الثلاثاء، 2 يونيو 2015
الأحد، 31 مايو 2015
السبت، 30 مايو 2015
مجلة الأدب العربي المعاصر : د.غالب المسعودي ؛ نصٌ مدهش....!
مجلة الأدب العربي المعاصر : د.غالب المسعودي ؛ نصٌ مدهش....!: هو ثمرةُ خيال ميثولوجي, مستمدٌ من التنظيم السياسي للآلهة, هو محل شح الهطولات, كان مشروعاً تطلب مؤازرةً من قرى المستنقعات, لكن ث...
الجمعة، 29 مايو 2015
قصة قصيرة اقتضى حضوركم!-عادل كامل
قصة قصيرة
اقتضى حضوركم!
عادل كامل
اقترب الغراب من النمر كثيرا ً وهمس في أذنه بصوت خفيض جدا ً، انه اقتضى حضوره إلى مكتب مكافحة الضوضاء، في تمام الساعة التاسعة صباحا ً. ففكر النمر برهة وسأل الغراب:
ـ أي بعد ساعتين...؟
ـ تماما ً.
ولم يجد النمر لديه رغبة للاستفسار، أو معرفة الأسباب، ليس لأن التبليغ بحد ذاته غير قابل للنقاش، بل لأنه، منذ أسابيع، بل وأشهر، شعر أن أيامه بلغت ذروتها، وقد كتم الأمر، ليمضي الوقت وحيدا ، بعد أن اتخذ قرارا ً بتجنب التفكير، وما شابه، كالتذكر، والاستعادة.
خفض رأسه وتركه يستقر فوق الأرض، بانتظار مرور الوقت. فلم ينشغل بالنظر ابعد من قضبان قفصه، بل وكف حتى عن النظر في الفضاء المحيط به، وقد ضاق، غير آسف انه قد يكون ارتكب هفوة، أو زل لسانه بكلمة، أو أبدى رأيا ً، أو حزن، أو لم يتناول طعامه بحسب المواعيد المقررة، أو لأي سبب آخر من الأسباب....، فهو ـ دار بباله ـ ليس لديه ما يعترض عليه، أو يؤيده، لا ما يحتج عليه ولا ما يدعوه له، الأمر الذي جعله يفكر بان احد أحفاده جادله في أمر لم يخطر بباله منذ ولادته في الغابة، قبل أكثر من نصف قرن، فقد سأله هل حقا ً إن وجودهم في الحديقة، أو في أية حديقة أخرى، يماثل عدمه؟ فتساءل الجد بشرود:
ـ لم افهم...؟
فقال حفيده له ما دمت الغابة قد سلبت منهم، وتم الاستيلاء عليها، فان وجودها وعدمه ينتهيان نهاية واحدة.
اقترب حفيده منه:
ـ أنا سمعت ما قاله الغراب...؟
فرد بلا مبالاة:
ـ ربما سيتاح لي.....، هناك، قول ما ... لم ... اقله!
وسكت. لأنه لم يجد أية ضرورة لأشغال ذهن حفيده بما أراد الاعتراف به، فقال الآخر:
ـ يبدو لي انك لا ترغب أن أشاركك همومك، أو ربما مازالت تعتقد بأنني لم انضج بعد!
رفع النمر رأسه قليلا ً:
ـ المشكلة يا ولدي هي ذاتها التي كانت قد وجدت قبل وجودنا...، وأنا الآن أود أن استمتع بتنفس ما تبقى من الهواء، رغم انه أصبح خانقا ً، بل وضارا ً.
ـ المشكلة كامنة في الهواء إذا ً...؟
ـ ليست في الهواء أو في الماء أو في هذه الأقفاص...، بل لأنه إن كانت هناك مشكلة أو لم تكن فان أحدا ً لا يستطيع أن يذهب ابعد منها!
ـ آ ....، عدت إلى السؤال الذي أخبرتني بإهماله...، لماذا مكثنا نستبسل بالبقاء على ما نحن عليه، حد الموت؟ وأنا سألتك: كل وسائل التقدم متوفرة، من الهواء إلى الماء، ومن الأرض إلى الغابات، ومن المعادن إلى النار....، إلى المخلوقات المتنوعة المهارات...، ومع ذلك نمضي حياتنا نكافح حد الهلاك من اجل الحفاظ على أقفاصنا، زرائبنا، حظائرنا، جحورنا، ومستنقعاتنا.....؟
ـ وماذا قلت لك ...؟
ـ قلت لي: أغلق فمك، فأنت مازالت صبيا ً.
ابتسم الجد:
ـ والآن اكرر: لا تدع فمك يعمل بمعزل عن ....
ضحك الحفيد:
ـ ولكنك تعرف إننا لا نمتلك شيئا ً آخر غير هذه الأفواه....، وغير هذه الأصوات، فأما ننبح أو نعوي، وأما نجأر أو ننعب أو ننهق...!
ـ لا ....، فهناك ...ما ...
وأشار إلى رأسه، متابعا ً:
ـ اعرف ... اعرف، ولكني فكرت إننا لا نستخدم إلا نسبة ضئيلة مما في هذه الرؤوس....، فانا سبق وسألت نفسي: لماذا وجدت هذه العقول....، وماذا لو عملنا درجة إضافية بها...، وما الذي يحصل لو عملنا بما تمتلك من إمكانيات متوفرة فيها...؟
ـ آ .....، صحيح، كأنها كانت تعمل، في يوم ما، مائة بالمائة! ثم حصل التدهور...، وإلا ما معنى إننا لا ندعها تعمل بطاقتها ...؟
ـ لا أعرف..!
فكر الجد بصوت مسموع:
ـ أنا أيضا ً أضعت حياتي في هذه السفاسف، والهمهمات، والدندنات، والأسئلة!
ـ آ ...، يا جدي، تكلم...، أود الاستماع إليك ...، وأنت ...تتحرر... من ... الخوف.
ربما لأنه شعر انه لم يعد لديه ما يخشاه، أو يتوقعه، أو ينتظره، تابع مع مسحة من المرح، واللامبالاة الكدرة:
ـ اقترب مني ..
اقترب:
ـ ليس لدي ّ ما أبوح به لك...، عدا، كيف تنجو....، ففي الغابة كان أسلافك، لملايين السنين، عرفوا كيف يتخلصوا من المطاردين، والصيادين، والأشرار.....، فقاوموا الإبادة، والاجتثاث...، ولكن الأمر اختلف ـ في هذه الحديقة ـ تماما ً، فبعد أن نهبوا غاباتنا، واستولوا على أراضينا، ومواردنا، ووضعونا في هذه الأقفاص، فليس لدينا ما نفعله، عدا تعلم طرق أخرى للدفاع عن النفس!
ـ وهذا ما يفعله الأشرار أيضا ً...، أسرونا، وها هم يكللون نصرهم بالحفاظ علينا من الاندثار، ومن الزوال!
ـ لا اعرف!
مرت دقيقة صمت، فسأل الحفيد جده:
ـ أظنك كنت تريد أن توصيني....، ثم، تراجعت، وقلت لي: حذار أن تفتح فمك، وتعوي!
ـ ربما الأصوات مثال على ما ستؤول إليه المقدمات!
ـ زوال هذه الحديقة؟
ـ بل وزوال السماء ذاتها، بمجراتها، ونجومها، وكواكبها، لتتخذ هيئات أخرى غير هذه التي ظهرت في زمننا....!
ـ ما الحكمة من ذلك؟
ـ هذا ما كنت أود أن أخبرك به: فكر أن لا تفكر! ففي هذه الحديقة، ما أن تفكر، حتى يستدعوك....
ـ آ ....، ولهذا استدعوك، يا جدي العزيز...؟
ـ حتى هذه اللحظات، اجهل السبب...، ولكن ماداموا استدعوني، فالأمر لا يدعوا إلى التشاؤم...، والقنوط، والجزع....! وإلا لكان مصيري انتهى....، كمصير جدتك! وليمة للعاطلين عن العمل!
رفع الحفيد صوته:
ـ ألا ترى إن المعضلة تكمن هنا...؟
ـ لا تشغل رأسك...، فكما قلت لك: فكر أن لا تفكر، من اجل خلاصك. فان لم تنج، أكلوك، ومحوك من هذا الحديقة!
ضحك الحفيد:
ـ وأنت أمضيت حياتك لا تفكر إلا بالنجاة...، ثم، هذه هي النهاية، لم تنج!
ـ هذا ما جعلني أغلق فمي: فمادامت الطرق كلها تحافظ على المعادلة ذاتها فان عقلي يبقى منشغلا ً بـ: لماذا لا يعمل مائة بالمائة..؟
ـ قبل قليل قلت لي: أمضيت حياتك كي لا يعمل هذا العقل إلا وكأنه أدى واجبه! وها أنت تقول العكس...؟
ـ لم اقل العكس....، بل تساءلت لماذا لدينا عقول أفضل منا، اقصد العقول التي تأبى العمل.. ؟
ـ تقصد: لماذا لا ندعها تعمل بما تمتلك من قدرات حقيقية للعمل...؟
ـ هذه هي المعضلة.
ـ لا ...، أنا اختلف معك، يا جدي، فالمعضلة لا تكمن هنا ...
ـ أسكت! لا تجدف....، الم أخبرك: تعلم فن أن تبدو لا تفهم شيئا ً. الم أخبرك: مع الأغبياء كن أشدهم غباء ً ومع الأذكياء اخف حتى فمك! فإذا كان الصمت من ذهب فان الكلام ليس سوى تراب!
ـ آ ....، كي امضي عمري وأنا لا انتظر إلا من يستدعيني قبيل الموت...؟
ـ هذا إذا سمحوا لك أن تحافظ على صمتك!
ـ آ ...، ربما استدعوك لأنك تكلمت؟
ـ بل ولم أفكر حتى بصمت!
ـ ربما وشى بك احدهم؟
ـ أنا لم اعد أشكل خطرا ً على احد، ولا حتى على نفسي...، فمن ذا يوشي بكائن فائض...؟
ـ ربما أصابعك، أو لسانك، أو ذيلك..؟ فأنت امتنعت عن أداء دورك في السيرك، ولم تعد تلعب مع اللاعبين...؟
ـ أنا هرمت ...، وأصبحت هزأة...، فلماذا أوشي بنفسي، وافضحها...، ثم ما الذي اكسبه من هذه الوشاية؟
ـ مادمت لم تمت، فأنت مشبوه؟
ـ اعرف...، في هذه الدنيا، غير مسموح لك ...، أو بالأحرى...، لا اعرف....، ربما وجدت هكذا ....، مسموح لك أن تحلم، أو أن تتوهم انك تحلم، لكن غير مسموح لك إلا أن تتوهم وهمك كأنه هو وحده ضد الوهم! فالضفادع ولدت كي تهلك في مستنقعها، مثل هذا الغراب الذي يعمل في مكتب مكافحة الضوضاء...
ـ لا تحزن يا جدي، فلن ادعهم يؤذوك...
ضحك الجد:
ـ إلا إذا عملت في إمرة احد الذئاب، أو الكلاب، أو مع بنات أوى...
ـ بل سأعمل مع البعوض، والقمل، والبرغوث...
ـ ماذا قلت...؟
ـ فهؤلاء...، يا جدي، هم أعداء العاطلين عن العمل، لان عملهم هو امتصاص دمائهم...، مثلما يشكلون تهديدا ً أبديا ً لهم، فهم وحدهم يقدرون على إعلان التمرد، والعصيان، والثورة....!
ـ الثورة...؟ يا مجنون...، وكل أسلحة الدنيا لديهم، مع الثروات، والموارد، والشاشات، والمراوغات...، فلم يبقوا لنا إلا أن نولد لنموت...، ونموت لنولد، ولكن من اجلهم!
ـ آ ....، مع أن عقولهم لا تعمل إلا بنسبة ضئيلة، حتى الحمير لديها أدمغة تعمل أفضل منهم!
ـ وهذه معضلة أخرى...، فماذا لو عملت عقولهم درجة أخرى....، فأنهم سيستولون على السماوات وعلى ما هو ابعد منها!
ـ آ .....، الآن فهمت لماذا أمضيت حياتك مع جدتي في ركن قصي، بعيد، لا يراك احد ولا ترى أحدا ً منهم....
ـ وهذه هي الحصيلة...، لم أغلق فمي، لأنني لم امتعض!
ـ ولكنك لم تفتح فمك، ولم تدع عقلك يعمل، مكتفيا ً بالرقص!
ـ ومتى رقصت يا ابن....؟
ـ مع جدتي...، أنا رأيتك، رقصت معها...، وتكلمت معها، قبل أن يتم اختطافها، ويذهبون بها أسيرة، ثم، أصبحت وليمة للعاطلين عن العمل.
هز الجد رأسه، وهو يشاهد الغراب يقترب منهما:
ـ آن لك ... أن تغادر.
نظر الجد بأسى في محيا حفيده:
ـ هكذا العمر ذهب ومعه ماضيه، ومعه مستقبله أيضا ً!
همس الحفيد في أذن جده:
ـ لن ندعهم يؤذوك...، فالثورة قادمة!
سمع الجد الغراب يخاطبه:
ـ تكفي عقوبة الموت...، فلا تضاعفها؟
ضحك الجد:
ـ وماذا بعد الموت...؟
رد الغراب بصوت جاف:
ـ لولا ما بعد الموت لعم الخراب هذه الأرض وفسدت حدائقها!
فسأل الحفيد الغراب:
ـ من خولك أن تهدد جدي...، وتفزعه؟
ـ أنا لم اهدده، ولم انذره، ولم أفزعه...، بل أخبرته بما سيحصل له.
خاطب الجد حفيده:
ـ لا علاقة للسيد الغراب بما حصل...، وبما يحصل، فلا احد يستطيع أن يحدد من المسؤول...
في صالة المؤسسة العامة لمكافحة الضوضاء، طلب من النمر الجلوس، فقد أمره جرذ بذلك، واخبره بضرورة أن لا يفتح فمه، وألا يتذمر، أو يحزن، وان لا يظهر خوفا ً أو أسى على محياه، فالقضية جد عادية، وستنتهي حال إجراء التحقيق فيها. فهز النمر رأسه، وراح يراقب بصمت تام: دخل ثور....، ولم يخرج. ودخلت ظبية، هي الأخرى، لم تغادر. فقرر النمر الامتناع عن التفكير، مكتفيا ً بالمراقبة، كأنه يشاهد فلما ً أو برنامجا ً وثائقيا ً. فدخل تمساح ولكنه لم يتأخر كثيرا ً ليخرج يتلوى مثل أفعى، أعقبه دب، ولم يمكث إلا قليلا ً، ليخرج بجناحين شفافين، فصاح الجرد بصوت غاضب:
ـ أين أنت أيها الكلب!
نظر النمر إلى الخلف، فلم ير إلا أتانا ً جاثمة بجواره، تصدر عنها رائحة روث، فقال لها:
ـ ربما قصدك؟
ـ لا اعرف...، فانا حمارة بنت حمار وصولا ً إلى جدي الأعظم ....، كلنا ولدنا بطاعة مديرنا ...، والولاء له....، وسنموت بأوامره أيضا ً.
هز رأسه:
ـ نحن ولدنا نمورا ً...، وهؤلاء ولدوا حشرات، وسواهم ديدانا ً تزحف، وأخرى تحّوم، وهناك من لم يولد بعد....، وهناك من لن يرى النور أبدا ً، مع انه مذكور في سجلات الوفيات والولادة، وليس في سجلات الولادة والوفيات!
اندهشت الأتان:
ـ هل هناك من لم يمت بعد...؟
فكر مع نفسه، قد يكون تفوه بكلمة محرمة، ضارة، أو تجاوز حدود المسموح به...، فهو لا يتذكر ـ حتى عندما اجبروه على مشاهدة كيف تم افتراس زوجته أمام ناظريه ـ انه نبس ببنت شفة أو صدرت عنه إشارة، بل قال لنفسه: إن لم تمت اليوم فلن يتأخر موتها كثيرا ً....، وأضاف بصمت تام: ولكنني لم اصفق، ولم ابتهج!
