العراق ليتداولها المناضلون سراً .

إن اول انتشار واسع لأغاني ( فرقة الطريق ) السياسية كان في أوائل الثمانينات من القرن الماضي عندما قدمت الفرقة أكثر من ثلاثين حفلاً جماهيرياً في لبنان للمقاومة اللبنانية والفلسطينية ، وبعد ان سجلت أكثر من عشرين أغتية في تلفزيون دمشق .
ثم توالت حفلات الفرقة في سوريا حيث كنا ندعى سنوياً الى دمشق لتسجيل أغان جديدة وتقديم حفلات جماهيرية ،وقد ضمت أغنات عن صمود الشعب اللبناني والفلسطيني والسوري بالإضافة الى اغنيات عن الواقع العراقي . ومن تلك الأغنيات :
حصار بيروت
بيروت ... بيروت .. يا ارض الرجولة والفداء وخندق الشعب الفريد

لهفي على الأطفال يلتفتوا كالطير الطريد
ذبحتهم النتفجرات من الريد الى الوريد
يا ناكر الأفراح قلها يا حقود
مازال في الأرحام أطفال لهم فجر جديد
فاضرب .. فلن يفنوا .. فهل يفنى الوجود
شدد حصارك إن بيروت البطولة لا تبيد
للسنا نخاف الطائرات ولا المدافع والجنود

وأغنية أخرى عن مجزرة صبرا :
امنحيني الصبر يا صبرا امنحيني
واجعلي الشمس تضيء الآن في شكل حزين
واعلنيها للورى أنه مهما فعلوا
لن تخضعي لا لن تليني
واكتبي أسماء من قتلوهم فيك يا صبرا على كل جبين

ولفلسطين أغنية ( كفر قاسم ) :
يوم قالوا سقطوا قتلى وجرحى ما بكيت
قلت فوج آخر يمضي ومن بيت لبيت

وأنا يا كفر قاسم
أنا لا أنشد للموت ولكن
ليد ظلت تقاوم

والذي في القلب ومن جيل لجيل
املأ الدنيا هتافاً لا يساوم
كفر قاسم
دمك المهدور مازال
وما زلنا نقاوم

وللحرية التي يتطلع لها شعبنا هذه الأغنية :
على أجساد المحرومين... عالعذبوهم بالتيار
عاللي ماتوا مصلوبين .. عاللي بدمهم رسموا ورردة
عالحيطان الصخرية ... نكتب اسمك حرية

عالبيبان أكتب اسمك .. ع الرحلة وعالكراسات
عالبيبان أكتب اسمك.. ع المي وأشجار الغابات
على خارطة الممنوعات .. ع الكون وكل القارات
على آسيا .. وافريقيا .. وامريكا الللاتينية
على ألأرض العربية
نكتب اسمك حرية

ا ستمرت الفرقة بانتاج الأغاني التي تواكب الأحداث في الوطن العراقي والعربي ، تشد من أزر العراقيين في الداخل لمقاومة دكتاتورية النظام البعثي وتذكر العراقيين في الخارج بضرورة الالتصاق بوطنهم والعمل ، كل من مكانه وبامكانياته ، في سبيل الخلاص من ذلك النظام البغيض . استمرت انتاجاتنا وانحسرت امكانية تسجيلها في وسائل الإعلام العربية لحين سقوط النظام في ابريل 2003 .

إذا استعرضنا أغانينا السياسية ، نجد القليل منها عفوياً ، مؤلفها وملحنها مجهول ، كما في الأهازيج ( الهوسات ) التي ظهرت في ثورة العشرين لتمجيد نضال الشعب العراقي وتحريضه على مقاومة الاستعمار البريطاني . أما أغاني السجون في العهد الملكي ، فلم يوثق لحد الآن مؤلفها أو ملحنها .
بعد ثورة تموز عام 1958 ، نشط فنانون في انتاج أغان تمجد الثورة ونضال الشعب العراقي فمنهم من تمكن من تسجيل تلك الأغاني في الاذاعة مثل الفنان ( أحمد الخليل ) والمونولوجست ( فاضل رشيد ) . وهناك فنانون لم يتمكنوا من إيصال نتاجاتهم الى الاذاعة .
بعد انتكاسة ثورة تموز ، حوصرت الأغنية السياسية ومنتجيها من الشعراء والملحنين الذين كانوا من الشيوعيين واصدقاؤهم فقط ، واؤكد على كلمة فقط لأن هذه هي الحقيقة ،مما جعل كثير من تلك الأغنيات حزبية مباشرة يتداولها الحزبيون فقط . ولم يكن للأطراف الأخرى مبدعون للأغنية السياسية .
في بداية السبعينات من القرن العشرين ، وبعد الانفتاح النسبي للسلطة على القوى الديمقراطية ، بدات الأغنية السياسية تظهر من جديد ، وظهر فنانون لتلك الأغنيات منهم الفنان ( طالب غالي ) و ( طارق الشبلي ) في البصرة و الفنان ( جعفرحسن ) في بغداد . ومن أغنيات الفنان ( طالب غالي ) والتي اشتهرت كثيراً في المهرجان العالمي للشبيبة الديمقراطية العاشرفي ( برلين ) هي أغنية ( يا شبيبة توحدي ) :
يا شبيبة توحدي لاجل النضال
وابني مستقبل بلدنا من الجنوب للشمال
وابني من صرح البطولة
وطن لعيون الطفولة ...... لا حروب ... لا قتال
يا شبيبة توحدي
اسأل التاريخ عنا ... يحجي عن التضحيات
عالجسر مكتوب اسمنا .. بثورة الحي والفرات
قلب واحد .. وايد وحدة .. من الجنوب للشمال
يا شبيبة توحدي