قالت الأتان:
ـ المشكلة إن كل ما نفعله لا يرضي سيدنا المدير....، وقائدنا الخالد....؟
ـ ولن يرضى...، لأن المعضلة خارج نطاق صلاحياته..!
ـ اعرف...، قسما ً بالفصول، والعناصر، والخرافات، والحقائق....، اعرف ذلك، لأنني لو كنت ولدت لبؤة لكان مصيري أكثر تعاسة!
ضحك النمر:
ـ وماذا لو كنت ولدت ديناصورا ً ...؟
ـ لكانوا وضعوني في المتحف!
ـ هذه هي اللعبة...؛ أنا قلت لحفيدي: لو كنت ولدت حمامة فمن يخلصك من مخالب الصقور...، أو من بنادق الأشرار....، أو من الأفاعي؟
ـ آ ....، لو كنت ولدت دغلا ً، أو شجرة، أو شوكا ً...
ـ سيان...، فلكل طريدة مطارد....، ولكل قوي أقوى منه...، ولكل منتصر خيبة، فالهزيمة وحدها هي المؤجلة!
ـ ماذا قلت...؟
ـ آ ...، آسف، أنا لم افتح فمي أبدا ً، المشكلة إن بعضا ً من خلايا هذا الرأس تعمل بوقاحة!
صاح الجرذ بصوت حاد، وغاضب جدا ً:
ـ يا حمارة، يا فأرة...، الم تسمعيني؟
ـ لا!
ـ أترغبين أن أرسلك إلى المحرقة، أم إلى الذئاب، أترغبين أن أرسلك إلى السرداب أم إلى الضباع...، أم أعيدك إلى مستنقعك...؟
ـ وماذا افعل في المستنقع؟
ـ كي تصبحين وليمة للتماسيح!
ـ ما يقرره سيدنا المدير هو الصواب!
اقترب الجرذ منها كثيرا ً:
ـ لن أخلصك بالموت وأسعدك به...!
ـ ماذا فعلت...، سيدي، وأنا أتان حملت أثقالكم طوال الزمن...، كي أعاقب بما هو اشد من الموت؟
ـ سأعاقبك بالرحمة....، سأرسلك إلى حظيرة الخيول..
ـ ستعيدني كي أمارس أقدم مهنة عرفتها حدائقنا؛ البغاء...، آ ...، وسأصبح مومسا ً، جميل منك أيها الجرذ أن ترحمنا...، لا أن ترسلنا إلى الزرافات، أو إلى الكلاب!
فسألها بشرود:
ـ أراك سعيدة؟
ضحكت الأتان:
ـ اليوم رأيت ما لم أره طوال حياتي...، رأيت تمساحا ً يخرج من الماء ويجامع إحدى الزائرات عند ضفة البركة....
ـ ولم يفترسها؟
ـ لا ....، بل رأيته منتشيا ً مسرورا ً وهو يمسك بها من الأعلى إلى الأسفل...، وعندما قذف صرح بلذّة صرخة أفزعت سكان المستنقع أجمعين!
ـ آ ....، سنستدعيه، فهذا يعد خروجا ً على العدالة، والدستور، والقانون...
قالت الأتان:
ـ ما هو ذنب المسكين...، الذنب هو ذنب السيدة التي كشفت عن مفاتنها، وأغوته...، لأنها كانت قد فعلت ذلك مع احد الدلافين، ثم مع كبير التماسيح، حتى إنها تأوهت وباحت بالرموز المقدسة! فقال لها التمساح: لا فائدة من ذكر هذه الأسماء، خارج نطاق العبادة. فهمست في أذنه: اسكت، وماذا فعلنا...؟
دار بخلد النمر العجوز: ويطلبون مني أن أغلق فمي وهو الباب الوحيد الذي وجد ليبقى مشرعا ً.
ضحك الجرذ وسأله:
ـ فمك هذا لم يعد بابا ً...، بل صار شقا ً غير قابل للغلق، وصار حفرة من المستحيل ردمها!
قهقه النمر:
ـ حتى أنت تخاف من الكلمات...، بعد أن صارت عتيقة، بالية، ولم تعد صالحة حتى للبهائم!
ـ وماذا لدينا سواها؟
لم يجب. ابتعد النمر قليلا ً، فخاطب الجرذ الأتان:
ـ أنا غير مسؤول عن مصيرك...، اخرجي منبوذة حتى نهاية أيامك في هذه الحديقة!
تضرعت:
ـ ماذا فعلت كي تلعنني أيها السيد المحترم؟
ـ لا تدعيني أتراجع ...، فلو غضبت، تعرفين ماذا سيحصل؟
ـ لا... أرجوك، لا تغضب، أرجوك، لكن دعني اخرج من غير لعنة.
ـ وأين اذهب بها....؟
ـ دعها تذهب مع الريح.
وحدق الجرذ في عيني النمر:
ـ أيها الهرم....، المخرب! يا من يستخدم أقدم الأدوات في آخر العصور...؟
ـ عدنا إلى الأصوات...، إلى النباح والعواء والنعيب والنقيق....، فانا لم ادع فمي ينطق بكلمة.
ـ حتى لو صمت، فكلماتك التي لم تنطق بها تفضحك!
ـ أين هي الفضيحة؟
ـ آ ....، يا لك من نمر وديع! مثل حمل، بل مثل حمامة، إن لم تكن مثل بلبل!
ـ لا تؤذيني...، سيدي، فانا لست حملا ً، ولا حمامة، لست بلبلا ً ولا عصفور ً...، فانا ولدت كي اقهر مخالبي، وأنيابي، واخمد النيران المتأججة في أعماقي...!
ـ اعرف...، ولكنك لا تكف عن النظر في الشمس؟!
ـ اجل، فعندما لا أجد من اشتكي عنده، وأسأله، ارفع رأسي، وأحدق في الشمس...
ـ ماذا تقول لها...؟
ـ أقول... أي...، قلت ... قلت...
نهقت الأتان بصوت رقيق مشوب بالخوف:
ـ اخبره...، فالنجاة في الصدق!
أجاب النمر متلعثما ً:
ـ بعد وقائع الحرب الأخيرة، التي جرت بيننا، في هذه الحديقة، بعد أن افترس الضعيف الأكثر ضعفا ً، وبعد حفلات التنكيل بالصغار، والإناث، والشيوخ، وبعد ...، وبعد حفلات الاغتصاب، والتعذيب، ورمي الجثث في المستنقعات، والبرك، وبعد طمرها، ودفنها في المناطق المجهولة، أو تركها تتعفن في العراء، وفوق تلال المزابل، والنفايات.... وبعد...، وبعد طرد الأبرياء من حفرهم وجحورهم وزرائبهم وأقفاصهم، وحرق منازلهم عليهم، وهدمها فوق رؤوسهم....، وبعد اغتيال أكثرنا حكمة، وعقلا ً، ووداعة...، وبعد ....
ـ وبعد ...ماذا...، أيها الشرير العنيد...؟
ـ رفعت رأسي ونظرت في السماء...، فرأيت الشمس...
ـ نعرف...، لدينا معلومات في غاية الدقة، ولكن ماذا قلت لها...؟
ـ قلت لك: لولاك....، أكان يحصل هذا كله؟!
ـ لا....، لا تزور...، وتموه، من اجل خداعي!
ـ قلت لها: لولا أشعتك البهية، الذهبية، ولولا ... نورك...، وحرارتك، ودفأك، وطهرك، ونقاوتك، وصفاء طويتك....، لولا هذا كله الذي ....
ـ لا تسكت.
وخاطبت الأتان النمر بتضرع:
ـ قل الصدق....، فقد تخفف العقوبة...، وقد تحصل على المؤبد...!
همس النمر في أذنها:
ـ اقسم لك لولا هذا الصدق...، لكانت المصيبة اخف وطأة علينا!
صرخ الجرذ وهو يرتجف:
ـ اخبرني ماذا قلت للشمس....، قبل أن أرسلك إليها!
أجاب بصوت ناعم:
ـ سيدي، أنا اعرف أن القرار قد صدر بحقي قبل استدعائي، بل وقبل ولادتي.....، ولكن تريث...، فانتم لن تقدروا على تدمير دولة البعوض، ولا إمبراطورية البرغوث، ولا ارض النمل، فهناك الديدان العنيدة التي تحول اصلب المعادن إلى غبار....، وهناك الحشرات التي تلتهم أعظم الغابات وتساويها مع التراب....، وهناك...، ذلك القابع في الزمن...، في لغزه، الذي سيبقى يذهب ابعد من زمنك، ومن زمني، ومن الزمن نفسه!
ـ ما الذي يكمن في الزمن، أيها .....، المخبول؟
ـ الذي لا تستطيع أن تغلق فمه!
ـ ولكنه لا يتكلم...؟
تضرعت الأتان للنمر بصوت حزين:
ـ اخبره بماذا بحت....، ألا تراه يرتجف، ويرتعد....، وينز عرقا ً ...؟
صرخ الجرذ في وجه الأتان:
ـ يا حمارة...، أنا لا ارتجف، ولست خائفا ً، ولا أنز عرقا ً مرا ً....، فانا اعرف إن الزمن سيذهب...ويزول.
فسألته الأتان بقلق:
ـ وتزول حديقتنا أيضا ً...؟
قال النمر يخاطب الجرذ:
ـ أنا بحت للشمس: لولاك.....، هل كنا سمعنا هذه الضوضاء، ولولاك...، هل كنا استنشقنا هذا العفن، ورأينا هذا .....، الخراب؟
ابتعدت الأتان عنه، تبحث عن الباب:
ـ سيدي يا كبير الحكماء، أيها الجرذ الوقور، لقد تجاوز السيد النمر المحرمات، والآثام، والكبائر كلها!
ضحك الجرذ وهو يخاطب الأتان:
ـ أنا أمضيت ملايين السنين أحاكم الخارجين على القانون...، كي انتظر من يوجه لي تهمة الخروج هذه ضدي.....! أيها الأحمق، لولا العفن، لولا هذا العفن الغالي، الثمين، النادر، لما رأينا أمنا الشمس العظمى ...، ولولا هذا الزمن لما كنا أدركنا سر ديمومة هذا الذي يذهب ابعد من زواله....
ـ سيدي، أنا لم أشتمك، لم ألعنك، لم أوبخك، ولم انبس ببنت شفة سوء ضد مقامك الكريم.
فصرخ الجرذ بصوت مذعور:
ـ أنت شتمت ولعنت ووبخت من كان السبب ....
صاحت الأتان:
ـ انه ـ سيدي الموقر ـ ذهب ابعد من المحرمات، وابعد من ارتكاب الخطيئة...
ضحك الجرذ:
ـ لن يقدر!
قال النمر بنشوة:
ـ ها أنت تعلمت الحكمة....، فما عليك إلا أن تعمل بها.
ـ لكنك اقترفت الإثم الذي لا غفران له؟
ـ لو كنت تعلمت الحكمة حقا ً...، لعرفت، انه لا معنى للغفران لو لم يمح إثم هذه الضوضاء....، وخطيئة هذه الكلمات! فما قبل وجود الشمس، وما بعد غيابها، شبيه بما قبل الزمن، وما بعده، فهو يماثل هذا الكون قبل أن توجد فيه مثل هذه الحديقة، ولا يختلف كثيرا ً بعد غيابها. المهم، يا سعادة الجرذ المحترم، أن تعمل بالحكمة التي عليك أن تتعلمها، كي لا تستدعينا، وترسلنا إلى الموت، لأن ما قبل الموت، شبيه بما بعده، لا ضوضاء تدلك عليك، ولا كلمات تقودك إلى إغلاق بابه!
26/5/2015
اقتضى حضوركم!
عادل كامل
اقترب الغراب من النمر كثيرا ً وهمس في أذنه بصوت خفيض جدا ً، انه اقتضى حضوره إلى مكتب مكافحة الضوضاء، في تمام الساعة التاسعة صباحا ً. ففكر النمر برهة وسأل الغراب:
ـ أي بعد ساعتين...؟
ـ تماما ً.
ولم يجد النمر لديه رغبة للاستفسار، أو معرفة الأسباب، ليس لأن التبليغ بحد ذاته غير قابل للنقاش، بل لأنه، منذ أسابيع، بل وأشهر، شعر أن أيامه بلغت ذروتها، وقد كتم الأمر، ليمضي الوقت وحيدا ، بعد أن اتخذ قرارا ً بتجنب التفكير، وما شابه، كالتذكر، والاستعادة.
خفض رأسه وتركه يستقر فوق الأرض، بانتظار مرور الوقت. فلم ينشغل بالنظر ابعد من قضبان قفصه، بل وكف حتى عن النظر في الفضاء المحيط به، وقد ضاق، غير آسف انه قد يكون ارتكب هفوة، أو زل لسانه بكلمة، أو أبدى رأيا ً، أو حزن، أو لم يتناول طعامه بحسب المواعيد المقررة، أو لأي سبب آخر من الأسباب....، فهو ـ دار بباله ـ ليس لديه ما يعترض عليه، أو يؤيده، لا ما يحتج عليه ولا ما يدعوه له، الأمر الذي جعله يفكر بان احد أحفاده جادله في أمر لم يخطر بباله منذ ولادته في الغابة، قبل أكثر من نصف قرن، فقد سأله هل حقا ً إن وجودهم في الحديقة، أو في أية حديقة أخرى، يماثل عدمه؟ فتساءل الجد بشرود:
ـ لم افهم...؟
فقال حفيده له ما دمت الغابة قد سلبت منهم، وتم الاستيلاء عليها، فان وجودها وعدمه ينتهيان نهاية واحدة.
اقترب حفيده منه:
ـ أنا سمعت ما قاله الغراب...؟
فرد بلا مبالاة:
ـ ربما سيتاح لي.....، هناك، قول ما ... لم ... اقله!
وسكت. لأنه لم يجد أية ضرورة لأشغال ذهن حفيده بما أراد الاعتراف به، فقال الآخر:
ـ يبدو لي انك لا ترغب أن أشاركك همومك، أو ربما مازالت تعتقد بأنني لم انضج بعد!
رفع النمر رأسه قليلا ً:
ـ المشكلة يا ولدي هي ذاتها التي كانت قد وجدت قبل وجودنا...، وأنا الآن أود أن استمتع بتنفس ما تبقى من الهواء، رغم انه أصبح خانقا ً، بل وضارا ً.
ـ المشكلة كامنة في الهواء إذا ً...؟
ـ ليست في الهواء أو في الماء أو في هذه الأقفاص...، بل لأنه إن كانت هناك مشكلة أو لم تكن فان أحدا ً لا يستطيع أن يذهب ابعد منها!
ـ آ ....، عدت إلى السؤال الذي أخبرتني بإهماله...، لماذا مكثنا نستبسل بالبقاء على ما نحن عليه، حد الموت؟ وأنا سألتك: كل وسائل التقدم متوفرة، من الهواء إلى الماء، ومن الأرض إلى الغابات، ومن المعادن إلى النار....، إلى المخلوقات المتنوعة المهارات...، ومع ذلك نمضي حياتنا نكافح حد الهلاك من اجل الحفاظ على أقفاصنا، زرائبنا، حظائرنا، جحورنا، ومستنقعاتنا.....؟
ـ وماذا قلت لك ...؟
ـ قلت لي: أغلق فمك، فأنت مازالت صبيا ً.
ابتسم الجد:
ـ والآن اكرر: لا تدع فمك يعمل بمعزل عن ....
ضحك الحفيد:
ـ ولكنك تعرف إننا لا نمتلك شيئا ً آخر غير هذه الأفواه....، وغير هذه الأصوات، فأما ننبح أو نعوي، وأما نجأر أو ننعب أو ننهق...!
ـ لا ....، فهناك ...ما ...
وأشار إلى رأسه، متابعا ً:
ـ اعرف ... اعرف، ولكني فكرت إننا لا نستخدم إلا نسبة ضئيلة مما في هذه الرؤوس....، فانا سبق وسألت نفسي: لماذا وجدت هذه العقول....، وماذا لو عملنا درجة إضافية بها...، وما الذي يحصل لو عملنا بما تمتلك من إمكانيات متوفرة فيها...؟
ـ آ .....، صحيح، كأنها كانت تعمل، في يوم ما، مائة بالمائة! ثم حصل التدهور...، وإلا ما معنى إننا لا ندعها تعمل بطاقتها ...؟
ـ لا أعرف..!
فكر الجد بصوت مسموع:
ـ أنا أيضا ً أضعت حياتي في هذه السفاسف، والهمهمات، والدندنات، والأسئلة!
ـ آ ...، يا جدي، تكلم...، أود الاستماع إليك ...، وأنت ...تتحرر... من ... الخوف.
ربما لأنه شعر انه لم يعد لديه ما يخشاه، أو يتوقعه، أو ينتظره، تابع مع مسحة من المرح، واللامبالاة الكدرة:
ـ اقترب مني ..
اقترب:
ـ ليس لدي ّ ما أبوح به لك...، عدا، كيف تنجو....، ففي الغابة كان أسلافك، لملايين السنين، عرفوا كيف يتخلصوا من المطاردين، والصيادين، والأشرار.....، فقاوموا الإبادة، والاجتثاث...، ولكن الأمر اختلف ـ في هذه الحديقة ـ تماما ً، فبعد أن نهبوا غاباتنا، واستولوا على أراضينا، ومواردنا، ووضعونا في هذه الأقفاص، فليس لدينا ما نفعله، عدا تعلم طرق أخرى للدفاع عن النفس!
ـ وهذا ما يفعله الأشرار أيضا ً...، أسرونا، وها هم يكللون نصرهم بالحفاظ علينا من الاندثار، ومن الزوال!
ـ لا اعرف!
مرت دقيقة صمت، فسأل الحفيد جده:
ـ أظنك كنت تريد أن توصيني....، ثم، تراجعت، وقلت لي: حذار أن تفتح فمك، وتعوي!
ـ ربما الأصوات مثال على ما ستؤول إليه المقدمات!
ـ زوال هذه الحديقة؟
ـ بل وزوال السماء ذاتها، بمجراتها، ونجومها، وكواكبها، لتتخذ هيئات أخرى غير هذه التي ظهرت في زمننا....!
ـ ما الحكمة من ذلك؟
ـ هذا ما كنت أود أن أخبرك به: فكر أن لا تفكر! ففي هذه الحديقة، ما أن تفكر، حتى يستدعوك....
ـ آ ....، ولهذا استدعوك، يا جدي العزيز...؟
ـ حتى هذه اللحظات، اجهل السبب...، ولكن ماداموا استدعوني، فالأمر لا يدعوا إلى التشاؤم...، والقنوط، والجزع....! وإلا لكان مصيري انتهى....، كمصير جدتك! وليمة للعاطلين عن العمل!
رفع الحفيد صوته:
ـ ألا ترى إن المعضلة تكمن هنا...؟
ـ لا تشغل رأسك...، فكما قلت لك: فكر أن لا تفكر، من اجل خلاصك. فان لم تنج، أكلوك، ومحوك من هذا الحديقة!
ضحك الحفيد:
ـ وأنت أمضيت حياتك لا تفكر إلا بالنجاة...، ثم، هذه هي النهاية، لم تنج!
ـ هذا ما جعلني أغلق فمي: فمادامت الطرق كلها تحافظ على المعادلة ذاتها فان عقلي يبقى منشغلا ً بـ: لماذا لا يعمل مائة بالمائة..؟
ـ قبل قليل قلت لي: أمضيت حياتك كي لا يعمل هذا العقل إلا وكأنه أدى واجبه! وها أنت تقول العكس...؟
ـ لم اقل العكس....، بل تساءلت لماذا لدينا عقول أفضل منا، اقصد العقول التي تأبى العمل.. ؟
ـ تقصد: لماذا لا ندعها تعمل بما تمتلك من قدرات حقيقية للعمل...؟
ـ هذه هي المعضلة.
ـ لا ...، أنا اختلف معك، يا جدي، فالمعضلة لا تكمن هنا ...
ـ أسكت! لا تجدف....، الم أخبرك: تعلم فن أن تبدو لا تفهم شيئا ً. الم أخبرك: مع الأغبياء كن أشدهم غباء ً ومع الأذكياء اخف حتى فمك! فإذا كان الصمت من ذهب فان الكلام ليس سوى تراب!
ـ آ ....، كي امضي عمري وأنا لا انتظر إلا من يستدعيني قبيل الموت...؟
ـ هذا إذا سمحوا لك أن تحافظ على صمتك!
ـ آ ...، ربما استدعوك لأنك تكلمت؟
ـ بل ولم أفكر حتى بصمت!
ـ ربما وشى بك احدهم؟
ـ أنا لم اعد أشكل خطرا ً على احد، ولا حتى على نفسي...، فمن ذا يوشي بكائن فائض...؟
ـ ربما أصابعك، أو لسانك، أو ذيلك..؟ فأنت امتنعت عن أداء دورك في السيرك، ولم تعد تلعب مع اللاعبين...؟
ـ أنا هرمت ...، وأصبحت هزأة...، فلماذا أوشي بنفسي، وافضحها...، ثم ما الذي اكسبه من هذه الوشاية؟
ـ مادمت لم تمت، فأنت مشبوه؟
ـ اعرف...، في هذه الدنيا، غير مسموح لك ...، أو بالأحرى...، لا اعرف....، ربما وجدت هكذا ....، مسموح لك أن تحلم، أو أن تتوهم انك تحلم، لكن غير مسموح لك إلا أن تتوهم وهمك كأنه هو وحده ضد الوهم! فالضفادع ولدت كي تهلك في مستنقعها، مثل هذا الغراب الذي يعمل في مكتب مكافحة الضوضاء...
ـ لا تحزن يا جدي، فلن ادعهم يؤذوك...
ضحك الجد:
ـ إلا إذا عملت في إمرة احد الذئاب، أو الكلاب، أو مع بنات أوى...
ـ بل سأعمل مع البعوض، والقمل، والبرغوث...
ـ ماذا قلت...؟
ـ فهؤلاء...، يا جدي، هم أعداء العاطلين عن العمل، لان عملهم هو امتصاص دمائهم...، مثلما يشكلون تهديدا ً أبديا ً لهم، فهم وحدهم يقدرون على إعلان التمرد، والعصيان، والثورة....!
ـ الثورة...؟ يا مجنون...، وكل أسلحة الدنيا لديهم، مع الثروات، والموارد، والشاشات، والمراوغات...، فلم يبقوا لنا إلا أن نولد لنموت...، ونموت لنولد، ولكن من اجلهم!
ـ آ ....، مع أن عقولهم لا تعمل إلا بنسبة ضئيلة، حتى الحمير لديها أدمغة تعمل أفضل منهم!
ـ وهذه معضلة أخرى...، فماذا لو عملت عقولهم درجة أخرى....، فأنهم سيستولون على السماوات وعلى ما هو ابعد منها!
ـ آ .....، الآن فهمت لماذا أمضيت حياتك مع جدتي في ركن قصي، بعيد، لا يراك احد ولا ترى أحدا ً منهم....
ـ وهذه هي الحصيلة...، لم أغلق فمي، لأنني لم امتعض!
ـ ولكنك لم تفتح فمك، ولم تدع عقلك يعمل، مكتفيا ً بالرقص!
ـ ومتى رقصت يا ابن....؟
ـ مع جدتي...، أنا رأيتك، رقصت معها...، وتكلمت معها، قبل أن يتم اختطافها، ويذهبون بها أسيرة، ثم، أصبحت وليمة للعاطلين عن العمل.
هز الجد رأسه، وهو يشاهد الغراب يقترب منهما:
ـ آن لك ... أن تغادر.
نظر الجد بأسى في محيا حفيده:
ـ هكذا العمر ذهب ومعه ماضيه، ومعه مستقبله أيضا ً!
همس الحفيد في أذن جده:
ـ لن ندعهم يؤذوك...، فالثورة قادمة!
سمع الجد الغراب يخاطبه:
ـ تكفي عقوبة الموت...، فلا تضاعفها؟
ضحك الجد:
ـ وماذا بعد الموت...؟
رد الغراب بصوت جاف:
ـ لولا ما بعد الموت لعم الخراب هذه الأرض وفسدت حدائقها!
فسأل الحفيد الغراب:
ـ من خولك أن تهدد جدي...، وتفزعه؟
ـ أنا لم اهدده، ولم انذره، ولم أفزعه...، بل أخبرته بما سيحصل له.
خاطب الجد حفيده:
ـ لا علاقة للسيد الغراب بما حصل...، وبما يحصل، فلا احد يستطيع أن يحدد من المسؤول...
في صالة المؤسسة العامة لمكافحة الضوضاء، طلب من النمر الجلوس، فقد أمره جرذ بذلك، واخبره بضرورة أن لا يفتح فمه، وألا يتذمر، أو يحزن، وان لا يظهر خوفا ً أو أسى على محياه، فالقضية جد عادية، وستنتهي حال إجراء التحقيق فيها. فهز النمر رأسه، وراح يراقب بصمت تام: دخل ثور....، ولم يخرج. ودخلت ظبية، هي الأخرى، لم تغادر. فقرر النمر الامتناع عن التفكير، مكتفيا ً بالمراقبة، كأنه يشاهد فلما ً أو برنامجا ً وثائقيا ً. فدخل تمساح ولكنه لم يتأخر كثيرا ً ليخرج يتلوى مثل أفعى، أعقبه دب، ولم يمكث إلا قليلا ً، ليخرج بجناحين شفافين، فصاح الجرد بصوت غاضب:
ـ أين أنت أيها الكلب!
نظر النمر إلى الخلف، فلم ير إلا أتانا ً جاثمة بجواره، تصدر عنها رائحة روث، فقال لها:
ـ ربما قصدك؟
ـ لا اعرف...، فانا حمارة بنت حمار وصولا ً إلى جدي الأعظم ....، كلنا ولدنا بطاعة مديرنا ...، والولاء له....، وسنموت بأوامره أيضا ً.
هز رأسه:
ـ نحن ولدنا نمورا ً...، وهؤلاء ولدوا حشرات، وسواهم ديدانا ً تزحف، وأخرى تحّوم، وهناك من لم يولد بعد....، وهناك من لن يرى النور أبدا ً، مع انه مذكور في سجلات الوفيات والولادة، وليس في سجلات الولادة والوفيات!
اندهشت الأتان:
ـ هل هناك من لم يمت بعد...؟
فكر مع نفسه، قد يكون تفوه بكلمة محرمة، ضارة، أو تجاوز حدود المسموح به...، فهو لا يتذكر ـ حتى عندما اجبروه على مشاهدة كيف تم افتراس زوجته أمام ناظريه ـ انه نبس ببنت شفة أو صدرت عنه إشارة، بل قال لنفسه: إن لم تمت اليوم فلن يتأخر موتها كثيرا ً....، وأضاف بصمت تام: ولكنني لم اصفق، ولم ابتهج!
قالت الأتان:
ـ المشكلة إن كل ما نفعله لا يرضي سيدنا المدير....، وقائدنا الخالد....؟
ـ ولن يرضى...، لأن المعضلة خارج نطاق صلاحياته..!
ـ اعرف...، قسما ً بالفصول، والعناصر، والخرافات، والحقائق....، اعرف ذلك، لأنني لو كنت ولدت لبؤة لكان مصيري أكثر تعاسة!
ضحك النمر:
ـ وماذا لو كنت ولدت ديناصورا ً ...؟
ـ لكانوا وضعوني في المتحف!
ـ هذه هي اللعبة...؛ أنا قلت لحفيدي: لو كنت ولدت حمامة فمن يخلصك من مخالب الصقور...، أو من بنادق الأشرار....، أو من الأفاعي؟
ـ آ ....، لو كنت ولدت دغلا ً، أو شجرة، أو شوكا ً...
ـ سيان...، فلكل طريدة مطارد....، ولكل قوي أقوى منه...، ولكل منتصر خيبة، فالهزيمة وحدها هي المؤجلة!
ـ ماذا قلت...؟
ـ آ ...، آسف، أنا لم افتح فمي أبدا ً، المشكلة إن بعضا ً من خلايا هذا الرأس تعمل بوقاحة!
صاح الجرذ بصوت حاد، وغاضب جدا ً:
ـ يا حمارة، يا فأرة...، الم تسمعيني؟
ـ لا!
ـ أترغبين أن أرسلك إلى المحرقة، أم إلى الذئاب، أترغبين أن أرسلك إلى السرداب أم إلى الضباع...، أم أعيدك إلى مستنقعك...؟
ـ وماذا افعل في المستنقع؟
ـ كي تصبحين وليمة للتماسيح!
ـ ما يقرره سيدنا المدير هو الصواب!
اقترب الجرذ منها كثيرا ً:
ـ لن أخلصك بالموت وأسعدك به...!
ـ ماذا فعلت...، سيدي، وأنا أتان حملت أثقالكم طوال الزمن...، كي أعاقب بما هو اشد من الموت؟
ـ سأعاقبك بالرحمة....، سأرسلك إلى حظيرة الخيول..
ـ ستعيدني كي أمارس أقدم مهنة عرفتها حدائقنا؛ البغاء...، آ ...، وسأصبح مومسا ً، جميل منك أيها الجرذ أن ترحمنا...، لا أن ترسلنا إلى الزرافات، أو إلى الكلاب!
فسألها بشرود:
ـ أراك سعيدة؟
ضحكت الأتان:
ـ اليوم رأيت ما لم أره طوال حياتي...، رأيت تمساحا ً يخرج من الماء ويجامع إحدى الزائرات عند ضفة البركة....
ـ ولم يفترسها؟
ـ لا ....، بل رأيته منتشيا ً مسرورا ً وهو يمسك بها من الأعلى إلى الأسفل...، وعندما قذف صرح بلذّة صرخة أفزعت سكان المستنقع أجمعين!
ـ آ ....، سنستدعيه، فهذا يعد خروجا ً على العدالة، والدستور، والقانون...
قالت الأتان:
ـ ما هو ذنب المسكين...، الذنب هو ذنب السيدة التي كشفت عن مفاتنها، وأغوته...، لأنها كانت قد فعلت ذلك مع احد الدلافين، ثم مع كبير التماسيح، حتى إنها تأوهت وباحت بالرموز المقدسة! فقال لها التمساح: لا فائدة من ذكر هذه الأسماء، خارج نطاق العبادة. فهمست في أذنه: اسكت، وماذا فعلنا...؟
دار بخلد النمر العجوز: ويطلبون مني أن أغلق فمي وهو الباب الوحيد الذي وجد ليبقى مشرعا ً.
ضحك الجرذ وسأله:
ـ فمك هذا لم يعد بابا ً...، بل صار شقا ً غير قابل للغلق، وصار حفرة من المستحيل ردمها!
قهقه النمر:
ـ حتى أنت تخاف من الكلمات...، بعد أن صارت عتيقة، بالية، ولم تعد صالحة حتى للبهائم!
ـ وماذا لدينا سواها؟
لم يجب. ابتعد النمر قليلا ً، فخاطب الجرذ الأتان:
ـ أنا غير مسؤول عن مصيرك...، اخرجي منبوذة حتى نهاية أيامك في هذه الحديقة!
تضرعت:
ـ ماذا فعلت كي تلعنني أيها السيد المحترم؟
ـ لا تدعيني أتراجع ...، فلو غضبت، تعرفين ماذا سيحصل؟
ـ لا... أرجوك، لا تغضب، أرجوك، لكن دعني اخرج من غير لعنة.
ـ وأين اذهب بها....؟
ـ دعها تذهب مع الريح.
وحدق الجرذ في عيني النمر:
ـ أيها الهرم....، المخرب! يا من يستخدم أقدم الأدوات في آخر العصور...؟
ـ عدنا إلى الأصوات...، إلى النباح والعواء والنعيب والنقيق....، فانا لم ادع فمي ينطق بكلمة.
ـ حتى لو صمت، فكلماتك التي لم تنطق بها تفضحك!