وللفنان ( طارق الشبلي ) أغنبة مكبعه التي تجسد نظال المرأة العراقية :
مكبعة ورحت أمشي يمه بالدرابين الفقيرة
وسط في وشمس يمه وآنه من ديرة على ديرة
وزعت كل المناشير وخبرهم
ومن مشيت عيوني ما تيهت دربهم
سلمتهم آخر أعداد الجريدة

بلغتهم باجر الحيطان تحجي بالشعار اللي نريده
بلغتهم باجر الما يدري يدري يهتف وينشر قصيدة
باجر عيون الرفاكة تصير كمرة
باجر زنود الرفاكة زنود سمرة

وللفنان ( جعفر حسن ) العديد من الأغنيات ، أغلبها عن الطبقة العاملة ، ومنها أغنية ( أبو علي )
اليمشي بدربنا شيشوف .. يا بو علي
لو موت لو سعادة
واحنا دربنا معروف ... يابو علي
والوفه عدنا عادة
ولو طاحت الكاع بضيم .. نصعد على اجتاف الغيم
نمطر وفه وسعادة .. يا بو علي

ثم ظهر الفنان ( سامي كمال ) . ومن أغانيه ( صويحب ) وهي من كلمات شاعرنا الكبير ( مظفر النواب ) :
ميلن لا تنقطن كحل فوق الدم
ميلن وردة الخزامة تنقط دم
جرح صويحب بعطابة ما يلتم
لا تفرح بدمنا لا يا الاقطاعي
صويحب من يموت المنجل يداعي

وللفنان الراحل ( كمال السيد ) مجموعة من الأغنيات منها :
دقوا الأبواب على بغداد المنذورة
دقوا الأبواب على بغداد المغدورة
وافتحوا للدم الدرب ... خلوا الدم يساقي
تنزرع الأرض أبطال ... بنضالك يا عراقي

وللفنان (كوكب حمزة ) اغنيتان الأولى عن أطفال العالم والثانية عن نضال الشعب التشيلي .


توالت الأغنيات السياسية من هؤلاء الفنانون التي كانت تقدم في الحفلات الحزبية فقط دون التمكن من ايصالها الى الإذاعة . وبعد اشتداد الهجمة من السلطة على القوى الديمقراطية في النصف الثاني من السبعينات ، خرج هؤلاء الفنانون ، كما نحن ، الى خارج الوطن ، وكان تجمعهم في ( عدن ) عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطيةعدا ( كوكب حمزة ) مضافاً لنا الفنان ( فؤاد سالم ) .
فسحت لنا جميعاً ( اليمن ) بانتاج أغان سياسية مباشرة ضد النظام وغير مباشرة . تواصل انتاج العشرات من تلك الأغنيات خاصة بعد سفر الكثير من الفنانين الى لبنان ثم سوريا وتقديم الأغاني السياسية المتعددة المضامين حول العراق وفلسطين ونضال شعوب العالم نحو الحرية والديمقراطية .
استمر الفنانون المذكورون بانتاج الأغاني السياسية ، أضيف لهم الفنان ( فلاح صبار ) ، عدا البعض الذي قل انتاجه أو جفت قريحته أوترك الأغنية السياسية ، استمروا بالإنتاج حتى بعد سقوط النظام الدكتاتوري والى الآن .
فبعد هذا الاستعراض للكم الكبير من الأغاني السياسية ، هل يمكن لأحد ان ينكر على الفنانين ذلك الإبداع المتواصل للأغنية السياسية في العراق ؟ علماً بأني ذكرت نماذج قليلة فقط من تلك الأغنيات التي ما زالت محفورة في ذاكرة الشعب العراقي .، وعذراً للفنانين على ما أغفلته أو نسيته أو لم أعلمه ووجب ذكره .