ـ أين هي الفضيحة؟
ـ آ ....، يا لك من نمر وديع! مثل حمل، بل مثل حمامة، إن لم تكن مثل بلبل!
ـ لا تؤذيني...، سيدي، فانا لست حملا ً، ولا حمامة، لست بلبلا ً ولا عصفور ً...، فانا ولدت كي اقهر مخالبي، وأنيابي، واخمد النيران المتأججة في أعماقي...!
ـ اعرف...، ولكنك لا تكف عن النظر في الشمس؟!
ـ اجل، فعندما لا أجد من اشتكي عنده، وأسأله، ارفع رأسي، وأحدق في الشمس...
ـ ماذا تقول لها...؟
ـ أقول... أي...، قلت ... قلت...
نهقت الأتان بصوت رقيق مشوب بالخوف:
ـ اخبره...، فالنجاة في الصدق!
أجاب النمر متلعثما ً:
ـ بعد وقائع الحرب الأخيرة، التي جرت بيننا، في هذه الحديقة، بعد أن افترس الضعيف الأكثر ضعفا ً، وبعد حفلات التنكيل بالصغار، والإناث، والشيوخ، وبعد ...، وبعد حفلات الاغتصاب، والتعذيب، ورمي الجثث في المستنقعات، والبرك، وبعد طمرها، ودفنها في المناطق المجهولة، أو تركها تتعفن في العراء، وفوق تلال المزابل، والنفايات.... وبعد...، وبعد طرد الأبرياء من حفرهم وجحورهم وزرائبهم وأقفاصهم، وحرق منازلهم عليهم، وهدمها فوق رؤوسهم....، وبعد اغتيال أكثرنا حكمة، وعقلا ً، ووداعة...، وبعد ....
ـ وبعد ...ماذا...، أيها الشرير العنيد...؟
ـ رفعت رأسي ونظرت في السماء...، فرأيت الشمس...
ـ نعرف...، لدينا معلومات في غاية الدقة، ولكن ماذا قلت لها...؟
ـ قلت لك: لولاك....، أكان يحصل هذا كله؟!
ـ لا....، لا تزور...، وتموه، من اجل خداعي!
ـ قلت لها: لولا أشعتك البهية، الذهبية، ولولا ... نورك...، وحرارتك، ودفأك، وطهرك، ونقاوتك، وصفاء طويتك....، لولا هذا كله الذي ....
ـ لا تسكت.
وخاطبت الأتان النمر بتضرع:
ـ قل الصدق....، فقد تخفف العقوبة...، وقد تحصل على المؤبد...!
همس النمر في أذنها:
ـ اقسم لك لولا هذا الصدق...، لكانت المصيبة اخف وطأة علينا!
صرخ الجرذ وهو يرتجف:
ـ اخبرني ماذا قلت للشمس....، قبل أن أرسلك إليها!
أجاب بصوت ناعم:
ـ سيدي، أنا اعرف أن القرار قد صدر بحقي قبل استدعائي، بل وقبل ولادتي.....، ولكن تريث...، فانتم لن تقدروا على تدمير دولة البعوض، ولا إمبراطورية البرغوث، ولا ارض النمل، فهناك الديدان العنيدة التي تحول اصلب المعادن إلى غبار....، وهناك الحشرات التي تلتهم أعظم الغابات وتساويها مع التراب....، وهناك...، ذلك القابع في الزمن...، في لغزه، الذي سيبقى يذهب ابعد من زمنك، ومن زمني، ومن الزمن نفسه!
ـ ما الذي يكمن في الزمن، أيها .....، المخبول؟
ـ الذي لا تستطيع أن تغلق فمه!
ـ ولكنه لا يتكلم...؟
تضرعت الأتان للنمر بصوت حزين:
ـ اخبره بماذا بحت....، ألا تراه يرتجف، ويرتعد....، وينز عرقا ً ...؟
صرخ الجرذ في وجه الأتان:
ـ يا حمارة...، أنا لا ارتجف، ولست خائفا ً، ولا أنز عرقا ً مرا ً....، فانا اعرف إن الزمن سيذهب...ويزول.
فسألته الأتان بقلق:
ـ وتزول حديقتنا أيضا ً...؟
قال النمر يخاطب الجرذ:
ـ أنا بحت للشمس: لولاك.....، هل كنا سمعنا هذه الضوضاء، ولولاك...، هل كنا استنشقنا هذا العفن، ورأينا هذا .....، الخراب؟
ابتعدت الأتان عنه، تبحث عن الباب:
ـ سيدي يا كبير الحكماء، أيها الجرذ الوقور، لقد تجاوز السيد النمر المحرمات، والآثام، والكبائر كلها!
ضحك الجرذ وهو يخاطب الأتان:
ـ أنا أمضيت ملايين السنين أحاكم الخارجين على القانون...، كي انتظر من يوجه لي تهمة الخروج هذه ضدي.....! أيها الأحمق، لولا العفن، لولا هذا العفن الغالي، الثمين، النادر، لما رأينا أمنا الشمس العظمى ...، ولولا هذا الزمن لما كنا أدركنا سر ديمومة هذا الذي يذهب ابعد من زواله....
ـ سيدي، أنا لم أشتمك، لم ألعنك، لم أوبخك، ولم انبس ببنت شفة سوء ضد مقامك الكريم.
فصرخ الجرذ بصوت مذعور:
ـ أنت شتمت ولعنت ووبخت من كان السبب ....
صاحت الأتان:
ـ انه ـ سيدي الموقر ـ ذهب ابعد من المحرمات، وابعد من ارتكاب الخطيئة...
ضحك الجرذ:
ـ لن يقدر!
قال النمر بنشوة:
ـ ها أنت تعلمت الحكمة....، فما عليك إلا أن تعمل بها.
ـ لكنك اقترفت الإثم الذي لا غفران له؟
ـ لو كنت تعلمت الحكمة حقا ً...، لعرفت، انه لا معنى للغفران لو لم يمح إثم هذه الضوضاء....، وخطيئة هذه الكلمات! فما قبل وجود الشمس، وما بعد غيابها، شبيه بما قبل الزمن، وما بعده، فهو يماثل هذا الكون قبل أن توجد فيه مثل هذه الحديقة، ولا يختلف كثيرا ً بعد غيابها. المهم، يا سعادة الجرذ المحترم، أن تعمل بالحكمة التي عليك أن تتعلمها، كي لا تستدعينا، وترسلنا إلى الموت، لأن ما قبل الموت، شبيه بما بعده، لا ضوضاء تدلك عليك، ولا كلمات تقودك إلى إغلاق بابه!
26/5/2015
ذاكرة المعمار العراقي سامي قيردار-د. إحسان فتحي
ذاكرة المعمار العراقي
سامي قيردار
الأعزاء المعماريون العراقيون والأصدقاء
تحيات طيبة
د. إحسان فتحي
وددت في هذا (البوست) أن أذكركم بالمعماري العراقي سامي قيردار الذي درس العمارة في فرنسا ورجع إلى العراق وعمل في دائرة الأشغال العامة، وصمم عددا من البيوت المعروفة في بغداد. لاحظت صعوبة الحصول على المعلومات عنه وعن أعماله في العراق أو تركيا. وبما انه احد رواد العمارة العراقية المعاصرة فأرجو تزويدنا بأية معلومات وصور عن أعماله في هذين البلدين. وأرجو من أقربائه المساعدة في الموضوع ولهم جزيل الشكر والامتنان.
الخميس، 28 مايو 2015
حوار القاص قاسم فنجان، بين انزياح الحضور وحضور الغياب- عايدة الربيعي
حوار
القاص قاسم فنجان، بين انزياح الحضور وحضور الغياب
عايدة الربيعي
((لماذا نكتب القصص ؟ ولماذا يكتب الكتاب قصصهم ؟
هل لان لدينا او لديهم ما نريد أو ما يريدون قوله.
او هو الدافع الموازي للسبب الأول، هو الرغبة في الاكتشاف.
إذن ستكون الكتابة في احد أهم محركاتها هي الرغبة في الاكتشاف فعبر القصص بإمكاننا أن نختبر الأشياء والأفعال، أن نحمل الجمل بأفكارنا وتجاربنا، وفي عملية الكتابة القصصية نبلغ مرحلة فهم أعمق للعالم) للناس ولأنفسنا.))*1
..........................................................
تعودنا أن نصغي بأسم الجراح بلا أصفادـ نصغي بلا خوف ولا اندلاق الرقاب كان يرعبنا لأننا نمتد شخوصا في دراماه وربما في إحدى نصوصه نضع أيدينا فوق قلمه فنصافح روح قاص ماهر يتلاعب باللغة بمهارة ومرونة ليقربنا من الجو العام للقصة عبر الزمان في دهاليز من وجد واشواق في مكان ما. الحداثة اسلوبه او مابعد الحداثة،هي نتاجات بدلا من شكل القص التقليدي المستهلك،ترويك للوصول إلى إحساس قوي معه خلال قراءتك وعليك أن تكون قارئا متميزا، حريصا ودقيقا كي تنادي لمحته وتلك احدى مهاراته. يمشي بك وانت حي تصفق عند انتهاء العرض حتى يهجرك لأنه يعشق الموتى يسمع وقع الموتى وبكاء الام وعشق الحبيبة وكل تلك ذنوب و مشاهد او فكرة لأحساس مباشر او مؤثر في دراما نصوصه، يحب الشعر بل يعشق القصيدة النثرية وان كان مقلا.
استردينا بعض العافية في ذاكرة باتت تتلاشى لأيام الزمالة الدراسية في أكاديمية الفنون الجميلة، كان حوار من فاكهة و دفئ من السرد الجميل فتحنا من خلاله بوابات التذكر والحديث ووضعنا رؤوسنا المتعبة على حافة الفرح والحزن الأبيض وقرأنا سوية هذا الحوارفي دائرة من حلم حاضر تحاصرنا فيه الاسئلة فألتقينا بأنسانيتنا بضمير عراقي، هنا تجلت لغة هذا الحوار بين انزياح الحضور وحضور الغياب .
بين المسرح والقصة اقترن اسمه ولم يضيق بهما قط ،أدمن الكتابة بأسلوب أدبي لم يتأتى من الشكل الوظيفي فقط ،بل تعداه ليفيض شعرا ورسما في حنين الكلمة و بلاغتها مقتربا من نخبة القراء .لايقف عند اختيار الفاظه بل يختزل القارئ ويدمجه مع مفردته المنتقاة من اختزال نصوصه ذات السبغة الشعرية لتنساب الى اذن القارئ ،حقق الكثير من النجاح في المسرح، قبل و بعد 2003 حيث شارك في اغلب المهرجانات المسرحية القطرية ،التي اقامتها مديرية النشاط الرياضي والمدرسي في وزارة التربية، وأحرز المراكز الأولى على مستوى النص والعرض ،انحنى ليكون قريبا جدا من الطلاب في المسرح المدرسي عندما شيد جسورا وطيدة بينه وبين المدارس،كان استاذا تربويا ناجحا ومؤلفا وانسانا مبدعا يمتلك جمالية الصياغة اللغوية، ينتقي مايشاء بخصوصية وحضور واضحين، يتوغل في اعماق نصوصه حتى يدخل اغوارك لتتماهى معه وكأنك احد أبطال دراماه. كتب المسرح واشتهر قاصا في مدينة الحب والتلاقح الثقافي الانساني كركوك ،ولد فيها عام 1961 .
حامل لشهادة البكالوريوس / سينما / كلية الفنون الجميلة / بغداد 1985/1986حاور الزمن والوقائع في زمن اللا حوار قام بتشخيص مكان الوجع العراقي حتى صارت القراءة عنده رغيفه اليومي وعشقه اليومي وحزنه اليومي ،كان ومازال حرا في كتاباته لم يملى عليه احد ولم تؤدلجه سلطة او حزب رغم إن الأحداث كانت تنساب من حولنا في زمن توشّح بالمفاهيم السياسية ادى بالكثيرين للأنجراف في تيارات الطلاسم السياسة لكنه ظل يكتب عن المعنى الحقيقي للوطن، للمرأة، و للكلمة في مفهوم العمل الإبداعي فكان مسرحيا جادا وقاصا بارعا هدوءه و قلقه ينتهيان مع انتهاء نص يشتغل عليه وما ان ينتهي حتى يكاد يبدأ ليتكاثف في وعي حضاري بليغ في معناه لنص اخر. كان الأكثر اقترابا من هموم الناس،والأدق ترجمة في نقل احاسيس الفرد العراقي. نشرت اعماله في معظم الصحف والمجلات الكركوكية وعلى الشبكة العنكبوتية لانراه الا وقد اقتص من الزمن حدثا حتى انتصر عليه، تكاثر كالسنابل بقلقه وطموحه حتى صيّر خارطة لمسرح تمتد من كركوك الى بغداد و مالمو و بروكسل.
له في المسرح
فراديس : فازت بجائزة أفضل عرض ونص في مهرجان منتدى المسرح العراقي عام 2000/ إفتراضات واهية : عرضت على المسرح الوطني ضمن المهرجان العراقي للمسرح عام 1995/ دم البرتقال : عرضت على مسرح المنتدى العراقي عام 1997 /قيامة النار/حكاية الامس الحزين : فازت بجائزة أفضل نص في المسابقة المسرحية لوزارة التربية عام 2006/الآخر/السرير الخامس: فازت بجائزة أفضل عرض في المهرجان المسرحي الطلابي عام 2008 /واطئة تطير النوارس/وداعا ايها الجنرال/ترنيمة الغياب /العرض الاخير/ ماذا لو عاد الحلاج / أخبار عائلية فقط : فازت بجائزة أفضل نص في مهرجان المسرح الشبابي عام 1992/ جثة في الجوار/مملكة الموت والعسل: فازت بجائزة أفضل نص في المهرجان المسرحي للمشرفين والمدرسين والمعلمين عام 2009/موت اليعاسيب عرضت في بلجيكا والسويد
وله أيضاً :
1. (مخطوطة مراثي الغياب ، اثنتا عشر مرثية ) قد رثى فيها مبدعين ماتوا في كركوك ،الكثير من الاصدقاء، ياترى ..هل كان يتهم الموت بموتهم؟ا أم انه يأخذ افادة موتهم؟
2 .قيامة النار ، مخطوطة قصصية تحت الطبع .
3 .الوصية ، مسرحيات للأطفال تحت الطبع.
،(لفّ حبل حزنه المتين على قلب أيامه المهترئة ، شدّه بقسوة فانهار أولاً ومات أخيراً ، مات ولكنّه لم يمت كما يموت الآخرون)*2
بين صدق المطابقة للواقع و صدق الوجدان والإحساس تخرج بنا نصوص قاسم فنجان إلى قيمة إنسانية خاصة تجعلنا نتسائل بصوت يدوي في قلاعه الخاصة الخاصة حد قربنا من خوالجه او قاب قوسين وفي حوار طيب طيبة الجنوب امتد الى تلك الفراديس بين استنزاف الروح واحتضار اليعاسيب في نظام سردي استقرأنا من خلاله ملامح تصيّر الاشياء الخاصة به مابين انزياح الحضور وحضور الغياب وماشطح منهما في افق الكتابة.