الجمعة، 29 مايو 2015

قصة قصيرة اقتضى حضوركم!-عادل كامل

 قصة قصيرة

اقتضى حضوركم!

عادل كامل

     اقترب الغراب من النمر كثيرا ً وهمس في أذنه بصوت خفيض جدا ً، انه اقتضى حضوره إلى مكتب مكافحة الضوضاء، في تمام الساعة التاسعة صباحا ً. ففكر النمر برهة وسأل الغراب:
ـ أي بعد ساعتين...؟
ـ تماما ً.
    ولم يجد النمر لديه رغبة للاستفسار، أو معرفة الأسباب، ليس لأن التبليغ بحد ذاته غير قابل للنقاش، بل لأنه، منذ أسابيع، بل وأشهر، شعر أن أيامه بلغت ذروتها، وقد كتم الأمر، ليمضي الوقت وحيدا ، بعد أن اتخذ قرارا ً بتجنب التفكير، وما شابه، كالتذكر، والاستعادة.
      خفض رأسه وتركه يستقر فوق الأرض، بانتظار مرور الوقت. فلم ينشغل بالنظر ابعد من قضبان قفصه، بل وكف حتى عن النظر في الفضاء المحيط به، وقد ضاق، غير آسف انه قد يكون ارتكب هفوة، أو زل لسانه بكلمة، أو أبدى رأيا ً، أو حزن، أو لم يتناول طعامه بحسب المواعيد المقررة، أو لأي سبب آخر من الأسباب....، فهو ـ دار بباله ـ ليس لديه ما يعترض عليه، أو يؤيده، لا ما يحتج عليه ولا ما يدعوه له، الأمر الذي جعله يفكر بان احد أحفاده جادله في أمر لم يخطر بباله منذ ولادته في الغابة، قبل أكثر من نصف قرن، فقد سأله هل حقا ً إن وجودهم في الحديقة، أو في أية حديقة أخرى، يماثل عدمه؟ فتساءل الجد بشرود:
ـ لم افهم...؟
فقال حفيده له ما دمت الغابة قد سلبت منهم، وتم الاستيلاء عليها، فان وجودها وعدمه ينتهيان نهاية واحدة.
اقترب حفيده منه:
ـ أنا سمعت ما قاله الغراب...؟
   فرد بلا مبالاة:
ـ ربما سيتاح لي.....، هناك، قول ما ... لم ... اقله!
   وسكت. لأنه لم يجد أية ضرورة لأشغال ذهن حفيده بما أراد الاعتراف به، فقال الآخر:
ـ يبدو لي انك لا ترغب أن أشاركك همومك، أو ربما مازالت تعتقد بأنني لم انضج بعد!
   رفع النمر رأسه قليلا ً:
ـ المشكلة يا ولدي هي ذاتها التي كانت قد وجدت قبل وجودنا...، وأنا الآن أود أن استمتع بتنفس ما تبقى من الهواء، رغم انه أصبح خانقا ً، بل وضارا ً.
ـ المشكلة كامنة في الهواء إذا ً...؟
ـ ليست في الهواء أو في الماء أو في هذه الأقفاص...، بل لأنه إن كانت هناك مشكلة أو لم تكن فان أحدا ً لا يستطيع أن يذهب ابعد منها!
ـ آ ....، عدت إلى السؤال الذي أخبرتني بإهماله...، لماذا مكثنا نستبسل بالبقاء على ما نحن عليه، حد الموت؟  وأنا سألتك: كل وسائل التقدم متوفرة، من الهواء إلى الماء، ومن الأرض إلى الغابات، ومن المعادن إلى النار....، إلى المخلوقات المتنوعة المهارات...، ومع ذلك نمضي حياتنا نكافح حد الهلاك من اجل الحفاظ على أقفاصنا، زرائبنا، حظائرنا، جحورنا، ومستنقعاتنا.....؟
ـ وماذا قلت لك ...؟
ـ قلت لي: أغلق فمك، فأنت مازالت صبيا ً.
ابتسم الجد:
ـ والآن اكرر: لا تدع فمك يعمل بمعزل عن ....
    ضحك الحفيد:
ـ ولكنك تعرف إننا لا نمتلك شيئا ً آخر غير هذه الأفواه....، وغير هذه الأصوات، فأما ننبح أو  نعوي، وأما نجأر أو ننعب أو ننهق...!
ـ لا ....، فهناك ...ما ...
وأشار إلى رأسه، متابعا ً:
ـ اعرف ... اعرف، ولكني فكرت إننا لا نستخدم إلا نسبة ضئيلة مما في هذه الرؤوس....، فانا سبق وسألت نفسي: لماذا وجدت هذه العقول....، وماذا لو عملنا درجة إضافية بها...، وما الذي يحصل لو عملنا بما تمتلك من إمكانيات متوفرة فيها...؟
ـ آ .....، صحيح، كأنها كانت تعمل، في يوم ما، مائة بالمائة! ثم حصل التدهور...، وإلا ما معنى إننا لا ندعها تعمل بطاقتها ...؟
ـ لا أعرف..!
    فكر الجد بصوت مسموع:
ـ أنا أيضا ً أضعت حياتي في هذه السفاسف، والهمهمات، والدندنات، والأسئلة!
ـ آ ...، يا جدي، تكلم...، أود الاستماع إليك ...، وأنت ...تتحرر... من ... الخوف.
   ربما لأنه شعر انه لم يعد لديه ما يخشاه، أو يتوقعه، أو ينتظره، تابع مع مسحة من المرح، واللامبالاة الكدرة:
ـ اقترب مني ..
اقترب:
ـ ليس لدي ّ ما أبوح به لك...، عدا، كيف تنجو....، ففي الغابة  كان أسلافك، لملايين السنين، عرفوا كيف يتخلصوا من المطاردين، والصيادين، والأشرار.....، فقاوموا الإبادة، والاجتثاث...، ولكن الأمر اختلف ـ في هذه الحديقة ـ تماما ً، فبعد أن نهبوا غاباتنا، واستولوا على أراضينا، ومواردنا، ووضعونا في هذه الأقفاص، فليس لدينا ما نفعله، عدا تعلم طرق أخرى للدفاع عن النفس!
ـ وهذا ما يفعله الأشرار أيضا ً...، أسرونا، وها هم يكللون نصرهم بالحفاظ علينا من الاندثار، ومن الزوال!
ـ لا اعرف!
   مرت دقيقة صمت، فسأل الحفيد جده:
ـ أظنك كنت تريد أن توصيني....، ثم، تراجعت، وقلت لي: حذار أن تفتح فمك، وتعوي!
ـ ربما الأصوات مثال على ما ستؤول إليه المقدمات!
ـ زوال هذه الحديقة؟
ـ بل وزوال السماء ذاتها، بمجراتها، ونجومها، وكواكبها،  لتتخذ هيئات أخرى غير هذه التي ظهرت في زمننا....!
ـ ما الحكمة من ذلك؟
ـ هذا ما كنت أود أن أخبرك به: فكر أن لا تفكر! ففي هذه الحديقة، ما أن تفكر، حتى يستدعوك....
ـ آ ....، ولهذا استدعوك، يا جدي العزيز...؟
ـ حتى هذه اللحظات، اجهل السبب...، ولكن ماداموا استدعوني، فالأمر لا يدعوا إلى التشاؤم...، والقنوط، والجزع....! وإلا لكان مصيري انتهى....، كمصير جدتك! وليمة للعاطلين عن العمل!
   رفع الحفيد صوته:
ـ ألا ترى إن المعضلة تكمن هنا...؟
ـ لا تشغل رأسك...، فكما قلت لك: فكر أن لا تفكر، من اجل خلاصك. فان لم تنج، أكلوك، ومحوك من هذا الحديقة!
ضحك الحفيد:
ـ وأنت أمضيت حياتك لا تفكر إلا بالنجاة...، ثم، هذه هي النهاية، لم تنج!
ـ هذا ما جعلني أغلق فمي: فمادامت الطرق كلها تحافظ على المعادلة ذاتها فان عقلي يبقى منشغلا ً بـ: لماذا لا يعمل مائة بالمائة..؟
ـ قبل قليل قلت لي: أمضيت حياتك كي لا يعمل هذا العقل  إلا وكأنه أدى واجبه! وها أنت تقول العكس...؟
ـ لم اقل العكس....، بل تساءلت لماذا لدينا عقول أفضل منا، اقصد العقول التي تأبى العمل.. ؟
ـ تقصد: لماذا لا ندعها تعمل بما تمتلك من قدرات حقيقية للعمل...؟
ـ هذه هي المعضلة.
ـ لا ...، أنا اختلف معك، يا جدي، فالمعضلة لا تكمن هنا ...
ـ أسكت! لا تجدف....، الم أخبرك: تعلم فن أن تبدو لا تفهم شيئا ً. الم أخبرك: مع الأغبياء كن أشدهم غباء ً ومع الأذكياء اخف حتى فمك! فإذا كان الصمت من ذهب فان الكلام ليس سوى تراب!
ـ آ ....، كي امضي عمري وأنا لا انتظر إلا  من يستدعيني قبيل الموت...؟
ـ هذا إذا سمحوا لك أن تحافظ على صمتك!
ـ آ ...، ربما استدعوك لأنك تكلمت؟
ـ بل ولم أفكر حتى بصمت!
ـ ربما وشى بك احدهم؟
ـ أنا لم اعد أشكل خطرا ً على احد، ولا حتى على نفسي...، فمن ذا يوشي بكائن فائض...؟
ـ ربما أصابعك، أو لسانك، أو ذيلك..؟ فأنت امتنعت عن أداء دورك في السيرك، ولم تعد تلعب مع اللاعبين...؟