يقول أحد الكتاب:
(أن الأمة العربية لا ينافسها غيرها فيما صاغت من قوالب للتعبير عن القص والإشعار به، فالعرب هم الذين قالوا من غابر الدهر: " يحكى أن ... وزعموا أن.... وكان ياما كان.. " إلى آخر هذه الفواتح التي يمهد بها القصاص العربي في مختلف العصور لما يسرد من أقاصيص، لذلك فالأرجح أن فن القصة له جذور عربية أصيلة فلم يكن وافدًا إلينا كله من الغرب دون وجود أية جذور عربية له في بيئتنا) س1- جهدك يتركز على صنع عالمك القصصي الخاص،ذلك العالم الذي ينبض بحقيقة لها ضوء الشمس وظل الشمس،لك طريقة في الكتابة تنساب بذاكرة لها فضائها في افق تشترك فيه الحقيقة والغياب؟ ما الكتابة في رأيك و ما تأثير سحرها على القارئ ؟
وردت في لقاء لي ذات يوم جملة عرضية،استوقفتني بعد ماقلتها ،كانت الجملة :(كلما أصر على شئ تصر علي الأشياء؟)من هذا السؤال استقرأت بتروي طريقتي في الكتابة و أكتشفت انني مكتوب سلفا وما أدونه على الورق من حكايات لادور لي فيها إلا النقل،هذه قناعة قد يرفضها البعض لكنها الحقيقة التي تسمح لي أحيانا بنُتفٍ من الوعي أشركها في غياب الحال الكتابي لأحذف هذا او أضيف ذاك ،الكتابة افق تصوفي عجيب من أعراضه إنزياح الحضور بالغياب في روح الكاتب حيث يستقدم المبدع من جراء ذلك الأنزياح نصه الغريب بعد ان يفك إشتباكه أولاً مع سيل الدفاعات التي تتحصن بها الحكاية المكنونة في الباطن،لذلك يحل الشطح ويأتي البيان بأبهى حلة سردية بعد ان يستنزف الكاتب جسده وروحه في تمرين قاس ومخاض أليم من اجل اجلاء روح النص لتحقيق اللذة للكاتب والمتعة للقارئ.
* لغة الحواروبناء النص؟ (اللغة)ما هو أثرها في نقل الفكرة وهي تعلن عن وجودها؟برأيك الكاتب عليه ان يهتم أكثر بالمعنى أم بالأسلوب؟ونحن نراك قد وفقت بكليهما.
ـ اللغة هي القاسم المشترك بين جميع الاجناس الادبية ،انها العنصر الاهم لما تنطوي عليه من اهمية تمضي بالنص الى ضفاف الأمان ،انها تدخل في كل شئ معلنة عن وجودها تارة لتروي الحدث على لسان الشخوص الناطقين بها وتارة اخرى تتمركز ببلاغتها الرصينة وبياناتها الباهرة في بناء السرد،تهب السلاسة والسحر في المفردات المؤثرة لتقود القارئ الى كمين السرد،هناك حيث تتفتح له المغاليق الثابتة في النص لتدرك الذات القارئة روعة المنجز وسحره الآخاذ، لهذا يجب التعامل معها بروية وحذر ،لأنها الشراع الذي يسيَّر قارب النص في بحر السرد ،وهي السر الذي يوسم النص بسرمدية البقاء ،ولنا في تحف التراث الخالدة خير مثال على قوة بقائها وديمومتها الخالدة.
* يقول جوستاف لوبون: " أتيح لي في إحدى الليالي أن أشاهد جمعا من الحمالين والأجراء ، يستمعون إلى إحدى القصص ، وإني لأشك في أن يصيب أي قاص غربي مثل هذا النجاح، فالجمهور العربي ذو حيوية وتصور، يتمثل ما يسمعه كأنه يراه؟وعالم القصة، رغم انه صغير إلا انه مكتمل فالقصة عند ابن طفيل هي سرد مباشر ولها هدف معين من حيث المبنى لابد ان يكون فيها نوع من الوعي الموضوعي، متى بدأت القصة؟
ـ يصعب علينا تحديد تاريخ دقيق لميلاد القصة الحقيقة الا بأقرار مااجتمع عليه اغلب النقاد حول الكاتب الروسي غوغول برائعته الادبية(المعطف) انها القصة الاولى في التاريخ التي استوفت عناصر القص بالشكل والمضمون حيث تعرضت هذه القصة بشكل واقعي ساخر الى انسحاق الانسان الفقير في الزمن الجديد.
*-القص فن وجنس أدبي يتطلب فلسفة ورؤى خاصة يقدم بأسلوب ممتع، لك فيه صبغة خاصة نرى فيه ملامحنا وسماتنا كيف يصل الكاتب إلى المرحلة السامقة.
ـ الروح التي يبثها الكاتب في جسد الحدث الساكن موظفا لها كل مايتعلق بعالم الروح من مشاعر واحاسيس وعواطف ،يوزعها على التقنيات المتيسرة له من حوار وسرد ومونولوج وحلم ،ليبلغ بها الصياغة التي ترتفع بالنص الى مستواه الجيد،اما الحدث الذي ذكرناه، هو حكاية النص وهيكلها القائم في المتن السردي ،يمتزج بالأسلوب داخل بناء متراص الأبعاد ليصلَ برسالة النص ومرادها الى القارئ ،لذلك يضفي الاسلوب هالة من السحر والجمال على الحدث ،فالأحداث ومواضيعها مطروحة في الطريق حسب الجاحظ ، والمحنة تكمن في الاسلوب الذي يبعث الحكاية من قمقمها ليسبغ عليها شرعية القص.
* هل الحداثة في كتابة القصة جاءت كحتمية لواقع مضطرب ومتغير من اجل الأبتكارلولادة جديدة وخرق لنظام مكرر؟
ـ نعم انها الكتابة الجديدة التي تجاوزت النسخ والشروط والضوابط وقفزت على كل ماهو قديم ومكرر، هي نتاج حتمي لواقع مضطرب ومتغير بشكل مرعب يدفع الكاتب للتماهي مع المهمل من اجل ابتكار حديث، يجري من خلاله فك الشفرات السرية لكل ماهو ملغز ومحير في الحياة الجديدة، لهذا جاءت قصص آلان روب غريبة وناتالي ساروت تحمل في شكلها ومضمونها سرداً قائماً على زلزلة النظام السردي القديم وخرق نواميسهُ المطلقة وهكذا جاءت تلك الولادات الجريئة بذاكرة جديدة للسرد تستدعي لفضاءها الجديد كل العوالم الاخرى، الموسيقى مثلاً بأيقاعاتها الهادئة والصاخبة تراها مجازاً تتسلل في متن( النص من خلال مفردات لها جرس ورنين يتوافق بشكل هرموني مع صخب المشاعر وهدوئها الرتيب لدى الشخوص، اما الشعرية فترى انسيابها الساحر في مهارب الروي بلغة تسعى الى ابتكار لغة ثانية تستوعب فيض العواطف وأنفلاتها المجنون بقوالب سردية ضيقة، انها محنة الكتابة التي لن يتم انفراج ملامحها الواجمة الا للقارئ الجيد!.
* للقصة الغربية صياغة خاصة وإطار مرسوم لها، اتخذ مقياس وميزان ،لكن هذا لا يمنع أن يكون للقصة العربية في الأدب العربي صبغة خاصة بها ، وإطار مرسوم لها أيضا؟كانت الرسوم علي جدران الكهوف في التاريخ السحيق هدفها البوح بنوع ما من (القص)، أن يروي ذلك الكائن إحساسا ما أو فكرة آلا نعتبر ذلك جذورا للقص في حضارة سومر؟
ـ اذا اردنا ان نتكلم عن بدايات القصة فأننا سنصطدم حتماً بالتاريخ لان قوام القصة الحكاية والحكاية شفاهية كانت او مدونة فأنها معروفة منذ الازل، تبلورت مع تقادم العصور لتظهر واضحة في كل الكتب السماوية ومنها القران الكريم. لقد وردت لفظة قصة في اكثر من عشرين موضع في القران وهذا يدلُ بوضوح على ان القصة كانت معروفة لدى الاقوام التي سبقت الاسلام والا لمّ كان الكتاب الكريم يخاطبهم بأكثر من قصة ويخصص لذلك سورة كاملة هي سورة (القصص)، لقد ساهم كلام الله في ترسيخ السرد في الذاكرة العربية بشكلٍ كبير وادى ظهوره الى ظهور إرثُ ادبي حكائي متمثل بالمقامات والرسائل والشطحات الصوفية ولولا قوة الرقيب في الشعور الجمعي الذي حال دون ظهور حضارة ادبية لكان يمكن للعرب ان يستلموا زمام الريادة في اكثر من جنسٍ ادبي.
*(إن الثقافة المسرحية الواسعة تؤدي إلى فن مسرحي عظيم.) وعلى الرغم من اختلاف ملامح المسرح العربي الا انه بقىمنبرا ثقافيا ،هل ارتقى بجمهوره عالياً في كركوك ضمن مسيرته الطويلة والحافلة، ؟ هل تخلف ام مازال بعافية ونشاط ؟والى من ترجع اسباب ذلك؟
ـ كركوك تأريخ حافل بمحاولات لعروض متواضعة ابتدأت في ثلاثينات القرن الماضي ثم تبلورت فيما بعد الى عروض مسرحية مهمة في الخمسينات من نفس القرن. لكن ذلك التألق السريع سرعان ماخبا بعد أن أحاطت ظروف سياسية قاهرة بالمدينة وأثرت سلباٍ على ذلك النشاط الجديد،حيث تلكأ المسرح كثيرا واقتصر نشاطه على تقديم عروض فقيرة لم يؤشر مرورها لأي شئ حتى جاءت السبعينات، تلك الفترة التي تأوج فيها المسرح على باقي الفنون لتشهد ساحة كركوك الفنية عروضا مسرحية ساهم في إبرازها مبدعين من قوميات واديان وطوائف مختلفة،هزت الأوساط الفنية في عموم البلاد وحَدا نجاحها الكبير بأرتحال بعض نجومها المتميزين ليشغلوا حيزاً في المساحة الضيقة لمسرح العاصمة بغداد.هذه الاشارات التي أوردتها كانت بمثابة تنبيه الى ان هذه المدينة الباهرة حاضنة لكل ماهو مبدع ومختلف ولولا الحروب والمحن السياسية العصيبة التي تقادمت عليها لأستطاعت تلك المدينة المعطاء ان ترتقي بالمسرح وبجمهوره عاليا الى مصاف مسرح البلدان المتقدمة.
* حققت كركوك نجاح في المسرح المدرسي،كيف استطعت أن تتعامل معه(المسرح المدرسي) وأنت تسمو بنصوص النخبة؟هل كان صعبا على الطلاب التداول مع مفردات النص ومع جدية النصوص؟
ـ ا لمسرح فضاء يغوي الجميع بحكاياته والوانه واضواءة وهو في نفس الوقت منبرا تقافيا تنبثق من فضائه الطاهر حكايات درامية تساهم في استثارة المخيلة وتغييرها. هنا تكمن أهمية هذا النوع الخالد من الفن وضرورته لأكبر شريحة بشرية في المجتمع و هم الطلاب ،حيث الزمنا هذا الأمر بالتعامل معهم بمنتهى الجد والاخلاص بمخيلة تدعو للأفضل لذلك جاءت عروضا مسرحية حازت على المراتب الاولى في العراق وأخص بالذكر منها حكاية الأمس الحزين والوصية والسرير الخامس، لقد نجحت هذه الاعمال ولم تستند في جذرها الى ممثلين محترفين بل كان الممثلون طلاباً وطالبات لم يتعاملوا سابقا مع خشبة المسرح وكذلك الفنيون لم يكن فيهم المسرحي المختص او الأكاديمي المحترف ،لكن الذي تحقق في النتيجة النجاح الساحق و المتكرر في أغلب المشاركات القطرية،ان هذا النجاح لم يأتي من العدم بل من تظافر جهود كثيرة تركت لها بصمات مؤثرة بلغت تأثيرات تفوقها الى اكثر من مدينة في العراق ،لذلك استطيع القول ان المسرح المدرسي في كركوك ساهم في اضافة شئ جديد الى المسرح المدرسي في عموم العراق على إمتداد سنوات عطائه الطويلة .
* كيف كان المسرح في زمن كان الكلام فيه ممنوعاً،هل صمت المسرح الجاد ، في حين كان المسرح التجاري يصرخ بأعلى صوته ؟
ـ عندما تحيق الحروب والحصارات ببلاد ما وتطبق بمخالبها على انساغ حياته الطرية.فأن كل مافيها سيتردى وينهار ويصبح الوضع اشبه بمخاض عسير تتعرض فيه كل الشرائح للأختبار،من تلك الشرائح المسرحيون فمنهم من كبل تجربة عبوره بنصوص كانت محط افتخار له بعد انجلاء تلك الأيام العصيبة وهم " الأقلية الهائلة " على حد قول أوكتافيو باث ومنهم مَن غاص في الرذيلة وأمعن في ارتكابها عندما حول خشبة المسرح الى وسيلة رزق رخيصة يعرض عليها كل مايسئ الى الفكر والذائقة العراقية و للأسف كانوا هُم الأكثرية المرعبة لذلك صار لزاماً على الكتاب أن ينتبهوا لخطورة الحال الذي كان يجر المسرح الى الوراء بعد طوفان المسرح التجاري ،حيث جاء التصدي بقوة لهذا الغزو اللاأخلاقي من قبل مسرحيون معدودون وأظنني كنت واحداً منهم عندما كتبت في تلك المرحلة الحرجة من تأريخ البلاد اعمالاً جريئة مثل إفتراضات واهية و فراديس و وداعا أيها الجنرال و ماذا لو عاد الحلاج الذي منعته الرقابة لعدم السلامة الفكرية .
*هل يسعفك اوكسجين الحياة اذا ما ماتت من حولك المشاعر أو تحجرت وانثلمت افاق الخفق في عالمك السردي؟
ـ ما يسعفني على العطاء دائماً هيَ الحياة القاسية فلاغرابة وانت تعيش في بلد مستعر حينما تتملكك لغة لألفاظها شواط البارود ولأيقاعاتها دوّي الرصاص،فالحزن والموت والشقاء ثالوث مرعب يشغل بالأكراه الحيز الاكبر من فسحة حياتنا القصيرة، ان الكاتب وليد واقعه وما نتاجاته إلا ترتيبات دفاعية تقوم بها مشاعره القلقة لتدرأ عنه مخاوف الموت، ان نصوصنا بيانات غيبية ،فرضتها الحروب والمحن على امتداد حياتنا، لنبوح بها للأجيال القادمة بالسرد ،عنها وعن كوابيسها التي قفزت من عوالم وهمها
* برز الكثير من الكتاب الذين كتبوا النص المسرحي،مارأيك بآخر التطورات التي طرأت على المسرح؟واين قاسم من بين هؤلاء الكتاب؟
ـ اختلف المسرح كثيرا بعدما عصفت به رياح التجديد في منتصف القرن 19 حيث ظهرت اسماء نزعت عن المسرح الأردية الكلاسيكية وألبسته حلة أخرى تتوائم ومتطلبات العصر الحديث،لقد وجد المتلقي نفسه لأول مرة مشاركاً فاعلاً في تحديد مصائرالشخصيات،يشارك في بداياتها ويخطط لنهاياتها والفضل في هذا التحديث يعود الى المنظرين امثال ستانسلافسكي وبرشت وبيكيت وجروستوفسكي وآخرين غيرهم ،أما فيما يخص المسرح العربي الذي طرأ حديثا على ثقافتنا العربية فقد وجد المسرحيون انفسهم في اشكالية البحث عن ملامح لمسرح عربي خاص بهم ،وكان من جراء هذا البحث والاستقصاء إنبثاق أكثر من نوع كالمسرح الاحتفالي الذي توكأ على التراث والجمهور والمسرح الوثائقي الذي تأثر بمسرح بيتر فايس والمسرح العبثي الذي حاكى تجارب اللامعقول في الغرب وكذلك الذهني والتسجيلي والسياسي، لذلك وجدتني وسط هذا الخليط الملون أبحث في تلك المساحات المضاءة عن وجه مسرحي يمثل تطلعاتي فلم اجد أفضل من المسرح السياسي الممثل الصادق والفاعل لكل ماتجيش به مكنونات المتلقي العربي،فكتبت في التسعينات اخبار عائلية فقط وافتراضات واهية وفراديس وكانت جميعها نصوصاً جادة تحمل في متونها مقاربات لأشكال الأضطهاد الذي يرضخ تحت وطأته انسان الشرق العربي!