ـ أنا هرمت ...، وأصبحت هزأة...، فلماذا أوشي بنفسي، وافضحها...، ثم ما الذي اكسبه من هذه الوشاية؟
ـ مادمت لم تمت، فأنت مشبوه؟
ـ اعرف...، في هذه الدنيا، غير مسموح لك ...، أو بالأحرى...، لا اعرف....، ربما  وجدت هكذا ....، مسموح لك أن تحلم،  أو أن تتوهم انك تحلم، لكن غير مسموح لك إلا أن تتوهم وهمك كأنه هو وحده ضد الوهم!  فالضفادع ولدت كي تهلك في مستنقعها، مثل هذا الغراب الذي يعمل في مكتب مكافحة الضوضاء...
ـ لا تحزن يا جدي، فلن ادعهم يؤذوك...
ضحك الجد:
ـ إلا إذا عملت في إمرة احد الذئاب، أو الكلاب، أو مع بنات أوى...
ـ بل سأعمل مع البعوض، والقمل، والبرغوث...
ـ ماذا قلت...؟
ـ فهؤلاء...، يا جدي، هم أعداء العاطلين عن العمل، لان عملهم هو امتصاص دمائهم...، مثلما يشكلون تهديدا ً أبديا ً لهم، فهم وحدهم يقدرون على إعلان التمرد، والعصيان، والثورة....!
ـ الثورة...؟ يا مجنون...، وكل أسلحة الدنيا لديهم، مع الثروات، والموارد، والشاشات، والمراوغات...،  فلم يبقوا لنا إلا أن نولد لنموت...، ونموت لنولد، ولكن من اجلهم!
ـ آ ....، مع أن عقولهم لا تعمل إلا بنسبة ضئيلة، حتى الحمير لديها أدمغة تعمل أفضل منهم!
ـ وهذه معضلة أخرى...، فماذا لو عملت عقولهم درجة أخرى....، فأنهم سيستولون على السماوات وعلى ما هو ابعد منها!
ـ آ .....، الآن فهمت لماذا أمضيت حياتك مع جدتي في ركن قصي، بعيد، لا يراك احد ولا ترى أحدا ً منهم....
ـ وهذه هي الحصيلة...، لم أغلق فمي، لأنني لم امتعض!
ـ ولكنك لم تفتح فمك، ولم تدع عقلك يعمل، مكتفيا ً بالرقص!
ـ ومتى رقصت يا ابن....؟
ـ مع جدتي...، أنا رأيتك، رقصت معها...، وتكلمت معها، قبل أن يتم اختطافها، ويذهبون بها أسيرة، ثم، أصبحت وليمة للعاطلين عن العمل.
    هز الجد رأسه، وهو يشاهد الغراب يقترب منهما:
ـ آن لك ... أن تغادر.
 نظر الجد بأسى في محيا حفيده:
ـ هكذا العمر ذهب ومعه ماضيه، ومعه مستقبله أيضا ً!
     همس الحفيد في أذن جده:
ـ لن ندعهم يؤذوك...، فالثورة قادمة!
سمع الجد الغراب يخاطبه:
ـ تكفي عقوبة الموت...، فلا  تضاعفها؟
ضحك الجد:
ـ وماذا بعد الموت...؟
رد الغراب بصوت جاف:
ـ لولا ما بعد الموت لعم الخراب هذه الأرض وفسدت حدائقها!
    فسأل الحفيد الغراب:
ـ من خولك أن تهدد جدي...، وتفزعه؟
ـ أنا لم اهدده، ولم انذره، ولم أفزعه...، بل أخبرته بما سيحصل له.
    خاطب الجد حفيده:
ـ لا علاقة للسيد الغراب بما حصل...، وبما يحصل، فلا احد يستطيع أن يحدد من المسؤول...
     في صالة المؤسسة العامة لمكافحة الضوضاء، طلب من النمر الجلوس، فقد أمره جرذ بذلك، واخبره بضرورة أن لا يفتح فمه، وألا يتذمر، أو يحزن، وان لا يظهر خوفا ً أو أسى على محياه، فالقضية جد عادية، وستنتهي حال إجراء التحقيق فيها.  فهز النمر رأسه، وراح يراقب بصمت تام: دخل ثور....، ولم يخرج.  ودخلت ظبية، هي الأخرى، لم تغادر.  فقرر النمر الامتناع عن التفكير، مكتفيا ً بالمراقبة، كأنه يشاهد فلما ً أو برنامجا ً وثائقيا ً. فدخل تمساح ولكنه لم يتأخر كثيرا ً ليخرج يتلوى مثل أفعى، أعقبه دب، ولم يمكث إلا قليلا ً، ليخرج بجناحين شفافين، فصاح الجرد بصوت غاضب:
ـ أين أنت أيها الكلب!
   نظر النمر إلى الخلف، فلم ير إلا أتانا ً جاثمة بجواره، تصدر عنها رائحة روث، فقال لها:
ـ ربما قصدك؟

ـ لا اعرف...، فانا حمارة بنت حمار وصولا ً إلى جدي الأعظم ....، كلنا ولدنا بطاعة مديرنا ...، والولاء له....، وسنموت بأوامره أيضا ً.
هز رأسه:
ـ  نحن ولدنا نمورا ً...، وهؤلاء ولدوا حشرات، وسواهم ديدانا ً تزحف، وأخرى تحّوم، وهناك من لم يولد بعد....، وهناك من لن يرى النور أبدا ً، مع انه مذكور في سجلات الوفيات والولادة، وليس في سجلات الولادة والوفيات!
اندهشت الأتان:
ـ هل هناك من لم يمت بعد...؟
فكر مع نفسه، قد يكون تفوه بكلمة محرمة، ضارة، أو تجاوز حدود المسموح به...، فهو لا يتذكر ـ حتى عندما اجبروه على مشاهدة كيف تم افتراس زوجته أمام ناظريه ـ انه نبس ببنت شفة أو صدرت عنه إشارة، بل قال لنفسه: إن لم تمت اليوم فلن يتأخر موتها كثيرا ً....، وأضاف بصمت تام: ولكنني لم اصفق، ولم ابتهج!
قالت الأتان:
ـ المشكلة إن كل ما نفعله لا يرضي سيدنا المدير....، وقائدنا الخالد....؟
ـ ولن يرضى...، لأن المعضلة خارج نطاق صلاحياته..!
ـ اعرف...، قسما ً  بالفصول، والعناصر، والخرافات، والحقائق....، اعرف ذلك، لأنني لو كنت ولدت لبؤة لكان مصيري أكثر تعاسة!
ضحك النمر:
ـ وماذا لو كنت ولدت ديناصورا ً ...؟
ـ لكانوا وضعوني في المتحف!
ـ هذه هي اللعبة...؛ أنا قلت لحفيدي: لو كنت ولدت حمامة فمن يخلصك من مخالب الصقور...، أو من بنادق الأشرار....، أو من الأفاعي؟
ـ آ ....، لو كنت ولدت دغلا ً، أو شجرة، أو شوكا ً...
ـ سيان...، فلكل طريدة مطارد....، ولكل قوي أقوى منه...، ولكل منتصر خيبة، فالهزيمة وحدها هي المؤجلة!
ـ ماذا قلت...؟
ـ آ ...، آسف، أنا لم افتح فمي أبدا ً، المشكلة إن بعضا ً من خلايا هذا الرأس تعمل بوقاحة!
صاح الجرذ بصوت حاد، وغاضب جدا ً:
ـ يا حمارة، يا فأرة...، الم تسمعيني؟
ـ لا!
ـ أترغبين أن أرسلك إلى المحرقة، أم إلى الذئاب، أترغبين أن أرسلك إلى السرداب أم إلى الضباع...، أم أعيدك إلى مستنقعك...؟
ـ وماذا افعل في المستنقع؟
ـ كي تصبحين وليمة للتماسيح!
ـ ما يقرره سيدنا المدير هو الصواب!
اقترب الجرذ منها كثيرا ً:
ـ لن أخلصك بالموت وأسعدك به...!
ـ ماذا فعلت...، سيدي، وأنا أتان حملت أثقالكم طوال الزمن...، كي أعاقب بما هو اشد من الموت؟
ـ سأعاقبك بالرحمة....، سأرسلك إلى حظيرة الخيول..
ـ ستعيدني كي أمارس أقدم مهنة عرفتها حدائقنا؛ البغاء...، آ ...، وسأصبح مومسا ً، جميل منك أيها الجرذ أن ترحمنا...، لا أن ترسلنا إلى الزرافات، أو إلى الكلاب!      
   فسألها بشرود:
ـ أراك سعيدة؟
ضحكت الأتان:
ـ اليوم رأيت ما لم أره طوال حياتي...، رأيت تمساحا ً يخرج من الماء ويجامع إحدى الزائرات عند ضفة البركة....
ـ ولم يفترسها؟
ـ لا ....، بل رأيته منتشيا ً مسرورا ً وهو يمسك بها من الأعلى إلى الأسفل...، وعندما قذف صرح بلذّة صرخة أفزعت سكان المستنقع أجمعين!
ـ آ ....، سنستدعيه، فهذا يعد خروجا ً على العدالة، والدستور، والقانون...
قالت الأتان:
ـ ما هو ذنب المسكين...، الذنب هو ذنب السيدة التي كشفت عن مفاتنها، وأغوته...، لأنها كانت قد فعلت ذلك مع احد الدلافين، ثم مع كبير التماسيح، حتى إنها تأوهت وباحت بالرموز المقدسة! فقال لها التمساح: لا فائدة من ذكر هذه الأسماء، خارج نطاق العبادة. فهمست في أذنه: اسكت، وماذا فعلنا...؟
دار بخلد النمر العجوز: ويطلبون مني أن أغلق فمي وهو الباب الوحيد الذي وجد ليبقى مشرعا ً.
ضحك الجرذ وسأله:
ـ فمك هذا لم يعد بابا ً...، بل صار شقا ً غير قابل للغلق، وصار حفرة من المستحيل ردمها!
قهقه النمر:
ـ حتى أنت تخاف من الكلمات...، بعد أن صارت عتيقة، بالية، ولم تعد صالحة حتى للبهائم!
ـ وماذا لدينا سواها؟
     لم يجب. ابتعد النمر قليلا ً، فخاطب الجرذ  الأتان:
ـ أنا غير مسؤول عن مصيرك...، اخرجي منبوذة حتى نهاية أيامك في هذه الحديقة!
تضرعت:
ـ ماذا فعلت كي تلعنني أيها السيد المحترم؟
ـ لا تدعيني أتراجع ...، فلو غضبت، تعرفين ماذا سيحصل؟
ـ لا... أرجوك، لا تغضب، أرجوك، لكن دعني اخرج من غير لعنة.
ـ وأين اذهب بها....؟
ـ دعها تذهب مع الريح.
وحدق الجرذ في عيني النمر:
ـ أيها الهرم....، المخرب! يا من يستخدم أقدم الأدوات في آخر العصور...؟
ـ عدنا إلى الأصوات...، إلى النباح والعواء والنعيب والنقيق....، فانا لم ادع فمي ينطق بكلمة.
ـ حتى لو صمت، فكلماتك التي لم تنطق بها تفضحك!
ـ أين هي الفضيحة؟
ـ آ ....، يا لك من نمر وديع! مثل حمل،  بل مثل حمامة، إن لم تكن مثل بلبل!
ـ لا تؤذيني...، سيدي، فانا لست حملا ً، ولا حمامة، لست بلبلا ً ولا عصفور ً...،  فانا  ولدت كي اقهر مخالبي، وأنيابي، واخمد النيران المتأججة في أعماقي...!
ـ اعرف...، ولكنك لا تكف عن النظر في الشمس؟!
ـ اجل، فعندما لا أجد من اشتكي عنده، وأسأله، ارفع رأسي، وأحدق في الشمس...
ـ ماذا تقول لها...؟
ـ أقول... أي...، قلت ... قلت...
نهقت الأتان بصوت رقيق مشوب بالخوف:
ـ اخبره...، فالنجاة في الصدق!
   أجاب النمر متلعثما ً:
ـ بعد وقائع الحرب الأخيرة، التي جرت بيننا، في هذه الحديقة، بعد أن افترس الضعيف الأكثر ضعفا ً، وبعد حفلات التنكيل بالصغار، والإناث، والشيوخ، وبعد ...، وبعد  حفلات الاغتصاب، والتعذيب، ورمي الجثث في المستنقعات، والبرك، وبعد طمرها، ودفنها في المناطق المجهولة، أو تركها تتعفن في العراء، وفوق تلال المزابل، والنفايات.... وبعد...، وبعد طرد الأبرياء من حفرهم وجحورهم وزرائبهم وأقفاصهم، وحرق منازلهم عليهم، وهدمها فوق رؤوسهم....، وبعد اغتيال أكثرنا حكمة، وعقلا ً، ووداعة...، وبعد ....
ـ وبعد ...ماذا...، أيها الشرير العنيد...؟
ـ رفعت رأسي ونظرت في السماء...، فرأيت الشمس...
ـ نعرف...، لدينا معلومات في غاية الدقة، ولكن ماذا قلت لها...؟
ـ قلت لك: لولاك....، أكان يحصل هذا كله؟!
ـ لا....، لا تزور...، وتموه، من اجل خداعي!
ـ قلت لها: لولا أشعتك البهية، الذهبية، ولولا ... نورك...، وحرارتك، ودفأك، وطهرك، ونقاوتك، وصفاء طويتك....، لولا هذا كله الذي ....