* لقطات لأشكال كابوسية تخلق حالة من التوتر،مروعة يتزامن ظهورها مع ظهور نص جديد لقاسم حميد؟مانصوصك والكوابيس التي تزاحم لياليك؟
ـ رؤى مرعبة تتطاحن في عوالم الباطن الاسرة ،تبحث عن قلم يقودها للولوج الى عالم الواقع انها تسعى مثلما يسعى كل شئ في الحياة،لذلك نراها تزاحم الكتاب بعد ان ترفع صواري الارق في لياليهم الهانئة ،تربكهم بحضورها المفزع ولن تغادرهم حتى ينقادوا مكرهين لرغبتها والشروع في توثيقها على هيئة نصوص متميزة.انني اخالها شرط ابداعي لن يحظى به الا المحظوظين من الكتاب،لانها ببساطة شديدة الترصد والتوجس بسخاء كبير ومن دونها سيفتقر الكاتب الى عارض القلق والخوف اللذين يؤديان به حتما الى فسح النص المتوترة.
* هل تناولت الميثولوجيا في كتابتك لأستلهام واقعها الخرافي الأسطوري الساحر، وكيف تنظر الى التراث؟
ـ لوقلنا ان الكوابيس شرطٌ ابداعي من شروط الكتابة فأن الميثولوجيا بسحرها الاسطوري قرينها الحميم، انهما يساعدان المخيلة الخاملة على الانفتاح للتأسيس والخلق، لهذا وجدتني استلهمُ من واقعي الضاج بالخرافة والسحر والكوابيس نصوصاً ساعدتها مخيلتي على الانبعاث والوجود، لقد تجلى هذا الشرط واضحاً في قصتي،(سوأى بنت آرو) التي اصطحبتني في جوفها لألج من خلالها عالم الجن وارى مالم يراه الا الممسوسين بهم، انه فضل الكتابة ونقمتها وقد تجلت في عبد الشط، اسطورة الجنوب القديمة التي حرضت ذاكرتي على بعثها في ضفة النهر الثالثة، ضفة وهمية شيدت عليها من اجل العبد عائلة واصدقاء واعداء كانوا وراء ثورته على المصير وموته على يديه ايضاً، اما الشيطان وابنته في (انثى الشيطان) فقد استفاقت من سباتها الطويل لتحرضني على الانقلاب بعد ان قررت ان تقلب بسحرها الاوضاع رأساً على عقب ليحصل اختلال بايولوجي فيه تبيض النعاج وتلد الدجاج، انها رسائل تمررها كائنات الوهم لتشكل لها وجوداً ساخناً ومدوناً تشترطه خرافاتها الجميلة على ذاكرة السرد!.
* الكاتب المسرحي يكتب وفي باله ظروف مسرحه وإمكاناته وفي حسابه كل صغيرة وكبيرة، مما يمكن تنفيذه لما يدور في ذهنه، ويخطه قلمه،الى أي مدى حققت ذلك؟
ـ المفصل السردي الاهم في متن القصة ودلالته التي تدعوه الى الاقتضاب والادهاش للأمساك منذ البدء بفضول القارئ المشتت،لذلك ترى القاص الجيد يبحث عن شروع يشرك من خلاله القارئ مباشرة في حكاية النص ثم يدفعه لافتراض استننتاج سرعان مايرفضه جسد النص الحديث،انها لعبة التشويق في البداية ،لعبة مشوشة كالحياة تتظافر في تشكيلها انماط مختلفة من السرد مثل تعدد الاصوات والحوار المسرحي والحلم اواتخاذ نهاية الحكاية كبداية لها في النص من اجل اضفاء الشكل المثير على النص الحديث.
* هناك شعور يتفتت بعد الانتهاء من النص،هل تصغي بارتباك لواقع خطى النص لحوار ذكريات ما داخل باحة النص اثناء كتابته؟
ـ جزء مقتضب من عالم مكنوزفي اروقة مخبوءة في مفازات الذاكرة ،انها وخزات لاسعة تقرع بشدة على ابواب الكاتب،تقلقه بدويها وتهزه بصخبها فيفتح لها عوالمه لتخرج مرتكزة الى ثقافة روحية تقوم على رهافة الوجدان .لها يستجيب بعد ان يتدرع بسيل لامحدود من رؤى فلسفية ونفسية ومعارف تأريخية واجتماعية،يصهرها مع ذكرياته في بوتقة الموهبة ليتسامى من خليطها نصا يضوع بصدق الماضي واوجاعه القديمة.
* الفنتازيا قدرة المخيلة تجلت في الأداب والفنون،برأيك على ماذا تبنى أساسات النص ألغرائبي ؟
ـ الفنتازيا ادب دعامته الاساسية الخيال وبدونه لا وجود لأي أدب غرائبي ،إنها المحايثة المجنونة لقلب الخرافة وهي الادب الذي لايقوى عليه صاحب المخيلة الساكنة والوعي المستسلم للظروف. انها اعلان عن القدرات الخارقة للكتابة حيث تتجلى في عوالمها قوة المخيلة وطواعية اللغة ومنهما يتم الحصول على رمزية تمنح هذا السرد الوهمي المؤسطر هوية للقبول وشرعية للوجود،لتندرج شأنها شأن النصوص الواقعية في الإسهام بإيصال رسالة تساهم ولو بشكل غريب في الإشارة إلى متطلبات العصر ومشاكله. ان هذا النوع من الادب ضرورة لبعض الكتاب اللذين تضايقهم سلطة الرقيب أو تكبلهم العادات والتقاليد المستهلكة ليمرروا بطريقة سحرية ورمزية أهدافهم التي تسعى الى التغيير نحو الأفضل.
* -انك رجل يحترم المرأة ،تتجول في اتجاهاتها بأنسانية عالية، للمرأة في عالمك السردي حضورا انسانيا لاتساوم عليه؟
ـ المرأة نقطة الضوء المتوهجة في عتمة النص ودلالته المحرضة على الحياة ،تينع من حضورها بؤراً ملونة يساعد استفزازها المثير كل كاتب على تقديم النص الأحلى ،و يساعده على ذلك سِفرها المدموغ بالمصادرة والانسحاق والظلم ، الذي يسوّغ لها أن تكون مركزاً مشعاً بالوجع والشقاء و العطاء ،لذلك تراها تحل محل الروح في الجسد متمردة تمضي بأكف المخيلة المبدعة ، صوب عالم السرد الساحر لتعوض فيه ما أستلبه الرجل منها عنوة في عالمها الذي لا يحفل إلا بالذكور ،لهذا اتسع حضورها الفاعل في اغلب حكاياتي، فكانت البطلة في مسرحية قيامة النار والأم وحكاية الامس الحزين وترنيمة الغياب ،إنها الحياة التي لاغنى لنا عنها في الحياة!
* لقد جاء كانط بفكرتي (الزمان والمكان) بأعتبارهما فكرتين فطريتين لايمكن معرفة العالم الخارجي الا بأفتراضهما,تسلسل الفكرة وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي يرتبط بزمانكانها،في نصوصك انزياح في بنائها وبرؤى ذكية تمسك بجوهر النص؟
ـ بؤرة النص التي تدور حولها عناصر السرد الاخرى من لغة وبناء واسلوب واحداث، انها الرؤية المتميزة والالتقاط المبدع لكل ماهو عصي على الانقياء وهي الغوص في المجاهل والعوم عميقا في لجج المحظور والمسكوت عنه للأمساك بجواهر السرد المكنونة بغية الوصول الى الروح الحقيقية للنص ومسها بأنامل الابداع،انها الفكرة والرؤية والومضة ،من تنطلق منها دائما فضاءات النص وأعمدته الراسخة.
رغم ما ساد من فوضى الا ان قاسم فنجان حافظ على ان ترقص اصابعه مع الحبر بأيقاع جميل فكان من الذين تفردوا بأناقة الخطوة، لم يكن هجينا قط، اخذت موهبته مكانها الصحيح نمت في تناسق حضاري استوعب الاحداث والتقط فسبق الاخرين وقدم اعماله على شئ من الدهشة في دلالات يحفل بها المسرح في كركوك ضمن قواعد واصول لم ينافيها قط.
يبقى السؤال:هل من الصعب جدا ان نخلق مسرحا في زمن حروب وتناحرات سياسية ،ام هي المعاناة من تخلق حالة الابداع؟وبين هذا كله كان المسرح يتنفس، بين انامل الكاتب ورؤى المخرج، وحركة الممثل، ومصمم الديكور، ومهندس الإضاءة، مهام عمال الأثاث، ومغيرو المناظر الخ من مهام المسرح..ليبقى منبرا ثقافيا حرا .وهل نجح المسرحيون العراقيون ومنهم مَن حاورناه في بقاء دعائم المسرح قائمة في زمن اختلف فيه كل شئ؟؟
في نهاية روعة اللقاء هذا أقول : كانت عودتي مع قاسم فنجان ،فرحة كبيرة ،آملين له حياة طيبة على مسرح الحياة مع ابداعات ونجاحات في المستقبل.
*1 مقولة منقولة.
*2 جملة من نص لقاسم فنجان.
القاص قاسم فنجان، بين انزياح الحضور وحضور الغياب
عايدة الربيعي
((لماذا نكتب القصص ؟ ولماذا يكتب الكتاب قصصهم ؟
هل لان لدينا او لديهم ما نريد أو ما يريدون قوله.
او هو الدافع الموازي للسبب الأول، هو الرغبة في الاكتشاف.
إذن ستكون الكتابة في احد أهم محركاتها هي الرغبة في الاكتشاف فعبر القصص بإمكاننا أن نختبر الأشياء والأفعال، أن نحمل الجمل بأفكارنا وتجاربنا، وفي عملية الكتابة القصصية نبلغ مرحلة فهم أعمق للعالم) للناس ولأنفسنا.))*1
..........................................................
تعودنا أن نصغي بأسم الجراح بلا أصفادـ نصغي بلا خوف ولا اندلاق الرقاب كان يرعبنا لأننا نمتد شخوصا في دراماه وربما في إحدى نصوصه نضع أيدينا فوق قلمه فنصافح روح قاص ماهر يتلاعب باللغة بمهارة ومرونة ليقربنا من الجو العام للقصة عبر الزمان في دهاليز من وجد واشواق في مكان ما. الحداثة اسلوبه او مابعد الحداثة،هي نتاجات بدلا من شكل القص التقليدي المستهلك،ترويك للوصول إلى إحساس قوي معه خلال قراءتك وعليك أن تكون قارئا متميزا، حريصا ودقيقا كي تنادي لمحته وتلك احدى مهاراته. يمشي بك وانت حي تصفق عند انتهاء العرض حتى يهجرك لأنه يعشق الموتى يسمع وقع الموتى وبكاء الام وعشق الحبيبة وكل تلك ذنوب و مشاهد او فكرة لأحساس مباشر او مؤثر في دراما نصوصه، يحب الشعر بل يعشق القصيدة النثرية وان كان مقلا.
استردينا بعض العافية في ذاكرة باتت تتلاشى لأيام الزمالة الدراسية في أكاديمية الفنون الجميلة، كان حوار من فاكهة و دفئ من السرد الجميل فتحنا من خلاله بوابات التذكر والحديث ووضعنا رؤوسنا المتعبة على حافة الفرح والحزن الأبيض وقرأنا سوية هذا الحوارفي دائرة من حلم حاضر تحاصرنا فيه الاسئلة فألتقينا بأنسانيتنا بضمير عراقي، هنا تجلت لغة هذا الحوار بين انزياح الحضور وحضور الغياب .
بين المسرح والقصة اقترن اسمه ولم يضيق بهما قط ،أدمن الكتابة بأسلوب أدبي لم يتأتى من الشكل الوظيفي فقط ،بل تعداه ليفيض شعرا ورسما في حنين الكلمة و بلاغتها مقتربا من نخبة القراء .لايقف عند اختيار الفاظه بل يختزل القارئ ويدمجه مع مفردته المنتقاة من اختزال نصوصه ذات السبغة الشعرية لتنساب الى اذن القارئ ،حقق الكثير من النجاح في المسرح، قبل و بعد 2003 حيث شارك في اغلب المهرجانات المسرحية القطرية ،التي اقامتها مديرية النشاط الرياضي والمدرسي في وزارة التربية، وأحرز المراكز الأولى على مستوى النص والعرض ،انحنى ليكون قريبا جدا من الطلاب في المسرح المدرسي عندما شيد جسورا وطيدة بينه وبين المدارس،كان استاذا تربويا ناجحا ومؤلفا وانسانا مبدعا يمتلك جمالية الصياغة اللغوية، ينتقي مايشاء بخصوصية وحضور واضحين، يتوغل في اعماق نصوصه حتى يدخل اغوارك لتتماهى معه وكأنك احد أبطال دراماه. كتب المسرح واشتهر قاصا في مدينة الحب والتلاقح الثقافي الانساني كركوك ،ولد فيها عام 1961 .
حامل لشهادة البكالوريوس / سينما / كلية الفنون الجميلة / بغداد 1985/1986حاور الزمن والوقائع في زمن اللا حوار قام بتشخيص مكان الوجع العراقي حتى صارت القراءة عنده رغيفه اليومي وعشقه اليومي وحزنه اليومي ،كان ومازال حرا في كتاباته لم يملى عليه احد ولم تؤدلجه سلطة او حزب رغم إن الأحداث كانت تنساب من حولنا في زمن توشّح بالمفاهيم السياسية ادى بالكثيرين للأنجراف في تيارات الطلاسم السياسة لكنه ظل يكتب عن المعنى الحقيقي للوطن، للمرأة، و للكلمة في مفهوم العمل الإبداعي فكان مسرحيا جادا وقاصا بارعا هدوءه و قلقه ينتهيان مع انتهاء نص يشتغل عليه وما ان ينتهي حتى يكاد يبدأ ليتكاثف في وعي حضاري بليغ في معناه لنص اخر. كان الأكثر اقترابا من هموم الناس،والأدق ترجمة في نقل احاسيس الفرد العراقي. نشرت اعماله في معظم الصحف والمجلات الكركوكية وعلى الشبكة العنكبوتية لانراه الا وقد اقتص من الزمن حدثا حتى انتصر عليه، تكاثر كالسنابل بقلقه وطموحه حتى صيّر خارطة لمسرح تمتد من كركوك الى بغداد و مالمو و بروكسل.
له في المسرح
فراديس : فازت بجائزة أفضل عرض ونص في مهرجان منتدى المسرح العراقي عام 2000/ إفتراضات واهية : عرضت على المسرح الوطني ضمن المهرجان العراقي للمسرح عام 1995/ دم البرتقال : عرضت على مسرح المنتدى العراقي عام 1997 /قيامة النار/حكاية الامس الحزين : فازت بجائزة أفضل نص في المسابقة المسرحية لوزارة التربية عام 2006/الآخر/السرير الخامس: فازت بجائزة أفضل عرض في المهرجان المسرحي الطلابي عام 2008 /واطئة تطير النوارس/وداعا ايها الجنرال/ترنيمة الغياب /العرض الاخير/ ماذا لو عاد الحلاج / أخبار عائلية فقط : فازت بجائزة أفضل نص في مهرجان المسرح الشبابي عام 1992/ جثة في الجوار/مملكة الموت والعسل: فازت بجائزة أفضل نص في المهرجان المسرحي للمشرفين والمدرسين والمعلمين عام 2009/موت اليعاسيب عرضت في بلجيكا والسويد
وله أيضاً :
1. (مخطوطة مراثي الغياب ، اثنتا عشر مرثية ) قد رثى فيها مبدعين ماتوا في كركوك ،الكثير من الاصدقاء، ياترى ..هل كان يتهم الموت بموتهم؟ا أم انه يأخذ افادة موتهم؟
2 .قيامة النار ، مخطوطة قصصية تحت الطبع .
3 .الوصية ، مسرحيات للأطفال تحت الطبع.
،(لفّ حبل حزنه المتين على قلب أيامه المهترئة ، شدّه بقسوة فانهار أولاً ومات أخيراً ، مات ولكنّه لم يمت كما يموت الآخرون)*2
بين صدق المطابقة للواقع و صدق الوجدان والإحساس تخرج بنا نصوص قاسم فنجان إلى قيمة إنسانية خاصة تجعلنا نتسائل بصوت يدوي في قلاعه الخاصة الخاصة حد قربنا من خوالجه او قاب قوسين وفي حوار طيب طيبة الجنوب امتد الى تلك الفراديس بين استنزاف الروح واحتضار اليعاسيب في نظام سردي استقرأنا من خلاله ملامح تصيّر الاشياء الخاصة به مابين انزياح الحضور وحضور الغياب وماشطح منهما في افق الكتابة.