ـ لا تسكت.
   وخاطبت الأتان النمر بتضرع:
ـ قل الصدق....، فقد تخفف العقوبة...، وقد تحصل على المؤبد...!
   همس النمر في أذنها:
ـ  اقسم لك لولا هذا الصدق...، لكانت المصيبة اخف وطأة علينا!
صرخ الجرذ وهو يرتجف:
ـ اخبرني ماذا قلت للشمس....، قبل أن أرسلك إليها!
أجاب بصوت ناعم:
ـ سيدي، أنا اعرف أن القرار قد صدر بحقي قبل استدعائي، بل وقبل ولادتي.....، ولكن تريث...، فانتم لن تقدروا على تدمير دولة البعوض، ولا إمبراطورية البرغوث، ولا ارض النمل، فهناك الديدان العنيدة التي تحول اصلب المعادن إلى غبار....، وهناك الحشرات التي تلتهم أعظم الغابات وتساويها مع التراب....، وهناك...، ذلك القابع في الزمن...، في لغزه، الذي سيبقى يذهب ابعد من زمنك، ومن زمني، ومن الزمن نفسه!
ـ ما الذي يكمن في الزمن، أيها .....، المخبول؟
ـ الذي لا تستطيع أن تغلق فمه!
ـ ولكنه لا يتكلم...؟
   تضرعت الأتان للنمر بصوت حزين:
ـ اخبره بماذا بحت....، ألا تراه يرتجف، ويرتعد....، وينز عرقا ً ...؟
صرخ الجرذ في وجه الأتان:
ـ يا حمارة...، أنا لا ارتجف، ولست خائفا ً، ولا أنز عرقا ً مرا ً....، فانا اعرف إن الزمن سيذهب...ويزول.
فسألته الأتان بقلق:
ـ وتزول حديقتنا أيضا ً...؟
قال النمر يخاطب الجرذ:
ـ أنا بحت للشمس: لولاك.....، هل كنا سمعنا هذه الضوضاء، ولولاك...، هل كنا استنشقنا هذا العفن، ورأينا هذا .....، الخراب؟
   ابتعدت الأتان عنه، تبحث عن الباب:
ـ سيدي يا كبير الحكماء، أيها الجرذ الوقور، لقد تجاوز السيد النمر المحرمات، والآثام، والكبائر كلها!
    ضحك الجرذ وهو يخاطب الأتان:
ـ أنا أمضيت ملايين السنين أحاكم الخارجين على القانون...، كي انتظر من يوجه لي تهمة الخروج هذه ضدي.....! أيها الأحمق، لولا  العفن، لولا هذا العفن الغالي، الثمين، النادر، لما رأينا أمنا الشمس العظمى ...، ولولا هذا الزمن لما كنا أدركنا سر ديمومة هذا الذي يذهب ابعد  من زواله....
ـ سيدي، أنا لم أشتمك، لم ألعنك، لم أوبخك، ولم انبس ببنت شفة سوء ضد مقامك الكريم.
فصرخ الجرذ بصوت مذعور:
ـ أنت شتمت ولعنت ووبخت من كان السبب ....
صاحت الأتان:
ـ انه ـ سيدي الموقر ـ ذهب ابعد من المحرمات، وابعد من ارتكاب الخطيئة...
ضحك الجرذ:
ـ لن يقدر!
   قال النمر بنشوة:
ـ ها أنت تعلمت الحكمة....، فما عليك إلا أن تعمل بها.
ـ لكنك اقترفت الإثم الذي لا غفران له؟
ـ لو كنت تعلمت الحكمة حقا ً...، لعرفت، انه لا معنى للغفران لو لم يمح إثم هذه الضوضاء....، وخطيئة هذه الكلمات! فما قبل وجود الشمس، وما بعد غيابها، شبيه بما قبل الزمن، وما بعده، فهو يماثل هذا الكون قبل أن توجد فيه مثل هذه الحديقة، ولا يختلف كثيرا ً بعد غيابها. المهم، يا سعادة الجرذ المحترم، أن تعمل بالحكمة التي عليك أن تتعلمها، كي لا تستدعينا، وترسلنا إلى الموت، لأن ما قبل الموت، شبيه بما بعده، لا ضوضاء تدلك عليك، ولا كلمات تقودك إلى إغلاق بابه!
26/5/2015