يقول أحد الكتاب:
(أن الأمة العربية لا ينافسها غيرها فيما صاغت من قوالب للتعبير عن القص والإشعار به، فالعرب هم الذين قالوا من غابر الدهر: " يحكى أن ... وزعموا أن.... وكان ياما كان.. " إلى آخر هذه الفواتح التي يمهد بها القصاص العربي في مختلف العصور لما يسرد من أقاصيص، لذلك فالأرجح أن فن القصة له جذور عربية أصيلة فلم يكن وافدًا إلينا كله من الغرب دون وجود أية جذور عربية له في بيئتنا) س1- جهدك يتركز على صنع عالمك القصصي الخاص،ذلك العالم الذي ينبض بحقيقة لها ضوء الشمس وظل الشمس،لك طريقة في الكتابة تنساب بذاكرة لها فضائها في افق تشترك فيه الحقيقة والغياب؟ ما الكتابة في رأيك و ما تأثير سحرها على القارئ ؟
وردت في لقاء لي ذات يوم جملة عرضية،استوقفتني بعد ماقلتها ،كانت الجملة :(كلما أصر على شئ تصر علي الأشياء؟)من هذا السؤال استقرأت بتروي طريقتي في الكتابة و أكتشفت انني مكتوب سلفا وما أدونه على الورق من حكايات لادور لي فيها إلا النقل،هذه قناعة قد يرفضها البعض لكنها الحقيقة التي تسمح لي أحيانا بنُتفٍ من الوعي أشركها في غياب الحال الكتابي لأحذف هذا او أضيف ذاك ،الكتابة افق تصوفي عجيب من أعراضه إنزياح الحضور بالغياب في روح الكاتب حيث يستقدم المبدع من جراء ذلك الأنزياح نصه الغريب بعد ان يفك إشتباكه أولاً مع سيل الدفاعات التي تتحصن بها الحكاية المكنونة في الباطن،لذلك يحل الشطح ويأتي البيان بأبهى حلة سردية بعد ان يستنزف الكاتب جسده وروحه في تمرين قاس ومخاض أليم من اجل اجلاء روح النص لتحقيق اللذة للكاتب والمتعة للقارئ.
* لغة الحواروبناء النص؟ (اللغة)ما هو أثرها في نقل الفكرة وهي تعلن عن وجودها؟برأيك الكاتب عليه ان يهتم أكثر بالمعنى أم بالأسلوب؟ونحن نراك قد وفقت بكليهما.
ـ اللغة هي القاسم المشترك بين جميع الاجناس الادبية ،انها العنصر الاهم لما تنطوي عليه من اهمية تمضي بالنص الى ضفاف الأمان ،انها تدخل في كل شئ معلنة عن وجودها تارة لتروي الحدث على لسان الشخوص الناطقين بها وتارة اخرى تتمركز ببلاغتها الرصينة وبياناتها الباهرة في بناء السرد،تهب السلاسة والسحر في المفردات المؤثرة لتقود القارئ الى كمين السرد،هناك حيث تتفتح له المغاليق الثابتة في النص لتدرك الذات القارئة روعة المنجز وسحره الآخاذ، لهذا يجب التعامل معها بروية وحذر ،لأنها الشراع الذي يسيَّر قارب النص في بحر السرد ،وهي السر الذي يوسم النص بسرمدية البقاء ،ولنا في تحف التراث الخالدة خير مثال على قوة بقائها وديمومتها الخالدة.
* يقول جوستاف لوبون: " أتيح لي في إحدى الليالي أن أشاهد جمعا من الحمالين والأجراء ، يستمعون إلى إحدى القصص ، وإني لأشك في أن يصيب أي قاص غربي مثل هذا النجاح، فالجمهور العربي ذو حيوية وتصور، يتمثل ما يسمعه كأنه يراه؟وعالم القصة، رغم انه صغير إلا انه مكتمل فالقصة عند ابن طفيل هي سرد مباشر ولها هدف معين من حيث المبنى لابد ان يكون فيها نوع من الوعي الموضوعي، متى بدأت القصة؟
ـ يصعب علينا تحديد تاريخ دقيق لميلاد القصة الحقيقة الا بأقرار مااجتمع عليه اغلب النقاد حول الكاتب الروسي غوغول برائعته الادبية(المعطف) انها القصة الاولى في التاريخ التي استوفت عناصر القص بالشكل والمضمون حيث تعرضت هذه القصة بشكل واقعي ساخر الى انسحاق الانسان الفقير في الزمن الجديد.
*-القص فن وجنس أدبي يتطلب فلسفة ورؤى خاصة يقدم بأسلوب ممتع، لك فيه صبغة خاصة نرى فيه ملامحنا وسماتنا كيف يصل الكاتب إلى المرحلة السامقة.
ـ الروح التي يبثها الكاتب في جسد الحدث الساكن موظفا لها كل مايتعلق بعالم الروح من مشاعر واحاسيس وعواطف ،يوزعها على التقنيات المتيسرة له من حوار وسرد ومونولوج وحلم ،ليبلغ بها الصياغة التي ترتفع بالنص الى مستواه الجيد،اما الحدث الذي ذكرناه، هو حكاية النص وهيكلها القائم في المتن السردي ،يمتزج بالأسلوب داخل بناء متراص الأبعاد ليصلَ برسالة النص ومرادها الى القارئ ،لذلك يضفي الاسلوب هالة من السحر والجمال على الحدث ،فالأحداث ومواضيعها مطروحة في الطريق حسب الجاحظ ، والمحنة تكمن في الاسلوب الذي يبعث الحكاية من قمقمها ليسبغ عليها شرعية القص.
* هل الحداثة في كتابة القصة جاءت كحتمية لواقع مضطرب ومتغير من اجل الأبتكارلولادة جديدة وخرق لنظام مكرر؟
ـ نعم انها الكتابة الجديدة التي تجاوزت النسخ والشروط والضوابط وقفزت على كل ماهو قديم ومكرر، هي نتاج حتمي لواقع مضطرب ومتغير بشكل مرعب يدفع الكاتب للتماهي مع المهمل من اجل ابتكار حديث، يجري من خلاله فك الشفرات السرية لكل ماهو ملغز ومحير في الحياة الجديدة، لهذا جاءت قصص آلان روب غريبة وناتالي ساروت تحمل في شكلها ومضمونها سرداً قائماً على زلزلة النظام السردي القديم وخرق نواميسهُ المطلقة وهكذا جاءت تلك الولادات الجريئة بذاكرة جديدة للسرد تستدعي لفضاءها الجديد كل العوالم الاخرى، الموسيقى مثلاً بأيقاعاتها الهادئة والصاخبة تراها مجازاً تتسلل في متن( النص من خلال مفردات لها جرس ورنين يتوافق بشكل هرموني مع صخب المشاعر وهدوئها الرتيب لدى الشخوص، اما الشعرية فترى انسيابها الساحر في مهارب الروي بلغة تسعى الى ابتكار لغة ثانية تستوعب فيض العواطف وأنفلاتها المجنون بقوالب سردية ضيقة، انها محنة الكتابة التي لن يتم انفراج ملامحها الواجمة الا للقارئ الجيد!.
* للقصة الغربية صياغة خاصة وإطار مرسوم لها، اتخذ مقياس وميزان ،لكن هذا لا يمنع أن يكون للقصة العربية في الأدب العربي صبغة خاصة بها ، وإطار مرسوم لها أيضا؟كانت الرسوم علي جدران الكهوف في التاريخ السحيق هدفها البوح بنوع ما من (القص)، أن يروي ذلك الكائن إحساسا ما أو فكرة آلا نعتبر ذلك جذورا للقص في حضارة سومر؟
ـ اذا اردنا ان نتكلم عن بدايات القصة فأننا سنصطدم حتماً بالتاريخ لان قوام القصة الحكاية والحكاية شفاهية كانت او مدونة فأنها معروفة منذ الازل، تبلورت مع تقادم العصور لتظهر واضحة في كل الكتب السماوية ومنها القران الكريم. لقد وردت لفظة قصة في اكثر من عشرين موضع في القران وهذا يدلُ بوضوح على ان القصة كانت معروفة لدى الاقوام التي سبقت الاسلام والا لمّ كان الكتاب الكريم يخاطبهم بأكثر من قصة ويخصص لذلك سورة كاملة هي سورة (القصص)، لقد ساهم كلام الله في ترسيخ السرد في الذاكرة العربية بشكلٍ كبير وادى ظهوره الى ظهور إرثُ ادبي حكائي متمثل بالمقامات والرسائل والشطحات الصوفية ولولا قوة الرقيب في الشعور الجمعي الذي حال دون ظهور حضارة ادبية لكان يمكن للعرب ان يستلموا زمام الريادة في اكثر من جنسٍ ادبي.
*(إن الثقافة المسرحية الواسعة تؤدي إلى فن مسرحي عظيم.) وعلى الرغم من اختلاف ملامح المسرح العربي الا انه بقىمنبرا ثقافيا ،هل ارتقى بجمهوره عالياً في كركوك ضمن مسيرته الطويلة والحافلة، ؟ هل تخلف ام مازال بعافية ونشاط ؟والى من ترجع اسباب ذلك؟
ـ كركوك تأريخ حافل بمحاولات لعروض متواضعة ابتدأت في ثلاثينات القرن الماضي ثم تبلورت فيما بعد الى عروض مسرحية مهمة في الخمسينات من نفس القرن. لكن ذلك التألق السريع سرعان ماخبا بعد أن أحاطت ظروف سياسية قاهرة بالمدينة وأثرت سلباٍ على ذلك النشاط الجديد،حيث تلكأ المسرح كثيرا واقتصر نشاطه على تقديم عروض فقيرة لم يؤشر مرورها لأي شئ حتى جاءت السبعينات، تلك الفترة التي تأوج فيها المسرح على باقي الفنون لتشهد ساحة كركوك الفنية عروضا مسرحية ساهم في إبرازها مبدعين من قوميات واديان وطوائف مختلفة،هزت الأوساط الفنية في عموم البلاد وحَدا نجاحها الكبير بأرتحال بعض نجومها المتميزين ليشغلوا حيزاً في المساحة الضيقة لمسرح العاصمة بغداد.هذه الاشارات التي أوردتها كانت بمثابة تنبيه الى ان هذه المدينة الباهرة حاضنة لكل ماهو مبدع ومختلف ولولا الحروب والمحن السياسية العصيبة التي تقادمت عليها لأستطاعت تلك المدينة المعطاء ان ترتقي بالمسرح وبجمهوره عاليا الى مصاف مسرح البلدان المتقدمة.
* حققت كركوك نجاح في المسرح المدرسي،كيف استطعت أن تتعامل معه(المسرح المدرسي) وأنت تسمو بنصوص النخبة؟هل كان صعبا على الطلاب التداول مع مفردات النص ومع جدية النصوص؟
ـ ا لمسرح فضاء يغوي الجميع بحكاياته والوانه واضواءة وهو في نفس الوقت منبرا تقافيا تنبثق من فضائه الطاهر حكايات درامية تساهم في استثارة المخيلة وتغييرها. هنا تكمن أهمية هذا النوع الخالد من الفن وضرورته لأكبر شريحة بشرية في المجتمع و هم الطلاب ،حيث الزمنا هذا الأمر بالتعامل معهم بمنتهى الجد والاخلاص بمخيلة تدعو للأفضل لذلك جاءت عروضا مسرحية حازت على المراتب الاولى في العراق وأخص بالذكر منها حكاية الأمس الحزين والوصية والسرير الخامس، لقد نجحت هذه الاعمال ولم تستند في جذرها الى ممثلين محترفين بل كان الممثلون طلاباً وطالبات لم يتعاملوا سابقا مع خشبة المسرح وكذلك الفنيون لم يكن فيهم المسرحي المختص او الأكاديمي المحترف ،لكن الذي تحقق في النتيجة النجاح الساحق و المتكرر في أغلب المشاركات القطرية،ان هذا النجاح لم يأتي من العدم بل من تظافر جهود كثيرة تركت لها بصمات مؤثرة بلغت تأثيرات تفوقها الى اكثر من مدينة في العراق ،لذلك استطيع القول ان المسرح المدرسي في كركوك ساهم في اضافة شئ جديد الى المسرح المدرسي في عموم العراق على إمتداد سنوات عطائه الطويلة .
* كيف كان المسرح في زمن كان الكلام فيه ممنوعاً،هل صمت المسرح الجاد ، في حين كان المسرح التجاري يصرخ بأعلى صوته ؟
ـ عندما تحيق الحروب والحصارات ببلاد ما وتطبق بمخالبها على انساغ حياته الطرية.فأن كل مافيها سيتردى وينهار ويصبح الوضع اشبه بمخاض عسير تتعرض فيه كل الشرائح للأختبار،من تلك الشرائح المسرحيون فمنهم من كبل تجربة عبوره بنصوص كانت محط افتخار له بعد انجلاء تلك الأيام العصيبة وهم " الأقلية الهائلة " على حد قول أوكتافيو باث ومنهم مَن غاص في الرذيلة وأمعن في ارتكابها عندما حول خشبة المسرح الى وسيلة رزق رخيصة يعرض عليها كل مايسئ الى الفكر والذائقة العراقية و للأسف كانوا هُم الأكثرية المرعبة لذلك صار لزاماً على الكتاب أن ينتبهوا لخطورة الحال الذي كان يجر المسرح الى الوراء بعد طوفان المسرح التجاري ،حيث جاء التصدي بقوة لهذا الغزو اللاأخلاقي من قبل مسرحيون معدودون وأظنني كنت واحداً منهم عندما كتبت في تلك المرحلة الحرجة من تأريخ البلاد اعمالاً جريئة مثل إفتراضات واهية و فراديس و وداعا أيها الجنرال و ماذا لو عاد الحلاج الذي منعته الرقابة لعدم السلامة الفكرية .
*هل يسعفك اوكسجين الحياة اذا ما ماتت من حولك المشاعر أو تحجرت وانثلمت افاق الخفق في عالمك السردي؟
ـ ما يسعفني على العطاء دائماً هيَ الحياة القاسية فلاغرابة وانت تعيش في بلد مستعر حينما تتملكك لغة لألفاظها شواط البارود ولأيقاعاتها دوّي الرصاص،فالحزن والموت والشقاء ثالوث مرعب يشغل بالأكراه الحيز الاكبر من فسحة حياتنا القصيرة، ان الكاتب وليد واقعه وما نتاجاته إلا ترتيبات دفاعية تقوم بها مشاعره القلقة لتدرأ عنه مخاوف الموت، ان نصوصنا بيانات غيبية ،فرضتها الحروب والمحن على امتداد حياتنا، لنبوح بها للأجيال القادمة بالسرد ،عنها وعن كوابيسها التي قفزت من عوالم وهمها
* برز الكثير من الكتاب الذين كتبوا النص المسرحي،مارأيك بآخر التطورات التي طرأت على المسرح؟واين قاسم من بين هؤلاء الكتاب؟
ـ اختلف المسرح كثيرا بعدما عصفت به رياح التجديد في منتصف القرن 19 حيث ظهرت اسماء نزعت عن المسرح الأردية الكلاسيكية وألبسته حلة أخرى تتوائم ومتطلبات العصر الحديث،لقد وجد المتلقي نفسه لأول مرة مشاركاً فاعلاً في تحديد مصائرالشخصيات،يشارك في بداياتها ويخطط لنهاياتها والفضل في هذا التحديث يعود الى المنظرين امثال ستانسلافسكي وبرشت وبيكيت وجروستوفسكي وآخرين غيرهم ،أما فيما يخص المسرح العربي الذي طرأ حديثا على ثقافتنا العربية فقد وجد المسرحيون انفسهم في اشكالية البحث عن ملامح لمسرح عربي خاص بهم ،وكان من جراء هذا البحث والاستقصاء إنبثاق أكثر من نوع كالمسرح الاحتفالي الذي توكأ على التراث والجمهور والمسرح الوثائقي الذي تأثر بمسرح بيتر فايس والمسرح العبثي الذي حاكى تجارب اللامعقول في الغرب وكذلك الذهني والتسجيلي والسياسي، لذلك وجدتني وسط هذا الخليط الملون أبحث في تلك المساحات المضاءة عن وجه مسرحي يمثل تطلعاتي فلم اجد أفضل من المسرح السياسي الممثل الصادق والفاعل لكل ماتجيش به مكنونات المتلقي العربي،فكتبت في التسعينات اخبار عائلية فقط وافتراضات واهية وفراديس وكانت جميعها نصوصاً جادة تحمل في متونها مقاربات لأشكال الأضطهاد الذي يرضخ تحت وطأته انسان الشرق العربي!
* لقطات لأشكال كابوسية تخلق حالة من التوتر،مروعة يتزامن ظهورها مع ظهور نص جديد لقاسم حميد؟مانصوصك والكوابيس التي تزاحم لياليك؟
ـ رؤى مرعبة تتطاحن في عوالم الباطن الاسرة ،تبحث عن قلم يقودها للولوج الى عالم الواقع انها تسعى مثلما يسعى كل شئ في الحياة،لذلك نراها تزاحم الكتاب بعد ان ترفع صواري الارق في لياليهم الهانئة ،تربكهم بحضورها المفزع ولن تغادرهم حتى ينقادوا مكرهين لرغبتها والشروع في توثيقها على هيئة نصوص متميزة.انني اخالها شرط ابداعي لن يحظى به الا المحظوظين من الكتاب،لانها ببساطة شديدة الترصد والتوجس بسخاء كبير ومن دونها سيفتقر الكاتب الى عارض القلق والخوف اللذين يؤديان به حتما الى فسح النص المتوترة.
* هل تناولت الميثولوجيا في كتابتك لأستلهام واقعها الخرافي الأسطوري الساحر، وكيف تنظر الى التراث؟
ـ لوقلنا ان الكوابيس شرطٌ ابداعي من شروط الكتابة فأن الميثولوجيا بسحرها الاسطوري قرينها الحميم، انهما يساعدان المخيلة الخاملة على الانفتاح للتأسيس والخلق، لهذا وجدتني استلهمُ من واقعي الضاج بالخرافة والسحر والكوابيس نصوصاً ساعدتها مخيلتي على الانبعاث والوجود، لقد تجلى هذا الشرط واضحاً في قصتي،(سوأى بنت آرو) التي اصطحبتني في جوفها لألج من خلالها عالم الجن وارى مالم يراه الا الممسوسين بهم، انه فضل الكتابة ونقمتها وقد تجلت في عبد الشط، اسطورة الجنوب القديمة التي حرضت ذاكرتي على بعثها في ضفة النهر الثالثة، ضفة وهمية شيدت عليها من اجل العبد عائلة واصدقاء واعداء كانوا وراء ثورته على المصير وموته على يديه ايضاً، اما الشيطان وابنته في (انثى الشيطان) فقد استفاقت من سباتها الطويل لتحرضني على الانقلاب بعد ان قررت ان تقلب بسحرها الاوضاع رأساً على عقب ليحصل اختلال بايولوجي فيه تبيض النعاج وتلد الدجاج، انها رسائل تمررها كائنات الوهم لتشكل لها وجوداً ساخناً ومدوناً تشترطه خرافاتها الجميلة على ذاكرة السرد!.
* الكاتب المسرحي يكتب وفي باله ظروف مسرحه وإمكاناته وفي حسابه كل صغيرة وكبيرة، مما يمكن تنفيذه لما يدور في ذهنه، ويخطه قلمه،الى أي مدى حققت ذلك؟
ـ المفصل السردي الاهم في متن القصة ودلالته التي تدعوه الى الاقتضاب والادهاش للأمساك منذ البدء بفضول القارئ المشتت،لذلك ترى القاص الجيد يبحث عن شروع يشرك من خلاله القارئ مباشرة في حكاية النص ثم يدفعه لافتراض استننتاج سرعان مايرفضه جسد النص الحديث،انها لعبة التشويق في البداية ،لعبة مشوشة كالحياة تتظافر في تشكيلها انماط مختلفة من السرد مثل تعدد الاصوات والحوار المسرحي والحلم اواتخاذ نهاية الحكاية كبداية لها في النص من اجل اضفاء الشكل المثير على النص الحديث.
* هناك شعور يتفتت بعد الانتهاء من النص،هل تصغي بارتباك لواقع خطى النص لحوار ذكريات ما داخل باحة النص اثناء كتابته؟
ـ جزء مقتضب من عالم مكنوزفي اروقة مخبوءة في مفازات الذاكرة ،انها وخزات لاسعة تقرع بشدة على ابواب الكاتب،تقلقه بدويها وتهزه بصخبها فيفتح لها عوالمه لتخرج مرتكزة الى ثقافة روحية تقوم على رهافة الوجدان .لها يستجيب بعد ان يتدرع بسيل لامحدود من رؤى فلسفية ونفسية ومعارف تأريخية واجتماعية،يصهرها مع ذكرياته في بوتقة الموهبة ليتسامى من خليطها نصا يضوع بصدق الماضي واوجاعه القديمة.
* الفنتازيا قدرة المخيلة تجلت في الأداب والفنون،برأيك على ماذا تبنى أساسات النص ألغرائبي ؟
ـ الفنتازيا ادب دعامته الاساسية الخيال وبدونه لا وجود لأي أدب غرائبي ،إنها المحايثة المجنونة لقلب الخرافة وهي الادب الذي لايقوى عليه صاحب المخيلة الساكنة والوعي المستسلم للظروف. انها اعلان عن القدرات الخارقة للكتابة حيث تتجلى في عوالمها قوة المخيلة وطواعية اللغة ومنهما يتم الحصول على رمزية تمنح هذا السرد الوهمي المؤسطر هوية للقبول وشرعية للوجود،لتندرج شأنها شأن النصوص الواقعية في الإسهام بإيصال رسالة تساهم ولو بشكل غريب في الإشارة إلى متطلبات العصر ومشاكله. ان هذا النوع من الادب ضرورة لبعض الكتاب اللذين تضايقهم سلطة الرقيب أو تكبلهم العادات والتقاليد المستهلكة ليمرروا بطريقة سحرية ورمزية أهدافهم التي تسعى الى التغيير نحو الأفضل.
* -انك رجل يحترم المرأة ،تتجول في اتجاهاتها بأنسانية عالية، للمرأة في عالمك السردي حضورا انسانيا لاتساوم عليه؟
ـ المرأة نقطة الضوء المتوهجة في عتمة النص ودلالته المحرضة على الحياة ،تينع من حضورها بؤراً ملونة يساعد استفزازها المثير كل كاتب على تقديم النص الأحلى ،و يساعده على ذلك سِفرها المدموغ بالمصادرة والانسحاق والظلم ، الذي يسوّغ لها أن تكون مركزاً مشعاً بالوجع والشقاء و العطاء ،لذلك تراها تحل محل الروح في الجسد متمردة تمضي بأكف المخيلة المبدعة ، صوب عالم السرد الساحر لتعوض فيه ما أستلبه الرجل منها عنوة في عالمها الذي لا يحفل إلا بالذكور ،لهذا اتسع حضورها الفاعل في اغلب حكاياتي، فكانت البطلة في مسرحية قيامة النار والأم وحكاية الامس الحزين وترنيمة الغياب ،إنها الحياة التي لاغنى لنا عنها في الحياة!
* لقد جاء كانط بفكرتي (الزمان والمكان) بأعتبارهما فكرتين فطريتين لايمكن معرفة العالم الخارجي الا بأفتراضهما,تسلسل الفكرة وعرض ما يتخللها من صراع مادي أو نفسي يرتبط بزمانكانها،في نصوصك انزياح في بنائها وبرؤى ذكية تمسك بجوهر النص؟
ـ بؤرة النص التي تدور حولها عناصر السرد الاخرى من لغة وبناء واسلوب واحداث، انها الرؤية المتميزة والالتقاط المبدع لكل ماهو عصي على الانقياء وهي الغوص في المجاهل والعوم عميقا في لجج المحظور والمسكوت عنه للأمساك بجواهر السرد المكنونة بغية الوصول الى الروح الحقيقية للنص ومسها بأنامل الابداع،انها الفكرة والرؤية والومضة ،من تنطلق منها دائما فضاءات النص وأعمدته الراسخة.
رغم ما ساد من فوضى الا ان قاسم فنجان حافظ على ان ترقص اصابعه مع الحبر بأيقاع جميل فكان من الذين تفردوا بأناقة الخطوة، لم يكن هجينا قط، اخذت موهبته مكانها الصحيح نمت في تناسق حضاري استوعب الاحداث والتقط فسبق الاخرين وقدم اعماله على شئ من الدهشة في دلالات يحفل بها المسرح في كركوك ضمن قواعد واصول لم ينافيها قط.
يبقى السؤال:هل من الصعب جدا ان نخلق مسرحا في زمن حروب وتناحرات سياسية ،ام هي المعاناة من تخلق حالة الابداع؟وبين هذا كله كان المسرح يتنفس، بين انامل الكاتب ورؤى المخرج، وحركة الممثل، ومصمم الديكور، ومهندس الإضاءة، مهام عمال الأثاث، ومغيرو المناظر الخ من مهام المسرح..ليبقى منبرا ثقافيا حرا .وهل نجح المسرحيون العراقيون ومنهم مَن حاورناه في بقاء دعائم المسرح قائمة في زمن اختلف فيه كل شئ؟؟
في نهاية روعة اللقاء هذا أقول : كانت عودتي مع قاسم فنجان ،فرحة كبيرة ،آملين له حياة طيبة على مسرح الحياة مع ابداعات ونجاحات في المستقبل.
*1 مقولة منقولة.
*2 جملة من نص لقاسم فنجان.
الأربعاء، 27 مايو 2015
مجلة الأدب العربي المعاصر : لوحة العدد الثامن
مجلة الأدب العربي المعاصر : لوحة العدد الثامن: لوحة العدد الثامن للفنان و الاديب العراقي د غالب المسعودي
_الفرزدق شاعر الفخر والهجاء-احمد سردار عارف
_الفرزدق
شاعر الفخر والهجاء
احمد سردار عارف
واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن دارم بن تميم وكنيته ابو فراس ولد حوالي سنة 19 هجرية ، كان فصيح اللهجة ملماً باللغة عالماً باخبار العرب وايامها وهو احد الشعراء الكبار ومن شيوخ الأدب العربي وقد هبت القصيدة العربية على يديه ونشطت بعد ان انصرف المسلمون الى ما هو ابهى من الشعر في القرآن الكريم وخاصة في زمن الخلفاء الراشدين.
وقد عاش مع جرير والأخطل انهيار العقيدة الدينية في الناس وتعشش قرائحهم في ذلك الصدع العميق الذي احدثه بني امية بين المسلمين بتركهم الشورى وتحويلهم الخلافة الى ملك قيصرية او كسروية ينتقل ارثاً وعصفت في شهواتهم بهرجة العروش فمالوا عن صدق الايمان ان يكون فيهم ورع كعمر بن الخطاب (رض) يصون اعراض المسلمين بروح الاسلام وعدله أو كعلي بن ابي طالب (رض) بعلمه وحكمته.
غلبت على الفرزدق اخلاق البدوي وهي حب الانتصار والغلب والمباهاة كما كان قوي الذاكرة حافظاً من شعر الجاهلية والاسلام الكثير وجمع من اللغة وتاريخ العرب مالم يبارزه فيه احد من اهل زمانه.
حيث كان فخوراً الى حد الغلو في نفسه واباءه كثير التحدث عنهم في شعره فيقول في هذا:
ابي احد الغيثين صعصعةُ الذي متى تخلف الجوزاء والدَ لو يمطر
اجار بناتِ الوائدين ومن يجرِ على الفقر يعلم انه غير مخفرِ
انا ابن الذي رد المنية فضلهُ فما حسب دافعتُ عنه بمعور
كما كان طويل النفس في الهجاء سليط اللسان لا يبالي بمن يهجوا من العامة او اميراً فقد هجا هشام بن عبد الملك والمهلب ابن ابي صفرة وقد هجا كذلك خالد القصري والي هشام على العراق بقصيدة في مطلعها:
الا قطع الرحمن ظهر مطية اتتنا تخطي من دمشق بخالدِ
وكيف يؤم المسلمين وامه تدين بان الله ليس بواحدِ
بنى بيعة فيها الصليب لامه وهدم من كفر منار المساجدِ
اما في المديح فقد كان قصير النفس قليل الابيات فيها فهو يقول في مديح عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشدي الخامس:
أعبد الله انت احق ماشٍ وساعٍ بالجماهير الكبارِ
نمى الفاروق امكَ وابنُ اروى اباك فانت منصدعُ النهارِ
كِلا ابويك عبد الله عالٍ رفيعُ في المنازل بالحيارِ
هما قمراً السماء وانت بدرٌ به بالليل يدلجُ كلُ سارِ
ان الذي يسمع لشعر الفرزدق يرى ان اللفاظه عبارة عن صخور تتلاطم وحجارة يتساقط بعضها فوق بعض فتصيب لدى السامع الصدى الكبير، ويقر له من احب سماع الادب القديم بانه لا احد يجاريه في الهجاء والفخر. كما عرف عنه بانه رجل المتناقضات فانه قد مدح خلفاء بني امية في الكثير من القصائد اما طمعاً في مال او خوفاً من انتقام بعض ان نال منهم الكثير من التشريد والحبس والنفي.
الا انه كان محباً الى اهل بيت رسول الله ولعلى من اروع قصائده واكثرها شهرة هي في مديح علي بن الحسين (رض) والتي يمكن اعتبارها من اقوى الصرخات المدوية ضد حكام بني امية والتي كان لها وقعاً امضى من السيوف بقيت صداها تصدع في اسماع هشام بن عبد الملك اخر الملوك الاقوياء في الدولة الاموية الى اخر يوم في حياته ولهذه القصيدة قصة وهي: ان الفرزدق قد حج بعدما كبر وقد اتت له سبعون سنة وكان هشام بن عبد الملك قد حج في ذلكالعام في خلافة اخيه الوليد ومعه رؤساء اهل الشام، فجهد ان يستلم الحجر الاسود فلم يقدر من ازدحام الناس، فنصب له منبر فجلس عليه ينظر الى الناس فاقبل علي بن الحسين (رض)، وهو احسن الناس وجهاً، وانظفهم ثوباً، واطيبهم رائحة، فطاف بالبيت. فلما بلغ الى الحجر، تنحى الناس كلهم وخلو الحجر ليتسلمه، تعظيماً وهيبةً واجلالاً له. فغاظ ذلك هشام وبلغ منه. فقال رجل لهشام: من هذا، اصلح الله الامير؟ فقال: لا اعرفه. وكان به عارفاً ولكن خاف ان يرغب فيه اهل الشام. عندها قال الفرزدق، وكان حاضراً لذلك كله : انا اعرفه، فسلني يا شامي. فقال: من؟ فقال:
هذا الذي تعرف البطحاءُ وطأته والبيت يعرفه والحل والحرمُ
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلمُ
هذا ابن فاطمة ان كنت جاهله بجده انبياء الله قد ختموا
ما قال لا الا في تشهده لولا التشهد كانت لاءه نعمُ
وليس قولك من هذا بضائره العرب تعرف من انكرت والعجمُ
اذا رأته قريش قال قائلها الى مكارم هذا ينتهي الكرمُ
من معشر حبهم دين وبغضهم كفر وقربهم منجا ومعتصمُ
ان عد اهل التقى كانوا ائمتهم او قيل من خير اهل الارض قيل همُ
المصادر:
- كمال ابو مصلح، الفرزدق، حياته وشعره، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت.
- الشيخ احمد الاسكندري، الفرزدق شاعر الفخر والهجاء، المكتبة الحديثة للطباعة والنشر، بيروت.
مواقع الكترونية متعددة
Ahmad_serdar73@yahoo.com
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)